25- مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)
== لَمَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ : عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّهِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَكِلَاهُمَا بَلَغَهُ وَقَرَأَهُ فَقَوْلُهُ : { وَيَتْلُوهُ } جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ تَكْرِيرٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ . وَأَيْضًا فَكَوْنُهُ عَلَى الْقُرْآنِ لَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ نَظِيرًا فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ : أَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ إخْبَارُهُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ . وَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ قَبْلَهَا إلَّا بَعْضُهُ وَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ حِينَئِذٍ هُوَ الْإِيمَانُ بِمَا نَزَلَ مِنْهُ فَمَنْ آمَنَ حِينَئِذٍ بِذَلِكَ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . وَأَيْضًا فَتَسْمِيَةُ جِبْرِيلَ شَاهِدًا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ تَسْمِيَةُ لِسَانِ الرَّسُولِ شَاهِدًا وَتَسْمِيَةُ عَلِيٍّ شَاهِدًا لَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكُتَّابِ وَالسُّنَّةِ بِخِلَافِ شَهَادَةِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِشَهَادَتِهِ لِرَسُولِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَسَمَّى مَا أَنْزَلَهُ شَهَادَةً مِنْهُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَأَخْبَرَ فِيهِ بِمَا أَخْبَرَ شَهَادَةً مِنْهُ .
وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَحْكُمُ وَيَشْهَدُ وَيُفْتِي وَيَقُصُّ وَيُبَشِّرُ وَيَهْدِي بِكَلَامِهِ وَيَصِفُ كَلَامَهُ بِأَنَّهُ يَحْكُمُ وَيُفْتِي وَيَقُصُّ وَيَهْدِي وَيُبَشِّرُ وَيُنْذِرُ كَمَا قَالَ : { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } وَقَالَ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } وَقَالَ : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } وَقَالَ : { قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } وَقَالَ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } . وَكَذَلِكَ سَمَّى الرَّسُولَ هَادِيًا فَقَالَ : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } كَمَا سَمَّاهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَسَمَّى الْقُرْآنَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ هُوَ يَشْهَدُ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِكَلَامِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَكَانَ كَلَامُهُ شَهَادَةً مِنْهُ : كَانَ كَلَامُهُ شَاهِدًا مِنْهُ كَمَا كَانَ يَحْكُمُ وَيُفْتِي وَيَقُصُّ وَيُبَشِّرُ وَيُنْذِرُ . وَلَمَّا قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَكَّمْت مَخْلُوقًا قَالَ : مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا وَإِنَّمَا حَكَّمْت الْقُرْآنَ . فَإِنَّ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ وَاَلَّذِي يَشْهَدُ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ شَهَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ - وَقَدْ كَانَ إمَامًا وَأَخَذَ التَّفْسِيرَ عَنْ أَبِيهِ زَيْدٍ وَكَانَ زَيْدٌ إمَامًا فِيهِ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَخَذُوا عَنْهُ التَّفْسِيرَ وَأَخَذَهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ
ابْنُ وَهْبٍ صَاحِبُ مَالِكٍ وأصبغ بْنُ الْفَرَجِ الْفَقِيهُ . قَالَ - فِي قَوْله تَعَالَى { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ " وَالْقُرْآنُ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ اللَّهِ . وَقَدْ ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ : وَيَتْلُو رَسُولُ اللَّهِ الْقُرْآنَ وَهُوَ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } هُوَ مُحَمَّدٌ { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } الْقُرْآنُ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ وقتادة والسدي وخصيف وَابْنِ عُيَيْنَة نَحْوُ ذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ صَحِيحٌ ؛ وَلَكِنْ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ لَيْسُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ ؛ بَلْ هُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ . وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } قَالَ : الْمُؤْمِنُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرُوِيَ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } يَعْنِي مُحَمَّدًا شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ ؛ وَهِيَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَى الْبَيِّنَةِ مَنْ شَهِدَ لَهُ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : مَنْ قَالَ هُوَ مُحَمَّدٌ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ هُوَ جِبْرِيلُ ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا بَلَّغَ الْقُرْآنَ وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ
فَاصْطَفَى جِبْرِيلَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَاصْطَفَى مُحَمَّدًا مِنْ النَّاسِ . وَقَالَ فِي جِبْرِيلَ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وَقَالَ فِي مُحَمَّدٍ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وَكِلَاهُمَا رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ ؛ كَمَا قَالَ { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } { رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } فَكِلَاهُمَا رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ بَلَّغَ مَا أُرْسِلَ بِهِ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَمَّا شَهَادَتُهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ فَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ كُلِّ مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِكُلِّ مَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ ؛ لِكَوْنِهِ آمَنَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ بَلَّغَهُ أَوْ لَمْ يُبَلِّغْهُ . وَلِهَذَا كَانَ إيمَانُ الرَّسُولِ بِمَا جَاءَ بِهِ غَيْرَ تَبْلِيغِهِ لَهُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَذَا وَبِهَذَا وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى هَذَا وَهَذَا كَمَا قَالَ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَشَهَادَةُ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ بِمَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ جِهَةِ إيمَانِهِمَا بِهِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِمَا مُرْسَلَيْنِ بِهِ فَإِنَّ الْإِرْسَالَ بِهِ يَتَضَمَّنُ شَهَادَتَهُمَا أَنَّ اللَّهَ قَالَهُ وَقَدْ يُرْسِلُ غَيْرَ رَسُولٍ بِشَيْءِ فَيَشْهَدُ الرَّسُولُ أَنَّ هَذَا كَلَامُ الْمُرْسِلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُرْسَل صَادِقًا وَلَا حَكِيمًا ؛ وَلَكِنْ عُلِمَ أَنَّ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدًا يَعْلَمَانِ أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ حَكِيمٌ فَهُمَا يَشْهَدَانِ بِمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ . وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ يَشْهَدُونَ بِأَنَّ مَا قَالَهُ اللَّهُ فَهُوَ حَقٌّ
وَأَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ حَكِيمٌ لَا يُخْبِرُ إلَّا بِصِدْقِ وَلَا يَأْمُرُ إلَّا بِعَدْلِ { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ شَهَادَةَ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ هِيَ شَهَادَةُ الْقُرْآنِ وَشَهَادَةُ الْقُرْآنِ هِيَ شَهَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقُرْآنُ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَهَذَا الشَّاهِدُ يُوَافِقُ وَيَتَّبِعُ ذَلِكَ الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ؛ فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ وَالْبَصِيرَةَ وَالنُّورَ وَالْهُدَى الَّذِي عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ قَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ مِنْ اللَّهِ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ . { وَيَتْلُوهُ } مَعْنَاهُ يَتَّبِعُهُ كَمَا قَالَ : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } أَيْ يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ وَقَالَ : { وَالْقَمَرِ إذَا تَلَاهَا } أَيْ تَبِعَهَا وَهَذَا قَفَاهُ إذَا تَبِعَهُ . وَقَدْ قَالَ : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } فَهَذَا الشَّاهِدُ يَتْبَعُ الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَيُصَدِّقُهُ وَيُزَكِّيهِ وَيُؤَيِّدُهُ وَيُثْبِتُهُ كَمَا قَالَ : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا } وَقَالَ : { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } وَقَالَ : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } . وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ سُلْطَانًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَإِذَا كَانَ السُّلْطَانُ الْمُنَزَّلُ مِنْ اللَّهِ يَتْبَعُ هَذَا الْمُؤْمِنَ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ قُوَّتَهُ وَتَسَلُّطَهُ عِلْمًا وَعَمَلًا وَقَالَ : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ }
{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا } الْآيَةُ . وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا فَهُمْ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْإِيمَانَ ثُمَّ يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قَالَ : نُورُ الْقُرْآنِ عَلَى نُورِ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ : { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وَقَالَ السدي فِي قَوْلِهِ : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } نُورُ الْقُرْآنِ وَنُورُ الْإِيمَانِ حِينَ اجْتَمَعَا فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِصَاحِبِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } يَعْنِي هُدَى الْإِيمَانِ { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } أَيْ مِنْ اللَّهِ يَعْنِي الْقُرْآنَ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ يُوَافِقُ الْإِيمَانَ وَيَتْبَعُهُ وَقَالَ : { يَتْلُوهُ } لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْإِيمَانُ وَزِيَادَتُهُ . وَلِهَذَا كَانَ الْإِيمَانُ بِدُونِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ وَالْقُرْآنُ بِلَا إيمَانٍ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ ؛ بَلْ صَاحِبُهُ مُنَافِقٌ ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ
وَمَثَلُ
الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا
مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا } " . وَلِهَذَا جَعَلَ الْإِيمَانَ "
بَيِّنَةً " وَجَعَلَ الْقُرْآنَ شَاهِدًا ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مِنْ
الْبَيَانِ و " الْبَيِّنَةُ " هِيَ السَّبِيلُ الْبَيِّنَةُ وَهِيَ
الطَّرِيقُ الْبَيِّنَةُ الْوَاضِحَةُ وَهِيَ أَيْضًا مَا يُبِينُ بِهَا الْحَقُّ
فَهِيَ بَيِّنَةٌ فِي نَفْسِهَا مُبَيِّنَةٌ لِغَيْرِهَا وَقَدْ تُفَسَّرُ
بِالْبَيَانِ وَهِيَ الدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ ؛ فَتَكُونُ كَالْهُدَى كَمَا
يُقَالُ : فُلَانٌ عَلَى هُدًى وَعَلَى عِلْمٍ ؛ فَيُفَسَّرُ بِمَعْنَى
الْمَصْدَرِ وَالصِّفَةِ وَالْفَاعِلِ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى
} أَيْ بَيَانُ مَا فِيهَا أَوْ يُبَيِّنُ مَا فِيهَا أَوْ الْأَمْرُ الْبَيِّنُ
فِيهَا وَقَدْ سَمَّى الرَّسُولَ بَيِّنَةً كَمَا قَالَ : { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
الْبَيِّنَةُ } { رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ } فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ الْحَقَّ
وَالْمُؤْمِنُ عَلَى سَبِيلٍ بَيِّنَةٍ وَنُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَالشَّاهِدُ
الْمَقْصُودُ بِهِ شَهَادَتُهُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِ
بِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَجُعِلَ الْإِيمَانُ مِنْ اللَّهِ كَمَا جُعِلَ الشَّاهِدُ
مِنْ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْإِيمَانَ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ
كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْإِيمَانَ فِي
جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ فَعَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ
} " . وَأَيْضًا : فَالْإِيمَانُ مَا قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ . وَأَيْضًا
فَالْإِيمَانُ إنَّمَا هُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَهَذَا أَخْبَرَ بِهِ
الرَّسُولُ لَكِنَّ الرَّسُولَ لَهُ وَحْيَانِ وَحْيٌ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ
يُتْلَى وَوَحْيٌ لَا يُتْلَى فَقَالَ :
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } الْآيَةُ . وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ . وَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : { جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } يَعُودُ إلَى الْإِيمَانِ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقِيلَ : إلَى الْقُرْآنِ . وَهُوَ قَوْلُ السدي وَهُوَ يَتَنَاوَلُهُمَا وَهُوَ فِي اللَّفْظِ يَعُودُ إلَى الرُّوحِ الَّذِي أَوْحَاهُ وَهُوَ الْوَحْيُ الَّذِي جَاءَ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ كِلَاهُمَا مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَهُدًى وَمِنْهُ هَذَا يُعْقَلُ بِالْقَلْبِ ؛ لِمَا قَدْ يُشَاهَدُ مِنْ دَلَائِلِ الْإِيمَانِ مِثْلَ دَلَائِلِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَهَذَا يَسْمَعُ بِالْآذَانِ وَالْإِيمَانِ الَّذِي جُعِلَ لِلْمُؤْمِنِ هُوَ مِثْلُ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ فَهَذِهِ الْآيَاتُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِثْلُ مَا فَعَلَ مِنْ نَصْرِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرَ يَوْمِ بَدْرٍ فَإِنَّهُ آيَاتٌ مُشَاهَدَةٌ صَدَّقَتْ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ وَلَكِنْ الْمُؤْمِنُونَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا قَبْلَ هَذَا . وَقِيلَ : نُزُولُ أَكْثَرِ الْقُرْآنِ الَّذِي ثَبَّتَ اللَّهُ بِهِ لِنَبِيِّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } فَهُوَ يَشْهَدُ لِرَسُولِهِ بِأَنَّهُ صَادِقٌ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَتِلْكَ آمَنَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ شَاهِدًا لَهُ ثُمَّ أَظْهَرَ آيَاتٍ مُعَايَنَةٍ تُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ .
فَالْقُرْآنُ وَافَقَ الْإِيمَانَ وَالْآيَاتُ الْمُسْتَقْبَلَةُ وَافَقَتْ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً } فَقَوْلُهُ : { وَمِنْ قَبْلِهِ } يَعُودُ الضَّمِيرُ إلَى الشَّاهِدِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } الْآيَةُ ثُمَّ قَالَ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً } الْآيَةُ . فَقَوْلُهُ { وَمِنْ قَبْلِهِ } الضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ أَيْ : مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ . وَقِيلَ : يَعُودُ إلَى الرَّسُولِ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ . وَقَوْلُهُ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } فِيهِ وَجْهَانِ قِيلَ : هُوَ عَطْفُ مُفْرَدٍ وَقِيلَ : عَطْفُ جُمْلَةٍ . قِيلَ الْمَعْنَى { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } وَيَتْلُوهُ أَيْضًا مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى فَإِنَّهُ شَاهِدٌ بِمِثْلِ مَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَقِيلَ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } جُمْلَةً ؛ وَلَكِنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ فِيهَا تَصْدِيقُ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ فِي الْأَحْقَافِ . وقَوْله تَعَالَى { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } تَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ آمَنُوا بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ كَمَا تَتَنَاوَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُولَئِكَ يَعُودُ إلَيْهِمْ الضَّمِيرُ فَإِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهِ بِالشَّاهِدِ مِنْ اللَّهِ فَالْإِيمَانُ بِهِ إيمَانٌ بِالرَّسُولِ وَالْكِتَابِ الَّذِي قَبْلَهُ .
ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : مَا بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهٍ إلَّا وَجَدْت تَصْدِيقَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ حَتَّى بَلَغَنِي أَنَّهُ قَالَ : " { لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا أُرْسِلْت بِهِ إلَّا دَخَلَ النَّارَ } " قَالَ سَعِيدٌ : فَقُلْت أَيْنَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ حَتَّى أَتَيْت عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } قَالَ الْأَحْزَابُ هِيَ الْمِلَلُ كُلُّهَا . وقَوْله تَعَالَى { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أَيْ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَإِنَّهُ يُؤْمِنُ بِالشَّاهِدِ مِنْ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ بِهِ إيمَانٌ بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى قَالَ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } وَهُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } وَالْأَحْزَابُ هُمْ أَصْنَافُ الْأُمَمِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا وَصَارُوا أَحْزَابًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ طَوَائِفَ الْأَحْزَابِ فِي مِثْلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ مُكَذِّبِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ } وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا
فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وَقَالَ عَنْ أَحْزَابِ النَّصَارَى : { فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } الْآيَاتُ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ قَالَ : إنَّهُ مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ . فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِمْ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْكِتَابَيْنِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ ( بِهِ مُفْرَدٌ وَلَوْ آمَنَ مُؤْمِنٌ بِكِتَابِ مُوسَى دُونَ الْإِنْجِيلِ بَعْدَ نُزُولِهِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْفَرَجِ وَلَمْ يُسَمِّ قَائِلَهُمَا والبغوي وَغَيْرُهُ لَمْ يَذْكُرُوا نِزَاعًا فِي أَنَّهُمْ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدِ وَلَكِنْ ذَكَرُوا قَوْلًا إنَّهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا قَرِيبٌ . وَلَعَلَّ الَّذِي حَكَى قَوْلَهُمْ أَبُو الْفَرَجِ أَرَادُوا هَذَا وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِمْ . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا الْفَرَجِ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا فِي الْأَحْزَابِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ : " أَحَدُهَا " أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْمِلَلِ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
و " الثَّانِي " الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَهُ قتادة . و " الثَّالِثُ " قُرَيْشٌ قَالَهُ السدي . و " الرَّابِعُ " بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ . قَالَ - أَيْ - أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ } وَكَذَلِكَ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } إنَّهُ الْقُرْآنُ وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } وَهَذَا هُوَ الْقُرْآنُ بِلَا رَيْبٍ وَقَدْ قِيلَ : هُوَ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ أَنَّهُ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الْأَحْزَابِ وَهَذَا أَيْضًا هُوَ الْقُرْآنُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ وَالْكَفْرُ بِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَأَنَّهُ مَنْ قَالَ فِي أُولَئِكَ إنَّهُمْ غَيْرُ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدِ لَمْ يُتَصَوَّرْ مَا قَالَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } وَجْهَانِ . هَلْ هُوَ عَطْفُ جُمْلَةٍ أَوْ مُفْرَدٍ ؛ لَكِنْ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مُفْرَدٌ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْمَعْنَى : وَكَانَ مِنْ قَبْلِ هَذَا كِتَابُ مُوسَى . دَلِيلٌ عَلَى أَمْرِ مُحَمَّدٍ فَيَتْلُونَ كِتَابَ مُوسَى عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } أَيْ وَيَتْلُو كِتَابَ مُوسَى ؛ لِأَنَّ مُوسَى وَعِيسَى بَشَّرَا بِمُحَمَّدِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَنُصِبَ إمَامًا عَلَى الْحَالِ .
قُلْت
: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّاهِدَ يَتْلُو عَلَى مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ أَيْ يَتْبَعُهُ شَاهِدًا لَهُ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَيِّنَةِ .
وَقَوْلُهُ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } كَمَنْ لَمْ يَكُنْ
قَالَ الزَّجَّاجُ : وَتَرَكَ الْمُعَادَلَةَ ؛ لِأَنَّ فِيمَا بَعْدَهُ دَلِيلًا
عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ
وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ } قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَ
هَذِهِ الْآيَةِ قَوْمًا رَكَنُوا إلَى الدُّنْيَا وَأَرَادُوهَا جَاءَ بِهَذِهِ
الْآيَةِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : أَفَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ كَمَنْ
يُرِيدُ الدُّنْيَا ؟ فَاكْتَفَى مِنْ الْجَوَابِ بِمَا تَقَدَّمَ إذْ كَانَ
دَلِيلًا عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : إنَّمَا حُذِفَ لِانْكِشَافِ الْمَعْنَى
وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . قُلْت : نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ
الْمَحْذُوفِ : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } كَمَنْ
لَيْسَ كَذَلِكَ وَقَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الْأَحْزَابِ } وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْآخَرُ الْمُعَادِلُ لِهَذَا الَّذِي
هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَاهَا { أَفَمَنْ
كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } وَيَكُونُ أَيْضًا مَعْنَاهَا : { أَفَمَنْ كَانَ
عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } أَيْ بَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ كَمَنْ يُرِيدُ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { أَوَمَنْ كَانَ
مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } الْآيَةُ . وَكَقَوْلِهِ { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } وَقَوْلِهِ : {
أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي }
الْآيَةُ . وَالْمَحْذُوفُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّظْمِ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ
كَقَوْلِهِ : { أَوَمَنْ
يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ } أَيْ تَجْعَلُونَ لَهُ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَقَدْ يَكُونُ الْمَحْذُوفُ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ : أَفَمَنْ هَذِهِ حَالُهُ يُذَمُّ أَوْ يُطْعَنُ عَلَيْهِ أَوْ يُعْرَضُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ أَوْ يُفْتَنُ أَوْ يُعَذَّبُ كَمَا قَالَ : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } . وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إنَّ الْمَحْذُوفَ : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } فَرَأَى الْبَاطِلَ حَقًّا ؟ وَالْقَبِيحَ حَسَنًا كَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَرَأَى الْحَقَّ حَقًّا وَالْبَاطِلَ بَاطِلًا وَالْقَبِيحَ قَبِيحًا وَالْحَسَنَ حَسَنًا ؟ وَقِيلَ : جَوَابُهُ تَحْتَ قَوْلِهِ : { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : الِاسْتِفْهَامُ مَا مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ تَقْدِرَ . أَيْ : هَذَا تَقْدِرُ أَنْ تَهْدِيَهُ أَوْ رَبُّك ؟ أَوْ تَقْدِرُ أَنْ تَجْزِيَهُ كَمَا قَالَ : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } وَلِهَذَا قَالَ : { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } وَكَمَا قَالَ : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } الْآيَةُ . وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَاهَا كَمَعْنَى قَوْلِهِ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } . وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى هُنَا : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } يُذَمُّ وَيُخَالَفُ وَيُكَذَّبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ } وَحَذَفَ جَوَابَ
الشَّرْطِ وَكَقَوْلِهِ : { أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى } { أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى } { أَرَأَيْتَ إنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ أَشْرَفِ الْمَعَانِي وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ وَأَنَّ الْآيَةَ ذَكَرَتْ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْقُرْآنُ فَصَارَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَبُرْهَانٍ مِنْ رَبِّهِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ وَالسَّمْعِيَّةُ كَمَا قَالَ : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } فَالنُّورُ الْمُبِينُ الْمُنَزَّلُ يَتَنَاوَلُ الْقُرْآنَ . قَالَ قتادة : بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ البغوي : هَذَا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَمْ أَجِدْهُ مَنْقُولًا عَنْ غَيْرِ الثَّانِي وَلَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ غَيْرِهِ . وَذَكَرَ فِي الْبُرْهَانِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْحُجَّةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الرَّسُولُ وَذَكَرَ أَنَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ قتادة . وَاَلَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قتادة بِالْإِسْنَادِ الثَّابِتِ أَنَّهُ بَيِّنَةٌ مِنْ اللَّهِ وَالْبَيِّنَةُ وَالْحُجَّةُ تَتَنَاوَلُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي بُعِثُوا بِهَا فَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ بُرْهَانٌ . قَالَ تَعَالَى : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ } وَقَالَ لِمَنْ قَالَ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ : هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ . وَمُحَمَّدٌ هُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَدْ أَقَامَ اللَّهُ عَلَى صِدْقِهِ بَرَاهِينَ كَثِيرَةً
وَصَارَ
مُحَمَّدٌ نَفْسَهُ بُرْهَانًا فَأَقَامَ مِنْ الْبَرَاهِينِ عَلَى صِدْقِهِ ؛
فَدَلِيلُ الدَّلِيلِ دَلِيلٌ وَبُرْهَانُ الْبُرْهَانِ بُرْهَانٌ وَكُلُّ آيَةٍ
لَهُ بُرْهَانٌ وَالْبُرْهَانُ اسْمُ جِنْسٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ كَمَا فِي
قَوْلِهِ : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَلَوْ
جَاءُوا بَعْدَهُ بِبَرَاهِينَ كَانُوا مُمْتَثِلِينَ . و " الْمَقْصُودُ
" أَنَّ ذَلِكَ الْبُرْهَانَ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى
صِدْقِهِ وَهُوَ بَيِّنَةٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ قتادة وَحُجَّةٌ مِنْ اللَّهِ
كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ والسدي : الْمُؤْمِنُ عَلَى تِلْكَ الْبَيِّنَةِ
وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ النُّورُ الَّذِي أَنْزَلَهُ مَعَ
الْبُرْهَانِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } إنَّهُ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ
السَّلَفِ فَقَدْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ التَّمْثِيلَ لَا التَّخْصِيصَ فَإِنَّ
الْمُفَسِّرِينَ كَثِيرًا مَا يُرِيدُونَ ذَلِكَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ أَوَّلُ مَنْ
كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَتَلَاهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَكَذَلِكَ
الْأَنْبِيَاءُ وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ وَإِمَامُهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ تَبَعٌ لَهُ
وَبِهِ صَارُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ . وَالْخِطَابُ قَدْ يَكُونُ
لَفْظُهُ لَهُ وَمَعْنَاهُ عَامٌّ كَقَوْلِهِ : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا
أَنْزَلْنَا إلَيْكَ } { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي } وَنَحْوُ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ وَأُبِيحَ لَهُ سَارَ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ كَمُشَارَكَةِ أُمَّتِهِ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ فَمَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ مِنْ الْأَحْكَامِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ إذَا لَمْ يُخَصِّصْ هَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ وَدَلَائِلُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } الْآيَةُ وَلَمَّا أَبَاحَ لَهُ الْمَوْهُوبَةَ قَالَ : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } الْآيَةُ . فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعَ كَوْنِ الصِّيغَةِ خَاصَّةً فَكَيْفَ تُجْعَلُ الصِّيغَةُ الْعَامَّةُ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مُخْتَصَّةً بِهِ ؟ وَلَفْظُ " مَنْ " أَبْلَغُ صِيَغِ الْعُمُومِ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ شَرْطًا أَوْ اسْتِفْهَامًا كَقَوْلِهِ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وَقَوْلِهِ : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } وَقَوْلِهِ : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } وَقَوْلِهِ { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } . و " أَيْضًا " : فَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلَهُ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ } وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا ذِكْرُ الْفَرِيقَيْنِ وَقَوْلُهُ : { أُولَئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ } إشَارَةٌ إلَى جَمَاعَةٍ وَلَمْ يُقَدِّمْ قَبْلَ هَذَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إلَيْهِ إلَّا ( مَنْ ) وَالضَّمِيرُ يَعُودُ تَارَةً إلَى لَفْظِ ( مَنْ ) وَتَارَةً إلَى مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } الْآيَةُ . وَأَمَّا الْإِشَارَةُ إلَى مَعْنَاهَا فَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ الضَّمِيرِ . فَقَوْلُهُ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَثِيرُونَ لَا وَاحِدٌ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : ثَنَا عَامِرُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } . قَالَ : الْمُؤْمِنُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ هُوَ الصَّوَابُ وَالرَّسُولُ هُوَ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الشَّاهِدَ مِنْ اللَّهِ هُوَ مُحَمَّدٌ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ثَنَا الْأَشَجُّ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عَوْفٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الْفُلَانِيِّ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } يَعْنِي مُحَمَّدًا شَاهِدًا مِنْ اللَّهِ فَهُنَا مَعْنَى كَوْنِهِ شَاهِدًا مِنْ اللَّهِ هُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَإِنْ كَانَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَشَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ مَعْلُومَةٌ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهَا بِالْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَأَمَّا شَهَادَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَنَّهَا إنَّمَا تُعْلَمُ مِنْ جِهَتِهِ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَيُخْبِرُ بِهِ عَنْ
رَبِّهِ
فَهُوَ إذَا شَهِدَ كَانَ شَاهِدًا مِنْ اللَّهِ .
وَأَمَّا شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
فَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا } لَكِنْ مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ يُرِيدُ بِالْبَيِّنَةِ الْقُرْآنَ
فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مُتَّبِعٌ لِلْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٌ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ
يَتْلُوهُ كَمَا تَلَاهُ جِبْرِيلُ . وَمَنْ قَالَ إنَّ الشَّاهِدَ لِسَانُ مُحَمَّدٍ
فَهُوَ إنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ التِّلَاوَةَ أَيْ : أَنَّ لِسَانَ
مُحَمَّدٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ شَاهِدٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ
لِسَانَهُ جُزْءٌ مِنْهُ وَهَذَا الْقَوْلُ وَنَحْوُهُ ضَعِيفٌ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ . هَذَا إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ فَإِنَّ هَذَا
وَضِدَّهُ يُنْقَلَانِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . وَذَلِكَ أَنَّ
طَائِفَةً مِنْ جُهَّالِ الشِّيعَةِ ظَنُّوا أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الشَّاهِدُ
مِنْهُ أَيْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ لَهُ
: " { أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك } " . وَهَذَا قَالَهُ لِغَيْرِهِ
أَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ " {
الْأَشْعَرِيُّونَ هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ } " . وَقَالَ عَنْ جليبيب :
" { هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ } "
وَكُلُّ مُؤْمِنٍ هُوَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ : { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } وَقَالَ : { وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } وَرَوَوْا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَلِيٍّ نَفْسِهِ وَرُوِيَ عَنْهُ بِإِسْنَادِ أَجْوَدَ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَبَ مَنْ قَالَ هَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : ذَكَرَ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ الطَّحَّانِ ثَنَا إسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ : مَا مِنْ قُرَيْشٍ أَحَدٌ إلَّا نَزَلَتْ فِيهِ آيَةٌ قِيلَ فَمَا أُنْزِلَ فِيك ؟ قَالَ : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى عَلِيٍّ قَطْعًا . وَإِنْ ثَبَتَ النَّقْلُ عَنْ عَبَّادٍ هَذَا فَإِنَّ لَهُ مُنْكَرَاتٍ عَنْهُ كَقَوْلِهِ : أَنَا الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ أَسْلَمْت قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ . وَقَدْ رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ مَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ؛ ثَنَا أَبِي ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْبَاهِلِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَوَاصٍ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قتادة عَنْ عُرْوَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ - يَعْنِي ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ - قَالَ : قُلْت لِأَبِي : يَا أبة { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ : إنَّك أَنْتَ هُوَ قَالَ : وَدِدْت لَوْ أَنِّي أَنَا هُوَ . وَلَكِنَّهُ لِسَانُهُ ؟ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وقتادة نَحْوُ ذَلِكَ . قُلْت : وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ الْحُسَيْنِ ابْنِهِ أَنَّ " الشَّاهِدَ مِنْهُ " هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْبَيْتِ فِي أَنَّهُ مُحَمَّدٌ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ الْجَهَلَةِ : إنَّهُ عَلِيٌّ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَعَلِيٌّ كَانَ
إذْ ذَاكَ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ . وَكَانَ مِمَّنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ وَلَوْ كَانَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ لَيْسَ ابْنَ عَمِّهِ لَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُ تَنْفَعُ . لَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا عِنْدَ الْكُفَّارِ ؛ بَلْ مِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِيهَا تُهْمَةُ الْقَرَابَةِ . وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ وَشَهَادَةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَا تُقْبَلُ فَكَيْفَ يُجْعَلُ مِثْلُ هَذَا حُجَّةً لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَكِّدًا لَهَا ؟ وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } إنَّهُ عَلِيٌّ وَهُمْ مَعَ كَذِبِهِمْ هُمْ أَجْهَلُ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ نَسَبُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ إلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَا يَحْتَجُّ بِهِ إلَّا جَاهِلٌ فَأَرَادُوا تَعْظِيمَ عَلِيٍّ فَنَسَبُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ إلَى الْجَهْلِ وَعَلِيٌّ إنَّمَا فَضِيلَتُهُ بِاتِّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ فَإِذَا قُدِحَ فِي الْأَصْلِ بَطَلَ الْفَرْعُ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : إنَّ " الشَّاهِدَ " جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ رَوَى ذَلِكَ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي صَالِحٍ وَمُجَاهِدٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَإِبْرَاهِيمُ وَعِكْرِمَةُ وَالضِّحَاكُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا { وَيَتْلُوهُ } بِمَعْنَى يَقْرَؤُهُ أَيْ : وَيَتْلُو الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ الْبَيِّنَةُ : شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ هُوَ وَقِيلَ : بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ : إنَّ الْقُرْآنَ يَتْلُوهُ جِبْرِيلُ هُوَ شَاهِدُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ الَّذِي يَتْلُوهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ضِعْفِ هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ فَسَّرَ يَتْلُوهُ
بِمَعْنَى يَقْرَؤُهُ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِيهِ عَائِدًا إلَى الْقُرْآنِ وَجَعَلَ الشَّاهِدَ غَيْرَ الْقُرْآنِ . وَالْقُرْآنُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ إنَّمَا قَالَ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } وَالْبَيِّنَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرُهَا بِحِفْظِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظُوا الْقُرْآنَ ؛ بِخِلَافِ الْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ رَبِّهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَقًّا بَلْ مِنْ الْقَائِلِينَ - لِمُنْكَرِ وَنَكِيرٍ - آهْ آهْ لَا أَدْرِي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته . وَالْقُرْآنُ إنَّمَا مَدَحَ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَهُوَ عَلَى هُدًى وَنُورٍ وَبَصِيرَةٍ سَوَاءٌ حَفِظَ الْقُرْآنَ أَوْ لَمْ يَحْفَظْهُ وَإِنْ أُرِيدَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْإِيمَانُ وَأَكْثَرُ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ إنَّمَا يُخْتَصُّ بِهِ جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ فَهُوَ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ عَنْ اللَّهِ وَصِدْقُهُمَا فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا كَوْنُ رِسَالَةِ اللَّهِ حَقًّا فَهَذَا هُوَ الْمَشْهُودُ بِهِ مِنْ كُلِّ رَسُولٍ وَهُمَا لَا يُخْتَصَّانِ بِذَلِكَ بَلْ يُؤْمِنَانِ بِهِ كَمَا يُؤْمِنُ بِذَلِكَ كُلُّ مَلَكٍ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ وَشَهَادَتُهُمَا بِأَنَّ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى حَقٍّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي الْمُشْتَرَكِ وَلَوْ قَالَ : وَيُبَلِّغُهُ وَيَنْزِلُ بِهِ رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ لَكَانَ مَا قَالُوهُ مُتَوَجِّهًا كَمَا قَالَ :
{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ } { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } أَمَّا كَوْنُهُ شَاهِدًا يَقْرَؤُهُ فَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ . و " أَيْضًا " فَالشَّاهِدُ الَّذِي هُوَ مِنْ اللَّهِ هُوَ الْكَلَامُ فَإِنَّ الْكَلَامَ نَزَلَ مِنْهُ كَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّك بِالْحَقِّ وَيُقَالُ فِي الرَّسُولِ إنَّهُ مِنْهُ كَمَا قَالَ رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ وَيُقَالُ فِي الشَّخْصِ الشَّاهِدِ فَيُقَالُ فِيهِ هُوَ مِنْ شُهَدَاءِ اللَّهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ يُقَالُ فِيهِ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ أَنَّهَا بُرْهَانٌ مِنْ اللَّهِ وَآيَاتٌ مِنْ اللَّهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَصْدِيقًا لِرَسُولِهِ : فَهَذَا يَحْتَاجُ اسْتِعْمَالُهُ إلَى شَاهِدٍ . وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا تُفَسَّرُ بِلُغَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِيهِ إذَا وُجِدَتْ لَا يُعْدَلُ عَنْ لُغَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ مَعَ وُجُودِهَا وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى غَيْرِ لُغَتِهِ فِي لَفْظٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ : { وَيْكَأَنَّ اللَّهَ } { وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ } { وَكَأْسًا دِهَاقًا } { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } و { قِسْمَةٌ ضِيزَى } وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ فِي الْقُرْآنِ وَاَلَّذِينَ قَالُوا هَذِهِ الْأَقْوَالَ : إنَّمَا أَتَوْا مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ : { وَيَتْلُوهُ } فَظَنُّوا أَنَّ تِلَاوَتَهُ هِيَ قِرَاءَتُهُ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لِلْقُرْآنِ ذِكْرٌ . ثُمَّ جَعَلَ هَذَا يَقُولُ جِبْرِيلُ تَلَاهُ وَهَذَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ وَهَذَا يَقُولُ لِسَانُهُ . وَالتِّلَاوَةُ قَدْ وُجِدَتْ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ بِمَعْنَى الِاتِّبَاعِ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَذْكُرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ فَيَبْقَى النَّاظِرُ الْفَطِنُ حَائِرًا
وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إلَّا أَنَّهُ الرَّسُولُ وَيَذْكُرُ فِي الشَّاهِدِ عِدَّةَ أَقْوَالٍ . ثُمَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ يَقُولُ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ } أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ . وَقِيلَ : الْمُرَادُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ عَلَى مَا فَسَّرَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ فَكَيْفَ يُشَارُ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : { يُؤْمِنُونَ بِهِ } وَأَبُو الْفَرَجِ ذَكَرَ قَوْلًا أَنَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ وَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ قَالَ : وَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ الضِّحَاكِ فِي الْبَيِّنَةِ أَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ . وَقَدْ ذُكِرَ فِي " الْبَيِّنَةِ " أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : أَنَّهَا الدِّينُ ذَكَرَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَأَنَّهَا الْقُرْآنُ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَأَنَّهَا الْبَيَانُ . قَالَهُ مُقَاتِلٌ . ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ قُلْنَا : الْمُرَادُ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الْمُسْلِمُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ وَهُوَ الْبَيِّنَةُ وَيَتَّبِعُ هَذَا النَّبِيَّ شَاهِدٌ مِنْهُ يُصَدِّقُهُ وَالْمُسْلِمُونَ إذَا كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ فَهِيَ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ لَيْسَتْ الْبَيِّنَةُ ذَاتَ الرَّسُولِ وَالرَّسُولُ لَيْسَ هُوَ مَذْكُورًا فِي كَلَامِهِ فَقَوْلُهُ : { وَيَتْلُوهُ } لَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ إلَى { مِنْهُ } (1) لَكِنْ إعَادَتُهُ إلَى الْبَيِّنَةِ أَوْلَى .
