الأربعاء، 20 أبريل 2022

ج 25 و26-مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

 

25- مجموع الفتاوى  لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

== لَمَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ : عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّهِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَكِلَاهُمَا بَلَغَهُ وَقَرَأَهُ فَقَوْلُهُ : { وَيَتْلُوهُ } جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ تَكْرِيرٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ . وَأَيْضًا فَكَوْنُهُ عَلَى الْقُرْآنِ لَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ نَظِيرًا فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ : أَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ إخْبَارُهُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ . وَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ قَبْلَهَا إلَّا بَعْضُهُ وَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ حِينَئِذٍ هُوَ الْإِيمَانُ بِمَا نَزَلَ مِنْهُ فَمَنْ آمَنَ حِينَئِذٍ بِذَلِكَ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . وَأَيْضًا فَتَسْمِيَةُ جِبْرِيلَ شَاهِدًا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ تَسْمِيَةُ لِسَانِ الرَّسُولِ شَاهِدًا وَتَسْمِيَةُ عَلِيٍّ شَاهِدًا لَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكُتَّابِ وَالسُّنَّةِ بِخِلَافِ شَهَادَةِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِشَهَادَتِهِ لِرَسُولِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَسَمَّى مَا أَنْزَلَهُ شَهَادَةً مِنْهُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَأَخْبَرَ فِيهِ بِمَا أَخْبَرَ شَهَادَةً مِنْهُ .

وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَحْكُمُ وَيَشْهَدُ وَيُفْتِي وَيَقُصُّ وَيُبَشِّرُ وَيَهْدِي بِكَلَامِهِ وَيَصِفُ كَلَامَهُ بِأَنَّهُ يَحْكُمُ وَيُفْتِي وَيَقُصُّ وَيَهْدِي وَيُبَشِّرُ وَيُنْذِرُ كَمَا قَالَ : { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } وَقَالَ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } وَقَالَ : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } وَقَالَ : { قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } وَقَالَ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } . وَكَذَلِكَ سَمَّى الرَّسُولَ هَادِيًا فَقَالَ : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } كَمَا سَمَّاهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَسَمَّى الْقُرْآنَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ هُوَ يَشْهَدُ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِكَلَامِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَكَانَ كَلَامُهُ شَهَادَةً مِنْهُ : كَانَ كَلَامُهُ شَاهِدًا مِنْهُ كَمَا كَانَ يَحْكُمُ وَيُفْتِي وَيَقُصُّ وَيُبَشِّرُ وَيُنْذِرُ . وَلَمَّا قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَكَّمْت مَخْلُوقًا قَالَ : مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا وَإِنَّمَا حَكَّمْت الْقُرْآنَ . فَإِنَّ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ وَاَلَّذِي يَشْهَدُ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ شَهَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ - وَقَدْ كَانَ إمَامًا وَأَخَذَ التَّفْسِيرَ عَنْ أَبِيهِ زَيْدٍ وَكَانَ زَيْدٌ إمَامًا فِيهِ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَخَذُوا عَنْهُ التَّفْسِيرَ وَأَخَذَهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ

ابْنُ وَهْبٍ صَاحِبُ مَالِكٍ وأصبغ بْنُ الْفَرَجِ الْفَقِيهُ . قَالَ - فِي قَوْله تَعَالَى { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ " وَالْقُرْآنُ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ اللَّهِ . وَقَدْ ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ : وَيَتْلُو رَسُولُ اللَّهِ الْقُرْآنَ وَهُوَ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } هُوَ مُحَمَّدٌ { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } الْقُرْآنُ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ وقتادة والسدي وخصيف وَابْنِ عُيَيْنَة نَحْوُ ذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ صَحِيحٌ ؛ وَلَكِنْ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ لَيْسُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ ؛ بَلْ هُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ . وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } قَالَ : الْمُؤْمِنُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرُوِيَ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } يَعْنِي مُحَمَّدًا شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ ؛ وَهِيَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَى الْبَيِّنَةِ مَنْ شَهِدَ لَهُ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : مَنْ قَالَ هُوَ مُحَمَّدٌ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ هُوَ جِبْرِيلُ ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا بَلَّغَ الْقُرْآنَ وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ

فَاصْطَفَى جِبْرِيلَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَاصْطَفَى مُحَمَّدًا مِنْ النَّاسِ . وَقَالَ فِي جِبْرِيلَ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وَقَالَ فِي مُحَمَّدٍ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وَكِلَاهُمَا رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ ؛ كَمَا قَالَ { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } { رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } فَكِلَاهُمَا رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ بَلَّغَ مَا أُرْسِلَ بِهِ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَمَّا شَهَادَتُهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ فَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ كُلِّ مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِكُلِّ مَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ ؛ لِكَوْنِهِ آمَنَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ بَلَّغَهُ أَوْ لَمْ يُبَلِّغْهُ . وَلِهَذَا كَانَ إيمَانُ الرَّسُولِ بِمَا جَاءَ بِهِ غَيْرَ تَبْلِيغِهِ لَهُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَذَا وَبِهَذَا وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى هَذَا وَهَذَا كَمَا قَالَ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَشَهَادَةُ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ بِمَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ جِهَةِ إيمَانِهِمَا بِهِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِمَا مُرْسَلَيْنِ بِهِ فَإِنَّ الْإِرْسَالَ بِهِ يَتَضَمَّنُ شَهَادَتَهُمَا أَنَّ اللَّهَ قَالَهُ وَقَدْ يُرْسِلُ غَيْرَ رَسُولٍ بِشَيْءِ فَيَشْهَدُ الرَّسُولُ أَنَّ هَذَا كَلَامُ الْمُرْسِلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُرْسَل صَادِقًا وَلَا حَكِيمًا ؛ وَلَكِنْ عُلِمَ أَنَّ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدًا يَعْلَمَانِ أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ حَكِيمٌ فَهُمَا يَشْهَدَانِ بِمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ . وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ يَشْهَدُونَ بِأَنَّ مَا قَالَهُ اللَّهُ فَهُوَ حَقٌّ

وَأَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ حَكِيمٌ لَا يُخْبِرُ إلَّا بِصِدْقِ وَلَا يَأْمُرُ إلَّا بِعَدْلِ { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ شَهَادَةَ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ هِيَ شَهَادَةُ الْقُرْآنِ وَشَهَادَةُ الْقُرْآنِ هِيَ شَهَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقُرْآنُ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَهَذَا الشَّاهِدُ يُوَافِقُ وَيَتَّبِعُ ذَلِكَ الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ؛ فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ وَالْبَصِيرَةَ وَالنُّورَ وَالْهُدَى الَّذِي عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ قَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ مِنْ اللَّهِ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ . { وَيَتْلُوهُ } مَعْنَاهُ يَتَّبِعُهُ كَمَا قَالَ : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } أَيْ يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ وَقَالَ : { وَالْقَمَرِ إذَا تَلَاهَا } أَيْ تَبِعَهَا وَهَذَا قَفَاهُ إذَا تَبِعَهُ . وَقَدْ قَالَ : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } فَهَذَا الشَّاهِدُ يَتْبَعُ الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَيُصَدِّقُهُ وَيُزَكِّيهِ وَيُؤَيِّدُهُ وَيُثْبِتُهُ كَمَا قَالَ : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا } وَقَالَ : { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } وَقَالَ : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } . وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ سُلْطَانًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَإِذَا كَانَ السُّلْطَانُ الْمُنَزَّلُ مِنْ اللَّهِ يَتْبَعُ هَذَا الْمُؤْمِنَ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ قُوَّتَهُ وَتَسَلُّطَهُ عِلْمًا وَعَمَلًا وَقَالَ : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ }

{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا } الْآيَةُ . وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا فَهُمْ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْإِيمَانَ ثُمَّ يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قَالَ : نُورُ الْقُرْآنِ عَلَى نُورِ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ : { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وَقَالَ السدي فِي قَوْلِهِ : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } نُورُ الْقُرْآنِ وَنُورُ الْإِيمَانِ حِينَ اجْتَمَعَا فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِصَاحِبِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } يَعْنِي هُدَى الْإِيمَانِ { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } أَيْ مِنْ اللَّهِ يَعْنِي الْقُرْآنَ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ يُوَافِقُ الْإِيمَانَ وَيَتْبَعُهُ وَقَالَ : { يَتْلُوهُ } لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْإِيمَانُ وَزِيَادَتُهُ . وَلِهَذَا كَانَ الْإِيمَانُ بِدُونِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ وَالْقُرْآنُ بِلَا إيمَانٍ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ ؛ بَلْ صَاحِبُهُ مُنَافِقٌ ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ

وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا } " . وَلِهَذَا جَعَلَ الْإِيمَانَ " بَيِّنَةً " وَجَعَلَ الْقُرْآنَ شَاهِدًا ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْبَيَانِ و " الْبَيِّنَةُ " هِيَ السَّبِيلُ الْبَيِّنَةُ وَهِيَ الطَّرِيقُ الْبَيِّنَةُ الْوَاضِحَةُ وَهِيَ أَيْضًا مَا يُبِينُ بِهَا الْحَقُّ فَهِيَ بَيِّنَةٌ فِي نَفْسِهَا مُبَيِّنَةٌ لِغَيْرِهَا وَقَدْ تُفَسَّرُ بِالْبَيَانِ وَهِيَ الدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ ؛ فَتَكُونُ كَالْهُدَى كَمَا يُقَالُ : فُلَانٌ عَلَى هُدًى وَعَلَى عِلْمٍ ؛ فَيُفَسَّرُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَالصِّفَةِ وَالْفَاعِلِ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } أَيْ بَيَانُ مَا فِيهَا أَوْ يُبَيِّنُ مَا فِيهَا أَوْ الْأَمْرُ الْبَيِّنُ فِيهَا وَقَدْ سَمَّى الرَّسُولَ بَيِّنَةً كَمَا قَالَ : { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } { رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ } فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَالْمُؤْمِنُ عَلَى سَبِيلٍ بَيِّنَةٍ وَنُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَالشَّاهِدُ الْمَقْصُودُ بِهِ شَهَادَتُهُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَجُعِلَ الْإِيمَانُ مِنْ اللَّهِ كَمَا جُعِلَ الشَّاهِدُ مِنْ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْإِيمَانَ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْإِيمَانَ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ فَعَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ } " . وَأَيْضًا : فَالْإِيمَانُ مَا قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ . وَأَيْضًا فَالْإِيمَانُ إنَّمَا هُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَهَذَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ لَكِنَّ الرَّسُولَ لَهُ وَحْيَانِ وَحْيٌ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ يُتْلَى وَوَحْيٌ لَا يُتْلَى فَقَالَ :

{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } الْآيَةُ . وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ . وَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : { جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } يَعُودُ إلَى الْإِيمَانِ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقِيلَ : إلَى الْقُرْآنِ . وَهُوَ قَوْلُ السدي وَهُوَ يَتَنَاوَلُهُمَا وَهُوَ فِي اللَّفْظِ يَعُودُ إلَى الرُّوحِ الَّذِي أَوْحَاهُ وَهُوَ الْوَحْيُ الَّذِي جَاءَ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ كِلَاهُمَا مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَهُدًى وَمِنْهُ هَذَا يُعْقَلُ بِالْقَلْبِ ؛ لِمَا قَدْ يُشَاهَدُ مِنْ دَلَائِلِ الْإِيمَانِ مِثْلَ دَلَائِلِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَهَذَا يَسْمَعُ بِالْآذَانِ وَالْإِيمَانِ الَّذِي جُعِلَ لِلْمُؤْمِنِ هُوَ مِثْلُ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ فَهَذِهِ الْآيَاتُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِثْلُ مَا فَعَلَ مِنْ نَصْرِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرَ يَوْمِ بَدْرٍ فَإِنَّهُ آيَاتٌ مُشَاهَدَةٌ صَدَّقَتْ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ وَلَكِنْ الْمُؤْمِنُونَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا قَبْلَ هَذَا . وَقِيلَ : نُزُولُ أَكْثَرِ الْقُرْآنِ الَّذِي ثَبَّتَ اللَّهُ بِهِ لِنَبِيِّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } فَهُوَ يَشْهَدُ لِرَسُولِهِ بِأَنَّهُ صَادِقٌ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَتِلْكَ آمَنَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ شَاهِدًا لَهُ ثُمَّ أَظْهَرَ آيَاتٍ مُعَايَنَةٍ تُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ .

فَالْقُرْآنُ وَافَقَ الْإِيمَانَ وَالْآيَاتُ الْمُسْتَقْبَلَةُ وَافَقَتْ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً } فَقَوْلُهُ : { وَمِنْ قَبْلِهِ } يَعُودُ الضَّمِيرُ إلَى الشَّاهِدِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } الْآيَةُ ثُمَّ قَالَ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً } الْآيَةُ . فَقَوْلُهُ { وَمِنْ قَبْلِهِ } الضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ أَيْ : مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ . وَقِيلَ : يَعُودُ إلَى الرَّسُولِ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ . وَقَوْلُهُ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } فِيهِ وَجْهَانِ قِيلَ : هُوَ عَطْفُ مُفْرَدٍ وَقِيلَ : عَطْفُ جُمْلَةٍ . قِيلَ الْمَعْنَى { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } وَيَتْلُوهُ أَيْضًا مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى فَإِنَّهُ شَاهِدٌ بِمِثْلِ مَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَقِيلَ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } جُمْلَةً ؛ وَلَكِنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ فِيهَا تَصْدِيقُ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ فِي الْأَحْقَافِ . وقَوْله تَعَالَى { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } تَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ آمَنُوا بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ كَمَا تَتَنَاوَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُولَئِكَ يَعُودُ إلَيْهِمْ الضَّمِيرُ فَإِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهِ بِالشَّاهِدِ مِنْ اللَّهِ فَالْإِيمَانُ بِهِ إيمَانٌ بِالرَّسُولِ وَالْكِتَابِ الَّذِي قَبْلَهُ .

ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : مَا بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهٍ إلَّا وَجَدْت تَصْدِيقَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ حَتَّى بَلَغَنِي أَنَّهُ قَالَ : " { لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا أُرْسِلْت بِهِ إلَّا دَخَلَ النَّارَ } " قَالَ سَعِيدٌ : فَقُلْت أَيْنَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ حَتَّى أَتَيْت عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } قَالَ الْأَحْزَابُ هِيَ الْمِلَلُ كُلُّهَا . وقَوْله تَعَالَى { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أَيْ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَإِنَّهُ يُؤْمِنُ بِالشَّاهِدِ مِنْ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ بِهِ إيمَانٌ بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى قَالَ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } وَهُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } وَالْأَحْزَابُ هُمْ أَصْنَافُ الْأُمَمِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا وَصَارُوا أَحْزَابًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ طَوَائِفَ الْأَحْزَابِ فِي مِثْلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ مُكَذِّبِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ } وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا

فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وَقَالَ عَنْ أَحْزَابِ النَّصَارَى : { فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } الْآيَاتُ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ قَالَ : إنَّهُ مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ . فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِمْ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْكِتَابَيْنِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ ( بِهِ مُفْرَدٌ وَلَوْ آمَنَ مُؤْمِنٌ بِكِتَابِ مُوسَى دُونَ الْإِنْجِيلِ بَعْدَ نُزُولِهِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْفَرَجِ وَلَمْ يُسَمِّ قَائِلَهُمَا والبغوي وَغَيْرُهُ لَمْ يَذْكُرُوا نِزَاعًا فِي أَنَّهُمْ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدِ وَلَكِنْ ذَكَرُوا قَوْلًا إنَّهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا قَرِيبٌ . وَلَعَلَّ الَّذِي حَكَى قَوْلَهُمْ أَبُو الْفَرَجِ أَرَادُوا هَذَا وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِمْ . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا الْفَرَجِ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا فِي الْأَحْزَابِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ : " أَحَدُهَا " أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْمِلَلِ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .

و " الثَّانِي " الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَهُ قتادة . و " الثَّالِثُ " قُرَيْشٌ قَالَهُ السدي . و " الرَّابِعُ " بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ . قَالَ - أَيْ - أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ } وَكَذَلِكَ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } إنَّهُ الْقُرْآنُ وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } وَهَذَا هُوَ الْقُرْآنُ بِلَا رَيْبٍ وَقَدْ قِيلَ : هُوَ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ أَنَّهُ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الْأَحْزَابِ وَهَذَا أَيْضًا هُوَ الْقُرْآنُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ وَالْكَفْرُ بِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَأَنَّهُ مَنْ قَالَ فِي أُولَئِكَ إنَّهُمْ غَيْرُ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدِ لَمْ يُتَصَوَّرْ مَا قَالَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } وَجْهَانِ . هَلْ هُوَ عَطْفُ جُمْلَةٍ أَوْ مُفْرَدٍ ؛ لَكِنْ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مُفْرَدٌ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْمَعْنَى : وَكَانَ مِنْ قَبْلِ هَذَا كِتَابُ مُوسَى . دَلِيلٌ عَلَى أَمْرِ مُحَمَّدٍ فَيَتْلُونَ كِتَابَ مُوسَى عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } أَيْ وَيَتْلُو كِتَابَ مُوسَى ؛ لِأَنَّ مُوسَى وَعِيسَى بَشَّرَا بِمُحَمَّدِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَنُصِبَ إمَامًا عَلَى الْحَالِ .

قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّاهِدَ يَتْلُو عَلَى مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَيْ يَتْبَعُهُ شَاهِدًا لَهُ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَيِّنَةِ .
وَقَوْلُهُ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } كَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ الزَّجَّاجُ : وَتَرَكَ الْمُعَادَلَةَ ؛ لِأَنَّ فِيمَا بَعْدَهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ } قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْمًا رَكَنُوا إلَى الدُّنْيَا وَأَرَادُوهَا جَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : أَفَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ كَمَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا ؟ فَاكْتَفَى مِنْ الْجَوَابِ بِمَا تَقَدَّمَ إذْ كَانَ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : إنَّمَا حُذِفَ لِانْكِشَافِ الْمَعْنَى وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . قُلْت : نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الْمَحْذُوفِ : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } كَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَقَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ } وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْآخَرُ الْمُعَادِلُ لِهَذَا الَّذِي هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَاهَا { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } وَيَكُونُ أَيْضًا مَعْنَاهَا : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } أَيْ بَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ كَمَنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } الْآيَةُ . وَكَقَوْلِهِ { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } وَقَوْلِهِ : { أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي } الْآيَةُ . وَالْمَحْذُوفُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّظْمِ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { أَوَمَنْ

يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ } أَيْ تَجْعَلُونَ لَهُ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَقَدْ يَكُونُ الْمَحْذُوفُ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ : أَفَمَنْ هَذِهِ حَالُهُ يُذَمُّ أَوْ يُطْعَنُ عَلَيْهِ أَوْ يُعْرَضُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ أَوْ يُفْتَنُ أَوْ يُعَذَّبُ كَمَا قَالَ : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } . وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إنَّ الْمَحْذُوفَ : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } فَرَأَى الْبَاطِلَ حَقًّا ؟ وَالْقَبِيحَ حَسَنًا كَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَرَأَى الْحَقَّ حَقًّا وَالْبَاطِلَ بَاطِلًا وَالْقَبِيحَ قَبِيحًا وَالْحَسَنَ حَسَنًا ؟ وَقِيلَ : جَوَابُهُ تَحْتَ قَوْلِهِ : { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : الِاسْتِفْهَامُ مَا مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ تَقْدِرَ . أَيْ : هَذَا تَقْدِرُ أَنْ تَهْدِيَهُ أَوْ رَبُّك ؟ أَوْ تَقْدِرُ أَنْ تَجْزِيَهُ كَمَا قَالَ : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } وَلِهَذَا قَالَ : { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } وَكَمَا قَالَ : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } الْآيَةُ . وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَاهَا كَمَعْنَى قَوْلِهِ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } . وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى هُنَا : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } يُذَمُّ وَيُخَالَفُ وَيُكَذَّبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ } وَحَذَفَ جَوَابَ

الشَّرْطِ وَكَقَوْلِهِ : { أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى } { أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى } { أَرَأَيْتَ إنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ أَشْرَفِ الْمَعَانِي وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ وَأَنَّ الْآيَةَ ذَكَرَتْ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْقُرْآنُ فَصَارَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَبُرْهَانٍ مِنْ رَبِّهِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ وَالسَّمْعِيَّةُ كَمَا قَالَ : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } فَالنُّورُ الْمُبِينُ الْمُنَزَّلُ يَتَنَاوَلُ الْقُرْآنَ . قَالَ قتادة : بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ البغوي : هَذَا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَمْ أَجِدْهُ مَنْقُولًا عَنْ غَيْرِ الثَّانِي وَلَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ غَيْرِهِ . وَذَكَرَ فِي الْبُرْهَانِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْحُجَّةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الرَّسُولُ وَذَكَرَ أَنَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ قتادة . وَاَلَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قتادة بِالْإِسْنَادِ الثَّابِتِ أَنَّهُ بَيِّنَةٌ مِنْ اللَّهِ وَالْبَيِّنَةُ وَالْحُجَّةُ تَتَنَاوَلُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي بُعِثُوا بِهَا فَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ بُرْهَانٌ . قَالَ تَعَالَى : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ } وَقَالَ لِمَنْ قَالَ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ : هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ . وَمُحَمَّدٌ هُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَدْ أَقَامَ اللَّهُ عَلَى صِدْقِهِ بَرَاهِينَ كَثِيرَةً

وَصَارَ مُحَمَّدٌ نَفْسَهُ بُرْهَانًا فَأَقَامَ مِنْ الْبَرَاهِينِ عَلَى صِدْقِهِ ؛ فَدَلِيلُ الدَّلِيلِ دَلِيلٌ وَبُرْهَانُ الْبُرْهَانِ بُرْهَانٌ وَكُلُّ آيَةٍ لَهُ بُرْهَانٌ وَالْبُرْهَانُ اسْمُ جِنْسٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَلَوْ جَاءُوا بَعْدَهُ بِبَرَاهِينَ كَانُوا مُمْتَثِلِينَ . و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ ذَلِكَ الْبُرْهَانَ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى صِدْقِهِ وَهُوَ بَيِّنَةٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ قتادة وَحُجَّةٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ والسدي : الْمُؤْمِنُ عَلَى تِلْكَ الْبَيِّنَةِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ النُّورُ الَّذِي أَنْزَلَهُ مَعَ الْبُرْهَانِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } إنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فَقَدْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ التَّمْثِيلَ لَا التَّخْصِيصَ فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ كَثِيرًا مَا يُرِيدُونَ ذَلِكَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ أَوَّلُ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَتَلَاهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ وَإِمَامُهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ تَبَعٌ لَهُ وَبِهِ صَارُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ . وَالْخِطَابُ قَدْ يَكُونُ لَفْظُهُ لَهُ وَمَعْنَاهُ عَامٌّ كَقَوْلِهِ : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا

أَنْزَلْنَا إلَيْكَ } { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي } وَنَحْوُ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ وَأُبِيحَ لَهُ سَارَ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ كَمُشَارَكَةِ أُمَّتِهِ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ فَمَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ مِنْ الْأَحْكَامِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ إذَا لَمْ يُخَصِّصْ هَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ وَدَلَائِلُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } الْآيَةُ وَلَمَّا أَبَاحَ لَهُ الْمَوْهُوبَةَ قَالَ : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } الْآيَةُ . فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعَ كَوْنِ الصِّيغَةِ خَاصَّةً فَكَيْفَ تُجْعَلُ الصِّيغَةُ الْعَامَّةُ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مُخْتَصَّةً بِهِ ؟ وَلَفْظُ " مَنْ " أَبْلَغُ صِيَغِ الْعُمُومِ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ شَرْطًا أَوْ اسْتِفْهَامًا كَقَوْلِهِ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وَقَوْلِهِ : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } وَقَوْلِهِ : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } وَقَوْلِهِ { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } . و " أَيْضًا " : فَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلَهُ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ } وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا ذِكْرُ الْفَرِيقَيْنِ وَقَوْلُهُ : { أُولَئِكَ

يُؤْمِنُونَ بِهِ } إشَارَةٌ إلَى جَمَاعَةٍ وَلَمْ يُقَدِّمْ قَبْلَ هَذَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إلَيْهِ إلَّا ( مَنْ ) وَالضَّمِيرُ يَعُودُ تَارَةً إلَى لَفْظِ ( مَنْ ) وَتَارَةً إلَى مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } الْآيَةُ . وَأَمَّا الْإِشَارَةُ إلَى مَعْنَاهَا فَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ الضَّمِيرِ . فَقَوْلُهُ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَثِيرُونَ لَا وَاحِدٌ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : ثَنَا عَامِرُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } . قَالَ : الْمُؤْمِنُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ هُوَ الصَّوَابُ وَالرَّسُولُ هُوَ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الشَّاهِدَ مِنْ اللَّهِ هُوَ مُحَمَّدٌ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ثَنَا الْأَشَجُّ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عَوْفٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الْفُلَانِيِّ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } يَعْنِي مُحَمَّدًا شَاهِدًا مِنْ اللَّهِ فَهُنَا مَعْنَى كَوْنِهِ شَاهِدًا مِنْ اللَّهِ هُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَإِنْ كَانَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَشَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ مَعْلُومَةٌ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهَا بِالْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَأَمَّا شَهَادَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَنَّهَا إنَّمَا تُعْلَمُ مِنْ جِهَتِهِ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَيُخْبِرُ بِهِ عَنْ

رَبِّهِ فَهُوَ إذَا شَهِدَ كَانَ شَاهِدًا مِنْ اللَّهِ .
وَأَمَّا شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } لَكِنْ مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ يُرِيدُ بِالْبَيِّنَةِ الْقُرْآنَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مُتَّبِعٌ لِلْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٌ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوهُ كَمَا تَلَاهُ جِبْرِيلُ . وَمَنْ قَالَ إنَّ الشَّاهِدَ لِسَانُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ إنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ التِّلَاوَةَ أَيْ : أَنَّ لِسَانَ مُحَمَّدٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ شَاهِدٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ لِسَانَهُ جُزْءٌ مِنْهُ وَهَذَا الْقَوْلُ وَنَحْوُهُ ضَعِيفٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . هَذَا إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ فَإِنَّ هَذَا وَضِدَّهُ يُنْقَلَانِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ جُهَّالِ الشِّيعَةِ ظَنُّوا أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الشَّاهِدُ مِنْهُ أَيْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ لَهُ : " { أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك } " . وَهَذَا قَالَهُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ " { الْأَشْعَرِيُّونَ هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ } " . وَقَالَ عَنْ جليبيب : " { هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ } "

وَكُلُّ مُؤْمِنٍ هُوَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ : { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } وَقَالَ : { وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } وَرَوَوْا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَلِيٍّ نَفْسِهِ وَرُوِيَ عَنْهُ بِإِسْنَادِ أَجْوَدَ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَبَ مَنْ قَالَ هَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : ذَكَرَ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ الطَّحَّانِ ثَنَا إسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ : مَا مِنْ قُرَيْشٍ أَحَدٌ إلَّا نَزَلَتْ فِيهِ آيَةٌ قِيلَ فَمَا أُنْزِلَ فِيك ؟ قَالَ : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى عَلِيٍّ قَطْعًا . وَإِنْ ثَبَتَ النَّقْلُ عَنْ عَبَّادٍ هَذَا فَإِنَّ لَهُ مُنْكَرَاتٍ عَنْهُ كَقَوْلِهِ : أَنَا الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ أَسْلَمْت قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ . وَقَدْ رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ مَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ؛ ثَنَا أَبِي ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْبَاهِلِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَوَاصٍ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قتادة عَنْ عُرْوَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ - يَعْنِي ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ - قَالَ : قُلْت لِأَبِي : يَا أبة { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ : إنَّك أَنْتَ هُوَ قَالَ : وَدِدْت لَوْ أَنِّي أَنَا هُوَ . وَلَكِنَّهُ لِسَانُهُ ؟ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وقتادة نَحْوُ ذَلِكَ . قُلْت : وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ الْحُسَيْنِ ابْنِهِ أَنَّ " الشَّاهِدَ مِنْهُ " هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْبَيْتِ فِي أَنَّهُ مُحَمَّدٌ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ الْجَهَلَةِ : إنَّهُ عَلِيٌّ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَعَلِيٌّ كَانَ

إذْ ذَاكَ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ . وَكَانَ مِمَّنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ وَلَوْ كَانَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ لَيْسَ ابْنَ عَمِّهِ لَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُ تَنْفَعُ . لَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا عِنْدَ الْكُفَّارِ ؛ بَلْ مِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِيهَا تُهْمَةُ الْقَرَابَةِ . وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ وَشَهَادَةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَا تُقْبَلُ فَكَيْفَ يُجْعَلُ مِثْلُ هَذَا حُجَّةً لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَكِّدًا لَهَا ؟ وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } إنَّهُ عَلِيٌّ وَهُمْ مَعَ كَذِبِهِمْ هُمْ أَجْهَلُ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ نَسَبُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ إلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَا يَحْتَجُّ بِهِ إلَّا جَاهِلٌ فَأَرَادُوا تَعْظِيمَ عَلِيٍّ فَنَسَبُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ إلَى الْجَهْلِ وَعَلِيٌّ إنَّمَا فَضِيلَتُهُ بِاتِّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ فَإِذَا قُدِحَ فِي الْأَصْلِ بَطَلَ الْفَرْعُ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : إنَّ " الشَّاهِدَ " جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ رَوَى ذَلِكَ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي صَالِحٍ وَمُجَاهِدٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَإِبْرَاهِيمُ وَعِكْرِمَةُ وَالضِّحَاكُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا { وَيَتْلُوهُ } بِمَعْنَى يَقْرَؤُهُ أَيْ : وَيَتْلُو الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ الْبَيِّنَةُ : شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ هُوَ وَقِيلَ : بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ : إنَّ الْقُرْآنَ يَتْلُوهُ جِبْرِيلُ هُوَ شَاهِدُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ الَّذِي يَتْلُوهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ضِعْفِ هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ فَسَّرَ يَتْلُوهُ

بِمَعْنَى يَقْرَؤُهُ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِيهِ عَائِدًا إلَى الْقُرْآنِ وَجَعَلَ الشَّاهِدَ غَيْرَ الْقُرْآنِ . وَالْقُرْآنُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ إنَّمَا قَالَ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } وَالْبَيِّنَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرُهَا بِحِفْظِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظُوا الْقُرْآنَ ؛ بِخِلَافِ الْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ رَبِّهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَقًّا بَلْ مِنْ الْقَائِلِينَ - لِمُنْكَرِ وَنَكِيرٍ - آهْ آهْ لَا أَدْرِي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته . وَالْقُرْآنُ إنَّمَا مَدَحَ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَهُوَ عَلَى هُدًى وَنُورٍ وَبَصِيرَةٍ سَوَاءٌ حَفِظَ الْقُرْآنَ أَوْ لَمْ يَحْفَظْهُ وَإِنْ أُرِيدَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْإِيمَانُ وَأَكْثَرُ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ إنَّمَا يُخْتَصُّ بِهِ جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ فَهُوَ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ عَنْ اللَّهِ وَصِدْقُهُمَا فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا كَوْنُ رِسَالَةِ اللَّهِ حَقًّا فَهَذَا هُوَ الْمَشْهُودُ بِهِ مِنْ كُلِّ رَسُولٍ وَهُمَا لَا يُخْتَصَّانِ بِذَلِكَ بَلْ يُؤْمِنَانِ بِهِ كَمَا يُؤْمِنُ بِذَلِكَ كُلُّ مَلَكٍ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ وَشَهَادَتُهُمَا بِأَنَّ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى حَقٍّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي الْمُشْتَرَكِ وَلَوْ قَالَ : وَيُبَلِّغُهُ وَيَنْزِلُ بِهِ رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ لَكَانَ مَا قَالُوهُ مُتَوَجِّهًا كَمَا قَالَ :

{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ } { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } أَمَّا كَوْنُهُ شَاهِدًا يَقْرَؤُهُ فَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ . و " أَيْضًا " فَالشَّاهِدُ الَّذِي هُوَ مِنْ اللَّهِ هُوَ الْكَلَامُ فَإِنَّ الْكَلَامَ نَزَلَ مِنْهُ كَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّك بِالْحَقِّ وَيُقَالُ فِي الرَّسُولِ إنَّهُ مِنْهُ كَمَا قَالَ رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ وَيُقَالُ فِي الشَّخْصِ الشَّاهِدِ فَيُقَالُ فِيهِ هُوَ مِنْ شُهَدَاءِ اللَّهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ يُقَالُ فِيهِ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ أَنَّهَا بُرْهَانٌ مِنْ اللَّهِ وَآيَاتٌ مِنْ اللَّهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَصْدِيقًا لِرَسُولِهِ : فَهَذَا يَحْتَاجُ اسْتِعْمَالُهُ إلَى شَاهِدٍ . وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا تُفَسَّرُ بِلُغَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِيهِ إذَا وُجِدَتْ لَا يُعْدَلُ عَنْ لُغَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ مَعَ وُجُودِهَا وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى غَيْرِ لُغَتِهِ فِي لَفْظٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ : { وَيْكَأَنَّ اللَّهَ } { وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ } { وَكَأْسًا دِهَاقًا } { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } و { قِسْمَةٌ ضِيزَى } وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ فِي الْقُرْآنِ وَاَلَّذِينَ قَالُوا هَذِهِ الْأَقْوَالَ : إنَّمَا أَتَوْا مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ : { وَيَتْلُوهُ } فَظَنُّوا أَنَّ تِلَاوَتَهُ هِيَ قِرَاءَتُهُ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لِلْقُرْآنِ ذِكْرٌ . ثُمَّ جَعَلَ هَذَا يَقُولُ جِبْرِيلُ تَلَاهُ وَهَذَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ وَهَذَا يَقُولُ لِسَانُهُ . وَالتِّلَاوَةُ قَدْ وُجِدَتْ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ بِمَعْنَى الِاتِّبَاعِ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَذْكُرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ فَيَبْقَى النَّاظِرُ الْفَطِنُ حَائِرًا

وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إلَّا أَنَّهُ الرَّسُولُ وَيَذْكُرُ فِي الشَّاهِدِ عِدَّةَ أَقْوَالٍ . ثُمَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ يَقُولُ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ } أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ . وَقِيلَ : الْمُرَادُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ عَلَى مَا فَسَّرَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ فَكَيْفَ يُشَارُ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : { يُؤْمِنُونَ بِهِ } وَأَبُو الْفَرَجِ ذَكَرَ قَوْلًا أَنَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ وَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ قَالَ : وَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ الضِّحَاكِ فِي الْبَيِّنَةِ أَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ . وَقَدْ ذُكِرَ فِي " الْبَيِّنَةِ " أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : أَنَّهَا الدِّينُ ذَكَرَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَأَنَّهَا الْقُرْآنُ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَأَنَّهَا الْبَيَانُ . قَالَهُ مُقَاتِلٌ . ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ قُلْنَا : الْمُرَادُ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الْمُسْلِمُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ وَهُوَ الْبَيِّنَةُ وَيَتَّبِعُ هَذَا النَّبِيَّ شَاهِدٌ مِنْهُ يُصَدِّقُهُ وَالْمُسْلِمُونَ إذَا كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ فَهِيَ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ لَيْسَتْ الْبَيِّنَةُ ذَاتَ الرَّسُولِ وَالرَّسُولُ لَيْسَ هُوَ مَذْكُورًا فِي كَلَامِهِ فَقَوْلُهُ : { وَيَتْلُوهُ } لَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ إلَى { مِنْهُ } (1) لَكِنْ إعَادَتُهُ إلَى الْبَيِّنَةِ أَوْلَى .

وَفَسَّرَ الْبَيِّنَةَ بِالرَّسُولِ وَجَعَلَ الشَّاهِدَ يَشْهَدُ لَهُ بِصِدْقِهِ . ثُمَّ الشَّاهِدُ جِبْرِيلُ أَوْ غَيْرُهُ فَلَوْ قَالَ : الشَّاهِدُ هُوَ الْقُرْآنُ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يَتَّبِعُهُمْ كَمَا يَتَّبِعُونَهُ كَانَ قَدْ ذَكَرَ الصَّوَابَ . وَهُوَ قَدْ ذَكَرَ أَقْوَالًا كَثِيرَةً لَمْ يَذْكُرْهَا غَيْرُهُ وَذَكَرَ فِي يَتْلُوهُ قَوْلَيْنِ " أَحَدُهُمَا " يَتَّبِعُهُ . و " الثَّانِي " يَقْرَؤُهُ وَهُمَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ . وَذَكَرَ فِي " هـ " يَتْلُوهُ قَوْلَيْنِ : أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى النَّبِيِّ . و " الثَّانِي " أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى الْقُرْآنِ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى " مِنْ " أَوْ تَرْجِعُ إلَى الْبَيِّنَةِ وَالْبَيِّنَةُ يُرَادُ بِهَا الْقُرْآنُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الشَّاهِدَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِذَا رَجَعَ الضَّمِيرُ إلَى " مِنْ " فَإِنْ جُعِلَ مُخْتَصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُ فَسَادِهِ - عَادَ الضَّمِيرُ إلَى الْبَيِّنَةِ - وَإِنْ كَانَ " مِنْ " تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَرَسُولُ اللَّهِ أَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ تَنَاوَلَ الْجَمِيعَ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ جَاءَ بِالرِّسَالَةِ مِنْ اللَّهِ وَهَذَا يَخْتَصُّ بِهِ وَتَصْدِيقُ هَذِهِ الرِّسَالَةِ وَالْإِيمَانُ بِهَا وَاجِبٌ عَلَى الثِّقْلَيْنِ وَالرَّسُولُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ الَّتِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ

بِهَا وَلِهَذَا قَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } . وَقَالَ : { قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ . فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرَانِ عَظِيمَانِ . " أَحَدُهُمَا " إثْبَاتُ نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِهِ . و " الثَّانِي " تَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَقٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ فِيمَنْ يُرْسِلُهُ الْمَخْلُوقُ مَنْ يُصَدَّقُ فِي رِسَالَتِهِ ؛ لَكِنَّهُ لَا يَتَّبِعُهَا ؛ إمَّا لِطَعْنِهِ فِي الْمُرْسِلِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ يَعْصِيهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُرْسِلَ بِحَقِّ فَالْمُلُوكُ كَثِيرًا مَا يُرْسِلُونَ رَسُولًا بِكُتُبِ وَغَيْرِهَا يُبَلِّغُ الرُّسُلُ رِسَالَتَهُمْ فَيُصَدَّقُونَ بِهَا . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الرَّسُولُ أَكْثَرَ مُخَالَفَةً لِمُرْسِلِهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ وَلِهَذَا ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ رَسُولًا لِلَّهِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمَدْحَ . ثُمَّ قَالَ : إنَّ هَذَا قَدْ يُقَالُ فِيمَنْ قَبِلَ الرِّسَالَةَ وَبَلَّغَهَا وَفِيمَنْ لَمْ يَقْبَلْ لَكِنَّ هَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ رَسُولًا إلَّا وَقَدْ اصْطَفَاهُ فَيُبَلِّغُ رِسَالَاتِ رَبِّهِ . وَرُسُلُ اللَّهِ

هُمْ أَطْوَعُ الْخَلْقِ لِلَّهِ وَأَعْظَمُ إيمَانًا بِمَا بُعِثُوا بِهِ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُ يُرْسِلُ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ يَعْصِيهِ وَمَنْ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ طَاعَتِهِ وَالْخَالِقُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا يُجَوِّزُونَ عَلَى الرَّبِّ أَنْ يُرْسِلَ كُلَّ أَحَدٍ بِكُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ عِنْدَهُمْ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُنَزِّهُونَ الرُّسُلَ عَمَّا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَنْزِيهِهِمْ عَنْهُ عِنْدَهُمْ مِمَّا ثَبَتَ بِالسَّمْعِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَسُولًا كَمَا قَدْ بَسَطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ خَطَأٌ . وَلَمَّا كَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَمْرَانِ . فِي " الْأَوَّلِ " يُقَالُ : آمَنْت لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } وَقَوْلُهُ : { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } . وَفِي " الثَّانِي " يُقَالُ : آمَنْت بِاَللَّهِ فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ لَهُ وَنُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَيْنِ . فَذَكَرَ " أَوَّلًا " مَا يُثْبِتُ نُبُوَّتَهُ وَصِدْقَهُ بِقَوْلِهِ : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ .

وَلَمَّا كَانَ الَّذِي يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ شَيْئَانِ : إمَّا الْجَهْلُ وَإِمَّا فَسَادُ الْقَصْدِ ذَكَرَ مَا يُزِيلُ الْجَهْلَ وَهُوَ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَهْلَ فَسَادِ الْقَصْدِ بِقَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ فَسَادِ الْقَصْدِ . فَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا الْمَانِعَانِ لِلْخَلْقِ مِنْ اتِّبَاعِ هَذَا الرَّسُولِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْبَقَرَةِ ذَكَرَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَحُسْنَ الْقَصْدِ فَقَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } . ثُمَّ قَالَ : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } . فَلَمَّا أَثْبَتَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ : أَخَذَ بَعْدَ هَذَا فِي بَيَانِ الْإِيمَانِ بِهِ وَحَالِ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كَفَرَ فَقَالَ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } الْآيَةُ . ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ } وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بِادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ كَاذِبًا وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا صَادِقًا فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْ هَذَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَذَا فَكَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا إنَّمَا يَقَعُ مِمَّنْ فَسَدَ

قَصْدُهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا وَإِرَادَتِهَا وَمِمَّنْ أَحَبَّ الرِّئَاسَةَ وَأَرَادَ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُلْقِيَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَقُولُ فَعَلْت يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا وَيَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ : نَعَمْ . فَيَقُولُ : إنِّي قَدْ سَتَرْتهَا عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَك الْيَوْمَ ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ بِيَمِينِهِ } " . وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ : ف { وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ ذَكَرَ مَثَلَ الْفَرِيقَيْنِ فَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَتَدَبَّرَ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَعَرَفَ مَقْصُودَ الْقُرْآنِ : تَبَيَّنَ لَهُ الْمُرَادُ وَعَرَفَ الْهُدَى وَالرِّسَالَةَ وَعَرَفَ السَّدَادَ مِنْ الِانْحِرَافِ وَالِاعْوِجَاجِ . وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِمُجَرَّدِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ الْمُجَرَّدُ عَنْ سَائِرِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ فَهَذَا مَنْشَأُ الْغَلَطِ مِنْ الغالطين ؛ لَا سِيَّمَا كَثِيرٌ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِيهِ بِالِاحْتِمَالَاتِ اللُّغَوِيَّةِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ غَلَطًا مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الْمَشْهُورِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ مَعْرِفَةَ مَعْنَاهُ كَمَا يَقْصِدُ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ . وَأَعْظَمُ غَلَطًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنْ لَا يَكُونُ قَصْدُهُ مَعْرِفَةَ مُرَادِ اللَّهِ ؛

بَلْ قَصْدُهُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ بِمَا يَدْفَعُ خَصْمَهُ عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا وَهَؤُلَاءِ يَقَعُونَ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ التَّحْرِيفِ وَلِهَذَا جَوَّزَ مِنْ جَوَّزَ مِنْهُمْ أَنْ تَتَأَوَّلَ الْآيَةُ بِخِلَافِ تَأْوِيلِ السَّلَفِ وَقَالُوا : إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ جَازَ لِمَنْ بَعْدِهِمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَحْكَامِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهَذَا خَطَأٌ فَإِنَّهُمْ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ إمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ خِلَافًا لِإِجْمَاعِهِمْ ؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ طَرِيقُ مَنْ يَقْصِدُ الدَّفْعَ لَا يَقْصِدُ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَضِلَّ الْأُمَّةُ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَيَفْهَمُونَ مِنْهُ كُلُّهُمْ غَيْرَ الْمُرَادِ [ وَيَأْتِي ] (1) مُتَأَخِّرُونَ يَفْهَمُونَ الْمُرَادَ فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } كَمَا تَقَدَّمَ هُوَ كَقَوْلِهِ : { قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } وَقَوْلِهِ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } وَقَوْلِهِ : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } وَقَوْلِهِ { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } .

فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ عَلَى أَمْرٍ مِنْ اللَّهِ فَاجْتَمَعَ فِي هَذَا اللَّفْظِ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ وَحَرْفُ ( مِنْ ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ حَرْفُ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَيُقَالُ : هُوَ مِنْ اللَّهِ عَلَى نَوْعَيْنِ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا وَلَا بِمَخْلُوقِ فَهَذَا يَكُونُ صِفَةً لَهُ وَمَا كَانَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا أَوْ بِمَخْلُوقِ فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ . " فَالْأَوَّلُ " كَقَوْلِهِ : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } وَقَوْلِهِ : { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } كَمَا قَالَ السَّلَفُ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . " وَالنَّوْعُ الثَّانِي " كَقَوْلِهِ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } و { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } وَكَمَا يُقَالُ : إلْهَامُ الْخَيْرِ وَإِيحَاؤُهُ مِنْ اللَّهِ وَإِلْهَامُ الشَّرِّ وَإِيحَاؤُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالْوَسْوَسَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ . فَهَذَا نَوْعَانِ . تَارَةً يُضَافُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْعَاقِبَةِ وَالْغَايَةِ . فَالْحَسَنَاتُ هِيَ النِّعَمُ وَالسَّيِّئَاتُ هِيَ الْمَصَائِبُ كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَكِنْ تِلْكَ الْحَسَنَاتُ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ فَهِيَ مِنْهُ إحْسَانًا وَتَفَضُّلًا وَهَذِهِ عُقُوبَةُ ذَنْبٍ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ فَهِيَ مِنْ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَمَلَهُ السَّيِّئَ كَانَ

سَبَبَهَا وَهِيَ عُقُوبَةٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ أَرَادَتْ تِلْكَ الذُّنُوبَ وَوُسْوِسَت بِهَا . وَتَارَةً يُقَالُ بِاعْتِبَارِ حَسَنَاتِ الْعَمَلِ وَسَيِّئَاتِهِ وَمَا يُلْقَى فِي الْقَلْبِ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ وَالْإِرَادَاتِ فَيُقَالُ لِلْحَقِّ : هُوَ مِنْ اللَّهِ أَلْهَمَهُ الْعَبْدَ وَيُقَالُ لِلْبَاطِلِ : إنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَسْوَسَ بِهِ وَمِنْ النَّفْسِ أَيْضًا لِأَنَّهَا أَرَادَتْهُ كَمَا قَالَ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا قَالُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ : إنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنَّا وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ . وَهَذَا لَفْظُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي حَدِيثِ بروع بِنْتِ وَاشِقٍ قَالَ : إنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِحُكْمِ فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ اللَّهِ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ فَهُوَ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْهَمَهُ عَبْدَهُ لَمْ يَحْصُلْ بِتَوَسُّطِ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَالشَّيْطَانُ وَسْوَسَ بِهِ وَالنَّفْسُ أَرَادَتْهُ وَوَسْوَسَتْ بِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَخْلُوقًا فِيهِ وَاَللَّهُ خَلَقَهُ فِيهِ ؛ لَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا وَقَعَ لِي مِنْ إلْهَامِ الْمَلَكِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ لِلْمَلَكِ بِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ لَمَّةً وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً ؛ فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ " فَالتَّصْدِيقُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَالْإِيعَادُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ بَابِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ . قَالَ تَعَالَى : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً

مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } . فَهَذِهِ حَسَنَاتُ الْعَمَلِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ يَأْمُرُ بِهَا وَيُحِبُّهَا وَإِذَا كَانَتْ خَيْرًا فَهُوَ يُصَدِّقُهَا وَيُخْبِرُ بِهَا فَهِيَ مِنْ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَهِيَ أَيْضًا مِنْ إلْهَامِهِ لِعَبْدِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ لَمْ تَكُنْ بِوَاسِطَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ ؛ فَاخْتُصَّتْ بِإِضَافَتِهَا إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مِنْ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَأَنَّ النَّازِلَ بِهَا إلَى الْعَبْدِ مَلَكٌ كَمَا اُخْتُصَّ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُ مِنْهُ كَلَامٌ وَقُرْآنُ مُسَيْلِمَةَ بِأَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ مَا يُلْقِيهِ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْإِلْهَامَاتِ الصَّادِقَةِ الْعَادِلَةِ هِيَ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ مَا يُرِيهِمْ إيَّاهُ فِي الْمَنَامِ قَالَ عبادة بْنُ الصَّامِتِ : رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عَبْدَهُ فِي مَنَامِهِ وَقَالَ عُمَرُ : اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ يَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } { وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى } { وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا } وَقَالَ : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَلْهَمَ الْفَاجِرَةَ فُجُورَهَا وَالتَّقِيَّةَ تَقْوَاهَا فَالْإِلْهَامُ عِنْدَهُ هُوَ الْبَيَانُ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ : كِلَا النَّوْعَيْنِ مِنْ اللَّهِ هَذَا الْهُدَى الْمُشْتَرَكُ

وَذَاكَ الْهُدَى الْمُخْتَصُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمَّاهُ إلْهَامًا كَمَا سَمَّاهُ هُدًى كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } وَكَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } أَيْ بَيَّنَا لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُوَ هُدَى الْبَيَانِ الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ . وَقِيلَ : هَدَيْنَا الْمُؤْمِنَ لِطَرِيقِ الْخَيْرِ وَالْكَافِرَ لِطَرِيقِ الشَّرِّ ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ جَعَلَ الْفُجُورَ هُدًى كَمَا جَعَلَ أُولَئِكَ الْبَيَانَ إلْهَامًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } قِيلَ هُوَ الْهُدَى الْمُشْتَرَكُ وَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ لَهُ الطَّرِيقَ الَّتِي يَجِبُ سُلُوكُهَا وَالطَّرِيقَ الَّتِي لَا يَجِبُ سُلُوكُهَا . وَقِيلَ بَلْ هَدَى كُلًّا مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ إلَى مَا سَلَكَهُ مِنْ السَّبِيلِ { إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } . لَكِنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا هُدًى قَدْ يُعْتَذَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ هُدًى مُقَيَّدٌ لَا مُطْلَقٌ كَمَا قَالَ : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَكَمَا قَالَ : { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } وَأَنَّهُ { يَقُولُ الْحَقَّ } و { يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } فَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ وَأَمْرِهِ لِعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ وَسَائِرَ كَلَامِهِ كَذَلِكَ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ جُنْدِهِ بِالْمَلَائِكَةِ . وَيُقَالُ لِضِدِّ هَذَا - وَهُوَ الْخَطَأُ - هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقُولُهُ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْكُتُهُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ

الشَّيْطَانُ وَنَفْسُهُ تَقْبَلُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ ؛ فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَهَا الشَّيْءَ فَتُطِيعُهُ فِيهِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ الشَّيْطَانِ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ ؛ وَلَكِنْ يَفُوتُهُ بِهِ نَوْعٌ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَالنِّسْيَانِ فَإِنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالِاحْتِلَامُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالنُّعَاسُ عِنْدَ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالصَّعْقُ عِنْدَ الذِّكْرِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَلَا إثْمَ عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا غُلِبَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِقَصْدِ مِنْهُ أَوْ بِذَنْبِ . فَقَوْلُهُ : { إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } وَشِبْهُهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ : مِنْ هَذَا الْبَابِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ } فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَفِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ ابْتِدَاءً وَتَبْلِيغًا كَالْقُرْآنِ وَقَدْ قَالَ : " إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْأَمَانَةَ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ " فَهِيَ تَنْزِلُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نُورِهِ وَهُدَاهُ وَهَذِهِ حَسَنَاتٌ دِينِيَّةٌ وَعُلُومٌ دِينِيَّةٌ حَقُّ نَافِعَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ إفْضَالُ الْمُنْعِمِ ، وَهُوَ أَفْضَلُ النِّعَمِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } فَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ نِعَمُ الدُّنْيَا كُلُّهَا كَالْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ وَالنَّصْرِ وَتِلْكَ حَسَنَاتٌ يَبْتَلِي اللَّهُ الْعَبْدَ بِهَا . كَمَا يَبْتَلِيهِ بِالْمَصَائِبِ هَلْ شَكَرَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَصْبِرُ أَمْ لَا ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } وَقَالَ : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ } الْآيَاتُ .

وَقَدْ يُقَالُ فِي الشَّيْءِ إنَّهُ مِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا إذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِاَللَّهِ كَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ لِمُوسَى : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ } وَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً وَإِخْرَاجِ الْيَدِ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لَكِنَّهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ دَلَّ بِهِ وَأَرْشَدَ إلَى صَدْقِ نَبِيِّهِ مُوسَى وَهُوَ تَصْدِيقٌ مِنْهُ وَشَهَادَةٌ مِنْهُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَالصِّدْقِ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ مِنْ اللَّهِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ اللَّهِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِمَّا تَفْعَلُهُ الشَّيَاطِينُ وَالْكُهَّانُ كَمَا يُقَالُ : هَذِهِ عَلَامَةٌ مِنْ فُلَانٍ وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ فُلَانٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَلَامًا مِنْهُ . وَقَدْ سَمَّى مُوسَى ذَلِكَ بَيِّنَةً مِنْ اللَّهِ فَقَالَ : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } فَقَوْلُهُ : بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ كَقَوْلِهِ : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ } . وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ هُنَا حُجَّةٌ وَآيَةٌ وَدَلَالَةٌ مَخْلُوقَةٌ تَجْرِي مَجْرَى شَهَادَةِ اللَّهِ وَإِخْبَارُهُ بِكَلَامِهِ كَالْعَلَامَةِ الَّتِي يُرْسِلُ بِهَا الرَّجُلُ إلَى أَهْلِهِ وَكِيلَهُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ : هِيَ كَالْخَاتَمِ تَبْعَثُ بِهِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صَدِّقُوهُ فِيمَا قَالَ أَوْ أَعْطُوهُ مَا طَلَبَ . فَالْقُرْآنُ وَالْهُدَى مِنْهُ وَهُوَ مِنْ كَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذِهِ الْآيَاتُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يُكْتَبُ كَلَامُهُ فِي

الْمَصَاحِفِ ؛ فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْمَكْتُوبُ بِهِ الْكَلَامُ يُعْرَفُ بِهِ الْكَلَامُ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } . وَلِهَذَا يَكُونُ لِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ حُرْمَةٌ : كَالنَّاقَةِ وَكَالْمَاءِ النَّابِعِ بَيْنَ أَصَابِعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ :
فِي قَوْله تَعَالَى { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا إلَى قَوْلِهِ : { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْفَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّبَايُنِ وَالِاخْتِلَافِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ تَرْغِيبًا فِي السَّعَادَةِ وَتَرْهِيبًا مِنْ الشَّقَاوَةِ . وَقَدْ افْتَتَحَ السُّورَةَ بِذَلِكَ فَقَالَ : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } فَذَكَرَ أَنَّهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ؛ نَذِيرٌ يُنْذِرُ بِالْعَذَابِ لِأَهْلِ النَّارِ وَبَشِيرٌ يُبَشِّرُ بِالسَّعَادَةِ لِأَهْلِ الْحَقِّ . ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فَقَالَ : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } { إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } . ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ وَحَالَ مَنْ اتَّبَعَهُمْ وَمَنْ كَذَّبَهُمْ

كَيْفَ سَعِدَ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَشَقِيَ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَذَكَرَ مَا جَرَى لَهُمْ إلَى قَوْلِهِ : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } . ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الَّذِينَ سُعِدُوا وَاَلَّذِينَ شُقُوا . ثُمَّ قَالَ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ } فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ : غَايَةُ مَا أَصَابَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ مَاتُوا وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يَمُوتُونَ وَأَمَّا كَوْنُهُمْ أُهْلِكُوا كُلُّهُمْ وَصَارَتْ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً وَصَارُوا عِبْرَةً يُذْكَرُونَ بِالشَّرِّ وَيُلْعَنُونَ إنَّمَا يَخَافُ ذَلِكَ مَنْ آمَنَ بِالْآخِرَةِ فَإِنَّ لَعْنَةَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ بِالْآخِرَةِ وَبُغْضَهُمْ لَهُمْ كَمَا جَرَى لِآلِ فِرْعَوْنَ هُوَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ عَذَابًا كَمَا أَنَّ لِسَانَ الصِّدْقِ وَثَنَاءَ النَّاسِ وَدُعَاءَهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ وَاتِّبَاعَهُمْ لَهُمْ هُوَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ ثَوَابًا . فَمَنْ اسْتَدَلَّ بِمَا أَصَابَ هَؤُلَاءِ عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ فَآمَنَ بِالْآخِرَةِ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ آيَةً وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْآخِرَةِ وَيَظُنُّ أَنَّ مَنْ مَاتَ لَمْ يُبْعَثْ فَقَدْ لَا يُبَالِي بِمِثْلِ هَذَا وَإِنْ كَانَ يَخَافُ هَذَا مَنْ لَا يَخَافُ الْآخِرَةَ ؛ لَكِنْ كُلُّ مَنْ خَافَ الْآخِرَةَ كَانَ هَذَا حَالُهُ وَذَلِكَ لَهُ آيَةٌ . وَقَدْ خَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ : { وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إنَّا عَامِلُونَ } إلَى آخِرِهَا كَمَا افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ : { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ } فَذَكَرَ التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ فَهَذَا دِينُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ

والآخرين قَالَ أَبُو الْعَالِيَةَ : كَلِمَتَانِ يُسْأَلُ عَنْهُمَا الْأَوَّلُونَ والآخرون مَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ وَمَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ . وَلِهَذَا قَالَ : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } و { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } هُوَ الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ وَهَذَانِ هُمَا الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ تَارَةً فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ سُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ وَتَارَةً بِآيَتَيْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَيَقْرَأُ قَوْلَهُ : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا } الْآيَةُ فَأَوَّلُهَا الْإِيمَانُ وَآخِرُهَا الْإِسْلَامُ وَيَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ } فَأَوَّلُهَا إخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَآخِرُهَا الْإِسْلَامُ لَهُ . وَقَالَ : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إلَيْنَا وَأُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فَفِيهَا الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ فِي آخِرِهَا وَقَالَ : { الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ } { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } .

فَصْلٌ :
وقَوْله تَعَالَى { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } فَقَدْ فَصَّلَهُ بَعْدَ إحْكَامِهِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ لَمْ يُحْكِمْهُ وَقَدْ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ الْمُحْكَمِ مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ لِغَيْرِهِ ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحْكَمَ كِتَابَهُ ثُمَّ فَصَّلَهُ وَبَيَّنَهُ لِعِبَادِهِ كَمَا قَالَ : { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } وَقَالَ : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَهُ وَأَنْزَلَهُ عَلَى عِبَادِهِ بِعِلْمِ لَيْسَ كَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ . وَقَدْ ذَكَرَ بَرَاهِينَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ قَبْلَ ذِكْرِ الْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَقَالَ : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } إلَى قَوْلِهِ : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فَلَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ هُمْ وَجَمِيعُ مَنْ يَسْتَطِيعُونَ مِنْ دُونِهِ : كَانَ فِي مَضْمُونِ تَحَدِّيهِ أَنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا قَالَ : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } . وَحِينَئِذٍ : فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ وَمَا كَانَ

مُخْتَصًّا بِنَوْعِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ وَكُلُّ مَلْزُومٍ دَلِيلٌ عَلَى لَازِمِهِ كَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهَا فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِجِنْسِهِمْ . وَهَذَا الْقُرْآنُ مُخْتَصٌّ بِجِنْسِهِمْ وَمِنْ بَيْنِ الْجِنْسِ خَاتَمُهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ غَيْرُهُ وَكَانَ ذَلِكَ بُرْهَانًا بَيِّنًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ وَأَنَّهُ نَزَلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ؛ هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ بِخَبَرِهِ وَأَمَرَ بِمَا أَمَرَ بِهِ كَمَا قَالَ : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } الْآيَةُ . وَثُبُوتُ الرِّسَالَةِ مَلْزُومٌ لِثُبُوتِ التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَذَا الْقُرْآنِ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْبَيَانِ فِيهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ وَنُبِّهَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَلَا سِيَّمَا هَذِهِ السُّورَةُ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْبَيَانِ وَالتَّعْجِيزِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَفِيهَا مِنْ الْمَوَاعِظِ وَالْحَكَمِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَا لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " هُوَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ } حَيْثُ سَأَلَ السَّائِلُ عَنْ تَفْسِيرِهَا وَذَكَرَ مَا فِي التَّفَاسِيرِ مِنْ كَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا وَأَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ يَزِيدُ الطَّالِبَ عَمًى عَنْ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْهُدَى وَالرَّشَادُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيُهْتَدَى بِهِ لَا لِيُخْتَلَفَ فِيهِ وَالْهُدَى إنَّمَا يَكُونُ إذَا عُرِفَتْ مَعَانِيهِ فَإِذَا حَصَلَ الِاخْتِلَافُ الْمُضَادُّ لِتِلْكَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ

وَبَيْنَهَا لَمْ يُعْرَفْ الْحَقُّ وَلَمْ تُفْهَمْ الْآيَةُ وَمَعْنَاهَا وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْهُدَى وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي : حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ : عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَتَجَاوَزُوهَا حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا : فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ فِي مَاذَا نَزَلَتْ وَمَاذَا عُنِيَ بِهَا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } وَتَدَبُّرُ الْكَلَامِ إنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ إذَا فُهِمَ . وَقَالَ : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } . فَالرُّسُلُ تُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُبَلِّغُوا النَّاسَ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ ؛ وَالْمَطْلُوبُ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَعْقِلُوا مَا بَلَّغَهُ الرُّسُلُ وَالْعَقْلُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ فَمَنْ عَرَفَ الْخَيْر وَالشَّرَّ فَلَمْ يَتَّبِعْ الْخَيْرَ وَيَحْذَرْ الشَّرَّ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا ؛ وَلِهَذَا لَا يُعَدُّ عَاقِلًا إلَّا مَنْ فَعَلَ مَا يَنْفَعُهُ وَاجْتَنَبَ مَا يَضُرُّهُ فَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا قَدْ يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْمَهَالِكِ وَقَدْ يَفِرُّ مِمَّا يَنْفَعُهُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } وقَوْله تَعَالَى { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَالَ طَوَائِفُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ قَوْلَهُ : { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } أَرَادَ بِهَا سَمَاءَ الْجَنَّةِ وَأَرْضَ الْجَنَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } هِيَ أَرْضُ الْجَنَّةِ . وَعَلَى هَذَا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ انْطِوَاءِ هَذِهِ السَّمَاءِ وَبَقَاءِ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ سَقْفُ الْجَنَّةِ ؛ إذْ كُلُّ مَا عَلَا فَإِنَّهُ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ سَمَاءً كَمَا يُسَمَّى السَّحَابُ سَمَاءً وَالسَّقْفُ سَمَاءً .

و " أَيْضًا " فَإِنَّ السَّمَوَاتِ وَإِنْ طُوِيَتْ وَكَانَتْ كَالْمُهْلِ وَاسْتَحَالَتْ عَنْ صُورَتِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَدَمَهَا وَفَسَادَهَا بَلْ أَصْلُهَا بَاقٍ ؛ بِتَحْوِيلِهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } وَإِذَا بُدِّلَتْ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ سَمَاءٌ دَائِمَةً وَأَرْضٌ دَائِمَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ يُوسُفَ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَوْلُ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ : { هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } الْمُرَادُ بِرَبِّهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ هُنَا سَيِّدُهُ وَهُوَ زَوْجُهَا الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ الَّذِي قَالَ لِامْرَأَتِهِ : { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . فَلَمَّا وَصَّى بِهِ امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } قَالَ يُوسُفُ { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } وَلِهَذَا قَالَ : { إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } وَالضَّمِيرُ فِي : { إنَّهُ } مَعْلُومٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ سَيِّدُهَا .

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فَهَذَا خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ وَرَبُّهُ هُوَ اللَّهُ كَمَا قَالَ لِصَاحِبَيْ السِّجْنِ : { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } وَقَوْلُهُ : { رَبِّيَ } مِثْلَ قَوْلِهِ لِصَاحِبِ الرُّؤْيَا : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } قَالَ تَعَالَى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } قِيلَ أُنْسِيَ يُوسُفُ ذِكْرَ رَبِّهِ لَمَّا قَالَ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } . وَقِيلَ : بَلْ الشَّيْطَانُ أَنْسَى الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا ذِكْرَ رَبِّهِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } قَالَ تَعَالَى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى الْقَرِيبِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَنْسَ ذِكْرَ رَبِّهِ ؛ بَلْ كَانَ ذَاكِرًا لِرَبِّهِ . وَقَدْ دَعَاهُمَا قَبْلَ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ وَقَالَ لَهُمَا : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . وَقَالَ لَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } أَيْ فِي الرُّؤْيَا { إلَّا

نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } يَعْنِي التَّأْوِيلَ { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } فَبِذَا يَذْكُرُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا عَلَّمَهُ رَبُّهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مِلَّةَ قَوْمٍ مُشْرِكِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ آبَائِهِ أَئِمَّةَ الْمُؤْمِنِينَ - الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ أَئِمَّةً يَدْعُونَ بِأَمْرِهِ - إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ؛ فَذَكَرَ رَبَّهُ ثُمَّ دَعَاهُمَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ . ثُمَّ بَعْدَ هَذَا عَبَرَ الرُّؤْيَا فَقَالَ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } الْآيَةُ ثُمَّ لَمَّا قَضَى تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ أَنْسَى الشَّيْطَانُ يُوسُفَ ذِكْرَ رَبِّهِ ؟ وَإِنَّمَا أَنْسَى الشَّيْطَانُ النَّاجِيَ ذِكْرَ رَبِّهِ أَيْ الذِّكْرَ الْمُضَافَ إلَى رَبِّهِ وَالْمَنْسُوبَ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدَهُ يُوسُفَ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ قَالُوا : كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَلَا يَقُولَ اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك . فَلَمَّا نَسِيَ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ جُوزِيَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ . فَيُقَالُ : لَيْسَ فِي قَوْلِهِ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مَا يُنَاقِضُ التَّوَكُّلَ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ يُوسُفُ : { إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ } كَمَا أَنَّ قَوْلَ أَبِيهِ : { لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } لَمْ يُنَاقِضْ تَوَكُّلَهُ ؛ بَلْ قَالَ :

{ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } . و " أَيْضًا " فَيُوسُفُ قَدْ شَهِدَ اللَّهُ لَهُ أَنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ وَالْمُخْلِصُ لَا يَكُونُ مُخْلِصًا مَعَ تَوَكُّلِهِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ وَيُوسُفُ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا لَا فِي عِبَادَتِهِ وَلَا تَوَكُّلِهِ بَلْ قَدْ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ : { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } فَكَيْفَ لَا يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي أَفْعَالِ عِبَادِهِ . وَقَوْلُهُ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مِثْلُ قَوْلِهِ لِرَبِّهِ : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } فَلَمَّا سَأَلَ الْوِلَايَةَ لِلْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَا هُوَ مِنْ سُؤَالِ الْإِمَارَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ لِلْفَتَى : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ إخْبَارِ الْمَلِكِ بِهِ ؛ لِيَعْلَمَ حَالَهُ لِيَتَبَيَّنَ الْحَقُّ وَيُوسُفُ كَانَ مَنْ أَثْبَتِ النَّاسِ . وَلِهَذَا بَعْدَ أَنْ طُلِبَ { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } قَالَ { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } فَيُوسُفُ يَذْكُرُ رَبَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي تِلْكَ . وَيَقُولُ : { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ } فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ لَهُ : { اذْكُرْنِي

عِنْدَ رَبِّكَ } تَرْكٌ لِوَاجِبِ وَلَا فِعْلٌ لِمُحَرَّمِ حَتَّى يُعَاقِبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ عَزَمُوا عَلَى حَبْسِهِ إلَى حِينِ قَبِلَ هَذَا ظُلْمًا لَهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ الذَّنْبِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } وَلُبْثُهُ فِي السَّجْنِ كَانَ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ فِي حَقِّهِ ؛ لِيَتِمَّ بِذَلِكَ صَبْرُهُ وَتَقْوَاهُ فَإِنَّهُ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى نَالَ مَا نَالَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَلَوْ لَمْ يَصْبِرْ وَيَتَّقِ بَلْ أَطَاعَهُمْ فِيمَا طَلَبُوا مِنْهُ جَزَعًا مِنْ السَّجْنِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الصَّبْرُ وَالتَّقْوَى وَفَاتَهُ الْأَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُمْكِنُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : قِيلَ لَا يُمْكِنُ كَقَوْلِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا قَالُوا : لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ الِانْتِشَارَ . وَالثَّانِي : يُمْكِنُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي الِانْتِشَارَ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْفِعْلِ اخْتِيَارًا بَلْ الْمُكْرَهُ يَخْتَارُ دَفْعَ أَعْظَمِ الشَّرَّيْنِ بِالْتِزَامِ

أَدْنَاهُمَا . وَأَيْضًا : فَالِانْتِشَارُ بِلَا فِعْلٍ مِنْهُ ؛ بَلْ قَدْ يُقَيَّدُ وَيُضْجَعُ فَتُبَاشِرُهُ الْمَرْأَةُ فَتَنْتَشِرُ شَهْوَتُهُ فَتَسْتَدْخِلُ ذَكَرَهُ . فَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ مَا طَلَبَتْ مِنْهُ بِحَالِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَقَدْ يُقَالُ الْحَبْسُ لَيْسَ بِإِكْرَاهِ يُبِيحُ الزِّنَا ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ أَوْ يُتْلِفُونَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ فَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي هَذَا وَهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا بِهِ إلَى هَذَا الْحَدِّ وَإِنْ قِيلَ كَانَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ لَكِنْ يَفُوتُهُ الْأَفْضَلُ . وَأَيْضًا : فَالْإِكْرَاهُ إنَّمَا يَحْصُلُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ يُبَاشِرُ وَتَبْقَى لَهُ شَهْوَةٌ وَإِرَادَةٌ فِي الْفَاحِشَةِ . وَمَنْ قَالَ : الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ يَقُولُ : فَرَّقَ بَيْنَ مَا لَا فِعْلَ لَهُ - كَالْمُقَيَّدِ - وَبَيْنَ مَنْ لَهُ فِعْلٌ كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أُضْجِعَتْ وَقُيِّدَتْ حَتَّى فُعِلَ بِهَا الْفَاحِشَةُ لَمْ تَأْثَمْ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أُكْرِهَتْ حَتَّى زَنَتْ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد ؛ لَكِنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ لَا تَأْثَمُ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : فِعْلُ الْمَرْأَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى انْتِشَارٍ فَإِنَّمَا هُوَ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ ؛ بِخِلَافِ فِعْلِ الرَّجُلِ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .

و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَذْكُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ اسْتِغْفَارَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ يُوسُفَ اسْتِغْفَارًا مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ . كَمَا لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ اسْتِغْفَارًا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْفَاحِشَةِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا فِي هَذَا وَلَا هَذَا ؛ بَلْ هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ ؛ فَأُثِيبَ عَلَيْهِ حَسَنَةً كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ . وَأَمَّا مَا يُكَفِّرُهُ الِابْتِلَاءُ مِنْ السَّيِّئَاتِ فَذَلِكَ جُوزِيَ بِهِ صَاحِبُهُ بِالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ } وَلَمَّا { أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا ؟ فَقَالَ : أَلَسْت تَحْزَنُ ؟ أَلَسْت تَنْصَبُ ؟ أَلَسْت تُصِيبُك اللأوى ؟ فَذَلِكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ } . فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } أَيْ نُسِّيَ الْفَتَى ذِكْرَ رَبِّهِ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا لِرَبِّهِ وَنُسِّيَ ذِكْرَ يُوسُفَ رَبَّهُ وَالْمَصْدَرُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَيُوسُفُ قَدْ ذَكَرَ رَبَّهُ وَنُسِّيَ الْفَتَى ذِكْرَ يُوسُفَ رَبَّهُ وَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ ؛ هَذَا الذِّكْرَ الْخَاصَّ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا فَقَدْ لَا يَخْطُرُ هَذَا الذِّكْرُ بِقَلْبِهِ وَأَنْسَاهُ

الشَّيْطَانُ تَذْكِيرَ رَبِّهِ وَإِذْكَارَ رَبِّهِ لَمَّا قَالَ : { اذْكُرْنِي } أَمَرَهُ بِإِذْكَارِ رَبِّهِ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ إذْكَارَ رَبِّهِ فَإِذْكَارُ رَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَهُ ذَاكِرًا فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَجْعَلَ رَبَّهُ ذَاكِرًا لِيُوسُفَ وَالذِّكْرُ هُوَ مَصْدَرٌ وَهُوَ اسْمٌ فَقَدْ يُضَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ اسْمًا ؛ فَيَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ ؛ أَيْ أَنْسَاهُ الذِّكْرَ الْمُتَعَلِّقَ بِرَبِّهِ وَالْمُضَافَ إلَيْهِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي نَسِيَ رَبَّهُ هُوَ الْفَتَى لَا يُوسُفُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } وَقَوْلُهُ : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَسِيَ فَادَّكَرَ . فَإِنْ قِيلَ : لَا رَيْبَ أَنَّ يُوسُفَ سَمَّى السَّيِّدَ رَبًّا فِي قَوْلِهِ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } و { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَهَذَا كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِ كَمَا جَازَ فِي شَرْعِهِ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ وَكَمَا جَازَ فِي شَرْعِهِ أَنْ يُؤْخَذَ السَّارِقُ عَبْدًا وَإِنْ كَانَ هَذَا مَنْسُوخًا فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَوْلُهُ : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } إنْ أَرَادَ بِهِ السَّيِّدَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ ؛ لَكِنْ مَعْلُومٌ أَنَّ تَرْكَ الْفَاحِشَةِ خَوْفًا لِلَّهِ وَاجِبٌ وَلَوْ رَضِيَ سَيِّدُهَا وَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ . { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا

لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ يُوسُفُ أَيْضًا : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ مَا يَزَعُهُ عَنْ الْفَاحِشَةِ وَلَوْ رَضِيَ بِهَا النَّاسُ وَقَدْ دَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ . وَقَوْلُهُ : { السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ } بِصِيغَةِ جَمْعِ التَّذْكِيرِ وَقَوْلُهُ : { كَيْدَهُنَّ } بِصِيغَةِ جَمْعِ التَّأْنِيثِ وَلَمْ يَقُلْ مِمَّا يَدَّعِينَنِي إلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ الذُّكُورِ مَنْ يَدْعُوهُ مَعَ النِّسَاءِ إلَى الْفَاحِشَةِ بِالْمَرْأَةِ وَلَيْسَ هُنَاكَ إلَّا زَوْجُهَا وَذَلِكَ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ قَلِيلَ الْغَيْرَةِ أَوْ عَدِيمَهَا وَكَانَ يُحِبُّ امْرَأَتَهُ وَيُطِيعُهَا ؛ وَلِهَذَا لَمَّا اطَّلَعَ عَلَى مُرَاوَدَتِهَا قَالَ : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } فَلَمْ يُعَاقِبْهَا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ يُوسُفَ حَتَّى لَا تَتَمَكَّنَ مِنْ مُرَاوَدَتِهِ وَأَمَرَ يُوسُفَ أَنْ لَا يَذْكُرَ مَا جَرَى لِأَحَدِ مَحَبَّةً مِنْهُ لِامْرَأَتِهِ وَلَوْ كَانَ فِيهِ غَيْرَةٌ لَعَاقَبَ الْمَرْأَةَ . وَمَعَ هَذَا فَشَاعَتْ الْقِصَّةُ وَاطَّلَعَ عَلَيْهَا النَّاسُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ يُوسُفَ حَتَّى تَحَدَّثَتْ بِهَا النِّسْوَةُ فِي الْمَدِينَةِ وَذَكَرُوا أَنَّهَا تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ وَمَعَ هَذَا : { أَرْسَلَتْ إلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ

كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا } وَأَمَرَتْ يُوسُفَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَيْهِنَّ ؛ لِيُقِمْنَ عُذْرَهَا عَلَى مُرَاوَدَتِهِ وَهِيَ تَقُولُ لَهُنَّ : { فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ } . وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُتَمَكِّنَةً مِنْ مُرَاوَدَتِهِ وَالْخَلْوَةِ بِهِ مَعَ عِلْمِ الزَّوْجِ بِمَا جَرَى وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدِّيَاثَةِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا حُبِسَ فَإِنَّمَا حُبِسَ بِأَمْرِهَا وَالْمَرْأَةُ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ حَبْسِهِ إلَّا بِأَمْرِ الزَّوْجِ فَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي حَبَسَهُ ؛ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ : هَذَا الْقِبْطِيُّ هَتَكَ عِرْضِي فَحَبَسَهُ ؛ وَحَبَسَهُ لِأَجْلِ الْمَرْأَةِ مُعَاوَنَةً لَهَا عَلَى مَطْلَبِهَا لِدِيَاثَتِهِ وَقِلَّةِ غَيْرَتِهِ فَدَخَلَ هُوَ فِي مَنْ دَعَا يُوسُفَ إلَى الْفَاحِشَةِ . فَعُلِمَ أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَتْرُكْ الْفَاحِشَةَ لِأَجْلِهِ وَلَا لِخَوْفِهِ مِنْهُ بَلْ قَدْ عُلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخَافُ مِنْهُ وَأَنَّ يُوسُفَ لَوْ أَعْطَاهَا مَا طَلَبَتْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ يَدْرِي وَلَوْ دَرَى فَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ يُنْكِرُ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ دَرَى بِالْمُرَاوَدَةِ وَالْخَلْوَةِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ فَلَمْ يُنْكِرْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ هَمَّ بِعُقُوبَةِ يُوسُفَ فَكَانَتْ هِيَ الْحَاكِمَةَ عَلَى الزَّوْجِ الْقَاهِرَةَ لَهُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إحْدَاكُنَّ } { وَلَمَّا رَاجَعْنَهُ فِي إمَامَةِ الصِّدِّيقِ قَالَ : إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ } { وَلَمَّا أَنْشَدَهُ الْأَعْشَى

وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غُلِبَ
اسْتَعَادَ ذَلِكَ مِنْهُ وَقَالَ : وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غُلِبَ } . فَكَيْفَ لَا تَغْلِبُ مِثْلَ هَذَا الزَّوْجِ وَتَمْنَعُهُ مِنْ عُقُوبَةِ يُوسُفَ ؟ وَقَدْ عَهِدَ النَّاسُ خَلْقًا مِنْ النَّاسِ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ؛ مِنْ نِسَاءِ التتر وَغَيْرِهِمْ يَكُونُ لِامْرَأَتِهِ غَرَضٌ فَاسِدٌ فِي فَتَاهُ أَوْ فَتَاهَا وَتَفْعَلُ مَعَهُ مَا تُرِيدُ وَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَكْشِفَ أَوْ يُعَاقِبَ مَنَعَتْهُ وَدَفَعَتْهُ ؛ بَلْ وَأَهَانَتْهُ وَفَتَحَتْ عَلَيْهِ أَبْوَابًا مِنْ الشَّرِّ بِنَفْسِهَا وَأَهْلِهَا وَحَشَمِهَا وَالْمُطَالَبَةِ بِصَدَاقِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ حَتَّى يَتَمَنَّى الرَّجُلُ الْخَلَاصَ مِنْهَا رَأْسًا بِرَأْسِ مَعَ كَوْنِ الرَّجُلِ فِيهِ غَيْرَةٌ فَكَيْفَ مَعَ ضَعْفِ الْغَيْرَةِ . فَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الدَّاعِيَ لِيُوسُفَ إلَى تَرْكِ الْفَاحِشَةِ كَانَ خَوْفَ اللَّهِ لَا خَوْفًا مِنْ السَّيِّدِ فَلِهَذَا قَالَ : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } قِيلَ هَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ مَحَاسِنَ يُوسُفَ وَرِعَايَتَهُ لِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْمَخْلُوقِينَ وَدَفْعَهُ الشَّرَّ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِنَّ الزِّنَا بِامْرَأَةِ الْغَيْرِ فِيهِ حَقَّانِ مَانِعَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ بِالتَّحْرِيمِ . فَالْفَاحِشَةُ حَرَامٌ لِحَقِّ اللَّهِ وَلَوْ رَضِيَ الزَّوْجُ وَظُلْمُ الزَّوْجِ فِي امْرَأَتِهِ حَرَامٌ لِحَقِّ بِحَيْثُ لَوْ سَقَطَ حَقُّ اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ فَحَقُّ هَذَا فِي امْرَأَتِهِ لَا يَسْقُطُ كَمَا لَوْ ظَلَمَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ وَتَابَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ لَمْ يَسْقُطْ

حَقُّ الْمَظْلُومِ بِذَلِكَ وَلِهَذَا جَازَ لِلرَّجُلِ إذَا زَنَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ يَقْذِفَهَا وَيُلَاعِنَهَا وَيَسْعَى فِي عُقُوبَتِهَا بِالرَّجْمِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَذْفُهَا وَلَا يُلَاعِنُ بَلْ يُحَدُّ إذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِفْسَادُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ لِزَوْجِهَا وَهُوَ عِنْدَهُ أَعْظَمُ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ . وَلِهَذَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ دَفْعًا عَنْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقَتْلِ بِالِاتِّفَاقِ وَيَجُوزُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ قَتْلُهُ وَإِنْ انْدَفَعَ بِدُونِهِ كَمَا فِي قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَتَاهُ رَجُلٌ بِيَدِهِ سَيْفٌ فِيهِ دَمٌ وَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا تَفَخَّذَ امْرَأَتَهُ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَأَقَرَّهُ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ وَشَكَرَهُ وَقَبِلَ قَوْلَهُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِذَلِكَ إذْ ظَهَرَتْ دَلَائِلُ ذَلِكَ . وَهَذَا كَمَا لَوْ اطَّلَعَ رَجُلٌ فِي بَيْتِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ ابْتِدَاءً وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْذِرَهُ هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ اطَّلَعَ رَجُلٌ فِي بَيْتِك فَفَقَأْت عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْك شَيْءٌ } وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الَّذِي عَضَّ يَدَ غَيْرِهِ فَنَزَعَ يَدَهُ فَانْقَلَعَتْ أَسْنَانُ الْعَاضِّ . وَهَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ . وَأَكْثَرُ السَّلَفِ وَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ ؛ إذْ الْمَقْصُودُ أَنَّ الزَّانِيَ بِامْرَأَةِ غَيْرِهِ ظَالِمٌ لِلزَّوْجِ وَلِلزَّوْجِ حَقٌّ عِنْدَهُ وَلِهَذَا { ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ

زَنَى بِامْرَأَةِ الْمُجَاهِدِ فَإِنَّهُ يُمَكَّنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حَسَنَاتِهِ يَأْخُذُ مِنْهَا مَا شَاءَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك } فَذَكَرَ الزِّنَا بِحَلِيلَةِ الْجَارِ فَعُلِمَ أَنَّ لِلزَّوْجِ حَقًّا فِي ذَلِكَ وَكَانَ ظُلْمُ الْجَارِ أَعْظَمَ ؛ لِلْحَاجَةِ إلَى الْمُجَاوَرَة . وَإِنْ قِيلَ : هَذَا قَدْ لَا يُمْكِنُ زَوْجَ الْمَرْأَةِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْهُ وَالْجَارُ عَلَيْهِ حَقٌّ زَائِدٌ عَلَى حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فَكَيْفَ إذَا ظَلَمَ فِي أَهْلِهِ وَالْجِيرَانُ يَأْمَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَفِي هَذَا مِنْ الظُّلْمِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي غَيْرِهِ وَجَارُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ امْرَأَتَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَيْفَ يُفْسِدُهَا هُوَ . فَلَمَّا كَانَ الزِّنَا بِالْمَرْأَةِ الْمُزَوَّجَةِ لَهُ عِلَّتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا تَسْتَقِلُّ بِالتَّحْرِيمِ مِثْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ الْمَيِّتِ : عَلَّلَ يُوسُفُ ذَلِكَ بِحَقِّ الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مَانِعًا لَهُ وَكَانَ فِي تَعْلِيلِهِ بِحَقِّ الزَّوْجِ فَوَائِدُ . " مِنْهَا " أَنَّ هَذَا مَانِعٌ تَعْرِفُهُ الْمَرْأَةُ وَتَعْذُرُهُ بِهِ بِخِلَافِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا لَا تَعْرِفُ عُقُوبَةَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ . و " مِنْهَا " أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَرْتَدِعُ بِذَلِكَ فَتَرْعَى حَقَّ زَوْجِهَا إمَّا

خَوْفًا وَإِمَّا رِعَايَةً لِحَقِّهِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَمْلُوكُ يَمْتَنِعُ عَنْ هَذَا رِعَايَةً لِحَقِّ سَيِّدِهِ فَالْمَرْأَةُ أَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّهَا خَائِنَةٌ فِي نَفْسِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بِخِلَافِ الْمَمْلُوكِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ الْخِدْمَةُ وَفَاحِشَتُهُ بِمَنْزِلَةِ سَرِقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِهِ . و " مِنْهَا " أَنَّ هَذَا مَانِعٌ مُؤَيِّسٌ لَهَا فَلَا تَطْمَعُ فِيهِ لَا بِنِكَاحِ وَلَا بِسِفَاحِ بِخِلَافِ الْخَلِيَّةِ مِنْ الزَّوْجِ فَإِنَّهَا تَطْمَعُ فِيهِ بِنِكَاحِ حَلَالٍ . و " مِنْهَا " أَنَّهُ لَوْ عَلَّلَ بِالزِّنَا فَقَدْ تَسْعَى هِيَ فِي فِرَاقِ الزَّوْجِ وَالتَّزَوُّجِ بِهِ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَحْرُمُ لِحَقِّ الزَّوْجِ خَاصَّةً وَلِهَذَا إذَا طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ بِاخْتِيَارِهِ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا . وَلَوْ طَلَّقَهَا لِيَتَزَوَّجَ بِهَا - كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إنَّ لِي امْرَأَتَيْنِ فَاخْتَرْ أَيَّتَهمَا شِئْت حَتَّى أُطَلِّقَهَا وَتَتَزَوَّجَهَا - لَكِنَّهُ بِدُونِ رِضَاهُ لَا يَحِلُّ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا وَلَا عَبْدًا عَلَى مَوَالِيهِ } وَقَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَيَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ فَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْخِطْبَةِ وَقَبْلَ الْعَقْدِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ التَّزَوُّجَ بِامْرَأَتِهِ فَكَيْفَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالدُّخُولِ وَالصُّحْبَةِ . فَلَوْ عَلَّلَ بِأَنَّ هَذَا زِنًا مُحَرَّمٌ رُبَّمَا طَمِعَتْ فِي أَنْ تُفَارِقَ الزَّوْجَ وَتَتَزَوَّجَهُ فَإِنَّ كَيْدَهُنَّ عَظِيمٌ ؛ وَقَدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا . فَلَمَّا عَلَّلَ بِحَقِّ

سَيِّدِهِ وَقَالَ : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } يَئِسَتْ مِنْ ذَلِكَ وَعَلِمَتْ أَنَّهُ يُرَاعِي حَقَّ الزَّوْجِ فَلَا يُزَاحِمُهُ فِي امْرَأَتِهِ أَلْبَتَّةَ ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ مَعَ هَذَا أَنَّ الزَّوْجَ رَضِيَ بِالْفَاحِشَةِ وَأَبَاحَ امْرَأَتَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُبِيحُهَا لِحَقِّ اللَّهِ وَلِحَقِّهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ حَقٍّ لِلْإِنْسَانِ لَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ وَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ وَإِنَّمَا ذَاكَ فِيمَا يُبَاحُ لَهُ بَذْلُهُ وَهُوَ مَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي بَذْلِهِ مِثْلَ مَا يُعْطِيهِ مِنْ فَضْلِ مَالٍ وَنَفْعٍ . وَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُ بَذْلُهُ فَلَا يُبَاحُ بِإِبَاحَتِهِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : عَلِّمْنِي السِّحْرَ وَالْكُفْرَ وَالْكِهَانَةَ وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ إضْلَالِي أَوْ قَالَ لَهُ : بِعْنِي رَقِيقًا وَخُذْ ثَمَنِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : افْعَلْ بِي أَوْ بِابْنِي أَوْ بامرأتي أَوْ بِإِمَائِي الْفَاحِشَةَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُسْقِطُ حَقَّهُ فِيهِ بِإِبَاحَتِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَذْلُ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُهَا عَلَى الْفَاحِشَةِ وَإِنْ تَرَاضَيَا بِهَا ؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ظُلْمًا لِهَذَا الشَّخْصِ لَا يَرْتَفِعُ بِإِبَاحَتِهِ كَظُلْمِهِ إذَا جَعَلَهُ كَافِرًا أَوْ رَقِيقًا فَإِنَّ كَوْنَهُ يَفْعَلُ بِهِ الْفَاحِشَةَ أَوْ بِأَهْلِهِ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ إبَاحَتَهُ كَالضَّرَرِ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ كَافِرًا وَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : أَزِلْ عَقْلِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ بَذْلَ ذَلِكَ بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُمْنَعُ السَّفِيهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ أَوْ إسْقَاطِ حُقُوقِهِ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ وَالصَّغِيرُ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِمْ لِحَقِّهِمْ .