وَفَسَّرَ الْبَيِّنَةَ بِالرَّسُولِ وَجَعَلَ الشَّاهِدَ يَشْهَدُ لَهُ بِصِدْقِهِ . ثُمَّ الشَّاهِدُ جِبْرِيلُ أَوْ غَيْرُهُ فَلَوْ قَالَ : الشَّاهِدُ هُوَ الْقُرْآنُ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يَتَّبِعُهُمْ كَمَا يَتَّبِعُونَهُ كَانَ قَدْ ذَكَرَ الصَّوَابَ . وَهُوَ قَدْ ذَكَرَ أَقْوَالًا كَثِيرَةً لَمْ يَذْكُرْهَا غَيْرُهُ وَذَكَرَ فِي يَتْلُوهُ قَوْلَيْنِ " أَحَدُهُمَا " يَتَّبِعُهُ . و " الثَّانِي " يَقْرَؤُهُ وَهُمَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ . وَذَكَرَ فِي " هـ " يَتْلُوهُ قَوْلَيْنِ : أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى النَّبِيِّ . و " الثَّانِي " أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى الْقُرْآنِ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى " مِنْ " أَوْ تَرْجِعُ إلَى الْبَيِّنَةِ وَالْبَيِّنَةُ يُرَادُ بِهَا الْقُرْآنُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الشَّاهِدَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِذَا رَجَعَ الضَّمِيرُ إلَى " مِنْ " فَإِنْ جُعِلَ مُخْتَصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُ فَسَادِهِ - عَادَ الضَّمِيرُ إلَى الْبَيِّنَةِ - وَإِنْ كَانَ " مِنْ " تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَرَسُولُ اللَّهِ أَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ تَنَاوَلَ الْجَمِيعَ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ جَاءَ بِالرِّسَالَةِ مِنْ اللَّهِ وَهَذَا يَخْتَصُّ بِهِ وَتَصْدِيقُ هَذِهِ الرِّسَالَةِ وَالْإِيمَانُ بِهَا وَاجِبٌ عَلَى الثِّقْلَيْنِ وَالرَّسُولُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ الَّتِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ
بِهَا وَلِهَذَا قَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } . وَقَالَ : { قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ . فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرَانِ عَظِيمَانِ . " أَحَدُهُمَا " إثْبَاتُ نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِهِ . و " الثَّانِي " تَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَقٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ فِيمَنْ يُرْسِلُهُ الْمَخْلُوقُ مَنْ يُصَدَّقُ فِي رِسَالَتِهِ ؛ لَكِنَّهُ لَا يَتَّبِعُهَا ؛ إمَّا لِطَعْنِهِ فِي الْمُرْسِلِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ يَعْصِيهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُرْسِلَ بِحَقِّ فَالْمُلُوكُ كَثِيرًا مَا يُرْسِلُونَ رَسُولًا بِكُتُبِ وَغَيْرِهَا يُبَلِّغُ الرُّسُلُ رِسَالَتَهُمْ فَيُصَدَّقُونَ بِهَا . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الرَّسُولُ أَكْثَرَ مُخَالَفَةً لِمُرْسِلِهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ وَلِهَذَا ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ رَسُولًا لِلَّهِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمَدْحَ . ثُمَّ قَالَ : إنَّ هَذَا قَدْ يُقَالُ فِيمَنْ قَبِلَ الرِّسَالَةَ وَبَلَّغَهَا وَفِيمَنْ لَمْ يَقْبَلْ لَكِنَّ هَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ رَسُولًا إلَّا وَقَدْ اصْطَفَاهُ فَيُبَلِّغُ رِسَالَاتِ رَبِّهِ . وَرُسُلُ اللَّهِ
هُمْ أَطْوَعُ الْخَلْقِ لِلَّهِ وَأَعْظَمُ إيمَانًا بِمَا بُعِثُوا بِهِ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُ يُرْسِلُ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ يَعْصِيهِ وَمَنْ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ طَاعَتِهِ وَالْخَالِقُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا يُجَوِّزُونَ عَلَى الرَّبِّ أَنْ يُرْسِلَ كُلَّ أَحَدٍ بِكُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ عِنْدَهُمْ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُنَزِّهُونَ الرُّسُلَ عَمَّا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَنْزِيهِهِمْ عَنْهُ عِنْدَهُمْ مِمَّا ثَبَتَ بِالسَّمْعِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَسُولًا كَمَا قَدْ بَسَطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ خَطَأٌ . وَلَمَّا كَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَمْرَانِ . فِي " الْأَوَّلِ " يُقَالُ : آمَنْت لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } وَقَوْلُهُ : { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } . وَفِي " الثَّانِي " يُقَالُ : آمَنْت بِاَللَّهِ فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ لَهُ وَنُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَيْنِ . فَذَكَرَ " أَوَّلًا " مَا يُثْبِتُ نُبُوَّتَهُ وَصِدْقَهُ بِقَوْلِهِ : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَلَمَّا كَانَ الَّذِي يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ شَيْئَانِ : إمَّا الْجَهْلُ وَإِمَّا فَسَادُ الْقَصْدِ ذَكَرَ مَا يُزِيلُ الْجَهْلَ وَهُوَ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَهْلَ فَسَادِ الْقَصْدِ بِقَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ فَسَادِ الْقَصْدِ . فَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا الْمَانِعَانِ لِلْخَلْقِ مِنْ اتِّبَاعِ هَذَا الرَّسُولِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْبَقَرَةِ ذَكَرَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَحُسْنَ الْقَصْدِ فَقَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } . ثُمَّ قَالَ : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } . فَلَمَّا أَثْبَتَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ : أَخَذَ بَعْدَ هَذَا فِي بَيَانِ الْإِيمَانِ بِهِ وَحَالِ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كَفَرَ فَقَالَ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } الْآيَةُ . ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ } وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بِادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ كَاذِبًا وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا صَادِقًا فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْ هَذَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَذَا فَكَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا إنَّمَا يَقَعُ مِمَّنْ فَسَدَ
قَصْدُهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا وَإِرَادَتِهَا وَمِمَّنْ أَحَبَّ الرِّئَاسَةَ وَأَرَادَ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُلْقِيَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَقُولُ فَعَلْت يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا وَيَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ : نَعَمْ . فَيَقُولُ : إنِّي قَدْ سَتَرْتهَا عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَك الْيَوْمَ ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ بِيَمِينِهِ } " . وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ : ف { وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ ذَكَرَ مَثَلَ الْفَرِيقَيْنِ فَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَتَدَبَّرَ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَعَرَفَ مَقْصُودَ الْقُرْآنِ : تَبَيَّنَ لَهُ الْمُرَادُ وَعَرَفَ الْهُدَى وَالرِّسَالَةَ وَعَرَفَ السَّدَادَ مِنْ الِانْحِرَافِ وَالِاعْوِجَاجِ . وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِمُجَرَّدِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ الْمُجَرَّدُ عَنْ سَائِرِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ فَهَذَا مَنْشَأُ الْغَلَطِ مِنْ الغالطين ؛ لَا سِيَّمَا كَثِيرٌ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِيهِ بِالِاحْتِمَالَاتِ اللُّغَوِيَّةِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ غَلَطًا مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الْمَشْهُورِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ مَعْرِفَةَ مَعْنَاهُ كَمَا يَقْصِدُ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ . وَأَعْظَمُ غَلَطًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنْ لَا يَكُونُ قَصْدُهُ مَعْرِفَةَ مُرَادِ اللَّهِ ؛
بَلْ
قَصْدُهُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ بِمَا يَدْفَعُ خَصْمَهُ عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا
وَهَؤُلَاءِ يَقَعُونَ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ التَّحْرِيفِ وَلِهَذَا جَوَّزَ مِنْ
جَوَّزَ مِنْهُمْ أَنْ تَتَأَوَّلَ الْآيَةُ بِخِلَافِ تَأْوِيلِ السَّلَفِ
وَقَالُوا : إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ
جَازَ لِمَنْ بَعْدِهِمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا
اخْتَلَفُوا فِي الْأَحْكَامِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهَذَا خَطَأٌ فَإِنَّهُمْ إذَا
أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ إمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا كَانَ
الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ خِلَافًا
لِإِجْمَاعِهِمْ ؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ طَرِيقُ مَنْ يَقْصِدُ الدَّفْعَ لَا يَقْصِدُ
مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَضِلَّ الْأُمَّةُ عَنْ
فَهْمِ الْقُرْآنِ وَيَفْهَمُونَ مِنْهُ كُلُّهُمْ غَيْرَ الْمُرَادِ [ وَيَأْتِي
] (1) مُتَأَخِّرُونَ يَفْهَمُونَ الْمُرَادَ فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } كَمَا تَقَدَّمَ
هُوَ كَقَوْلِهِ : { قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } وَقَوْلِهِ : {
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } وَقَوْلِهِ : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } وَقَوْلِهِ { أُولَئِكَ عَلَى
هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } .
فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ عَلَى أَمْرٍ مِنْ اللَّهِ فَاجْتَمَعَ فِي هَذَا اللَّفْظِ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ وَحَرْفُ ( مِنْ ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ حَرْفُ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَيُقَالُ : هُوَ مِنْ اللَّهِ عَلَى نَوْعَيْنِ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا وَلَا بِمَخْلُوقِ فَهَذَا يَكُونُ صِفَةً لَهُ وَمَا كَانَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا أَوْ بِمَخْلُوقِ فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ . " فَالْأَوَّلُ " كَقَوْلِهِ : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } وَقَوْلِهِ : { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } كَمَا قَالَ السَّلَفُ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . " وَالنَّوْعُ الثَّانِي " كَقَوْلِهِ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } و { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } وَكَمَا يُقَالُ : إلْهَامُ الْخَيْرِ وَإِيحَاؤُهُ مِنْ اللَّهِ وَإِلْهَامُ الشَّرِّ وَإِيحَاؤُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالْوَسْوَسَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ . فَهَذَا نَوْعَانِ . تَارَةً يُضَافُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْعَاقِبَةِ وَالْغَايَةِ . فَالْحَسَنَاتُ هِيَ النِّعَمُ وَالسَّيِّئَاتُ هِيَ الْمَصَائِبُ كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَكِنْ تِلْكَ الْحَسَنَاتُ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ فَهِيَ مِنْهُ إحْسَانًا وَتَفَضُّلًا وَهَذِهِ عُقُوبَةُ ذَنْبٍ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ فَهِيَ مِنْ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَمَلَهُ السَّيِّئَ كَانَ
سَبَبَهَا وَهِيَ عُقُوبَةٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ أَرَادَتْ تِلْكَ الذُّنُوبَ وَوُسْوِسَت بِهَا . وَتَارَةً يُقَالُ بِاعْتِبَارِ حَسَنَاتِ الْعَمَلِ وَسَيِّئَاتِهِ وَمَا يُلْقَى فِي الْقَلْبِ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ وَالْإِرَادَاتِ فَيُقَالُ لِلْحَقِّ : هُوَ مِنْ اللَّهِ أَلْهَمَهُ الْعَبْدَ وَيُقَالُ لِلْبَاطِلِ : إنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَسْوَسَ بِهِ وَمِنْ النَّفْسِ أَيْضًا لِأَنَّهَا أَرَادَتْهُ كَمَا قَالَ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا قَالُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ : إنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنَّا وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ . وَهَذَا لَفْظُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي حَدِيثِ بروع بِنْتِ وَاشِقٍ قَالَ : إنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِحُكْمِ فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ اللَّهِ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ فَهُوَ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْهَمَهُ عَبْدَهُ لَمْ يَحْصُلْ بِتَوَسُّطِ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَالشَّيْطَانُ وَسْوَسَ بِهِ وَالنَّفْسُ أَرَادَتْهُ وَوَسْوَسَتْ بِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَخْلُوقًا فِيهِ وَاَللَّهُ خَلَقَهُ فِيهِ ؛ لَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا وَقَعَ لِي مِنْ إلْهَامِ الْمَلَكِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ لِلْمَلَكِ بِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ لَمَّةً وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً ؛ فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ " فَالتَّصْدِيقُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَالْإِيعَادُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ بَابِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ . قَالَ تَعَالَى : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً
مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } . فَهَذِهِ حَسَنَاتُ الْعَمَلِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ يَأْمُرُ بِهَا وَيُحِبُّهَا وَإِذَا كَانَتْ خَيْرًا فَهُوَ يُصَدِّقُهَا وَيُخْبِرُ بِهَا فَهِيَ مِنْ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَهِيَ أَيْضًا مِنْ إلْهَامِهِ لِعَبْدِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ لَمْ تَكُنْ بِوَاسِطَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ ؛ فَاخْتُصَّتْ بِإِضَافَتِهَا إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مِنْ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَأَنَّ النَّازِلَ بِهَا إلَى الْعَبْدِ مَلَكٌ كَمَا اُخْتُصَّ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُ مِنْهُ كَلَامٌ وَقُرْآنُ مُسَيْلِمَةَ بِأَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ مَا يُلْقِيهِ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْإِلْهَامَاتِ الصَّادِقَةِ الْعَادِلَةِ هِيَ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ مَا يُرِيهِمْ إيَّاهُ فِي الْمَنَامِ قَالَ عبادة بْنُ الصَّامِتِ : رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عَبْدَهُ فِي مَنَامِهِ وَقَالَ عُمَرُ : اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ يَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } { وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى } { وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا } وَقَالَ : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَلْهَمَ الْفَاجِرَةَ فُجُورَهَا وَالتَّقِيَّةَ تَقْوَاهَا فَالْإِلْهَامُ عِنْدَهُ هُوَ الْبَيَانُ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ : كِلَا النَّوْعَيْنِ مِنْ اللَّهِ هَذَا الْهُدَى الْمُشْتَرَكُ
وَذَاكَ الْهُدَى الْمُخْتَصُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمَّاهُ إلْهَامًا كَمَا سَمَّاهُ هُدًى كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } وَكَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } أَيْ بَيَّنَا لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُوَ هُدَى الْبَيَانِ الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ . وَقِيلَ : هَدَيْنَا الْمُؤْمِنَ لِطَرِيقِ الْخَيْرِ وَالْكَافِرَ لِطَرِيقِ الشَّرِّ ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ جَعَلَ الْفُجُورَ هُدًى كَمَا جَعَلَ أُولَئِكَ الْبَيَانَ إلْهَامًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } قِيلَ هُوَ الْهُدَى الْمُشْتَرَكُ وَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ لَهُ الطَّرِيقَ الَّتِي يَجِبُ سُلُوكُهَا وَالطَّرِيقَ الَّتِي لَا يَجِبُ سُلُوكُهَا . وَقِيلَ بَلْ هَدَى كُلًّا مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ إلَى مَا سَلَكَهُ مِنْ السَّبِيلِ { إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } . لَكِنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا هُدًى قَدْ يُعْتَذَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ هُدًى مُقَيَّدٌ لَا مُطْلَقٌ كَمَا قَالَ : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَكَمَا قَالَ : { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } وَأَنَّهُ { يَقُولُ الْحَقَّ } و { يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } فَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ وَأَمْرِهِ لِعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ وَسَائِرَ كَلَامِهِ كَذَلِكَ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ جُنْدِهِ بِالْمَلَائِكَةِ . وَيُقَالُ لِضِدِّ هَذَا - وَهُوَ الْخَطَأُ - هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقُولُهُ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْكُتُهُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ
الشَّيْطَانُ
وَنَفْسُهُ تَقْبَلُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ ؛ فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَهَا الشَّيْءَ
فَتُطِيعُهُ فِيهِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ الشَّيْطَانِ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ
الْعَبْدُ ؛ وَلَكِنْ يَفُوتُهُ بِهِ نَوْعٌ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَالنِّسْيَانِ
فَإِنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالِاحْتِلَامُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالنُّعَاسُ
عِنْدَ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالصَّعْقُ عِنْدَ الذِّكْرِ
مِنْ الشَّيْطَانِ وَلَا إثْمَ عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا غُلِبَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ
يَكُنْ ذَلِكَ بِقَصْدِ مِنْهُ أَوْ بِذَنْبِ . فَقَوْلُهُ : { إنِّي عَلَى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } وَشِبْهُهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ : مِنْ هَذَا
الْبَابِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا
الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ }
فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَفِعْلِ مَا
أَمَرَ اللَّهُ ابْتِدَاءً وَتَبْلِيغًا كَالْقُرْآنِ وَقَدْ قَالَ : " إنَّ
اللَّهَ أَنْزَلَ الْأَمَانَةَ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ " فَهِيَ
تَنْزِلُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نُورِهِ وَهُدَاهُ وَهَذِهِ حَسَنَاتٌ
دِينِيَّةٌ وَعُلُومٌ دِينِيَّةٌ حَقُّ نَافِعَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ إفْضَالُ الْمُنْعِمِ ، وَهُوَ أَفْضَلُ
النِّعَمِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } فَقَدْ
دَخَلَ فِي ذَلِكَ نِعَمُ الدُّنْيَا كُلُّهَا كَالْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ
وَالنَّصْرِ وَتِلْكَ حَسَنَاتٌ يَبْتَلِي اللَّهُ الْعَبْدَ بِهَا . كَمَا
يَبْتَلِيهِ بِالْمَصَائِبِ هَلْ شَكَرَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَصْبِرُ أَمْ لَا ؟
كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ }
وَقَالَ : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } { فَأَمَّا
الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ } الْآيَاتُ .
وَقَدْ يُقَالُ فِي الشَّيْءِ إنَّهُ مِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا إذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِاَللَّهِ كَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ لِمُوسَى : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ } وَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً وَإِخْرَاجِ الْيَدِ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لَكِنَّهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ دَلَّ بِهِ وَأَرْشَدَ إلَى صَدْقِ نَبِيِّهِ مُوسَى وَهُوَ تَصْدِيقٌ مِنْهُ وَشَهَادَةٌ مِنْهُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَالصِّدْقِ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ مِنْ اللَّهِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ اللَّهِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِمَّا تَفْعَلُهُ الشَّيَاطِينُ وَالْكُهَّانُ كَمَا يُقَالُ : هَذِهِ عَلَامَةٌ مِنْ فُلَانٍ وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ فُلَانٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَلَامًا مِنْهُ . وَقَدْ سَمَّى مُوسَى ذَلِكَ بَيِّنَةً مِنْ اللَّهِ فَقَالَ : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } فَقَوْلُهُ : بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ كَقَوْلِهِ : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ } . وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ هُنَا حُجَّةٌ وَآيَةٌ وَدَلَالَةٌ مَخْلُوقَةٌ تَجْرِي مَجْرَى شَهَادَةِ اللَّهِ وَإِخْبَارُهُ بِكَلَامِهِ كَالْعَلَامَةِ الَّتِي يُرْسِلُ بِهَا الرَّجُلُ إلَى أَهْلِهِ وَكِيلَهُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ : هِيَ كَالْخَاتَمِ تَبْعَثُ بِهِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صَدِّقُوهُ فِيمَا قَالَ أَوْ أَعْطُوهُ مَا طَلَبَ . فَالْقُرْآنُ وَالْهُدَى مِنْهُ وَهُوَ مِنْ كَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذِهِ الْآيَاتُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يُكْتَبُ كَلَامُهُ فِي
الْمَصَاحِفِ ؛ فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْمَكْتُوبُ بِهِ الْكَلَامُ يُعْرَفُ بِهِ الْكَلَامُ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } . وَلِهَذَا يَكُونُ لِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ حُرْمَةٌ : كَالنَّاقَةِ وَكَالْمَاءِ النَّابِعِ بَيْنَ أَصَابِعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
:
فِي قَوْله تَعَالَى { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ
شَاهِدٌ مِنْهُ } الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا إلَى قَوْلِهِ : { أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ } ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْفَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ
وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّبَايُنِ وَالِاخْتِلَافِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ
تَرْغِيبًا فِي السَّعَادَةِ وَتَرْهِيبًا مِنْ الشَّقَاوَةِ . وَقَدْ افْتَتَحَ
السُّورَةَ بِذَلِكَ فَقَالَ : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ
مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ
مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } فَذَكَرَ أَنَّهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ؛ نَذِيرٌ
يُنْذِرُ بِالْعَذَابِ لِأَهْلِ النَّارِ وَبَشِيرٌ يُبَشِّرُ بِالسَّعَادَةِ
لِأَهْلِ الْحَقِّ . ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ فَقَالَ : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ
نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ
بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إنَّهُ
لَفَرِحٌ فَخُورٌ } { إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } . ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا
قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ وَحَالَ مَنْ اتَّبَعَهُمْ وَمَنْ كَذَّبَهُمْ
كَيْفَ سَعِدَ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَشَقِيَ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَذَكَرَ مَا جَرَى لَهُمْ إلَى قَوْلِهِ : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } . ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الَّذِينَ سُعِدُوا وَاَلَّذِينَ شُقُوا . ثُمَّ قَالَ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ } فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ : غَايَةُ مَا أَصَابَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ مَاتُوا وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يَمُوتُونَ وَأَمَّا كَوْنُهُمْ أُهْلِكُوا كُلُّهُمْ وَصَارَتْ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً وَصَارُوا عِبْرَةً يُذْكَرُونَ بِالشَّرِّ وَيُلْعَنُونَ إنَّمَا يَخَافُ ذَلِكَ مَنْ آمَنَ بِالْآخِرَةِ فَإِنَّ لَعْنَةَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ بِالْآخِرَةِ وَبُغْضَهُمْ لَهُمْ كَمَا جَرَى لِآلِ فِرْعَوْنَ هُوَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ عَذَابًا كَمَا أَنَّ لِسَانَ الصِّدْقِ وَثَنَاءَ النَّاسِ وَدُعَاءَهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ وَاتِّبَاعَهُمْ لَهُمْ هُوَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ ثَوَابًا . فَمَنْ اسْتَدَلَّ بِمَا أَصَابَ هَؤُلَاءِ عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ فَآمَنَ بِالْآخِرَةِ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ آيَةً وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْآخِرَةِ وَيَظُنُّ أَنَّ مَنْ مَاتَ لَمْ يُبْعَثْ فَقَدْ لَا يُبَالِي بِمِثْلِ هَذَا وَإِنْ كَانَ يَخَافُ هَذَا مَنْ لَا يَخَافُ الْآخِرَةَ ؛ لَكِنْ كُلُّ مَنْ خَافَ الْآخِرَةَ كَانَ هَذَا حَالُهُ وَذَلِكَ لَهُ آيَةٌ . وَقَدْ خَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ : { وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إنَّا عَامِلُونَ } إلَى آخِرِهَا كَمَا افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ : { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ } فَذَكَرَ التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ فَهَذَا دِينُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ
والآخرين قَالَ أَبُو الْعَالِيَةَ : كَلِمَتَانِ يُسْأَلُ عَنْهُمَا الْأَوَّلُونَ والآخرون مَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ وَمَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ . وَلِهَذَا قَالَ : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } و { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } هُوَ الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ وَهَذَانِ هُمَا الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ تَارَةً فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ سُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ وَتَارَةً بِآيَتَيْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَيَقْرَأُ قَوْلَهُ : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا } الْآيَةُ فَأَوَّلُهَا الْإِيمَانُ وَآخِرُهَا الْإِسْلَامُ وَيَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ } فَأَوَّلُهَا إخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَآخِرُهَا الْإِسْلَامُ لَهُ . وَقَالَ : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إلَيْنَا وَأُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فَفِيهَا الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ فِي آخِرِهَا وَقَالَ : { الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ } { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } .
فَصْلٌ
:
وقَوْله تَعَالَى { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } فَقَدْ
فَصَّلَهُ بَعْدَ إحْكَامِهِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ لَمْ
يُحْكِمْهُ وَقَدْ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ الْمُحْكَمِ مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ
لِغَيْرِهِ ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحْكَمَ كِتَابَهُ ثُمَّ فَصَّلَهُ وَبَيَّنَهُ
لِعِبَادِهِ كَمَا قَالَ : { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ
سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } وَقَالَ : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ
عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ
بَيَّنَهُ وَأَنْزَلَهُ عَلَى عِبَادِهِ بِعِلْمِ لَيْسَ كَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِلَا
عِلْمٍ . وَقَدْ ذَكَرَ بَرَاهِينَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ قَبْلَ ذِكْرِ
الْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَقَالَ : { أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } إلَى قَوْلِهِ
: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فَلَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ هُمْ وَجَمِيعُ مَنْ يَسْتَطِيعُونَ مِنْ دُونِهِ :
كَانَ فِي مَضْمُونِ تَحَدِّيهِ أَنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى
الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا قَالَ : { قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ
لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } .
وَحِينَئِذٍ : فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ
وَمَا كَانَ
مُخْتَصًّا بِنَوْعِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ وَكُلُّ مَلْزُومٍ دَلِيلٌ عَلَى لَازِمِهِ كَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهَا فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِجِنْسِهِمْ . وَهَذَا الْقُرْآنُ مُخْتَصٌّ بِجِنْسِهِمْ وَمِنْ بَيْنِ الْجِنْسِ خَاتَمُهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ غَيْرُهُ وَكَانَ ذَلِكَ بُرْهَانًا بَيِّنًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ وَأَنَّهُ نَزَلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ؛ هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ بِخَبَرِهِ وَأَمَرَ بِمَا أَمَرَ بِهِ كَمَا قَالَ : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } الْآيَةُ . وَثُبُوتُ الرِّسَالَةِ مَلْزُومٌ لِثُبُوتِ التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَذَا الْقُرْآنِ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْبَيَانِ فِيهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ وَنُبِّهَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَلَا سِيَّمَا هَذِهِ السُّورَةُ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْبَيَانِ وَالتَّعْجِيزِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَفِيهَا مِنْ الْمَوَاعِظِ وَالْحَكَمِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَا لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " هُوَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ } حَيْثُ سَأَلَ السَّائِلُ عَنْ تَفْسِيرِهَا وَذَكَرَ مَا فِي التَّفَاسِيرِ مِنْ كَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا وَأَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ يَزِيدُ الطَّالِبَ عَمًى عَنْ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْهُدَى وَالرَّشَادُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيُهْتَدَى بِهِ لَا لِيُخْتَلَفَ فِيهِ وَالْهُدَى إنَّمَا يَكُونُ إذَا عُرِفَتْ مَعَانِيهِ فَإِذَا حَصَلَ الِاخْتِلَافُ الْمُضَادُّ لِتِلْكَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا لَمْ يُعْرَفْ الْحَقُّ وَلَمْ تُفْهَمْ الْآيَةُ وَمَعْنَاهَا وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْهُدَى وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي : حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ : عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَتَجَاوَزُوهَا حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا : فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ فِي مَاذَا نَزَلَتْ وَمَاذَا عُنِيَ بِهَا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } وَتَدَبُّرُ الْكَلَامِ إنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ إذَا فُهِمَ . وَقَالَ : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } . فَالرُّسُلُ تُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُبَلِّغُوا النَّاسَ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ ؛ وَالْمَطْلُوبُ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَعْقِلُوا مَا بَلَّغَهُ الرُّسُلُ وَالْعَقْلُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ فَمَنْ عَرَفَ الْخَيْر وَالشَّرَّ فَلَمْ يَتَّبِعْ الْخَيْرَ وَيَحْذَرْ الشَّرَّ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا ؛ وَلِهَذَا لَا يُعَدُّ عَاقِلًا إلَّا مَنْ فَعَلَ مَا يَنْفَعُهُ وَاجْتَنَبَ مَا يَضُرُّهُ فَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا قَدْ يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْمَهَالِكِ وَقَدْ يَفِرُّ مِمَّا يَنْفَعُهُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ
فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } وقَوْله تَعَالَى { يَوْمَ
نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَالَ طَوَائِفُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ قَوْلَهُ : { مَا
دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } أَرَادَ بِهَا سَمَاءَ الْجَنَّةِ وَأَرْضَ
الْجَنَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ الْجَنَّةَ
فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ
وَسَقْفُهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } هِيَ أَرْضُ الْجَنَّةِ . وَعَلَى هَذَا
فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ انْطِوَاءِ هَذِهِ السَّمَاءِ وَبَقَاءِ السَّمَاءِ
الَّتِي هِيَ سَقْفُ الْجَنَّةِ ؛ إذْ كُلُّ مَا عَلَا فَإِنَّهُ يُسَمَّى فِي
اللُّغَةِ سَمَاءً كَمَا يُسَمَّى السَّحَابُ سَمَاءً وَالسَّقْفُ سَمَاءً .
و " أَيْضًا " فَإِنَّ السَّمَوَاتِ وَإِنْ طُوِيَتْ وَكَانَتْ كَالْمُهْلِ وَاسْتَحَالَتْ عَنْ صُورَتِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَدَمَهَا وَفَسَادَهَا بَلْ أَصْلُهَا بَاقٍ ؛ بِتَحْوِيلِهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } وَإِذَا بُدِّلَتْ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ سَمَاءٌ دَائِمَةً وَأَرْضٌ دَائِمَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ
يُوسُفَ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَوْلُ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ امْرَأَةُ
الْعَزِيزِ : { هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ
مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } الْمُرَادُ بِرَبِّهِ فِي أَصَحِّ
الْقَوْلَيْنِ هُنَا سَيِّدُهُ وَهُوَ زَوْجُهَا الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ
الَّذِي قَالَ لِامْرَأَتِهِ : { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ
نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ
فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ
عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . فَلَمَّا وَصَّى
بِهِ امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } قَالَ يُوسُفُ { إنَّهُ
رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } وَلِهَذَا قَالَ : { إنَّهُ لَا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ } وَالضَّمِيرُ فِي : { إنَّهُ } مَعْلُومٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ
سَيِّدُهَا .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فَهَذَا خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ وَرَبُّهُ هُوَ اللَّهُ كَمَا قَالَ لِصَاحِبَيْ السِّجْنِ : { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } وَقَوْلُهُ : { رَبِّيَ } مِثْلَ قَوْلِهِ لِصَاحِبِ الرُّؤْيَا : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } قَالَ تَعَالَى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } قِيلَ أُنْسِيَ يُوسُفُ ذِكْرَ رَبِّهِ لَمَّا قَالَ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } . وَقِيلَ : بَلْ الشَّيْطَانُ أَنْسَى الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا ذِكْرَ رَبِّهِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } قَالَ تَعَالَى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى الْقَرِيبِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَنْسَ ذِكْرَ رَبِّهِ ؛ بَلْ كَانَ ذَاكِرًا لِرَبِّهِ . وَقَدْ دَعَاهُمَا قَبْلَ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ وَقَالَ لَهُمَا : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . وَقَالَ لَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } أَيْ فِي الرُّؤْيَا { إلَّا
نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } يَعْنِي التَّأْوِيلَ { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } فَبِذَا يَذْكُرُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا عَلَّمَهُ رَبُّهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مِلَّةَ قَوْمٍ مُشْرِكِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ آبَائِهِ أَئِمَّةَ الْمُؤْمِنِينَ - الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ أَئِمَّةً يَدْعُونَ بِأَمْرِهِ - إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ؛ فَذَكَرَ رَبَّهُ ثُمَّ دَعَاهُمَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ . ثُمَّ بَعْدَ هَذَا عَبَرَ الرُّؤْيَا فَقَالَ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } الْآيَةُ ثُمَّ لَمَّا قَضَى تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ أَنْسَى الشَّيْطَانُ يُوسُفَ ذِكْرَ رَبِّهِ ؟ وَإِنَّمَا أَنْسَى الشَّيْطَانُ النَّاجِيَ ذِكْرَ رَبِّهِ أَيْ الذِّكْرَ الْمُضَافَ إلَى رَبِّهِ وَالْمَنْسُوبَ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدَهُ يُوسُفَ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ قَالُوا : كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَلَا يَقُولَ اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك . فَلَمَّا نَسِيَ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ جُوزِيَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ . فَيُقَالُ : لَيْسَ فِي قَوْلِهِ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مَا يُنَاقِضُ التَّوَكُّلَ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ يُوسُفُ : { إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ } كَمَا أَنَّ قَوْلَ أَبِيهِ : { لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } لَمْ يُنَاقِضْ تَوَكُّلَهُ ؛ بَلْ قَالَ :
{ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } . و " أَيْضًا " فَيُوسُفُ قَدْ شَهِدَ اللَّهُ لَهُ أَنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ وَالْمُخْلِصُ لَا يَكُونُ مُخْلِصًا مَعَ تَوَكُّلِهِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ وَيُوسُفُ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا لَا فِي عِبَادَتِهِ وَلَا تَوَكُّلِهِ بَلْ قَدْ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ : { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } فَكَيْفَ لَا يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي أَفْعَالِ عِبَادِهِ . وَقَوْلُهُ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مِثْلُ قَوْلِهِ لِرَبِّهِ : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } فَلَمَّا سَأَلَ الْوِلَايَةَ لِلْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَا هُوَ مِنْ سُؤَالِ الْإِمَارَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ لِلْفَتَى : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ إخْبَارِ الْمَلِكِ بِهِ ؛ لِيَعْلَمَ حَالَهُ لِيَتَبَيَّنَ الْحَقُّ وَيُوسُفُ كَانَ مَنْ أَثْبَتِ النَّاسِ . وَلِهَذَا بَعْدَ أَنْ طُلِبَ { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } قَالَ { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } فَيُوسُفُ يَذْكُرُ رَبَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي تِلْكَ . وَيَقُولُ : { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ } فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ لَهُ : { اذْكُرْنِي
عِنْدَ رَبِّكَ } تَرْكٌ لِوَاجِبِ وَلَا فِعْلٌ لِمُحَرَّمِ حَتَّى يُعَاقِبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ عَزَمُوا عَلَى حَبْسِهِ إلَى حِينِ قَبِلَ هَذَا ظُلْمًا لَهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ الذَّنْبِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } وَلُبْثُهُ فِي السَّجْنِ كَانَ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ فِي حَقِّهِ ؛ لِيَتِمَّ بِذَلِكَ صَبْرُهُ وَتَقْوَاهُ فَإِنَّهُ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى نَالَ مَا نَالَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَلَوْ لَمْ يَصْبِرْ وَيَتَّقِ بَلْ أَطَاعَهُمْ فِيمَا طَلَبُوا مِنْهُ جَزَعًا مِنْ السَّجْنِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الصَّبْرُ وَالتَّقْوَى وَفَاتَهُ الْأَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُمْكِنُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : قِيلَ لَا يُمْكِنُ كَقَوْلِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا قَالُوا : لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ الِانْتِشَارَ . وَالثَّانِي : يُمْكِنُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي الِانْتِشَارَ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْفِعْلِ اخْتِيَارًا بَلْ الْمُكْرَهُ يَخْتَارُ دَفْعَ أَعْظَمِ الشَّرَّيْنِ بِالْتِزَامِ
أَدْنَاهُمَا . وَأَيْضًا : فَالِانْتِشَارُ بِلَا فِعْلٍ مِنْهُ ؛ بَلْ قَدْ يُقَيَّدُ وَيُضْجَعُ فَتُبَاشِرُهُ الْمَرْأَةُ فَتَنْتَشِرُ شَهْوَتُهُ فَتَسْتَدْخِلُ ذَكَرَهُ . فَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ مَا طَلَبَتْ مِنْهُ بِحَالِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَقَدْ يُقَالُ الْحَبْسُ لَيْسَ بِإِكْرَاهِ يُبِيحُ الزِّنَا ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ أَوْ يُتْلِفُونَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ فَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي هَذَا وَهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا بِهِ إلَى هَذَا الْحَدِّ وَإِنْ قِيلَ كَانَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ لَكِنْ يَفُوتُهُ الْأَفْضَلُ . وَأَيْضًا : فَالْإِكْرَاهُ إنَّمَا يَحْصُلُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ يُبَاشِرُ وَتَبْقَى لَهُ شَهْوَةٌ وَإِرَادَةٌ فِي الْفَاحِشَةِ . وَمَنْ قَالَ : الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ يَقُولُ : فَرَّقَ بَيْنَ مَا لَا فِعْلَ لَهُ - كَالْمُقَيَّدِ - وَبَيْنَ مَنْ لَهُ فِعْلٌ كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أُضْجِعَتْ وَقُيِّدَتْ حَتَّى فُعِلَ بِهَا الْفَاحِشَةُ لَمْ تَأْثَمْ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أُكْرِهَتْ حَتَّى زَنَتْ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد ؛ لَكِنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ لَا تَأْثَمُ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : فِعْلُ الْمَرْأَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى انْتِشَارٍ فَإِنَّمَا هُوَ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ ؛ بِخِلَافِ فِعْلِ الرَّجُلِ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَذْكُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ اسْتِغْفَارَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ يُوسُفَ اسْتِغْفَارًا مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ . كَمَا لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ اسْتِغْفَارًا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْفَاحِشَةِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا فِي هَذَا وَلَا هَذَا ؛ بَلْ هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ ؛ فَأُثِيبَ عَلَيْهِ حَسَنَةً كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ . وَأَمَّا مَا يُكَفِّرُهُ الِابْتِلَاءُ مِنْ السَّيِّئَاتِ فَذَلِكَ جُوزِيَ بِهِ صَاحِبُهُ بِالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ } وَلَمَّا { أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا ؟ فَقَالَ : أَلَسْت تَحْزَنُ ؟ أَلَسْت تَنْصَبُ ؟ أَلَسْت تُصِيبُك اللأوى ؟ فَذَلِكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ } . فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } أَيْ نُسِّيَ الْفَتَى ذِكْرَ رَبِّهِ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا لِرَبِّهِ وَنُسِّيَ ذِكْرَ يُوسُفَ رَبَّهُ وَالْمَصْدَرُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَيُوسُفُ قَدْ ذَكَرَ رَبَّهُ وَنُسِّيَ الْفَتَى ذِكْرَ يُوسُفَ رَبَّهُ وَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ ؛ هَذَا الذِّكْرَ الْخَاصَّ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا فَقَدْ لَا يَخْطُرُ هَذَا الذِّكْرُ بِقَلْبِهِ وَأَنْسَاهُ
الشَّيْطَانُ
تَذْكِيرَ رَبِّهِ وَإِذْكَارَ رَبِّهِ لَمَّا قَالَ : { اذْكُرْنِي } أَمَرَهُ
بِإِذْكَارِ رَبِّهِ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ إذْكَارَ رَبِّهِ فَإِذْكَارُ
رَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَهُ ذَاكِرًا فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَجْعَلَ رَبَّهُ
ذَاكِرًا لِيُوسُفَ وَالذِّكْرُ هُوَ مَصْدَرٌ وَهُوَ اسْمٌ فَقَدْ يُضَافُ مِنْ
جِهَةِ كَوْنِهِ اسْمًا ؛ فَيَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ ؛ أَيْ أَنْسَاهُ الذِّكْرَ
الْمُتَعَلِّقَ بِرَبِّهِ وَالْمُضَافَ إلَيْهِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ
الَّذِي نَسِيَ رَبَّهُ هُوَ الْفَتَى لَا يُوسُفُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : {
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ
بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } وَقَوْلُهُ : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ }
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَسِيَ فَادَّكَرَ . فَإِنْ قِيلَ : لَا رَيْبَ
أَنَّ يُوسُفَ سَمَّى السَّيِّدَ رَبًّا فِي قَوْلِهِ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ
رَبِّكَ } و { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَهَذَا كَانَ جَائِزًا
فِي شَرْعِهِ كَمَا جَازَ فِي شَرْعِهِ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ
وَكَمَا جَازَ فِي شَرْعِهِ أَنْ يُؤْخَذَ السَّارِقُ عَبْدًا وَإِنْ كَانَ هَذَا
مَنْسُوخًا فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَوْلُهُ : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } إنْ أَرَادَ بِهِ السَّيِّدَ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ ؛ لَكِنْ مَعْلُومٌ أَنَّ تَرْكَ الْفَاحِشَةِ خَوْفًا
لِلَّهِ وَاجِبٌ وَلَوْ رَضِيَ سَيِّدُهَا وَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ . { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا
لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ يُوسُفُ أَيْضًا : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ مَا يَزَعُهُ عَنْ الْفَاحِشَةِ وَلَوْ رَضِيَ بِهَا النَّاسُ وَقَدْ دَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ . وَقَوْلُهُ : { السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ } بِصِيغَةِ جَمْعِ التَّذْكِيرِ وَقَوْلُهُ : { كَيْدَهُنَّ } بِصِيغَةِ جَمْعِ التَّأْنِيثِ وَلَمْ يَقُلْ مِمَّا يَدَّعِينَنِي إلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ الذُّكُورِ مَنْ يَدْعُوهُ مَعَ النِّسَاءِ إلَى الْفَاحِشَةِ بِالْمَرْأَةِ وَلَيْسَ هُنَاكَ إلَّا زَوْجُهَا وَذَلِكَ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ قَلِيلَ الْغَيْرَةِ أَوْ عَدِيمَهَا وَكَانَ يُحِبُّ امْرَأَتَهُ وَيُطِيعُهَا ؛ وَلِهَذَا لَمَّا اطَّلَعَ عَلَى مُرَاوَدَتِهَا قَالَ : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } فَلَمْ يُعَاقِبْهَا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ يُوسُفَ حَتَّى لَا تَتَمَكَّنَ مِنْ مُرَاوَدَتِهِ وَأَمَرَ يُوسُفَ أَنْ لَا يَذْكُرَ مَا جَرَى لِأَحَدِ مَحَبَّةً مِنْهُ لِامْرَأَتِهِ وَلَوْ كَانَ فِيهِ غَيْرَةٌ لَعَاقَبَ الْمَرْأَةَ . وَمَعَ هَذَا فَشَاعَتْ الْقِصَّةُ وَاطَّلَعَ عَلَيْهَا النَّاسُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ يُوسُفَ حَتَّى تَحَدَّثَتْ بِهَا النِّسْوَةُ فِي الْمَدِينَةِ وَذَكَرُوا أَنَّهَا تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ وَمَعَ هَذَا : { أَرْسَلَتْ إلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ
كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا } وَأَمَرَتْ يُوسُفَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَيْهِنَّ ؛ لِيُقِمْنَ عُذْرَهَا عَلَى مُرَاوَدَتِهِ وَهِيَ تَقُولُ لَهُنَّ : { فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ } . وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُتَمَكِّنَةً مِنْ مُرَاوَدَتِهِ وَالْخَلْوَةِ بِهِ مَعَ عِلْمِ الزَّوْجِ بِمَا جَرَى وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدِّيَاثَةِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا حُبِسَ فَإِنَّمَا حُبِسَ بِأَمْرِهَا وَالْمَرْأَةُ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ حَبْسِهِ إلَّا بِأَمْرِ الزَّوْجِ فَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي حَبَسَهُ ؛ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ : هَذَا الْقِبْطِيُّ هَتَكَ عِرْضِي فَحَبَسَهُ ؛ وَحَبَسَهُ لِأَجْلِ الْمَرْأَةِ مُعَاوَنَةً لَهَا عَلَى مَطْلَبِهَا لِدِيَاثَتِهِ وَقِلَّةِ غَيْرَتِهِ فَدَخَلَ هُوَ فِي مَنْ دَعَا يُوسُفَ إلَى الْفَاحِشَةِ . فَعُلِمَ أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَتْرُكْ الْفَاحِشَةَ لِأَجْلِهِ وَلَا لِخَوْفِهِ مِنْهُ بَلْ قَدْ عُلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخَافُ مِنْهُ وَأَنَّ يُوسُفَ لَوْ أَعْطَاهَا مَا طَلَبَتْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ يَدْرِي وَلَوْ دَرَى فَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ يُنْكِرُ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ دَرَى بِالْمُرَاوَدَةِ وَالْخَلْوَةِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ فَلَمْ يُنْكِرْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ هَمَّ بِعُقُوبَةِ يُوسُفَ فَكَانَتْ هِيَ الْحَاكِمَةَ عَلَى الزَّوْجِ الْقَاهِرَةَ لَهُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إحْدَاكُنَّ } { وَلَمَّا رَاجَعْنَهُ فِي إمَامَةِ الصِّدِّيقِ قَالَ : إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ } { وَلَمَّا أَنْشَدَهُ الْأَعْشَى
وَهُنَّ
شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غُلِبَ
اسْتَعَادَ ذَلِكَ مِنْهُ وَقَالَ : وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غُلِبَ } .
فَكَيْفَ لَا تَغْلِبُ مِثْلَ هَذَا الزَّوْجِ وَتَمْنَعُهُ مِنْ عُقُوبَةِ
يُوسُفَ ؟ وَقَدْ عَهِدَ النَّاسُ خَلْقًا مِنْ النَّاسِ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ
؛ مِنْ نِسَاءِ التتر وَغَيْرِهِمْ يَكُونُ لِامْرَأَتِهِ غَرَضٌ فَاسِدٌ فِي
فَتَاهُ أَوْ فَتَاهَا وَتَفْعَلُ مَعَهُ مَا تُرِيدُ وَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ
أَنْ يَكْشِفَ أَوْ يُعَاقِبَ مَنَعَتْهُ وَدَفَعَتْهُ ؛ بَلْ وَأَهَانَتْهُ
وَفَتَحَتْ عَلَيْهِ أَبْوَابًا مِنْ الشَّرِّ بِنَفْسِهَا وَأَهْلِهَا
وَحَشَمِهَا وَالْمُطَالَبَةِ بِصَدَاقِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ حَتَّى يَتَمَنَّى
الرَّجُلُ الْخَلَاصَ مِنْهَا رَأْسًا بِرَأْسِ مَعَ كَوْنِ الرَّجُلِ فِيهِ
غَيْرَةٌ فَكَيْفَ مَعَ ضَعْفِ الْغَيْرَةِ . فَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ
الدَّاعِيَ لِيُوسُفَ إلَى تَرْكِ الْفَاحِشَةِ كَانَ خَوْفَ اللَّهِ لَا خَوْفًا
مِنْ السَّيِّدِ فَلِهَذَا قَالَ : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } قِيلَ هَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ مَحَاسِنَ يُوسُفَ
وَرِعَايَتَهُ لِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْمَخْلُوقِينَ وَدَفْعَهُ الشَّرَّ
بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِنَّ الزِّنَا بِامْرَأَةِ الْغَيْرِ فِيهِ حَقَّانِ
مَانِعَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ بِالتَّحْرِيمِ . فَالْفَاحِشَةُ حَرَامٌ
لِحَقِّ اللَّهِ وَلَوْ رَضِيَ الزَّوْجُ وَظُلْمُ الزَّوْجِ فِي امْرَأَتِهِ
حَرَامٌ لِحَقِّ بِحَيْثُ لَوْ سَقَطَ حَقُّ اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ فَحَقُّ
هَذَا فِي امْرَأَتِهِ لَا يَسْقُطُ كَمَا لَوْ ظَلَمَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ وَتَابَ
مِنْ حَقِّ اللَّهِ لَمْ يَسْقُطْ
حَقُّ الْمَظْلُومِ بِذَلِكَ وَلِهَذَا جَازَ لِلرَّجُلِ إذَا زَنَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ يَقْذِفَهَا وَيُلَاعِنَهَا وَيَسْعَى فِي عُقُوبَتِهَا بِالرَّجْمِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَذْفُهَا وَلَا يُلَاعِنُ بَلْ يُحَدُّ إذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِفْسَادُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ لِزَوْجِهَا وَهُوَ عِنْدَهُ أَعْظَمُ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ . وَلِهَذَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ دَفْعًا عَنْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقَتْلِ بِالِاتِّفَاقِ وَيَجُوزُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ قَتْلُهُ وَإِنْ انْدَفَعَ بِدُونِهِ كَمَا فِي قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَتَاهُ رَجُلٌ بِيَدِهِ سَيْفٌ فِيهِ دَمٌ وَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا تَفَخَّذَ امْرَأَتَهُ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَأَقَرَّهُ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ وَشَكَرَهُ وَقَبِلَ قَوْلَهُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِذَلِكَ إذْ ظَهَرَتْ دَلَائِلُ ذَلِكَ . وَهَذَا كَمَا لَوْ اطَّلَعَ رَجُلٌ فِي بَيْتِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ ابْتِدَاءً وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْذِرَهُ هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ اطَّلَعَ رَجُلٌ فِي بَيْتِك فَفَقَأْت عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْك شَيْءٌ } وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الَّذِي عَضَّ يَدَ غَيْرِهِ فَنَزَعَ يَدَهُ فَانْقَلَعَتْ أَسْنَانُ الْعَاضِّ . وَهَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ . وَأَكْثَرُ السَّلَفِ وَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ ؛ إذْ الْمَقْصُودُ أَنَّ الزَّانِيَ بِامْرَأَةِ غَيْرِهِ ظَالِمٌ لِلزَّوْجِ وَلِلزَّوْجِ حَقٌّ عِنْدَهُ وَلِهَذَا { ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ
زَنَى بِامْرَأَةِ الْمُجَاهِدِ فَإِنَّهُ يُمَكَّنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حَسَنَاتِهِ يَأْخُذُ مِنْهَا مَا شَاءَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك } فَذَكَرَ الزِّنَا بِحَلِيلَةِ الْجَارِ فَعُلِمَ أَنَّ لِلزَّوْجِ حَقًّا فِي ذَلِكَ وَكَانَ ظُلْمُ الْجَارِ أَعْظَمَ ؛ لِلْحَاجَةِ إلَى الْمُجَاوَرَة . وَإِنْ قِيلَ : هَذَا قَدْ لَا يُمْكِنُ زَوْجَ الْمَرْأَةِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْهُ وَالْجَارُ عَلَيْهِ حَقٌّ زَائِدٌ عَلَى حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فَكَيْفَ إذَا ظَلَمَ فِي أَهْلِهِ وَالْجِيرَانُ يَأْمَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَفِي هَذَا مِنْ الظُّلْمِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي غَيْرِهِ وَجَارُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ امْرَأَتَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَيْفَ يُفْسِدُهَا هُوَ . فَلَمَّا كَانَ الزِّنَا بِالْمَرْأَةِ الْمُزَوَّجَةِ لَهُ عِلَّتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا تَسْتَقِلُّ بِالتَّحْرِيمِ مِثْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ الْمَيِّتِ : عَلَّلَ يُوسُفُ ذَلِكَ بِحَقِّ الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مَانِعًا لَهُ وَكَانَ فِي تَعْلِيلِهِ بِحَقِّ الزَّوْجِ فَوَائِدُ . " مِنْهَا " أَنَّ هَذَا مَانِعٌ تَعْرِفُهُ الْمَرْأَةُ وَتَعْذُرُهُ بِهِ بِخِلَافِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا لَا تَعْرِفُ عُقُوبَةَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ . و " مِنْهَا " أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَرْتَدِعُ بِذَلِكَ فَتَرْعَى حَقَّ زَوْجِهَا إمَّا
خَوْفًا وَإِمَّا رِعَايَةً لِحَقِّهِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَمْلُوكُ يَمْتَنِعُ عَنْ هَذَا رِعَايَةً لِحَقِّ سَيِّدِهِ فَالْمَرْأَةُ أَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّهَا خَائِنَةٌ فِي نَفْسِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بِخِلَافِ الْمَمْلُوكِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ الْخِدْمَةُ وَفَاحِشَتُهُ بِمَنْزِلَةِ سَرِقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِهِ . و " مِنْهَا " أَنَّ هَذَا مَانِعٌ مُؤَيِّسٌ لَهَا فَلَا تَطْمَعُ فِيهِ لَا بِنِكَاحِ وَلَا بِسِفَاحِ بِخِلَافِ الْخَلِيَّةِ مِنْ الزَّوْجِ فَإِنَّهَا تَطْمَعُ فِيهِ بِنِكَاحِ حَلَالٍ . و " مِنْهَا " أَنَّهُ لَوْ عَلَّلَ بِالزِّنَا فَقَدْ تَسْعَى هِيَ فِي فِرَاقِ الزَّوْجِ وَالتَّزَوُّجِ بِهِ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَحْرُمُ لِحَقِّ الزَّوْجِ خَاصَّةً وَلِهَذَا إذَا طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ بِاخْتِيَارِهِ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا . وَلَوْ طَلَّقَهَا لِيَتَزَوَّجَ بِهَا - كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إنَّ لِي امْرَأَتَيْنِ فَاخْتَرْ أَيَّتَهمَا شِئْت حَتَّى أُطَلِّقَهَا وَتَتَزَوَّجَهَا - لَكِنَّهُ بِدُونِ رِضَاهُ لَا يَحِلُّ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا وَلَا عَبْدًا عَلَى مَوَالِيهِ } وَقَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَيَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ فَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْخِطْبَةِ وَقَبْلَ الْعَقْدِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ التَّزَوُّجَ بِامْرَأَتِهِ فَكَيْفَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالدُّخُولِ وَالصُّحْبَةِ . فَلَوْ عَلَّلَ بِأَنَّ هَذَا زِنًا مُحَرَّمٌ رُبَّمَا طَمِعَتْ فِي أَنْ تُفَارِقَ الزَّوْجَ وَتَتَزَوَّجَهُ فَإِنَّ كَيْدَهُنَّ عَظِيمٌ ؛ وَقَدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا . فَلَمَّا عَلَّلَ بِحَقِّ
سَيِّدِهِ وَقَالَ : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } يَئِسَتْ مِنْ ذَلِكَ وَعَلِمَتْ أَنَّهُ يُرَاعِي حَقَّ الزَّوْجِ فَلَا يُزَاحِمُهُ فِي امْرَأَتِهِ أَلْبَتَّةَ ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ مَعَ هَذَا أَنَّ الزَّوْجَ رَضِيَ بِالْفَاحِشَةِ وَأَبَاحَ امْرَأَتَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُبِيحُهَا لِحَقِّ اللَّهِ وَلِحَقِّهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ حَقٍّ لِلْإِنْسَانِ لَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ وَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ وَإِنَّمَا ذَاكَ فِيمَا يُبَاحُ لَهُ بَذْلُهُ وَهُوَ مَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي بَذْلِهِ مِثْلَ مَا يُعْطِيهِ مِنْ فَضْلِ مَالٍ وَنَفْعٍ . وَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُ بَذْلُهُ فَلَا يُبَاحُ بِإِبَاحَتِهِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : عَلِّمْنِي السِّحْرَ وَالْكُفْرَ وَالْكِهَانَةَ وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ إضْلَالِي أَوْ قَالَ لَهُ : بِعْنِي رَقِيقًا وَخُذْ ثَمَنِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : افْعَلْ بِي أَوْ بِابْنِي أَوْ بامرأتي أَوْ بِإِمَائِي الْفَاحِشَةَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُسْقِطُ حَقَّهُ فِيهِ بِإِبَاحَتِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَذْلُ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُهَا عَلَى الْفَاحِشَةِ وَإِنْ تَرَاضَيَا بِهَا ؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ظُلْمًا لِهَذَا الشَّخْصِ لَا يَرْتَفِعُ بِإِبَاحَتِهِ كَظُلْمِهِ إذَا جَعَلَهُ كَافِرًا أَوْ رَقِيقًا فَإِنَّ كَوْنَهُ يَفْعَلُ بِهِ الْفَاحِشَةَ أَوْ بِأَهْلِهِ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ إبَاحَتَهُ كَالضَّرَرِ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ كَافِرًا وَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : أَزِلْ عَقْلِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ بَذْلَ ذَلِكَ بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُمْنَعُ السَّفِيهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ أَوْ إسْقَاطِ حُقُوقِهِ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ وَالصَّغِيرُ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِمْ لِحَقِّهِمْ .