وَلِهَذَا لَوْ أَذِنَ لَهُ الصَّبِيُّ أَوْ السَّفِيهُ فِي أَخْذِ مَالِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَمَنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِي تَكْفِيرِهِ أَوْ تَجْنِينِهِ أَوْ تَخْنِيثِهِ وَالْإِفْحَاشِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ فَهُوَ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ وَهَذَا مِثْلُ الرِّبَا فَإِنَّهُ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْمُرَابَى وَهُوَ بَالِغٌ رَشِيدٌ لَمْ يُبَحْ ذَلِكَ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمِهِ ؛ وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا قَبَضَ مِنْهُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَلَا يُعْطِيهِ إلَّا رَأْسَ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَذَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَوْ كَانَ التَّحْرِيمُ لِمُجَرَّدِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَسَقَطَ بِرِضَاهُ وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ إذَا أَسْقَطَهُ سَقَطَ لَمَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الزِّيَادَةِ وَالْإِنْسَانُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ غَيْرِهِ . فَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ : اُقْتُلْنِي لَمْ يَمْلِكْ مِنْهُ أَعْظَمَ مِمَّا يَمْلِكُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ . وَلِهَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَظَلَّمُ مِنْ الْأَكَابِرِ وَهُمْ لَمْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بَلْ بِاخْتِيَارِهِمْ كَفَرُوا . قَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } وَقَالَ : { حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } . وَكَذَلِكَ النَّاسُ يَلْعَنُونَ الشَّيْطَانَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُكْرِهْهُمْ عَلَى الذُّنُوبِ ؛

بَلْ هُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ أَذْنَبُوا . فَإِنْ قِيلَ : هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ : نَحْنُ لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ أَنَّ فِي هَذَا عَلَيْنَا ضَرَرًا وَلَكِنْ أَنْتُمْ زَيَّنْتُمْ لَنَا هَذَا وَحَسَّنْتُمُوهُ حَتَّى فَعَلْنَاهُ وَنَحْنُ كُنَّا جَاهِلِينَ بِالْأَمْرِ . قِيلَ : كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ الْجَاهِلَ بِمَا عَلَيْهِ فِي الْفِعْلِ مِنْ الضَّرَرِ لَا عِبْرَةَ بِرِضَاهُ وَإِذْنِهِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ الرِّضَاءُ وَالْإِذْنُ مِمَّنْ يَعْلَمُ مَا يَأْذَنُ فِيهِ وَيَرْضَى بِهِ وَمَا كَانَ عَلَى الْإِنْسَانِ فِيهِ ضَرَرٌ رَاجِحٌ لَا يَرْضَى بِهِ إلَّا لِعَدَمِ عِلْمِهِ وَإِلَّا فَالنَّفْسُ تَمْتَنِعُ بِذَاتِهَا مِنْ الضَّرَرِ الرَّاجِحِ . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ اشْتَرَى الْمَعِيبَ وَالْمُدَلَّسَ وَالْمَجْهُولَ السِّعْرِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ غَيْرَ رَاضٍ بِهِ ؛ بَلْ لَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ كَذَلِكَ الْكُفْرُ وَالْجُنُونُ وَالْفَاحِشَةُ بِالْأَهْلِ لَا يَرْضَى بِهَا إلَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا فِيهَا مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَذِنَ فِيهَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ ؛ بَلْ يَكُونُ مَظْلُومًا وَلَوْ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ مَا فِيهَا مِنْ الْعِقَابِ وَأَرْضَى بِهِ كَانَ كَذِبًا ؛ بَلْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِمَا يَقُولُهُ . وَلِهَذَا لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ وَقَالَ نَوَيْت مُوجَبَهُ عِنْدَ اللَّهِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : " بِهَشِمِ " وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا أَوْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَيَنْوِي مُوجَبَهَا

مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ النِّيَّةَ وَالْقَصْدَ وَالرِّضَا مَشْرُوطٌ بِالْعِلْمِ فَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ لَا يَرْضَى بِهِ إلَّا إذَا كَانَ رَاضِيًا بِهِ مَعَ الْعِلْمِ وَمَنْ كَانَ يَرْضَى بِأَنْ يَكْفُرَ وَيُجَنَّ وَتُفْعَلَ الْفَاحِشَةُ بِهِ وَبِأَهْلِهِ . فَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ ؛ بَلْ هُوَ سَفِيهٌ . فَلَا عِبْرَةَ بِرِضَاهُ وَإِذْنِهِ ؛ بَلْ لَهُ حَقٌّ عِنْدَ مَنْ ظَلَمَهُ وَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ غَيْرُ مَا لِلَّهِ مِنْ الْحَقِّ . وَإِنْ كَانَ حَقُّ هَذَا دُونَ حَقِّ الْمُنْكِرِ الْمَانِعِ . وَلِهَذَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } يَقُولُ : مَتَى أَفْسَدْت امْرَأَتَهُ كُنْت ظَالِمًا بِكُلِّ حَالٍ وَلَيْسَ هَذَا جَزَاءَ إحْسَانِهِ إلَيَّ . وَالنَّاسُ إذَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ أَبْغَضَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَإِنْ كَانُوا فَعَلُوهُ بِتَرَاضِيهِمْ قَالَ طَاوُوسٌ : مَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ عَلَى غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ إلَّا تَفَرَّقَا عَنْ تَقَالٍ وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } وَهَؤُلَاءِ لَا يَكْفُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ عَصَى اللَّهَ ؛ بَلْ لِمَا حَصَلَ لَهُ بِمُشَارَكَتِهِ وَمُعَاوَنَتِهِ مِنْ الضَّرَرِ وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّتِي أَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ : { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ } أَيْ يَلُومُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا . وَقَالَ : { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ

بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ } . فَالْمُخَالَّةُ إذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ مَصْلَحَةِ الِاثْنَيْنِ كَانَتْ عَاقِبَتُهَا عَدَاوَةً وَإِنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَصْلَحَتِهِمَا إذَا كَانَتْ فِي ذَاتِ اللَّهِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا وَإِنْ بَذَلَ لِلْآخَرِ إعَانَةً عَلَى مَا يَطْلُبُهُ وَاسْتَعَانَ بِهِ بِإِذْنِهِ فِيمَا يَطْلُبُهُ فَهَذَا التَّرَاضِي لَا اعْتِبَارَ بِهِ ؛ بَلْ يَعُودُ تَبَاغُضًا وَتَعَادِيًا وَتَلَاعُنًا وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ : لَوْلَا أَنْتَ مَا فَعَلْت أَنَا وَحْدِي هَذَا ؛ فَهَلَاكِي كَانَ مِنِّي وَمِنْك . وَالرَّبُّ لَا يَمْنَعُهُمَا مِنْ التَّبَاغُضِ وَالتَّعَادِي وَالتَّلَاعُنِ فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَالِمًا لِلْآخَرِ فِيهِ لَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ : أَنْتَ لِأَجْلِ غَرَضِك أَوْقَعَتْنِي فِي هَذَا ؛ كَالزَّانِيَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ لِأَجْلِ غَرَضِك فَعَلْت مَعِي هَذَا . وَلَوْ امْتَنَعْت لَمْ أَفْعَلْ أَنَا هَذَا ؛ لَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ مِثْلُ مَا لِلْآخَرِ عَلَيْهِ ؛ فَتَعَادَلَا . وَلِهَذَا إذَا كَانَ الطَّلَبُ وَالْمُرَاوَدَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ كَانَ الْآخَرُ يتظلمه وَيَلْعَنُهُ أَكْثَرَ وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الطَّلَبِ تَقَاوَمَا ؛ فَإِذَا رَضِيَ الزَّوْجُ بِالدِّيَاثَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لِإِرْضَاءِ الرَّجُلِ أَوْ الْمَرْأَةِ لِغَرَضِ لَهُ آخَرَ ؛ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لَهَا ؛ وَلَا تُقِيمُ مَعَهُ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ يَقُولُ لِلزَّانِي بِهَا : أَنْتَ لِغَرَضِك أَفْسَدْت عَلَيَّ امْرَأَتِي وَأَنَا إنَّمَا رَضِيت لِأَجْلِ غَرَضِهَا فَأَنْتَ لَمَّا أَفْسَدْت عَلَيَّ امْرَأَتِي وَظَلَمْتنِي

فَعَلْت مَعِي مَا فَعَلْت . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : إنِّي أَخَافُ اللَّهَ أَنْ يُعَاقِبَنِي وَنَحْوَ ذَلِكَ لَقَالَتْ : أَنْتَ إنَّمَا تَتْرُكُ غَرَضِي لِغَرَضِك فِي النَّجَاةِ وَأَنَا سَيِّدَتُك فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَدِّمَ غَرَضِي عَلَى غَرَضِك فَلَمَّا قَالَ : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } عَلَّلَ بِحَقِّ سَيِّدِهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا رِعَايَةُ حَقِّهِ .
فَصْلٌ :
وَفِي قَوْلِ يُوسُفَ : { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } عِبْرَتَانِ : " إحْدَاهُمَا " اخْتِيَارُ السَّجْنِ وَالْبَلَاءِ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي . و " الثَّانِيَةُ " طَلَبُ سُؤَالِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ أَنْ يُثَبِّتَ الْقَلْبَ عَلَى دِينِهِ وَيَصْرِفَهُ إلَى طَاعَتِهِ وَإِلَّا فَإِذَا لَمْ يُثَبِّتْ الْقَلْبَ صَبَا إلَى الْآمِرِينَ بِالذُّنُوبِ وَصَارَ مِنْ الْجَاهِلِينَ . فَفِي هَذَا تَوَكُّلٌ عَلَى اللَّهِ وَاسْتِعَانَةٌ بِهِ أَنْ يُثَبِّتَ الْقَلْبَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَفِيهِ صَبْرٌ عَلَى الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ وَالْأَذَى الْحَاصِلِ إذَا ثَبَتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ .

وَهَذَا كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ : { اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ : { سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . وَمِنْهُ قَوْلُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } وَقَوْلِهِ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَوْلِهِ : { بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } . فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْوَى بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ كَمَا فَعَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اتَّقَى اللَّهَ بِالْعِفَّةِ عَنْ الْفَاحِشَةِ وَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُمْ لَهُ بِالْمُرَاوَدَةِ وَالْحَبْسِ وَاسْتَعَانَ اللَّهَ وَدَعَاهُ حَتَّى يُثَبِّتَهُ عَلَى الْعِفَّةِ فَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ وَصَبَرَ عَلَى الْحَبْسِ .

وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } { يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ } { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَذًى لِكُلِّ مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَإِنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْأَذَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ بَلْ اخْتَارَ الْمَعْصِيَةَ كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا فَرَّ مِنْهُ بِكَثِيرِ . { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } . وَمَنْ احْتَمَلَ الْهَوَانَ وَالْأَذَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالْعِزِّ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَمَا فَعَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَانَتْ الْعَاقِبَةُ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَذَى قَدْ انْقَلَبَ نَعِيمًا وَسُرُورًا كَمَا أَنَّ مَا يَحْصُلُ لِأَرْبَابِ الذُّنُوبِ مِنْ التَّنَعُّمِ بِالذُّنُوبِ يَنْقَلِبُ حُزْنًا وَثُبُورًا . فَيُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَافَ اللَّهَ مِنْ الذُّنُوبِ وَلَمْ يَخَفْ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ وَحَبْسِهِمْ إذْ أَطَاعَ اللَّهَ بَلْ آثَرَ الْحَبْسَ وَالْأَذَى مَعَ الطَّاعَةِ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالْعِزِّ وَقَضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَنَيْلِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهُ لَوْ وَافَقَ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ نَالَ الشَّهْوَةَ وَأَكْرَمَتْهُ الْمَرْأَةُ بِالْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ

وَزَوْجُهَا فِي طَاعَتِهَا فَاخْتَارَ يُوسُفُ الذُّلَّ وَالْحَبْسَ وَتَرْكَ الشَّهْوَةِ وَالْخُرُوجَ عَنْ الْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ مَعَ الطَّاعَةِ عَلَى الْعِزِّ وَالرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ . بَلْ قَدَّمَ الْخَوْفَ مِنْ الْخَالِقِ عَلَى الْخَوْفِ مِنْ الْمَخْلُوقِ وَإِنْ آذَاهُ بِالْحَبْسِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّهَا كَذَبَتْ عَلَيْهِ ؛ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ رَاوَدَهَا ثُمَّ حَبَسَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا إنَّهُ هَتَكَ عِرْضِي لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تَقُولَ لَهُ رَاوَدَنِي فَإِنَّ زَوْجَهَا قَدْ عَرَفَ الْقِصَّةَ ؛ بَلْ كَذَبَتْ عَلَيْهِ كِذْبَةً تَرُوجُ عَلَى زَوْجِهَا . وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ هَتَكَ عِرْضَهَا بِإِشَاعَةِ فَعَلَهَا وَكَانَتْ كَاذِبَةً عَلَى يُوسُفَ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهَا شَيْئًا ؛ بَلْ كَذَبَتْ أَوَّلًا وَآخِرًا ؛ كَذَبَتْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ طَلَبَ الْفَاحِشَةَ وَكَذَبَتْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَشَاعَهَا وَهِيَ الَّتِي طَالَبَتْ وَأَشَاعَتْ فَإِنَّهَا قَالَتْ لِلنِّسْوَةِ : فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ . وَلَقَدْ رَاوَدْته عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ . فَهَذَا غَايَةُ الْإِشَاعَةِ لِفَاحِشَتِهَا لَمْ تَسْتُرْ نَفْسَهَا . وَالنِّسَاءُ أَعْظَمُ النَّاسِ إخْبَارًا بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعْنَ قَوْلَهَا قَدْ قُلْنَ فِي الْمَدِينَةِ : { امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ } فَكَيْفَ إذَا اعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ وَطَلَبَتْ رَفْعَ الْمَلَامِ عَنْهَا ؟ .

وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُنَّ أَعَنَّهَا فِي الْمُرَاوَدَةِ وَعَذَلْنَهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ } وَقَوْلُهُ : { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ كَيْدًا مِنْهُنَّ وَقَدْ قَالَ لَهُنَّ الْمَلِكُ : { مَا خَطْبُكُنَّ إذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } فَهُنَّ لَمْ يُرَاوِدْنَهُ لِأَنْفُسِهِنَّ ؛ إذْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُمْكِنٍ وَهُوَ عِنْدَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا وَتَحْتَ حِجْرِهَا ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُنَّ أَعَنَّ الْمَرْأَةَ عَلَى مَطْلُوبِهَا . وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي فِعْلِ الْفَاحِشَةِ فَغَيْرُهَا مِنْ الذُّنُوبِ أَعْظَمُ مِثْلَ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ لِلْخَلْقِ كَقَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ وَمِثْلَ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ وَمِثْلَ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَهَذِهِ أَجْنَاسُ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالِ وَلَا فِي شَرِيعَةٍ وَمَا سِوَاهَا - وَإِنْ حَرُمَ فِي حَالٍ - فَقَدْ يُبَاحُ فِي حَالٍ .

فَصْلٌ :
وَاخْتِيَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ وَلِأَهْلِهِ الِاحْتِبَاسَ فِي شِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ بِضْعَ سِنِينَ لَا يُبَايِعُونَ وَلَا يُشَارُونَ ؛ وَصِبْيَانُهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ قَدْ هَجَرَهُمْ وَقَلَاهُمْ قَوْمُهُمْ وَغَيْرُ قَوْمِهِمْ . هَذَا أَكْمَلُ مِنْ حَالِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَدْعُونَ الرَّسُولَ إلَى الشِّرْكِ وَأَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ . يَقُولُ : مَا أَرْسَلَنِي وَلَا نَهَى عَنْ الشِّرْكِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا } { وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } { إذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إلَّا قَلِيلًا } { سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا } . وَكَانَ كَذِبُ هَؤُلَاءِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى يُوسُفَ ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إنَّهُ سَاحِرٌ وَإِنَّهُ كَاهِنٌ وَإِنَّهُ مَجْنُونٌ وَإِنَّهُ

مُفْتَرٍ . وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا وَالْقَذْفِ ؛ لَا سِيَّمَا الزِّنَا الْمَسْتُورُ الَّذِي لَا يَدْرِي بِهِ أَحَدٌ . فَإِنَّ يُوسُفَ كَذَبَ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ زَنَى وَأَنَّهُ قَذَفَهَا وَأَشَاعَ عَنْهَا الْفَاحِشَةَ ؛ فَكَانَ الْكَذِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى يُوسُفَ . وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ عَلَى أُولِي الْعَزْمِ مِثْلَ نُوحٍ وَمُوسَى حَيْثُ يُقَالُ عَنْ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ : إنَّهُ مَجْنُونٌ وَإِنَّهُ كَذَّابٌ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَمَا لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الْحَبْسِ فَإِنَّ يُوسُفَ حُبِسَ وَسُكِتَ عَنْهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ كَانُوا يُؤْذَوْنَ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مَعَ مَنْعِهِمْ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ الْمُعْتَادَةِ . وَهَذَا مَعْنَى الْحَبْسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْحَبْسِ سُكْنَاهُ فِي السِّجْنِ بَلْ الْمُرَادُ مَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ الْمُعْتَادِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسٌ وَلَا لِأَبِي بَكْرٍ ؛ بَلْ أَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَ السِّجْنَ عُمَرُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُسَلِّمُ الْغَرِيمَ إلَى غَرِيمِهِ وَيَقُولُ : مَا فَعَلَ أَسِيرُك } فَيَجْعَلُهُ أَسِيرًا مَعَهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ حَقَّهُ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْحَبْسِ . وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَنَعُوهُمْ مِنْ التَّصَرُّفِ بِمَكَّةَ أَذًى لَهُمْ حَتَّى خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَاخْتَارُوا السُّكْنَى بَيْنَ أُولَئِكَ النَّصَارَى عِنْدَ مَلِكٍ عَادِلٍ عَلَى السُّكْنَى بَيْنَ قَوْمِهِمْ وَالْبَاقُونَ

أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَيْضًا مَعَ مَا آذُوهُمْ بِهِ حَتَّى قَتَلُوا بَعْضَهُمْ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بَعْضَهُمْ وَيَمْنَعُونَ بَعْضَهُمْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَضَعُونَ الصَّخْرَةَ عَلَى بَطْنِ أَحَدِهِمْ فِي رَمْضَاءِ مَكَّةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى . وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَارُ الْأَذَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَلَى الْإِكْرَامِ مَعَ مَعْصِيَتِهِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ اخْتَارَ الْقَيْدَ وَالْحَبْسَ وَالضَّرْبَ عَلَى مُوَافَقَةِ السُّلْطَانِ وَجُنْدِهِ عَلَى أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ فِي كَلَامِهِ وَعَلَى أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ أَيْضًا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ بِكَلَامِ يَعْرِفُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَبِكَلَامِ مُجْمَلٍ يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرٍ ؛ فَيَقُولُ لَهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَد : مَا أَدْرِي مَا هَذَا ؟ فَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ . وَلَا عَلَى أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ كَلَامٍ : (1)
[ يَهِّمُ أَحَدُهُمْ ] (2) بِالذَّنَبِ فَيَذْكُرُ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فَيَدَعُهُ فَكَانَ يُوسُفُ مِمَّنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى . ثُمَّ إنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ شَابًّا عَزَبًا أَسِيرًا فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَقَارِبَ أَوْ أَصْدِقَاءً فَيَسْتَحِي مِنْهُمْ إذَا فَعَلَ فَاحِشَةً فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَمْنَعُهُ مِنْ مُوَاقَعَةِ الْقَبَائِحِ حَيَاؤُهُ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ فَإِذَا تَغَرَّبَ فَعَلَ مَا يَشْتَهِيهِ . وَكَانَ أَيْضًا خَالِيًا لَا يَخَافُ مَخْلُوقًا فَحُكْمُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ - لَوْ كَانَتْ نَفْسُهُ كَذَلِكَ - أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعْتَرِضَ لَهَا ؛ بَلْ يَكُونُ هُوَ الْمُتَحَيِّلَ عَلَيْهَا كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَهُ غَرَضٌ فِي نِسَاءِ الْأَكَابِرِ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً . فَأَمَّا إذَا دُعِيَ وَلَوْ كَانَتْ الدَّاعِيَةُ خَدَّامَةً لَكَانَ أَسْرَعَ مُجِيبٍ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الدَّاعِيَةُ سَيِّدَتَهُ الْحَاكِمَةَ عَلَيْهِ الَّتِي يَخَافُ الضَّرَرَ بِمُخَالَفَتِهَا . ثُمَّ إنَّ زَوْجَهَا الَّذِي عَادَتُهُ أَنْ يَزْجُرَ الْمَرْأَةَ لَمْ يُعَاقِبْهَا ؛ بَلْ أَمَرَ

يُوسُفَ بِالْإِعْرَاضِ كَمَا يَنْعَرُ الدَّيُّوثُ ثُمَّ إنَّهَا اسْتَعَانَتْ بِالنِّسَاءِ وَحَبَسَتْهُ وَهُوَ يَقُولُ : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } . فَلْيَتَدَبَّرْ اللَّبِيبُ هَذِهِ الدَّوَاعِيَ الَّتِي دَعَتْ يُوسُفَ إلَى مَا دَعَتْهُ وَأَنَّهُ مَعَ تَوَفُّرِهَا وَقُوَّتِهَا لَيْسَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ صَارِفٌ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَلَا مَنْ يُنْجِيهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ؛ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الَّذِي اُبْتُلِيَ بِهِ يُوسُفُ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ وَأَنَّ تَقْوَاهُ وَصَبْرَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ - حَتَّى لَا يَفْعَلَهَا مَعَ ظُلْمِ الظَّالِمِينَ لَهُ حَتَّى لَا يُجِيبَهُمْ - كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ وَأَكْبَرِ الطَّاعَاتِ وَأَنَّ نَفْسَ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَتْ مِنْ أَزْكَى الْأَنْفُسِ فَكَيْفَ أَنْ يَقُولَ : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ نَفْسَهُ بَرِيئَةٌ لَيْسَتْ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ ؛ بَلْ نَفْسٌ زَكِيَّةٌ مِنْ أَعْظَمِ النُّفُوسِ زَكَاءً وَالْهَمُّ الَّذِي وَقَعَ كَانَ زِيَادَةً فِي زَكَاءِ نَفْسِهِ وَتَقْوَاهَا وَبِحُصُولِهِ مَعَ تَرْكِهِ لِلَّهِ لِتَثْبُتَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تُزَكِّي نَفْسَهُ . " الْوَجْهُ السَّادِسُ " أَنَّ قَوْلَهُ : { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } إذَا كَانَ مَعْنَاهُ عَلَى مَا زَعَمُوهُ أَنَّ يُوسُفَ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي امْرَأَتِهِ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ ؛ أَوْ لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ أَوْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَا مَا يُشَارُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ يُوسُفَ كَلَامٌ يُشِيرُ بِهِ إلَيْهِ وَلَا تَقَدَّمَ

أَيْضًا ذِكْرُ عَفَافِهِ وَاعْتِصَامِهِ ؛ فَإِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ النِّسْوَةُ قَوْلُهُنَّ : { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ } وَقَوْلُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ : { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ } وَهَذَا فِيهِ بَيَانُ كَذِبِهَا فِيمَا قَالَتْهُ أَوَّلًا لَيْسَ فِيهِ نَفْسُ فِعْلِهِ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ قَوْلَهُ ( ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ هُنَا قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ لَا يَصِحُّ بِحَالِ . " الْوَجْهُ السَّابِعُ " أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ - لَوْ كَانَ هُنَا مَا يُشَارُ إلَيْهِ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ أَوْ عَمَلِهِ - إنَّ عِفَّتِي عَنْ الْفَاحِشَةِ كَانَ لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ وَيُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ وَرَجَاءً لِثَوَابِهِ ؛ وَلِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ ؛ لَا لِأَجْلِ مُجَرَّدِ عِلْمِ مَخْلُوقٍ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ . وَمَنْ تَرَكَ الْمُحَرَّمَاتِ لِيَعْلَمَ الْمَخْلُوقُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا لِأَجْلِ بُرْهَانٍ مِنْ رَبِّهِ وَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مُخْلَصًا فَهَذَا الَّذِي أَضَافُوهُ إلَى يُوسُفَ إذَا فَعَلَهُ آحَادُ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوَابٌ مِنْ اللَّهِ ؛ بَلْ يَكُونُ ثَوَابُهُ عَلَى مَنْ عَمِلَ لِأَجْلِهِ .

فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ يُوسُفُ أَوَّلًا : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } . قِيلَ : إنْ كَانَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ سَيِّدَهُ : فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَحْسَنَ إلَيَّ ؛ وَأَكْرَمَنِي فَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَخُونَهُ فِي أَهْلِهِ فَإِنِّي أَكُونُ ظَالِمًا وَلَا يُفْلِحُ الظَّالِمُ ؛ فَتَرَكَ خِيَانَتَهُ فِي أَهْلِهِ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ لَا لِيَعْلَمَ هُوَ بِذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : مُرَادُهُ تَأْتِي إظْهَارُ بَرَاءَتِي لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ فَالْمُعَلَّلُ إظْهَارُ بَرَاءَتِهِ لَا نَفْسَ عَفَافِهِ . قِيلَ : لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ بِإِظْهَارِ بَرَاءَتِهِ مُجَرَّدَ عِلْمٍ وَاحِدٍ ؛ بَلْ مُرَادُهُ عِلْمُ الْمَلِكِ وَغَيْرِهِ . وَلِهَذَا قَالَ لِلرَّسُولِ : { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ لَقَالَ : ذَلِكَ لِيَعْلَمُوا أَنِّي بَرِيءٌ وَأَنِّي مَظْلُومٌ . ثُمَّ هَذَا لَا يَلِيقُ أَنْ يُذْكَرَ عَنْ يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ وَحَصَلَ مَطْلُوبُهُ فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ . وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ إنَّمَا تَأَخَّرَ لِتَظْهَرَ بَرَاءَتُهُ فَلَا يَحْتَاجُ مِثْلُ هَذَا أَنْ يَنْطِقَ بِهِ .

" الْوَجْهُ الثَّامِنُ " أَنَّ النَّاسَ عَادَتُهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا يُعَرِّفُونَ بِمَا عَمِلُوهُ مَنْ لِذَلِكَ عِنْدَهُ قَدْرٌ وَهَذَا يُنَاسِبُ لَوْ كَانَ الْعَزِيزُ غَيُورًا وَلِلْعِفَّةِ عِنْدَهُ جَزَاءٌ كَثِيرٌ وَالْعَزِيزُ قَدْ ظَهَرَتْ عَنْهُ مِنْ قِلَّةِ الْغَيْرَةِ وَتَمْكِينِ امْرَأَتِهِ مِنْ جِنْسِهِ مَعَ الظَّالِمِينَ مَعَ ظُهُورِ بَرَاءَتِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَنْبَغِي فِي عَادَةِ الطِّبَاعِ أَنْ يُقَابَلَ عَلَى ذَلِكَ بِمُوَاقَعَةِ أَهْلِهِ . فَإِنَّ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ تَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا : هَذَا لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ إحْسَانِي إلَيْهِ وَصَوْنِي لِأَهْلِهِ وَكَفَّ نَفْسِي عَنْ ذَلِكَ ؛ بَلْ سَلَّطَهَا وَمَكَّنَهَا . فَكَثِيرٌ مِنْ النُّفُوسِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهَا الْفَاحِشَةُ إذَا رَأَتْ مَنْ حَالُهُ هَذَا تَفْعَلُ الْفَاحِشَةَ إمَّا نِكَايَةً فِيهِ وَمُجَازَاةً لَهُ عَلَى ظُلْمِهِ وَإِمَّا إهْمَالًا لَهُ لِعَدَمِ غَيْرَتِهِ وَظُهُورِ دِيَاثَتِهِ وَلَا يَصْبِرُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ عَنْ الْفَاحِشَةِ إلَّا مَنْ يَعْمَلُ لِلَّهِ خَائِفًا مِنْهُ وَرَاجِيًا لِثَوَابِهِ لَا مَنْ يُرِيدُ تَعْرِيفَ الْخَلْقِ بِعَمَلِهِ . " الْوَجْهُ التَّاسِعُ " أَنَّ الْخِيَانَةَ ضِدُّ الْأَمَانَةِ وَهُمَا مِنْ جِنْسِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَيُقَالُ الْكَاذِبُ الْخَائِنُ . وَهَذَا حَالُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَذَبَتْ عَلَى يُوسُفَ فِي مَغِيبِهِ وَقَالَتْ رَاوَدَنِي لَكَانَتْ كَاذِبَةً وَخَائِنَةً فَلَمَّا اعْتَرَفَتْ بِأَنَّهَا هِيَ الْمُرَاوِدَةُ كَانَتْ صَادِقَةً فِي هَذَا الْخَبَرِ أَمِينَةً فِيهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ : { وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } فَأَخْبَرَتْ بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي تَبْرِئَتِهِ نَفْسَهُ دُونَهَا .

فَأَمَّا فِعْلُ الْفَاحِشَةِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ وَالْأَمَانَةِ ؛ وَلَكِنْ هُوَ بَابُ الظُّلْمِ وَالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ كَمَا وَصَفَهَا اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ : { مَعَاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } وَلَمْ يَقُلْ هُنَا الْخَائِنِينَ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَلَمْ يَقُلْ لِنَصْرِفَ عَنْهُ الْخِيَانَةَ ؛ فَلْيَتَدَبَّرْ اللَّبِيبُ هَذِهِ الدَّقَائِقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . " الْوَجْهُ الْعَاشِرُ " أَنَّ فِي الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ الَّذِي أَقَرَّهُ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ نَفْسٍ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ ؛ بَلْ مَا رَحِمَ رَبِّي لَيْسَ فِيهِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ النَّفْسَ لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : تَكُونُ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ ثُمَّ تَكُونُ لَوَّامَةً أَيْ تَفْعَلُ الذَّنْبَ ثُمَّ تَلُومُ عَلَيْهِ أَوْ تَتَلَوَّمُ فَتَتَرَدَّدُ بَيْنَ الذَّنْبِ وَالتَّوْبَةِ . ثُمَّ تَصِيرُ مُطَمْئِنَةً . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ مَا رَحِمَ رَبِّي مِنْ النُّفُوسِ لَيْسَتْ بِأَمَّارَةٍ وَإِذَا كَانَتْ النُّفُوسُ مُنْقَسِمَةً إلَى مَرْحُومَةٍ وَأَمَّارَةٍ فَقَدْ عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّ نَفْسَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ مِنْ النُّفُوسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ ؛ لِأَنَّهَا أَمَرَتْ بِذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَرَاوَدَتْ وَافْتَرَتْ وَاسْتَعَانَتْ بِالنِّسْوَةِ وَسَجَنَتْ وَهَذَا مِنْ

أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَمْرِ بِالسُّوءِ . وَأَمَّا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَفْسُهُ مِنْ النُّفُوسِ الْمَرْحُومَةِ عَنْ أَنْ تَكُونَ أَمَّارَةً فَمَا فِي الْأَنْفُسِ مَرْحُومٌ ؛ فَإِنَّ مَنْ تَدَبَّرَ قِصَّةَ يُوسُفَ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي رُحِمَ بِهِ وَصُرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ ؛ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَجَعَلَهُ عِبْرَةً وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ إلَّا وَنَفْسُهُ إذَا اُبْتُلِيَتْ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّوَاعِي أَبْعَدُ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَرْحُومَةً مِنْ نَفْسِ يُوسُفَ . وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ : فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَفْسُ يُوسُفَ مَرْحُومَةً : فَمَا فِي النُّفُوسِ مَرْحُومَةٌ فَإِذًا كَلُّ النُّفُوسِ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي الْقُرْآنِ . وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى الْحِكَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ ؛ أَنَّ أَعْرَابِيَّةً دَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا وَهُمَا فِي الْبَادِيَةِ ؛ فَامْتَنَعَ وَبَكَى وَجَاءَ أَخُوهُ وَهُوَ يَبْكِي فَبَكَى وَبَكَتْ الْمَرْأَةُ وَذَهَبَتْ فَنَامَ فَرَأَى يُوسُفَ فِي مَنَامِهِ وَقَالَ : أَنَا يُوسُفُ الَّذِي هَمَمْت وَأَنْتَ مُسْلِمٌ الَّذِي لَمْ تَهُمَّ فَقَدْ يَظُنُّ مَنْ يَسْمَعُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ أَنَّ حَالَ مُسْلِمٍ كَانَ أَكْمَلَ . وَهَذَا جَهْلٌ لِوَجْهَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ حُكْمِ الْمَرْأَةِ الْمُرَاوِدَةِ وَلَا لَهَا عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا لَهَا عَلَيْهِ قُدْرَةٌ أَنْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ وَتَسْتَعِينَ بِالنِّسْوَةِ

وَتَحْبِسَهُ ، وَزَوْجُهَا لَا يُعِينُهُ وَلَا أَحَدٌ غَيْرُ زَوْجِهَا يُعِينُهُ عَلَى الْعِصْمَةِ ؛ بَلْ مُسْلِمٌ لَمَّا بَكَى ذَهَبَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ وَلَوْ اسْتَعْصَمَتْ لَكَانَ صُرَاخُهُ مِنْهَا أَوْ خَوْفُهَا مِنْ النَّاسِ يَصْرِفُهَا عَنْهُ . وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ . " الثَّانِي " أَنَّ الْهَمَّ مِنْ يُوسُفَ لَمَّا تَرَكَهُ لِلَّهِ كَانَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَلَا نَقْصَ عَلَيْهِ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ { يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ : رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ : إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } وَهَذَا لِمُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ فَكَيْفَ بِالْمُرَاوَدَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالْحَبْسِ ؟ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ مَنْصِبٍ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فَإِنَّ امْرَأَةَ عَزِيزِ مِصْرَ يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ جَمِيلَةً . وَأَمَّا الْبَدَوِيَّةُ الدَّاعِيَةُ لِمُسْلِمِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا دُونَ ذَلِكَ وَرُؤْيَاهُ فِي الْمَنَامِ وَقَوْلُهُ : أَنَا يُوسُفُ الَّذِي هَمَمْت وَأَنْتَ مُسْلِمٌ الَّذِي لَمْ تَهُمَّ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَهُ يُوسُفُ فِي الْيَقَظَةِ وَإِذَا قَالَ هَذَا : كَانَ هَذَا خَيْرًا لَهُ وَمَدْحًا وَثَنَاءً وَتَوَاضُعًا مِنْ يُوسُفَ وَإِذَا تَوَاضَعَ الْكَبِيرُ مَعَ مَنْ دُونَهُ لَمْ تَسْقُطْ مَنْزِلَتُهُ . " الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ " أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ - مَعَ الِاعْتِرَافِ

بِالذَّنْبِ - الِاعْتِذَارُ بِذِكْرِ سَبَبِهِ فَإِنَّ قَوْلَهَا : { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } فِيهِ اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ وَقَوْلُهَا : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } إشَارَةُ تَطَابُقٍ لِقَوْلِهَا : { أَنَا رَاوَدْتُهُ } أَيْ أَنَا مُقِرَّةٌ بِالذَّنْبِ مَا أَنَا مُبَرِّئَةٌ لِنَفْسِي . ثُمَّ بَيَّنَتْ السَّبَبَ فَقَالَتْ : { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } . فَنَفْسِي مِنْ هَذَا الْبَابِ فَلَا يُنْكَرُ صُدُورُ هَذَا مِنِّي . ثُمَّ ذَكَرَتْ مَا يَقْتَضِي طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَقَالَتْ : { إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا كَلَامُ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّ الزِّنَا ذَنْبٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَغْفِرُ لِصَاحِبِهِ . قُلْت : نَعَمْ . وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ زَوْجُهَا : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ } فَأَمْرُهُ لَهَا بِالِاسْتِغْفَارِ لِذَنْبِهَا دَلِيلٌ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ ذَنْبًا وَيَسْتَغْفِرُونَ مِنْهُ وَإِنْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُشْرِكِينَ فَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ مُشْرِكِينَ وَهُمْ يُحَرِّمُونَ الْفَوَاحِشَ وَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنْهَا حَتَّى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَ هِنْدَ بِنْتَ عتبة بْنِ رَبِيعَةَ بَيْعَةَ النِّسَاءِ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقَ وَلَا تَزْنِيَ . قَالَتْ : أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ ؟ } وَكَانَ الزِّنَا مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ فِي الْإِمَاءِ . وَلِهَذَا غَلَبَ عَلَى لُغَتِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْحُرِّيَّةَ فِي مُقَابَلَةِ الرِّقِّ وَأَصْلُ

اللَّفْظِ هُوَ الْعِفَّةُ وَلَكِنَّ الْعِفَّةَ عَادَةَ مَنْ لَيْسَتْ أَمَةً ؛ بَلْ قَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ العطاردي أَنَّهُ رَأَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدًا يَزْنِي بِقِرْدَةِ فَاجْتَمَعَتْ الْقُرُودُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَمَتْهُ . وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الشُّيُوخِ الصَّادِقِينَ أَنَّهُ رَأَى فِي جَامِعٍ نَوْعًا مِنْ الطَّيْرِ قَدْ بَاضَ فَأَخَذَ النَّاسُ بَيْضَةً وَجَاءَ بِبَيْضِ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ الطَّيْرِ فَلَمَّا انْفَقَسَ الْبَيْضُ خَرَجَتْ الْفِرَاخُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ فَجَعَلَ الذَّكَرُ يَطْلُبُ جِنْسَهُ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْهُنَّ عَدَدٌ فَمَا زَالُوا بِالْأُنْثَى حَتَّى قَتَلُوهَا وَمِثْلُ هَذَا مَعْرُوفٌ فِي عَادَةِ الْبَهَائِمِ . وَالْفَوَاحِشُ مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى اسْتِقْبَاحِهَا وَكَرَاهَتِهَا وَأُولَئِكَ الْقَوْمُ كَانُوا يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ مَعَ شِرْكِهِمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ يُوسُفُ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . " الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ " أَنْ يُقَالَ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ تَوْبَتَهُ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ : إمَّا أَنْ يَقُولُوا بِالْعِصْمَةِ مِنْ فِعْلِهَا وَإِمَّا

أَنْ يَقُولُوا بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَيْهَا ؛ لَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْصُومٌ أَنْ يُقِرَّ فِيهِ عَلَى خَطَأٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الرِّسَالَةِ وَمَدْلُولَ الْمُعْجِزَةِ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَسْطِ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ فِي كِتَابِهِ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ تَوْبَتَهُ مِنْهُ كَمَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَمُوسَى ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . وَبِهَذَا يُجِيبُ مَنْ يَنْصُرُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى مَنْ يَنْفِي الذُّنُوبَ مُطْلَقًا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَنْ أَعْظَمِ حُجَجِهِمْ مَا اعْتَمَدَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ حَيْثُ قَالُوا : نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالتَّأَسِّي بِهِمْ فِي الْأَفْعَالِ وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي التَّأَسِّي ؛ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ التَّأَسِّي إنَّمَا هُوَ فِيمَا أُقِرُّوا عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ النَّسْخَ جَائِزٌ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَيْسَ تَجْوِيزُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الطَّاعَةِ لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَجِبُ فِيمَا لَمْ يُنْسَخْ فَعَدَمُ النَّسْخِ يُقَرِّرُ الْحُكْمَ وَعَدَمُ الْإِنْكَارِ يُقَرِّرُ الْفِعْلَ وَالْأَصْلُ عَدَمُ كُلٍّ مِنْهُمَا . و يُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ فَعَلَ مَعَ الْمَرْأَةِ مَا يَتُوبُ عَنْهُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ أَصْلًا . وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَقَعْ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَذْكُرُ أَنَّهُ وَقَعَ

مِنْهُ بَعْضُ مُقَدِّمَاتِهَا مِثْلَ مَا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ حَلَّ السَّرَاوِيلَ وَقَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الْخَاتِنِ وَنَحْوَ هَذَا وَمَا يَنْقُلُونَهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ فِيهِ إلَّا النَّقْلُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ عُرِفَ كَلَامُ الْيَهُودِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَغَضُّهُمْ مِنْهُمْ كَمَا قَالُوا فِي سُلَيْمَانَ مَا قَالُوا وَفِي دَاوُد مَا قَالُوا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا مَا يَرُدُّ نَقْلَهُمْ لَمْ نُصَدِّقْهُمْ فِيمَا لَمْ نَعْلَمْ صِدْقَهُمْ فِيهِ فَكَيْفَ نُصَدِّقُهُمْ فِيمَا قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى خِلَافِهِ . وَالْقُرْآنُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ يُوسُفَ مِنْ الِاسْتِعْصَامِ وَالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مَا لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ نَظِيرُهُ فَلَوْ كَانَ يُوسُفُ قَدْ أَذْنَبَ لَكَانَ إمَّا مُصِرًّا وَإِمَّا تَائِبًا وَالْإِصْرَارُ مُمْتَنِعٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ تَائِبًا . وَاَللَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ تَوْبَةً فِي هَذَا وَلَا اسْتِغْفَارًا كَمَا ذَكَرَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ كَانَ مِنْ الْحَسَنَاتِ الْمَبْرُورَةِ وَالْمَسَاعِي الْمَشْكُورَةِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي يُوسُفَ كَذَلِكَ ؛ كَانَ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ : { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } إنَّمَا يُنَاسِبُ حَالَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لَا يُنَاسِبُ حَالَ يُوسُفَ فَإِضَافَةُ الذُّنُوبِ إلَى يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِرْيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ وَالرَّسُولِ وَفِيهِ تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَفِيهِ

الِاغْتِيَابُ لِنَبِيِّ كَرِيمٍ وَقَوْلُ الْبَاطِلِ فِيهِ بِلَا دَلِيلٍ وَنِسْبَتُهُ إلَى مَا نَزَّهَهُ اللَّهُ مِنْهُ وَغَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذَا مِنْ الْيَهُودِ أَهْلِ البهت الَّذِينَ كَانُوا يَرْمُونَ مُوسَى بِمَا بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ؟ وَقَدْ تَلَقَّى نَقْلَهُمْ مَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ وَجَعَلَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ تَابِعًا لِهَذَا الِاعْتِقَادِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنْحَرِفِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِصْمَةِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ كِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ : قَوْمٌ أَفْرَطُوا فِي دَعْوَى امْتِنَاعِ الذُّنُوبِ حَتَّى حَرَّفُوا نُصُوصَ الْقُرْآنِ الْمُخْبِرَةَ بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ التَّوْبَةِ مِنْ الذُّنُوبِ وَمَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُمْ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ بِذَلِكَ . وَقَوْمٌ أَفْرَطُوا فِي أَنْ ذَكَرُوا عَنْهُمْ مَا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى بَرَاءَتِهِمْ مِنْهُ وَأَضَافُوا إلَيْهِمْ ذُنُوبًا وَعُيُوبًا نَزَّهَهُمْ اللَّهُ عَنْهَا . وَهَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِلْقُرْآنِ وَهَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِلْقُرْآنِ وَمَنْ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ كَانَ مِنْ الْأُمَّةِ الْوَسَطِ مُهْتَدِيًا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى

قَالَ : فَمَنْ ؟ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ : { لَتَأْخُذَنَّ أُمَّتِي مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسٌ وَالرُّومُ ؟ قَالَ : وَمَنْ النَّاسُ إلَّا هَؤُلَاءِ ؟ } وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ صَارَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ فَارِسٍ وَالرُّومِ مَا أَدْخَلُوهُ فِي عِلْمِ الْمُسْلِمِينَ وَدِينِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ كَمَا دَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ واليونان وَغَيْرِهِمْ وَالْمَجُوسِ وَالْفُرْسِ وَالصَّابِئِينَ مِنْ اليونان وَغَيْرِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا سِيَّمَا فِي جِنْسِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ . وَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي طَائِفَةٍ هُمْ أَمْثَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ إذْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا خَيْرًا مِنْ غَيْرِهِمْ . وَلَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ كَانَتْ الشَّامُ وَمِصْرُ وَنَحْوُهُمَا مَمْلُوءَةً مِنْ أَهْل الْكِتَابِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ فَكَانُوا يُحَدِّثُونَهُمْ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا بَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ ؛ فَكَانَ مِنْ أَكْثَرِهِمْ حَدِيثًا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعْبُ الْأَحْبَارِ . وَقَدْ قَالَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا رَأَيْنَا فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَصْدَقَ مِنْ كَعْبٍ وَإِنْ كُنَّا لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ أَحْيَانًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَامَّةَ مَا عِنْدَ كَعْبٍ أَنْ يَنْقُلَ مَا وَجَدَهُ فِي كُتُبِهِمْ وَلَوْ

نَقَلَ نَاقِلٌ مَا وَجَدَهُ فِي الْكُتُبِ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ فِيهِ كَذِبٌ كَثِيرٌ فَكَيْفَ بِمَا فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ وَتَبْدِيلِ الدِّينِ وَتَفَرُّقِ أَهْلِهِ وَكَثْرَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ فِيهِ . وَهَذَا بَابٌ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِهِ وَيَنْظُرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا جَاءَ بِهِ وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ . فَإِنَّ هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ . وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ - كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ - أُصُولُ السُّنَّةِ هِيَ التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الْبَابَ وَجَدَ كَثِيرًا مِنْ الْبِدَعِ أُحْدِثَتْ بِآثَارِ أَصْلُهَا عَنْهُمْ مِثْلَ مَا يُرْوَى فِي فَضَائِلِ بِقَاعٍ فِي الشَّامِ مِنْ الْجِبَالِ وَالْغَيْرَانِ وَمَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . مِثْلَ مَا يُذْكَرُ فِي جَبَلِ قاسيون وَمَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي فِيهِ وَمَا فِي إتْيَانِ ذَلِكَ مِنْ الْفَضِيلَةِ حَتَّى إنَّ بَعْضَ الْمُفْتَرِينَ مِنْ الشُّيُوخِ جَعَلَ زِيَارَةَ مَغَارَةٍ فِيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَعْدِلُ حَجَّةً وَيُسَمُّونَهَا مَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ . وَالْآثَارُ الَّتِي تُرْوَى فِي ذَلِكَ لَا تَصِلُ إلَى الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا هِيَ عَمَّنْ

دُونَهُمْ مِمَّنْ أَخَذَهَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ لِهَذَا أَصْلٌ لَكَانَ هَذَا عِنْدَ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ قَدِمُوا الشَّامَ مِثْلَ بِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وعبادة بْنِ الصَّامِتِ ؛ بَلْ وَمِثْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَمِينِ الْأُمَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ . فَقَدْ دَخَلَ الشَّامَ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ أَفْضَلِ مِمَّنْ دَخَلَ بَقِيَّةَ الْأَمْصَارِ غَيْرِ الْحِجَازِ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ اتِّبَاعُ شَيْءٍ مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ لَا مَقَابِرُهُمْ وَلَا مَقَامَاتُهُمْ فَلَمْ يَتَّخِذُوهَا مَسَاجِدَ وَلَا كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ الصَّلَاةَ فِيهَا وَالدُّعَاءَ عِنْدَهَا ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى قَوْمًا يَنْتَابُونَ مَكَانًا يُصَلُّونَ فِيهِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : وَمَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ ؟ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا . مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِيهِ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ . وَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ وَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ مُصَلًّى لِلْمُسْلِمَيْنِ : قَالَ لِكَعْبِ ؟ أَيْنَ أَبْنِيهِ ؟ قَالَ ابْنِهِ خَلْفَ الصَّخْرَةِ . قَالَ : خَالَطَتْك يَهُودِيَّةٌ يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ ؛ بَلْ أَبْنِيهِ أَمَامَهَا وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ صَلَّى فِي قَبَلَيْهِ وَلَمْ يَذْهَبْ إلَى الصَّخْرَةِ . وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ مَا يَنْقُلُهُ كَعْبٌ : أَنَّ اللَّهَ قَالَ لَهَا : أَنْتَ عَرْشِي الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ : مَنْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَيْفَ تَكُونُ

الصَّخْرَةُ عَرْشَهُ الْأَدْنَى وَلَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ يُعَظِّمُونَهَا وَقَالُوا : إنَّمَا بَنَى الْقُبَّةَ عَلَيْهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لَمَّا كَانَ مُحَارِبًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ وَكَانَ النَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ فَيَجْتَمِعُونَ بِهِ عَظَّمَ الصَّخْرَةَ ؛ لِيَشْتَغِلُوا بِزِيَارَتِهَا عَنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَإِلَّا فَلَا مُوجِبَ فِي شَرِيعَتِنَا لِتَعْظِيمِ الصَّخْرَةِ وَبِنَاءِ الْقُبَّةِ عَلَيْهَا وَسَتْرِهَا بِالْأَنْطَاعِ وَالْجُوخِ . وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ شَرِيعَتِنَا : لَكَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَمُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَحَقَّ بِذَلِكَ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمُ بِسُنَّتِهِ وَأَتْبَعُ لَهَا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ . وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ لَمْ يَكُونُوا يَنْتَابُونَ قَبْرَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ بَلْ وَلَا فَتَحُوهُ ؛ بَلْ وَلَا بَنَوْا عَلَى قَبْرِ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَسْجِدًا ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَلَمَّا ظَهَرَ قَبْرُ دَانْيَالَ بتستر كَتَبَ فِيهِ أَبُو مُوسَى إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ إذَا كَانَ بِالنَّهَارِ فَاحْفِرْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا ثُمَّ ادْفِنْهُ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَعَفِّرْ قَبْرَهُ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهِ النَّاسُ وَقَدْ تَأَمَّلْت الْآثَارَ الَّتِي تُرْوَى فِي قَصْدِ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ وَالدُّعَاءِ

عِنْدَهَا أَوْ الصَّلَاةِ فَلَمْ أَجِدْ لَهَا عَنْ الصَّحَابَةِ أَصْلًا بَلْ أَصْلُهَا عَمَّنْ أَخَذَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . فَمِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُمَيِّزَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَلَا تَخْلِطَهُ بِغَيْرِهِ وَلَا تَلْبِسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ كَفِعْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ . فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ وَرَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ } وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ السُّبُلُ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } } . وَجِمَاعُ ذَلِكَ بِحِفْظِ أَصْلَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " تَحْقِيقُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُخْلَطُ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ الضَّعِيفَةِ وَالتَّفْسِيرَاتِ الْبَاطِلَةِ بَلْ يُعْطَى حَقَّهُ مِنْ مَعْرِفَةِ نَقْلِهِ وَدَلَالَتِهِ .