وَلِهَذَا لَوْ أَذِنَ لَهُ الصَّبِيُّ أَوْ السَّفِيهُ فِي أَخْذِ مَالِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَمَنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِي تَكْفِيرِهِ أَوْ تَجْنِينِهِ أَوْ تَخْنِيثِهِ وَالْإِفْحَاشِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ فَهُوَ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ وَهَذَا مِثْلُ الرِّبَا فَإِنَّهُ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْمُرَابَى وَهُوَ بَالِغٌ رَشِيدٌ لَمْ يُبَحْ ذَلِكَ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمِهِ ؛ وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا قَبَضَ مِنْهُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَلَا يُعْطِيهِ إلَّا رَأْسَ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَذَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَوْ كَانَ التَّحْرِيمُ لِمُجَرَّدِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَسَقَطَ بِرِضَاهُ وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ إذَا أَسْقَطَهُ سَقَطَ لَمَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الزِّيَادَةِ وَالْإِنْسَانُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ غَيْرِهِ . فَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ : اُقْتُلْنِي لَمْ يَمْلِكْ مِنْهُ أَعْظَمَ مِمَّا يَمْلِكُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ . وَلِهَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَظَلَّمُ مِنْ الْأَكَابِرِ وَهُمْ لَمْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بَلْ بِاخْتِيَارِهِمْ كَفَرُوا . قَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } وَقَالَ : { حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } . وَكَذَلِكَ النَّاسُ يَلْعَنُونَ الشَّيْطَانَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُكْرِهْهُمْ عَلَى الذُّنُوبِ ؛
بَلْ هُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ أَذْنَبُوا . فَإِنْ قِيلَ : هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ : نَحْنُ لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ أَنَّ فِي هَذَا عَلَيْنَا ضَرَرًا وَلَكِنْ أَنْتُمْ زَيَّنْتُمْ لَنَا هَذَا وَحَسَّنْتُمُوهُ حَتَّى فَعَلْنَاهُ وَنَحْنُ كُنَّا جَاهِلِينَ بِالْأَمْرِ . قِيلَ : كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ الْجَاهِلَ بِمَا عَلَيْهِ فِي الْفِعْلِ مِنْ الضَّرَرِ لَا عِبْرَةَ بِرِضَاهُ وَإِذْنِهِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ الرِّضَاءُ وَالْإِذْنُ مِمَّنْ يَعْلَمُ مَا يَأْذَنُ فِيهِ وَيَرْضَى بِهِ وَمَا كَانَ عَلَى الْإِنْسَانِ فِيهِ ضَرَرٌ رَاجِحٌ لَا يَرْضَى بِهِ إلَّا لِعَدَمِ عِلْمِهِ وَإِلَّا فَالنَّفْسُ تَمْتَنِعُ بِذَاتِهَا مِنْ الضَّرَرِ الرَّاجِحِ . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ اشْتَرَى الْمَعِيبَ وَالْمُدَلَّسَ وَالْمَجْهُولَ السِّعْرِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ غَيْرَ رَاضٍ بِهِ ؛ بَلْ لَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ كَذَلِكَ الْكُفْرُ وَالْجُنُونُ وَالْفَاحِشَةُ بِالْأَهْلِ لَا يَرْضَى بِهَا إلَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا فِيهَا مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَذِنَ فِيهَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ ؛ بَلْ يَكُونُ مَظْلُومًا وَلَوْ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ مَا فِيهَا مِنْ الْعِقَابِ وَأَرْضَى بِهِ كَانَ كَذِبًا ؛ بَلْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِمَا يَقُولُهُ . وَلِهَذَا لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ وَقَالَ نَوَيْت مُوجَبَهُ عِنْدَ اللَّهِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : " بِهَشِمِ " وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا أَوْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَيَنْوِي مُوجَبَهَا
مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ النِّيَّةَ وَالْقَصْدَ وَالرِّضَا مَشْرُوطٌ بِالْعِلْمِ فَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ لَا يَرْضَى بِهِ إلَّا إذَا كَانَ رَاضِيًا بِهِ مَعَ الْعِلْمِ وَمَنْ كَانَ يَرْضَى بِأَنْ يَكْفُرَ وَيُجَنَّ وَتُفْعَلَ الْفَاحِشَةُ بِهِ وَبِأَهْلِهِ . فَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ ؛ بَلْ هُوَ سَفِيهٌ . فَلَا عِبْرَةَ بِرِضَاهُ وَإِذْنِهِ ؛ بَلْ لَهُ حَقٌّ عِنْدَ مَنْ ظَلَمَهُ وَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ غَيْرُ مَا لِلَّهِ مِنْ الْحَقِّ . وَإِنْ كَانَ حَقُّ هَذَا دُونَ حَقِّ الْمُنْكِرِ الْمَانِعِ . وَلِهَذَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } يَقُولُ : مَتَى أَفْسَدْت امْرَأَتَهُ كُنْت ظَالِمًا بِكُلِّ حَالٍ وَلَيْسَ هَذَا جَزَاءَ إحْسَانِهِ إلَيَّ . وَالنَّاسُ إذَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ أَبْغَضَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَإِنْ كَانُوا فَعَلُوهُ بِتَرَاضِيهِمْ قَالَ طَاوُوسٌ : مَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ عَلَى غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ إلَّا تَفَرَّقَا عَنْ تَقَالٍ وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } وَهَؤُلَاءِ لَا يَكْفُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ عَصَى اللَّهَ ؛ بَلْ لِمَا حَصَلَ لَهُ بِمُشَارَكَتِهِ وَمُعَاوَنَتِهِ مِنْ الضَّرَرِ وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّتِي أَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ : { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ } أَيْ يَلُومُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا . وَقَالَ : { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ } . فَالْمُخَالَّةُ إذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ مَصْلَحَةِ الِاثْنَيْنِ كَانَتْ عَاقِبَتُهَا عَدَاوَةً وَإِنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَصْلَحَتِهِمَا إذَا كَانَتْ فِي ذَاتِ اللَّهِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا وَإِنْ بَذَلَ لِلْآخَرِ إعَانَةً عَلَى مَا يَطْلُبُهُ وَاسْتَعَانَ بِهِ بِإِذْنِهِ فِيمَا يَطْلُبُهُ فَهَذَا التَّرَاضِي لَا اعْتِبَارَ بِهِ ؛ بَلْ يَعُودُ تَبَاغُضًا وَتَعَادِيًا وَتَلَاعُنًا وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ : لَوْلَا أَنْتَ مَا فَعَلْت أَنَا وَحْدِي هَذَا ؛ فَهَلَاكِي كَانَ مِنِّي وَمِنْك . وَالرَّبُّ لَا يَمْنَعُهُمَا مِنْ التَّبَاغُضِ وَالتَّعَادِي وَالتَّلَاعُنِ فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَالِمًا لِلْآخَرِ فِيهِ لَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ : أَنْتَ لِأَجْلِ غَرَضِك أَوْقَعَتْنِي فِي هَذَا ؛ كَالزَّانِيَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ لِأَجْلِ غَرَضِك فَعَلْت مَعِي هَذَا . وَلَوْ امْتَنَعْت لَمْ أَفْعَلْ أَنَا هَذَا ؛ لَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ مِثْلُ مَا لِلْآخَرِ عَلَيْهِ ؛ فَتَعَادَلَا . وَلِهَذَا إذَا كَانَ الطَّلَبُ وَالْمُرَاوَدَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ كَانَ الْآخَرُ يتظلمه وَيَلْعَنُهُ أَكْثَرَ وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الطَّلَبِ تَقَاوَمَا ؛ فَإِذَا رَضِيَ الزَّوْجُ بِالدِّيَاثَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لِإِرْضَاءِ الرَّجُلِ أَوْ الْمَرْأَةِ لِغَرَضِ لَهُ آخَرَ ؛ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لَهَا ؛ وَلَا تُقِيمُ مَعَهُ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ يَقُولُ لِلزَّانِي بِهَا : أَنْتَ لِغَرَضِك أَفْسَدْت عَلَيَّ امْرَأَتِي وَأَنَا إنَّمَا رَضِيت لِأَجْلِ غَرَضِهَا فَأَنْتَ لَمَّا أَفْسَدْت عَلَيَّ امْرَأَتِي وَظَلَمْتنِي
فَعَلْت
مَعِي مَا فَعَلْت . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : إنِّي أَخَافُ اللَّهَ
أَنْ يُعَاقِبَنِي وَنَحْوَ ذَلِكَ لَقَالَتْ : أَنْتَ إنَّمَا تَتْرُكُ غَرَضِي
لِغَرَضِك فِي النَّجَاةِ وَأَنَا سَيِّدَتُك فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَدِّمَ غَرَضِي
عَلَى غَرَضِك فَلَمَّا قَالَ : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } عَلَّلَ
بِحَقِّ سَيِّدِهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا رِعَايَةُ حَقِّهِ .
فَصْلٌ :
وَفِي قَوْلِ يُوسُفَ : { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا
يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ
وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } عِبْرَتَانِ : " إحْدَاهُمَا "
اخْتِيَارُ السَّجْنِ وَالْبَلَاءِ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي . و "
الثَّانِيَةُ " طَلَبُ سُؤَالِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ أَنْ يُثَبِّتَ الْقَلْبَ
عَلَى دِينِهِ وَيَصْرِفَهُ إلَى طَاعَتِهِ وَإِلَّا فَإِذَا لَمْ يُثَبِّتْ
الْقَلْبَ صَبَا إلَى الْآمِرِينَ بِالذُّنُوبِ وَصَارَ مِنْ الْجَاهِلِينَ .
فَفِي هَذَا تَوَكُّلٌ عَلَى اللَّهِ وَاسْتِعَانَةٌ بِهِ أَنْ يُثَبِّتَ
الْقَلْبَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَفِيهِ صَبْرٌ عَلَى الْمِحْنَةِ
وَالْبَلَاءِ وَالْأَذَى الْحَاصِلِ إذَا ثَبَتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ .
وَهَذَا كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ : { اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ : { سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . وَمِنْهُ قَوْلُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } وَقَوْلِهِ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَوْلِهِ : { بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } . فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْوَى بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ كَمَا فَعَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اتَّقَى اللَّهَ بِالْعِفَّةِ عَنْ الْفَاحِشَةِ وَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُمْ لَهُ بِالْمُرَاوَدَةِ وَالْحَبْسِ وَاسْتَعَانَ اللَّهَ وَدَعَاهُ حَتَّى يُثَبِّتَهُ عَلَى الْعِفَّةِ فَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ وَصَبَرَ عَلَى الْحَبْسِ .
وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } { يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ } { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَذًى لِكُلِّ مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَإِنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْأَذَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ بَلْ اخْتَارَ الْمَعْصِيَةَ كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا فَرَّ مِنْهُ بِكَثِيرِ . { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } . وَمَنْ احْتَمَلَ الْهَوَانَ وَالْأَذَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالْعِزِّ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَمَا فَعَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَانَتْ الْعَاقِبَةُ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَذَى قَدْ انْقَلَبَ نَعِيمًا وَسُرُورًا كَمَا أَنَّ مَا يَحْصُلُ لِأَرْبَابِ الذُّنُوبِ مِنْ التَّنَعُّمِ بِالذُّنُوبِ يَنْقَلِبُ حُزْنًا وَثُبُورًا . فَيُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَافَ اللَّهَ مِنْ الذُّنُوبِ وَلَمْ يَخَفْ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ وَحَبْسِهِمْ إذْ أَطَاعَ اللَّهَ بَلْ آثَرَ الْحَبْسَ وَالْأَذَى مَعَ الطَّاعَةِ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالْعِزِّ وَقَضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَنَيْلِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهُ لَوْ وَافَقَ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ نَالَ الشَّهْوَةَ وَأَكْرَمَتْهُ الْمَرْأَةُ بِالْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ
وَزَوْجُهَا فِي طَاعَتِهَا فَاخْتَارَ يُوسُفُ الذُّلَّ وَالْحَبْسَ وَتَرْكَ الشَّهْوَةِ وَالْخُرُوجَ عَنْ الْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ مَعَ الطَّاعَةِ عَلَى الْعِزِّ وَالرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ . بَلْ قَدَّمَ الْخَوْفَ مِنْ الْخَالِقِ عَلَى الْخَوْفِ مِنْ الْمَخْلُوقِ وَإِنْ آذَاهُ بِالْحَبْسِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّهَا كَذَبَتْ عَلَيْهِ ؛ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ رَاوَدَهَا ثُمَّ حَبَسَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا إنَّهُ هَتَكَ عِرْضِي لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تَقُولَ لَهُ رَاوَدَنِي فَإِنَّ زَوْجَهَا قَدْ عَرَفَ الْقِصَّةَ ؛ بَلْ كَذَبَتْ عَلَيْهِ كِذْبَةً تَرُوجُ عَلَى زَوْجِهَا . وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ هَتَكَ عِرْضَهَا بِإِشَاعَةِ فَعَلَهَا وَكَانَتْ كَاذِبَةً عَلَى يُوسُفَ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهَا شَيْئًا ؛ بَلْ كَذَبَتْ أَوَّلًا وَآخِرًا ؛ كَذَبَتْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ طَلَبَ الْفَاحِشَةَ وَكَذَبَتْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَشَاعَهَا وَهِيَ الَّتِي طَالَبَتْ وَأَشَاعَتْ فَإِنَّهَا قَالَتْ لِلنِّسْوَةِ : فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ . وَلَقَدْ رَاوَدْته عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ . فَهَذَا غَايَةُ الْإِشَاعَةِ لِفَاحِشَتِهَا لَمْ تَسْتُرْ نَفْسَهَا . وَالنِّسَاءُ أَعْظَمُ النَّاسِ إخْبَارًا بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعْنَ قَوْلَهَا قَدْ قُلْنَ فِي الْمَدِينَةِ : { امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ } فَكَيْفَ إذَا اعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ وَطَلَبَتْ رَفْعَ الْمَلَامِ عَنْهَا ؟ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُنَّ أَعَنَّهَا فِي الْمُرَاوَدَةِ وَعَذَلْنَهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ } وَقَوْلُهُ : { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ كَيْدًا مِنْهُنَّ وَقَدْ قَالَ لَهُنَّ الْمَلِكُ : { مَا خَطْبُكُنَّ إذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } فَهُنَّ لَمْ يُرَاوِدْنَهُ لِأَنْفُسِهِنَّ ؛ إذْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُمْكِنٍ وَهُوَ عِنْدَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا وَتَحْتَ حِجْرِهَا ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُنَّ أَعَنَّ الْمَرْأَةَ عَلَى مَطْلُوبِهَا . وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي فِعْلِ الْفَاحِشَةِ فَغَيْرُهَا مِنْ الذُّنُوبِ أَعْظَمُ مِثْلَ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ لِلْخَلْقِ كَقَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ وَمِثْلَ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ وَمِثْلَ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَهَذِهِ أَجْنَاسُ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالِ وَلَا فِي شَرِيعَةٍ وَمَا سِوَاهَا - وَإِنْ حَرُمَ فِي حَالٍ - فَقَدْ يُبَاحُ فِي حَالٍ .
فَصْلٌ
:
وَاخْتِيَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ وَلِأَهْلِهِ
الِاحْتِبَاسَ فِي شِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ بِضْعَ سِنِينَ لَا يُبَايِعُونَ وَلَا
يُشَارُونَ ؛ وَصِبْيَانُهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ قَدْ هَجَرَهُمْ
وَقَلَاهُمْ قَوْمُهُمْ وَغَيْرُ قَوْمِهِمْ . هَذَا أَكْمَلُ مِنْ حَالِ يُوسُفَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَدْعُونَ الرَّسُولَ إلَى
الشِّرْكِ وَأَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ . يَقُولُ : مَا
أَرْسَلَنِي وَلَا نَهَى عَنْ الشِّرْكِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ
كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا
غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا } { وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ
كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } { إذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ
الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } {
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا
لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إلَّا قَلِيلًا } { سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا
قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا } . وَكَانَ كَذِبُ
هَؤُلَاءِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِنْ
الْكَذِبِ عَلَى يُوسُفَ ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إنَّهُ سَاحِرٌ وَإِنَّهُ
كَاهِنٌ وَإِنَّهُ مَجْنُونٌ وَإِنَّهُ
مُفْتَرٍ . وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا وَالْقَذْفِ ؛ لَا سِيَّمَا الزِّنَا الْمَسْتُورُ الَّذِي لَا يَدْرِي بِهِ أَحَدٌ . فَإِنَّ يُوسُفَ كَذَبَ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ زَنَى وَأَنَّهُ قَذَفَهَا وَأَشَاعَ عَنْهَا الْفَاحِشَةَ ؛ فَكَانَ الْكَذِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى يُوسُفَ . وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ عَلَى أُولِي الْعَزْمِ مِثْلَ نُوحٍ وَمُوسَى حَيْثُ يُقَالُ عَنْ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ : إنَّهُ مَجْنُونٌ وَإِنَّهُ كَذَّابٌ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَمَا لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الْحَبْسِ فَإِنَّ يُوسُفَ حُبِسَ وَسُكِتَ عَنْهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ كَانُوا يُؤْذَوْنَ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مَعَ مَنْعِهِمْ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ الْمُعْتَادَةِ . وَهَذَا مَعْنَى الْحَبْسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْحَبْسِ سُكْنَاهُ فِي السِّجْنِ بَلْ الْمُرَادُ مَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ الْمُعْتَادِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسٌ وَلَا لِأَبِي بَكْرٍ ؛ بَلْ أَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَ السِّجْنَ عُمَرُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُسَلِّمُ الْغَرِيمَ إلَى غَرِيمِهِ وَيَقُولُ : مَا فَعَلَ أَسِيرُك } فَيَجْعَلُهُ أَسِيرًا مَعَهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ حَقَّهُ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْحَبْسِ . وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَنَعُوهُمْ مِنْ التَّصَرُّفِ بِمَكَّةَ أَذًى لَهُمْ حَتَّى خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَاخْتَارُوا السُّكْنَى بَيْنَ أُولَئِكَ النَّصَارَى عِنْدَ مَلِكٍ عَادِلٍ عَلَى السُّكْنَى بَيْنَ قَوْمِهِمْ وَالْبَاقُونَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَيْضًا مَعَ مَا آذُوهُمْ بِهِ حَتَّى قَتَلُوا بَعْضَهُمْ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بَعْضَهُمْ وَيَمْنَعُونَ بَعْضَهُمْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَضَعُونَ الصَّخْرَةَ عَلَى بَطْنِ أَحَدِهِمْ فِي رَمْضَاءِ مَكَّةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى . وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَارُ الْأَذَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَلَى الْإِكْرَامِ مَعَ مَعْصِيَتِهِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ اخْتَارَ الْقَيْدَ وَالْحَبْسَ وَالضَّرْبَ عَلَى مُوَافَقَةِ السُّلْطَانِ وَجُنْدِهِ عَلَى أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ فِي كَلَامِهِ وَعَلَى أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ أَيْضًا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ بِكَلَامِ يَعْرِفُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَبِكَلَامِ مُجْمَلٍ يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرٍ ؛ فَيَقُولُ لَهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَد : مَا أَدْرِي مَا هَذَا ؟ فَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ . وَلَا عَلَى أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ كَلَامٍ : (1)
[ يَهِّمُ أَحَدُهُمْ ] (2) بِالذَّنَبِ فَيَذْكُرُ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ
اللَّهِ فَيَدَعُهُ فَكَانَ يُوسُفُ مِمَّنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ
عَنْ الْهَوَى . ثُمَّ إنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ
شَابًّا عَزَبًا أَسِيرًا فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ
أَقَارِبَ أَوْ أَصْدِقَاءً فَيَسْتَحِي مِنْهُمْ إذَا فَعَلَ فَاحِشَةً فَإِنَّ
كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَمْنَعُهُ مِنْ مُوَاقَعَةِ الْقَبَائِحِ حَيَاؤُهُ
مِمَّنْ يَعْرِفُهُ فَإِذَا تَغَرَّبَ فَعَلَ مَا يَشْتَهِيهِ . وَكَانَ أَيْضًا
خَالِيًا لَا يَخَافُ مَخْلُوقًا فَحُكْمُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ - لَوْ كَانَتْ
نَفْسُهُ كَذَلِكَ - أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعْتَرِضَ لَهَا ؛ بَلْ يَكُونُ هُوَ
الْمُتَحَيِّلَ عَلَيْهَا كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَهُ غَرَضٌ
فِي نِسَاءِ الْأَكَابِرِ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً .
فَأَمَّا إذَا دُعِيَ وَلَوْ كَانَتْ الدَّاعِيَةُ خَدَّامَةً لَكَانَ أَسْرَعَ
مُجِيبٍ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الدَّاعِيَةُ سَيِّدَتَهُ الْحَاكِمَةَ عَلَيْهِ
الَّتِي يَخَافُ الضَّرَرَ بِمُخَالَفَتِهَا . ثُمَّ إنَّ زَوْجَهَا الَّذِي
عَادَتُهُ أَنْ يَزْجُرَ الْمَرْأَةَ لَمْ يُعَاقِبْهَا ؛ بَلْ أَمَرَ
يُوسُفَ بِالْإِعْرَاضِ كَمَا يَنْعَرُ الدَّيُّوثُ ثُمَّ إنَّهَا اسْتَعَانَتْ بِالنِّسَاءِ وَحَبَسَتْهُ وَهُوَ يَقُولُ : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } . فَلْيَتَدَبَّرْ اللَّبِيبُ هَذِهِ الدَّوَاعِيَ الَّتِي دَعَتْ يُوسُفَ إلَى مَا دَعَتْهُ وَأَنَّهُ مَعَ تَوَفُّرِهَا وَقُوَّتِهَا لَيْسَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ صَارِفٌ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَلَا مَنْ يُنْجِيهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ؛ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الَّذِي اُبْتُلِيَ بِهِ يُوسُفُ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ وَأَنَّ تَقْوَاهُ وَصَبْرَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ - حَتَّى لَا يَفْعَلَهَا مَعَ ظُلْمِ الظَّالِمِينَ لَهُ حَتَّى لَا يُجِيبَهُمْ - كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ وَأَكْبَرِ الطَّاعَاتِ وَأَنَّ نَفْسَ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَتْ مِنْ أَزْكَى الْأَنْفُسِ فَكَيْفَ أَنْ يَقُولَ : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ نَفْسَهُ بَرِيئَةٌ لَيْسَتْ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ ؛ بَلْ نَفْسٌ زَكِيَّةٌ مِنْ أَعْظَمِ النُّفُوسِ زَكَاءً وَالْهَمُّ الَّذِي وَقَعَ كَانَ زِيَادَةً فِي زَكَاءِ نَفْسِهِ وَتَقْوَاهَا وَبِحُصُولِهِ مَعَ تَرْكِهِ لِلَّهِ لِتَثْبُتَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تُزَكِّي نَفْسَهُ . " الْوَجْهُ السَّادِسُ " أَنَّ قَوْلَهُ : { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } إذَا كَانَ مَعْنَاهُ عَلَى مَا زَعَمُوهُ أَنَّ يُوسُفَ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي امْرَأَتِهِ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ ؛ أَوْ لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ أَوْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَا مَا يُشَارُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ يُوسُفَ كَلَامٌ يُشِيرُ بِهِ إلَيْهِ وَلَا تَقَدَّمَ
أَيْضًا ذِكْرُ عَفَافِهِ وَاعْتِصَامِهِ ؛ فَإِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ النِّسْوَةُ قَوْلُهُنَّ : { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ } وَقَوْلُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ : { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ } وَهَذَا فِيهِ بَيَانُ كَذِبِهَا فِيمَا قَالَتْهُ أَوَّلًا لَيْسَ فِيهِ نَفْسُ فِعْلِهِ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ قَوْلَهُ ( ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ هُنَا قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ لَا يَصِحُّ بِحَالِ . " الْوَجْهُ السَّابِعُ " أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ - لَوْ كَانَ هُنَا مَا يُشَارُ إلَيْهِ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ أَوْ عَمَلِهِ - إنَّ عِفَّتِي عَنْ الْفَاحِشَةِ كَانَ لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ وَيُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ وَرَجَاءً لِثَوَابِهِ ؛ وَلِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ ؛ لَا لِأَجْلِ مُجَرَّدِ عِلْمِ مَخْلُوقٍ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ . وَمَنْ تَرَكَ الْمُحَرَّمَاتِ لِيَعْلَمَ الْمَخْلُوقُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا لِأَجْلِ بُرْهَانٍ مِنْ رَبِّهِ وَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مُخْلَصًا فَهَذَا الَّذِي أَضَافُوهُ إلَى يُوسُفَ إذَا فَعَلَهُ آحَادُ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوَابٌ مِنْ اللَّهِ ؛ بَلْ يَكُونُ ثَوَابُهُ عَلَى مَنْ عَمِلَ لِأَجْلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ يُوسُفُ أَوَّلًا : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } . قِيلَ : إنْ كَانَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ سَيِّدَهُ : فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَحْسَنَ إلَيَّ ؛ وَأَكْرَمَنِي فَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَخُونَهُ فِي أَهْلِهِ فَإِنِّي أَكُونُ ظَالِمًا وَلَا يُفْلِحُ الظَّالِمُ ؛ فَتَرَكَ خِيَانَتَهُ فِي أَهْلِهِ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ لَا لِيَعْلَمَ هُوَ بِذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : مُرَادُهُ تَأْتِي إظْهَارُ بَرَاءَتِي لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ فَالْمُعَلَّلُ إظْهَارُ بَرَاءَتِهِ لَا نَفْسَ عَفَافِهِ . قِيلَ : لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ بِإِظْهَارِ بَرَاءَتِهِ مُجَرَّدَ عِلْمٍ وَاحِدٍ ؛ بَلْ مُرَادُهُ عِلْمُ الْمَلِكِ وَغَيْرِهِ . وَلِهَذَا قَالَ لِلرَّسُولِ : { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ لَقَالَ : ذَلِكَ لِيَعْلَمُوا أَنِّي بَرِيءٌ وَأَنِّي مَظْلُومٌ . ثُمَّ هَذَا لَا يَلِيقُ أَنْ يُذْكَرَ عَنْ يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ وَحَصَلَ مَطْلُوبُهُ فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ . وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ إنَّمَا تَأَخَّرَ لِتَظْهَرَ بَرَاءَتُهُ فَلَا يَحْتَاجُ مِثْلُ هَذَا أَنْ يَنْطِقَ بِهِ .
" الْوَجْهُ الثَّامِنُ " أَنَّ النَّاسَ عَادَتُهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا يُعَرِّفُونَ بِمَا عَمِلُوهُ مَنْ لِذَلِكَ عِنْدَهُ قَدْرٌ وَهَذَا يُنَاسِبُ لَوْ كَانَ الْعَزِيزُ غَيُورًا وَلِلْعِفَّةِ عِنْدَهُ جَزَاءٌ كَثِيرٌ وَالْعَزِيزُ قَدْ ظَهَرَتْ عَنْهُ مِنْ قِلَّةِ الْغَيْرَةِ وَتَمْكِينِ امْرَأَتِهِ مِنْ جِنْسِهِ مَعَ الظَّالِمِينَ مَعَ ظُهُورِ بَرَاءَتِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَنْبَغِي فِي عَادَةِ الطِّبَاعِ أَنْ يُقَابَلَ عَلَى ذَلِكَ بِمُوَاقَعَةِ أَهْلِهِ . فَإِنَّ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ تَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا : هَذَا لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ إحْسَانِي إلَيْهِ وَصَوْنِي لِأَهْلِهِ وَكَفَّ نَفْسِي عَنْ ذَلِكَ ؛ بَلْ سَلَّطَهَا وَمَكَّنَهَا . فَكَثِيرٌ مِنْ النُّفُوسِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهَا الْفَاحِشَةُ إذَا رَأَتْ مَنْ حَالُهُ هَذَا تَفْعَلُ الْفَاحِشَةَ إمَّا نِكَايَةً فِيهِ وَمُجَازَاةً لَهُ عَلَى ظُلْمِهِ وَإِمَّا إهْمَالًا لَهُ لِعَدَمِ غَيْرَتِهِ وَظُهُورِ دِيَاثَتِهِ وَلَا يَصْبِرُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ عَنْ الْفَاحِشَةِ إلَّا مَنْ يَعْمَلُ لِلَّهِ خَائِفًا مِنْهُ وَرَاجِيًا لِثَوَابِهِ لَا مَنْ يُرِيدُ تَعْرِيفَ الْخَلْقِ بِعَمَلِهِ . " الْوَجْهُ التَّاسِعُ " أَنَّ الْخِيَانَةَ ضِدُّ الْأَمَانَةِ وَهُمَا مِنْ جِنْسِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَيُقَالُ الْكَاذِبُ الْخَائِنُ . وَهَذَا حَالُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَذَبَتْ عَلَى يُوسُفَ فِي مَغِيبِهِ وَقَالَتْ رَاوَدَنِي لَكَانَتْ كَاذِبَةً وَخَائِنَةً فَلَمَّا اعْتَرَفَتْ بِأَنَّهَا هِيَ الْمُرَاوِدَةُ كَانَتْ صَادِقَةً فِي هَذَا الْخَبَرِ أَمِينَةً فِيهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ : { وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } فَأَخْبَرَتْ بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي تَبْرِئَتِهِ نَفْسَهُ دُونَهَا .
فَأَمَّا فِعْلُ الْفَاحِشَةِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ وَالْأَمَانَةِ ؛ وَلَكِنْ هُوَ بَابُ الظُّلْمِ وَالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ كَمَا وَصَفَهَا اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ : { مَعَاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } وَلَمْ يَقُلْ هُنَا الْخَائِنِينَ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَلَمْ يَقُلْ لِنَصْرِفَ عَنْهُ الْخِيَانَةَ ؛ فَلْيَتَدَبَّرْ اللَّبِيبُ هَذِهِ الدَّقَائِقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . " الْوَجْهُ الْعَاشِرُ " أَنَّ فِي الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ الَّذِي أَقَرَّهُ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ نَفْسٍ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ ؛ بَلْ مَا رَحِمَ رَبِّي لَيْسَ فِيهِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ النَّفْسَ لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : تَكُونُ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ ثُمَّ تَكُونُ لَوَّامَةً أَيْ تَفْعَلُ الذَّنْبَ ثُمَّ تَلُومُ عَلَيْهِ أَوْ تَتَلَوَّمُ فَتَتَرَدَّدُ بَيْنَ الذَّنْبِ وَالتَّوْبَةِ . ثُمَّ تَصِيرُ مُطَمْئِنَةً . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ مَا رَحِمَ رَبِّي مِنْ النُّفُوسِ لَيْسَتْ بِأَمَّارَةٍ وَإِذَا كَانَتْ النُّفُوسُ مُنْقَسِمَةً إلَى مَرْحُومَةٍ وَأَمَّارَةٍ فَقَدْ عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّ نَفْسَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ مِنْ النُّفُوسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ ؛ لِأَنَّهَا أَمَرَتْ بِذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَرَاوَدَتْ وَافْتَرَتْ وَاسْتَعَانَتْ بِالنِّسْوَةِ وَسَجَنَتْ وَهَذَا مِنْ
أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَمْرِ بِالسُّوءِ . وَأَمَّا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَفْسُهُ مِنْ النُّفُوسِ الْمَرْحُومَةِ عَنْ أَنْ تَكُونَ أَمَّارَةً فَمَا فِي الْأَنْفُسِ مَرْحُومٌ ؛ فَإِنَّ مَنْ تَدَبَّرَ قِصَّةَ يُوسُفَ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي رُحِمَ بِهِ وَصُرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ ؛ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَجَعَلَهُ عِبْرَةً وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ إلَّا وَنَفْسُهُ إذَا اُبْتُلِيَتْ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّوَاعِي أَبْعَدُ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَرْحُومَةً مِنْ نَفْسِ يُوسُفَ . وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ : فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَفْسُ يُوسُفَ مَرْحُومَةً : فَمَا فِي النُّفُوسِ مَرْحُومَةٌ فَإِذًا كَلُّ النُّفُوسِ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي الْقُرْآنِ . وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى الْحِكَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ ؛ أَنَّ أَعْرَابِيَّةً دَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا وَهُمَا فِي الْبَادِيَةِ ؛ فَامْتَنَعَ وَبَكَى وَجَاءَ أَخُوهُ وَهُوَ يَبْكِي فَبَكَى وَبَكَتْ الْمَرْأَةُ وَذَهَبَتْ فَنَامَ فَرَأَى يُوسُفَ فِي مَنَامِهِ وَقَالَ : أَنَا يُوسُفُ الَّذِي هَمَمْت وَأَنْتَ مُسْلِمٌ الَّذِي لَمْ تَهُمَّ فَقَدْ يَظُنُّ مَنْ يَسْمَعُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ أَنَّ حَالَ مُسْلِمٍ كَانَ أَكْمَلَ . وَهَذَا جَهْلٌ لِوَجْهَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ حُكْمِ الْمَرْأَةِ الْمُرَاوِدَةِ وَلَا لَهَا عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا لَهَا عَلَيْهِ قُدْرَةٌ أَنْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ وَتَسْتَعِينَ بِالنِّسْوَةِ
وَتَحْبِسَهُ ، وَزَوْجُهَا لَا يُعِينُهُ وَلَا أَحَدٌ غَيْرُ زَوْجِهَا يُعِينُهُ عَلَى الْعِصْمَةِ ؛ بَلْ مُسْلِمٌ لَمَّا بَكَى ذَهَبَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ وَلَوْ اسْتَعْصَمَتْ لَكَانَ صُرَاخُهُ مِنْهَا أَوْ خَوْفُهَا مِنْ النَّاسِ يَصْرِفُهَا عَنْهُ . وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ . " الثَّانِي " أَنَّ الْهَمَّ مِنْ يُوسُفَ لَمَّا تَرَكَهُ لِلَّهِ كَانَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَلَا نَقْصَ عَلَيْهِ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ { يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ : رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ : إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } وَهَذَا لِمُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ فَكَيْفَ بِالْمُرَاوَدَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالْحَبْسِ ؟ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ مَنْصِبٍ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فَإِنَّ امْرَأَةَ عَزِيزِ مِصْرَ يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ جَمِيلَةً . وَأَمَّا الْبَدَوِيَّةُ الدَّاعِيَةُ لِمُسْلِمِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا دُونَ ذَلِكَ وَرُؤْيَاهُ فِي الْمَنَامِ وَقَوْلُهُ : أَنَا يُوسُفُ الَّذِي هَمَمْت وَأَنْتَ مُسْلِمٌ الَّذِي لَمْ تَهُمَّ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَهُ يُوسُفُ فِي الْيَقَظَةِ وَإِذَا قَالَ هَذَا : كَانَ هَذَا خَيْرًا لَهُ وَمَدْحًا وَثَنَاءً وَتَوَاضُعًا مِنْ يُوسُفَ وَإِذَا تَوَاضَعَ الْكَبِيرُ مَعَ مَنْ دُونَهُ لَمْ تَسْقُطْ مَنْزِلَتُهُ . " الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ " أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ - مَعَ الِاعْتِرَافِ
بِالذَّنْبِ - الِاعْتِذَارُ بِذِكْرِ سَبَبِهِ فَإِنَّ قَوْلَهَا : { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } فِيهِ اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ وَقَوْلُهَا : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } إشَارَةُ تَطَابُقٍ لِقَوْلِهَا : { أَنَا رَاوَدْتُهُ } أَيْ أَنَا مُقِرَّةٌ بِالذَّنْبِ مَا أَنَا مُبَرِّئَةٌ لِنَفْسِي . ثُمَّ بَيَّنَتْ السَّبَبَ فَقَالَتْ : { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } . فَنَفْسِي مِنْ هَذَا الْبَابِ فَلَا يُنْكَرُ صُدُورُ هَذَا مِنِّي . ثُمَّ ذَكَرَتْ مَا يَقْتَضِي طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَقَالَتْ : { إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا كَلَامُ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّ الزِّنَا ذَنْبٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَغْفِرُ لِصَاحِبِهِ . قُلْت : نَعَمْ . وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ زَوْجُهَا : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ } فَأَمْرُهُ لَهَا بِالِاسْتِغْفَارِ لِذَنْبِهَا دَلِيلٌ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ ذَنْبًا وَيَسْتَغْفِرُونَ مِنْهُ وَإِنْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُشْرِكِينَ فَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ مُشْرِكِينَ وَهُمْ يُحَرِّمُونَ الْفَوَاحِشَ وَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنْهَا حَتَّى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَ هِنْدَ بِنْتَ عتبة بْنِ رَبِيعَةَ بَيْعَةَ النِّسَاءِ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقَ وَلَا تَزْنِيَ . قَالَتْ : أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ ؟ } وَكَانَ الزِّنَا مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ فِي الْإِمَاءِ . وَلِهَذَا غَلَبَ عَلَى لُغَتِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْحُرِّيَّةَ فِي مُقَابَلَةِ الرِّقِّ وَأَصْلُ
اللَّفْظِ هُوَ الْعِفَّةُ وَلَكِنَّ الْعِفَّةَ عَادَةَ مَنْ لَيْسَتْ أَمَةً ؛ بَلْ قَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ العطاردي أَنَّهُ رَأَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدًا يَزْنِي بِقِرْدَةِ فَاجْتَمَعَتْ الْقُرُودُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَمَتْهُ . وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الشُّيُوخِ الصَّادِقِينَ أَنَّهُ رَأَى فِي جَامِعٍ نَوْعًا مِنْ الطَّيْرِ قَدْ بَاضَ فَأَخَذَ النَّاسُ بَيْضَةً وَجَاءَ بِبَيْضِ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ الطَّيْرِ فَلَمَّا انْفَقَسَ الْبَيْضُ خَرَجَتْ الْفِرَاخُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ فَجَعَلَ الذَّكَرُ يَطْلُبُ جِنْسَهُ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْهُنَّ عَدَدٌ فَمَا زَالُوا بِالْأُنْثَى حَتَّى قَتَلُوهَا وَمِثْلُ هَذَا مَعْرُوفٌ فِي عَادَةِ الْبَهَائِمِ . وَالْفَوَاحِشُ مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى اسْتِقْبَاحِهَا وَكَرَاهَتِهَا وَأُولَئِكَ الْقَوْمُ كَانُوا يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ مَعَ شِرْكِهِمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ يُوسُفُ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . " الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ " أَنْ يُقَالَ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ تَوْبَتَهُ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ : إمَّا أَنْ يَقُولُوا بِالْعِصْمَةِ مِنْ فِعْلِهَا وَإِمَّا
أَنْ يَقُولُوا بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَيْهَا ؛ لَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْصُومٌ أَنْ يُقِرَّ فِيهِ عَلَى خَطَأٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الرِّسَالَةِ وَمَدْلُولَ الْمُعْجِزَةِ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَسْطِ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ فِي كِتَابِهِ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ تَوْبَتَهُ مِنْهُ كَمَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَمُوسَى ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . وَبِهَذَا يُجِيبُ مَنْ يَنْصُرُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى مَنْ يَنْفِي الذُّنُوبَ مُطْلَقًا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَنْ أَعْظَمِ حُجَجِهِمْ مَا اعْتَمَدَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ حَيْثُ قَالُوا : نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالتَّأَسِّي بِهِمْ فِي الْأَفْعَالِ وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي التَّأَسِّي ؛ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ التَّأَسِّي إنَّمَا هُوَ فِيمَا أُقِرُّوا عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ النَّسْخَ جَائِزٌ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَيْسَ تَجْوِيزُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الطَّاعَةِ لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَجِبُ فِيمَا لَمْ يُنْسَخْ فَعَدَمُ النَّسْخِ يُقَرِّرُ الْحُكْمَ وَعَدَمُ الْإِنْكَارِ يُقَرِّرُ الْفِعْلَ وَالْأَصْلُ عَدَمُ كُلٍّ مِنْهُمَا . و يُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ فَعَلَ مَعَ الْمَرْأَةِ مَا يَتُوبُ عَنْهُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ أَصْلًا . وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَقَعْ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَذْكُرُ أَنَّهُ وَقَعَ
مِنْهُ بَعْضُ مُقَدِّمَاتِهَا مِثْلَ مَا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ حَلَّ السَّرَاوِيلَ وَقَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الْخَاتِنِ وَنَحْوَ هَذَا وَمَا يَنْقُلُونَهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ فِيهِ إلَّا النَّقْلُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ عُرِفَ كَلَامُ الْيَهُودِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَغَضُّهُمْ مِنْهُمْ كَمَا قَالُوا فِي سُلَيْمَانَ مَا قَالُوا وَفِي دَاوُد مَا قَالُوا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا مَا يَرُدُّ نَقْلَهُمْ لَمْ نُصَدِّقْهُمْ فِيمَا لَمْ نَعْلَمْ صِدْقَهُمْ فِيهِ فَكَيْفَ نُصَدِّقُهُمْ فِيمَا قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى خِلَافِهِ . وَالْقُرْآنُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ يُوسُفَ مِنْ الِاسْتِعْصَامِ وَالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مَا لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ نَظِيرُهُ فَلَوْ كَانَ يُوسُفُ قَدْ أَذْنَبَ لَكَانَ إمَّا مُصِرًّا وَإِمَّا تَائِبًا وَالْإِصْرَارُ مُمْتَنِعٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ تَائِبًا . وَاَللَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ تَوْبَةً فِي هَذَا وَلَا اسْتِغْفَارًا كَمَا ذَكَرَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ كَانَ مِنْ الْحَسَنَاتِ الْمَبْرُورَةِ وَالْمَسَاعِي الْمَشْكُورَةِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي يُوسُفَ كَذَلِكَ ؛ كَانَ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ : { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } إنَّمَا يُنَاسِبُ حَالَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لَا يُنَاسِبُ حَالَ يُوسُفَ فَإِضَافَةُ الذُّنُوبِ إلَى يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِرْيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ وَالرَّسُولِ وَفِيهِ تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَفِيهِ
الِاغْتِيَابُ لِنَبِيِّ كَرِيمٍ وَقَوْلُ الْبَاطِلِ فِيهِ بِلَا دَلِيلٍ وَنِسْبَتُهُ إلَى مَا نَزَّهَهُ اللَّهُ مِنْهُ وَغَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذَا مِنْ الْيَهُودِ أَهْلِ البهت الَّذِينَ كَانُوا يَرْمُونَ مُوسَى بِمَا بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ؟ وَقَدْ تَلَقَّى نَقْلَهُمْ مَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ وَجَعَلَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ تَابِعًا لِهَذَا الِاعْتِقَادِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنْحَرِفِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِصْمَةِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ كِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ : قَوْمٌ أَفْرَطُوا فِي دَعْوَى امْتِنَاعِ الذُّنُوبِ حَتَّى حَرَّفُوا نُصُوصَ الْقُرْآنِ الْمُخْبِرَةَ بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ التَّوْبَةِ مِنْ الذُّنُوبِ وَمَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُمْ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ بِذَلِكَ . وَقَوْمٌ أَفْرَطُوا فِي أَنْ ذَكَرُوا عَنْهُمْ مَا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى بَرَاءَتِهِمْ مِنْهُ وَأَضَافُوا إلَيْهِمْ ذُنُوبًا وَعُيُوبًا نَزَّهَهُمْ اللَّهُ عَنْهَا . وَهَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِلْقُرْآنِ وَهَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِلْقُرْآنِ وَمَنْ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ كَانَ مِنْ الْأُمَّةِ الْوَسَطِ مُهْتَدِيًا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى
قَالَ : فَمَنْ ؟ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ : { لَتَأْخُذَنَّ أُمَّتِي مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسٌ وَالرُّومُ ؟ قَالَ : وَمَنْ النَّاسُ إلَّا هَؤُلَاءِ ؟ } وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ صَارَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ فَارِسٍ وَالرُّومِ مَا أَدْخَلُوهُ فِي عِلْمِ الْمُسْلِمِينَ وَدِينِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ كَمَا دَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ واليونان وَغَيْرِهِمْ وَالْمَجُوسِ وَالْفُرْسِ وَالصَّابِئِينَ مِنْ اليونان وَغَيْرِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا سِيَّمَا فِي جِنْسِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ . وَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي طَائِفَةٍ هُمْ أَمْثَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ إذْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا خَيْرًا مِنْ غَيْرِهِمْ . وَلَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ كَانَتْ الشَّامُ وَمِصْرُ وَنَحْوُهُمَا مَمْلُوءَةً مِنْ أَهْل الْكِتَابِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ فَكَانُوا يُحَدِّثُونَهُمْ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا بَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ ؛ فَكَانَ مِنْ أَكْثَرِهِمْ حَدِيثًا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعْبُ الْأَحْبَارِ . وَقَدْ قَالَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا رَأَيْنَا فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَصْدَقَ مِنْ كَعْبٍ وَإِنْ كُنَّا لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ أَحْيَانًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَامَّةَ مَا عِنْدَ كَعْبٍ أَنْ يَنْقُلَ مَا وَجَدَهُ فِي كُتُبِهِمْ وَلَوْ
نَقَلَ نَاقِلٌ مَا وَجَدَهُ فِي الْكُتُبِ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ فِيهِ كَذِبٌ كَثِيرٌ فَكَيْفَ بِمَا فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ وَتَبْدِيلِ الدِّينِ وَتَفَرُّقِ أَهْلِهِ وَكَثْرَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ فِيهِ . وَهَذَا بَابٌ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِهِ وَيَنْظُرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا جَاءَ بِهِ وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ . فَإِنَّ هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ . وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ - كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ - أُصُولُ السُّنَّةِ هِيَ التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الْبَابَ وَجَدَ كَثِيرًا مِنْ الْبِدَعِ أُحْدِثَتْ بِآثَارِ أَصْلُهَا عَنْهُمْ مِثْلَ مَا يُرْوَى فِي فَضَائِلِ بِقَاعٍ فِي الشَّامِ مِنْ الْجِبَالِ وَالْغَيْرَانِ وَمَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . مِثْلَ مَا يُذْكَرُ فِي جَبَلِ قاسيون وَمَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي فِيهِ وَمَا فِي إتْيَانِ ذَلِكَ مِنْ الْفَضِيلَةِ حَتَّى إنَّ بَعْضَ الْمُفْتَرِينَ مِنْ الشُّيُوخِ جَعَلَ زِيَارَةَ مَغَارَةٍ فِيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَعْدِلُ حَجَّةً وَيُسَمُّونَهَا مَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ . وَالْآثَارُ الَّتِي تُرْوَى فِي ذَلِكَ لَا تَصِلُ إلَى الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا هِيَ عَمَّنْ
دُونَهُمْ مِمَّنْ أَخَذَهَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ لِهَذَا أَصْلٌ لَكَانَ هَذَا عِنْدَ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ قَدِمُوا الشَّامَ مِثْلَ بِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وعبادة بْنِ الصَّامِتِ ؛ بَلْ وَمِثْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَمِينِ الْأُمَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ . فَقَدْ دَخَلَ الشَّامَ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ أَفْضَلِ مِمَّنْ دَخَلَ بَقِيَّةَ الْأَمْصَارِ غَيْرِ الْحِجَازِ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ اتِّبَاعُ شَيْءٍ مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ لَا مَقَابِرُهُمْ وَلَا مَقَامَاتُهُمْ فَلَمْ يَتَّخِذُوهَا مَسَاجِدَ وَلَا كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ الصَّلَاةَ فِيهَا وَالدُّعَاءَ عِنْدَهَا ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى قَوْمًا يَنْتَابُونَ مَكَانًا يُصَلُّونَ فِيهِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : وَمَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ ؟ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا . مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِيهِ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ . وَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ وَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ مُصَلًّى لِلْمُسْلِمَيْنِ : قَالَ لِكَعْبِ ؟ أَيْنَ أَبْنِيهِ ؟ قَالَ ابْنِهِ خَلْفَ الصَّخْرَةِ . قَالَ : خَالَطَتْك يَهُودِيَّةٌ يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ ؛ بَلْ أَبْنِيهِ أَمَامَهَا وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ صَلَّى فِي قَبَلَيْهِ وَلَمْ يَذْهَبْ إلَى الصَّخْرَةِ . وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ مَا يَنْقُلُهُ كَعْبٌ : أَنَّ اللَّهَ قَالَ لَهَا : أَنْتَ عَرْشِي الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ : مَنْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَيْفَ تَكُونُ
الصَّخْرَةُ عَرْشَهُ الْأَدْنَى وَلَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ يُعَظِّمُونَهَا وَقَالُوا : إنَّمَا بَنَى الْقُبَّةَ عَلَيْهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لَمَّا كَانَ مُحَارِبًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ وَكَانَ النَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ فَيَجْتَمِعُونَ بِهِ عَظَّمَ الصَّخْرَةَ ؛ لِيَشْتَغِلُوا بِزِيَارَتِهَا عَنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَإِلَّا فَلَا مُوجِبَ فِي شَرِيعَتِنَا لِتَعْظِيمِ الصَّخْرَةِ وَبِنَاءِ الْقُبَّةِ عَلَيْهَا وَسَتْرِهَا بِالْأَنْطَاعِ وَالْجُوخِ . وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ شَرِيعَتِنَا : لَكَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَمُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَحَقَّ بِذَلِكَ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمُ بِسُنَّتِهِ وَأَتْبَعُ لَهَا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ . وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ لَمْ يَكُونُوا يَنْتَابُونَ قَبْرَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ بَلْ وَلَا فَتَحُوهُ ؛ بَلْ وَلَا بَنَوْا عَلَى قَبْرِ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَسْجِدًا ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَلَمَّا ظَهَرَ قَبْرُ دَانْيَالَ بتستر كَتَبَ فِيهِ أَبُو مُوسَى إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ إذَا كَانَ بِالنَّهَارِ فَاحْفِرْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا ثُمَّ ادْفِنْهُ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَعَفِّرْ قَبْرَهُ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهِ النَّاسُ وَقَدْ تَأَمَّلْت الْآثَارَ الَّتِي تُرْوَى فِي قَصْدِ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ وَالدُّعَاءِ
عِنْدَهَا أَوْ الصَّلَاةِ فَلَمْ أَجِدْ لَهَا عَنْ الصَّحَابَةِ أَصْلًا بَلْ أَصْلُهَا عَمَّنْ أَخَذَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . فَمِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُمَيِّزَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَلَا تَخْلِطَهُ بِغَيْرِهِ وَلَا تَلْبِسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ كَفِعْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ . فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ وَرَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ } وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ السُّبُلُ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } } . وَجِمَاعُ ذَلِكَ بِحِفْظِ أَصْلَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " تَحْقِيقُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُخْلَطُ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ الضَّعِيفَةِ وَالتَّفْسِيرَاتِ الْبَاطِلَةِ بَلْ يُعْطَى حَقَّهُ مِنْ مَعْرِفَةِ نَقْلِهِ وَدَلَالَتِهِ .
و " الثَّانِي " أَنْ لَا يُعَارِضَ ذَلِكَ بِالشُّبُهَاتِ لَا رَأْيًا وَلَا رِوَايَةً . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَهُوَ عِبْرَةٌ لَنَا : { وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فَلَا يُكْتَمُ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُلْبَسُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْبَاطِلِ وَلَا يُعَارَضُ بِغَيْرِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ . } وَهَؤُلَاءِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ هُمْ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ . فَإِنَّ أَحَدَهُمْ إذَا أَتَى بِمَا يُخَالِفُهُ إمَّا أَنْ يَقُولَ : إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ عَلَيَّ فَيَكُونُ قَدْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ أَوْ يَقُولَ : أُوحِيَ إلَيْهِ وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ أَوْحَاهُ أَوْ يَقُولَ : أَنَا أَنْشَأْته وَأَنَا أُنْزِلَ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَإِمَّا أَنْ يُضِيفَهُ إلَى اللَّهِ أَوْ إلَى نَفْسِهِ أَوْ لَا يُضِيفَهُ إلَى أَحَدٍ . وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ هُمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِينَ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
سُئِلَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } ؟ وَهَلْ الدَّعْوَةُ عَامَّةٌ تَتَعَيَّنُ
فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الْأَمْرُ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ أَمْ
لَا وَإِذَا كَانَا دَاخِلَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُونَا فَهَلْ هُمَا مِنْ
الْوَاجِبَاتِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ
أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَا وَاجِبَيْنِ فَهَلْ يَجِبَانِ مُطْلَقًا مَعَ وُجُودِ
الْمَشَقَّةِ بِسَبَبِهِمَا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ لِلْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الْجَانِي عَلَيْهِ إذَا آذَاهُ
فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى طَمَعٍ مِنْهُ فِي جَانِبِ الْحَقِّ أَمْ لَا
؟ وَإِذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَهَلْ تَرْكُهُ أَوْلَى مُطْلَقًا أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ هِيَ
الدَّعْوَةُ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ بِتَصْدِيقِهِمْ
فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَطَاعَتِهِمْ فِيمَا أَمَرُوا وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ
الدَّعْوَةَ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ
وَصَوْمَ رَمَضَانَ وَحَجَّ الْبَيْتِ وَالدَّعْوَةَ إلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ،
وَالْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَالدَّعْوَةَ إلَى أَنْ يَعْبُدَ الْعَبْدُ رَبَّهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ . فَإِنَّ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثَ الَّتِي هِيَ " الْإِسْلَامُ " و " الْإِيمَانُ " و " الْإِحْسَانُ " دَاخِلَةٌ فِي الدِّينِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } بَعْدَ أَنْ أَجَابَهُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ . فَبَيَّنَ أَنَّهَا كُلَّهَا مِنْ دِينِنَا . و " الدِّينُ " مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ يُقَالُ دَانَ فُلَانٌ فُلَانًا إذَا عَبَدَهُ وَأَطَاعَهُ كَمَا يُقَالُ دَانَهُ إذَا أَذَلَّهُ . فَالْعَبْدُ يَدِينُ اللَّهَ أَيْ يَعْبُدُهُ وَيُطِيعُهُ فَإِذَا أُضِيفَ الدِّينُ إلَى الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ الْعَابِدُ الْمُطِيعُ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى اللَّهِ فَلِأَنَّهُ الْمَعْبُودُ الْمُطَاعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } . فَالدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ تَكُونُ بِدَعْوَةِ الْعَبْدِ إلَى دِينِهِ وَأَصْلُ ذَلِكَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِذَلِكَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ . قَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ ؛ الْأَنْبِيَاءُ إخْوَةٌ لِعِلَّاتِ وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ لَأَنَا إنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ } فَالدِّينُ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ وَمَنَاهِجُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } . فَالرُّسُلُ مُتَّفِقُونَ فِي الدِّينِ الْجَامِعِ لِلْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ فالاعتقادية كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِيَّةُ كَالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَسُورَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } إلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ . وَقَوْلِهِ : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } إلَى آخِرِ الْوَصَايَا . وَقَوْلِهِ : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَقَوْلِهِ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } .
فَهَذِهِ الْأُمُورُ هِيَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ كَعَامَّةِ مَا فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ فَإِنَّ السُّوَرَ الْمَكِّيَّةَ تَضَمَّنَتْ الْأُصُولَ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا رُسُلُ اللَّهِ ؛ إذْ كَانَ الْخِطَابُ فِيهَا يَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ لِمَنْ لَا يُقِرُّ بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ وَأَمَّا السُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فَفِيهَا الْخِطَابُ لِمَنْ يُقِرُّ بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِبَعْضِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ وَكَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِكُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ؛ وَلِهَذَا قَرَّرَ فِيهَا الشَّرَائِعَ الَّتِي أَكْمَلَ اللَّهُ بِهَا الدِّينَ : كَالْقِبْلَةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْجِهَادِ وَأَحْكَامِ المناكح وَنَحْوِهَا ؛ وَأَحْكَامِ الْأَمْوَالِ بِالْعَدْلِ كَالْبَيْعِ وَالْإِحْسَانِ كَالصَّدَقَةِ وَالظُّلْمِ كَالرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ تَمَامِ الدِّينِ . وَلِهَذَا كَانَ الْخِطَابُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } لِعُمُومِ الدَّعْوَةِ إلَى الْأُصُولِ ؛ إذْ لَا يُدْعَى إلَى الْفَرْعِ مَنْ لَا يُقِرُّ بِالْأَصْلِ فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ وَعَزَّ بِهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ وَكَانَ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ خُوطِبَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ؛ فَهَؤُلَاءِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } وَهَؤُلَاءِ { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ } أَوْ { يَا بَنِي إسْرَائِيلَ } وَلَمْ يَنْزِلْ بِمَكَّةَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا ؛ وَلَكِنْ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ خِطَابُ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } كَمَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَسُورَةِ الْحَجِّ وَهُمَا مَدَنِيَّتَانِ وَكَذَا فِي الْبَقَرَةِ . وَهَذَا يُعَكِّرُ عَلَى قَوْلِ الْحَبْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ يَشْمَلُ جِنْسَ النَّاسِ وَالدَّعْوَةُ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ لَا تُنَافِي الدَّعْوَةَ بِالِاسْمِ الْعَامِّ
فَالْمُؤْمِنُونَ دَاخِلُونَ فِي الْخِطَابِ بـ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } وَفِي الْخِطَابِ بـ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فَالدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ تَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالنَّهْيَ عَنْ كُلِّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ . وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ الْخَلْقَ بِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ كُلِّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ؛ أَمَرَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ . قَالَ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } . وَدَعْوَتُهُ إلَى اللَّهِ هِيَ بِإِذْنِهِ لَمْ يَشْرَعْ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } { وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } خِلَافَ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ فِي قَوْلِهِ : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } .
وَمِمَّا يُبَيِّنُ مَا ذَكَرْنَاهُ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ تَارَةً وَتَارَةً بِالدَّعْوَةِ إلَى سَبِيلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الدَّاعِيَ الَّذِي يَدْعُو غَيْرَهُ إلَى أَمْرٍ لَا بُدَّ فِيمَا يَدْعُو إلَيْهِ مِنْ أَمْرَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " الْمَقْصُودُ الْمُرَادُ . و " الثَّانِي " الْوَسِيلَةُ وَالطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إلَى الْمَقْصُودِ ؛ فَلِهَذَا يَذْكُرُ الدَّعْوَةَ تَارَةً إلَى اللَّهِ وَتَارَةً إلَى سَبِيلِهِ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ الْمُرَادُ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَةِ . وَالْعِبَادَةُ : اسْمٌ يَجْمَعُ غَايَةَ الْحُبِّ لَهُ وَغَايَةَ الذُّلِّ لَهُ فَمَنْ ذَلَّ لِغَيْرِهِ مَعَ بُغْضِهِ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا وَمَنْ أَحَبَّهُ مِنْ غَيْرِ ذُلٍّ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ غَايَةَ الْمَحَبَّةِ ؛ بَلْ يَكُونُ هُوَ الْمَحْبُوبَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَا يُحَبُّ شَيْءٌ إلَّا لَهُ وَأَنْ يُعَظَّمَ وَيُذَلَّ لَهُ غَايَةَ الذُّلِّ ؛ بَلْ لَا يُذَلُّ لِشَيْءِ إلَّا مِنْ أَجْلِهِ وَمَنْ أَشْرَكَ غَيْرَهُ فِي هَذَا وَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ حَقِيقَةُ الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ فَإِنَّ الشِّرْكَ يُوجِبُ نَقْصَ الْمَحَبَّةِ . قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } أَيْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ هَؤُلَاءِ
لِأَنْدَادِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } وَكَذَلِكَ الِاسْتِكْبَارُ يَمْنَعُ حَقِيقَةَ الذُّلِّ لِلَّهِ ؛ بَلْ يَمْنَعُ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ فَإِنَّ الْحُبَّ التَّامَّ يُوجِبُ الذُّلَّ وَالطَّاعَةَ فَإِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعٌ . وَلِهَذَا كَانَ الْحُبُّ دَرَجَاتٍ أَعْلَاهَا " التتيم " وَهُوَ التَّعَبُّدُ وَتَيْمُ اللَّهِ أَيْ عَبْدُ اللَّهِ ؛ فَالْقَلْبُ الْمُتَيَّمُ هُوَ الْمُعَبِّدُ لِمَحْبُوبِهِ وَهَذَا لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ . وَالْإِسْلَامُ أَنْ يَسْتَسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ فَهُوَ مُسْتَكْبِرٌ وَكِلَاهُمَا ضِدُّ الْإِسْلَامِ . وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النَّصَارَى وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ الضُّلَّالِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْأُمَّةِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ . وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ الْأُلُوهِيَّةِ لِلَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَامْتِنَاعِ الشِّرْكِ وَفَسَادِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِتَقْدِيرِ إلَهٍ غَيْرِهِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الشِّرْكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَبَيَانِ أَنَّ الْعِبَادَ فُطِرُوا عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَأَنَّ الْقُلُوبَ لَا تَصْلُحُ إلَّا بِأَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا
كَمَالَ لَهَا وَلَا صَلَاحَ وَلَا لَذَّةَ وَلَا سُرُورَ وَلَا فَرَحَ وَلَا سَعَادَةَ بِدُونِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي فِي تَحْقِيقِهِ تَحْقِيقُ مَقْصُودِ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ لُبُّ الْقُرْآنِ وَزُبْدَتُهُ وَبَيَانِ التَّوْحِيدِ الْعِلْمِيِّ الْقَوْلِيِّ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } وَالتَّوْحِيدِ الْقَصْدِي الْعَمَلِيِّ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا بَيَانٌ لِأَصْلِ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ وَحَقِيقَتِهَا وَمَقْصُودِهَا . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْجَوَابِ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ ؛ إذْ لَا يَتَّسِعُ الْجَوَابُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَكُلُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ مِنْ بَاطِنٍ وَظَاهِرٍ فَمِنْ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ الْأَمْرُ بِهِ وَكُلُّ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ بَاطِنٍ وَظَاهِرٍ ؛ فَمِنْ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ النَّهْيُ عَنْهُ لَا تَتِمُّ الدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ إلَّا بِالدَّعْوَةِ إلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَيَتْرُكَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَقْوَالِ أَوْ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ أَوْ الظَّاهِرَةِ كَالتَّصْدِيقِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالْمَعَادِ وَتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ وَأَعْدَائِهِمْ ؛ وَكَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْنَا مِمَّا سِوَاهُمَا وَكَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءِ لِرَحْمَتِهِ ،
وَخَشْيَةِ عَذَابِهِ وَالصَّبْرِ لِحُكْمِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ وَكَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَكَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ . إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ : فَالدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُ وَهُمْ أُمَّتُهُ يَدْعُونَ إلَى اللَّهِ كَمَا دَعَا إلَى اللَّهِ . وَكَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَمْرَهُمْ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهْيَهُمْ عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ وَإِخْبَارَهُمْ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ ؛ إذْ الدَّعْوَةُ تَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَالنَّهْيَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ . وَقَدْ وَصَفَ أُمَّتَهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } الْآيَةُ وَهَذَا الْوَاجِبُ وَاجِبٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ فَرْضَ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ فَالْأُمَّةُ كُلُّهَا مُخَاطَبَةٌ بِفِعْلِ ذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ إذَا قَامَتْ بِهِ طَائِفَةٌ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ . قَالَ تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . فَمَجْمُوعُ أُمَّتِهِ تَقُومُ مَقَامَهُ فِي الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ إجْمَاعُهُمْ
حُجَّةً قَاطِعَةً فَأُمَّتُهُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ مِنْ الدَّعْوَةِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ فَمَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ سَقَطَ عَنْهُ وَمَا عَجَزَ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ . وَأَمَّا مَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يَقُومَ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَى هَذَا وَقَدْ تَقَسَّطَتْ الدَّعْوَةُ عَلَى الْأُمَّةِ بِحَسَبِ ذَلِكَ تَارَةً وَبِحَسَبِ غَيْرِهِ أُخْرَى ؛ فَقَدْ يَدْعُو هَذَا إلَى اعْتِقَادِ الْوَاجِبِ وَهَذَا إلَى عَمَلٍ ظَاهِرٍ وَاجِبٍ وَهَذَا إلَى عَمَلٍ بَاطِنٍ وَاجِبٍ ؛ فَتَنَوُّعُ الدَّعْوَةِ يَكُونُ فِي الْوُجُوبِ تَارَةً وَفِي الْوُقُوعِ أُخْرَى . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الدَّعْوَةَ إلَى اللَّهِ تَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ؛ لَكِنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الْمُعَيَّنِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ وَهَذَا شَأْنُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَبْلِيغِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَعْلِيمِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَةَ نَفْسَهَا أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ الدَّاعِيَ طَالِبٌ مُسْتَدْعٍ مُقْتَضٍ لِمَا دُعِيَ إلَيْهِ وَذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ بِهِ ؛ إذْ الْأَمْرُ هُوَ طَلَبٌ لِلْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاسْتِدْعَاءٌ لَهُ وَدُعَاءٌ إلَيْهِ فَالدُّعَاءُ
إلَى
اللَّهِ الدُّعَاءُ إلَى سَبِيلِهِ فَهُوَ أَمْرٌ بِسَبِيلِهِ وَسَبِيلُهُ
تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ . وَقَدْ تَبَيَّنَ
أَنَّهُمَا وَاجِبَانِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وُجُوبَ
فَرْضِ الْكِفَايَةِ لَا وُجُوبَ فَرْضِ الْأَعْيَانِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
بَلْ كَوُجُوبِ الْجِهَادِ .