و " الثَّانِي " أَنْ لَا يُعَارِضَ ذَلِكَ بِالشُّبُهَاتِ لَا رَأْيًا وَلَا رِوَايَةً . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَهُوَ عِبْرَةٌ لَنَا : { وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فَلَا يُكْتَمُ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُلْبَسُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْبَاطِلِ وَلَا يُعَارَضُ بِغَيْرِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ . } وَهَؤُلَاءِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ هُمْ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ . فَإِنَّ أَحَدَهُمْ إذَا أَتَى بِمَا يُخَالِفُهُ إمَّا أَنْ يَقُولَ : إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ عَلَيَّ فَيَكُونُ قَدْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ أَوْ يَقُولَ : أُوحِيَ إلَيْهِ وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ أَوْحَاهُ أَوْ يَقُولَ : أَنَا أَنْشَأْته وَأَنَا أُنْزِلَ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَإِمَّا أَنْ يُضِيفَهُ إلَى اللَّهِ أَوْ إلَى نَفْسِهِ أَوْ لَا يُضِيفَهُ إلَى أَحَدٍ . وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ هُمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِينَ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .

سُئِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } ؟ وَهَلْ الدَّعْوَةُ عَامَّةٌ تَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ أَمْ لَا وَإِذَا كَانَا دَاخِلَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُونَا فَهَلْ هُمَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَا وَاجِبَيْنِ فَهَلْ يَجِبَانِ مُطْلَقًا مَعَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ بِسَبَبِهِمَا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ لِلْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الْجَانِي عَلَيْهِ إذَا آذَاهُ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى طَمَعٍ مِنْهُ فِي جَانِبِ الْحَقِّ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَهَلْ تَرْكُهُ أَوْلَى مُطْلَقًا أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ هِيَ الدَّعْوَةُ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ بِتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَطَاعَتِهِمْ فِيمَا أَمَرُوا وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَصَوْمَ رَمَضَانَ وَحَجَّ الْبَيْتِ وَالدَّعْوَةَ إلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ،

وَالْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَالدَّعْوَةَ إلَى أَنْ يَعْبُدَ الْعَبْدُ رَبَّهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ . فَإِنَّ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثَ الَّتِي هِيَ " الْإِسْلَامُ " و " الْإِيمَانُ " و " الْإِحْسَانُ " دَاخِلَةٌ فِي الدِّينِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } بَعْدَ أَنْ أَجَابَهُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ . فَبَيَّنَ أَنَّهَا كُلَّهَا مِنْ دِينِنَا . و " الدِّينُ " مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ يُقَالُ دَانَ فُلَانٌ فُلَانًا إذَا عَبَدَهُ وَأَطَاعَهُ كَمَا يُقَالُ دَانَهُ إذَا أَذَلَّهُ . فَالْعَبْدُ يَدِينُ اللَّهَ أَيْ يَعْبُدُهُ وَيُطِيعُهُ فَإِذَا أُضِيفَ الدِّينُ إلَى الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ الْعَابِدُ الْمُطِيعُ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى اللَّهِ فَلِأَنَّهُ الْمَعْبُودُ الْمُطَاعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } . فَالدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ تَكُونُ بِدَعْوَةِ الْعَبْدِ إلَى دِينِهِ وَأَصْلُ ذَلِكَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِذَلِكَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ . قَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا

فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ ؛ الْأَنْبِيَاءُ إخْوَةٌ لِعِلَّاتِ وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ لَأَنَا إنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ } فَالدِّينُ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ وَمَنَاهِجُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } . فَالرُّسُلُ مُتَّفِقُونَ فِي الدِّينِ الْجَامِعِ لِلْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ فالاعتقادية كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِيَّةُ كَالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَسُورَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } إلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ . وَقَوْلِهِ : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } إلَى آخِرِ الْوَصَايَا . وَقَوْلِهِ : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَقَوْلِهِ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } .

فَهَذِهِ الْأُمُورُ هِيَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ كَعَامَّةِ مَا فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ فَإِنَّ السُّوَرَ الْمَكِّيَّةَ تَضَمَّنَتْ الْأُصُولَ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا رُسُلُ اللَّهِ ؛ إذْ كَانَ الْخِطَابُ فِيهَا يَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ لِمَنْ لَا يُقِرُّ بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ وَأَمَّا السُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فَفِيهَا الْخِطَابُ لِمَنْ يُقِرُّ بِأَصْلِ الرِّسَالَةِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِبَعْضِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ وَكَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِكُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ؛ وَلِهَذَا قَرَّرَ فِيهَا الشَّرَائِعَ الَّتِي أَكْمَلَ اللَّهُ بِهَا الدِّينَ : كَالْقِبْلَةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْجِهَادِ وَأَحْكَامِ المناكح وَنَحْوِهَا ؛ وَأَحْكَامِ الْأَمْوَالِ بِالْعَدْلِ كَالْبَيْعِ وَالْإِحْسَانِ كَالصَّدَقَةِ وَالظُّلْمِ كَالرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ تَمَامِ الدِّينِ . وَلِهَذَا كَانَ الْخِطَابُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } لِعُمُومِ الدَّعْوَةِ إلَى الْأُصُولِ ؛ إذْ لَا يُدْعَى إلَى الْفَرْعِ مَنْ لَا يُقِرُّ بِالْأَصْلِ فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ وَعَزَّ بِهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ وَكَانَ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ خُوطِبَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ؛ فَهَؤُلَاءِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } وَهَؤُلَاءِ { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ } أَوْ { يَا بَنِي إسْرَائِيلَ } وَلَمْ يَنْزِلْ بِمَكَّةَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا ؛ وَلَكِنْ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ خِطَابُ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } كَمَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَسُورَةِ الْحَجِّ وَهُمَا مَدَنِيَّتَانِ وَكَذَا فِي الْبَقَرَةِ . وَهَذَا يُعَكِّرُ عَلَى قَوْلِ الْحَبْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ يَشْمَلُ جِنْسَ النَّاسِ وَالدَّعْوَةُ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ لَا تُنَافِي الدَّعْوَةَ بِالِاسْمِ الْعَامِّ

فَالْمُؤْمِنُونَ دَاخِلُونَ فِي الْخِطَابِ بـ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } وَفِي الْخِطَابِ بـ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فَالدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ تَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالنَّهْيَ عَنْ كُلِّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ . وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ الْخَلْقَ بِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ كُلِّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ؛ أَمَرَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ . قَالَ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } . وَدَعْوَتُهُ إلَى اللَّهِ هِيَ بِإِذْنِهِ لَمْ يَشْرَعْ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } { وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } خِلَافَ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ فِي قَوْلِهِ : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } .

وَمِمَّا يُبَيِّنُ مَا ذَكَرْنَاهُ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ تَارَةً وَتَارَةً بِالدَّعْوَةِ إلَى سَبِيلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الدَّاعِيَ الَّذِي يَدْعُو غَيْرَهُ إلَى أَمْرٍ لَا بُدَّ فِيمَا يَدْعُو إلَيْهِ مِنْ أَمْرَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " الْمَقْصُودُ الْمُرَادُ . و " الثَّانِي " الْوَسِيلَةُ وَالطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إلَى الْمَقْصُودِ ؛ فَلِهَذَا يَذْكُرُ الدَّعْوَةَ تَارَةً إلَى اللَّهِ وَتَارَةً إلَى سَبِيلِهِ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ الْمُرَادُ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَةِ . وَالْعِبَادَةُ : اسْمٌ يَجْمَعُ غَايَةَ الْحُبِّ لَهُ وَغَايَةَ الذُّلِّ لَهُ فَمَنْ ذَلَّ لِغَيْرِهِ مَعَ بُغْضِهِ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا وَمَنْ أَحَبَّهُ مِنْ غَيْرِ ذُلٍّ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ غَايَةَ الْمَحَبَّةِ ؛ بَلْ يَكُونُ هُوَ الْمَحْبُوبَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَا يُحَبُّ شَيْءٌ إلَّا لَهُ وَأَنْ يُعَظَّمَ وَيُذَلَّ لَهُ غَايَةَ الذُّلِّ ؛ بَلْ لَا يُذَلُّ لِشَيْءِ إلَّا مِنْ أَجْلِهِ وَمَنْ أَشْرَكَ غَيْرَهُ فِي هَذَا وَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ حَقِيقَةُ الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ فَإِنَّ الشِّرْكَ يُوجِبُ نَقْصَ الْمَحَبَّةِ . قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } أَيْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ هَؤُلَاءِ

لِأَنْدَادِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } وَكَذَلِكَ الِاسْتِكْبَارُ يَمْنَعُ حَقِيقَةَ الذُّلِّ لِلَّهِ ؛ بَلْ يَمْنَعُ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ فَإِنَّ الْحُبَّ التَّامَّ يُوجِبُ الذُّلَّ وَالطَّاعَةَ فَإِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعٌ . وَلِهَذَا كَانَ الْحُبُّ دَرَجَاتٍ أَعْلَاهَا " التتيم " وَهُوَ التَّعَبُّدُ وَتَيْمُ اللَّهِ أَيْ عَبْدُ اللَّهِ ؛ فَالْقَلْبُ الْمُتَيَّمُ هُوَ الْمُعَبِّدُ لِمَحْبُوبِهِ وَهَذَا لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ . وَالْإِسْلَامُ أَنْ يَسْتَسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ فَهُوَ مُسْتَكْبِرٌ وَكِلَاهُمَا ضِدُّ الْإِسْلَامِ . وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النَّصَارَى وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ الضُّلَّالِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْأُمَّةِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ . وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ الْأُلُوهِيَّةِ لِلَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَامْتِنَاعِ الشِّرْكِ وَفَسَادِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِتَقْدِيرِ إلَهٍ غَيْرِهِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الشِّرْكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَبَيَانِ أَنَّ الْعِبَادَ فُطِرُوا عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَأَنَّ الْقُلُوبَ لَا تَصْلُحُ إلَّا بِأَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا

كَمَالَ لَهَا وَلَا صَلَاحَ وَلَا لَذَّةَ وَلَا سُرُورَ وَلَا فَرَحَ وَلَا سَعَادَةَ بِدُونِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي فِي تَحْقِيقِهِ تَحْقِيقُ مَقْصُودِ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ لُبُّ الْقُرْآنِ وَزُبْدَتُهُ وَبَيَانِ التَّوْحِيدِ الْعِلْمِيِّ الْقَوْلِيِّ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } وَالتَّوْحِيدِ الْقَصْدِي الْعَمَلِيِّ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا بَيَانٌ لِأَصْلِ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ وَحَقِيقَتِهَا وَمَقْصُودِهَا . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْجَوَابِ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ ؛ إذْ لَا يَتَّسِعُ الْجَوَابُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَكُلُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ مِنْ بَاطِنٍ وَظَاهِرٍ فَمِنْ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ الْأَمْرُ بِهِ وَكُلُّ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ بَاطِنٍ وَظَاهِرٍ ؛ فَمِنْ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ النَّهْيُ عَنْهُ لَا تَتِمُّ الدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ إلَّا بِالدَّعْوَةِ إلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَيَتْرُكَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَقْوَالِ أَوْ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ أَوْ الظَّاهِرَةِ كَالتَّصْدِيقِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالْمَعَادِ وَتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ وَأَعْدَائِهِمْ ؛ وَكَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْنَا مِمَّا سِوَاهُمَا وَكَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءِ لِرَحْمَتِهِ ،

وَخَشْيَةِ عَذَابِهِ وَالصَّبْرِ لِحُكْمِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ وَكَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَكَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ . إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ : فَالدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُ وَهُمْ أُمَّتُهُ يَدْعُونَ إلَى اللَّهِ كَمَا دَعَا إلَى اللَّهِ . وَكَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَمْرَهُمْ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهْيَهُمْ عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ وَإِخْبَارَهُمْ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ ؛ إذْ الدَّعْوَةُ تَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَالنَّهْيَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ . وَقَدْ وَصَفَ أُمَّتَهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } الْآيَةُ وَهَذَا الْوَاجِبُ وَاجِبٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ فَرْضَ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ فَالْأُمَّةُ كُلُّهَا مُخَاطَبَةٌ بِفِعْلِ ذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ إذَا قَامَتْ بِهِ طَائِفَةٌ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ . قَالَ تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . فَمَجْمُوعُ أُمَّتِهِ تَقُومُ مَقَامَهُ فِي الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ إجْمَاعُهُمْ

حُجَّةً قَاطِعَةً فَأُمَّتُهُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ مِنْ الدَّعْوَةِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ فَمَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ سَقَطَ عَنْهُ وَمَا عَجَزَ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ . وَأَمَّا مَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يَقُومَ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَى هَذَا وَقَدْ تَقَسَّطَتْ الدَّعْوَةُ عَلَى الْأُمَّةِ بِحَسَبِ ذَلِكَ تَارَةً وَبِحَسَبِ غَيْرِهِ أُخْرَى ؛ فَقَدْ يَدْعُو هَذَا إلَى اعْتِقَادِ الْوَاجِبِ وَهَذَا إلَى عَمَلٍ ظَاهِرٍ وَاجِبٍ وَهَذَا إلَى عَمَلٍ بَاطِنٍ وَاجِبٍ ؛ فَتَنَوُّعُ الدَّعْوَةِ يَكُونُ فِي الْوُجُوبِ تَارَةً وَفِي الْوُقُوعِ أُخْرَى . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الدَّعْوَةَ إلَى اللَّهِ تَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ؛ لَكِنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الْمُعَيَّنِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ وَهَذَا شَأْنُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَبْلِيغِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَعْلِيمِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَةَ نَفْسَهَا أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ الدَّاعِيَ طَالِبٌ مُسْتَدْعٍ مُقْتَضٍ لِمَا دُعِيَ إلَيْهِ وَذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ بِهِ ؛ إذْ الْأَمْرُ هُوَ طَلَبٌ لِلْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاسْتِدْعَاءٌ لَهُ وَدُعَاءٌ إلَيْهِ فَالدُّعَاءُ

إلَى اللَّهِ الدُّعَاءُ إلَى سَبِيلِهِ فَهُوَ أَمْرٌ بِسَبِيلِهِ وَسَبِيلُهُ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا وَاجِبَانِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وُجُوبَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ لَا وُجُوبَ فَرْضِ الْأَعْيَانِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بَلْ كَوُجُوبِ الْجِهَادِ .
وَالْقِيَامُ بِالْوَاجِبَاتِ : مِنْ الدَّعْوَةِ الْوَاجِبَةِ وَغَيْرِهَا يَحْتَاجُ إلَى شُرُوطٍ يُقَامُ بِهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { يَنْبَغِي لِمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ فَقِيهًا فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ رَفِيقًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ رَفِيقًا فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ حَلِيمًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ حَلِيمًا فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ } فَالْفِقْهُ قَبْلَ الْأَمْرِ لِيُعَرِّفَ الْمَعْرُوفَ وَيُنْكِرَ الْمُنْكَرَ وَالرِّفْقُ عِنْدَ الْأَمْرِ لِيَسْلُكَ أَقْرَبَ الطُّرُقِ إلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَالْحِلْمُ بَعْدَ الْأَمْرِ لِيَصْبِرَ عَلَى أَذَى الْمَأْمُورِ الْمَنْهِيِّ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَحْصُلُ لَهُ الْأَذَى بِذَلِكَ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } وَقَدْ أَمَرَ نَبِيَّنَا بِالصَّبْرِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْمُدَّثِّرِ : { قُمْ فَأَنْذِرْ } { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } وَقَالَ : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ }

وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } وَقَالَ : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } . وَقَدْ جَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } . وَالْمُؤْمِنُونَ كَانُوا يَدْعُونَ إلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْمُنْكَرِ فَيُؤْذِيهِمْ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ . وَقَدْ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَقَالَ لَهُمْ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَدْ قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . فَالتَّقْوَى تَتَضَمَّنُ طَاعَةَ اللَّهِ وَمِنْهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالصَّبْرُ يَتَنَاوَلُ الصَّبْرَ عَلَى الْمَصَائِبِ الَّتِي مِنْهَا أَذَى الْمَأْمُورِ الْمَنْهِيِّ لِلْآمِرِ النَّاهِي .
لَكِنْ لِلْآمِرِ النَّاهِي أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَضُرُّهُ كَمَا يَدْفَعُ الْإِنْسَانُ عَنْ نَفْسِهِ الصَّائِلَ فَإِذَا أَرَادَ الْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ ضَرْبَهُ أَوْ أَخْذَ مَالِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى دَفْعِهِ فَلَهُ دَفْعُهُ عَنْهُ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ الْأَذَى

وَتَابَ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا مَقَامَ الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ وَالْكَمَالُ فِي هَذَا الْبَابِ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ خَادِمًا لَهُ وَلَا امْرَأَةً وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا نِيلَ مِنْهُ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ } فَقَدْ تَضَمَّنَ خُلُقُهُ الْعَظِيمُ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ إذَا نِيلَ مِنْهُ وَإِذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَذَى الرَّسُولِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّ مَنْ آذَاهُ فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَقَتْلُ سَابِّهِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّهُ قُتِلَ لِكَوْنِهِ رِدَّةً أَوْ لِكَوْنِهِ رِدَّةً مُغَلَّظَةً أَوَجَبَتْ أَنْ صَارَ قَتْلُ السَّابِّ حَدًّا مِنْ الْحُدُودِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي احْتِمَالِهِ وَعَفْوِهِ عَمَّنْ كَانَ يُؤْذِيهِ كَثِيرٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } . فَالْآمِرُ النَّاهِي إذَا أُوذِيَ وَكَانَ أَذَاهُ تَعَدِّيًا لِحُدُودِ اللَّهِ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ النَّهْيُ عَنْهُ وَصَاحِبُهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ ؛ لَكِنْ لَمَّا دَخَلَ فِيهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ كَانَ لَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ كَمَا لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْقَاذِفِ وَالْقَاتِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَعَفْوُهُ عَنْهُ لَا

يُسْقِطُ عَنْ ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِحَقِّ اللَّهِ ؛ لَكِنْ يُكْمِلُ لِهَذَا الْآمِرِ النَّاهِي مَقَامَ الصَّبْرِ وَالْعَفْوِ الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ لِمِثْلِهِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَفِي قَوْلِهِ : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } . ثُمَّ هُنَا فَرْقٌ لَطِيفٌ : أَمَّا الصَّبْرُ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ مُطْلَقًا فَلَا يُنْسَخُ . وَأَمَّا الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ فَإِنَّهُ جُعِلَ إلَى غَايَةٍ وَهُوَ : أَنْ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فَلَمَّا أَتَى بِأَمْرِهِ : بِتَمْكِينِ الرَّسُولِ وَنَصْرِهِ - صَارَ قَادِرًا عَلَى الْجِهَادِ لِأُولَئِكَ وَإِلْزَامِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَمَنْعِهِمْ عَنْ الْمُنْكَرِ - صَارَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِالْيَدِ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ فِي ذَلِكَ كَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِالصَّبْرِ أَوَّلًا . وَالْجِهَادُ مَقْصُودُهُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ؛ فَمَقْصُودُهُ إقَامَةُ دِينِ اللَّهِ لَا اسْتِيفَاءُ الرَّجُلِ حَظَّهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُجَاهِدُ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ أَجْرُهُ فِيهِ عَلَى اللَّهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ حَتَّى إنَّ الْكُفَّارَ إذَا أَسْلَمُوا أَوْ عَاهَدُوا لَمْ يُضَمَّنُوا مَا أَتْلَفُوهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ ؛ بَلْ لَوْ أَسْلَمُوا وَبِأَيْدِيهِمْ مَا غَنِمُوهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ مِلْكًا لَهُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَهُوَ الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ .

فَالْآمِرُ النَّاهِي إذَا نِيلَ مِنْهُ وَأُوذِيَ ثُمَّ إنْ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ تَابَ وَقَبِلَ الْحَقُّ مِنْهُ : فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ وَيُعَاقِبَهُ عَلَى أَذَاهُ فَإِنَّهُ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ حَقُّ اللَّهِ كَمَا يَسْقُطُ عَنْ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَالتَّوْبَةُ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا } وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ قَبْلَهُ : دَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا اعْتَدَى بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ حَرَامًا ؛ بَلْ كَانَ يَسْتَحِلُّهُ فَلَمَّا تَابَ مِنْ ذَلِكَ غُفِرَ لَهُ هَذَا الِاسْتِحْلَالُ وَغُفِرَتْ لَهُ تَوَابِعُهُ .
فَالْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ إنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا لِأَذَى الْآمِرِ النَّاهِي كَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَأَنَّ الْآمِرَ النَّاهِيَ لَهُمْ مُعْتَدٍ عَلَيْهِمْ فَإِذَا تَابُوا لَمْ يُعَاقَبُوا بِمَا اعْتَدَوْا بِهِ عَلَى الْآمِرِ النَّاهِي مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كالرافضي الَّذِي يَعْتَقِدُ كُفْرَ الصَّحَابَةِ أَوْ فِسْقَهُمْ وَسَبَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ تَابَ مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَصَارَ يُحِبُّهُمْ وَيَتَوَلَّاهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عَلَيْهِ حَقٌّ بَلْ دَخَلَ حَقُّهُمْ فِي حَقِّ اللَّهِ ثُبُوتًا وَسُقُوطًا ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِاعْتِقَادِهِ . وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى - أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ الْمُتَأَوِّلِينَ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ بِالتَّأْوِيلِ كَمَا لَا يَضْمَنُ أَهْلُ الْعَدْلِ مَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ بِالتَّأْوِيلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .

وَكَذَلِكَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُرْتَدِّينَ فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ وَالْبَاغِيَ الْمُتَأَوِّلَ وَالْمُبْتَدِعَ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ فَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ مُتَأَوِّلًا فَإِذَا تَابَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ كَتَوْبَةِ الْكَافِرِ مِنْ كُفْرِهِ ؛ فَيُغْفَرُ لَهُ مَا سَلَفَ مِمَّا فَعَلَهُ مُتَأَوِّلًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ بَغْيٌ وَعُدْوَانٌ كَالْمُسْلِمِ إذَا ظَلَمَ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيِّ إذَا ظَلَمَ الْمُسْلِمَ وَالْمُرْتَدِّ الَّذِي أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِمُحَارَبِ بَلْ هُوَ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمٌ أَوْ مُعَاهَدٌ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ بِالِاتِّفَاقِ . فَالْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ إنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ أَذَى الْآمِرِ النَّاهِي جَائِزٌ لَهُ فَهُوَ مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ وَحَقُّ الْآمِرِ النَّاهِي دَاخِلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا تَابَ سَقَطَ الْحَقَّانِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ كَانَ مَطْلُوبًا بِحَقِّ اللَّهِ الْمُتَضَمِّنِ حَقَّ الْآدَمِيِّ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا . فَهَؤُلَاءِ كَلٌّ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الشَّرْعِيَّةَ بِحَسَبِهِ وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فَهَذَا قَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ خَطَأَهُ فَإِذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ بِسَبَبِ اجْتِهَادِهِ الْخَطَأِ أَذًى لِلْآمِرِ النَّاهِي بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ كَالْحَاكِمِ إذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ أَذًى لِلْمُسْلِمِ أَوْ كَالشَّاهِدِ أَوْ كَالْمُفْتِي . فَإِذَا كَانَ الْخَطَأُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ كَانَ هَذَا مِمَّا ابْتَلَى اللَّهُ بِهِ هَذَا الْآمِرَ النَّاهِيَ . قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } فَهَذَا مِمَّا يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْإِثْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَذَلِكَ

الْجَزَاءُ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ : قَدْ يَسْقُطُ الْجَزَاءُ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ الَّذِي يَجِبُ فِي الْعَمْدِ وَيَثْبُتُ الضَّمَانُ الَّذِي يَجِبُ فِي الْخَطَأِ كَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ وَكَمَا يَجِبُ ضَمَانُ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُتْلِفُهَا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فِي مَالِهِ وَإِنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ خَطَأً ؛ مُعَاوَنَةً لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّ الْمَظْلُومِ خَطَأً ؛ فَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي ظَلَمَ خَطَأً ؛ لَكِنْ يُقَالُ : يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا كَانَ الْحَقُّ فِيهِ لِلَّهِ وَحَقُّ الْآدَمِيِّ تَبَعٌ لَهُ وَمَا كَانَ حَقًّا لِآدَمِيِّ مَحْضًا أَوْ غَالِبًا وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادُ مِنْ هَذَا الْبَابِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يُوجِبُونَ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ ضَمَانَ مَا أَتْلَفُوهُ لِأَهْلِ الْعَدْلِ بِالتَّأْوِيلِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً مِنْهُمْ لَيْسَ كُفْرًا وَلَا فِسْقًا . وَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ لَمْ يَتْبَعُوا مُدْبِرَهُمْ وَلَمْ يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يَسْبُوا حَرِيمَهُمْ وَلَمْ يَغْنَمُوا أَمْوَالَهُمْ فَلَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ إذَا أَتْلَفُوا مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ تَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقِصَاصَ سَاقِطٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْجِهَادِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْأَجْرُ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ الْعَبْدِ الْآمِرِ النَّاهِي . وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : هَلْ يُقْتَصُّ مِنْهُ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى طَمَعٍ مِنْهُ فِي

جَانِبِ الْحَقِّ ؟ فَيُقَالُ : مَتَى كَانَ فِيمَا فَعَلَهُ إفْسَادٌ لِجَانِبِ الْحَقِّ كَانَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُفْعَلُ فِيهِ مَا يُفْعَلُ فِي نَظِيرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَذًى لِلْآمِرِ النَّاهِي . وَالْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ تَتَنَوَّعُ ؛ فَتَارَةً تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْقِتَالَ وَتَارَةً تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الْمُهَادَنَةَ وَتَارَةً تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الْإِمْسَاكَ وَالِاسْتِعْدَادَ بِلَا مُهَادَنَةٍ وَهَذَا يُشْبِهُ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ الْإِنْسَانَ تُزَيِّنُ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّ عَفْوَهُ عَنْ ظَالِمِهِ يُجْرِيهِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ إنْ كُنْت لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوِ إلَّا عِزًّا وَمَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ } . فَاَلَّذِي يَنْبَغِي فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَعْفُوَ الْإِنْسَانُ عَنْ حَقِّهِ وَيَسْتَوْفِيَ حُقُوقَ اللَّهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ : كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَذِلُّوا فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا . قَالَ تَعَالَى : { هُمْ يَنْتَصِرُونَ } يَمْدَحُهُمْ بِأَنَّ فِيهِمْ هِمَّةَ الِانْتِصَارِ لِلْحَقِّ وَالْحَمِيَّةَ لَهُ ؛ لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ يَعْفُونَ عَجْزًا وَذُلًّا ؛ بَلْ هَذَا مِمَّا يُذَمُّ بِهِ الرَّجُلُ وَالْمَمْدُوحُ الْعَفْوُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْقِيَامُ لِمَا يَجِبُ مِنْ نَصْرِ الْحَقِّ لَا مَعَ إهْمَالِ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعِبَادِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
فِي قَوْله تَعَالَى { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا } الْآيَةُ : قِرَاءَتَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ؛ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ . وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقْرَأُ بِالتَّثْقِيلِ وَتُنْكِرُ التَّخْفِيفَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَهُ - وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِهِ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } مُخَفَّفَةً قَالَتْ - مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا - قُلْت : فَمَا هَذَا النَّصْرُ - { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } بِمَنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنَّتْ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ لَعَمْرِي لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ جريج سَمِعْت ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } خَفِيفَةً ذَهَبَ بِهَا هُنَالِكَ وَتَلَا { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى

نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } فَلَقِيت عُرْوَةَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : مَعَاذَ اللَّهِ وَاَللَّهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ إلَّا عَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى ظَنُّوا وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ مَنْ مَعَهُمْ يُكَذِّبُهُمْ ؛ فَكَانَتْ تَقْرَؤُهَا : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } مُثَقَّلَةً . فَعَائِشَةُ جَعَلَتْ اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ وَظَنَّهُمْ التَّكْذِيبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ وَلَكِنَّ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى ثَابِتَةٌ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهَا وَقَدْ تَأَوَّلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ مَعَهُ وَالْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا إنَّمَا فِيهَا اسْتِبْطَاءُ النَّصْرِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ : { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } فَإِنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ تُبْطِئُ لِطَلَبِ التَّعْجِيلِ . وَقَوْلُهُ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قَدْ يَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ : { إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } وَالظَّنُّ لَا يُرَادُ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ كَمَا هُوَ فِي اصْطِلَاحِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ وَيُسَمُّونَ الِاعْتِقَادَ الْمَرْجُوحَ وَهْمًا بَلْ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } .

فَالِاعْتِقَادُ الْمَرْجُوحُ هُوَ ظَنٌّ وَهُوَ وَهْمٌ وَهَذَا الْبَابُ قَدْ يَكُونُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ } وَقَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي هِيَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ كَمَا ثَبَتَ { فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَأَنْ يُحْرَقَ حَتَّى يَصِيرَ حُمَمَةً أَوْ يَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ : أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ . } فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي هِيَ تَعْرِضُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : مِنْهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ يَضْعُفُ بِهِ الْإِيمَانُ وَإِنْ كَانَ لَا يُزِيلُهُ . وَالْيَقِينُ فِي الْقَلْبِ لَهُ مَرَاتِبُ وَمِنْهُ مَا هُوَ عَفْوٌ يُعْفَى عَنْ صَاحِبِهِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ يَقْتَرِنُ بِهِ صَرِيحُ الْإِيمَانِ . وَنَظِيرُ هَذَا : مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ؛ وَلَوْ لَبِثْت فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْت الدَّاعِيَ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إبْرَاهِيمَ إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ : { أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ

قَلْبِي } } وَقَدْ تَرَكَ الْبُخَارِيُّ ذِكْرَ قَوْلِهِ : " بِالشَّكِّ " لَمَّا خَافَ فِيهَا مِنْ تَوَهُّمِ بَعْضِ النَّاسِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى } وَلَكِنْ طَلَبَ طُمَأْنِينَةَ قَلْبِهِ كَمَا قَالَ : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالِاطْمِئْنَانِ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكًّا لِذَلِكَ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى كَذَلِكَ الْوَعْدُ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا : يَكُونُ الشَّخْصُ مُؤْمِنًا بِذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ فَلَا يَطْمَئِنُّ فَيَكُونُ فَوَاتُ الِاطْمِئْنَانِ ظَنًّا أَنَّهُ قَدْ كُذِّبَ فَالشَّكُّ مَظِنَّةُ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا تَقْدَحُ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي أَفْعَالِهِمْ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أُصُولِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ . وَفِي قَصَصِ هَذِهِ الْأُمُورِ عِبْرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُبْتَلَوْا بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَيْأَسُوا إذَا اُبْتُلُوا بِذَلِكَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَكَانَتْ الْعَاقِبَةُ إلَى خَيْرٍ فَلْيَتَيَقَّنْ الْمُرْتَابُ وَيَتُوبُ الْمُذْنِبُ وَيَقْوَى إيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ فَبِهَا يَصِحُّ الاتساء بِالْأَنْبِيَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } .

وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ قِصَصِ الْمُرْسَلِينَ الَّتِي فِيهَا تَسْلِيَةٌ وَتَثْبِيتٌ لِيَتَأَسَّى بِهِمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } . . . (1) وَلَنَا ؛ لِأَنَّهُ أُسْوَةٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } وَقَالَ : { مَا يُقَالُ لَكَ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } وَقَالَ : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } .
وَإِذَا كَانَ الْاتِسَاءُ بِهِمْ مَشْرُوعًا فِي هَذَا وَفِي هَذَا فَمِنْ الْمَشْرُوعِ التَّوْبَةُ مِنْ الذَّنْبِ وَالثِّقَةُ بِوَعْدِ اللَّهِ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ ظَنٌّ مِنْ الظُّنُونِ وَطَلَبُ مَزِيدِ الْآيَاتِ لِطُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ كَمَا هُوَ الْمُنَاسِبُ للاتساء وَالِاقْتِدَاءِ دُونَ مَا كَانَ الْمَتْبُوعُ مَعْصُومًا مُطْلَقًا . فَيَقُولُ التَّابِعُ : أَنَا لَسْت مِنْ جِنْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَذْكُرُ بِذَنْبِ فَإِذَا أَذْنَبَ اسْتَيْأَسَ مِنْ الْمُتَابَعَةِ وَالِاقْتِدَاءِ ؛ لِمَا أَتَى بِهِ مِنْ الذَّنْبِ الَّذِي يُفْسِدُ الْمُتَابِعَةَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعِصْمَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ مَجْبُورٌ بِالتَّوْبَةِ فَإِنَّهُ تَصِحُّ مَعَهُ الْمُتَابَعَةُ كَمَا قِيلَ : أَوَّلُ مَنْ أَذْنَبَ وَأَجْرَمَ ثُمَّ تَابَ وَنَدِمَ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ مَا ظَلَمَ .

وَاَللَّهُ تَعَالَى قَصَّ عَلَيْنَا قِصَصَ تَوْبَةِ الْأَنْبِيَاءِ لِنَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي الْمَتَابِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي أُقِرُّوا عَلَيْهَا فَلَمْ يُنْهَوْا عَنْهَا وَلَمْ يَتُوبُوا مِنْهَا فَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ . فَأَمَّا مَا نُهُوا عَنْهُ وَتَابُوا مِنْهُ فَلَيْسَ بِدُونِ الْمَنْسُوخِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ مَا أُمِرُوا بِهِ أُبِيحَ لَهُمْ ثُمَّ نُسِخَ تَنْقَطِعُ فِيهِ الْمُتَابَعَةُ ؛ فَمَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ أَحْرَى وَأَوْلَى . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قَدْ يَكُونُونَ ظَنُّوا فِي الْمَوْعُودِ بِهِ مَا لَيْسَ هُوَ فِيهِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُمْ ؛ فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَهَذَا جَائِزٌ عَلَيْهِمْ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فَإِذَا ظَنَّ بِالْمَوْعُودِ بِهِ مَا لَيْسَ هُوَ فِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ وَكَانَ كَذِبًا مِنْ جِهَةِ ظَنٍّ فِي الْخَبَرِ مَا لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ . فَأَمَّا الشَّكُّ فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ فَهَذَا لَا يَكُونُ وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ هُنَا شَيْئَانِ : " أَحَدُهُمَا " اسْتِيئَاسُ الرُّسُلِ . و " الثَّانِي " ظَنُّ أَنَّهُمْ كُذِبُوا . وَقَدْ ذَكَرْنَا لَفْظَ " الظَّنِّ " فَأَمَّا لَفْظُ ( اسْتَيْأَسُوا فَإِنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ : { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } وَلَمْ يَقُلْ يَئِسَ الرُّسُلُ وَلَا ذَكَرَ مَا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ وَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ

أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ . } وَقَدْ يُقَالُ : الِاسْتِيئَاسُ لَيْسَ هُوَ الْإِيَاسُ ؛ لِوُجُوهِ : " أَحَدُهَا " أَنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ لَمْ يَيْأَسُوا مِنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّ قَوْلَ كَبِيرِهِمْ : { فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَرْجُو أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ لَهُ وَحُكْمُهُ هُنَا لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ تَخْلِيصنَا لِيُوسُفَ مِنْهُمْ وَإِلَّا فَحُكْمُهُ لَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ قُعُودَهُ فِي مِصْرَ لِأَجْلِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا : ف " الْيَأْسُ " يَكُونُ فِي الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَلَمْ يَجِئْ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إنَّا إذًا لَظَالِمُونَ } فَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ إلَيْهِمْ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ إلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَتَغَيَّرُ عَزْمُهُ وَنِيَّتُهُ وَمَا أَكْثَرَ تَقْلِيبَ الْقُلُوبِ وَقَدْ يَتَبَدَّلُ الْأَمْرُ بِغَيْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ الْحُكْمُ إلَى غَيْرِهِ وَقَدْ يَتَخَلَّصُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَالْعَادَاتُ قَدْ جَرَتْ بِهَذَا عَلَى مِثْلِ مَنْ عِنْدَهُ مَنْ قَالَ لَا يُعْطِيهِ . فَقَدْ

يُعْطِيهِ وَقَدْ يَخْرُجُ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَقَدْ يَمُوتُ عَنْهُ فَيَخْرُجُ وَالْعَالَمُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذَا . " الْوَجْهُ الثَّانِي " قَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } . فَنَهَاهُمْ عَنْ الْيَأْسِ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ الِاسْتِيئَاسِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ . وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كَافِرِينَ فَهَذَا هُوَ " الْوَجْهُ الثَّالِثُ " أَيْضًا . وَهُوَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ { لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ يَأْسٌ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَأَنْ يَقَعُوا فِي الِاسْتِيئَاسِ بَلْ الْمُؤْمِنُونَ مَا دَامُوا مُؤْمِنِينَ لَا يَيْأَسُونَ مِنْ رُوحِ اللَّهِ وَهَذِهِ السُّورَةُ تَضَمَّنَتْ ذِكْرَ الْمُسْتَيْئِسِينَ وَأَنَّ الْفَرَحَ جَاءَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَيْأَسَ الْمُؤْمِنُ ؛ وَلِهَذَا فِيهَا : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } فَذِكْرُ اسْتِيئَاسِ الْإِخْوَةِ مِنْ أَخِي يُوسُفَ وَذِكْرُ اسْتِيئَاسِ الرُّسُلِ يَصْلُحُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَا ذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ جَمِيعًا . " الْوَجْهُ الرَّابِعُ " أَنَّ الِاسْتِيئَاسَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْيَأْسِ وَالِاسْتِفْعَالُ

يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ : يَكُونُ لِطَلَبِ الْفِعْلِ مِنْ الْغَيْرِ فَالِاسْتِخْرَاجُ وَالِاسْتِفْهَامُ وَالِاسْتِعْلَامُ يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ يُقَالُ : اسْتَخْرَجْت الْمَالَ مِنْ غَيْرِي وَكَذَلِكَ اسْتَفْهَمْت وَلَا يَصْلُحُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِاسْتِيئَاسِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَطْلُبُ الْيَأْسَ وَيَسْتَدْعِيهِ ؛ وَلِأَنَّ اسْتَيْأَسَ فِعْلٌ لَازِمٌ لَا مُتَّعَدٍ . وَيَكُونُ لِلِاسْتِفْعَالِ لِصَيْرُورَةِ الْمُسْتَفْعِلِ عَلَى صِفَةِ غَيْرِهِ وَهَذَا يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ كَقَوْلِهِمْ : اسْتَحْجَرَ الطِّينُ أَيْ صَارَ كَالْحَجَرِ . وَاسْتَنْوَقَ الْفَحْلُ أَيْ صَارَ كَالنَّاقَةِ . وَأَمَّا النَّظَرُ فِيمَا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ إخْوَةِ يُوسُفَ حَيْثُ قَالَ : { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ } . وَأَمَّا الرُّسُلُ فَلَمْ يَذْكُرْ مَا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ بَلْ أَطْلَقَ وَصْفَهُمْ بِالِاسْتِيئَاسِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِأَنَّهُمْ اسْتَيْأَسُوا مِمَّا وُعِدُوا بِهِ وَأُخْبِرُوا بِكَوْنِهِ وَلَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ . وَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } لَا يَدُلُّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَضْلًا عَنْ بَاطِنِهِ : أَنَّهُ حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِثْلُ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ فِيمَا أُخْبِرُوا بِهِ فَإِنَّ لَفْظَ الظَّنِّ فِي اللُّغَةِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ ؛ بَلْ يُسَمَّى ظَنًّا مَا هُوَ مِنْ أَكْذَبِ الْحَدِيثِ عَنْ الظَّانِّ ؛ لِكَوْنِهِ أَمْرًا مَرْجُوحًا فِي نَفْسِهِ . وَاسْمُ

الْيَقِينِ وَالرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَنَحْوِهَا يَتَنَاوَلُ عِلْمَ الْقَلْبِ وَعَمَلَهُ وَتَصْدِيقَهُ وَعَدَمَ تَصْدِيقِهِ وَسَكِينَتَهُ وَعَدَمَ سَكِينَتِهِ لَيْسَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ فَقَطْ كَمَا يَحْسَبُ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } . فَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ عَنْ اسْتِيئَاسِهِمْ مُطْلَقًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ إذَا وَعَدَ الرُّسُلَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ مُطْلَقٍ - كَمَا هُوَ غَالِبُ إخباراته - لَمْ يُقَيِّدْ زَمَانَهُ وَلَا مَكَانَهُ وَلَا سَنَتَهُ وَلَا صِفَتَهُ فَكَثِيرًا مَا يَعْتَقِدُ النَّاسُ فِي الْمَوْعُودِ بِهِ صِفَاتٍ أُخْرَى لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهَا خِطَابُ الْحَقِّ بَلْ اعْتَقَدُوهَا بِأَسْبَابِ أُخْرَى كَمَا اعْتَقَدَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَيَطُوفُونَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا وَرَجَا أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ ذَلِكَ الْعَامَ وَيَطُوفَ وَيَسْعَى . فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ ذَلِكَ الْعَامَ - لَمَّا صَدَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى قَاضَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصُّلْحِ الْمَشْهُورِ - بَقِيَ فِي قَلْبِ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ حَتَّى { قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تُخْبِرْنَا أَنَّا نَدْخُلُ الْبَيْتَ وَنَطُوفُ ؟ قَالَ : بَلَى . فَأَخْبَرْتُك أَنَّك تَدْخُلُهُ هَذَا الْعَامَ ؟ . قَالَ : لَا . قَالَ : فَإِنَّك دَاخِلُهُ وَمُطَوِّفٌ } وَكَذَلِكَ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ . وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرَ عِلْمًا وَإِيمَانًا مِنْ عُمَرَ حَتَّى تَابَ

عُمَرُ مِمَّا صَدَرَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُحَدِّثًا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } فَهُوَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ ؛ وَلَكِنْ مَزِيَّةُ التَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مُتَابَعَةً لِلرَّسُولِ وَعِلْمًا وَإِيمَانًا بِمَا جَاءَ بِهِ دَرَجَتُهُ فَوْقَ دَرَجَتِهِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ الْأُمَّةِ صَاحِبَ الْمُتَابَعَةِ لِلْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ فَهُوَ مُعَلِّمٌ لِعُمَرِ وَمُؤَدِّبٌ لِلْمُحَدِّثِ مِنْهُمْ الَّذِي يَكُونُ لَهُ مِنْ رَبِّهِ إلْهَامٌ وَخِطَابٌ كَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ مُعَلِّمًا لِعُمَرِ وَمُؤَدِّبًا لَهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ : فَأَخْبَرَك أَنَّك تَدْخُلُهُ هَذَا الْعَامَ ؟ قَالَ : لَا قَالَ إنَّك آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ . فَبَيَّنَ لَهُ الصِّدِّيقُ أَنَّ وَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِوَقْتِ وَكَوْنُهُ سَعَى فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَقَصَدَهُ لَا يُوجِبُ أَنْ يَعْنِيَ مَا أَخْبَرَ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ الشَّيْءَ وَلَا يَكُونُ ؛ بَلْ يَكُونُ غَيْرُهُ ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَصَدَهُ ؛ بَلْ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ أَنْ يُقَيِّدَهُ عَمَّا يَقْصِدُهُ إلَى أَمْرٍ آخَرَ هُوَ أَنْفَعُ مِمَّا قَصَدَهُ كَمَا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْفَعَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ دُخُولِهِمْ ذَلِكَ الْعَامِ بِخِلَافِ خَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَادِقٌ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَيَتَحَقَّقَ .

وَكَذَلِكَ ظَنُّ النَّبِيِّ كَمَا { قَالَ فِي تَأْبِيرِ النَّخْلِ : إنَّمَا ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ } فَاسْتِيئَاسُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ دُخُولِ ذَلِكَ هُوَ اسْتِيئَاسٌ مِمَّا ظَنُّوهُ مَوْعُودًا بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْعُودًا بِهِ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَظُنُّوا شَيْئًا فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا ظَنُّوهُ فَقَدْ يَظُنُّونَ فِيمَا وَعَدُوهُ تَعْيِينًا وَصِفَاتٍ وَلَا يَكُونُ كَمَا ظَنُّوهُ فَيَيْأَسُونَ مِمَّا ظَنُّوهُ فِي الْوَعْدِ لَا مِنْ تَعْيِينِ الْوَعْدِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأَيْت أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَدْ أَسْلَمَ ؛ فَلَمَّا أَسْلَمَ خَالِدٌ ظَنُّوهُ هُوَ فَلَمَّا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ عُلِمَ أَنَّهُ هُوَ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمِ يُلَقِّحُونَ : فَقَالَ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا هَذَا لَصَلَحَ قَالَ : فَخَرَجَ شِيصاً فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ : مَا لِنَخْلِكُمْ ؟ قَالُوا : قُلْت : كَذَا وَكَذَا . قَالَ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ } وَرُوِيَ أَيْضًا { عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ طَلْحَةَ ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : مَرَرْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمِ عَلَى ؤُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ : مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ فَقَالَ : يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَتُلَقَّحُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ . فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ : إنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ ؛ فَإِنَّنِي

ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ } . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا إذَا حَدَّثَنَا بِشَيْءِ عَنْ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ بِهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ أَتْقَانَا لِلَّهِ وَأَعْلَمُنَا بِمَا يُتَّقَى وَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ آخِذًا بِمَا يُحَدِّثُنَا عَنْ اللَّهِ فَإِذَا أَخْبَرَهُ اللَّهُ بِوَعْدِ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ بِهِ وَتَصْدِيقُهُ هُوَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ تَصْدِيقِنَا وَلَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَشُكَّ فِيهِ وَهُوَ - بِأَبِي - أَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ لَا يَشُكَّ فِيهِ ؛ لَكِنْ قَدْ يَظُنُّ ظَنًّا كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ } وَإِنْ كَانَ أَخْبَرَهُ بِهِ مُطْلَقًا فَمُسْتَنَدُهُ ظُنُونٌ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ : { مَا قَصَرْت الصَّلَاةَ وَلَا نَسِيت } . وَقَدْ يَظُنُّ الشَّيْءَ ثُمَّ يُبَيِّنُ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَى جَلِيَّتِهِ كَمَا وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أُمُورٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ لَمَّا اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَمَّ أَنْ يَغْزُوَهُمْ لَمَّا ظَنَّ صِدْقَهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . وَكَذَلِكَ فِي قِصَّةِ بَنِي أبيرق الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } ، وَذَلِكَ لَمَّا جَاءَ قَوْمٌ تَرَكُوا السَّارِقَ الَّذِي كَانَ يَسْرِقُ وَأَخْرَجُوا الْبَرِيءَ ؛

فَظَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدْقَهُمْ حَتَّى تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ . { وَقَالَ فِي حَدِيثِ قَصْرِ الصَّلَاةِ : لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ فَقَالُوا : بَلَى قَدْ نَسِيت } . وَكَانَ قَدْ نَسِيَ فَأَخْبَرَ عَنْ مُوجَبِ ظَنِّهِ وَاعْتِقَادِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ . { وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنِّي لَأنسَى لِأَسُنَّ } وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } شَامِلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ حَيْثُ قَالَ فِي صَدْرِ الْآيَاتِ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } الْآيَاتُ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بينا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : هَذَا بَابٌ مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ إلَّا الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ : هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ وَقَالَ : أَبْشِرْ بنورين أُوتِيتهمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَك : فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفِ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيته } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ آدَمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } دَخَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ مِثْلُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا قَالَ : فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } الْآيَاتُ إلَى قَوْلِهِ : { أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ قَدْ فَعَلْت إلَى آخِرِ السُّورَةِ قَالَ : قَدْ فَعَلْت } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرَّكْبِ فَقَالُوا : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْك هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ؟ بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَك رَبَّنَا وَإِلَيْك الْمَصِيرُ فَلَمَّا اقْتَرَاهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ : أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَثَرِهَا : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا سُبْحَانَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } إلَى قَوْلِهِ : { قَبْلِنَا } قَالَ : نَعَمْ : { وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قَالَ : نَعَمْ . إلَى آخِرِ السُّورَةِ قَالَ : نَعَمْ } . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ فِي

الِاجْتِهَادِ ؛ لَكِنْ لَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَكَيْفَ فِي الْخَبَرِ ؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } فَنَفْسُ مَا يَعِدُ اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَقًّا لَا يَمْتَرُونَ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ . وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ قَدْ يَكُونُ مِنْ إلْقَاءِ الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ } إلَى قَوْلِهِ : { صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلِلنَّاسِ فِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ؛ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ التَّمَنِّيَ هُوَ التِّلَاوَةُ وَالْقُرْآنُ كَمَا عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ السَّلَفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ } وَأَمَّا مَنْ أَوَّلَ النَّهْيَ عَلَى تَمَنِّي الْقَلْبِ فَذَاكَ فِيهِ كَلَامٌ آخَرُ ؛ وَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ النَّوْعَيْنِ ؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ فِي التَّفْسِيرِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَمُرَادُ الْآيَةِ قَطْعًا لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } . وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَكُونُ فِي مُجَرَّدِ الْقَلْبِ إذَا

لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ النَّبِيُّ ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي ظَنِّهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بَعْضُهُ النَّخْلُ وَنَحْوُهَا وَهُوَ يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ . وَإِذَا كَانَ التَّمَنِّي لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْقَوْلُ فَفِيهِ قَوْلَانِ : " الْأَوَّلُ " أَنَّ الْإِلْقَاءَ هُوَ فِي سَمْعِ الْمُسْتَمِعِينَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّسُولُ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ بِمَنْعِ جَوَازِ الْإِلْقَاءِ فِي كَلَامِهِ . و " الثَّانِي " - وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ - أَنَّ الْإِلْقَاءَ فِي نَفْسِ التِّلَاوَةِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَسِيَاقُهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْآثَارُ الْمُتَعَدِّدَةُ وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ إلَّا إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ هُوَ خَطَأٌ وَغَلَطٌ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إلَّا إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَنْ يُقِرَّ عَلَى خَطَأٍ كَمَا قَالَ : { فَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ بِشَيْءِ فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ } وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَامَتْ الْحُجَّةُ بِهِ فَإِنَّ كَوْنَهُ رَسُولَ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَالصِّدْقُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْكَذِبِ وَنَفْيَ الْخَطَأِ فِيهِ . فَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ . وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا أَنْ يَقَعَ الْإِلْقَاءُ فِي تَبْلِيغِهِ فَرُّوا مِنْ هَذَا وَقَصَدُوا

خَيْرًا وَأَحْسَنُوا فِي ذَلِكَ ؛ لَكِنْ يُقَالُ لَهُمْ : أَلْقَى ثُمَّ أَحْكَمَ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ . فَإِنَّ هَذَا يُشْبِهُ النَّسْخَ لِمَنْ بَلَغَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّهُ إذًا مُوقِنٌ مُصَدِّقٌ بِرَفْعِ قَوْلٍ سَبَقَ لِسَانُهُ بِهِ لَيْسَ أَعْظَمَ مِنْ إخْبَارِهِ بِرَفْعِهِ . وَلِهَذَا قَالَ فِي النَّسْخِ : { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } فَظَنُّهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا هُوَ يَتَّبِعُ مَا يَظُنُّونَهُ مِنْ مَعْنَى الْوَعْدِ وَهَذَا جَائِزٌ لَا مَحْذُورَ فِيهِ . إذَا لَمْ يُقِرُّوا عَلَيْهِ وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَلِسَائِرِ الْأُصُولِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ بَابَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَيْسَ بِأَعْظَمِ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَإِذَا كَانَ مِنْ الْجَائِزِ فِي بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَنْ يَظُنُّوا شَيْئًا ثُمَّ يَتَبَيَّنُ الْأَمْرُ لَهُمْ بِخِلَافِهِ ؛ فَلَأَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ فِي بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى حَتَّى إنَّ بَابَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إذَا تَمَسَّكُوا فِيهِ بِالِاسْتِصْحَابِ لَمْ يَقَعْ فِي ذَلِكَ ظَنُّ خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ ؛ فَإِنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إلَّا بِخِطَابِ إذَا نَفَوْهُ قَبْلَ الْخِطَابِ كَانَ ذَلِكَ اعْتِقَادًا مُطَابِقًا لِلْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ وَبَابُ الْوَعْدِ إذَا لَمْ يُخْبَرُوا بِهِ قَدْ يَظُنُّونَ انْتِفَاءَهُ كَمَا ظَنَّ الْخَلِيلُ جَوَازَ الْمَغْفِرَةِ لِأَبِيهِ حَتَّى اسْتَغْفَرَ لَهُ وَنُهِينَا عَنْ الِاقْتِدَاءِ . كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ : لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَك مَا لَمْ أُنْهَ عَنْك } وَحَتَّى اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّهِ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي

ذَلِكَ وَحَتَّى صَلَّى عَلَى الْمُنَافِقِينَ قَبْلَ أَنْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ يَرْجُو لَهُمْ الْمَغْفِرَةَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } الْآيَةُ . وَقَالَ { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لن يغفر الله لهم } فَإِذَا كَانَ صَلَّى عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ رَاجِيًا أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ . وَلِهَذَا سَوَّغَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يُرْوَى فِي بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ الْإِسْنَادِ . بِخِلَافِ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِيهِ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ أَنَّهُ صِدْقٌ ؛ لِأَنَّ بَابَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ صِدْقًا وَأَمْكَنَ أَنْ يُوجَدَ الْخَبَرُ كَذِبًا لَمْ يَجُزْ نَفْيُهُ ؛ لَا سِيَّمَا بِلَا عِلْمٍ كَمَا لَمْ يَجُزْ الْجَزْمُ بِثُبُوتِهِ بِلَا عِلْمٍ ؛ إذْ لَا مَحْذُورَ فِيهِ . مَنَابِتُ النَّاسِ (1) اللَّفْظُ تَعْيِينُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَلَا يَجُوزُ مَنْعُ ذَلِكَ بِمَنْعِ الْحَدِيثِ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إبْطَالًا لِمَا هُوَ حَقٌّ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ

وَلَا حَرَجَ } وَهَذَا الْبَابُ وَهُوَ " بَابُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ " هُوَ فِي الْكِتَابِ بِأَسْمَاءِ مُطْلَقَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ وَالْمُحْسِنِينَ فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَظُنُّ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعْدِ وَيَكُونُ اللَّفْظُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِمَا يَدْخُلُ فِي الْوَعْدِ لَا فِي اعْتِقَادِ صَدْقِ الْوَعْدِ فِي نَفْسِهِ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وَقَوْلِهِ : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } الْآيَتَيْنِ فَقَدْ يَظُنُّ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَالَ الْإِيمَانِ الْمُسْتَحِقِّ لِلنَّصْرِ وَإِنَّ جُنْدَ اللَّهِ الْغَالِبُونَ وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَقَدْ يَقَعُ مِنْ النَّصْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ مَا لَا يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ الْمَوْعُودِ بِهِ فَالظَّنُّ الْمُخْطِئُ فَهِمَ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا أَكْثَرُ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَ كَثْرَةِ مَا وَقَعَ مِنْ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا لَا يَحْصُرُ الْغَلَطَ فِيهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا عَامٌّ لِجَمِيعِ الْآدَمِيِّينَ ؛ لَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ لَا يُقِرُّونَ ؛ بَلْ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ وَغَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا . وَلِهَذَا كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَأْمُرُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَصْدِيقِ الْوَعْدِ

وَالْإِيمَانِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ الصَّبْرِ إلَى أَنْ يَجِيءَ الْوَقْتُ وَمِنْ الِاسْتِغْفَارِ لِزَوَالِ الذُّنُوبِ الَّتِي بِهَا تَحْقِيقُ اتِّصَافِهِ بِصِفَةِ الْوَعْدِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } الْآيَةُ . وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

سُورَةُ الرَّعْدِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ فِي قَوْله تَعَالَى { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ } قِيلَ الْمُرَادُ سَمُّوهُمْ بِأَسْمَاءِ حَقِيقَةٍ لَهَا مَعَانٍ تَسْتَحِقُّ بِهَا الشِّرْكَ لَهُ وَالْعِبَادَةَ فَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا بَطَلَ مَا تَدْعُونَهُ . وَقِيلَ : إذَا سَمَّيْتُمُوهَا آلِهَةً فَسَمُّوهَا بِاسْمِ الْإِلَهِ كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ كَاذِبَةً عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ اسْمُ الْآلِهَةِ وَقَدْ حَامَ حَوْلَ مَعْنَاهَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فَمَا شَفَوْا عَلِيلًا وَلَا أَرْوَوْا غَلِيلًا وَإِنْ كَانَ مَا قَالُوهُ صَحِيحًا . فَتَأَمُّلُ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا يُطْلِعُك عَلَى حَقِيقَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } وَهَذَا اسْتِفْهَامُ

تَقْرِيرٍ يَتَضَمَّنُ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَنَفْيَ كُلِّ مَعْبُودٍ مَعَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَجَزَائِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . فَهُوَ رَقِيبٌ عَلَيْهَا حَافِظٌ لِأَعْمَالِهَا مُجَازٍ لَهَا بِمَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ . فَإِذَا جَعَلْتُمْ أُولَئِكَ شُرَكَاءَ فَسَمُّوهُمْ إذًا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُسَمَّى بِالْحَيِّ الْقَيُّومِ الْمُحْيِي الْمُمِيتِ السَّمِيعِ الْبَصِيرِ الْغَنِيِّ عَمَّا سِوَاهُ وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إلَيْهِ وَوُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ . فَهَلْ تَسْتَحِقُّ آلِهَتُكُمْ اسْمًا مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ ؟ فَإِنْ كَانَتْ آلِهَةً حَقًّا فَسَمُّوهَا بِاسْمِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ ؛ وَذَلِكَ بهت بَيِّنٌ ؛ فَإِذَا انْتَفَى عَنْهَا ذَلِكَ عُلِمَ بُطْلَانُهَا كَمَا عُلِمَ بُطْلَانُ مُسَمَّاهَا . وَأَمَّا إنْ سَمَّوْهَا بِأَسْمَائِهَا الصَّادِقَةِ عَلَيْهَا كَالْحِجَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُسَمَّى الْجَمَادَاتِ وَأَسْمَاءِ الْحَيَوَانِ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَالْبَقْرِ وَغَيْرِهَا وَبِأَسْمَاءِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ أَشْرَكُوهُمْ مَعَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَبِأَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ الْمُسَخَّرَاتِ تَحْتَ أَوَامِرَ الرَّبِّ وَالْأَسْمَاءُ الشَّامِلَةُ لِجَمِيعِهَا أَسْمَاءُ الْمَخْلُوقَاتِ : الْمُحْتَاجَاتُ الْمُدَبَّرَاتُ الْمَقْهُورَاتُ . وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ عِبَادَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فَهَذِهِ أَسْمَاؤُهَا الْحَقُّ وَهِيَ تُبْطِلُ إلَهِيَّتَهَا ؛ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي مِنْ لَوَازِمِ الْإِلَهِيَّةِ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَيْهَا ؛ فَظَهَرَ أَنَّ تَسْمِيَتَهَا آلِهَةً مِنْ أَكْبَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ إلَهِيَّتِهَا وَامْتِنَاعِ كَوْنِهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .

سُورَةُ الْحِجْرِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ وَرَحِمَهُ - :
فَصْلٌ :
فِي آيَاتٍ ثَلَاثٍ مُتَنَاسِبَةٍ مُتَشَابِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى يَخْفَى مَعْنَاهَا عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ . قَوْله تَعَالَى { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ } وقَوْله تَعَالَى { إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } { وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى } .

فَلَفْظُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهِ أَنَّ السَّبِيلَ الْهَادِيَ هُوَ عَلَى اللَّهِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ بِخِلَافِ الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِمَا إلَّا قَوْلًا وَاحِدًا . فَقَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ : اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . ( أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ هَذَا : الْإِخْلَاصَ . فَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ طَرِيقٌ إلَيَّ مُسْتَقِيمٌ و " عَلَيَّ " بِمَعْنَى " إلَيَّ " . و ( الثَّانِي : هَذَا طَرِيقٌ عَلَيَّ جَوَازُهُ لِأَنِّي بِالْمِرْصَادِ فَأُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ . وَهُوَ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْوَعِيدِ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ تُخَاصِمُهُ " طَرِيقُك عَلَيَّ " فَهُوَ كَقَوْلِهِ { إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } . و ( الثَّالِثُ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ اسْتِقَامَتُهُ أَيْ أَنَا ضَامِنٌ لِاسْتِقَامَتِهِ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ . قَالَ : وَقَرَأَ قتادة وَيَعْقُوبُ : { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ } أَيْ رَفِيعٌ . قُلْت : هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ قَدْ ذَكَرَهَا مَنْ قَبْلَهُ كَالثَّعْلَبِيِّ وَالْوَاحِدِيِّ والبغوي وَذَكَرُوا قَوْلًا رَابِعًا . فَقَالُوا - وَاللَّفْظُ للبغوي وَهُوَ مُخْتَصَرُ الثَّعْلَبِيِّ .

قَالَ الْحَسَنُ : مَعْنَاهُ صِرَاطٌ إلَيَّ مُسْتَقِيمٌ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : الْحَقُّ يَرْجِعُ إلَيَّ وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ لَا يُعَرَّجُ عَلَى شَيْءٍ . وَقَالَ الْأَخْفَشُ : يَعْنِي عَلَيَّ الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . وَقَالَ الْكِسَائِيُّ : هَذَا عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا يَقُولُ الرِّجْلُ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ " طَرِيقُك عَلَيَّ " أَيْ لَا تَفْلِتُ مِنِّي كَمَا قَالَ تَعَالَى { إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ عَلَيَّ اسْتِقَامَتُهُ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ . فَذَكَرُوا الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ وَذَكَرُوا قَوْلَ الْأَخْفَشِ " عَلَيَّ الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ " . وَهُوَ يُشْبِهُ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ لَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ . فَإِنَّ ذَاكَ يَقُولُ : عَلَيَّ اسْتِقَامَتُهُ بِإِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ . فَمَنْ سَلَكَهُ كَانَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَالْآخَرُ يَقُولُ : عَلَيَّ أَنْ أَدُلَّ الْخَلْقَ عَلَيْهِ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ . فَفِي كِلَا الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ بَيَّنَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ لَكِنَّ هَذَا جَعَلَ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ وَهَذَا جَعَلَ عَلَيْهِ اسْتِقَامَتَهُ - أَيْ بَيَانُ اسْتِقَامَتِهِ - وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ . وَلِهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَمْ يَجْعَلْهُ أَبُو الْفَرَجِ قَوْلًا رَابِعًا . وَذَكَرُوا الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى عَنْ يَعْقُوبَ وَغَيْرِهِ : أَيْ رَفِيعٌ . قَالَ البغوي : وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ " رَفِيعٌ أَنْ يُنَالَ مُسْتَقِيمٌ أَنْ يُمَالَ " .

قُلْت : الْقَوْلُ الصَّوَابُ هُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ - قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَنَحْوِهِ - فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ . لَا سِيَّمَا مُجَاهِدٌ . فَإِنَّهُ قَالَ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا " وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ . وَالْأَئِمَّةُ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ وَنَحْوِهِمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى تَفْسِيرِهِ . وَالْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَكْثَرُ مَا يَنْقُلُهُ مِنْ التَّفْسِيرِ يَنْقُلُهُ عَنْهُ . وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَعْلَمُ التَّابِعَيْنِ بِالْبَصْرَةِ . وَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ مُجَاهِدٍ ثَابِتٌ عَنْهُ . رَوَاهُ النَّاسُ كَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ . مِنْ تَفْسِيرِ وَرْقَاءَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } الْحَقُّ يَرْجِعُ إلَى اللَّهِ وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ لَا يُعَرَّجُ عَلَى شَيْءٍ . وَذَكَرَ عَنْ قتادة أَنَّهُ فَسَرَّهَا عَلَى قِرَاءَتِهِ - وَهُوَ يَقْرَأُ " عَلَيَّ " - فَقَالَ : أَيْ رَفِيعٌ مُسْتَقِيمٌ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا آيَةَ النَّحْلِ . فَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ وَرْقَاءَ . عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ { قَصْدُ السَّبِيلِ } قَالَ : طَرِيقُ الْحَقِّ عَلَى اللَّهِ . قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ السدي أَنَّهُ قَالَ : الْإِسْلَامُ . وَعَطَاءٌ قَالَ : هِيَ طَرِيقُ الْجَنَّةِ . فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ - قَوْلُ مُجَاهِدٍ والسدي وَعَطَاءٍ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ مِثْلُ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ تَفْسِيرِ العوفي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ

{ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } يَقُولُ : عَلَى اللَّهِ الْبَيَانُ - أَنْ يُبَيِّنَ الْهُدَى وَالضَّلَالَةَ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي آيَةِ الْحِجْرِ إلَّا قَوْلَ مُجَاهِدٍ فَقَطْ . وَابْنُ الْجَوْزِيِّ لَمْ يَذْكُرْ فِي آيَةِ النَّحْلِ إلَّا هَذَا الْقَوْلَ الثَّانِي وَذَكَرَهُ عَنْ الزَّجَّاجِ فَقَالَ : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } الْقَصْدُ : اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ - يُقَالُ : طَرِيقٌ قَصْدٌ وَقَاصِدٌ إذَا قُصِدَ بِك إلَى مَا تُرِيدُ قَالَ الزَّجَّاجُ : الْمَعْنَى وَعَلَى اللَّهِ تَبْيِينُ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَالدُّعَاءُ إلَيْهِ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ . وَكَذَلِكَ الثَّعْلَبِيُّ والبغوي وَنَحْوُهُمَا لَمْ يَذْكُرُوا إلَّا هَذَا الْقَوْلَ لَكِنْ ذَكَرُوهُ بِاللَّفْظَيْنِ . قَالَ البغوي : يَعْنِي بَيَانَ طَرِيقِ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالَةِ . وَقِيلَ : بَيَانَ الْحَقِّ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ . قَالَ : وَالْقَصْدُ : الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ { وَمِنْهَا جَائِرٌ } يَعْنِي وَمِنْ السَّبِيلِ مَا هُوَ جَائِرٌ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ مُعْوَجٌّ . فَالْقَصْدُ مِنْ السَّبِيلِ : دِينُ الْإِسْلَامِ وَالْجَائِرُ مِنْهَا : الْيَهُودِيَّةُ والنصرانية وَسَائِرُ مِلَلِ الْكُفْرِ .

قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : قَصْدُ السَّبِيلِ : بَيَانُ الشَّرَائِعِ وَالْفَرَائِضِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَسَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : قَصْدُ السَّبِيلِ : السُّنَّةُ { وَمِنْهَا جَائِرٌ } الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ . دَلِيلُهُ : قَوْله تَعَالَى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } . وَلَكِنْ البغوي ذَكَرَ فِيهَا الْقَوْلَ الْآخَرَ ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى { إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } - عَنْ الْفَرَّاءِ كَمَا سَيَأْتِي . فَقَدْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ تَبَعًا لِمَنْ قَبْلَهُ كَالثَّعْلَبِيِّ وَغَيْرِهِ . والمهدوي ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى قَوْلَيْنِ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ مَا رَوَاهُ العوفي وَقَوْلًا آخَرَ . فَقَالَ : قَوْلُهُ { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } أَيْ عَلَى أَمْرِي وَإِرَادَتِي . وَقِيلَ : هُوَ عَلَى التَّهْدِيدِ كَمَا يُقَالُ " عَلَيَّ طَرِيقُك وَإِلَيَّ مَصِيرُك " . وَقَالَ فِي قَوْلِهِ : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَيْ بَيَانُ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ . وَقِيلَ : السَّبِيلُ الْإِسْلَامُ { وَمِنْهَا جَائِرٌ } أَيْ وَمِنْ السَّبِيلِ جَائِرٌ أَيْ عَادِلٌ عَنْ الْحَقِّ . وَقِيلَ الْمَعْنَى " وَعَنْهَا جَائِرٌ " أَيْ عَنْ السَّبِيلِ ف " مِنْ " بِمَعْنَى " عَنْ " . وَقِيلَ : مَعْنَى قَصْدُ السَّبِيلِ : سَيْرُكُمْ وَرُجُوعُكُمْ وَالسَّبِيلُ وَاحِدَةٌ بِمَعْنَى الْجَمْعِ .

قُلْت : هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ - جَعَلَ " الْقَصْدَ " بِمَعْنَى " الْإِرَادَةِ " أَيْ عَلَيْهِ قَصْدُكُمْ لِلسَّبِيلِ فِي ذَهَابِكُمْ وَرُجُوعِكُمْ . وَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الْآيَةَ . فَإِنَّ " السَّبِيلَ الْقَصْدَ " هِيَ السَّبِيلُ الْعَادِلَةُ أَيْ عَلَيْهِ السَّبِيلُ الْقَصْدُ . و " السَّبِيلُ " اسْمُ جِنْسٍ وَلِهَذَا قَالَ : { وَمِنْهَا جَائِرٌ } . أَيْ عَلَيْهِ الْقَصْدُ مِنْ السَّبِيلِ وَمِنْ السَّبِيلِ جَائِرٌ . فَأَضَافَهُ إلَى اسْمِ الْجِنْسِ إضَافَةَ النَّوْعِ إلَى الْجِنْسِ أَيْ " الْقَصْدُ مِنْ السَّبِيلِ " كَمَا تَقُولُ " ثَوْبُ خَزٍّ " . وَلِهَذَا قَالَ : { وَمِنْهَا جَائِرٌ } . وَأَمَّا مَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ " قَصْدُكُمْ السَّبِيلَ " فَهَذَا لَا يُطَابِقُ لَفْظَ الْآيَةِ وَنَظْمَهَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ . وَابْنُ عَطِيَّةَ لَمْ يَذْكُرْ فِي آيَةِ الْحِجْرِ إلَّا قَوْلَ الْكِسَائِيِّ وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ وَذَكَرَ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ تَفْسِيرًا لِلْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى . فَذَكَرَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ السَّلَفِ قَرَءُوا { عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } مِنْ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ . قَالَ : وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إلَى الْإِخْلَاصِ - لَمَّا اسْتَثْنَى إبْلِيسُ مَنْ أَخْلَصَ قَالَ اللَّهُ لَهُ : هَذَا الْإِخْلَاصُ طَرِيقٌ رَفِيعٌ مُسْتَقِيمٌ لَا تَنَالُ أَنْتَ بِإِغْوَائِك أَهْلَهُ . قَالَ : وَقَرَأَ جُمْهُورُ النَّاسِ { عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } . وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إلَى انْقِسَامِ النَّاسِ إلَى غَاوٍ وَمُخْلِصٍ . لَمَّا قَسَّمَ إبْلِيسُ هَذَيْنِ

الْقِسْمَيْنِ قَالَ اللَّهُ " هَذَا طَرِيقٌ عَلَيَّ " أَيْ هَذَا أَمْرٌ إلَيَّ مَصِيرُهُ . وَالْعَرَبُ تَقُولُ " طَرِيقُك فِي هَذَا الْأَمْرِ عَلَى فُلَانٍ " أَيْ إلَيْهِ يَصِيرُ النَّظَرُ فِي أَمْرِك . وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِهِ { إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } . قَالَ : وَالْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ وَعِيدًا . قُلْت : هَذَا قَوْلٌ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ - لَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا فِي نَظِيرِهَا . وَإِنَّمَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ لَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ مَعْنَى الْآيَةِ الَّذِي فَهِمَهُ السَّلَفُ وَدَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَالنَّظَائِرُ . وَكَلَامُ الْعَرَبِ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . فَإِنَّ الرَّجُلَ وَإِنْ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ يَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ " عَلَيَّ طَرِيقُك " فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ : إنَّ طَرِيقَك مُسْتَقِيمٌ . وَأَيْضًا فَالْوَعِيدُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمُسِيءِ لَا يَكُونُ لِلْمُخْلِصِينَ . فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ هَذَا " إشَارَةً إلَى انْقِسَامِ النَّاسِ إلَى غَاوٍ وَمُخْلِصٍ " وَطَرِيقُ هَؤُلَاءِ غَيْرُ طَرِيقِ هَؤُلَاءِ ؟ هَؤُلَاءِ سَلَكُوا الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ سَلَكُوا السَّبِيلَ الْجَائِرَةَ . وَأَيْضًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لِغَيْرِهِ فِي التَّهْدِيدِ " طَرِيقُك عَلَيَّ " مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ لَكِنَّ ذَاكَ يَمُرُّ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ كَمَا كَانَ أَهْلُ

الْمَدِينَةِ يَتَوَعَّدُونَ أَهْلَ مَكَّةَ بِأَنَّ " طَرِيقَكُمْ عَلَيْنَا " لَمَّا تَهَدَّدُوهُمْ بِأَنَّكُمْ آوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ . كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمَّا ذَهَبَ سَعْدٌ إلَى مَكَّةَ " لَا أَرَاك تَطُوفُ بِالْبَيْتِ آمِنًا وَقَدْ آوَيْتُمْ الصُّبَاةَ وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَنْصُرُونَهُمْ " فَقَالَ " لَئِنْ مَنَعْتنِي هَذَا لَأَمْنَعَنَّكَ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْك مِنْهُ - طَرِيقُك عَلَى الْمَدِينَةِ " أَوْ نَحْوَ هَذَا . فَذَكَرَ أَنَّ طَرِيقَهُمْ فِي مَتْجَرِهِمْ إلَى الشَّامِ عَلَيْهِمْ فَيَتَمَكَّنُونَ حِينَئِذٍ مِنْ جَزَائِهِمْ . وَمِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُقَالُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى . فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْعِبَادِ حَيْثُ كَانُوا كَمَا قَالَتْ الْجِنُّ { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا } وَقَالَ { وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ . } وَإِذَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ مَا ذَكَرَهُ : يَقُولُونَ " طَرِيقُك فِي هَذَا الْأَمْرِ عَلَى فُلَانٍ " أَيْ إلَيْهِ يَصِيرُ أَمْرُك فَهَذَا يُطَابِقُ تَفْسِيرَ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ : الْحَقُّ يَرْجِعُ إلَى اللَّهِ وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ لَا يُعَرَّجُ عَلَى شَيْءٍ . فَطَرِيقُ الْحَقِّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } كَمَا فُسِّرَتْ بِهِ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى . فَالصِّرَاطُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ هَذَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ

أَنْ يَسْأَلُوهُ إيَّاهُ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَقُولُوا { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . وَهُوَ الَّذِي وَصَّى بِهِ فِي قَوْلِهِ { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . } وَقَوْلُهُ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } فَتَعَبُّدُ الْعِبَادِ لَهُ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ : طَرِيقٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ طَرِيقٌ مُسْتَقِيمٌ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ . } وَابْنُ عَطِيَّةَ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُخْرَى مُسْتَشْهِدًا بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي تَفْسِيرِهَا . فَهُوَ بِفِطْرَتِهِ عَرَفَ أَنَّ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ وَلَكِنَّهُ لَمَّا فَسَّرَهَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَوْلَ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ أَنْ رَأَى غَيْرَهُ قَدْ قَالَهُ هُنَاكَ . فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ . وَقَوْلُهُ { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ } . وَهَذِهِ أَيْضًا مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى . أَيْ عَلَى اللَّهِ تَقْوِيمُ طَرِيقِ الْهُدَى وَتَبْيِينُهُ - وَذَلِكَ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَبَعْثِ الرُّسُلِ . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمُتَأَوِّلُونَ . قَالَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ سَلَكَ السَّبِيلَ الْقَاصِدِ فَعَلَى اللَّهِ طَرِيقُهُ وَإِلَى ذَلِكَ مَصِيرُهُ . فَيَكُونُ هَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ

مُسْتَقِيمٌ } وَضِدُّ { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك } أَيْ لَا يُفْضِي إلَى رَحْمَتِك . وَطَرِيقٌ قَاصِدٌ مَعْنَاهُ : بَيِّنٌ مُسْتَقِيمٌ قَرِيبٌ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ : بَعِيدٌ عَنْ نَهْجِ الطَّرِيقِ الْقَاصِدِ قَالَ : وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي " السَّبِيلِ " لِلْعَهْدِ وَهِيَ سَبِيلُ الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ لِلْجِنْسِ وَلَوْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا جَائِرٌ . وَقَوْلُهُ { وَمِنْهَا جَائِرٌ } يُرِيدُ طَرِيقَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ كَعُبَّادِ الْأَصْنَامِ . وَالضَّمِيرُ فِي " مِنْهَا " يَعُودُ عَلَى " السَّبِيلِ " الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا مَعْنَى الْآيَةِ كَأَنَّهُ قَالَ " وَمِنْ السَّبِيلِ جَائِرٌ " فَأَعَادَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لِتَضَمُّنِ لَفْظَةِ " السَّبِيلِ " بِالْمَعْنَى لَهَا . قَالَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي " مِنْهَا " عَلَى " سَبِيلِ الشَّرْعِ " الْمَذْكُورَةِ وَيَكُونَ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ وَيَكُونَ الْمُرَادُ فِرَقَ الضَّلَالَةِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - كَأَنَّهُ قَالَ : وَمِنْ بِنْيَاتِ الطُّرُقِ مِنْ هَذِهِ السَّبِيل وَمِنْ شُعَبِهَا جَائِرٌ . ( قُلْت : سَبِيلُ أَهْلِ الْبِدَعِ جَائِرَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِيمَا ابْتَدَعُوا فِيهِ . وَلَا يُقَالُ إنَّ ذَلِكَ مِنْ السَّبِيلِ الْمَشْرُوعَةِ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ " إنَّ قَوْلَهُ : { قَصْدُ السَّبِيلِ } هِيَ سَبِيلُ الشَّرْعِ وَهِيَ سَبِيلُ الْهُدَى وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ . وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا جَائِرٌ فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ وَهُوَ مَرْجُوحٌ . وَالصَّحِيحُ الْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ " السَّبِيلَ " اسْمُ جِنْسٍ وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَى اللَّهِ هُوَ الْقَصْدُ مِنْهَا وَهِيَ سَبِيلٌ وَاحِدٌ وَلَمَّا كَانَ جِنْسًا قَالَ { وَمِنْهَا جَائِرٌ } وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَا ذَكَرَ بِلَا تَكَلُّفٍ . وَقَوْلُهُ " لَوْ كَانَ لِلْجِنْسِ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا جَائِرٌ " لَيْسَ كَذَلِكَ . فَإِنَّهَا لَيْسَتْ كُلُّهَا عَلَيْهِ بَلْ إنَّمَا عَلَيْهِ الْقَصْدُ مِنْهَا وَهِيَ سَبِيلُ الْهُدَى وَالْجَائِرُ لَيْسَ مِنْ الْقَصْدِ . وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ لِلْجِنْسِ يَكُونُ عَلَيْهِ قَصْدُ كُلِّ سَبِيلٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . بَلْ إنَّمَا عَلَيْهِ سَبِيلٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ - هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ . وَسَائِرُهَا سَبِيلُ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } . وَقَدْ أَحْسَنَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ وَفِي تَمْثِيلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } .
وَأَمَّا آيَةُ اللَّيْلِ - قَوْلُهُ { إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } - فَابْنُ عَطِيَّةَ مَثَّلَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ لَكِنَّهُ فَسَّرَهَا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَقَالَ :

ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ عَلَيْهِ هُدَى النَّاسِ جَمِيعًا أَيْ تَعْرِيفُهُمْ بِالسُّبُلِ كُلِّهَا وَمَنْحُهُمْ الْإِدْرَاكَ كَمَا قَالَ { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } ثُمَّ كُلُّ أَحَدٍ يَتَكَسَّبُ مَا قُدِّرَ لَهُ . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْهِدَايَةُ بِالْإِرْشَادِ إلَى الْإِيمَانِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ كَافِرٌ . قُلْت : وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - وَذَكَرَهُ عَنْ الزَّجَّاجِ . قَالَ الزَّجَّاجُ : إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ طَرِيقَ الْهُدَى مِنْ طَرِيقِ الضَّلَالِ . وَهَذَا التَّفْسِيرُ ثَابِتٌ عَنْ قتادة رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حَمِيدٍ . قَالَ : حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ شيبان عَنْ قتادة : { إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } عَلَيْنَا بَيَانُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِ سَعِيدٍ عَنْ قتادة فِي قَوْلِهِ { إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } يَقُولُ : عَلَى اللَّهِ الْبَيَانُ - بَيَانُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ . لَكِنَّ قتادة ذَكَرَ أَنَّهُ الْبَيَانُ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ فَتُبَيِّنُ بِهِ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَطَاعَتَهُ وَمَعْصِيَتَهُ . وَأَمَّا الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ والبغوي وَغَيْرُهُمْ فَذَكَرُوا الْقَوْلَيْنِ وَزَادُوا أَقْوَالًا أُخَرَ . فَقَالُوا - وَاللَّفْظُ للبغوي :

{ إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } يَعْنِي الْبَيَانَ . قَالَ الزَّجَّاجُ : عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ طَرِيقَ الْهُدَى مِنْ طَرِيقِ الضَّلَالَةِ . وَهُوَ قَوْلُ قتادة قَالَ : عَلَى اللَّهِ بَيَانُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ : يَعْنِي مَنْ سَلَكَ الْهُدَى فَعَلَى اللَّهِ سَبِيلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } يَقُولُ : مَنْ أَرَادَ اللَّهَ فَهُوَ عَلَى السَّبِيلِ الْقَاصِدِ . قَالَ : وَقِيلَ مَعْنَاهُ إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَالْإِضْلَالَ كَقَوْلِهِ " بِيَدِك الْخَيْرُ " قُلْت : هَذَا الْقَوْلُ هُوَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَمْ تُعْرَفْ عَنْ السَّلَفِ وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ . فَإِنَّهُمْ قَالُوا : مَعْنَاهُ بِيَدِك الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ { وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك } . وَاَللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ - لَا يَكُونُ فِي مِلْكِهِ إلَّا مَا يَشَاءُ - وَالْقَدَرُ حَقٌّ . لَكِنَّ فَهْمَ الْقُرْآنِ وَوَضْعَ كُلِّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ وَبَيَانَ حِكْمَةِ الرَّبِّ وَعَدْلِهِ مَعَ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ هُوَ طَرِيقُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَقَدْ ذَكَرَ المهدوي الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ فَقَالَ : إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى

وَالضَّلَالَ . فَحَذَفَ قتادة . الْمَعْنَى : إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَهْدِيَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهُدَى . قُلْت : هَذَا هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ لَكِنَّ عِبَارَةَ الْفَرَّاءِ أَبْيَنُ فِي مَعْرِفَةِ هَذَا الْقَوْلِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ جُمْهُورَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَسَّرُوا الْآيَاتِ الثَّلَاثَ بِأَنَّ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى اللَّهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِأَنَّ عَلَيْهِ بَيَانَ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ . وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ يَقُولُ طَائِفَةٌ : لَيْسَ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ - لَا بَيَانُ هَذَا وَلَا هَذَا . فَإِنَّهُمْ مُتَنَازِعُونَ هَلْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وَقَوْلِهِ { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلِهِ { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا . } وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ بَيَانُ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ وَبَيَانُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ فَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ عَلَيْهِ إرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْبَيَانَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهَذَا . وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ فَهُوَ وَاجِبٌ مِنْهُ

أَوْجَبَتْهُ مَشِيئَتُهُ وَحِكْمَتُهُ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . فَمَا شَاءَهُ وَجَبَ وُجُودُهُ وَمَا لَمْ يَشَأْهُ امْتَنَعَ وُجُودُهُ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَدَلَالَةُ الْآيَاتِ عَلَى هَذَا فِيهَا نَظَرٌ . وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَهُوَ مُرَادٌ مِنْ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ قَطْعًا وَأَنَّهُ أَرْشَدَ بِهَا إلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَهِيَ الطَّرِيقُ الْقَصْدُ وَهِيَ الْهُدَى إنَّمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ - وَهُوَ الْحَقُّ طَرِيقُهُ عَلَى اللَّهِ لَا يُعْرَجُ عَنْهُ . لَكِنْ نَشَأَتْ الشُّبْهَةُ مِنْ كَوْنِهِ قَالَ " عَلَيْنَا " بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ وَلَمْ يَقُلْ " إلَيْنَا " وَالْمَعْرُوفُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ يُشَارُ إلَيْهِ أَنْ يُقَالَ " هَذِهِ الطَّرِيقُ إلَى فُلَانٍ " وَلِمَنْ يَمُرُّ بِهِ وَيَجْتَازُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ " طَرِيقُنَا عَلَى فُلَانٍ " . وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ . وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ . فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مَصِيرُهُمْ وَمَرْجِعُهُمْ إلَى اللَّهِ عَلَى أَيِّ طَرِيقٍ سَلَكُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } وَقَالَ { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } { إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ } أَيْ إلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ وَقَالَ

{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ } { ثُمَّ رُدُّوا إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ } وَقَالَ { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى } { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى } { وَأَنَّ إلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } وَقَالَ { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } فَأَيُّ سَبِيلٍ سَلَكَهَا الْعَبْدُ فَإِلَى اللَّهِ مَرْجِعُهُ وَمُنْتَهَاهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى . } وَتِلْكَ الْآيَاتُ قُصِدَ بِهَا أَنَّ سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْهُدَى وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِي يَسْعَدُ أَصْحَابُهُ وَيَنَالُونَ بِهِ وِلَايَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ وَكَرَامَتَهُ فَيَكُونُ اللَّهُ وَلِيَّهُمْ دُونَ الشَّيْطَانِ . وَهَذِهِ سَبِيلُ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَأَطَاعَ رُسُلَهُ . فَلِهَذَا قَالَ { إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } . فَالْهُدَى وَقَصْدُ السَّبِيلِ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ - لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَطَاعَةِ الشَّيْطَانِ .

فَالْكَلَامُ تَضَمَّنَ مَعْنَى " الدَّلَالَةِ " إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ ذِكْرَ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْجَزَاءَ يَعُمُّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ . بَلْ الْمَقْصُودُ بَيَانُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ - مَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَكَأَنَّهُ قِيلَ : الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ يَدُلُّ عَلَى اللَّهِ - عَلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ . وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ " هَذِهِ الطَّرِيقُ عَلَى فُلَانٍ " إذَا كَانَتْ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَكَانَ هُوَ الْغَايَةَ الْمَقْصُودَ بِهَا ؛ وَهَذَا غَيْرُ كَوْنِهَا " عَلَيْهِ " بِمَعْنَى أَنَّ صَاحِبَهَا يَمُرُّ عَلَيْهِ . وَقَدْ قِيلَ :
فَهُنَّ الْمَنَايَا أَيَّ وَادٍ سَلَكْته * * * عَلَيْهَا طَرِيقِي أَوْ عَلَيَّ طَرِيقُهَا
وَهُوَ كَمَا قَالَ الْفَرَّاءُ : مَنْ سَلَكَ الْهُدَى فَعَلَى اللَّهِ سَبِيلُهُ . فَالْمَقْصُودُ بِالسَّبِيلِ هُوَ : الَّذِي يَدُلُّ وَيُوقِعُ عَلَيْهِ كَمَا يُقَالُ : إنْ سَلَكْت هَذِهِ السَّبِيلَ وَقَعْت عَلَى الْمَقْصُودِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَكَمَا يُقَالُ " عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْت " . فَإِنَّ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ إذَا كَانَتْ عَظِيمَةً فَالسَّالِكُ يَقَعُ عَلَيْهَا وَيَرْمِي نَفْسَهُ عَلَيْهَا . وَأَيْضًا فَسَالِكُ طَرِيقِ اللَّهِ مُتَوَكِّلٌ عَلَيْهِ . فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَمِنْ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ . فَإِذَا قِيلَ " عَلَيْهِ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ " تَضَمَّنَ أَنَّ سَالِكَهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ

وَعَلَيْهِ تَدُلُّهُ الطَّرِيقُ وَعَلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ يَقَعُ وَيَسْقُطُ لَا يَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ إلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ دُونَ حَرْفِ الْغَايَةِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . فَعَلَيْهِ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ النَّحْلِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
اللِّبَاسُ لَهُ مَنْفَعَتَانِ : إحْدَاهُمَا : الزِّينَةُ بِسَتْرِ السَّوْأَةِ . وَالثَّانِيَةُ : الْوِقَايَةُ لِمَا يَضُرُّ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ عَدُوٍّ . فَذَكَرَ اللِّبَاسَ فِي ( سُورَةِ الْأَعْرَافِ ) لِفَائِدَةِ الزِّينَةِ وَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وَقَالَ : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ } وَقَالَ : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } رَدًّا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَحْرِيمِ الطَّوَافِ فِي الثِّيَابِ الَّذِي قَدِمَ بِهَا غَيْرُ الْحُمْسِ وَمِنْ أَكْلِ مَا سَلَّوْهُ مِنْ الْأَدْهَانِ .