وَالْقِيَامُ بِالْوَاجِبَاتِ : مِنْ الدَّعْوَةِ الْوَاجِبَةِ وَغَيْرِهَا
يَحْتَاجُ إلَى شُرُوطٍ يُقَامُ بِهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { يَنْبَغِي
لِمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا
فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ فَقِيهًا فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ رَفِيقًا فِيمَا يَأْمُرُ
بِهِ رَفِيقًا فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ حَلِيمًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ حَلِيمًا
فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ } فَالْفِقْهُ قَبْلَ الْأَمْرِ لِيُعَرِّفَ الْمَعْرُوفَ
وَيُنْكِرَ الْمُنْكَرَ وَالرِّفْقُ عِنْدَ الْأَمْرِ لِيَسْلُكَ أَقْرَبَ
الطُّرُقِ إلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَالْحِلْمُ بَعْدَ الْأَمْرِ لِيَصْبِرَ
عَلَى أَذَى الْمَأْمُورِ الْمَنْهِيِّ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَحْصُلُ لَهُ
الْأَذَى بِذَلِكَ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ
وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } وَقَدْ أَمَرَ
نَبِيَّنَا بِالصَّبْرِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ
الْمُدَّثِّرِ : { قُمْ فَأَنْذِرْ } { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } { وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ } { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } {
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } وَقَالَ : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ }
وَقَالَ
تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا
وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } وَقَالَ : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } . وَقَدْ جَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ التَّقْوَى
وَالصَّبْرِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } . وَالْمُؤْمِنُونَ كَانُوا
يَدْعُونَ إلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْمُنْكَرِ فَيُؤْذِيهِمْ
الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ . وَقَدْ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ
وُقُوعِهِ وَقَالَ لَهُمْ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ
عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَدْ قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَا يُوسُفُ
وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ
فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . فَالتَّقْوَى تَتَضَمَّنُ
طَاعَةَ اللَّهِ وَمِنْهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ
وَالصَّبْرُ يَتَنَاوَلُ الصَّبْرَ عَلَى الْمَصَائِبِ الَّتِي مِنْهَا أَذَى
الْمَأْمُورِ الْمَنْهِيِّ لِلْآمِرِ النَّاهِي .
لَكِنْ لِلْآمِرِ النَّاهِي أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَضُرُّهُ كَمَا
يَدْفَعُ الْإِنْسَانُ عَنْ نَفْسِهِ الصَّائِلَ فَإِذَا أَرَادَ الْمَأْمُورُ
الْمَنْهِيُّ ضَرْبَهُ أَوْ أَخْذَ مَالِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى
دَفْعِهِ فَلَهُ دَفْعُهُ عَنْهُ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ الْأَذَى
وَتَابَ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا مَقَامَ الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ وَالْكَمَالُ فِي هَذَا الْبَابِ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ خَادِمًا لَهُ وَلَا امْرَأَةً وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا نِيلَ مِنْهُ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ } فَقَدْ تَضَمَّنَ خُلُقُهُ الْعَظِيمُ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ إذَا نِيلَ مِنْهُ وَإِذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَذَى الرَّسُولِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّ مَنْ آذَاهُ فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَقَتْلُ سَابِّهِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّهُ قُتِلَ لِكَوْنِهِ رِدَّةً أَوْ لِكَوْنِهِ رِدَّةً مُغَلَّظَةً أَوَجَبَتْ أَنْ صَارَ قَتْلُ السَّابِّ حَدًّا مِنْ الْحُدُودِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي احْتِمَالِهِ وَعَفْوِهِ عَمَّنْ كَانَ يُؤْذِيهِ كَثِيرٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } . فَالْآمِرُ النَّاهِي إذَا أُوذِيَ وَكَانَ أَذَاهُ تَعَدِّيًا لِحُدُودِ اللَّهِ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ النَّهْيُ عَنْهُ وَصَاحِبُهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ ؛ لَكِنْ لَمَّا دَخَلَ فِيهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ كَانَ لَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ كَمَا لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْقَاذِفِ وَالْقَاتِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَعَفْوُهُ عَنْهُ لَا
يُسْقِطُ عَنْ ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِحَقِّ اللَّهِ ؛ لَكِنْ يُكْمِلُ لِهَذَا الْآمِرِ النَّاهِي مَقَامَ الصَّبْرِ وَالْعَفْوِ الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ لِمِثْلِهِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَفِي قَوْلِهِ : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } . ثُمَّ هُنَا فَرْقٌ لَطِيفٌ : أَمَّا الصَّبْرُ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ مُطْلَقًا فَلَا يُنْسَخُ . وَأَمَّا الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ فَإِنَّهُ جُعِلَ إلَى غَايَةٍ وَهُوَ : أَنْ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فَلَمَّا أَتَى بِأَمْرِهِ : بِتَمْكِينِ الرَّسُولِ وَنَصْرِهِ - صَارَ قَادِرًا عَلَى الْجِهَادِ لِأُولَئِكَ وَإِلْزَامِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَمَنْعِهِمْ عَنْ الْمُنْكَرِ - صَارَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِالْيَدِ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ فِي ذَلِكَ كَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِالصَّبْرِ أَوَّلًا . وَالْجِهَادُ مَقْصُودُهُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ؛ فَمَقْصُودُهُ إقَامَةُ دِينِ اللَّهِ لَا اسْتِيفَاءُ الرَّجُلِ حَظَّهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُجَاهِدُ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ أَجْرُهُ فِيهِ عَلَى اللَّهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ حَتَّى إنَّ الْكُفَّارَ إذَا أَسْلَمُوا أَوْ عَاهَدُوا لَمْ يُضَمَّنُوا مَا أَتْلَفُوهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ ؛ بَلْ لَوْ أَسْلَمُوا وَبِأَيْدِيهِمْ مَا غَنِمُوهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ مِلْكًا لَهُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَهُوَ الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ .
فَالْآمِرُ
النَّاهِي إذَا نِيلَ مِنْهُ وَأُوذِيَ ثُمَّ إنْ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ
الْمَنْهِيُّ تَابَ وَقَبِلَ الْحَقُّ مِنْهُ : فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَقْتَصَّ مِنْهُ وَيُعَاقِبَهُ عَلَى أَذَاهُ فَإِنَّهُ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ
بِالتَّوْبَةِ حَقُّ اللَّهِ كَمَا يَسْقُطُ عَنْ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ
حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ
قَبْلَهُ وَالتَّوْبَةُ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا } وَالْكَافِرُ إذَا
أَسْلَمَ هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ قَبْلَهُ : دَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا
اعْتَدَى بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ
مَا كَانَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ حَرَامًا ؛ بَلْ كَانَ يَسْتَحِلُّهُ فَلَمَّا تَابَ
مِنْ ذَلِكَ غُفِرَ لَهُ هَذَا الِاسْتِحْلَالُ وَغُفِرَتْ لَهُ تَوَابِعُهُ .
فَالْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ إنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا لِأَذَى الْآمِرِ النَّاهِي
كَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ
وَأَنَّ الْآمِرَ النَّاهِيَ لَهُمْ مُعْتَدٍ عَلَيْهِمْ فَإِذَا تَابُوا لَمْ
يُعَاقَبُوا بِمَا اعْتَدَوْا بِهِ عَلَى الْآمِرِ النَّاهِي مِنْ أَهْلِ
السُّنَّةِ كالرافضي الَّذِي يَعْتَقِدُ كُفْرَ الصَّحَابَةِ أَوْ فِسْقَهُمْ
وَسَبَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ تَابَ مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَصَارَ
يُحِبُّهُمْ وَيَتَوَلَّاهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عَلَيْهِ حَقٌّ بَلْ دَخَلَ
حَقُّهُمْ فِي حَقِّ اللَّهِ ثُبُوتًا وَسُقُوطًا ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ
لِاعْتِقَادِهِ . وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ
وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ عَلَى - أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ الْمُتَأَوِّلِينَ لَا يَضْمَنُونَ
مَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ بِالتَّأْوِيلِ كَمَا لَا يَضْمَنُ أَهْلُ
الْعَدْلِ مَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ بِالتَّأْوِيلِ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ .
وَكَذَلِكَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُرْتَدِّينَ فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ وَالْبَاغِيَ الْمُتَأَوِّلَ وَالْمُبْتَدِعَ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ فَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ مُتَأَوِّلًا فَإِذَا تَابَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ كَتَوْبَةِ الْكَافِرِ مِنْ كُفْرِهِ ؛ فَيُغْفَرُ لَهُ مَا سَلَفَ مِمَّا فَعَلَهُ مُتَأَوِّلًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ بَغْيٌ وَعُدْوَانٌ كَالْمُسْلِمِ إذَا ظَلَمَ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيِّ إذَا ظَلَمَ الْمُسْلِمَ وَالْمُرْتَدِّ الَّذِي أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِمُحَارَبِ بَلْ هُوَ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمٌ أَوْ مُعَاهَدٌ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ بِالِاتِّفَاقِ . فَالْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ إنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ أَذَى الْآمِرِ النَّاهِي جَائِزٌ لَهُ فَهُوَ مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ وَحَقُّ الْآمِرِ النَّاهِي دَاخِلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا تَابَ سَقَطَ الْحَقَّانِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ كَانَ مَطْلُوبًا بِحَقِّ اللَّهِ الْمُتَضَمِّنِ حَقَّ الْآدَمِيِّ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا . فَهَؤُلَاءِ كَلٌّ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الشَّرْعِيَّةَ بِحَسَبِهِ وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فَهَذَا قَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ خَطَأَهُ فَإِذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ بِسَبَبِ اجْتِهَادِهِ الْخَطَأِ أَذًى لِلْآمِرِ النَّاهِي بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ كَالْحَاكِمِ إذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ أَذًى لِلْمُسْلِمِ أَوْ كَالشَّاهِدِ أَوْ كَالْمُفْتِي . فَإِذَا كَانَ الْخَطَأُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ كَانَ هَذَا مِمَّا ابْتَلَى اللَّهُ بِهِ هَذَا الْآمِرَ النَّاهِيَ . قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } فَهَذَا مِمَّا يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْإِثْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَذَلِكَ
الْجَزَاءُ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ : قَدْ يَسْقُطُ الْجَزَاءُ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ الَّذِي يَجِبُ فِي الْعَمْدِ وَيَثْبُتُ الضَّمَانُ الَّذِي يَجِبُ فِي الْخَطَأِ كَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ وَكَمَا يَجِبُ ضَمَانُ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُتْلِفُهَا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فِي مَالِهِ وَإِنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ خَطَأً ؛ مُعَاوَنَةً لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّ الْمَظْلُومِ خَطَأً ؛ فَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي ظَلَمَ خَطَأً ؛ لَكِنْ يُقَالُ : يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا كَانَ الْحَقُّ فِيهِ لِلَّهِ وَحَقُّ الْآدَمِيِّ تَبَعٌ لَهُ وَمَا كَانَ حَقًّا لِآدَمِيِّ مَحْضًا أَوْ غَالِبًا وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادُ مِنْ هَذَا الْبَابِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يُوجِبُونَ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ ضَمَانَ مَا أَتْلَفُوهُ لِأَهْلِ الْعَدْلِ بِالتَّأْوِيلِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً مِنْهُمْ لَيْسَ كُفْرًا وَلَا فِسْقًا . وَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ لَمْ يَتْبَعُوا مُدْبِرَهُمْ وَلَمْ يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يَسْبُوا حَرِيمَهُمْ وَلَمْ يَغْنَمُوا أَمْوَالَهُمْ فَلَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ إذَا أَتْلَفُوا مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ تَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقِصَاصَ سَاقِطٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْجِهَادِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْأَجْرُ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ الْعَبْدِ الْآمِرِ النَّاهِي . وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : هَلْ يُقْتَصُّ مِنْهُ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى طَمَعٍ مِنْهُ فِي
جَانِبِ الْحَقِّ ؟ فَيُقَالُ : مَتَى كَانَ فِيمَا فَعَلَهُ إفْسَادٌ لِجَانِبِ الْحَقِّ كَانَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُفْعَلُ فِيهِ مَا يُفْعَلُ فِي نَظِيرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَذًى لِلْآمِرِ النَّاهِي . وَالْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ تَتَنَوَّعُ ؛ فَتَارَةً تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْقِتَالَ وَتَارَةً تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الْمُهَادَنَةَ وَتَارَةً تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الْإِمْسَاكَ وَالِاسْتِعْدَادَ بِلَا مُهَادَنَةٍ وَهَذَا يُشْبِهُ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ الْإِنْسَانَ تُزَيِّنُ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّ عَفْوَهُ عَنْ ظَالِمِهِ يُجْرِيهِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ إنْ كُنْت لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوِ إلَّا عِزًّا وَمَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ } . فَاَلَّذِي يَنْبَغِي فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَعْفُوَ الْإِنْسَانُ عَنْ حَقِّهِ وَيَسْتَوْفِيَ حُقُوقَ اللَّهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ : كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَذِلُّوا فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا . قَالَ تَعَالَى : { هُمْ يَنْتَصِرُونَ } يَمْدَحُهُمْ بِأَنَّ فِيهِمْ هِمَّةَ الِانْتِصَارِ لِلْحَقِّ وَالْحَمِيَّةَ لَهُ ؛ لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ يَعْفُونَ عَجْزًا وَذُلًّا ؛ بَلْ هَذَا مِمَّا يُذَمُّ بِهِ الرَّجُلُ وَالْمَمْدُوحُ الْعَفْوُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْقِيَامُ لِمَا يَجِبُ مِنْ نَصْرِ الْحَقِّ لَا مَعَ إهْمَالِ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعِبَادِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
فِي قَوْله تَعَالَى { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا } الْآيَةُ : قِرَاءَتَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
؛ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ . وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
تَقْرَأُ بِالتَّثْقِيلِ وَتُنْكِرُ التَّخْفِيفَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ
الزُّهْرِيِّ قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَهُ - وَهُوَ
يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِهِ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } مُخَفَّفَةً
قَالَتْ - مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا -
قُلْت : فَمَا هَذَا النَّصْرُ - { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } بِمَنْ
كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنَّتْ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ
كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ لَعَمْرِي لَقَدْ
اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ . وَفِي
الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ جريج سَمِعْت ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ
كُذِبُوا } خَفِيفَةً ذَهَبَ بِهَا هُنَالِكَ وَتَلَا { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى
نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } فَلَقِيت عُرْوَةَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : مَعَاذَ اللَّهِ وَاَللَّهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ إلَّا عَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى ظَنُّوا وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ مَنْ مَعَهُمْ يُكَذِّبُهُمْ ؛ فَكَانَتْ تَقْرَؤُهَا : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } مُثَقَّلَةً . فَعَائِشَةُ جَعَلَتْ اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ وَظَنَّهُمْ التَّكْذِيبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ وَلَكِنَّ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى ثَابِتَةٌ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهَا وَقَدْ تَأَوَّلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ مَعَهُ وَالْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا إنَّمَا فِيهَا اسْتِبْطَاءُ النَّصْرِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ : { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } فَإِنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ تُبْطِئُ لِطَلَبِ التَّعْجِيلِ . وَقَوْلُهُ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قَدْ يَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ : { إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } وَالظَّنُّ لَا يُرَادُ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ كَمَا هُوَ فِي اصْطِلَاحِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ وَيُسَمُّونَ الِاعْتِقَادَ الْمَرْجُوحَ وَهْمًا بَلْ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } .
فَالِاعْتِقَادُ الْمَرْجُوحُ هُوَ ظَنٌّ وَهُوَ وَهْمٌ وَهَذَا الْبَابُ قَدْ يَكُونُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ } وَقَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي هِيَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ كَمَا ثَبَتَ { فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَأَنْ يُحْرَقَ حَتَّى يَصِيرَ حُمَمَةً أَوْ يَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ : أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ . } فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي هِيَ تَعْرِضُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : مِنْهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ يَضْعُفُ بِهِ الْإِيمَانُ وَإِنْ كَانَ لَا يُزِيلُهُ . وَالْيَقِينُ فِي الْقَلْبِ لَهُ مَرَاتِبُ وَمِنْهُ مَا هُوَ عَفْوٌ يُعْفَى عَنْ صَاحِبِهِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ يَقْتَرِنُ بِهِ صَرِيحُ الْإِيمَانِ . وَنَظِيرُ هَذَا : مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ؛ وَلَوْ لَبِثْت فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْت الدَّاعِيَ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إبْرَاهِيمَ إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ : { أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي } } وَقَدْ تَرَكَ الْبُخَارِيُّ ذِكْرَ قَوْلِهِ : " بِالشَّكِّ " لَمَّا خَافَ فِيهَا مِنْ تَوَهُّمِ بَعْضِ النَّاسِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى } وَلَكِنْ طَلَبَ طُمَأْنِينَةَ قَلْبِهِ كَمَا قَالَ : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالِاطْمِئْنَانِ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكًّا لِذَلِكَ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى كَذَلِكَ الْوَعْدُ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا : يَكُونُ الشَّخْصُ مُؤْمِنًا بِذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ فَلَا يَطْمَئِنُّ فَيَكُونُ فَوَاتُ الِاطْمِئْنَانِ ظَنًّا أَنَّهُ قَدْ كُذِّبَ فَالشَّكُّ مَظِنَّةُ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا تَقْدَحُ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي أَفْعَالِهِمْ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أُصُولِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ . وَفِي قَصَصِ هَذِهِ الْأُمُورِ عِبْرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُبْتَلَوْا بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَيْأَسُوا إذَا اُبْتُلُوا بِذَلِكَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَكَانَتْ الْعَاقِبَةُ إلَى خَيْرٍ فَلْيَتَيَقَّنْ الْمُرْتَابُ وَيَتُوبُ الْمُذْنِبُ وَيَقْوَى إيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ فَبِهَا يَصِحُّ الاتساء بِالْأَنْبِيَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } .
وَفِي
الْقُرْآنِ مِنْ قِصَصِ الْمُرْسَلِينَ الَّتِي فِيهَا تَسْلِيَةٌ وَتَثْبِيتٌ
لِيَتَأَسَّى بِهِمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا
كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } . . . (1) وَلَنَا ؛ لِأَنَّهُ
أُسْوَةٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : {
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } وَقَالَ : { مَا
يُقَالُ لَكَ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } وَقَالَ : {
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ
لَهُمْ } { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ
بِهِ فُؤَادَكَ } .
وَإِذَا كَانَ الْاتِسَاءُ بِهِمْ مَشْرُوعًا فِي هَذَا وَفِي هَذَا فَمِنْ
الْمَشْرُوعِ التَّوْبَةُ مِنْ الذَّنْبِ وَالثِّقَةُ بِوَعْدِ اللَّهِ وَإِنْ
وَقَعَ فِي الْقَلْبِ ظَنٌّ مِنْ الظُّنُونِ وَطَلَبُ مَزِيدِ الْآيَاتِ لِطُمَأْنِينَةِ
الْقُلُوبِ كَمَا هُوَ الْمُنَاسِبُ للاتساء وَالِاقْتِدَاءِ دُونَ مَا كَانَ
الْمَتْبُوعُ مَعْصُومًا مُطْلَقًا . فَيَقُولُ التَّابِعُ : أَنَا لَسْت مِنْ
جِنْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَذْكُرُ بِذَنْبِ فَإِذَا أَذْنَبَ اسْتَيْأَسَ مِنْ
الْمُتَابَعَةِ وَالِاقْتِدَاءِ ؛ لِمَا أَتَى بِهِ مِنْ الذَّنْبِ الَّذِي
يُفْسِدُ الْمُتَابِعَةَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعِصْمَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ
: إنَّ ذَلِكَ مَجْبُورٌ بِالتَّوْبَةِ فَإِنَّهُ تَصِحُّ مَعَهُ الْمُتَابَعَةُ
كَمَا قِيلَ : أَوَّلُ مَنْ أَذْنَبَ وَأَجْرَمَ ثُمَّ تَابَ وَنَدِمَ آدَمَ أَبُو
الْبَشَرِ وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ مَا ظَلَمَ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى قَصَّ عَلَيْنَا قِصَصَ تَوْبَةِ الْأَنْبِيَاءِ لِنَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي الْمَتَابِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي أُقِرُّوا عَلَيْهَا فَلَمْ يُنْهَوْا عَنْهَا وَلَمْ يَتُوبُوا مِنْهَا فَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ . فَأَمَّا مَا نُهُوا عَنْهُ وَتَابُوا مِنْهُ فَلَيْسَ بِدُونِ الْمَنْسُوخِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ مَا أُمِرُوا بِهِ أُبِيحَ لَهُمْ ثُمَّ نُسِخَ تَنْقَطِعُ فِيهِ الْمُتَابَعَةُ ؛ فَمَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ أَحْرَى وَأَوْلَى . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قَدْ يَكُونُونَ ظَنُّوا فِي الْمَوْعُودِ بِهِ مَا لَيْسَ هُوَ فِيهِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُمْ ؛ فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَهَذَا جَائِزٌ عَلَيْهِمْ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فَإِذَا ظَنَّ بِالْمَوْعُودِ بِهِ مَا لَيْسَ هُوَ فِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ وَكَانَ كَذِبًا مِنْ جِهَةِ ظَنٍّ فِي الْخَبَرِ مَا لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ . فَأَمَّا الشَّكُّ فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ فَهَذَا لَا يَكُونُ وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ هُنَا شَيْئَانِ : " أَحَدُهُمَا " اسْتِيئَاسُ الرُّسُلِ . و " الثَّانِي " ظَنُّ أَنَّهُمْ كُذِبُوا . وَقَدْ ذَكَرْنَا لَفْظَ " الظَّنِّ " فَأَمَّا لَفْظُ ( اسْتَيْأَسُوا فَإِنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ : { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } وَلَمْ يَقُلْ يَئِسَ الرُّسُلُ وَلَا ذَكَرَ مَا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ وَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ
أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ . } وَقَدْ يُقَالُ : الِاسْتِيئَاسُ لَيْسَ هُوَ الْإِيَاسُ ؛ لِوُجُوهِ : " أَحَدُهَا " أَنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ لَمْ يَيْأَسُوا مِنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّ قَوْلَ كَبِيرِهِمْ : { فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَرْجُو أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ لَهُ وَحُكْمُهُ هُنَا لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ تَخْلِيصنَا لِيُوسُفَ مِنْهُمْ وَإِلَّا فَحُكْمُهُ لَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ قُعُودَهُ فِي مِصْرَ لِأَجْلِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا : ف " الْيَأْسُ " يَكُونُ فِي الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَلَمْ يَجِئْ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إنَّا إذًا لَظَالِمُونَ } فَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ إلَيْهِمْ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ إلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَتَغَيَّرُ عَزْمُهُ وَنِيَّتُهُ وَمَا أَكْثَرَ تَقْلِيبَ الْقُلُوبِ وَقَدْ يَتَبَدَّلُ الْأَمْرُ بِغَيْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ الْحُكْمُ إلَى غَيْرِهِ وَقَدْ يَتَخَلَّصُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَالْعَادَاتُ قَدْ جَرَتْ بِهَذَا عَلَى مِثْلِ مَنْ عِنْدَهُ مَنْ قَالَ لَا يُعْطِيهِ . فَقَدْ
يُعْطِيهِ وَقَدْ يَخْرُجُ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَقَدْ يَمُوتُ عَنْهُ فَيَخْرُجُ وَالْعَالَمُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذَا . " الْوَجْهُ الثَّانِي " قَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } . فَنَهَاهُمْ عَنْ الْيَأْسِ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ الِاسْتِيئَاسِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ . وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كَافِرِينَ فَهَذَا هُوَ " الْوَجْهُ الثَّالِثُ " أَيْضًا . وَهُوَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ { لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ يَأْسٌ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَأَنْ يَقَعُوا فِي الِاسْتِيئَاسِ بَلْ الْمُؤْمِنُونَ مَا دَامُوا مُؤْمِنِينَ لَا يَيْأَسُونَ مِنْ رُوحِ اللَّهِ وَهَذِهِ السُّورَةُ تَضَمَّنَتْ ذِكْرَ الْمُسْتَيْئِسِينَ وَأَنَّ الْفَرَحَ جَاءَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَيْأَسَ الْمُؤْمِنُ ؛ وَلِهَذَا فِيهَا : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } فَذِكْرُ اسْتِيئَاسِ الْإِخْوَةِ مِنْ أَخِي يُوسُفَ وَذِكْرُ اسْتِيئَاسِ الرُّسُلِ يَصْلُحُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَا ذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ جَمِيعًا . " الْوَجْهُ الرَّابِعُ " أَنَّ الِاسْتِيئَاسَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْيَأْسِ وَالِاسْتِفْعَالُ
يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ : يَكُونُ لِطَلَبِ الْفِعْلِ مِنْ الْغَيْرِ فَالِاسْتِخْرَاجُ وَالِاسْتِفْهَامُ وَالِاسْتِعْلَامُ يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ يُقَالُ : اسْتَخْرَجْت الْمَالَ مِنْ غَيْرِي وَكَذَلِكَ اسْتَفْهَمْت وَلَا يَصْلُحُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِاسْتِيئَاسِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَطْلُبُ الْيَأْسَ وَيَسْتَدْعِيهِ ؛ وَلِأَنَّ اسْتَيْأَسَ فِعْلٌ لَازِمٌ لَا مُتَّعَدٍ . وَيَكُونُ لِلِاسْتِفْعَالِ لِصَيْرُورَةِ الْمُسْتَفْعِلِ عَلَى صِفَةِ غَيْرِهِ وَهَذَا يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ كَقَوْلِهِمْ : اسْتَحْجَرَ الطِّينُ أَيْ صَارَ كَالْحَجَرِ . وَاسْتَنْوَقَ الْفَحْلُ أَيْ صَارَ كَالنَّاقَةِ . وَأَمَّا النَّظَرُ فِيمَا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ إخْوَةِ يُوسُفَ حَيْثُ قَالَ : { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ } . وَأَمَّا الرُّسُلُ فَلَمْ يَذْكُرْ مَا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ بَلْ أَطْلَقَ وَصْفَهُمْ بِالِاسْتِيئَاسِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِأَنَّهُمْ اسْتَيْأَسُوا مِمَّا وُعِدُوا بِهِ وَأُخْبِرُوا بِكَوْنِهِ وَلَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ . وَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } لَا يَدُلُّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَضْلًا عَنْ بَاطِنِهِ : أَنَّهُ حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِثْلُ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ فِيمَا أُخْبِرُوا بِهِ فَإِنَّ لَفْظَ الظَّنِّ فِي اللُّغَةِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ ؛ بَلْ يُسَمَّى ظَنًّا مَا هُوَ مِنْ أَكْذَبِ الْحَدِيثِ عَنْ الظَّانِّ ؛ لِكَوْنِهِ أَمْرًا مَرْجُوحًا فِي نَفْسِهِ . وَاسْمُ
الْيَقِينِ وَالرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَنَحْوِهَا يَتَنَاوَلُ عِلْمَ الْقَلْبِ وَعَمَلَهُ وَتَصْدِيقَهُ وَعَدَمَ تَصْدِيقِهِ وَسَكِينَتَهُ وَعَدَمَ سَكِينَتِهِ لَيْسَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ فَقَطْ كَمَا يَحْسَبُ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } . فَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ عَنْ اسْتِيئَاسِهِمْ مُطْلَقًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ إذَا وَعَدَ الرُّسُلَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ مُطْلَقٍ - كَمَا هُوَ غَالِبُ إخباراته - لَمْ يُقَيِّدْ زَمَانَهُ وَلَا مَكَانَهُ وَلَا سَنَتَهُ وَلَا صِفَتَهُ فَكَثِيرًا مَا يَعْتَقِدُ النَّاسُ فِي الْمَوْعُودِ بِهِ صِفَاتٍ أُخْرَى لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهَا خِطَابُ الْحَقِّ بَلْ اعْتَقَدُوهَا بِأَسْبَابِ أُخْرَى كَمَا اعْتَقَدَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَيَطُوفُونَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا وَرَجَا أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ ذَلِكَ الْعَامَ وَيَطُوفَ وَيَسْعَى . فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ ذَلِكَ الْعَامَ - لَمَّا صَدَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى قَاضَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصُّلْحِ الْمَشْهُورِ - بَقِيَ فِي قَلْبِ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ حَتَّى { قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تُخْبِرْنَا أَنَّا نَدْخُلُ الْبَيْتَ وَنَطُوفُ ؟ قَالَ : بَلَى . فَأَخْبَرْتُك أَنَّك تَدْخُلُهُ هَذَا الْعَامَ ؟ . قَالَ : لَا . قَالَ : فَإِنَّك دَاخِلُهُ وَمُطَوِّفٌ } وَكَذَلِكَ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ . وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرَ عِلْمًا وَإِيمَانًا مِنْ عُمَرَ حَتَّى تَابَ
عُمَرُ مِمَّا صَدَرَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُحَدِّثًا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } فَهُوَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ ؛ وَلَكِنْ مَزِيَّةُ التَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مُتَابَعَةً لِلرَّسُولِ وَعِلْمًا وَإِيمَانًا بِمَا جَاءَ بِهِ دَرَجَتُهُ فَوْقَ دَرَجَتِهِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ الْأُمَّةِ صَاحِبَ الْمُتَابَعَةِ لِلْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ فَهُوَ مُعَلِّمٌ لِعُمَرِ وَمُؤَدِّبٌ لِلْمُحَدِّثِ مِنْهُمْ الَّذِي يَكُونُ لَهُ مِنْ رَبِّهِ إلْهَامٌ وَخِطَابٌ كَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ مُعَلِّمًا لِعُمَرِ وَمُؤَدِّبًا لَهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ : فَأَخْبَرَك أَنَّك تَدْخُلُهُ هَذَا الْعَامَ ؟ قَالَ : لَا قَالَ إنَّك آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ . فَبَيَّنَ لَهُ الصِّدِّيقُ أَنَّ وَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِوَقْتِ وَكَوْنُهُ سَعَى فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَقَصَدَهُ لَا يُوجِبُ أَنْ يَعْنِيَ مَا أَخْبَرَ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ الشَّيْءَ وَلَا يَكُونُ ؛ بَلْ يَكُونُ غَيْرُهُ ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَصَدَهُ ؛ بَلْ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ أَنْ يُقَيِّدَهُ عَمَّا يَقْصِدُهُ إلَى أَمْرٍ آخَرَ هُوَ أَنْفَعُ مِمَّا قَصَدَهُ كَمَا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْفَعَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ دُخُولِهِمْ ذَلِكَ الْعَامِ بِخِلَافِ خَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَادِقٌ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَيَتَحَقَّقَ .
وَكَذَلِكَ ظَنُّ النَّبِيِّ كَمَا { قَالَ فِي تَأْبِيرِ النَّخْلِ : إنَّمَا ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ } فَاسْتِيئَاسُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ دُخُولِ ذَلِكَ هُوَ اسْتِيئَاسٌ مِمَّا ظَنُّوهُ مَوْعُودًا بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْعُودًا بِهِ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَظُنُّوا شَيْئًا فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا ظَنُّوهُ فَقَدْ يَظُنُّونَ فِيمَا وَعَدُوهُ تَعْيِينًا وَصِفَاتٍ وَلَا يَكُونُ كَمَا ظَنُّوهُ فَيَيْأَسُونَ مِمَّا ظَنُّوهُ فِي الْوَعْدِ لَا مِنْ تَعْيِينِ الْوَعْدِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأَيْت أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَدْ أَسْلَمَ ؛ فَلَمَّا أَسْلَمَ خَالِدٌ ظَنُّوهُ هُوَ فَلَمَّا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ عُلِمَ أَنَّهُ هُوَ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمِ يُلَقِّحُونَ : فَقَالَ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا هَذَا لَصَلَحَ قَالَ : فَخَرَجَ شِيصاً فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ : مَا لِنَخْلِكُمْ ؟ قَالُوا : قُلْت : كَذَا وَكَذَا . قَالَ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ } وَرُوِيَ أَيْضًا { عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ طَلْحَةَ ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : مَرَرْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمِ عَلَى ؤُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ : مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ فَقَالَ : يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَتُلَقَّحُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ . فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ : إنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ ؛ فَإِنَّنِي
ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ } . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا إذَا حَدَّثَنَا بِشَيْءِ عَنْ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ بِهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ أَتْقَانَا لِلَّهِ وَأَعْلَمُنَا بِمَا يُتَّقَى وَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ آخِذًا بِمَا يُحَدِّثُنَا عَنْ اللَّهِ فَإِذَا أَخْبَرَهُ اللَّهُ بِوَعْدِ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ بِهِ وَتَصْدِيقُهُ هُوَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ تَصْدِيقِنَا وَلَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَشُكَّ فِيهِ وَهُوَ - بِأَبِي - أَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ لَا يَشُكَّ فِيهِ ؛ لَكِنْ قَدْ يَظُنُّ ظَنًّا كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ } وَإِنْ كَانَ أَخْبَرَهُ بِهِ مُطْلَقًا فَمُسْتَنَدُهُ ظُنُونٌ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ : { مَا قَصَرْت الصَّلَاةَ وَلَا نَسِيت } . وَقَدْ يَظُنُّ الشَّيْءَ ثُمَّ يُبَيِّنُ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَى جَلِيَّتِهِ كَمَا وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أُمُورٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ لَمَّا اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَمَّ أَنْ يَغْزُوَهُمْ لَمَّا ظَنَّ صِدْقَهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . وَكَذَلِكَ فِي قِصَّةِ بَنِي أبيرق الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } ، وَذَلِكَ لَمَّا جَاءَ قَوْمٌ تَرَكُوا السَّارِقَ الَّذِي كَانَ يَسْرِقُ وَأَخْرَجُوا الْبَرِيءَ ؛
فَظَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدْقَهُمْ حَتَّى تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ . { وَقَالَ فِي حَدِيثِ قَصْرِ الصَّلَاةِ : لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ فَقَالُوا : بَلَى قَدْ نَسِيت } . وَكَانَ قَدْ نَسِيَ فَأَخْبَرَ عَنْ مُوجَبِ ظَنِّهِ وَاعْتِقَادِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ . { وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنِّي لَأنسَى لِأَسُنَّ } وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } شَامِلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ حَيْثُ قَالَ فِي صَدْرِ الْآيَاتِ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } الْآيَاتُ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بينا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : هَذَا بَابٌ مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ إلَّا الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ : هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ وَقَالَ : أَبْشِرْ بنورين أُوتِيتهمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَك : فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفِ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيته } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ آدَمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } دَخَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ مِثْلُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا قَالَ : فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } الْآيَاتُ إلَى قَوْلِهِ : { أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ قَدْ فَعَلْت إلَى آخِرِ السُّورَةِ قَالَ : قَدْ فَعَلْت } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرَّكْبِ فَقَالُوا : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْك هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ؟ بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَك رَبَّنَا وَإِلَيْك الْمَصِيرُ فَلَمَّا اقْتَرَاهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ : أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَثَرِهَا : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا سُبْحَانَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } إلَى قَوْلِهِ : { قَبْلِنَا } قَالَ : نَعَمْ : { وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قَالَ : نَعَمْ . إلَى آخِرِ السُّورَةِ قَالَ : نَعَمْ } . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ فِي
الِاجْتِهَادِ ؛ لَكِنْ لَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَكَيْفَ فِي الْخَبَرِ ؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } فَنَفْسُ مَا يَعِدُ اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَقًّا لَا يَمْتَرُونَ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ . وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ قَدْ يَكُونُ مِنْ إلْقَاءِ الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ } إلَى قَوْلِهِ : { صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلِلنَّاسِ فِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ؛ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ التَّمَنِّيَ هُوَ التِّلَاوَةُ وَالْقُرْآنُ كَمَا عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ السَّلَفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ } وَأَمَّا مَنْ أَوَّلَ النَّهْيَ عَلَى تَمَنِّي الْقَلْبِ فَذَاكَ فِيهِ كَلَامٌ آخَرُ ؛ وَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ النَّوْعَيْنِ ؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ فِي التَّفْسِيرِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَمُرَادُ الْآيَةِ قَطْعًا لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } . وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَكُونُ فِي مُجَرَّدِ الْقَلْبِ إذَا
لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ النَّبِيُّ ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي ظَنِّهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بَعْضُهُ النَّخْلُ وَنَحْوُهَا وَهُوَ يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ . وَإِذَا كَانَ التَّمَنِّي لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْقَوْلُ فَفِيهِ قَوْلَانِ : " الْأَوَّلُ " أَنَّ الْإِلْقَاءَ هُوَ فِي سَمْعِ الْمُسْتَمِعِينَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّسُولُ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ بِمَنْعِ جَوَازِ الْإِلْقَاءِ فِي كَلَامِهِ . و " الثَّانِي " - وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ - أَنَّ الْإِلْقَاءَ فِي نَفْسِ التِّلَاوَةِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَسِيَاقُهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْآثَارُ الْمُتَعَدِّدَةُ وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ إلَّا إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ هُوَ خَطَأٌ وَغَلَطٌ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إلَّا إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَنْ يُقِرَّ عَلَى خَطَأٍ كَمَا قَالَ : { فَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ بِشَيْءِ فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ } وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَامَتْ الْحُجَّةُ بِهِ فَإِنَّ كَوْنَهُ رَسُولَ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَالصِّدْقُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْكَذِبِ وَنَفْيَ الْخَطَأِ فِيهِ . فَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ . وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا أَنْ يَقَعَ الْإِلْقَاءُ فِي تَبْلِيغِهِ فَرُّوا مِنْ هَذَا وَقَصَدُوا
خَيْرًا وَأَحْسَنُوا فِي ذَلِكَ ؛ لَكِنْ يُقَالُ لَهُمْ : أَلْقَى ثُمَّ أَحْكَمَ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ . فَإِنَّ هَذَا يُشْبِهُ النَّسْخَ لِمَنْ بَلَغَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّهُ إذًا مُوقِنٌ مُصَدِّقٌ بِرَفْعِ قَوْلٍ سَبَقَ لِسَانُهُ بِهِ لَيْسَ أَعْظَمَ مِنْ إخْبَارِهِ بِرَفْعِهِ . وَلِهَذَا قَالَ فِي النَّسْخِ : { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } فَظَنُّهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا هُوَ يَتَّبِعُ مَا يَظُنُّونَهُ مِنْ مَعْنَى الْوَعْدِ وَهَذَا جَائِزٌ لَا مَحْذُورَ فِيهِ . إذَا لَمْ يُقِرُّوا عَلَيْهِ وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَلِسَائِرِ الْأُصُولِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ بَابَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَيْسَ بِأَعْظَمِ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَإِذَا كَانَ مِنْ الْجَائِزِ فِي بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَنْ يَظُنُّوا شَيْئًا ثُمَّ يَتَبَيَّنُ الْأَمْرُ لَهُمْ بِخِلَافِهِ ؛ فَلَأَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ فِي بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى حَتَّى إنَّ بَابَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إذَا تَمَسَّكُوا فِيهِ بِالِاسْتِصْحَابِ لَمْ يَقَعْ فِي ذَلِكَ ظَنُّ خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ ؛ فَإِنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إلَّا بِخِطَابِ إذَا نَفَوْهُ قَبْلَ الْخِطَابِ كَانَ ذَلِكَ اعْتِقَادًا مُطَابِقًا لِلْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ وَبَابُ الْوَعْدِ إذَا لَمْ يُخْبَرُوا بِهِ قَدْ يَظُنُّونَ انْتِفَاءَهُ كَمَا ظَنَّ الْخَلِيلُ جَوَازَ الْمَغْفِرَةِ لِأَبِيهِ حَتَّى اسْتَغْفَرَ لَهُ وَنُهِينَا عَنْ الِاقْتِدَاءِ . كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ : لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَك مَا لَمْ أُنْهَ عَنْك } وَحَتَّى اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّهِ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي
ذَلِكَ وَحَتَّى صَلَّى عَلَى الْمُنَافِقِينَ قَبْلَ أَنْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ يَرْجُو لَهُمْ الْمَغْفِرَةَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } الْآيَةُ . وَقَالَ { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لن يغفر الله لهم } فَإِذَا كَانَ صَلَّى عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ رَاجِيًا أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ . وَلِهَذَا سَوَّغَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يُرْوَى فِي بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ الْإِسْنَادِ . بِخِلَافِ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِيهِ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ أَنَّهُ صِدْقٌ ؛ لِأَنَّ بَابَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ صِدْقًا وَأَمْكَنَ أَنْ يُوجَدَ الْخَبَرُ كَذِبًا لَمْ يَجُزْ نَفْيُهُ ؛ لَا سِيَّمَا بِلَا عِلْمٍ كَمَا لَمْ يَجُزْ الْجَزْمُ بِثُبُوتِهِ بِلَا عِلْمٍ ؛ إذْ لَا مَحْذُورَ فِيهِ . مَنَابِتُ النَّاسِ (1) اللَّفْظُ تَعْيِينُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَلَا يَجُوزُ مَنْعُ ذَلِكَ بِمَنْعِ الْحَدِيثِ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إبْطَالًا لِمَا هُوَ حَقٌّ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ
وَلَا حَرَجَ } وَهَذَا الْبَابُ وَهُوَ " بَابُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ " هُوَ فِي الْكِتَابِ بِأَسْمَاءِ مُطْلَقَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ وَالْمُحْسِنِينَ فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَظُنُّ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعْدِ وَيَكُونُ اللَّفْظُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِمَا يَدْخُلُ فِي الْوَعْدِ لَا فِي اعْتِقَادِ صَدْقِ الْوَعْدِ فِي نَفْسِهِ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وَقَوْلِهِ : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } الْآيَتَيْنِ فَقَدْ يَظُنُّ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَالَ الْإِيمَانِ الْمُسْتَحِقِّ لِلنَّصْرِ وَإِنَّ جُنْدَ اللَّهِ الْغَالِبُونَ وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَقَدْ يَقَعُ مِنْ النَّصْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ مَا لَا يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ الْمَوْعُودِ بِهِ فَالظَّنُّ الْمُخْطِئُ فَهِمَ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا أَكْثَرُ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَ كَثْرَةِ مَا وَقَعَ مِنْ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا لَا يَحْصُرُ الْغَلَطَ فِيهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا عَامٌّ لِجَمِيعِ الْآدَمِيِّينَ ؛ لَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ لَا يُقِرُّونَ ؛ بَلْ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ وَغَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا . وَلِهَذَا كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَأْمُرُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَصْدِيقِ الْوَعْدِ
وَالْإِيمَانِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ الصَّبْرِ إلَى أَنْ يَجِيءَ الْوَقْتُ وَمِنْ الِاسْتِغْفَارِ لِزَوَالِ الذُّنُوبِ الَّتِي بِهَا تَحْقِيقُ اتِّصَافِهِ بِصِفَةِ الْوَعْدِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } الْآيَةُ . وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
سُورَةُ
الرَّعْدِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ فِي قَوْله تَعَالَى { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ }
قِيلَ الْمُرَادُ سَمُّوهُمْ بِأَسْمَاءِ حَقِيقَةٍ لَهَا مَعَانٍ تَسْتَحِقُّ
بِهَا الشِّرْكَ لَهُ وَالْعِبَادَةَ فَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا بَطَلَ مَا
تَدْعُونَهُ . وَقِيلَ : إذَا سَمَّيْتُمُوهَا آلِهَةً فَسَمُّوهَا بِاسْمِ
الْإِلَهِ كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ كَاذِبَةً عَلَيْهَا
فَكَذَلِكَ اسْمُ الْآلِهَةِ وَقَدْ حَامَ حَوْلَ مَعْنَاهَا كَثِيرٌ مِنْ
الْمُفَسِّرِينَ فَمَا شَفَوْا عَلِيلًا وَلَا أَرْوَوْا غَلِيلًا وَإِنْ كَانَ
مَا قَالُوهُ صَحِيحًا . فَتَأَمُّلُ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا
يُطْلِعُك عَلَى حَقِيقَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { أَفَمَنْ
هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } وَهَذَا اسْتِفْهَامُ
تَقْرِيرٍ يَتَضَمَّنُ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَنَفْيَ كُلِّ مَعْبُودٍ مَعَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَجَزَائِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . فَهُوَ رَقِيبٌ عَلَيْهَا حَافِظٌ لِأَعْمَالِهَا مُجَازٍ لَهَا بِمَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ . فَإِذَا جَعَلْتُمْ أُولَئِكَ شُرَكَاءَ فَسَمُّوهُمْ إذًا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُسَمَّى بِالْحَيِّ الْقَيُّومِ الْمُحْيِي الْمُمِيتِ السَّمِيعِ الْبَصِيرِ الْغَنِيِّ عَمَّا سِوَاهُ وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إلَيْهِ وَوُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ . فَهَلْ تَسْتَحِقُّ آلِهَتُكُمْ اسْمًا مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ ؟ فَإِنْ كَانَتْ آلِهَةً حَقًّا فَسَمُّوهَا بِاسْمِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ ؛ وَذَلِكَ بهت بَيِّنٌ ؛ فَإِذَا انْتَفَى عَنْهَا ذَلِكَ عُلِمَ بُطْلَانُهَا كَمَا عُلِمَ بُطْلَانُ مُسَمَّاهَا . وَأَمَّا إنْ سَمَّوْهَا بِأَسْمَائِهَا الصَّادِقَةِ عَلَيْهَا كَالْحِجَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُسَمَّى الْجَمَادَاتِ وَأَسْمَاءِ الْحَيَوَانِ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَالْبَقْرِ وَغَيْرِهَا وَبِأَسْمَاءِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ أَشْرَكُوهُمْ مَعَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَبِأَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ الْمُسَخَّرَاتِ تَحْتَ أَوَامِرَ الرَّبِّ وَالْأَسْمَاءُ الشَّامِلَةُ لِجَمِيعِهَا أَسْمَاءُ الْمَخْلُوقَاتِ : الْمُحْتَاجَاتُ الْمُدَبَّرَاتُ الْمَقْهُورَاتُ . وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ عِبَادَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فَهَذِهِ أَسْمَاؤُهَا الْحَقُّ وَهِيَ تُبْطِلُ إلَهِيَّتَهَا ؛ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي مِنْ لَوَازِمِ الْإِلَهِيَّةِ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَيْهَا ؛ فَظَهَرَ أَنَّ تَسْمِيَتَهَا آلِهَةً مِنْ أَكْبَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ إلَهِيَّتِهَا وَامْتِنَاعِ كَوْنِهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
سُورَةُ
الْحِجْرِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ
السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ
ضَرِيحَهُ وَرَحِمَهُ - :
فَصْلٌ :
فِي آيَاتٍ ثَلَاثٍ مُتَنَاسِبَةٍ مُتَشَابِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى يَخْفَى
مَعْنَاهَا عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ . قَوْله تَعَالَى { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ
عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا
مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَلَى اللَّهِ
قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ } وقَوْله تَعَالَى { إنَّ عَلَيْنَا
لَلْهُدَى } { وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى } .
فَلَفْظُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهِ أَنَّ السَّبِيلَ الْهَادِيَ هُوَ عَلَى اللَّهِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ بِخِلَافِ الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِمَا إلَّا قَوْلًا وَاحِدًا . فَقَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ : اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . ( أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ هَذَا : الْإِخْلَاصَ . فَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ طَرِيقٌ إلَيَّ مُسْتَقِيمٌ و " عَلَيَّ " بِمَعْنَى " إلَيَّ " . و ( الثَّانِي : هَذَا طَرِيقٌ عَلَيَّ جَوَازُهُ لِأَنِّي بِالْمِرْصَادِ فَأُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ . وَهُوَ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْوَعِيدِ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ تُخَاصِمُهُ " طَرِيقُك عَلَيَّ " فَهُوَ كَقَوْلِهِ { إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } . و ( الثَّالِثُ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ اسْتِقَامَتُهُ أَيْ أَنَا ضَامِنٌ لِاسْتِقَامَتِهِ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ . قَالَ : وَقَرَأَ قتادة وَيَعْقُوبُ : { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ } أَيْ رَفِيعٌ . قُلْت : هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ قَدْ ذَكَرَهَا مَنْ قَبْلَهُ كَالثَّعْلَبِيِّ وَالْوَاحِدِيِّ والبغوي وَذَكَرُوا قَوْلًا رَابِعًا . فَقَالُوا - وَاللَّفْظُ للبغوي وَهُوَ مُخْتَصَرُ الثَّعْلَبِيِّ .
قَالَ الْحَسَنُ : مَعْنَاهُ صِرَاطٌ إلَيَّ مُسْتَقِيمٌ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : الْحَقُّ يَرْجِعُ إلَيَّ وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ لَا يُعَرَّجُ عَلَى شَيْءٍ . وَقَالَ الْأَخْفَشُ : يَعْنِي عَلَيَّ الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . وَقَالَ الْكِسَائِيُّ : هَذَا عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا يَقُولُ الرِّجْلُ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ " طَرِيقُك عَلَيَّ " أَيْ لَا تَفْلِتُ مِنِّي كَمَا قَالَ تَعَالَى { إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ عَلَيَّ اسْتِقَامَتُهُ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ . فَذَكَرُوا الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ وَذَكَرُوا قَوْلَ الْأَخْفَشِ " عَلَيَّ الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ " . وَهُوَ يُشْبِهُ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ لَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ . فَإِنَّ ذَاكَ يَقُولُ : عَلَيَّ اسْتِقَامَتُهُ بِإِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ . فَمَنْ سَلَكَهُ كَانَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَالْآخَرُ يَقُولُ : عَلَيَّ أَنْ أَدُلَّ الْخَلْقَ عَلَيْهِ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ . فَفِي كِلَا الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ بَيَّنَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ لَكِنَّ هَذَا جَعَلَ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ وَهَذَا جَعَلَ عَلَيْهِ اسْتِقَامَتَهُ - أَيْ بَيَانُ اسْتِقَامَتِهِ - وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ . وَلِهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَمْ يَجْعَلْهُ أَبُو الْفَرَجِ قَوْلًا رَابِعًا . وَذَكَرُوا الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى عَنْ يَعْقُوبَ وَغَيْرِهِ : أَيْ رَفِيعٌ . قَالَ البغوي : وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ " رَفِيعٌ أَنْ يُنَالَ مُسْتَقِيمٌ أَنْ يُمَالَ " .
قُلْت : الْقَوْلُ الصَّوَابُ هُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ - قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَنَحْوِهِ - فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ . لَا سِيَّمَا مُجَاهِدٌ . فَإِنَّهُ قَالَ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا " وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ . وَالْأَئِمَّةُ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ وَنَحْوِهِمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى تَفْسِيرِهِ . وَالْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَكْثَرُ مَا يَنْقُلُهُ مِنْ التَّفْسِيرِ يَنْقُلُهُ عَنْهُ . وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَعْلَمُ التَّابِعَيْنِ بِالْبَصْرَةِ . وَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ مُجَاهِدٍ ثَابِتٌ عَنْهُ . رَوَاهُ النَّاسُ كَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ . مِنْ تَفْسِيرِ وَرْقَاءَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } الْحَقُّ يَرْجِعُ إلَى اللَّهِ وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ لَا يُعَرَّجُ عَلَى شَيْءٍ . وَذَكَرَ عَنْ قتادة أَنَّهُ فَسَرَّهَا عَلَى قِرَاءَتِهِ - وَهُوَ يَقْرَأُ " عَلَيَّ " - فَقَالَ : أَيْ رَفِيعٌ مُسْتَقِيمٌ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا آيَةَ النَّحْلِ . فَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ وَرْقَاءَ . عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ { قَصْدُ السَّبِيلِ } قَالَ : طَرِيقُ الْحَقِّ عَلَى اللَّهِ . قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ السدي أَنَّهُ قَالَ : الْإِسْلَامُ . وَعَطَاءٌ قَالَ : هِيَ طَرِيقُ الْجَنَّةِ . فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ - قَوْلُ مُجَاهِدٍ والسدي وَعَطَاءٍ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ مِثْلُ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ تَفْسِيرِ العوفي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ
{ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } يَقُولُ : عَلَى اللَّهِ الْبَيَانُ - أَنْ يُبَيِّنَ الْهُدَى وَالضَّلَالَةَ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي آيَةِ الْحِجْرِ إلَّا قَوْلَ مُجَاهِدٍ فَقَطْ . وَابْنُ الْجَوْزِيِّ لَمْ يَذْكُرْ فِي آيَةِ النَّحْلِ إلَّا هَذَا الْقَوْلَ الثَّانِي وَذَكَرَهُ عَنْ الزَّجَّاجِ فَقَالَ : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } الْقَصْدُ : اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ - يُقَالُ : طَرِيقٌ قَصْدٌ وَقَاصِدٌ إذَا قُصِدَ بِك إلَى مَا تُرِيدُ قَالَ الزَّجَّاجُ : الْمَعْنَى وَعَلَى اللَّهِ تَبْيِينُ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَالدُّعَاءُ إلَيْهِ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ . وَكَذَلِكَ الثَّعْلَبِيُّ والبغوي وَنَحْوُهُمَا لَمْ يَذْكُرُوا إلَّا هَذَا الْقَوْلَ لَكِنْ ذَكَرُوهُ بِاللَّفْظَيْنِ . قَالَ البغوي : يَعْنِي بَيَانَ طَرِيقِ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالَةِ . وَقِيلَ : بَيَانَ الْحَقِّ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ . قَالَ : وَالْقَصْدُ : الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ { وَمِنْهَا جَائِرٌ } يَعْنِي وَمِنْ السَّبِيلِ مَا هُوَ جَائِرٌ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ مُعْوَجٌّ . فَالْقَصْدُ مِنْ السَّبِيلِ : دِينُ الْإِسْلَامِ وَالْجَائِرُ مِنْهَا : الْيَهُودِيَّةُ والنصرانية وَسَائِرُ مِلَلِ الْكُفْرِ .
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : قَصْدُ السَّبِيلِ : بَيَانُ الشَّرَائِعِ وَالْفَرَائِضِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَسَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : قَصْدُ السَّبِيلِ : السُّنَّةُ { وَمِنْهَا جَائِرٌ } الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ . دَلِيلُهُ : قَوْله تَعَالَى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } . وَلَكِنْ البغوي ذَكَرَ فِيهَا الْقَوْلَ الْآخَرَ ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى { إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } - عَنْ الْفَرَّاءِ كَمَا سَيَأْتِي . فَقَدْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ تَبَعًا لِمَنْ قَبْلَهُ كَالثَّعْلَبِيِّ وَغَيْرِهِ . والمهدوي ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى قَوْلَيْنِ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ مَا رَوَاهُ العوفي وَقَوْلًا آخَرَ . فَقَالَ : قَوْلُهُ { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } أَيْ عَلَى أَمْرِي وَإِرَادَتِي . وَقِيلَ : هُوَ عَلَى التَّهْدِيدِ كَمَا يُقَالُ " عَلَيَّ طَرِيقُك وَإِلَيَّ مَصِيرُك " . وَقَالَ فِي قَوْلِهِ : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَيْ بَيَانُ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ . وَقِيلَ : السَّبِيلُ الْإِسْلَامُ { وَمِنْهَا جَائِرٌ } أَيْ وَمِنْ السَّبِيلِ جَائِرٌ أَيْ عَادِلٌ عَنْ الْحَقِّ . وَقِيلَ الْمَعْنَى " وَعَنْهَا جَائِرٌ " أَيْ عَنْ السَّبِيلِ ف " مِنْ " بِمَعْنَى " عَنْ " . وَقِيلَ : مَعْنَى قَصْدُ السَّبِيلِ : سَيْرُكُمْ وَرُجُوعُكُمْ وَالسَّبِيلُ وَاحِدَةٌ بِمَعْنَى الْجَمْعِ .
قُلْت : هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ - جَعَلَ " الْقَصْدَ " بِمَعْنَى " الْإِرَادَةِ " أَيْ عَلَيْهِ قَصْدُكُمْ لِلسَّبِيلِ فِي ذَهَابِكُمْ وَرُجُوعِكُمْ . وَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الْآيَةَ . فَإِنَّ " السَّبِيلَ الْقَصْدَ " هِيَ السَّبِيلُ الْعَادِلَةُ أَيْ عَلَيْهِ السَّبِيلُ الْقَصْدُ . و " السَّبِيلُ " اسْمُ جِنْسٍ وَلِهَذَا قَالَ : { وَمِنْهَا جَائِرٌ } . أَيْ عَلَيْهِ الْقَصْدُ مِنْ السَّبِيلِ وَمِنْ السَّبِيلِ جَائِرٌ . فَأَضَافَهُ إلَى اسْمِ الْجِنْسِ إضَافَةَ النَّوْعِ إلَى الْجِنْسِ أَيْ " الْقَصْدُ مِنْ السَّبِيلِ " كَمَا تَقُولُ " ثَوْبُ خَزٍّ " . وَلِهَذَا قَالَ : { وَمِنْهَا جَائِرٌ } . وَأَمَّا مَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ " قَصْدُكُمْ السَّبِيلَ " فَهَذَا لَا يُطَابِقُ لَفْظَ الْآيَةِ وَنَظْمَهَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ . وَابْنُ عَطِيَّةَ لَمْ يَذْكُرْ فِي آيَةِ الْحِجْرِ إلَّا قَوْلَ الْكِسَائِيِّ وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ وَذَكَرَ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ تَفْسِيرًا لِلْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى . فَذَكَرَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ السَّلَفِ قَرَءُوا { عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } مِنْ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ . قَالَ : وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إلَى الْإِخْلَاصِ - لَمَّا اسْتَثْنَى إبْلِيسُ مَنْ أَخْلَصَ قَالَ اللَّهُ لَهُ : هَذَا الْإِخْلَاصُ طَرِيقٌ رَفِيعٌ مُسْتَقِيمٌ لَا تَنَالُ أَنْتَ بِإِغْوَائِك أَهْلَهُ . قَالَ : وَقَرَأَ جُمْهُورُ النَّاسِ { عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } . وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إلَى انْقِسَامِ النَّاسِ إلَى غَاوٍ وَمُخْلِصٍ . لَمَّا قَسَّمَ إبْلِيسُ هَذَيْنِ
الْقِسْمَيْنِ قَالَ اللَّهُ " هَذَا طَرِيقٌ عَلَيَّ " أَيْ هَذَا أَمْرٌ إلَيَّ مَصِيرُهُ . وَالْعَرَبُ تَقُولُ " طَرِيقُك فِي هَذَا الْأَمْرِ عَلَى فُلَانٍ " أَيْ إلَيْهِ يَصِيرُ النَّظَرُ فِي أَمْرِك . وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِهِ { إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } . قَالَ : وَالْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ وَعِيدًا . قُلْت : هَذَا قَوْلٌ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ - لَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا فِي نَظِيرِهَا . وَإِنَّمَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ لَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ مَعْنَى الْآيَةِ الَّذِي فَهِمَهُ السَّلَفُ وَدَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَالنَّظَائِرُ . وَكَلَامُ الْعَرَبِ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . فَإِنَّ الرَّجُلَ وَإِنْ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ يَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ " عَلَيَّ طَرِيقُك " فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ : إنَّ طَرِيقَك مُسْتَقِيمٌ . وَأَيْضًا فَالْوَعِيدُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمُسِيءِ لَا يَكُونُ لِلْمُخْلِصِينَ . فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ هَذَا " إشَارَةً إلَى انْقِسَامِ النَّاسِ إلَى غَاوٍ وَمُخْلِصٍ " وَطَرِيقُ هَؤُلَاءِ غَيْرُ طَرِيقِ هَؤُلَاءِ ؟ هَؤُلَاءِ سَلَكُوا الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ سَلَكُوا السَّبِيلَ الْجَائِرَةَ . وَأَيْضًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لِغَيْرِهِ فِي التَّهْدِيدِ " طَرِيقُك عَلَيَّ " مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ لَكِنَّ ذَاكَ يَمُرُّ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ كَمَا كَانَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ يَتَوَعَّدُونَ أَهْلَ مَكَّةَ بِأَنَّ " طَرِيقَكُمْ عَلَيْنَا " لَمَّا تَهَدَّدُوهُمْ بِأَنَّكُمْ آوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ . كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمَّا ذَهَبَ سَعْدٌ إلَى مَكَّةَ " لَا أَرَاك تَطُوفُ بِالْبَيْتِ آمِنًا وَقَدْ آوَيْتُمْ الصُّبَاةَ وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَنْصُرُونَهُمْ " فَقَالَ " لَئِنْ مَنَعْتنِي هَذَا لَأَمْنَعَنَّكَ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْك مِنْهُ - طَرِيقُك عَلَى الْمَدِينَةِ " أَوْ نَحْوَ هَذَا . فَذَكَرَ أَنَّ طَرِيقَهُمْ فِي مَتْجَرِهِمْ إلَى الشَّامِ عَلَيْهِمْ فَيَتَمَكَّنُونَ حِينَئِذٍ مِنْ جَزَائِهِمْ . وَمِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُقَالُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى . فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْعِبَادِ حَيْثُ كَانُوا كَمَا قَالَتْ الْجِنُّ { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا } وَقَالَ { وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ . } وَإِذَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ مَا ذَكَرَهُ : يَقُولُونَ " طَرِيقُك فِي هَذَا الْأَمْرِ عَلَى فُلَانٍ " أَيْ إلَيْهِ يَصِيرُ أَمْرُك فَهَذَا يُطَابِقُ تَفْسِيرَ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ : الْحَقُّ يَرْجِعُ إلَى اللَّهِ وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ لَا يُعَرَّجُ عَلَى شَيْءٍ . فَطَرِيقُ الْحَقِّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } كَمَا فُسِّرَتْ بِهِ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى . فَالصِّرَاطُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ هَذَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْ يَسْأَلُوهُ إيَّاهُ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَقُولُوا { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . وَهُوَ الَّذِي وَصَّى بِهِ فِي قَوْلِهِ { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . } وَقَوْلُهُ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } فَتَعَبُّدُ الْعِبَادِ لَهُ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ : طَرِيقٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ طَرِيقٌ مُسْتَقِيمٌ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ . } وَابْنُ عَطِيَّةَ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُخْرَى مُسْتَشْهِدًا بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي تَفْسِيرِهَا . فَهُوَ بِفِطْرَتِهِ عَرَفَ أَنَّ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ وَلَكِنَّهُ لَمَّا فَسَّرَهَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَوْلَ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ أَنْ رَأَى غَيْرَهُ قَدْ قَالَهُ هُنَاكَ . فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ . وَقَوْلُهُ { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ } . وَهَذِهِ أَيْضًا مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى . أَيْ عَلَى اللَّهِ تَقْوِيمُ طَرِيقِ الْهُدَى وَتَبْيِينُهُ - وَذَلِكَ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَبَعْثِ الرُّسُلِ . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمُتَأَوِّلُونَ . قَالَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ سَلَكَ السَّبِيلَ الْقَاصِدِ فَعَلَى اللَّهِ طَرِيقُهُ وَإِلَى ذَلِكَ مَصِيرُهُ . فَيَكُونُ هَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ
مُسْتَقِيمٌ } وَضِدُّ { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك } أَيْ لَا يُفْضِي إلَى رَحْمَتِك . وَطَرِيقٌ قَاصِدٌ مَعْنَاهُ : بَيِّنٌ مُسْتَقِيمٌ قَرِيبٌ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ : بَعِيدٌ عَنْ نَهْجِ الطَّرِيقِ الْقَاصِدِ قَالَ : وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي " السَّبِيلِ " لِلْعَهْدِ وَهِيَ سَبِيلُ الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ لِلْجِنْسِ وَلَوْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا جَائِرٌ . وَقَوْلُهُ { وَمِنْهَا جَائِرٌ } يُرِيدُ طَرِيقَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ كَعُبَّادِ الْأَصْنَامِ . وَالضَّمِيرُ فِي " مِنْهَا " يَعُودُ عَلَى " السَّبِيلِ " الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا مَعْنَى الْآيَةِ كَأَنَّهُ قَالَ " وَمِنْ السَّبِيلِ جَائِرٌ " فَأَعَادَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لِتَضَمُّنِ لَفْظَةِ " السَّبِيلِ " بِالْمَعْنَى لَهَا . قَالَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي " مِنْهَا " عَلَى " سَبِيلِ الشَّرْعِ " الْمَذْكُورَةِ وَيَكُونَ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ وَيَكُونَ الْمُرَادُ فِرَقَ الضَّلَالَةِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - كَأَنَّهُ قَالَ : وَمِنْ بِنْيَاتِ الطُّرُقِ مِنْ هَذِهِ السَّبِيل وَمِنْ شُعَبِهَا جَائِرٌ . ( قُلْت : سَبِيلُ أَهْلِ الْبِدَعِ جَائِرَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِيمَا ابْتَدَعُوا فِيهِ . وَلَا يُقَالُ إنَّ ذَلِكَ مِنْ السَّبِيلِ الْمَشْرُوعَةِ .