وَذَكَرَهُ فِي النَّحْلِ لِفَائِدَةِ الْوِقَايَةِ فِي قَوْلِهِ : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ حَيَوَانِيَّةً طَبِيعِيَّةً لَا قِوَامَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا بِهَا جَعَلَهَا مِنْ النِّعَمِ وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ فَائِدَةً كَمَالِيَّةً قَرَنَهَا بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَتِلْكَ الْفَائِدَةُ مِنْ بَابِ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ بِالتَّزَيُّنِ وَهَذِهِ مِنْ بَابِ دَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَالنَّاسُ إلَى هَذِهِ أَحْوَجُ . فَأَمَّا قَوْلُهُ : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } وَلَمْ يَذْكُرْ " الْبَرْدَ " فَقَدْ قِيلَ لِأَنَّ التَّنْزِيلَ كَانَ بِالْأَرْضِ الْحَارَّةِ فَهُمْ يَتَخَوَّفُونَهُ وَقِيلَ : حُذِفَ الْآخَرُ لِلْعِلْمِ بِهِ وَيُقَالُ هَذَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَقِي الْحَرَّ فَالِامْتِنَانُ بِمَا يَقِي الْبَرْدَ أَعْظَمُ ؛ لِأَنَّ الْحَرَّ أَذًى ؛ وَالْبَرْدَ بُؤْسٌ وَالْبَرْدُ الشَّدِيدُ يَقْتُلُ وَالْحَرُّ قَلَّ أَنْ يَقَعَ فِيهِ هَكَذَا فَإِنَّ بَابَ التَّنْبِيهِ وَالْقِيَاسِ كَمَا يَكُونُ فِي خِطَابِ الْأَحْكَامِ يَكُونُ فِي خِطَابِ الْآلَاءِ وَخِطَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا قُلْته فِي قَوْلِهِ : { لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا } مِثْلُهُ مَنْ يَقُولُ لَا تَنْفِرُوا فِي الْبَرْدِ فَإِنَّ جَهَنَّمَ أَشَدُّ زَمْهَرِيرًا " وَمَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ " فَالْوَحْلُ وَالثَّلْجُ أَعْظَمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَفِي الْآيَةِ شَرَعَ لِبَاسَ جُنَنِ الْحَرْبِ ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ مَنْ قَرَنَ بَابَ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي بِالصَّلَاةِ لِأَنَّ لِلْحَرْبِ لِبَاسًا مُخْتَصًّا مَعَ اللِّبَاسِ الْمُشْتَرَكِ وَطَابَقَ قَوْلُهُمْ اللِّبَاسُ وَالتَّحَلِّي قَوْلَهُ : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ

وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } . وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وِقَايَةِ الْبَرْدِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ : { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } فَيُقَالُ لِمَ فَرَّقَ هَذَا ؟ فَيُقَالُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ النِّعَمُ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي لَا يَقُومُونَ بِدُونِهَا : مِنْ الْأَكْلِ وَشُرْبِ الْمَاءِ الْقَرَاحِ وَدَفْعِ الْبَرْدِ وَالرُّكُوبِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ فِي النُّقْلَةِ وَفِي آخِرِهَا ذَكَرَ كَمَالَ النِّعَمِ : مِنْ الْأَشْرِبَةِ الطَّيِّبَةِ وَالسُّكُونِ فِي الْبُيُوتِ وَبُيُوتِ الْأُدْمِ وَالِاسْتِظْلَالِ بِالظِّلَالِ وَدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَأْسِ بِالسَّرَابِيلِ فَإِنَّ هَذَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ . فَفِي الْأَوَّلِ الْأُصُولُ وَفِي الْآخَرِ الْكَمَالُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } .
وأَيْضًا : فَالْمَسَاكِنُ لَهَا مَنْفَعَتَانِ : إحْدَاهُمَا السُّكُونُ فِيهَا لِأَجْلِ الِاسْتِتَارِ فَهِيَ كَلِبَاسِ الزِّينَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَالثَّانِي : وِقَايَةُ الْأَذَى مِنْ الشَّمْسِ وَالْمَطَرِ وَالرِّيحِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَجَمَعَ اللَّهُ الِامْتِنَانَ بِهَذَيْنِ فَقَالَ : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } هَذِهِ بُيُوتُ الْمَدَرِ { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقَامَتِكُمْ } هَذِهِ بُيُوتُ الْعَمُودِ { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ } يَدْخُلُ فِيهِ أُهْبَةُ الْبَيْتِ مِنْ الْبُسُطِ وَالْأَوْعِيَةِ وَالْأَغْطِيَةِ وَنَحْوِهَا وَقَالَ { مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } وَلَمْ يَقُلْ مِنْ الْمَدَرِ بُيُوتًا كَمَا قَالَ : { مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا } لِأَنَّ السَّكَنَ بَيَانُ مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ فَبِهِ تَظْهَرُ النِّعْمَةُ وَاِتِّخَاذُ

الْبُيُوتِ مِنْ الْمَدَرِ مُعْتَادٌ فَالنِّعْمَةُ بِظُهُورِ أَثَرِهَا ؛ بِخِلَافِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّ الْهِدَايَةَ إلَى اتِّخَاذِ الْبُيُوتِ مِنْ جُلُودِهَا أَظْهَرُ مِنْ الْهِدَايَةِ إلَى نَفْسِ اتِّخَاذِ الْبُيُوتِ . وَأَمَّا فَائِدَةُ الْوِقَايَةِ فَقَالَ : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } فَالظِّلَالُ يَعُمُّ جَمِيعَ مَا يَظِلُّ مِنْ الْعَرْشِ وَالْفَسَاطِيطِ وَالسُّقُوفِ مِمَّا يَصْطَنِعُهُ الْآدَمِيُّونَ وَقَوْلُهُ : { مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } لِأَنَّ الْجَبَلَ يَكِنُّ الْإِنْسَانَ مِنْ فَوْقِهِ وَيَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَأَسْفَلِ مِنْهُ لَيْسَ مَقْصُودُهُ الِاسْتِظْلَالَ ؛ بِخِلَافِ الظِّلَالِ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا الِاسْتِظْلَالُ ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ بِهَذِهِ مَا فِي السَّرَابِيلِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْوِقَايَةِ فَجَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ وِقَايَةِ اللِّبَاسِ الْمُنْتَقِلِ مَعَ الْبَدَنِ وَوِقَايَةِ الظِّلَالِ الثَّابِتَةِ عَلَى الْأَرْضِ ؛ وَلِهَذَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَوُّونَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَكَمَا نَهَى عَنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ نَهَوْهُ عَنْ الدُّخُولِ تَحْتَ سَقْفٍ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا } . وَجَازَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِالثَّابِتِ مِنْ الْخِيَامِ وَالشَّجَرِ وَأَمَّا الشَّيْءُ الْمُنْتَقِلُ مَعَهُ الْمُتَّصِلُ كَالْمَحْمَلِ فَفِيهِ مَا فِيهِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ السَّرَابِيلِ وَبَيْنَ الْمُسْتَقِرِّ مِنْ الظِّلَالِ وَالْأَكِنَّةِ . كَمَا أَنَّهُ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ ذَكَرَ أَصْنَافَ الْأَشْرِبَةِ مِنْ اللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ وَذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الْمَرَاكِبَ وَالْأَطْعِمَةَ وَهَذِهِ مَجَامِعُ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَرَاكِبِ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } الْآيَتَيْنِ . لَفْظُ " الْإِنْزَالِ " فِي الْقُرْآنِ يَرِدُ " مُقَيَّدًا " بِأَنَّهُ مِنْهُ كَالْقُرْآنِ وَبِالْإِنْزَالِ مِنْ السَّمَاءِ وَيُرَادُ بِهِ الْعُلُوُّ كَالْمَطَرِ و " مُطْلَقًا " فَلَا يَخْتَصُّ بِنَوْعِ (*) ؛ بَلْ يَتَنَاوَلُ إنْزَالَ الْحَدِيدِ مِنْ الْجِبَالِ وَالْإِنْزَالَ مِنْ ظُهُورِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ : { نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } بَيَانٌ لِنُزُولِ جِبْرِيلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ كَقَوْلِهِ : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } أَيْ أَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ؛ فَإِنَّ الْخَائِنَ قَدْ يُغَيِّرُ الرِّسَالَةَ . وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أُمُورٍ . مِنْهَا : بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ خَلْقَهُ فِي جِسْمٍ كالْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ يُسَمُّونَ مَنْ قَالَ بِخَلْقِهِ وَنَفَى الصِّفَاتِ وَالرُّؤْيَةَ جهميا ؛ فَإِنَّ جَهْمًا أَوَّلُ مَنْ ظَهَرَتْ عَنْهُ بِدْعَةُ نَفْيِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ فَلَهُ مَزِيَّةُ الْمُبَالَغَةِ وَالِابْتِدَاءِ بِكَثْرَةِ إظْهَارِهِ وَإِنْ كَانَ جَعْدٌ سَبَقَهُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَإِنْ وَافَقُوهُ فِي الْبَعْضِ فَهُمْ يُخَالِفُونَهُ فِي مِثْلِ مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْقَدَرِ وَبَعْضِ الصِّفَاتِ وَجَهْمٌ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَا

يَتَكَلَّمُ أَوْ يَتَكَلَّمُ مَجَازًا وَهُمْ يَقُولُونَ يَتَكَلَّمُ حَقِيقَةً وَلَكِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ وَهُوَ يَنْفِي الْأَسْمَاءَ كَالْبَاطِنِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ . وَمِنْهَا : بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فَاضَ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ أَوْ غَيْرِهِ وَهَذَا أَعْظَمُ كُفْرًا وَضَلَالًا مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ . وَمِنْهَا إبْطَالُ قَوْلِ الْأَشْعَرِيَّةِ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنَى وَهَذَا الْعَرَبِيُّ خُلِقَ لِيَدُلَّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قَالُوا : خُلِقَ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ أَوْ أَلْهَمَهُ جِبْرِيلَ أَوْ أَخَذَهُ مِنْ اللَّوْحِ فَإِنَّ هَذَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَوَّلًا وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ ؛ لَكِنْ يُفَارِقُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ الْمَخْلُوقُ كَلَامُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّهُ كَلَامٌ مَجَازًا وَهَذَا أَشَرُّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ ؛ بَلْ هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ ؛ لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يُوَافِقُونَهُمْ فِي الْمَعْنَى . الثَّانِي : أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلَّهِ كَلَامٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَالْخِلْقِيَّةُ يَقُولُونَ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ ؛ فَإِنَّ الْكُلَّابِيَة خَيْرٌ مِنْهُمْ فِي الظَّاهِرِ ؛ لَكِنْ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُثْبِتُوا كَلَامًا لَهُ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْآيَةَ تُبْطِلُ هَذَا و " الْقُرْآنُ " اسْمٌ لِلْعَرَبِيِّ لِقَوْلِهِ : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { نَزَّلَهُ } عَائِدٌ إلَى قَوْلِهِ : { وَاللَّهُ

أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } فَاَلَّذِي نَزَّلَهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ وَأَيْضًا قَالَ : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ } الْآيَةُ وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّمَا يُعَلِّمُ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ بَشَرٌ لِقَوْلِهِ : { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ } - إلَخْ فَعُلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُؤَلِّفْ نَظْمًا بَلْ سَمِعَهُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ وَرُوحُ الْقُدُسِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ لَمْ يُؤَلِّفْهُ هُوَ . وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ : { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا } و " الْكِتَابُ " اسْمٌ لِلْقُرْآنِ بِالضَّرُورَةِ وَالِاتِّفَاقِ ؛ فَإِنَّهُمْ أَوْ بَعْضَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ كِتَابِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ وَلَفْظُ " الْكِتَابِ " يُرَادُ بِهِ الْمَكْتُوبُ فِيهِ فَيَكُونُ هُوَ الْكَلَامُ وَيُرَادُ بِهِ مَا يُكْتَبُ فِيهِ كَقَوْلِهِ : { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } وَقَوْلِهِ : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } وَقَوْلُهُ : { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } إخْبَارٌ مُسْتَشْهَدٌ بِهِمْ فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ مِنَّا فَهُمْ خَيْرٌ مِنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَا يُنَافِي أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ قَبْلَ نُزُولِهِ سَوَاءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَ بِهِ جِبْرِيلَ أَوْ بَعْدَهُ . فَإِذَا أُنْزِلَ جُمْلَةً إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فَقَدْ كَتَبَهُ كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَهُ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ وَهُوَ قَدْ كَتَبَ الْمَقَادِيرَ وَأَعْمَالَ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا ثُمَّ يَأْمُرُ بِكِتَابَتِهَا بَعْدَ أَنْ يَعْمَلُوهَا فَيُقَابِلُ بَيْنَ

الْكِتَابَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْمُتَأَخِّرَةِ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ . فَإِذَا كَانَ مَا يَخْلُقُهُ بَائِنًا عَنْهُ قَدْ كَتَبَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ فَكَيْفَ لَا يَكْتُبُ كَلَامَهُ الَّذِي يُرْسِلُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهُمْ ؟ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ جبرائيل أَخَذَهُ عَنْ الْكِتَابِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ . مِنْهَا : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَتَبَ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى بِيَدِهِ ؛ فَبَنُو إسْرَائِيلَ أَخَذُوا كَلَامَهُ مِنْ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ وَمُحَمَّدٌ عَنْ جِبْرِيلَ عَنْ الْكِتَابِ فَهُمْ أَعْلَى بِدَرَجَةِ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ أَلْقَى إلَى جِبْرِيلَ مَعَانِيَ وَعَبَّرَ بِالْعَرَبِيِّ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَلْهَمَهُ إلْهَامًا وَهَذَا يَكُونُ لِآحَادِ الْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } { وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى } فَيَكُونُ هَذَا أَعْلَى مِنْ أَخْذِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ : عَلَى أَنَّهُ يُكَلِّمُ الْعَبْدَ تَكْلِيمًا زَائِدًا عَلَى الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ التَّكْلِيمِ الْخَاصِّ . فَإِنَّ لَفْظَ التَّكْلِيمِ وَالْوَحْيِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَنْقَسِمُ إلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ فَالتَّكْلِيمُ

الْعَامُّ هُوَ الْمَقْسُومُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } الْآيَةُ . فَالتَّكْلِيمُ الْمُطْلَقُ قَسِيمُ الْوَحْيِ الْخَاصِّ لَا قِسْمًا مِنْهُ وَكَذَلِكَ الْوَحْيُ يَكُونُ عَامًّا فَيَدْخُلُ فِيهِ التَّكْلِيمُ الْخَاصُّ كَقَوْلِهِ : { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } . وَيَكُونُ قَسِيمًا لَهُ كَمَا فِي الشُّورَى وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَامِّ وَمَا لِمُوسَى . وَفَرَّقَ سُبْحَانَهُ فِي " الشُّورَى " بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَبَيْنَ إرْسَالِ رَسُولٍ فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ .

سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالى { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ } الْآيَتَيْنِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مِنْ السَّلَفِ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ الْإِنْسِ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ الْجِنِّ . لَفْظُ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ جِنْسَ الْمُرَادِ مِنْ الْآيَةِ عَلَى التَّمْثِيلِ كَمَا يَقُولُ التُّرْجُمَانُ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ الْخُبْزِ فَيُرِيهِ رَغِيفًا وَالْآيَةُ هُنَا قُصِدَ بِهَا التَّعْمِيمُ لِكُلِّ مَا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ دَعَا مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الِاسْتِغَاثَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَقَدْ تَنَاوَلَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ كَمَا تَتَنَاوَلُ مَنْ دَعَا الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَكُونُونَ وَسَائِطَ فِيمَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ بِأَفْعَالِهِمْ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ نَهَى عَنْ دُعَائِهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْ الدَّاعِينَ وَلَا تَحْوِيلَهُ لَا يَرْفَعُونَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يُحَوِّلُونَهُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ أَوْ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ كَتَغْيِيرِ صِفَتِهِ أَوْ قَدْرِهِ وَلِهَذَا قَالَ : { وَلَا تَحْوِيلًا } فَذَكَرَ نَكِرَةً تَعُمُّ أَنْوَاعَ التَّحْوِيلِ .

وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } كَانَ أَحَدُهُمْ إذَا نَزَلَ بِوَادٍ يَقُولُ : أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَائِهِ فَقَالَتْ الْجِنُّ : الْإِنْسُ تَسْتَعِيذُ بِنَا فَزَادُوهُمْ رَهَقًا وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الِاسْتِعَاذَةُ بِمَخْلُوقِ وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَأَمَرَ بِذَلِكَ فَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتَ خَيْرُ مُسْتَعَاذٍ يُسْتَعَاذُ بِهِ أَوْلَى . فَالِاسْتِعَاذَةُ وَالِاسْتِجَارَةُ ؛ وَالِاسْتِغَاثَةُ : كُلُّهَا مِنْ نَوْعِ الدُّعَاءِ أَوْ الطَّلَبِ وَهِيَ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ . وَلَمَّا كَانَتْ الْكَعْبَةُ بَيْتَ اللَّهِ الَّذِي يُدْعَى وَيُذْكَرُ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُسْتَجَارُ بِهِ هُنَاكَ وَقَدْ يُسْتَمْسَكُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ كَمَا يَتَعَلَّقُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَذْيَالِ مَنْ يَسْتَجِيرُ بِهِ كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ : إنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمِ وَلَا فَارًّا بِخَرِبَةِ . وَفِي الصَّحِيحِ : { يَعُوذُ عَائِذٌ بِهَذَا الْبَيْتِ } . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الضَّالِّينَ يَسْتَغِيثُونَ بِمَنْ يُحْسِنُونَ بِهِ الظَّنَّ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقْضِيَ لَهُمْ أَكْثَرَ مَطَالِبِهِمْ كَمَا أَنَّ مَا تُخْبِرُ بِهِ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ يَكْذِبُونَ فِي أَكْثَرِهِ ؛ بَلْ يَصْدُقُونَ فِي وَاحِدَةٍ وَيَكْذِبُونَ فِي أَضْعَافِهَا وَيَقْضُونَ لَهُمْ حَاجَةً وَاحِدَةً وَيَمْنَعُونَهُمْ أَضْعَافَهَا

يَكْذِبُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَأَعَانُوا عَلَيْهِ لِإِفْسَادِ حَالِ الرِّجَالِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَيَكُونُ فِيهِ شُبْهَةً لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا يُخْبِرُ الْكَاهِنُ وَنَحْوُهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الرَّسُولَ مُبَلِّغًا لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الرُّسُلَ وَالْمَشَايِخَ يُدَبِّرُونَ الْعَالَمَ بِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَكَشْفِ الْكُرُبَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ النَّصَارَى تَقُولُ هَذَا فِي الْمَسِيحِ وَحْدَهُ بِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقُولُوهُ فِي إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْآيَاتِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا مُوسَى أَعْظَمُ وَلَوْ كَانَ هَذَا مُمْكِنًا لَمْ يَكُنْ لِلْمَسِيحِ خَاصِّيَّةٌ بِهِ : بَلْ مُوسَى أَحَقُّ . وَلِهَذَا كُنْت أَتَنَزَّلُ مَعَ عُلَمَاءِ النَّصَارَى إلَى أَنْ أُطَالِبَهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَا يَجِدُونَ فَرْقًا بَلْ أُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنْ الْآيَاتِ أَعْظَمُ فَإِنْ كَانَ حُجَّةً فِي دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ فَمُوسَى أَحَقُّ وَأَمَّا وِلَادَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَب فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ ؛ لَا عَلَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ .

سُورَةُ الْكَهْفِ
فَصْلٌ :
{ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَمَّا طَرَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَاطِمَةُ وَهُمَا نَائِمَانِ فَقَالَ : أَلَا تُصَلِّيَانِ ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ إنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَهَا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُرْسِلَهَا . فَوَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى فَخْذِهِ وَيُعِيدُ الْقَوْلَ وَيَقُولُ : { وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا } } . هَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي ذَمِّ مَنْ عَارَضَ الْأَمْرَ بِالْقَدَرِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : " إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ " إلَى آخِرِهِ . اسْتِنَادٌ إلَى الْقَدَرِ فِي تَرْكِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَهِيَ فِي نَفْسِهَا كَلِمَةُ حَقٍّ ؛ لَكِنْ لَا تَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ الْأَمْرِ بَلْ مُعَارَضَةُ الْأَمْرِ بِهَا مِنْ بَابِ الْجَدَلِ الْمَذْمُومِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا } وَهَؤُلَاءِ أَحَدُ أَقْسَامِ الْقَدَرِيَّةِ وَقَدْ [ صَنَّفْتهمْ ] فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَالْمُجَادَلَةُ الْبَاطِلَةُ . . . (1) .

سُورَةُ مَرْيَمَ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
" سُورَةُ مَرْيَمَ " مَضْمُونُهَا : تَحْقِيقُ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَأَنَّ خَوَاصَّ الْخَلْقِ هُمْ عِبَادُهُ فَكُلُّ كَرَامَةٍ وَدَرَجَةٍ رَفِيعَةٍ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ وَتَضَمَّنَتْ الرَّدَّ عَلَى الْغَالِينَ الَّذِينَ زَادُوا فِي النِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ حَتَّى نَسَبُوا إلَيْهِ عِيسَى بِطَرِيقِ الْوِلَادَةِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُفْرِطِينَ فِي تَحْقِيقِ الْعِبَادَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْكَرَامَةِ وَجَحَدُوا نِعَمَ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ الْمُصْطَفِينَ . افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } وَنِدَائِهِ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا وَمَوْهِبَتِهِ لَهُ يَحْيَى ثُمَّ قِصَّةِ مَرْيَمَ وَابْنِهَا وَقَوْلِهِ : { إنِّي عَبْدُ اللَّهِ } . . إلَخْ بَيَّنَ فِيهَا الرَّدَّ عَلَى الْغُلَاةِ فِي الْمَسِيحِ وَعَلَى الْجُفَاةِ النَّافِينَ عَنْهُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ ؛ ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِذِكْرِ إبْرَاهِيمَ وَمَا دَعَا إلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَنَهْيِهِ إيَّاهُ عَنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ وَمَوْهِبَتِهِ

لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا وَهُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَأَخْبَرَ عَنْ يَحْيَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ مَعَ التَّوْحِيدِ وَذَكَرَ مُوسَى وَمَوْهِبَتَهُ لَهُ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا كَمَا وَهَبَ يَحْيَى لِزَكَرِيَّا وَعِيسَى لِمَرْيَمَ وَإِسْحَاقَ لِإِبْرَاهِيمَ . فَهَذِهِ السُّورَةُ " سُورَةُ الْمَوَاهِبِ " وَهِيَ مَا وَهَبَهُ اللَّهُ لِأَنْبِيَائِهِ مِنْ الذُّرِّيَّةِ الطَّيِّبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ ثُمَّ ذَكَرَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ لِأَجْلِ إدْرِيسَ { وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } وَهُوَ إبْرَاهِيمُ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ . ثُمَّ قَالَ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } الْآيَةُ . فَهَذِهِ حَالُ الْمُفَرِّطِينَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ وَبَيَّنَ أَنَّ الْجَنَّةَ لِمَنْ تَابَ وَأَنَّ جَنَّاتِ عَدْنٍ وَعَدَهَا الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ وَهُمْ أَهْلُ تَحْقِيقِ الْعِبَادَةِ ثُمَّ قَالَ : { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا } ثُمَّ قَالَ : { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } . ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ مُنْكِرِي الْمَعَادِ وَحَالَ مَنْ جَعَلَ لَهُ الْأَوْلَادَ وَقَرَنَ بَيْنَهُمَا فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : { كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ } الْحَدِيثُ . { وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا } ثُمَّ ذَكَرَ إقْسَامَهُ عَلَى

حَشْدِهِمْ وَالشَّيَاطِينِ وَإِحْضَارِهِمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ خَبَرٍ يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقَيْنِ : إمَّا اطِّلَاعُهُ عَلَى الْغَيْبِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَا سَيَكُونُ ؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا وَاَللَّهُ مُوفٍ بِعَهْدِهِ فَالْأَوَّلُ عِلْمٌ بِالْخَبَرِ وَالثَّانِي عِلْمٌ بِالْأَمْرِ . الْأَوَّلُ عِلْمٌ بِالْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَالثَّانِي عِلْمٌ بِالْكَلِمَاتِ الدِّينِيَّةِ وَهَذَا الَّذِي أَقْسَمَ أَنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْمَعَادِ مَا ذَكَرَ كَاذِبٌ فِي قَسَمِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى الْغَيْبِ وَلَا اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا . وَهَذَا كَمَا قِيلَ فِي إجَابَةِ الدُّعَاءِ : أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ لِصِحَّةِ الِاعْتِقَادِ وَهُوَ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ وَتَارَةً لِكَمَالِ الطَّاعَةِ وَهُوَ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ : { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي } . فَذَكَرَ حَالَ مَنْ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ بِلَا عِلْمٍ بِالْوَاقِعِ وَلَا اتِّخَاذِ عَهْدٍ بِالْمَشْرُوعِ . ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا فَنَفَى الْوِلَادَةَ عَنْ نَفْسِهِ وَرَدَّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَهَا وَأَثْبَتَ الْمَوَدَّةَ رَدًّا عَلَى مَنْ أَنْكَرَهَا فَقَالَ : { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } أَيْ يُحِبُّهُمْ ؛ وَيُحَبِّبُهُمْ إلَى عِبَادِهِ وَقَدْ وَافَقَ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ : { إذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبَّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ : إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ }

وَقَالَ فِي الْبُغْضِ عَكْسَ ذَلِكَ . وَفِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ : { إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } وَقَوْلِهِ فِي مُوسَى : { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } وَمَا ذَكَرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمَوَدَّةِ : إثْبَاتٌ لِمَا يُنْكِرُهُ الْجَاحِدُونَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَتَكْلِيمِهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ نَفْيٌ لِمَا يُثْبِتُهُ الْمُفْتَرُونَ مِنْ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ .

سُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } هَلْ ذَلِكَ فِيمَنْ أَضَاعَ وَقْتَهَا فَصَلَّاهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا أَمْ فِيمَنْ أَضَاعَهَا فَلَمْ يُصَلِّهَا وقَوْله تَعَالَى { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } هَلْ هُوَ عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ أَوْ السَّهْوِ فِيهَا كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ مِنْ صَلَاةِ الغفلة الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ مِنْ صَلَاتِهِمْ شَيْئًا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، بَلْ الْمُرَادُ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْ أَضَاعَ الْوَاجِبَ فِي الصَّلَاةِ لَا مُجَرَّدَ تَرْكِهَا هَكَذَا فَسَّرَهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ قَالَ : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } فَأَثْبَتَ لَهُمْ صَلَاةً وَجَعَلَهُمْ سَاهِينَ عَنْهَا فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَ السَّهْوِ عَنْهَا وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : بَلْ هُوَ السَّهْوُ عَمَّا يَجِبُ فِيهَا مِثْلَ تَرْكِ الطُّمَأْنِينَةِ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَقٌّ وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ ،

تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } . فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ صَلَاةَ الْمُنَافِقِ تَشْتَمِلُ عَلَى التَّأْخِيرِ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي يُؤْمَرُ بِفِعْلِهَا فِيهِ وَعَلَى النَّقْرِ الَّذِي لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ إلَّا قَلِيلًا وَهَكَذَا فَسَّرُوا قَوْلَهُ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } بِأَنَّ إضَاعَتَهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا وَإِضَاعَةُ حُقُوقِهَا وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { إنَّ الْعَبْدَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ بِطُهُورِهَا وَقِرَاءَتِهَا وَسُجُودِهَا - أَوْ كَمَا قَالَ - صَعِدَتْ وَلَهَا بُرْهَانٌ كَبُرْهَانِ الشَّمْسِ تَقُولُ لَهُ : حَفِظَك اللَّهُ كَمَا حَفِظْتَنِي وَإِذَا لَمْ يُتِمَّ طُهُورَهَا وَقِرَاءَتَهَا وَسُجُودَهَا - أَوْ كَمَا قَالَ - فَإِنَّهَا تَلُفُّ كَمَا يَلُفُّ الثَّوْبُ وَتَقُولُ لَهُ : ضَيَّعَك اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتنِي } قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ : الصَّلَاةُ مِكْيَالٌ مَنْ وَفَّى وُفِّيَ لَهُ وَمَنْ طَفَّفَ فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا قَالَ فِي الْمُطَفِّفِينَ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَمَّارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ إلَّا نِصْفُهَا إلَّا ثُلُثُهَا إلَّا رُبُعُهَا إلَّا خُمُسُهَا إلَّا سُدُسُهَا إلَّا سُبُعُهَا إلَّا ثُمُنُهَا إلَّا تُسْعُهَا إلَّا عُشْرُهَا } . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوِسْوَاسُ فِي صِلَاتِهِ هَلْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ . لَكِنَّ الْأَئِمَّةَ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي

الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قَضَى التَّأْذِينَ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ فَإِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ فَيَقُولَ : اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يُضِلَّ الرَّجُلَ لَنْ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ } . فَقَدْ عَمَّ بِهَذَا الْكَلَامِ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالْإِعَادَةِ . و " الثَّانِي " عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ : مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَغَيْرِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا عُشْرُهَا . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ إلَّا بِقَدْرِ الْحُضُورِ ؛ لَكِنْ ارْتَفَعَتْ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا تَارِكُ الصَّلَاةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ : تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِهَا أَيْ : لَا يُعَاقَبُ عَلَى التَّرْكِ لَكِنَّ الثَّوَابَ عَلَى قَدْرِ الْحُضُورِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا فَلِهَذَا شُرِعَتْ السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ جَبْرًا لِمَا يَحْصُلُ مِنْ النَّقْصِ فِي الْفَرَائِضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ طَه
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
" سُورَةُ طَه " مَضْمُونُهَا تَخْفِيفُ أَمْرِ الْقُرْآنِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كُتُبِهِ فَهِيَ " سُورَةُ كُتُبِهِ " - كَمَا أَنَّ مَرْيَمَ " سُورَةُ عِبَادِهِ وَرُسُلِهِ " - افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ : { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } . . إلَى قَوْلِهِ : { تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا } . ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ مُوسَى وَنِدَاءَ اللَّهِ لَهُ وَمُنَاجَاتَهُ إيَّاهُ وَتَكْلِيمَهُ لَهُ وَقِصَّتُهُ مِنْ أَبْلَغِ أَمْرِ الرُّسُلِ فَلِهَذَا ثُنِّيَتْ فِي الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ الْخِطَابُ وَالْكِتَابُ وَأَرْسَلَ إلَى فِرْعَوْنَ الْجَاحِدِ الْمُرْتَابِ الْمُكَذِّبِ لِلرُّبُوبِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَهَذَا أَعْظَمُ الْكَافِرِينَ عِنَادًا وَاسْتَوْفَى الْقِصَّةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إلَى قَوْلِهِ : { رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ آدَمَ ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ النُّبُوَّاتِ . وَتَضَمَّنَتْ السُّورَةُ ذِكْرَ مُوسَى وَآدَمَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مِمَّا يَقْتَضِي

ذِكْرَهُمَا وَلِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاظَرَةِ فَإِنَّ مُوسَى نَظِيرَ آدَمَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي صَارَ لِكُلِّ مِنْهُمَا كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ نَظِيرُ آدَمَ فِي الْخَلْقِ وَقَوْلُهُ : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى } الْآيَاتُ وَهَذَا يُشَابِهُ مَا فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ ذِكْرِ نُبُوَّةِ آدَمَ ثُمَّ نُبُوَّةُ مُوسَى بَعْدَهُ وَأَمَرَ بَنِي إسْرَائِيلَ ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالصَّلَاةِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِالْقِرَاءَةِ وَالسُّجُودِ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ وَخَتَمَهَا بِالرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لِكُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ كَمَا افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ التَّنْزِيلِ عَلَيْهِ.

وَقَالَ :
فَصْلٌ :
" فِي طَرِيقَتَيْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ "
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ : { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } وَقَالَ فِي السُّورَةِ بِعَيْنِهَا { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا } . فَذَكَرَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الرِّسَالَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ - رِسَالَةِ مُوسَى وَرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّذَكُّرِ أَوْ الْخَشْيَةِ وَلَمْ يَقُلْ : لِيَتَذَكَّرَ وَيَخْشَى وَلَا قَالَ : لِيَتَّقُونِ وَيُحْدِثَ لَهُمْ ذِكْرًا ؛ بَلْ جَعَلَ الْمَطْلُوبَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ : { ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } وَنَحْوُ ذَلِكَ .

وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نِعْمَ الْعَبْدُ صهيب لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى تَحْقِيقِ قَوْلِهِ : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَقَوْلِهِ : { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } وَقَوْلِهِ : { أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } وَقَوْلِهِ : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ } وَقَوْلِهِ : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } الْآيَةُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَيْرَ إمَّا بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا صَلَاحُ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ : الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ . وَالْعِلْمُ أَصْلُ الْعَمَلِ وَأَصْلُ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ مَا لَمْ يَحْصُلْ مُعَارِضٌ مَانِعٌ . فَالْعِلْمُ بِالْحَقِّ يُوجِبُ اتِّبَاعَهُ إلَّا لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ : مِثْلَ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِالِاسْتِكْبَارِ وَنَحْوَهُ كَحَالِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } وَقَالَ : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } وَقَالَ : { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } وَلِهَذَا قَالَ : { يَا دَاوُدُ

إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَإِنَّ أَصْلَ الْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا إذَا سَلِمَتْ مِنْ الْفَسَادِ إذَا رَأَتْ الْحَقَّ اتَّبَعَتْهُ وَأَحَبَّتْهُ . إذْ الْحَقُّ نَوْعَانِ : حَقٌّ مَوْجُودٌ فَالْوَاجِبُ مَعْرِفَتُهُ وَالصِّدْقُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ وَضِدُّ ذَلِكَ الْجَهْلُ وَالْكَذِبُ . وَحَقٌّ مَقْصُودٌ وَهُوَ النَّافِعُ لِلْإِنْسَانِ فَالْوَاجِبُ إرَادَتُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَضِدُّ ذَلِكَ إرَادَةُ الْبَاطِلِ وَاتِّبَاعُهُ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي النُّفُوسِ مَحَبَّةَ الْعِلْمِ دُونَ الْجَهْلِ وَمَحَبَّةَ الصِّدْقِ دُونَ الْكَذِبِ وَمَحَبَّةَ النَّافِعِ دُونَ الضَّارِّ وَحَيْثُ دَخَلَ ضِدُّ ذَلِكَ فَلِمُعَارِضِ مِنْ هَوًى وَكِبْرٍ وَحَسَدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ كَمَا أَنَّهُ فِي صَالِحِ الْجَسَدِ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ مَحَبَّةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْمُلَائِمِ لَهُ دُونَ الضَّارِّ فَإِذَا اشْتَهَى مَا يَضُرُّهُ أَوْ كَرِهَ مَا يَنْفَعُهُ فَلِمَرَضِ فِي الْجَسَدِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا إذَا انْدَفَعَ عَنْ النَّفْسِ الْمُعَارِضُ مِنْ الْهَوَى وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : أَحَبَّ الْقَلْبُ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا أَنَّ

الْجَسَدَ إذَا انْدَفَعَ عَنْهُ الْمَرَضُ أَحَبَّ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ وُجُودِ الْمُقْتَضِي وَعَدَمِ الدَّافِعِ : سَبَبٌ لِلْآخَرِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِصَلَاحِ حَالِ الْإِنْسَانِ وَضِدُّهُمَا سَبَبٌ لِضِدِّ ذَلِكَ فَإِذَا ضَعُفَ الْعِلْمُ غَلَبَ (1) الْهَوَى الْإِنْسَانَ ، وَإِنْ وُجِدَ الْعِلْمُ وَالْهَوَى وَهُمَا الْمُقْتَضِي وَالدَّافِعُ فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصَلَاحُ بَنِي آدَمَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَلَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ ذَلِكَ إلَّا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : الْجَهْلُ الْمُضَادُّ لِلْعِلْمِ فَيَكُونُونَ ضُلَّالًا وَالثَّانِي اتِّبَاعُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ اللَّذَيْنِ فِي النَّفْسِ فَيَكُونُونَ غُوَاةً مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } وَقَالَ : { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ } فَوَصَفَهُمْ بِالرُّشْدِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْغَيِّ وَبِالْهُدَى الَّذِي هُوَ خِلَافُ الضَّلَالِ وَبِهِمَا يَصْلُحُ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ جَمِيعًا وَيَصِيرُ الْإِنْسَانُ عَالِمًا عَادِلًا لَا جَاهِلًا وَلَا ظَالِمًا .

وَهُمْ فِي الصَّلَاحِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : تَارَةً يَكُونُ الْعَبْدُ إذَا عَرَفَ الْحَقَّ وَتَبَيَّنَ لَهُ اتَّبَعَهُ وَعَمِلَ بِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُدْعَى بِالْحِكْمَةِ وَهُوَ الَّذِي يَتَذَكَّرُ وَهُوَ الَّذِي يُحْدِثُ لَهُ الْقُرْآنُ ذِكْرًا . وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ الْهَوَى وَالْمُعَارِضِ مَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى الْخَوْفِ الَّذِي يَنْهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى ؛ فَهَذَا يُدْعَى بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { أَوْ يَخْشَى } وَفِي قَوْلِهِ { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } وَقَدْ قَالَ فِي السُّورَةِ فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ : { اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى } { فَقُلْ هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى } { وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } فَجَمَعَ بَيْنَ التَّزَكِّي وَالْهُدَى وَالْخَشْيَةِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْخَشْيَةِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا . } وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ التَّذَكُّرُ وَالذِّكْرُ الَّذِي يُحْدِثُهُ الْقُرْآنُ وَمِنْ الْخَشْيَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى سَبَبٌ لِصَلَاحِ حَالِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ إذَا قَوِيَ عَلَى

ضِدِّهِ فَإِذَا قَوِيَ الْعِلْمُ وَالتَّذَكُّرُ دُفِعَ الْهَوَى ؛ وَإِذَا انْدَفَعَ الْهَوَى بِالْخَشْيَةِ أَبْصَرَ الْقَلْبُ وَعَلِمَ . وَهَاتَانِ هُمَا الطَّرِيقَةُ الْعِلْمِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ كُلٌّ مِنْهُمَا إذَا صَحَّتْ تَسْتَلْزِمُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأُخْرَى وَصَلَاحُ الْعَبْدِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا جَمِيعًا ؛ وَلِهَذَا كَانَ فَسَادُهُ بِانْتِفَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا . فَإِذَا انْتَفَى الْعِلْمُ الْحَقُّ كَانَ ضَالًّا غَيْرَ مُهْتَدٍ وَإِذَا انْتَفَى اتِّبَاعُهُ كَانَ غَاوِيًا مَغْضُوبًا عَلَيْهِ . وَلِهَذَا قَالَ : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَقَالَ : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } { إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وَقَالَ فِي ضِدِّ ذَلِكَ : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ } وَقَالَ : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَقَالَ : { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } وَقَالَ : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } وَقَالَ فِي ضِدِّهِ : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } وَقَالَ : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وَقَالَ فِي ضِدِّهِ : { إنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ " . فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْهُدَى وَالسَّعَادَةِ وَبَيْنَ الضَّلَالِ وَالشَّقَاوَةِ

بَيْنَ حَسَنَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَسَيِّئَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَقْرِنُ بَيْنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بَيْنَ الْعَلَمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا يَقْرِنُ بَيْنَ ضِدَّيْهِمَا وَهُوَ " الضَّلَالُ " و " الْغَيُّ " : اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ . وَالْقَرِينَانِ مُتَلَازِمَانِ عِنْدَ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ الْمُعَارِضِ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ عِنْدَ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ . فَلِهَذَا إذَا كَانَ فِي مَقَامِ الذَّمِّ وَالنَّهْيِ وَالِاسْتِعَاذَةِ كَانَ الذَّمُّ وَالنَّهْيُ لِكُلِّ مِنْهُمَا : مِنْ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ : مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ : مِنْ الضَّلَالِ وَالْغَضَبِ وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَارَ مَكْرُوهًا مَطْلُوبَ الْعَدَمِ لَا سِيَّمَا وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ وَأَمَّا فِي مَقَامِ الْحَمْدِ وَالطَّلَبِ وَمِنَّةِ اللَّهِ فَقَدْ يُطْلَبُ أَحَدُهُمَا وَقَدْ يُطْلَبُ كُلٌّ مِنْهُمَا وَقَدْ يُحْمَدُ أَحَدُهُمَا وَقَدْ يُحْمَدُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خَيْرٌ مَطْلُوبٌ مَحْمُودٌ وَهُوَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْآخَرِ ؛ لَكِنَّ كَمَالَ الصَّلَاحِ يَكُونُ بِوُجُودِهِمَا جَمِيعًا وَهَذَا قَدْ يَحْصُلُ لَهُ إذَا حَصَلَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ وَالدَّاعِي لِلْخَلْقِ الْآمِرُ لَهُمْ يسلك بِذَلِكَ طَرِيقَ الرِّفْقِ وَاللِّينِ فَيَطْلُبُ أَحَدَهُمَا لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ سَبَبٌ لِلْآخَرِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَرْفَقُ مِنْ أَنْ يَأْمُرَ الْعَبْدَ بِهِمَا جَمِيعًا فَقَدْ يَثْقُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَالْأَمْرُ بِنَاءٌ وَالنَّهْيُ هَدْمٌ وَالْأَمْرُ هُوَ يُحَصِّلُ الْعَافِيَةَ بِتَنَاوُلِ الْأَدْوِيَةِ وَالنَّهْيُ مِنْ بَابِ الْحَمِيَّةِ وَالْبِنَاءُ وَالْعَافِيَةُ تَأْتِي شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَأَمَّا الْهَدْمُ فَهُوَ أَعْجَلُ وَالْحَمِيَّةُ أَعَمُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْصُلُ فِيهِمَا

تَرْتِيبٌ أَيْضًا فَكَيْفَ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ سَبَبًا وَطَرِيقًا إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ مَعَ حُصُولِ الْآخَرِ . فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } وَقَوْلُهُ : { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا } طَلَبَ وُجُودَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَجَاءَ بِصِيغَةِ : ( لَعَلَّ تَسْهِيلًا لِلْأَمْرِ وَرِفْقًا وَبَيَانًا لِأَنَّ حُصُولَ أَحَدِهِمَا طَرِيقٌ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ فَلَا يُطْلَبَانِ جَمِيعًا فِي الِابْتِدَاءِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : { إنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا وَإِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا } لَا سِيَّمَا أُصُولُ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ سَائِرَهَا مِثْلَ الصِّدْقِ فَإِنَّهُ أَصْلُ الْخَيْرِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا . } وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } وَقَالَ : { وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } { يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا } وَلِهَذَا يُذْكَرُ أَنَّ

بَعْضَ الْمَشَايِخِ أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّبَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَهُمْ ذُنُوبٌ كَثِيرَةٌ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ : أَنَا آمُرُك بِخَصْلَةِ وَاحِدَةٍ فَاحْفَظْهَا لِي ؛ وَلَا آمُرُك السَّاعَةَ بِغَيْرِهَا الْتَزِمْ الصِّدْقَ وَإِيَّاكَ وَالْكَذِبَ وَتَوَعَّدَهُ عَلَى الْكَذِبِ بِوَعِيدِ شَدِيدٍ فَلَمَّا الْتَزَمَ ذَلِكَ الصِّدْقَ دَعَاهُ إلَى بَقِيَّةِ الْخَيْرِ وَنَهَاهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْفَاجِرَ لَا حَدَّ لَهُ فِي الْكَذِبِ .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
فِي قَوْله تَعَالَى { إنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } . فَإِنَّ هَذَا مِمَّا أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّ الَّذِي فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ { إنْ هَذَانِ } بِالْأَلْفِ وَبِهَذَا قَرَأَ جَمَاهِيرُ الْقُرَّاءِ وَأَكْثَرُهُمْ يَقْرَأُ ( إنْ ) مُشَدَّدَةً وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ ( إنْ ) مُخَفَّفَةً لَكِنْ ابْنُ كَثِيرٍ يُشَدِّدُ نُونَ ( هَذَانِ ) دُونَ حَفْصٍ وَالْإِشْكَالُ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا وَهِيَ أَصَحُّ الْقِرَاءَاتِ لَفْظًا وَمَعْنَى . وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْكَلَامِ عَلَى مَا قِيلَ فِيهَا . فَإِنَّ مَنْشَأَ الْإِشْكَالِ : أَنَّ الِاسْمَ الْمُثَنَّى يُعْرَبُ فِي حَالِ النَّصْبِ وَالْخَفْضِ بِالْيَاءِ وَفِي حَالِ الرَّفْعِ بِالْأَلْفِ وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ :

لُغَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا فِي الْأَسْمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ كَقَوْلِهِ : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ } ثُمَّ قَالَ { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } وَقَالَ : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } وَقَالَ : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } وَلَمْ يَقُلْ : الْكَعْبَانِ وَقَالَ : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ } { إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } وَلَمْ يَقُلْ : اثْنَانِ وَقَالَ : { قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } . وَقَالَ : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ } وَلَمْ يَقُلْ : اثْنَانِ وَلَا الذَّكَرَانِ وَالْأُنْثَيَانِ وَقَالَ : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } وَلَمْ يَقُلْ : زَوْجَانِ وَقَالَ : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } وَلَمْ يَقُلْ : اثْنَتَانِ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ مَشْهُورٌ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ . فَظَنَّ النُّحَاةُ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُبْهَمَةَ الْمَبْنِيَّةَ مِثْلَ هَذَيْنِ وَاَللَّذَيْنِ تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى وَأَنَّ الْمَبْنِيَّ فِي حَالِ الرَّفْعِ يَكُونُ بِالْأَلِفِ وَمِنْ هُنَا نَشَأَ الْإِشْكَالُ . وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو إمَامًا فِي الْعَرَبِيَّةِ فَقَرَأَ بِمَا يَعْرِفُ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ : إنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ سَلَفًا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ الظَّنُّ

بِهِ : أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ إلَّا بِمَا يَرْوِيهِ لَا بِمُجَرَّدِ مَا يَرَاهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ أَنْ أَقْرَأَ : { إنْ هَذَانِ } وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ لَهَا وَجْهًا مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ خَطَّأَ أَبَا عَمْرٍو فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَمِنْهُمْ الزَّجَّاجُ قَالَ : لَا أُجِيزُ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو خِلَافَ الْمُصْحَفِ . وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمُوَافِقَةُ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ فَاحْتَجَّ لَهَا كَثِيرٌ مِنْ النُّحَاةِ بِأَنَّ هَذِهِ لُغَةَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ . قَالَ المهدوي : بَنُو الْحَارِثِ بْنُ كَعْبٍ يَقُولُونَ : ضَرَبْت الزَّيْدَانِ وَمَرَرْت بِالزَّيْدَانِ كَمَا تَقُولُ : جَاءَنِي الزَّيْدَان : قَالَ المهدوي : حَكَى ذَلِكَ أَبُو زَيْدٍ وَالْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهَا لُغَةُ بَنِي كِنَانَةَ وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّهَا لُغَةٌ لخثعم وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
تَزَوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أُذُنَاهُ ضَرْبَةً * * * دَعَتْهُ إلَى هَاوِي التُّرَابِ عَقِيمٌ
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : هِيَ لُغَةٌ لِبَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَقُرَيْشٍ قَالَ الزَّجَّاجُ : وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ - وَهُوَ رَأْسٌ مِنْ رُءُوسِ الرُّوَاةِ - أَنَّهَا لُغَةٌ لكنانة يَجْعَلُونَ أَلِفَ الِاثْنَيْنِ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ وَأَنْشَدُوا :
فَأَطْرَقَ إطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ يَجِدْ * * * مَسَاغًا لناباه الشُّجَاعِ لَصَمَّمَا