وَأَمَّا
قَوْلُهُ " إنَّ قَوْلَهُ : { قَصْدُ السَّبِيلِ } هِيَ سَبِيلُ الشَّرْعِ
وَهِيَ سَبِيلُ الْهُدَى وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ . وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ
لِلْجِنْسِ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا جَائِرٌ فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي
دَلَالَةِ الْآيَةِ وَهُوَ مَرْجُوحٌ . وَالصَّحِيحُ الْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ
" السَّبِيلَ " اسْمُ جِنْسٍ وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَى اللَّهِ هُوَ
الْقَصْدُ مِنْهَا وَهِيَ سَبِيلٌ وَاحِدٌ وَلَمَّا كَانَ جِنْسًا قَالَ {
وَمِنْهَا جَائِرٌ } وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَا ذَكَرَ بِلَا تَكَلُّفٍ .
وَقَوْلُهُ " لَوْ كَانَ لِلْجِنْسِ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا جَائِرٌ "
لَيْسَ كَذَلِكَ . فَإِنَّهَا لَيْسَتْ كُلُّهَا عَلَيْهِ بَلْ إنَّمَا عَلَيْهِ
الْقَصْدُ مِنْهَا وَهِيَ سَبِيلُ الْهُدَى وَالْجَائِرُ لَيْسَ مِنْ الْقَصْدِ .
وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ لِلْجِنْسِ يَكُونُ عَلَيْهِ قَصْدُ كُلِّ
سَبِيلٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . بَلْ إنَّمَا عَلَيْهِ سَبِيلٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ
الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ - هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ . وَسَائِرُهَا
سَبِيلُ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ
وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } . وَقَدْ
أَحْسَنَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ وَفِي تَمْثِيلِهِ ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } .
وَأَمَّا آيَةُ اللَّيْلِ - قَوْلُهُ { إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } - فَابْنُ
عَطِيَّةَ مَثَّلَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ لَكِنَّهُ فَسَّرَهَا بِالْوَجْهِ
الْأَوَّلِ فَقَالَ :
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ عَلَيْهِ هُدَى النَّاسِ جَمِيعًا أَيْ تَعْرِيفُهُمْ بِالسُّبُلِ كُلِّهَا وَمَنْحُهُمْ الْإِدْرَاكَ كَمَا قَالَ { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } ثُمَّ كُلُّ أَحَدٍ يَتَكَسَّبُ مَا قُدِّرَ لَهُ . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْهِدَايَةُ بِالْإِرْشَادِ إلَى الْإِيمَانِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ كَافِرٌ . قُلْت : وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - وَذَكَرَهُ عَنْ الزَّجَّاجِ . قَالَ الزَّجَّاجُ : إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ طَرِيقَ الْهُدَى مِنْ طَرِيقِ الضَّلَالِ . وَهَذَا التَّفْسِيرُ ثَابِتٌ عَنْ قتادة رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حَمِيدٍ . قَالَ : حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ شيبان عَنْ قتادة : { إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } عَلَيْنَا بَيَانُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِ سَعِيدٍ عَنْ قتادة فِي قَوْلِهِ { إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } يَقُولُ : عَلَى اللَّهِ الْبَيَانُ - بَيَانُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ . لَكِنَّ قتادة ذَكَرَ أَنَّهُ الْبَيَانُ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ فَتُبَيِّنُ بِهِ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَطَاعَتَهُ وَمَعْصِيَتَهُ . وَأَمَّا الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ والبغوي وَغَيْرُهُمْ فَذَكَرُوا الْقَوْلَيْنِ وَزَادُوا أَقْوَالًا أُخَرَ . فَقَالُوا - وَاللَّفْظُ للبغوي :
{ إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } يَعْنِي الْبَيَانَ . قَالَ الزَّجَّاجُ : عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ طَرِيقَ الْهُدَى مِنْ طَرِيقِ الضَّلَالَةِ . وَهُوَ قَوْلُ قتادة قَالَ : عَلَى اللَّهِ بَيَانُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ : يَعْنِي مَنْ سَلَكَ الْهُدَى فَعَلَى اللَّهِ سَبِيلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } يَقُولُ : مَنْ أَرَادَ اللَّهَ فَهُوَ عَلَى السَّبِيلِ الْقَاصِدِ . قَالَ : وَقِيلَ مَعْنَاهُ إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَالْإِضْلَالَ كَقَوْلِهِ " بِيَدِك الْخَيْرُ " قُلْت : هَذَا الْقَوْلُ هُوَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَمْ تُعْرَفْ عَنْ السَّلَفِ وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ . فَإِنَّهُمْ قَالُوا : مَعْنَاهُ بِيَدِك الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ { وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك } . وَاَللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ - لَا يَكُونُ فِي مِلْكِهِ إلَّا مَا يَشَاءُ - وَالْقَدَرُ حَقٌّ . لَكِنَّ فَهْمَ الْقُرْآنِ وَوَضْعَ كُلِّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ وَبَيَانَ حِكْمَةِ الرَّبِّ وَعَدْلِهِ مَعَ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ هُوَ طَرِيقُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَقَدْ ذَكَرَ المهدوي الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ فَقَالَ : إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى
وَالضَّلَالَ . فَحَذَفَ قتادة . الْمَعْنَى : إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَهْدِيَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهُدَى . قُلْت : هَذَا هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ لَكِنَّ عِبَارَةَ الْفَرَّاءِ أَبْيَنُ فِي مَعْرِفَةِ هَذَا الْقَوْلِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ جُمْهُورَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَسَّرُوا الْآيَاتِ الثَّلَاثَ بِأَنَّ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى اللَّهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِأَنَّ عَلَيْهِ بَيَانَ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ . وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ يَقُولُ طَائِفَةٌ : لَيْسَ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ - لَا بَيَانُ هَذَا وَلَا هَذَا . فَإِنَّهُمْ مُتَنَازِعُونَ هَلْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وَقَوْلِهِ { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلِهِ { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا . } وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ بَيَانُ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ وَبَيَانُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ فَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ عَلَيْهِ إرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْبَيَانَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهَذَا . وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ فَهُوَ وَاجِبٌ مِنْهُ
أَوْجَبَتْهُ مَشِيئَتُهُ وَحِكْمَتُهُ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . فَمَا شَاءَهُ وَجَبَ وُجُودُهُ وَمَا لَمْ يَشَأْهُ امْتَنَعَ وُجُودُهُ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَدَلَالَةُ الْآيَاتِ عَلَى هَذَا فِيهَا نَظَرٌ . وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَهُوَ مُرَادٌ مِنْ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ قَطْعًا وَأَنَّهُ أَرْشَدَ بِهَا إلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَهِيَ الطَّرِيقُ الْقَصْدُ وَهِيَ الْهُدَى إنَّمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ - وَهُوَ الْحَقُّ طَرِيقُهُ عَلَى اللَّهِ لَا يُعْرَجُ عَنْهُ . لَكِنْ نَشَأَتْ الشُّبْهَةُ مِنْ كَوْنِهِ قَالَ " عَلَيْنَا " بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ وَلَمْ يَقُلْ " إلَيْنَا " وَالْمَعْرُوفُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ يُشَارُ إلَيْهِ أَنْ يُقَالَ " هَذِهِ الطَّرِيقُ إلَى فُلَانٍ " وَلِمَنْ يَمُرُّ بِهِ وَيَجْتَازُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ " طَرِيقُنَا عَلَى فُلَانٍ " . وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ . وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ . فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مَصِيرُهُمْ وَمَرْجِعُهُمْ إلَى اللَّهِ عَلَى أَيِّ طَرِيقٍ سَلَكُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } وَقَالَ { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } { إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ } أَيْ إلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ وَقَالَ
{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ } { ثُمَّ رُدُّوا إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ } وَقَالَ { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى } { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى } { وَأَنَّ إلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } وَقَالَ { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } فَأَيُّ سَبِيلٍ سَلَكَهَا الْعَبْدُ فَإِلَى اللَّهِ مَرْجِعُهُ وَمُنْتَهَاهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى . } وَتِلْكَ الْآيَاتُ قُصِدَ بِهَا أَنَّ سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْهُدَى وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِي يَسْعَدُ أَصْحَابُهُ وَيَنَالُونَ بِهِ وِلَايَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ وَكَرَامَتَهُ فَيَكُونُ اللَّهُ وَلِيَّهُمْ دُونَ الشَّيْطَانِ . وَهَذِهِ سَبِيلُ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَأَطَاعَ رُسُلَهُ . فَلِهَذَا قَالَ { إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } . فَالْهُدَى وَقَصْدُ السَّبِيلِ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ - لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَطَاعَةِ الشَّيْطَانِ .
فَالْكَلَامُ
تَضَمَّنَ مَعْنَى " الدَّلَالَةِ " إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ ذِكْرَ
الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْجَزَاءَ يَعُمُّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ . بَلْ
الْمَقْصُودُ بَيَانُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ
وَطَاعَةِ رُسُلِهِ - مَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَكَأَنَّهُ قِيلَ :
الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ يَدُلُّ عَلَى اللَّهِ - عَلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ
. وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ "
هَذِهِ الطَّرِيقُ عَلَى فُلَانٍ " إذَا كَانَتْ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَكَانَ
هُوَ الْغَايَةَ الْمَقْصُودَ بِهَا ؛ وَهَذَا غَيْرُ كَوْنِهَا " عَلَيْهِ
" بِمَعْنَى أَنَّ صَاحِبَهَا يَمُرُّ عَلَيْهِ . وَقَدْ قِيلَ :
فَهُنَّ الْمَنَايَا أَيَّ وَادٍ سَلَكْته * * * عَلَيْهَا طَرِيقِي أَوْ عَلَيَّ
طَرِيقُهَا
وَهُوَ كَمَا قَالَ الْفَرَّاءُ : مَنْ سَلَكَ الْهُدَى فَعَلَى اللَّهِ سَبِيلُهُ
. فَالْمَقْصُودُ بِالسَّبِيلِ هُوَ : الَّذِي يَدُلُّ وَيُوقِعُ عَلَيْهِ كَمَا
يُقَالُ : إنْ سَلَكْت هَذِهِ السَّبِيلَ وَقَعْت عَلَى الْمَقْصُودِ وَنَحْوَ
ذَلِكَ وَكَمَا يُقَالُ " عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْت " . فَإِنَّ
الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ إذَا كَانَتْ عَظِيمَةً فَالسَّالِكُ يَقَعُ عَلَيْهَا
وَيَرْمِي نَفْسَهُ عَلَيْهَا . وَأَيْضًا فَسَالِكُ طَرِيقِ اللَّهِ مُتَوَكِّلٌ
عَلَيْهِ . فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَمِنْ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ .
فَإِذَا قِيلَ " عَلَيْهِ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ " تَضَمَّنَ أَنَّ
سَالِكَهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ
وَعَلَيْهِ تَدُلُّهُ الطَّرِيقُ وَعَلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ يَقَعُ وَيَسْقُطُ لَا يَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ إلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ دُونَ حَرْفِ الْغَايَةِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . فَعَلَيْهِ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ
النَّحْلِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
اللِّبَاسُ لَهُ مَنْفَعَتَانِ : إحْدَاهُمَا : الزِّينَةُ بِسَتْرِ السَّوْأَةِ .
وَالثَّانِيَةُ : الْوِقَايَةُ لِمَا يَضُرُّ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ عَدُوٍّ
. فَذَكَرَ اللِّبَاسَ فِي ( سُورَةِ الْأَعْرَافِ ) لِفَائِدَةِ الزِّينَةِ
وَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وَقَالَ : { يَا بَنِي
آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ } وَقَالَ : {
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ
مِنَ الرِّزْقِ } رَدًّا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ
تَحْرِيمِ الطَّوَافِ فِي الثِّيَابِ الَّذِي قَدِمَ بِهَا غَيْرُ الْحُمْسِ
وَمِنْ أَكْلِ مَا سَلَّوْهُ مِنْ الْأَدْهَانِ .
وَذَكَرَهُ فِي النَّحْلِ لِفَائِدَةِ الْوِقَايَةِ فِي قَوْلِهِ : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ حَيَوَانِيَّةً طَبِيعِيَّةً لَا قِوَامَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا بِهَا جَعَلَهَا مِنْ النِّعَمِ وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ فَائِدَةً كَمَالِيَّةً قَرَنَهَا بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَتِلْكَ الْفَائِدَةُ مِنْ بَابِ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ بِالتَّزَيُّنِ وَهَذِهِ مِنْ بَابِ دَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَالنَّاسُ إلَى هَذِهِ أَحْوَجُ . فَأَمَّا قَوْلُهُ : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } وَلَمْ يَذْكُرْ " الْبَرْدَ " فَقَدْ قِيلَ لِأَنَّ التَّنْزِيلَ كَانَ بِالْأَرْضِ الْحَارَّةِ فَهُمْ يَتَخَوَّفُونَهُ وَقِيلَ : حُذِفَ الْآخَرُ لِلْعِلْمِ بِهِ وَيُقَالُ هَذَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَقِي الْحَرَّ فَالِامْتِنَانُ بِمَا يَقِي الْبَرْدَ أَعْظَمُ ؛ لِأَنَّ الْحَرَّ أَذًى ؛ وَالْبَرْدَ بُؤْسٌ وَالْبَرْدُ الشَّدِيدُ يَقْتُلُ وَالْحَرُّ قَلَّ أَنْ يَقَعَ فِيهِ هَكَذَا فَإِنَّ بَابَ التَّنْبِيهِ وَالْقِيَاسِ كَمَا يَكُونُ فِي خِطَابِ الْأَحْكَامِ يَكُونُ فِي خِطَابِ الْآلَاءِ وَخِطَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا قُلْته فِي قَوْلِهِ : { لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا } مِثْلُهُ مَنْ يَقُولُ لَا تَنْفِرُوا فِي الْبَرْدِ فَإِنَّ جَهَنَّمَ أَشَدُّ زَمْهَرِيرًا " وَمَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ " فَالْوَحْلُ وَالثَّلْجُ أَعْظَمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَفِي الْآيَةِ شَرَعَ لِبَاسَ جُنَنِ الْحَرْبِ ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ مَنْ قَرَنَ بَابَ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي بِالصَّلَاةِ لِأَنَّ لِلْحَرْبِ لِبَاسًا مُخْتَصًّا مَعَ اللِّبَاسِ الْمُشْتَرَكِ وَطَابَقَ قَوْلُهُمْ اللِّبَاسُ وَالتَّحَلِّي قَوْلَهُ : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَلُؤْلُؤًا
وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } . وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُ وِقَايَةِ الْبَرْدِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ : { وَالْأَنْعَامَ
خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } فَيُقَالُ
لِمَ فَرَّقَ هَذَا ؟ فَيُقَالُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ
السُّورَةِ النِّعَمُ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي لَا يَقُومُونَ بِدُونِهَا : مِنْ
الْأَكْلِ وَشُرْبِ الْمَاءِ الْقَرَاحِ وَدَفْعِ الْبَرْدِ وَالرُّكُوبِ الَّذِي
لَا بُدَّ مِنْهُ فِي النُّقْلَةِ وَفِي آخِرِهَا ذَكَرَ كَمَالَ النِّعَمِ : مِنْ
الْأَشْرِبَةِ الطَّيِّبَةِ وَالسُّكُونِ فِي الْبُيُوتِ وَبُيُوتِ الْأُدْمِ
وَالِاسْتِظْلَالِ بِالظِّلَالِ وَدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَأْسِ بِالسَّرَابِيلِ
فَإِنَّ هَذَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ . فَفِي الْأَوَّلِ الْأُصُولُ
وَفِي الْآخَرِ الْكَمَالُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } .
وأَيْضًا : فَالْمَسَاكِنُ لَهَا مَنْفَعَتَانِ : إحْدَاهُمَا السُّكُونُ فِيهَا
لِأَجْلِ الِاسْتِتَارِ فَهِيَ كَلِبَاسِ الزِّينَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَالثَّانِي : وِقَايَةُ الْأَذَى مِنْ الشَّمْسِ وَالْمَطَرِ وَالرِّيحِ وَنَحْوَ
ذَلِكَ فَجَمَعَ اللَّهُ الِامْتِنَانَ بِهَذَيْنِ فَقَالَ : { وَاللَّهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } هَذِهِ بُيُوتُ الْمَدَرِ { وَجَعَلَ لَكُمْ
مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ
إقَامَتِكُمْ } هَذِهِ بُيُوتُ الْعَمُودِ { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا
أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ } يَدْخُلُ فِيهِ أُهْبَةُ الْبَيْتِ مِنْ
الْبُسُطِ وَالْأَوْعِيَةِ وَالْأَغْطِيَةِ وَنَحْوِهَا وَقَالَ { مِنْ
بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } وَلَمْ يَقُلْ مِنْ الْمَدَرِ بُيُوتًا كَمَا قَالَ : {
مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا } لِأَنَّ السَّكَنَ بَيَانُ مَنْفَعَةِ
الْبَيْتِ فَبِهِ تَظْهَرُ النِّعْمَةُ وَاِتِّخَاذُ
الْبُيُوتِ مِنْ الْمَدَرِ مُعْتَادٌ فَالنِّعْمَةُ بِظُهُورِ أَثَرِهَا ؛ بِخِلَافِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّ الْهِدَايَةَ إلَى اتِّخَاذِ الْبُيُوتِ مِنْ جُلُودِهَا أَظْهَرُ مِنْ الْهِدَايَةِ إلَى نَفْسِ اتِّخَاذِ الْبُيُوتِ . وَأَمَّا فَائِدَةُ الْوِقَايَةِ فَقَالَ : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } فَالظِّلَالُ يَعُمُّ جَمِيعَ مَا يَظِلُّ مِنْ الْعَرْشِ وَالْفَسَاطِيطِ وَالسُّقُوفِ مِمَّا يَصْطَنِعُهُ الْآدَمِيُّونَ وَقَوْلُهُ : { مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } لِأَنَّ الْجَبَلَ يَكِنُّ الْإِنْسَانَ مِنْ فَوْقِهِ وَيَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَأَسْفَلِ مِنْهُ لَيْسَ مَقْصُودُهُ الِاسْتِظْلَالَ ؛ بِخِلَافِ الظِّلَالِ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا الِاسْتِظْلَالُ ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ بِهَذِهِ مَا فِي السَّرَابِيلِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْوِقَايَةِ فَجَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ وِقَايَةِ اللِّبَاسِ الْمُنْتَقِلِ مَعَ الْبَدَنِ وَوِقَايَةِ الظِّلَالِ الثَّابِتَةِ عَلَى الْأَرْضِ ؛ وَلِهَذَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَوُّونَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَكَمَا نَهَى عَنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ نَهَوْهُ عَنْ الدُّخُولِ تَحْتَ سَقْفٍ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا } . وَجَازَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِالثَّابِتِ مِنْ الْخِيَامِ وَالشَّجَرِ وَأَمَّا الشَّيْءُ الْمُنْتَقِلُ مَعَهُ الْمُتَّصِلُ كَالْمَحْمَلِ فَفِيهِ مَا فِيهِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ السَّرَابِيلِ وَبَيْنَ الْمُسْتَقِرِّ مِنْ الظِّلَالِ وَالْأَكِنَّةِ . كَمَا أَنَّهُ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ ذَكَرَ أَصْنَافَ الْأَشْرِبَةِ مِنْ اللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ وَذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الْمَرَاكِبَ وَالْأَطْعِمَةَ وَهَذِهِ مَجَامِعُ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَرَاكِبِ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِّ } الْآيَتَيْنِ . لَفْظُ " الْإِنْزَالِ " فِي الْقُرْآنِ
يَرِدُ " مُقَيَّدًا " بِأَنَّهُ مِنْهُ كَالْقُرْآنِ وَبِالْإِنْزَالِ
مِنْ السَّمَاءِ وَيُرَادُ بِهِ الْعُلُوُّ كَالْمَطَرِ و " مُطْلَقًا "
فَلَا يَخْتَصُّ بِنَوْعِ (*) ؛ بَلْ يَتَنَاوَلُ إنْزَالَ الْحَدِيدِ مِنْ
الْجِبَالِ وَالْإِنْزَالَ مِنْ ظُهُورِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ
: { نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } بَيَانٌ لِنُزُولِ جِبْرِيلَ بِهِ
مِنْ اللَّهِ كَقَوْلِهِ : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } أَيْ أَنَّهُ
مُؤْتَمَنٌ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ؛ فَإِنَّ الْخَائِنَ قَدْ يُغَيِّرُ
الرِّسَالَةَ . وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أُمُورٍ . مِنْهَا : بُطْلَانُ قَوْلِ
مَنْ زَعَمَ خَلْقَهُ فِي جِسْمٍ كالْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ
وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ يُسَمُّونَ مَنْ قَالَ بِخَلْقِهِ وَنَفَى
الصِّفَاتِ وَالرُّؤْيَةَ جهميا ؛ فَإِنَّ جَهْمًا أَوَّلُ مَنْ ظَهَرَتْ عَنْهُ
بِدْعَةُ نَفْيِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ فَلَهُ مَزِيَّةُ
الْمُبَالَغَةِ وَالِابْتِدَاءِ بِكَثْرَةِ إظْهَارِهِ وَإِنْ كَانَ جَعْدٌ
سَبَقَهُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَإِنْ وَافَقُوهُ فِي
الْبَعْضِ فَهُمْ يُخَالِفُونَهُ فِي مِثْلِ مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْقَدَرِ
وَبَعْضِ الصِّفَاتِ وَجَهْمٌ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَا
يَتَكَلَّمُ أَوْ يَتَكَلَّمُ مَجَازًا وَهُمْ يَقُولُونَ يَتَكَلَّمُ حَقِيقَةً وَلَكِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ وَهُوَ يَنْفِي الْأَسْمَاءَ كَالْبَاطِنِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ . وَمِنْهَا : بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فَاضَ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ أَوْ غَيْرِهِ وَهَذَا أَعْظَمُ كُفْرًا وَضَلَالًا مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ . وَمِنْهَا إبْطَالُ قَوْلِ الْأَشْعَرِيَّةِ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنَى وَهَذَا الْعَرَبِيُّ خُلِقَ لِيَدُلَّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قَالُوا : خُلِقَ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ أَوْ أَلْهَمَهُ جِبْرِيلَ أَوْ أَخَذَهُ مِنْ اللَّوْحِ فَإِنَّ هَذَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَوَّلًا وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ ؛ لَكِنْ يُفَارِقُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ الْمَخْلُوقُ كَلَامُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّهُ كَلَامٌ مَجَازًا وَهَذَا أَشَرُّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ ؛ بَلْ هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ ؛ لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يُوَافِقُونَهُمْ فِي الْمَعْنَى . الثَّانِي : أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلَّهِ كَلَامٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَالْخِلْقِيَّةُ يَقُولُونَ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ ؛ فَإِنَّ الْكُلَّابِيَة خَيْرٌ مِنْهُمْ فِي الظَّاهِرِ ؛ لَكِنْ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُثْبِتُوا كَلَامًا لَهُ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْآيَةَ تُبْطِلُ هَذَا و " الْقُرْآنُ " اسْمٌ لِلْعَرَبِيِّ لِقَوْلِهِ : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { نَزَّلَهُ } عَائِدٌ إلَى قَوْلِهِ : { وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } فَاَلَّذِي نَزَّلَهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ وَأَيْضًا قَالَ : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ } الْآيَةُ وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّمَا يُعَلِّمُ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ بَشَرٌ لِقَوْلِهِ : { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ } - إلَخْ فَعُلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُؤَلِّفْ نَظْمًا بَلْ سَمِعَهُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ وَرُوحُ الْقُدُسِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ لَمْ يُؤَلِّفْهُ هُوَ . وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ : { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا } و " الْكِتَابُ " اسْمٌ لِلْقُرْآنِ بِالضَّرُورَةِ وَالِاتِّفَاقِ ؛ فَإِنَّهُمْ أَوْ بَعْضَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ كِتَابِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ وَلَفْظُ " الْكِتَابِ " يُرَادُ بِهِ الْمَكْتُوبُ فِيهِ فَيَكُونُ هُوَ الْكَلَامُ وَيُرَادُ بِهِ مَا يُكْتَبُ فِيهِ كَقَوْلِهِ : { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } وَقَوْلِهِ : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } وَقَوْلُهُ : { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } إخْبَارٌ مُسْتَشْهَدٌ بِهِمْ فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ مِنَّا فَهُمْ خَيْرٌ مِنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يُنَافِي أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ قَبْلَ نُزُولِهِ سَوَاءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَ بِهِ جِبْرِيلَ أَوْ بَعْدَهُ . فَإِذَا أُنْزِلَ جُمْلَةً إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فَقَدْ كَتَبَهُ كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَهُ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ وَهُوَ قَدْ كَتَبَ الْمَقَادِيرَ وَأَعْمَالَ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا ثُمَّ يَأْمُرُ بِكِتَابَتِهَا بَعْدَ أَنْ يَعْمَلُوهَا فَيُقَابِلُ بَيْنَ
الْكِتَابَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْمُتَأَخِّرَةِ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ . فَإِذَا كَانَ مَا يَخْلُقُهُ بَائِنًا عَنْهُ قَدْ كَتَبَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ فَكَيْفَ لَا يَكْتُبُ كَلَامَهُ الَّذِي يُرْسِلُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهُمْ ؟ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ جبرائيل أَخَذَهُ عَنْ الْكِتَابِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ . مِنْهَا : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَتَبَ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى بِيَدِهِ ؛ فَبَنُو إسْرَائِيلَ أَخَذُوا كَلَامَهُ مِنْ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ وَمُحَمَّدٌ عَنْ جِبْرِيلَ عَنْ الْكِتَابِ فَهُمْ أَعْلَى بِدَرَجَةِ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ أَلْقَى إلَى جِبْرِيلَ مَعَانِيَ وَعَبَّرَ بِالْعَرَبِيِّ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَلْهَمَهُ إلْهَامًا وَهَذَا يَكُونُ لِآحَادِ الْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } { وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى } فَيَكُونُ هَذَا أَعْلَى مِنْ أَخْذِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ : عَلَى أَنَّهُ يُكَلِّمُ الْعَبْدَ تَكْلِيمًا زَائِدًا عَلَى الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ التَّكْلِيمِ الْخَاصِّ . فَإِنَّ لَفْظَ التَّكْلِيمِ وَالْوَحْيِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَنْقَسِمُ إلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ فَالتَّكْلِيمُ
الْعَامُّ هُوَ الْمَقْسُومُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } الْآيَةُ . فَالتَّكْلِيمُ الْمُطْلَقُ قَسِيمُ الْوَحْيِ الْخَاصِّ لَا قِسْمًا مِنْهُ وَكَذَلِكَ الْوَحْيُ يَكُونُ عَامًّا فَيَدْخُلُ فِيهِ التَّكْلِيمُ الْخَاصُّ كَقَوْلِهِ : { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } . وَيَكُونُ قَسِيمًا لَهُ كَمَا فِي الشُّورَى وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَامِّ وَمَا لِمُوسَى . وَفَرَّقَ سُبْحَانَهُ فِي " الشُّورَى " بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَبَيْنَ إرْسَالِ رَسُولٍ فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ .
سُورَةُ
الْإِسْرَاءِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالى { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ
دُونِهِ } الْآيَتَيْنِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مِنْ السَّلَفِ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ
مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ الْإِنْسِ ؛
وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ الْجِنِّ . لَفْظُ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ
جِنْسَ الْمُرَادِ مِنْ الْآيَةِ عَلَى التَّمْثِيلِ كَمَا يَقُولُ التُّرْجُمَانُ
لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ الْخُبْزِ فَيُرِيهِ رَغِيفًا وَالْآيَةُ هُنَا قُصِدَ بِهَا
التَّعْمِيمُ لِكُلِّ مَا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ دَعَا مَيِّتًا
أَوْ غَائِبًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ
الِاسْتِغَاثَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَقَدْ تَنَاوَلَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ كَمَا
تَتَنَاوَلُ مَنْ دَعَا الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ
يَكُونُونَ وَسَائِطَ فِيمَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ بِأَفْعَالِهِمْ وَمَعَ هَذَا
فَقَدْ نَهَى عَنْ دُعَائِهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ
عَنْ الدَّاعِينَ وَلَا تَحْوِيلَهُ لَا يَرْفَعُونَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا
يُحَوِّلُونَهُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ أَوْ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ
كَتَغْيِيرِ صِفَتِهِ أَوْ قَدْرِهِ وَلِهَذَا قَالَ : { وَلَا تَحْوِيلًا }
فَذَكَرَ نَكِرَةً تَعُمُّ أَنْوَاعَ التَّحْوِيلِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } كَانَ أَحَدُهُمْ إذَا نَزَلَ بِوَادٍ يَقُولُ : أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَائِهِ فَقَالَتْ الْجِنُّ : الْإِنْسُ تَسْتَعِيذُ بِنَا فَزَادُوهُمْ رَهَقًا وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الِاسْتِعَاذَةُ بِمَخْلُوقِ وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَأَمَرَ بِذَلِكَ فَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتَ خَيْرُ مُسْتَعَاذٍ يُسْتَعَاذُ بِهِ أَوْلَى . فَالِاسْتِعَاذَةُ وَالِاسْتِجَارَةُ ؛ وَالِاسْتِغَاثَةُ : كُلُّهَا مِنْ نَوْعِ الدُّعَاءِ أَوْ الطَّلَبِ وَهِيَ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ . وَلَمَّا كَانَتْ الْكَعْبَةُ بَيْتَ اللَّهِ الَّذِي يُدْعَى وَيُذْكَرُ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُسْتَجَارُ بِهِ هُنَاكَ وَقَدْ يُسْتَمْسَكُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ كَمَا يَتَعَلَّقُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَذْيَالِ مَنْ يَسْتَجِيرُ بِهِ كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ : إنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمِ وَلَا فَارًّا بِخَرِبَةِ . وَفِي الصَّحِيحِ : { يَعُوذُ عَائِذٌ بِهَذَا الْبَيْتِ } . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الضَّالِّينَ يَسْتَغِيثُونَ بِمَنْ يُحْسِنُونَ بِهِ الظَّنَّ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقْضِيَ لَهُمْ أَكْثَرَ مَطَالِبِهِمْ كَمَا أَنَّ مَا تُخْبِرُ بِهِ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ يَكْذِبُونَ فِي أَكْثَرِهِ ؛ بَلْ يَصْدُقُونَ فِي وَاحِدَةٍ وَيَكْذِبُونَ فِي أَضْعَافِهَا وَيَقْضُونَ لَهُمْ حَاجَةً وَاحِدَةً وَيَمْنَعُونَهُمْ أَضْعَافَهَا
يَكْذِبُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَأَعَانُوا عَلَيْهِ لِإِفْسَادِ حَالِ الرِّجَالِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَيَكُونُ فِيهِ شُبْهَةً لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا يُخْبِرُ الْكَاهِنُ وَنَحْوُهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الرَّسُولَ مُبَلِّغًا لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الرُّسُلَ وَال