وَقَالَ : وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ : ضَرَبْته بَيْنَ أُذُنَاهُ . قُلْت بَنُو الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ هُمْ أَهْلُ نَجْرَانَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ بِهَذِهِ اللُّغَةِ بَلْ الْمُثَنَّى مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ هُوَ بِالْيَاءِ فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ كَمَا تَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُهُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَقَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الَّذِينَ كَتَبُوا الْمُصْحَفَ هُمْ وَزَيْدٌ : إذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ فَاكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا إلَّا فِي حَرْفٍ وَهُوَ ( التَّابُوتُ ) فَرَفَعُوهُ إلَى عُثْمَانَ فَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ . وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرْسَلَ إلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إلَيْك فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إلَى عُثْمَانَ فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ العاص وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ : إذَا اخْتَلَفْتُمْ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ

فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى إذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إلَى حَفْصَةَ فَأَرْسَلَ إلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفِ مِمَّا نَسَخُوا وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ . وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ عِنْدِ حَفْصَةَ هِيَ الَّتِي أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ فِيهَا لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَحَدِيثُهُ مَعْرُوفٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَكَانَتْ بِخَطِّهِ ؛ فَلِهَذَا أَمَرَ عُثْمَانُ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَدَ مَنْ يَنْسَخُ الْمَصَاحِفَ مِنْ تِلْكَ الصُّحُفِ وَلَكِنْ جَعَلَ مَعَهُ ثَلَاثَةً مِنْ قُرَيْشٍ لِيُكْتَبَ بِلِسَانِهِمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ لِسَانُ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارُ إلَّا فِي لَفْظِ ( التابوه ) و ( التَّابُوتِ ) فَكَتَبُوهُ ( التَّابُوتَ ) بِلُغَةِ قُرَيْشٍ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَصَاحِفَ الَّتِي نُسِخَتْ كَانَتْ مَصَاحِفَ مُتَعَدِّدَةً وَهَذَا مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ غَلَطَ مَنْ قَالَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ : إنَّهُ غَلَطٌ مِنْ الْكَاتِبِ أَوْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ ؛ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ لِوُجُوهِ . مِنْهَا : تَعَدُّدُ الْمَصَاحِفِ وَاجْتِمَاعُ جَمَاعَةٍ عَلَى كُلِّ مُصْحَفٍ ثُمَّ وَصُولُ كُلِّ مُصْحَفٍ إلَى بَلَدٍ كَبِيرٍ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَعْتَبِرُونَ ذَلِكَ بِحِفْظِهِمْ وَالْإِنْسَانُ إذَا نَسَخَ مُصْحَفًا غَلِطَ فِي بَعْضِهِ عُرِفَ غَلَطُهُ بِمُخَالَفَةِ حِفْظِهِ الْقُرْآنَ وَسَائِرَ الْمَصَاحِفِ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ

كَتَبَ كَاتِبٌ مُصْحَفًا ثُمَّ نَسَخَ سَائِرُ النَّاسِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَمْكَنَ وُقُوعُ الْغَلَطِ فِي هَذَا وَهُنَا كُلُّ مُصْحَفٍ إنَّمَا كَتَبَهُ جَمَاعَةٌ وَوَقَفَ عَلَيْهِ خَلْقٌ عَظِيمٌ مِمَّنْ يَحْصُلُ التَّوَاتُرُ بِأَقَلَّ مِنْهُمْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الصَّحِيفَةَ كَانَ فِيهَا لَحْنٌ فَقَدْ كَتَبَ مِنْهَا جَمَاعَةٌ لَا يَكْتُبُونَ إلَّا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَلَمْ يَكُنْ لَحْنًا فَامْتَنَعُوا أَنْ يَكْتُبُوهُ إلَّا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَكَيْفَ يَتَّفِقُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنْ يَكْتُبُوا : { إنْ هَذَانِ } وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَحْنٌ لَا يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْ لُغَاتِهِمْ أَوْ : { الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ } وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَحْنٌ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ . قَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ : { الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ } قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ خَطَأٌ - بَعِيدٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ هُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْقُدْوَةُ فَكَيْفَ يَتْرُكُونَ شَيْئًا يُصْلِحُهُ غَيْرُهُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ هَذَا إلَيْهِمْ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : حَدِيثُ عُثْمَانَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ وَمُحَالٍ أَنْ يُؤَخِّرَ عُثْمَانُ شَيْئًا لِيُصْلِحَهُ مَنْ بَعْدَهُ . قُلْت : وَمِمَّا يُبَيِّنُ كَذِبَ ذَلِكَ : أَنَّ عُثْمَانَ لَوْ قُدِّرَ ذَلِكَ فِيهِ فَإِنَّمَا رَأَى ذَلِكَ فِي نُسْخَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْمَصَاحِفِ اتَّفَقَتْ عَلَى الْغَلَطِ وَعُثْمَانُ قَدْ رَآهُ فِي جَمِيعِهَا وَسَكَتَ : فَهَذَا مُمْتَنِعٌ عَادَةً وَشَرْعًا : مِنْ الَّذِينَ كَتَبُوا وَمِنْ عُثْمَانَ ثُمَّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ وَصَلَتْ إلَيْهِمْ الْمَصَاحِفُ وَرَأَوْا مَا فِيهَا وَهُمْ يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ فِيهِ لَحْنًا

لَا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ فَضْلًا عَنْ التِّلَاوَةِ وَكُلُّهُمْ يُقِرُّ هَذَا الْمُنْكَرَ لَا يُغَيِّرُهُ أَحَدٌ فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ عَادَةً وَيُعْلَمُ مِنْ دِينِ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ ؛ بَلْ يَأْمُرُونَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَيَنْهَوْنَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ أَنْ يَدْعُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ مُنْكَرًا لَا يُغَيِّرُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ لَا غَرَضَ لِأَحَدِ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَوْ قِيلَ لِعُثْمَانِ : مُرْ الْكَاتِبَ أَنْ يُغَيِّرَهُ لَكَانَ تَغْيِيرُهُ مِنْ أَسْهَلِ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ . فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِخَطَأِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْمُصْحَفِ لَحْنًا أَوْ غَلَطًا وَإِنْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ مِمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً فَالْخَطَأُ جَائِزٌ عَلَيْهِ فِيمَا قَالَهُ ؛ بِخِلَافِ الَّذِينَ نَقَلُوا مَا فِي الْمُصْحَفِ وَكَتَبُوهُ وَقَرَءُوهُ فَإِنَّ الْغَلَطَ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ وَكَمَا قَالَ عُثْمَانُ : إذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ فَاكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ لِابْنِ مَسْعُودٍ أَقْرِئْ النَّاسَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَلَا تُقْرِئْهُمْ بِلُغَةِ هذيل ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ بِلُغَةِ هذيل . وقَوْله تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ قَوْمَهُ هُمْ قُرَيْشٌ كَمَا قَالَ : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ } . وَأَمَّا كِنَانَةُ فَهُمْ جِيرَانُ قُرَيْشٍ وَالنَّاقِلُ عَنْهُمْ ثِقَةٌ وَلَكِنَّ الَّذِي يَنْقُلُ بِنَقْلِ مَا سَمِعَ وَقَدْ يَكُونُ سَمِعَ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ الْمَبْنِيَّةِ فَظَنَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ سَمِعَ " بَيْنَ أُذُنَاهُ " و " لَنَابَاهُ " فَإِنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَيْسَتْ مُبْهَمَةً .

وَحِينَئِذٍ فَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ لُغَةُ قُرَيْشٍ ؛ بَلْ وَلَا لُغَةُ سَائِرِ الْعَرَبِ : أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ إذَا ثُنِّيَتْ بِالْيَاءِ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِنْ النُّحَاةِ قِيَاسًا جَعَلُوا بَابَ التَّثْنِيَةِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ كَمَا هُوَ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَاهِدٌ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالُوهُ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ اسْمٌ مُبْهَمٌ مَبْنِيٌّ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَوْ خَفْضٍ إلَّا هَذَا وَلَفْظُهُ ( هَذَانِ فَهَذَا نَقْلٌ ثَابِتٌ مُتَوَاتِرٌ لَفْظًا وَرَسْمًا . وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْكَاتِبَ غَلِطَ فَهُوَ الغالط غَلَطًا مُنْكَرًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ : فَإِنَّ الْمُصْحَفَ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ وَقَدْ كُتِبَتْ عِدَّةُ مَصَاحِفَ وَكُلُّهَا مَكْتُوبَةٌ بِالْأَلِفِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِي هَذَا غَلَطٌ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقُرَّاءَ إنَّمَا قَرَءُوا بِمَا سَمِعُوهُ مِنْ غَيْرِهِمْ وَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا يَقْرَءُونَ ( سُورَةَ طَه ) عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَهِيَ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ بَنُو إسْرَائِيلَ وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطَه وَالْأَنْبِيَاءُ مِنْ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تلادى . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ . وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ وَغَيْرُهُ : هِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ ؛ بَلْ هِيَ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّهَا كَانَتْ مَكْتُوبَةً عِنْدَ أُخْتِ عُمَرَ وَأَنَّ سَبَبَ إسْلَامِ عُمَرَ كَانَ لَمَّا بَلَغَهُ إسْلَامُ أُخْتِهِ وَكَانَتْ السُّورَةُ تُقْرَأُ عِنْدَهَا .

فَالصَّحَابَةُ لَا بُدَّ أَنْ قَدْ قَرَءُوا هَذَا الْحَرْفَ وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ قَرَءُوهُ بِالْيَاءِ كَأَبِي عَمْرٍو فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقْرَأْهَا أَحَدٌ إلَّا بِالْيَاءِ وَلَمْ تُكْتَبْ إلَّا بِالْيَاءِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ أَوْ غَالَبَهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَهَا بِالْأَلِفِ كَمَا قَرَأَهَا الْجُمْهُورُ وَكَانَ الصَّحَابَةُ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ يَقْرَءُونَ هَذِهِ السُّورَةَ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ وَمِنْهُمْ سَمِعَهَا التَّابِعُونَ وَمِنْ التَّابِعَيْنِ سَمِعَهَا تَابِعُوهُمْ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ قَرَءُوهَا بِالْيَاءِ مَعَ أَنَّ جُمْهُورَ الْقُرَّاءِ لَمْ يَقْرَءُوهَا إلَّا بِالْأَلِفِ وَهُمْ أَخَذُوا قِرَاءَتَهُمْ عَنْ الصَّحَابَةِ أَوْ عَنْ التَّابِعَيْنِ عَنْ الصَّحَابَةِ فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ قَطْعًا أَنَّ عَامَّةَ الصَّحَابَةِ إنَّمَا قَرَءُوهَا بِالْأَلِفِ كَمَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَكَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ . وَحِينَئِذٍ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا قَرَءُوا كَمَا عَلَّمَهُمْ الرَّسُولُ وَكَمَا هُوَ لُغَةٌ لِلْعَرَبِ ثُمَّ لُغَةُ قُرَيْشٍ فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ اللُّغَةَ الْفَصِيحَةَ الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَهُمْ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ تَقُولُ : إنْ هَذَانِ وَمَرَرْت بِهَذَانِ : تَقُولُهَا فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ بِالْأَلِفِ وَمَنْ قَالَ إنَّ لُغَتَهُمْ أَنَّهَا تَكُونُ فِي الرَّفْعِ بِالْأَلِفِ طُولِبَ بِالشَّاهِدِ عَلَى ذَلِكَ وَالنَّقْلِ عَنْ لُغَتِهِمْ الْمَسْمُوعَةِ مِنْهُمْ نَثْرًا وَنَظْمًا وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَلَكِنْ عُمْدَتُهُ الْقِيَاسُ . وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ :

قِيَاسُ هَذَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْأَسْمَاءِ غَلَطٌ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ عَقْلًا وَسَمَاعًا : أَمَّا النَّقْلُ وَالسَّمَاعُ فَكَمَا ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْقِيَاسُ فَقَدْ تَفَطَّنَ لِلْفَرْقِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ حُذَّاقِ النُّحَاةِ فَحَكَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْفَرَّاءِ قَالَ : أَلِفُ التَّثْنِيَةِ فِي " هَذَانِ " هِيَ أَلِفُ هَذَا وَالنُّونُ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ كَمَا فَرَّقَتْ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ نُونُ الَّذِينَ وَحَكَاهُ المهدوي وَغَيْرُهُ عَنْ الْفَرَّاءِ وَلَفْظُهُ قَالَ : إنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْأَلِفَ لَيْسَتْ عَلَامَةَ التَّثْنِيَةِ بَلْ هِيَ أَلِفُ هَذَا فَزِدْت عَلَيْهَا نُونًا وَلَمْ أُغَيِّرْهَا كَمَا زِدْت عَلَى الْيَاءِ مِنْ الَّذِي فَقُلْت الَّذِينَ فِي كُلِّ حَالٍ قَالَ وَقَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ : الْأَلِفُ فِي هَذَا مُشْبِهَةُ يَفْعَلَانِ فَلَمْ تُغَيِّرْ كَمَا لَمْ تُغَيِّرْ . قَالَ : وَقَالَ الجرجاني : لَمَّا كَانَ اسْمًا عَلَى حَرْفَيْنِ أَحَدُهُمَا حَرْفُ مَدٍّ وَلِينٍ وَهُوَ كَالْحَرَكَةِ وَوَجَبَ حَذْفُ إحْدَى الْأَلِفَيْنِ فِي التَّثْنِيَةِ لَمْ يَحْسُنْ حَذْفُ الْأُولَى ؛ لِئَلَّا يَبْقَى الِاسْمُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَحَذَفَ عَلَمَ التَّثْنِيَةِ وَكَانَ النُّونُ يَدُلُّ عَلَى التَّثْنِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِتَغْيِيرِ النُّونِ الْأَصْلِيَّةِ الْأَلِفِ وَجْهٌ فَثَبَتَ فِي كُلِّ حَالٍ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْوَاحِدِ . قَالَ المهدوي : وَسَأَلَ إسْمَاعِيلُ الْقَاضِي ابْنَ كيسان عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ : لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمُبْهَمِ إعْرَابٌ فِي الْوَاحِدِ وَلَا فِي الْجَمْعِ جَرَتْ التَّثْنِيَةُ عَلَى ذَلِكَ مَجْرَى الْوَاحِدِ إذْ التَّثْنِيَةُ يَجِبُ أَنْ لَا تُغَيَّرَ فَقَالَ إسْمَاعِيلُ : مَا أَحْسَنَ مَا قُلْت لَوْ تَقَدَّمَك أَحَدٌ بِالْقَوْلِ فِيهِ حَتَّى يُؤْنِسَ بِهِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ كيسان : فَلْيَقُلْ الْقَاضِي

حَتَّى يُؤْنِسَ بِهِ فَتَبَسَّمَ . قُلْت : بَلْ تَقَدَّمَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ وَالْفَرَّاءُ فِي الْكُوفِيِّينَ مِثْلَ سِيبَوَيْهِ فِي الْبَصْرِيِّينَ ؛ لَكِنَّ إسْمَاعِيلَ كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَى نَحْوِ الْبَصْرِيِّينَ وَالْمُبَرِّدُ كَانَ خِصِّيصًا بِهِ . وَبَيَانُ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ الْمُفْرَدَ " ذَا " فَلَوْ جَعَلُوهُ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ لَقَالُوا فِي التَّثْنِيَةِ : " ذوان " وَلَمْ يَقُولُوا : " ذان " كَمَا قَالُوا عَصَوَانِ وَرَجَوَانِ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الثُّلَاثِيَّةِ " وَهَا " حَرْفُ تَنْبِيهٍ وَقَدْ قَالُوا فِيمَا حَذَفُوا لَامَهُ : أَبَوَانِ فَرَدَّتْهُ التَّثْنِيَةُ إلَى أَصْلِهِ وَقَالُوا فِي غَيْرِ هَذَا . . . (1) وَيَدَانِ وَأَمَّا " ذَا " فَلَمْ يَقُولُوا " ذوان " بَلْ قَالُوا كَمَا فَعَلُوا فِي " ذُو " و " ذَاتِ " الَّتِي بِمَعْنَى صَاحِبٍ فَقَالُوا : هُوَ ذُو عِلْمٍ وَهُمَا ذَوَا عِلْمٍ كَمَا قَالَ : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ قَالُوا : " ذان " و " تان " كَمَا قَالَ : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ } فَإِنَّ " ذَا " بِمَعْنَى صَاحِبٍ هُوَ اسْمٌ مُعْرَبٌ فَتَغَيَّرَ إعْرَابُهُ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ فَقِيلَ : ذُو وَذَا وَذِي . وَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْإِشَارَةِ وَالْأَسْمَاءِ الْمَوْصُولَةِ وَالْمُضْمِرَاتِ هِيَ مَبْنِيَّةٌ ؛

لَكِنَّ أَسْمَاءَ الْإِشَارَةِ لَمْ تُفَرِّقْ لَا فِي وَاحِدِهِ وَلَا فِي جَمْعِهِ بَيْنَ حَالِ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ فَكَذَلِكَ فِي تَثْنِيَتِهِ ؛ بَلْ قَالُوا : قَامَ هَذَا وَأَكْرَمْت هَذَا وَمَرَرْت بِهَذَا وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ فِي الْجَمْعِ فَكَذَلِكَ الْمُثَنَّى قَالَ : هَذَانِ وَأَكْرَمْت هَذَانِ وَمَرَرْت بِهَذَانِ فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ يُلْحَقَ مُثَنَّاهُ بِمُفْرَدِهِ وَبِمَجْمُوعِهِ لَا يُلْحَقَ بِمُثَنَّى غَيْرِهِ الَّذِي هُوَ أَيْضًا مُعْتَبَرٌ بِمُفْرَدِهِ وَمَجْمُوعِهِ . فَالْأَسْمَاءُ الْمُعْرَبَةُ أُلْحِقَ مُثَنَّاهَا بِمُفْرَدِهَا وَمَجْمُوعِهَا تَقُولُ : رَجُلٌ وَرَجُلَانِ وَرِجَالٌ فَهُوَ مُعَرَّبٌ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ : يَظْهَرُ الْإِعْرَابُ فِي مُثَنَّاهُ كَمَا ظَهَرَ فِي مُفْرَدِهِ وَمَجْمُوعِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ مُقْتَضَى الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ نَقْلٌ عَنْ اللُّغَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْقُرْآنِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ ؛ بَلْ هِيَ أَنْ يَكُونَ الْمُثَنَّى مِنْ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ مَبْنِيًّا فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ كَمُفْرَدِ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ وَمَجْمُوعِهَا . وَحِينَئِذٍ فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْأَلِفَ هِيَ أَلِفُ الْمُفْرَدِ زِيدَ عَلَيْهَا النُّونُ أَوْ قِيلَ : هِيَ عَلَمٌ لِلتَّثْنِيَةِ وَتِلْكَ حُذِفَتْ أَوْ قِيلَ بَلْ هَذِهِ الْأَلِفُ تَجْمَعُ هَذَا وَهَذَا مَعْنًى جَوَابُ ابْنُ كيسان وَقَوْلُ الْفَرَّاءِ مِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى وَكَذَلِكَ قَوْلُ الجرجاني وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْأَلِفَ فِيهِ تُشْبِهُ أَلِفَ يَفْعَلَانِ .

ثُمَّ يُقَالُ : قَدْ يَكُونُ الْمَوْصُولُ كَذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ } فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ لُغَةَ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ رَأَيْت الْذَيْنِ فَعَلَا وَمَرَرْت بِاَللَّذَيْنِ فَعَلَا وَإِلَّا فَقَدْ يُقَالُ : هُوَ بِالْأَلِفِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ مَبْنِيٌّ وَالْأَلِفُ فِيهِ بَدَلُ الْيَاءِ فِي الَّذِينَ وَمَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَابْنُ كيسان وَغَيْرُهُمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا ؛ فَإِنَّ الْفَرَّاءَ شَبَّهَ هَذَا بالذين وَتَشْبِيهُ اللَّذَانِ بِهِ أَوْلَى وَابْنُ كيسان عَلَّلَ بِأَنَّ الْمُبْهَمَ مَبْنِيٌّ لَا يَظْهَرُ فِيهِ الْإِعْرَابُ فَجَعَلَ مُثَنَّاهُ كَمُفْرَدِهِ وَمَجْمُوعِهِ وَهَذَا الْعِلْمُ يَأْتِي فِي الْمَوْصُولِ . يُؤَيِّدُ ذَلِكَ : أَنَّ الْمُضْمَرَاتِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَالْمَرْفُوعَ وَالْمَنْصُوبَ لَهُمَا ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ وَمُنْفَصِلٌ ؛ بِخِلَافِ الْمَجْرُورِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا مُتَّصِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمَجْرُورَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ أَوْ مُضَافٌ لَا يُقَدَّمُ عَلَى عَامِلِهِ فَلَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ فَالضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ فِي الْوَاحِدِ الْكَافُ مِنْ أَكْرَمْتُك وَمَرَرْت بِك وَفِي الْجَمْعِ أَكْرَمْتُكُمْ وَمَرَرْت بِكُمْ وَفِي التَّثْنِيَةِ زِيدَتْ الْأَلِفُ فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ فَيُقَالُ : أَكْرَمْتُكُمَا وَمَرَرْت بِكُمَا كَمَا نَقُولُ فِي الرَّفْعِ فَفِي الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ فَعَلْت وَفَعَلْتُمْ وَفِي التَّثْنِيَةِ فَعَلْتُمَا بِالْأَلِفِ وَحْدَهَا زِيدَتْ عَلَمًا عَلَى التَّثْنِيَةِ فِي حَالِ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ كَمَا زِيدَتْ فِي الْمُنْفَصِلِ فِي قَوْلِهِ " إيَّاكُمَا " و " أَنْتُمَا " . فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ لَفْظَ الْمُثَنَّى فِي الْأَسْمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ : لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَرْفُوعِهِ وَبَيْنَ مَنْصُوبِهِ وَمَجْرُورِهِ

كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُعْرَبَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ فِي الْمُثَنَّى أَبْلَغُ مِنْهُ فِي لَفْظِ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ إذْ كَانُوا فِي الضَّمَائِرِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ ضَمِيرِ الْمَنْصُوبِ وَالْمَجْرُورِ وَبَيْنَ ضَمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى وَلَا يُفَرِّقُونَ فِي الْمُثَنَّى وَفِي لَفْظِ الْإِشَارَةِ وَالْمَوْصُولِ وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَبَيْنَ الْمَرْفُوعِ وَغَيْرِهِ فَفِي الْمُثَنَّى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا . ذَكَرَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَذَكَرَ فِيهَا هَذَا الِاعْتِرَاضَ :
فَصْلٌ :
وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى مَا كَتَبْنَاهُ أَوَّلًا بِأَنَّهُ جَاءَ أَيْضًا فِي غَيْرِ الرَّفْعِ بِالْيَاءِ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ } وَلَمْ يَقُلْ " اللَّذَانِ أَضَلَّانَا " كَمَا قِيلَ فِي الَّذِينَ إنَّهُ بِالْيَاءِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى : { إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } وَلَمْ يَقُلْ " هَاتَانِ " و " هَاتَانِ " تَبَعٌ لِابْنَتَيَّ وَقَدْ يُسَمَّى عَطْفَ بَيَانٍ وَهُوَ يُشْبِهُ الصِّفَةَ كَقَوْلِهِ : { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا } لَكِنَّ الصِّفَةَ تَكُونُ مُشْتَقَّةً أَوْ فِي مَعْنَى الْمُشْتَقِّ وَعَطْفُ

الْبَيَانِ يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ وَأَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ : { إنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا } فَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْمَوْصُولِ بِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ عَلَى حَرْفَيْنِ ؛ بِخِلَافِ الْمَوْصُولِ ؛ فَإِنَّ الِاسْمَ هُوَ " اللذا " عِدَّةُ حُرُوفٍ وَبَعْدَهُ يُزَادُ عَلَمُ الْجَمْعِ فَتُكْسَرُ الذَّالُ وَتُفْتَحُ النُّونُ وَعَلَمُ التَّثْنِيَةِ فَتُفْتَحُ الذَّالُ وَتُكْسَرُ النُّونُ وَالْأَلِفُ فَقُلْتُ . . . (1) فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الصَّحِيحَ إذَا جُمِعَ جَمْعَ التَّصْحِيحِ كُسِرَ آخِرُهُ فِي النَّصْبِ وَفِي الْجَرِّ وَفُتِحَتْ نُونُهُ وَإِذَا ثُنِّيَ فُتِحَ آخِرُهُ وَكُسِرَتْ نُونُهُ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّثْنِيَةِ هِيَ الْأَلِفُ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ فِي إعْرَابِهِ لُغَتَانِ جَاءَ بِهِمَا الْقُرْآنُ : تَارَةً يُجْعَلُ كَاَللَّذَانِ وَتَارَةً يُجْعَلُ كَاَللَّذَيْنِ ؛ وَلَكِنْ فِي قَوْلِهِ : { إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } كَانَ هَذَا أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِهِ " هَاتَانِ " لِمَا فِيهِ مِنْ اتِّبَاعِ لَفْظِ الْمُثَنَّى بِالْيَاءِ فِيهِمَا وَلَوْ قِيلَ هَاتَانِ لَأَشْبَهَ . . . (2) ، كَمَا لَوْ قِيلَ : " إنَّ ابْنَتَيَّ هَاتَانِ " فَإِذَا جُعِلَ بِالْيَاءِ عَلَمٌ تَابِعٌ مُبَيِّنٌ عَطْفَ بَيَانٍ لِتَمَامِ مَعْنَى الِاسْمِ ؛ لَا خَبَرٌ تَتِمُّ بِهِ الْجُمْلَةُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { إنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } فَجَاءَ اسْمًا مُبْتَدَأً : اسْمُ ( إنَّ )

وَكَانَ مَجِيئُهُ بِالْأَلِفِ أَحْسَنَ فِي اللَّفْظِ مِنْ قَوْلِنَا : " إنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ " لِأَنَّ الْأَلِفَ أَخَفُّ مِنْ الْيَاءِ ؛ وَلِأَنَّ الْخَبَرَ بِالْأَلِفِ فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْ الِاسْمِ وَالْخَبَرِ بِالْأَلْفِ كَانَ أَتَمَّ مُنَاسِبَةً وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ بِالْيَاءِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْمَسْمُوعَ وَالْمُتَوَاتِرَ لَيْسَ فِي الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ مَا يُنَاقِضُهُ لَكِنْ بَيْنَهُمَا فُرُوقٌ دَقِيقَةٌ وَاَلَّذِينَ استشكلوا هَذَا إنَّمَا استشكلوه مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ ؛ لَا مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ وَمَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ يُعْرَفُ ضَعْفُ الْقِيَاسِ . وَقَدْ يُجِيبُ مَنْ يَعْتَبِرُ كَوْنَ الْأَلِفِ فِي هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ بِأَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِ : { إنْ هَذَانِ } وَقَوْلِهِ : { إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } أَنَّ هَذَا تَثْنِيَةُ مُؤَنَّثٍ وَذَاكَ تَثْنِيَةُ مُذَكَّرٍ وَالْمُذَكَّرُ الْمُفْرَدُ مِنْهُ " ذَا " بِالْأَلِفِ فَزِيدَتْ فَوْقَ نُونِ التَّثْنِيَةِ وَأَمَّا الْمُؤَنَّثُ فَمُفْرَدُهُ " ذِي " أَوْ " ذه " أَوْ " تِهْ " . وَقَوْلُهُ : { إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } تَثْنِيَةُ " تِي " بِالْيَاءِ فَكَانَ جَعْلُهَا بِالْيَاءِ فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ أَشْبَهَ بِالْمُفْرِدِ ؛ بِخِلَافِ تَثْنِيَةِ الْمُذَكَّرِ وَهُوَ " ذَا " فَإِنَّهُ بِالْأَلِفِ فَإِقْرَارُهُ بِالْأَلِفِ أَنْسَبُ وَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ تَثْنِيَةِ الْمُؤَنَّثِ وَتَثْنِيَةِ الْمُذَكَّرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّذَيْنِ قَدْ تَقَدَّمَ . وَحِينَئِذٍ فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ الْمُوَافِقَةُ لِلسَّمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَلَمْ يَشْتَهِرْ

مَا يُعَارِضُهَا مِنْ اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ : { إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } هُوَ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ الْخَبِيثَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْآدَمِيُّونَ } وَمِثْلُهُ فِي الْمَوْصُولِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُمَرِ : أَخْبِرْنِي عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ فِيهِمَا : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ } الْآيَةُ . آخِرُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
فَصْلٌ :
" سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ " سُورَةُ الذِّكْرِ وَسُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ نَزَلَ الذِّكْرُ افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } الْآيَةُ وَقَوْلُهُ : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَقَوْلُهُ : { لَقَدْ أَنْزَلْنَا إلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } وَقَوْلُهُ : { هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي } وَقَوْلُهُ : { وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ } وَقَوْلُهُ : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ } وَقَوْلُهُ : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } وَقَوْلُهُ : { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ } يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اُنْصُرْ أَهْلَ الْحَقِّ أَوْ اُنْصُرْ الْحَقَّ وَقِيلَ : افْصِلْ الْحَقَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَقُولُونَ : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ } وَأَمَرَ مُحَمَّدًا أَنْ يَقُولَ : { رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ } وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا شَهِدَ قِتَالًا قَالَ : { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ } } .

سُورَةُ الْحَجِّ
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
سُورَةُ الْحَجِّ فِيهَا مَكِّيٌّ وَمَدَنِيٌّ وَلَيْلِيٌّ وَنَهَارِيٌّ وَسَفَرِيٌّ وَحَضَرِيٌّ وَشِتَائِيٌّ وَصَيْفِيٌّ ؛ وَتَضَمَّنَتْ مَنَازِلَ الْمَسِيرِ إلَى اللَّهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مَنْزِلَةٌ وَلَا قَاطِعٌ يَقْطَعُ عَنْهَا . وَيُوجَدُ فِيهَا ذِكْرُ الْقُلُوبِ الْأَرْبَعَةِ : الْأَعْمَى وَالْمَرِيضُ وَالْقَاسِي وَالْمُخْبِتُ الْحَيُّ الْمُطْمَئِنُّ إلَى اللَّهِ . وَفِيهَا مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْحُكْمِ وَالْمَوَاعِظِ عَلَى اخْتِصَارِهَا مَا هُوَ بَيِّنٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَفِيهَا ذِكْرُ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات كُلُّهَا تَوْحِيدًا وَصَلَاةً وَزَكَاةً وَحَجًّا وَصِيَامًا قَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ : { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } كُلُّ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ ؛ فَخَصَّصَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعَمَّمَ ثُمَّ قَالَ : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } فَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا : لَمْ تَتْرُكْ خَيْرًا إلَّا جَمَعَتْهُ وَلَا شَرًّا إلَّا نَفَتْهُ .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
قَوْلُهُ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ } { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ } فِي أَثْنَاءِ آيَاتِ الْمَعَادِ وَعَقِبَهَا بِآيَةِ الْمَعَادِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ } { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } فِيهِ بَيَانُ حَالِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَحَالِ الْمُتَعَبِّدِينَ الْمُجَادِلِينَ بِلَا عِلْمٍ وَالْعَابِدِينَ بِلَا عِلْمٍ بَلْ مَعَ الشَّكِّ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ سُورَةُ الْمِلَّةِ الإبراهيمية الَّذِي جَادَلَ بِعَلَمِ وَعَبَدَ اللَّهَ بِعِلْمِ وَلِهَذَا ضُمِّنَتْ ذِكْرَ الْحَجِّ وَذِكْرَ الْمِلَلِ السِّتِّ . فَقَوْلُهُ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ ذَمٌّ لِكُلِّ مَنْ جَادَلَ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ بِالْعِلْمِ كَمَا فَعَلَ إبْرَاهِيمُ بِقَوْمِهِ وَفِي الْأُولَى ذَمَّ الْمُجَادِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَفِي الثَّانِيَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ . وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ الِانْتِقَالِ مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى لِيُبَيِّنَ أَنَّ الَّذِي يُجَادِلُ بِالْكِتَابِ أَعْلَاهُمْ ثُمَّ بِالْهُدَى فَالْعِلْمُ اسْمٌ جَامِعٌ ثُمَّ مِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ الْقِيَاسِيِّ فَهُوَ أَدْنَى أَقْسَامِهِ فَيُخَصُّ

بِاسْمِ الْعِلْمِ وَيُفْرَدُ مَا عَدَاهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ ؛ فَإِمَّا مَعْلُومٌ بِالدَّلِيلِ الْقِيَاسِيِّ وَهُوَ عِلْمُ النَّظَرِ وَإِمَّا مَا عُلِمَ بِالْهِدَايَةِ الْكَشْفِيَّةِ كَمَا لِلْمُحَدِّثِينَ ولِلْمُتَفَرِّسِين وَلِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ الْهُدَى وَإِمَّا مَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ الْكُتُبِ وَهُوَ أَعْلَاهَا فَأَعْلَاهَا الْعِلْمُ الْمَأْثُورُ عَنْ الْكُتُبِ ثُمَّ كُشُوفُ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ قِيَاسُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ .

وَقَالَ :
فِي قَوْله تَعَالَى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } { يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ } { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } فَإِنَّ آخِرَ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ كَمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ كَالثَّعْلَبِيِّ والبغوي وَاللَّفْظُ للبغوي قَالَ : هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ وَفِيهَا أَسْئِلَةٌ أَوَّلُهَا : قَالُوا : قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى : { يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ } أَيْ لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ عِبَادَتِهِ وَقَوْلُهُ : { لَمَنْ ضَرُّهُ } أَيْ ضَرُّ عِبَادَتِهِ ؛ - قُلْت : هَذَا جَوَابٌ . وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ جَوَابًا غَيْرَ هَذَا : فَقَالَ : فَإِنْ قُلْت : الضُّرُّ وَالنَّفْعُ مُنْتَفِيَانِ عَنْ الْأَصْنَامِ مُثْبَتَانِ لَهُمَا فِي الْآيَتَيْنِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ قُلْت : إذَا حَصَلَ الْمَعْنَى ذَهَبَ هَذَا الْوَهْمُ : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سَفَّهَ الْكَافِرَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ جَمَادًا لَا يَمْلِكُ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ فِيهِ لِجَهْلِهِ وَضَلَالِهِ

أَنَّهُ يَسْتَشْفِعُ بِهِ حِينَ يَسْتَشْفِعُ بِهِ ؛ ثُمَّ قَامَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا الْكَافِرُ بِدُعَاءِ وَصُرَاخٍ حِينَ رَأَى اسْتِضْرَارَهُ بِالْأَصْنَامِ وَدُخُولَهُ النَّارَ بِعِبَادَتِهَا وَلَا يُرَى أَثَرُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا لَهَا : { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } أَوْ كَرَّرَ يَدْعُو كَأَنَّهُ قَالَ : { يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ } ثُمَّ قَالَ : { لَمَنْ ضَرُّهُ } بِكَوْنِهِ مَعْبُودًا { أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ } بِكَوْنِهِ شَفِيعًا { لَبِئْسَ الْمَوْلَى } . قُلْت : فَقَدْ جَعَلَ ضَرَّهُ بِكَوْنِهِ مَعْبُودًا وَذَكَرَ تَضَرُّرَهُ بِذَلِكَ : وَفِي الْآخِرَةِ . وَقَدْ قَالَ السدي مَا يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَيْنِ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَعْرُوفِ قَالَ : { مَا لَا يَضُرُّهُ } قَالَ : لَا يَضُرُّهُ إنْ عَصَاهُ { وَمَا لَا يَنْفَعُهُ } قَالَ : لَا يَنْفَعُهُ الصَّنَمُ إنْ أَطَاعَهُ { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ } قَالَ : ضَرُّهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَجْلِ عِبَادَتِهِ إيَّاهُ فِي الدُّنْيَا . قُلْت : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ مِنْ الْجَوَابِ : كَلَامٌ صَحِيحٌ لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ وَجْهَ نَفْيِ التَّنَاقُضِ . فَنَقُولُ : قَوْلُهُ : { مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ } هُوَ نَفْيٌ لِكَوْنِ الْمَدْعُوِّ الْمَعْبُودَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَمْلِكُ نَفْعًا أَوْ ضُرًّا وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا سِوَى

اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ وَالْجِنِّ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ كُلِّهَا فَإِنَّمَا سِوَى اللَّهِ لَا يَمْلِكُ لَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ نَهْيِهِ عَنْ عِبَادَةِ الْمَسِيحِ : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلَّا إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { أَفَلَا يَتُوبُونَ إلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وَقَدْ قَالَ لِخَاتَمِ الرُّسُلِ : { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } وَقَالَ : { قُلْ إنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } وَقَالَ عَلَى الْعُمُومِ : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } وَقَالَ : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } وَقَالَ : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } وَقَالَ صَاحِبُ يس : { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

{ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ } { إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } . وَقَوْلُهُ : { يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ } نَفْيٌ عَامٌّ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا } فَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَضُرَّ أَحَدًا سَوَاءٌ عَبَدَهُ أَوْ لَمْ يَعْبُدْهُ وَلَا يَنْفَعَ أَحَدًا سَوَاءٌ عَبَدَهُ أَوْ لَمْ يَعْبُدْهُ ؛ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : لَا يَنْفَعُ إنْ عُبِدَ وَلَا يَضُرُّ إنْ لَمْ يُعْبَدْ بَيَانٌ لِانْتِفَاءِ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ مِنْ جِهَتِهِ ؛ بِخِلَافِ الرَّبِّ الَّذِي يُكْرِمُ عَابِدِيهِ وَيَرْحَمُهُمْ وَيُهِينُ مَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ وَيُعَاقِبُهُ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ مُطْلَقًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ يُنْعِمُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ فَنَفْعُهُ لِلْعِبَادِ لَا يَخْتَصُّ بِعَابِدِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا تَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَمَا دُونَهُ لَا يَنْفَعُ لَا مَنْ عَبَدَهُ وَلَا مَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الضَّارُّ النَّافِعُ : قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَضُرَّ مَنْ يَشَاءُ وَإِنْ كَانَ مَا يُنْزِلُهُ مِنْ الضُّرِّ بِعَابِدِيهِ هُوَ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِمْ كَمَا قَالَ أَيُّوبُ : { مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ } وَقَالَ أَيْضًا لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحْدِثُ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ الضَّرَرِ بِمَنْ لَا يُوصَفُ بِمَعْصِيَةِ مِنْ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَالْبَهَائِمِ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالنِّعْمَةِ

وَالرَّحْمَةِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ نَفْيَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ عَمَّنْ سِوَاهُ عَامٌّ لَا يَجِبُ أَنْ يُخَصَّ هَذَا بِمَنْ عَبَدَهُ وَهَذَا بِمَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا التَّخْصِيصُ حَقًّا بِاعْتِبَارِ صَحِيحٍ ؛ وَجَوَابُ مَنْ أَجَابَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَضُرُّ تَرْكُ عِبَادَتِهِ وَضَرُّهُ بِعِبَادَتِهِ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ : الْمَنْفِيُّ قُدْرَةُ مَنْ سِوَاهُ عَلَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ } فَنَقُولُ أَوَّلًا : الْمَنْفِيُّ هُوَ فِعْلُهُمْ بِقَوْلِهِ : { مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ } وَالْمُثْبَتُ اسْمٌ مُضَافٌ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ : يَضُرُّ أَعْظَمَ مِمَّا يَنْفَعُ ؛ بَلْ قَالَ : { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ } وَالشَّيْءُ يُضَافُ إلَى الشَّيْءِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ الْمُضَافَيْنِ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ بَلْ قَدْ يُضَافُ الْمَصْدَرُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ اسْمًا كَمَا تُضَافُ سَائِرُ الْأَسْمَاءِ وَقَدْ يُضَافُ إلَى مَحَلِّهِ وَزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ وَسَبَبِ حُدُوثِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا كَقَوْلِهِ : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } وَلَا رَيْبَ أَنَّ بَيْنَ الْمَعْبُودِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَبَيْنَ ضَرَرِ عَابِدِيهِ تَعَلُّقٌ يَقْتَضِي الْإِضَافَةَ كَأَنَّهُ قِيلَ : لَمَنْ شَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ خَيْرِهِ وَخَسَارَتُهُ أَقْرَبُ مِنْ رِبْحِهِ ؛ فَتَدَبَّرْ هَذَا . وَلَوْ جُعِلَ هُوَ فَاعِلَ الضُّرِّ بِهَذَا لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِيهِ لَا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي

فَعَلَ الضَّرَرَ وَهَذَا كَقَوْلِ الْخَلِيلِ عَنْ الْأَصْنَامِ : { رَبِّ إنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } فَنُسِبَ الْإِضْلَالُ إلَيْهِنَّ وَالْإِضْلَالُ هُوَ ضَرَرٌ لِمَنْ أَضْلَلْنَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } وَهَذَا كَمَا يُقَالُ : أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ وَأَهْلَكَ النِّسَاءَ الْأَحْمَرَانِ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ ؛ وَكَمَا يُقَالُ لِلْمَحْبُوبِ الْمَعْشُوقِ الَّذِي تَضُرُّ مَحَبَّتُهُ وَعِشْقُهُ : إنَّهُ عَذَّبَ هَذَا وَأَهْلَكَهُ وَأَفْسَدَهُ وَقَتَلَهُ وَعَثَّرَهُ ؛ وَإِنْ كَانَ ذَاكَ الْمَحْبُوبُ قَدْ لَا يَكُونُ شَاعِرًا بِحَالِ هَذَا أَلْبَتَّةَ وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْمَحْسُودِ ؛ إنَّهُ يُعَذِّبُ حَاسِدِيهِ وَإِنْ كَانَ لَا شُعُورَ لَهُ بِهِمْ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَاَللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَتَنَافَسُوا فِيهَا كَمَا تَنَافَسُوا فِيهَا وَتُهْلِكُكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ } فَجَعَلَ الدُّنْيَا الْمَبْسُوطَةَ هِيَ الْمُهْلِكَةُ لَهُمْ : وَذَلِكَ بِسَبَبِ حُبِّهَا وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا وَالْمُنَافَسَةِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مَفْعُولًا بِهَا لَا اخْتِيَارَ لَهَا فَهَكَذَا الْمَدْعُوُّ الْمَعْبُودُ مِنْ دُونِ اللَّهِ الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ بِعِبَادَةِ نَفْسِهِ : إمَّا لِكَوْنِهِ جَمَادًا وَإِمَّا لِكَوْنِهِ عَبْدًا مُطِيعًا لِلَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَمَا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ لَكِنْ هُوَ السَّبَبُ فِي دُعَاءِ الدَّاعِي لَهُ وَعِبَادَتِهِ إيَّاهُ . وَعِبَادَةُ ذَاكَ وَدُعَاؤُهُ هُوَ الَّذِي ضَرَّهُ فَهَذَا الضُّرُّ الْمُضَافُ إلَيْهِ غَيْرُ الضُّرِّ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ

فَضَرَرُ الْعَابِدِ لَهُ بِعِبَادَتِهِ يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَإِنْ كَانَ عَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدَّ فَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ حَصَلَ لَهُمْ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ بِهَؤُلَاءِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ عِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ تَنْفَعْهُمْ بَلْ مَا زَادَتْهُمْ إلَّا شَرًّا . وَقَدْ قِيلَ فِي هَذَا كَمَا قِيلَ فِي الضُّرِّ . قِيلَ : مَا زَادَتْهُمْ عِبَادَتُهَا وَقِيلَ : إنَّهَا فِي الْقِيَامَةِ تَكُونُ عَوْنًا عَلَيْهِمْ فَتَزِيدُهُمْ شَرًّا وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا } { كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } وَالتَّتْبِيبُ : عَبَّرَ عَنْهُ الْأَكْثَرُونَ : بِأَنَّهُ التَّخْسِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } وَقِيلَ : التَّثْبِيرُ وَالْإِهْلَاكُ وَقِيلَ : مَا زَادُوهُمْ إلَّا شَرًّا ؛ وَقَوْلُهُ : { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } فِعْلٌ مَاضٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ فِي الدُّنْيَا ؛ وَقَدْ يُقَالُ : فَالشَّرُّ كُلُّهُ مِنْ جِهَتِهِمْ فَلِمَ قِيلَ : فَمَا زَادُوهُمْ فَيُقَالُ : بَلْ عُذِّبُوا عَلَى كُفْرِهِمْ بِاَللَّهِ وَلَوْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ فَلَمَّا عَبَدُوهُمْ مَعَ ذَلِكَ ازْدَادُوا بِذَلِكَ كُفْرًا وَعَذَابًا فَمَا زَادُوهُمْ إلَّا خَسَارَةً وَشَرًّا ؛ مَا زَادُوهُمْ رِبْحًا وَخَيْرًا .

سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فِي قَوْله تَعَالَى { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ } طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ أَنَّ وَاسْمِهَا وَخَبَرِهَا فَأَعَادَ ( أَنَّ ) لِتَقَعَ عَلَى الْخَبَرِ لِتَأْكِيدِهِ بِهَا ؛ وَنَظِيرُ هَذَا قَوْله تَعَالَى { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ أَعَادَ ( أَنَّ ) هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَطَائِفَةٍ وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ : كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ جُمْلَتَيْنِ جَزَائِيَّتَيْنِ فَأُكِّدَتْ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ " بِأَنَّ " عَلَى حَدِّ تَأْكِيدِهَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ : إنَّ مَنْ يَدْخُلُ الْكَنِيسَةَ يَوْمًا يَلْقَ فِيهَا جَآذِرًا وَظِبَاءً ثُمَّ أُكِّدَتْ الْجُمْلَةُ الْجَزَائِيَّةُ بـ " أَنَّ " إذْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ عَلَى حَدِّ تَأْكِيدِهَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } . وَنَظِيرُ الْجَمْعِ بَيْنَ تَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ الْكُبْرَى الْمُرَكَّبَةِ مِنْ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ

وَتَأْكِيدِ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ قَوْله تَعَالَى { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فَلَا يُقَالُ فِي هَذَا " إنَّ " أُعِيدَتْ لِطُولِ الْكَلَامِ وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى { إنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا } وَنَظِيرُهُ : { أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَهُمَا تَأْكِيدَانِ مَقْصُودَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَلَا تَرَى تَأْكِيدَ قَوْلِهِ : { غَفُورٌ رَحِيمٌ } بـ " إنَّ " غَيْرَ تَأْكِيد { مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } لَهُ بـ " أَنَّ " وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } فَهَذَا لَيْسَ مِنْ التَّكْرَارِ فِي شَيْءٍ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ خَبَرُ ( كَانَ ) قُدِّمَ عَلَى اسْمِهَا و " أَنَّ " قَالُوا : فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ الِاسْمُ فَهُمَا اسْمُ كَانَ وَخَبَرُهَا وَالْمَعْنَى : وَمَا كَانَ لَهُمْ قَوْلٌ إلَّا قَوْلُ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } وَنَظِيرُ هَذَا قَوْله تَعَالَى { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلَّا أَنْ قَالُوا } وَالْجَوَابُ قَوْلٌ ؛ وَتَقُولُ : مَا لِفُلَانِ قَوْلٌ إلَّا قَوْلُ : " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " فَلَا تَكْرَارَ أَصْلًا . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ

لَمُبْلِسِينَ } فَهِيَ مِنْ أَشْكَلِ مَا أُورِدَ وَمِمَّا أَعْضَلَ عَلَى النَّاسِ فَهْمُهَا فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِعْرَابِ وَالتَّفْسِيرِ : إنَّهُ عَلَى التَّكْرِيرِ الْمَحْضِ وَالتَّأْكِيدِ قَالَ الزمخشري : { مِنْ قَبْلِهِ } مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا } وَمَعْنَى التَّوْكِيدِ فِيهِ : الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ عَهْدَهُمْ بِالْمَطَرِ قَدْ تَطَاوَلَ وَبَعُدَ فَاسْتَحْكَمَ يَأْسُهُمْ وَتَمَادَى إبْلَاسُهُمْ فَكَانَ الِاسْتِبْشَارُ بِذَلِكَ عَلَى قَدْرِ اهْتِمَامِهِمْ بِذَلِكَ . هَذَا كَلَامُهُ . وَقَدْ اشْتَمَلَ عَلَى دعويين بَاطِلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : قَوْلُهُ : إنَّهُ مِنْ بَابِ التَّكْرِيرِ . وَالثَّانِيَةُ تَمْثِيلُهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا } فَإِنَّ " فِي " الْأُولَى عَلَى حَدِّ قَوْلِك زَيْدٌ فِي الدَّارِ : أَيْ حَاصِلٌ أَوْ كَائِنٌ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمَعْمُولَةٌ لِلْخُلُودِ وَهُوَ مَعْنَى آخَرُ غَيْرُ مَعْنَى مُجَرَّدِ الْكَوْنِ فَلَمَّا اخْتَلَفَ الْعَامِلَانِ ذَكَرَ الْحَرْفَيْنِ فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا كَانَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ لَهُ تَكْرَارٌ وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ تَقُولَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ نَائِمٌ فِيهَا أَوْ سَاكِنٌ فِيهَا وَنَحْوُهُ مِمَّا هُوَ جُمْلَتَانِ مُقَيَّدَتَانِ بِمَعْنَيَيْنِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ } فَلَيْسَ مِنْ التَّكْرَارِ بَلْ تَحْتَهُ مَعْنَى دَقِيقٌ وَالْمَعْنَى فِيهِ : وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ

عَلَيْهِمْ الْوَدْقُ مِنْ قَبْلِ هَذَا النُّزُولِ لَمُبْلِسِينَ فَهُنَا قِبْلِيَّتَانِ : قِبْلِيَّةٌ لِنُزُولِهِ مُطْلَقًا وَقِبْلِيَّةٌ لِذَلِكَ النُّزُولِ الْمُعَيَّنِ أَنْ لَا يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَئِسُوا قَبْلَ نُزُولِهِ يَأْسَيْنَ : يَأْسًا لِعَدَمِهِ مَرْئِيًّا وَيَأْسًا لِتَأَخُّرِهِ عَنْ وَقْتِهِ ؛ فَقَبْلَ الْأُولَى ظَرْفُ الْيَأْسِ وَقَبْلَ الثَّانِيَةِ ظَرْفُ الْمَجِيءِ وَالْإِنْزَالِ . فَفِي الْآيَةِ ظَرْفَانِ مَعْمُولَانِ وَفِعْلَانِ مُخْتَلِفَانِ عَامِلَانِ فِيهِمَا وَهُمَا الْإِنْزَالُ وَالْإِبْلَاسُ فَأَحَدُ الظَّرْفَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِبْلَاسِ وَالثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِالنُّزُولِ ؛ وَتَمْثِيلُ هَذَا : أَنْ تَقُولَ إذَا كُنْت مُعْتَادًا لِلْعَطَاءِ مِنْ شَخْصٍ فَتَأَخَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ أَتَاك بِهِ قَدْ كُنْت آيِسًا .

سُورَةُ النُّورِ
قَالَ الشَّيْخُ الرَّبَّانِيُّ وَالصَّدِيقُ الثَّانِي : إمَامُ الْأَئِمَّةِ وَمُفْتِي الْأُمَّةِ : وَبَحْرُ الْعُلُومِ وَبَدْرُ النُّجُومِ . وَسَنَدُ الْحُفَّاظِ وَفَارِسُ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ : وَفَرِيدُ الْعَصْرِ وَأَوْحَدُ الدَّهْرِ : وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ وَإِمَامُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ : وَعَلَّامَةُ الزَّمَانِ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ : وَعَلَمُ الزُّهَّادِ وَأَوْحَدُ الْعُبَّادِ وَقَامِعُ الْمُبْتَدِعِينَ وَآخِرُ الْمُجْتَهِدِينَ الْبَحْرُ الزَّاخِرُ وَالصَّارِمُ الْبَاتِرُ : أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ شِهَابِ الدِّينِ أَبِي الْمَحَاسِنِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مَجْدِ الدِّينِ أَبِي الْبَرَكَاتِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْخَضِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَضِرِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ وَرَحِمَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ :

فَصْلٌ :
فِي مَعَانٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ سُورَةِ النُّورِ
قَالَ تَعَالَى : { سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فَفَرَضَهَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالتَّقْدِيرِ لِحُدُودِ اللَّهِ الَّتِي مَنْ يَتَعَدَّ حَلَالَهَا إلَى الْحَرَامِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَمَنْ قَرُبَ مِنْ حَرَامِهَا فَقَدْ اعْتَدَى وَتَعَدَّى الْحُدُودَ وَبَيَّنَ فِيهَا فَرْضَ الْعُقُوبَةِ لِلزَّانِيَيْنِ مِائَةَ جِلْدَةٍ وَبَيَّنَ فِيهَا فَرِيضَةَ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَأَنَّهَا أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ وَكَذَلِكَ فَرِيضَةُ شَهَادَةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ وَنَهَى فِيهَا عَنْ تَعَدِّي حُدُودِهِ فِي الْفُرُوجِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْعَوْرَاتِ وَطَاعَةِ ذِي السُّلْطَانِ سَوَاءٌ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ أَوْ فِي وِلَايَتِهِ وَلَا يَخْرُجُ وَلَا يَدْخُلُ إلَّا بِإِذْنِهِ إذْ الْحُقُوقُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ لِلَّهِ فَلَا يَتَعَدَّى حُدُودَهُ وَنَوْعٌ لِلْعِبَادِ فِيهِ أَمْرٌ فَلَا يُفْعَلُ إلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ الْمَالِكُ فَإِذْنُ اللَّهِ هُوَ الْأَصْلُ وَإِذْنُ الْمَالِكِ حَيْثُ أَذِنَ اللَّهُ وَجَعَلَ لَهُ الْإِذْنَ فِيهِ . وَلِهَذَا ضَمَّنَهَا الِاسْتِئْذَانَ فِي الْمَسَاكِنِ وَالْمَطَاعِمِ وَالِاسْتِئْذَانَ فِي

الْأُمُورِ الْجَامِعَةِ كَالصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِهِمَا وَوَسَطِهَا بِذِكْرِ النُّورِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ كُلِّ خَيْرٍ وَصَلَاحُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يَنْشَأُ عَنْ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ وَعَنْ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ ضِيَاءٌ فَإِنَّ حِفْظَ الْحُدُودِ بِتَقْوَى اللَّهِ يَجْعَلُ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ نُورًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ . } فَضِدُّ النُّورِ الظُّلْمَةُ وَلِهَذَا عَقَّبَ ذِكْرَ النُّورِ وَأَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا بِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ فَقَالَ : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } إلَى قَوْلِهِ { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } وَكَذَلِكَ الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ ظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَسَوَادًا فِي الْوَجْهِ وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ وَبُغْضًا فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ضَرَبَ مَثَلَ إيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنُّورِ وَمَثَلَ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ بِالظُّلْمَةِ . و " الْإِيمَانُ " اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ . و " الْكُفْرُ "

اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيَنْهَى عَنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَكْفُرُ الْعَبْدُ إذَا كَانَ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَبَعْضُ فُرُوعِ الْكُفْرِ مِنْ الْمَعَاصِي كَمَا لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إذَا كَانَ مَعَهُ أَصْلُ الْكُفْرِ وَبَعْضُ فُرُوعِ الْإِيمَانِ - وَلِغَضِّ الْبَصَرِ اخْتِصَاصٌ بِالنُّورِ كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْعَبْدَ إذَا أَذْنَبَ نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ زَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الران الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ { إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } وَالْغَيْنُ حِجَابٌ رَقِيقٌ أَرَقُّ مِنْ الْغَيْمِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ اسْتِغْفَارًا يُزِيلُ الْغَيْنَ عَنْ الْقَلْبِ فَلَا يَصِيرُ نُكْتَةً سَوْدَاءَ كَمَا أَنَّ النُّكْتَةَ السَّوْدَاءَ إذَا أُزِيلَتْ لَا تَصِيرُ رَيْنًا . وَقَالَ حُذَيْفَةُ : إنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو فِي الْقَلْبِ لمظة بَيْضَاءَ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ إيمَانًا ازْدَادَ قَلْبُهُ بَيَاضًا فَلَوْ كَشَفْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ لَرَأَيْتُمُوهُ أَبْيَضَ مُشْرِقًا وَإِنَّ النِّفَاقَ يَبْدُو مِنْهُ لمظة سَوْدَاءُ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ نِفَاقًا ازْدَادَ قَلْبُهُ سَوَادًا فَلَوْ كَشَفْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُنَافِقِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَسْوَدَ مِرْبَدًا . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ النُّورَ إذَا دَخَلَ الْقَلْبَ انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ قِيلَ : فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَةٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ

التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالْإِنَابَةُ إلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ } . وَفِي خُطْبَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الَّتِي كَتَبَهَا فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالزَّنَادِقَةِ قَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَتْرَةً مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لإبليس قَدْ أَحْيَوْهُ وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ حَيْرَانَ قَدْ هَدَوْهُ فَمَا أَحْسَنَ أَثَرُهُمْ عَلَى النَّاسِ وَأَقْبَحَ أَثَرُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ وَأَطْلَقُوا عَنَانَ الْفِتْنَةِ فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُجْمِعُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُبَهِ الْمُضِلِّينَ . قُلْت : وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بَيْنَ أَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَبَيْنَ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ بِمَا يُشْبِهُ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } { وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ } { وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } { وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ } وَقَالَ : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ } الْآيَةُ وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ :

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } الْآيَاتُ وَقَالَ : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } الْآيَةُ . وَقَالَ : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } . وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . وَهَذَا النُّورُ الَّذِي يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا عَلَى حُسْنِ عَمَلِهِ وَاعْتِقَادِهِ يَظْهَرُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } الْآيَةُ فَذَكَرَ النُّورَ هُنَا عَقِيبَ أَمْرِهِ بِالتَّوْبَةِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ النُّورِ عَقِيبَ أَمْرِهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ وَأَمْرِهِ بِالتَّوْبَةِ فِي قَوْلِهِ : { وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وَذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ أَمْرِهِ بِحُقُوقِ الْأَهْلِينَ وَالْأَزْوَاجِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّسَاءِ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } الْآيَاتُ إلَى قَوْلِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ : { مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . } فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَفْقِدُونَ النُّورَ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَمْشُونَ بِهِ وَيَطْلُبُونَ الِاقْتِبَاسَ مِنْ نُورِهِمْ فَيُحْجَبُونَ عَنْ ذَلِكَ بِحِجَابِ يُضْرَبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا فَقَدُوا النُّورَ فِي الدُّنْيَا كَانَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } الْآيَةُ فَأَمَرَ بِعُقُوبَتِهِمَا وَعَذَابِهِمَا بِحُضُورِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ بِشَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بِشَهَادَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ إذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً كَانَتْ عُقُوبَتُهَا

ظَاهِرَةً ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : " مَنْ أَذْنَبَ سِرًّا فَلْيَتُبْ سِرًّا وَمَنْ أَذْنَبَ عَلَانِيَةً فَلْيَتُبْ عَلَانِيَةً " وَلَيْسَ مِنْ السَّتْرِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ } - بَلْ ذَلِكَ إذَا سُتِرَ كَانَ ذَلِكَ إقْرَارًا لِمُنْكَرِ ظَاهِرٍ : وَفِي الْحَدِيثِ { إنَّ الْخَطِيئَةَ إذَا خُفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا وَإِذَا أُعْلِنَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ } فَإِذَا أُعْلِنَتْ أُعْلِنَتْ عُقُوبَتُهَا بِحَسَبِ الْعَدْلِ الْمُمْكِنِ .
وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُعْلِنِ بِالْبِدَعِ وَالْفُجُورِ غَيْبَةٌ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْلَنَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَأَدْنَى ذَلِكَ أَنْ يُذَمَّ عَلَيْهِ لِيَنْزَجِرَ وَيَكُفَّ النَّاسُ عَنْهُ وَعَنْ مُخَالَطَتِهِ وَلَوْ لَمْ يُذَمَّ وَيُذْكَرْ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفُجُورِ وَالْمَعْصِيَةِ أَوْ الْبِدْعَةِ لَاغْتَرَّ بِهِ النَّاسُ وَرُبَّمَا حَمَلَ بَعْضَهُمْ عَلَى أَنْ يَرْتَكِبَ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَيَزْدَادَ أَيْضًا هُوَ جُرْأَةً وَفُجُورًا وَمَعَاصِيَ فَإِذَا ذُكِرَ بِمَا فِيهِ انْكَفَّ وَانْكَفَّ غَيْرُهُ عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ صُحْبَتِهِ وَمُخَالَطَتِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : { أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ اُذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرُهُ النَّاسُ } وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا و " الْفُجُورُ " اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مُتَجَاهِرٍ بِمَعْصِيَةِ أَوْ كَلَامٍ قَبِيحٍ يَدُلُّ السَّامِعَ لَهُ عَلَى فُجُورِ قَلْبِ قَائِلِهِ . وَلِهَذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْهَجْرِ إذَا أَعْلَنَ بِدْعَةً أَوْ مَعْصِيَةً أَوْ فُجُورًا أَوْ تَهَتُّكًا أَوْ مُخَالَطَةً لِمَنْ هَذَا حَالُهُ بِحَيْثُ لَا يُبَالِي بِطَعْنِ النَّاسِ عَلَيْهِ فَإِنَّ

هَجْرَهُ نَوْعُ تَعْزِيرٍ لَهُ فَإِذَا أَعْلَنَ السَّيِّئَات أُعِلْنَ هَجْرُهُ وَإِذَا أَسَرَّ أُسِرَّ هَجْرُهُ إذْ الْهِجْرَةُ هِيَ الْهِجْرَةُ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَهِجْرَةُ السَّيِّئَاتِ هِجْرَةُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } وَقَالَ : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ . } وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : أَنَّ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمَّا شَرِبَ الْخَمْرَ بِمِصْرِ وَذَهَبَ بِهِ أَخُوهُ إلَى أَمِيرِ مِصْرَ عَمْرِو بْنِ العاص لِيَجْلِدَهُ الْحَدَّ جَلَدَهُ الْحَدَّ سِرًّا وَكَانَ النَّاسُ يَجْلِدُونَ عَلَانِيَةً فَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى عَمْرٍو يُنْكِرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَلَمْ يَعْتَدَّ عُمَرُ بِذَلِكَ الْجَلْدِ حَتَّى أَرْسَلَ إلَى ابْنِهِ فَأَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ فَجَلَدَهُ الْحَدَّ عَلَانِيَةً وَلَمْ يَرَ الْوُجُوبَ سَقَطَ بِالْحَدِّ الْأَوَّلِ وَعَاشَ ابْنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُدَّةً ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ وَلَمْ يَمُتْ مِنْ ذَلِكَ الْجَلْدِ وَلَا ضَرَبَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا يَزْعُمُهُ الْكَذَّابُونَ . قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } الْآيَةُ : نَهَى تَعَالَى عَمَّا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ فِي الْعُقُوبَاتِ عُمُومًا وَفِي أَمْرِ الْفَوَاحِشِ خُصُوصًا فَإِنَّ هَذَا الْبَابَ مَبْنَاهُ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ وَالرَّأْفَةِ الَّتِي يُزَيِّنُهَا الشَّيْطَانُ بِانْعِطَافِ الْقُلُوبِ عَلَى أَهْلِ الْفَوَاحِشِ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ حَتَّى يَدْخُلَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْآفَةِ فِي الدِّيَاثَةِ وَقِلَّةِ الْغَيْرَةِ إذَا

رَأَى مَنْ يَهْوَى بَعْضُ الْمُتَّصِلِينَ بِهِ أَوْ يُعَاشِرُهُ عِشْرَةً مُنْكَرَةً أَوْ رَأَى لَهُ مَحَبَّةً أَوْ مَيْلًا وَصَبَابَةً وَعِشْقًا وَلَوْ كَانَ وَلَدُهُ رَأَفَ بِهِ وَظَنَّ أَنَّ هَذَا مِنْ رَحْمَةِ الْخَلْقِ وَلِينِ الْجَانِبِ بِهِمْ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ دِيَاثَةٌ وَمَهَانَةٌ وَعَدَمُ دِينٍ وَضَعْفُ إيمَانٍ وَإِعَانَةٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَتَرْكٌ لِلتَّنَاهِي عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ . وَتَدْخُلُ النَّفْسُ بِهِ فِي الْقِيَادَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الدِّيَاثَةِ كَمَا دَخَلَتْ عَجُوزُ السُّوءِ مَعَ قَوْمِهَا فِي اسْتِحْسَانِ مَا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ إتْيَانِ الذُّكْرَانِ وَالْمُعَاوَنَةِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَتْ فِي الظَّاهِرِ مُسَلِّمَةً عَلَى دِينِ زَوْجِهَا لُوطٍ وَفِي الْبَاطِنِ مُنَافِقَةً عَلَى دِينِ قَوْمِهَا لَا تَقْلِي عَمَلَهُمْ كَمَا قَلَاهُ لُوطٌ ؛ فَإِنَّهُ أَنْكَرَهُ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ وَأَبْغَضَهُ وَكَمَا فَعَلَ النِّسْوَةُ اللَّوَاتِي بِمِصْرِ مَعَ يُوسُفَ فَإِنَّهُنَّ أَعَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ عَلَى مَا دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ مَعَهَا ؛ وَلِهَذَا قَالَ { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ } وَذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهِنَّ { إنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْفَوَاحِشِ مَرَضٌ فِي الْقَلْبِ فَإِنَّ الشَّهْوَةَ تُوجِبُ السُّكْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ لُوطٍ : { إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ } الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ . فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَكُونُ مَقْصُودُهُ بَعْضَ هَذِهِ

الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : كَالنَّظَرِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالْمُخَاطَبَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْتَقِي إلَى اللَّمْسِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَبِّلُ وَيَنْظُرُ وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ وَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَأْخُذَنَا بِالزُّنَاةِ رَأْفَةٌ بَلْ نُقِيمُ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ هَجْرٍ وَأَدَبٍ بَاطِنٍ وَنَهْيٍ وَتَوْبِيخٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ بَلْ يَنْبَغِي شَنَآنُ الْفَاسِقِينَ وَقْلَيْهِمْ عَلَى مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَنْوَاعِ الزِّنَا الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ وَغَيْرِهِ . وَذَلِكَ أَنْ الْمُحِبَّ الْعَاشِقَ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يُحِبُّ النَّظَرَ وَالِاسْتِمْتَاعَ بِصُورَةِ ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ وَكَلَامِهِ فَلَيْسَ دَوَاؤُهُ فِي أَنْ يُعْطِيَ نَفْسَهُ مَحْبُوبَهَا وَشَهْوَتَهَا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَرِيضٌ وَالْمَرِيضُ إذَا اشْتَهَى مَا يَضُرُّهُ أَوْ جَزِعَ مِنْ تَنَاوُلِ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ فَأَخَذَتْنَا رَأْفَةٌ عَلَيْهِ حَتَّى نَمْنَعَهُ شُرْبَهُ فَقَدْ أَعَنَّاهُ عَلَى مَا يَضُرُّهُ أَوْ يُهْلِكُهُ وَعَلَى تَرْكِ مَا يَنْفَعُهُ فَيَزْدَادُ سَقَمُهُ فَيَهْلَكُ وَهَكَذَا الْمُذْنِبُ الْعَاشِقُ وَنَحْوُهُ هُوَ مَرِيضٌ فَلَيْسَ الرَّأْفَةُ بِهِ وَالرَّحْمَةُ أَنْ يُمَكَّنَ مِمَّا يَهْوَاهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَا يُعَانَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ تَرْكِ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الطَّاعَاتِ الَّتِي تُزِيلُ مَرَضَهُ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } أَيْ فِيهَا الشِّفَاءُ وَأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ . بَلْ الرَّأْفَةُ بِهِ أَنْ يُعَانَ عَلَى شُرْبِ الدَّوَاءِ وَإِنْ كَانَ كَرِيهًا : مِثْلَ الصَّلَاةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ وَأَنْ يُحْمَى عَمَّا يُقَوِّي دَاءَهُ وَيَزِيدُ عِلَّتَهُ وَإِنْ اشْتَهَاهُ . وَلَا يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لَهُ اسْتِمْتَاعٌ

بِمُحَرَّمِ يَسْكُنُ بَلَاؤُهُ بَلْ ذَلِكَ يُوجِبُ لَهُ انْزِعَاجًا عَظِيمًا وَزِيَادَةً فِي الْبَلَاءِ وَالْمَرَضِ فِي الْمَآلِ فَإِنَّهُ وَإِنْ سَكَنَ بَلَاؤُهُ وَهَدَأَ مَا بِهِ عَقِيبَ اسْتِمْتَاعِهِ أَعْقَبَهُ ذَلِكَ مَرَضًا عَظِيمًا عَسِيرًا لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ بَلْ الْوَاجِبُ دَفْعُ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا قَبْلَ اسْتِحْكَامِ الدَّاءِ الَّذِي تَرَامَى بِهِ إلَى الْهَلَاكِ وَالْعَطَبِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَلَمَ الْعِلَاجِ النَّافِعِ أَيْسَرُ وَأَخَفُّ مِنْ أَلَمِ الْمَرَضِ الْبَاقِي . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةَ كُلَّهَا أَدْوِيَةٌ نَافِعَةٌ يُصْلِحُ اللَّهُ بِهَا مَرَضُ الْقُلُوبِ وَهِيَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ الدَّاخِلَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } فَمَنْ تَرَكَ هَذِهِ الرَّحْمَةَ النَّافِعَةَ لِرَأْفَةِ يَجِدُهَا بِالْمَرِيضِ فَهُوَ الَّذِي أَعَانَ عَلَى عَذَابِهِ وَهَلَاكِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ إلَّا الْخَيْرَ إذْ هُوَ فِي ذَلِكَ جَاهِلٌ أَحْمَقُ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ الْجُهَّالِ بِمَرْضَاهُمْ وَبِمَنْ يُرَبُّونَهُ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَغِلْمَانِهِمْ وَغَيْرِهِمْ فِي تَرْكِ تَأْدِيبِهِمْ وَعُقُوبَتِهِمْ عَلَى مَا يَأْتُونَهُ مِنْ الشَّرِّ وَيَتْرُكُونَهُ مِنْ الْخَيْرِ رَأْفَةً بِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ فَسَادِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَأْخُذُهُ الرَّأْفَةُ بِهِمْ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَرَضِ وَذَوْقِهِ مَا ذَاقُوهُ مِنْ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَبُرُودَةِ الْقَلْبِ وَالدِّيَاثَةِ فَيَتْرُكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ وأديثهم فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَنُظَرَائِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمَرْضَى قَدْ وَصَفَ لَهُمْ الطَّبِيبُ مَا يَنْفَعُهُمْ

فَوَجَدَ كَبِيرُهُمْ مَرَارَتَهُ فَتَرَكَ شُرْبَهُ وَنَهَى عَنْ سَقْيِهِ لِلْبَاقِينَ . وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ الرَّأْفَةُ لِكَوْنِ أَحَدِ الزَّانِيَيْنِ مَحْبُوبًا لَهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِصُورَتِهِ وَجِمَالِهِ بِعِشْقِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لِقُرَابَةِ بَيْنَهُمَا أَوْ لِمَوَدَّةِ أَوْ لِإِحْسَانِهِ إلَيْهِ أَوْ لِمَا يَرْجُو مِنْهُ مِنْ الدُّنْيَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ لِمَا فِي الْعَذَابِ مِنْ الْأَلَمِ الَّذِي يُوجِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ . وَيَتَأَوَّلُ : { إنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ } وَيَقُولُ الْأَحْمَقُ : { الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } وَغَيْرُ ذَلِكَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ ذَلِكَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ بَلْ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ } فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُبْغِضًا لِلْفَوَاحِشِ كَارِهًا لَهَا وَلِأَهْلِهَا وَلَا يَغْضَبُ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا وَسَمَاعِهَا لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِلْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا فَيُبْقَى الْعَذَابُ عَلَيْهَا يُوجِبُ أَلَمَ قَلْبِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } الْآيَةُ . فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ هُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ الْمَبْنِيَّ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ؛ فَإِنَّ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ مَا لَمْ تَكُنْ مُضَيِّعَةً لِدِينِ اللَّهِ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ } وَقَالَ : { لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ } وَقَالَ :

{ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ } وَفِي السُّنَنِ : { الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } . فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ حَسَنَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ بِخِلَافِ الرَّأْفَةِ فِي دِينِ اللَّهِ فَإِنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَالشَّيْطَانُ . يُرِيدُ مِنْ الْإِنْسَانِ الْإِسْرَافَ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا فَإِنَّهُ إنْ رَآهُ مَائِلًا إلَى الرَّحْمَةِ زَيَّنَ لَهُ الرَّحْمَةَ حَتَّى لَا يُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ ؛ وَلَا يَغَارَ لِمَا يَغَارُ اللَّهُ مِنْهُ وَإِنْ رَآهُ مَائِلًا إلَى الشِّدَّةِ زَيَّنَ لَهُ الشِّدَّةَ فِي غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ حَتَّى يَتْرُكَ مِنْ الْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ وَاللِّينِ وَالصِّلَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَتَعَدَّى فِي الشِّدَّةِ فَيَزِيدُ فِي الذَّمِّ وَالْبُغْضِ وَالْعِقَابِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ : فَهَذَا يَتْرُكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَهُوَ مَذْمُومٌ مُذْنِبٌ فِي ذَلِكَ وَيُسْرِفُ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ الشِّدَّةِ حَتَّى يَتَعَدَّى الْحُدُودَ وَهُوَ مِنْ إسْرَافِهِ فِي أَمْرِهِ . فَالْأَوَّلُ مُذْنِبٌ وَالثَّانِي مُسْرِفٌ { إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } فَلْيَقُولَا جَمِيعًا : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } . وقَوْله تَعَالَى { إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فَالْمُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَنْهَى عَمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّهُ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فَتَارَةً تَغْلِبُ عَلَيْهِ الرَّأْفَةُ

هَوًى وَتَارَةً تَغْلِبُ عَلَيْهِ الشِّدَّةُ هَوًى فَيَتَّبِعُ مَا يَهْوَاهُ فِي الْجَانِبَيْنِ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } فَإِنَّ الزِّنَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَمَّا النَّظَرُ وَالْمُبَاشَرَةُ فَاللَّمَمُ مِنْهَا مَغْفُورٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى النَّظَرِ أَوْ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ صَارَ كَبِيرَةً وَقَدْ يَكُونُ الْإِصْرَارُ عَلَى ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ قَلِيلِ الْفَوَاحِشِ فَإِنَّ دَوَامَ النَّظَرِ بِالشَّهْوَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الْعِشْقِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ بِكَثِيرِ مِنْ فَسَادِ زِنَا لَا إصْرَارَ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّاهِدِ الْعَدْلِ : أَنْ لَا يَأْتِيَ كَبِيرَةً وَلَا يُصِرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ { لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ } . بَلْ قَدْ يَنْتَهِي النَّظَرُ وَالْمُبَاشَرَةُ بِالرَّجُلِ إلَى الشِّرْكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } . وَلِهَذَا لَا يَكُونُ عِشْقُ الصُّوَرِ إلَّا مِنْ ضَعْفِ مُحِبَّةِ اللَّهِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي الْقُرْآنِ عَنْ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ الْمُشْرِكَةِ وَعَنْ قَوْمِ لُوطٍ الْمُشْرِكِينَ وَالْعَاشِقُ الْمُتَيَّمُ يَصِيرُ عَبْدًا لِمَعْشُوقِهِ مُنْقَادًا لَهُ أَسِيرَ الْقَلْبِ لَهُ . وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذِكْرَ الْحُدُودِ إنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ

مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سُخْطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ مَا لَيْسَ فِيهِ حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ } فَالشَّافِعُ فِي تَعْطِيلِ الْحُدُودِ مُضَادٌّ لِلَّهِ فِي أَمْرِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى تَعَدِّي الْحُدُودِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَأْخُذَ الْمُؤْمِنَ رَأْفَةٌ بِأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَالْمَعَاصِي وَالظُّلْمَةِ . وَجِمَاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ قَالَ { أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ } وَقَالَ { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } فَإِنَّ هَذِهِ الْكَبَائِرَ كُلَّهَا مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَكُنْ الْمُسْلِمُ كَافِرًا بِمُجَرَّدِ ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ ؛ وَلَكِنَّهُ يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ كَمَا فِي الصِّحَاحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ فَفِيهِمْ مِنْ نَقْصِ الْإِيمَانِ مَا يُوجِبُ زَوَالَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بِهِمْ وَاسْتَحَقُّوا بِتِلْكَ الشُّعْبَةِ مِنْ الشِّدَّةِ بِقَدْرِ مَا فِيهَا وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَرْحَمُ وَيُحِبُّ مِنْ وَجْهٍ وَيُعَذَّبُ وَيُبْغَضُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَيُثَابُ مِنْ وَجْهٍ وَيُعَاقَبُ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ خِلَافًا لِمَا يَزْعُمُهُ الْخَوَارِجُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ فَأَوْجَبُوا خُلُودَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ . وَقَالَ مَنْ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ : لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ .

وَلِهَذَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْعُقُوبَاتُ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ رَأْفَةٌ أَنْ يُرْحَمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَيُحْسَنُ إلَيْهِ وَيُدْعَى لَهُ وَهَذَا الْجَانِبُ أَغْلَبُ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا أَنَّهُ الْغَالِبُ فِي صِفَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ : إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي وَفِي رِوَايَةٍ سَبَقَتْ غَضَبِي } وَقَالَ : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } وَقَالَ : { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَجَعَلَ الرَّحْمَةَ صِفَةً لَهُ مَذْكُورَةً فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَأَمَّا الْعَذَابُ وَالْعِقَابُ فَجَعَلَهُمَا مِنْ مَفْعُولَاتِهِ غَيْرَ مَذْكُورَيْنِ فِي أَسْمَائِهِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْغِلْظَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } وَقَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } الْآيَاتُ إلَى قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ : { حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } وَكَذَلِكَ آخِرُ الْمُجَادَلَةِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ حطان بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { خُذُوا عَنِّي : قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا : الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ . وَقَالَ الْآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ - يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي : إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا وَإِنَّهُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ فَافْتُدِيَتْ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ وَإِنِّي سَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا : عَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ : أَمَّا الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْوَلِيدَةُ فَرَدٌّ عَلَيْك وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَاغْدُ يا أُنِيسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا } . فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ أَحَدُ مَنْ رَجَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمَ أَيْضًا الْيَهُودِيِّينَ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ وَرَجَمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ وَرَجَمَ الغامدية . وَرَجَمَ غَيْرَ هَؤُلَاءِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ بَيَانِ السَّبِيلِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُنَّ : وَهُوَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ فِي الْبِكْرِ وَفِي الثَّيِّبِ الرَّجْمُ لَكِنَّ الَّذِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ الْجَلْدُ وَالنَّفْيُ لِلْبِكْرِ مِنْ الرِّجَالِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَفِيهَا ذِكْرُ الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ لِلنِّسَاءِ خَاصَّةً ؛ وَمِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ مَنْ لَا يُوجِبُ مَعَ الْحَدِّ تَغْرِيبًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يُوجِبُونَ مَعَ رَجْمٍ جِلْدَ مِائَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُمَا جَمِيعًا كَمَا فَعَلَ عَلِيٌّ بشراحة الهمدانية حَيْثُ جَلَدَهَا ثُمَّ رَجَمَهَا وَقَالَ : " جَلَدْتهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتهَا بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ "

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ : وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مَا يُخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِالْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ إلَى الْمَمَاتِ أَوْ إلَى جَعْلِ السَّبِيلِ ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ فَقَالَ : { وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا } فَإِنَّ الْأَذَى يَتَنَاوَلُ الصِّنْفَيْنِ وَأَمَّا الْإِمْسَاكُ فَيُخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ فَالنِّسَاءُ يُؤْذَيْنَ وَيُحْبَسْنَ بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ فِيهِمْ بِالْحَبْسِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ أَنْ تُصَانَ وَتُحْفَظَ بِمَا لَا يَجِبُ مِثْلُهُ فِي الرَّجُلِ وَلِهَذَا خُصَّتْ بِالِاحْتِجَابِ وَتَرْكِ إبْدَاءِ الزِّينَةِ وَتَرْكِ التَّبَرُّجِ فَيَجِبُ فِي حَقِّهَا الِاسْتِتَارُ بِاللِّبَاسِ وَالْبُيُوتِ مَا لَا يَجِبُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ . لِأَنَّ ظُهُورَ النِّسَاءِ سَبَبُ الْفِتْنَةِ وَالرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَيْهِنَّ . وَقَوْلُهُ { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ : عَلَى أَنَّ نِصَابَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْفَاحِشَةِ أَرْبَعَةٌ وَعَلَى أَنَّ الشُّهَدَاءَ بِهَا عَلَى نِسَائِنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا مِنَّا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَ أَحْمَدَ : أَشْهَرُهُمَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِيَةُ أَنَّهَا تُقْبَلُ اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ إلَّا

أُمَّتِي فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ تَجُوزُ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ } فَإِنَّهُ لَمْ يَنْفِ شَهَادَةَ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بَلْ مَفْهُومُ ذَلِكَ جَوَازُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ؛ وَلَكِنْ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } وَفِي آخِرِ الْحَجِّ مِثْلُهَا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلَّغْت ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ هَلْ بَلَّغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَيُقَالُ لِنُوحِ : مَنْ يَشْهَدُ لَك فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيُؤْتَى بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ بَلَّغَ } وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْجِنَازَتَيْنِ وَأَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى إحْدَاهُمَا خَيْرًا وَعَلَى الْأُخْرَى شَرًّا فَقَالَ : { أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ } الْحَدِيثُ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ محضوا الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُشَوِّبُوهُ بِغَيْرِهِ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةً عَلَى سَائِرِ فِرَقِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ فَإِنَّ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالظُّلْمِ مَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ كَمَالِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ : { يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولَهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ } .

وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ جَوَّزَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } الْآيَةُ ثُمَّ قَالَ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ : دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ثُمَّ نَسْخُ الظَّاهِرِ لَا يُوجِبُ نَسْخَ الْفَحْوَى وَالتَّنْبِيهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نُصُوصِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الْمُوَافِقِينَ لِلسَّلَفِ فِي الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا يُوَافِقُهَا مِنْ الْحَدِيثِ أَوْجَهُ وَأَقْوَى فَإِنَّ مَذْهَبَهُ قَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ فَإِذَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ لِغَيْرِهِمْ فَعَلَى بَعْضِهِمْ أجوز وأجوز . وَلِهَذَا يَجُوزُ فِي الشَّهَادَةِ لِلضَّرُورَةِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حَتَّى نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِنَّ فِي الْحُدُودِ الَّتِي تَكُونُ فِي مَجَامِعِهِنَّ الْخَاصَّةِ . مِثْلَ الْحَمَّامَاتِ وَالْعُرْسَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَالْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يَخْتَلِطُ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ أَوْلَى أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إذَا حَكَمْنَا بَيْنَهُمْ وَاَللَّهُ أَمَرَنَا أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ الزَّانِيَيْنِ مِنْ الْيَهُودِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعِ إقْرَارٍ مِنْهُمَا وَلَا شَهَادَةِ مُسْلِمٍ عَلَيْهِمَا وَلَوْلَا قَبُولُ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

ثُمَّ إنَّ فِي تَوَلِّي مَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا نِزَاعٌ فَهَلْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ الْعَدْلُ فِي دِينِهِ مَالَ وَلَدِهِ الْكَافِرِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ : أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلَى بِبَعْضِ وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ وقَوْله تَعَالَى { فَآذُوهُمَا } أَمْرٌ بِالْأَذَى مُطْلَقًا وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّتَهُ وَصِفَتَهُ وَلَا قَدْرَهُ بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ يَجِبُ إيذَاؤُهُمَا وَلَفْظُ " الْأَذَى " يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَقْوَالِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ : { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلَّا أَذًى } وَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا أَحَدَ أَصْبِرُ عَلَى أَذَى سَمْعِهِ مِنْ اللَّهِ } وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي " كِتَابِ الصَّارِمِ الْمَسْلُولِ " . وَهَذَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ { عَاقِبُوهُ وَآذُوهُ } وَقَالَ { فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } وَالْإِعْرَاضُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْإِيذَاءِ . فَالْمُذْنِبُ لَا يَزَالُ يُؤْذَى وَيُنْهَى وَيُوعَظُ وَيُوَبَّخُ وَيُغَلَّظُ لَهُ فِي الْكَلَامِ إلَى أَنْ يَتُوبَ وَيُطِيعَ اللَّهَ وَأَدْنَى ذَلِكَ هَجْرُهُ فَلَا يُكَلَّمَ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُمْ وَصَلَاحُهُمْ وَهَذِهِ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ لَا نَسْخَ فِيهَا فَمَنْ أَتَى الْفَاحِشَةَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إيذَاؤُهُ بِالْكَلَامِ الزَّاجِرِ لَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ إلَى

أَنْ يَتُوبَ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَحْدُودًا بِقَدَرِ وَلَا صِفَةٍ إلَّا مَا يَكُونُ زَاجِرًا لَهُ دَاعِيًا إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَوْبَتُهُ وَصَلَاحُهُ وَقَدْ عَلَّقَهُ تَعَالَى عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ : التَّوْبَةُ وَالْإِصْلَاحُ . فَإِذَا لَمْ يُوجَدَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْإِعْرَاضِ مَوْجُودًا فَيُؤْذَى وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْإِيذَاءِ لِلَّذَيْنِ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ مِنَّا وَدَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَذَى فِي حَقِّ مَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ فَأَمَّا مَنْ تَابَ بِتَرْكِ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَلَمْ يَصْلُحْ فَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ صَلَاحُ الْعَمَلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَهَذِهِ تُشْبِهُ قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } إلَى قَوْلِهِ { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ ثُمَّ عَلَّقَ تَخْلِيَةَ سَبِيلِهِمْ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ : وَهُوَ إقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مَعَ أَنَّهُمْ إذَا تَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ ثُمَّ إنْ صَلَّوْا وَزَكَّوْا وَإِلَّا عُوقِبُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ فِي التَّوْبَةِ شَرَعَ الْكَفَّ عَنْ أَذَاهُ وَيَكُونُ الْأَمْرُ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى التَّمَامِ وَكَذَلِكَ التَّائِبُ مِنْ الْفَاحِشَةِ يَشْرَعُ الْكَفُّ عَنْ أَذَاهُ إلَى أَنْ يَصْلُحَ فَإِنْ أَصْلَحَ وَجَبَ الْإِعْرَاضُ عَنْ أَذَاهُ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لَمْ يَجِبْ الْكَفُّ عَنْ أَذَاهُ بَلْ يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ أَذَاهُ . وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى التَّعْزِيرِ بِالْأَذَى وَالْأَذَى وَإِنْ كَانَ

يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ فِي مُرْتَكِبِ الْفَاحِشَةِ فَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ بَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ : { إنَّك قَدْ آذَيْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي حَقِّ فَاطِمَةَ ابْنَتِهِ { يُرِيبُنِي مَا رَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا } وَكَذَلِكَ قَالَ لِمَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ : { إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ } وَقَالَ لِصَاحِبِ السِّهَامِ : { خُذْ بِنِصَالِهَا لِئَلَّا تُؤْذِيَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } . وقَوْله تَعَالَى { فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا } هَلْ يَكُونُ مِنْ تَوْبَتِهِ اعْتِرَافُهُ بِالذَّنْبِ فَإِذَا ثَبَتَ الذَّنْبُ بِإِقْرَارِهِ فَجَحَدَ إقْرَارَهُ وَكَذَّبَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِهِ أَوْ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ هَلْ يُعَدُّ بِذَلِكَ تَائِبًا ؟ فِيهِ نِزَاعٌ فَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لِمَنْ جَحَدَ وَإِنَّمَا التَّوْبَةُ لِمَنْ أَقَرَّ وَتَابَ وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ أُتِيَ بِجَمَاعَةِ مِمَّنْ شَهِدَ عَلَيْهِمْ بِالزَّنْدَقَةِ فَاعْتَرَفَ مِنْهُمْ نَاسٌ فَتَابُوا فَقَبِلَ تَوْبَتَهُمْ وَجَحَدَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ فَقَتَلَهُمْ وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ إنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبِ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . فَمَنْ أَذْنَبَ سِرًّا فَلْيَتُبْ سِرًّا وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ ذَنْبَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { مَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ

فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ } وَفِي الصَّحِيحِ : { كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ عَلَى الذَّنْبِ قَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ } فَإِذَا ظَهَرَ مِنْ الْعَبْدِ الذَّنْبُ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ التَّوْبَةِ وَمَعَ الْجُحُودِ لَا تَظْهَرُ التَّوْبَةُ فَإِنَّ الْجَاحِدَ يَزْعُمُ أَنَّهُ غَيْرُ مُذْنِبٍ ؛ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَسْتَعْمِلُونَ ذَلِكَ فِيمَنْ أَظْهَرَ بِدْعَةً أَوْ فُجُورًا فَإِنَّ هَذَا أَظْهَرُ حَالِ الضَّالِّينَ وَهَذَا أَظْهَرُ حَالِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَمِنْ أَذَاهُ مَنْعُهُ - مَعَ الْقُدْرَةِ - مِنْ الْإِمَامَةِ وَالْحُكْمِ وَالْفُتْيَا وَالرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَأَمَّا بِدُونِ الْقُدْرَةِ فَلْيَفْعَلْ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ : { وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا } فَأَمَرَ بِإِيذَائِهِمَا وَلَمْ يُعَلِّقْ ذَلِكَ عَلَى اسْتِشْهَادِ أَرْبَعَةٍ كَمَا عَلَّقَ ذَلِكَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ هُنَا كَمَا أَمَرَ بِهِ هُنَاكَ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ وَاحِدًا مِثْلَ الْإِعْتَاقِ فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُتَّفِقًا فِي الْجِنْسِ دُونَ النَّوْعِ كَإِطْلَاقِ الْأَيْدِي فِي التَّيَمُّمِ وَتَقْيِيدِهَا فِي الْوُضُوءِ إلَى الْمَرَافِقِ وَإِطْلَاقِ سِتِّينَ مِسْكِينًا فِي الْإِطْعَامِ وَتَقْيِيدِ الْإِعْتَاقِ بِالْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ كِلَاهُمَا عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ يُرَادُ بِهَا نَفْعُ الْخَلْقِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَلَمْ يَحْمِلْ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي قَوْلِهِ : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ

اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } الْآيَةُ : وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } قَالَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الدِّينِ : الشَّرْطُ فِي الرَّبَائِبِ خَاصَّةً وَقَالُوا : أَبْهَمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ وَالْمُبْهَمُ هُوَ الْمُطْلَقُ وَالْمَشْرُوطُ فِيهِ هُوَ الْمُؤَقَّتُ الْمُقَيَّدُ فَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَحَلَائِلُ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ وَالرَّبَائِبُ لَا يَحْرُمْنَ إلَّا إذَا دُخِلَ بِأُمَّهَاتِهِنَّ ؛ لَكِنْ تَنَازَعُوا هَلْ الْمَوْتُ كَالدُّخُولِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُخْتَلِفٌ وَالْقَيْدُ لَيْسَ مُتَسَاوِيًا فِي الْأَعْيَانِ ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ جِنْسٍ لَيْسَ مِثْلَ تَحْرِيمِ جِنْسٍ آخَرَ يُخَالِفُهُ كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الدَّمِ وَالْمِيتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَمَّا كَانَ أَجْنَاسًا فَلَيْسَ تَقْيِيدُ الدَّمِ بِكَوْنِهِ مَسْفُوحًا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ أَنْ يَكُونَ مَسْفُوحًا وَهُنَا الْقَيْدُ كَوْنُ الرَّبِيبَةِ مَدْخُولًا بِأُمِّهَا وَالدُّخُولُ بِالْأُمِّ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الْحَلِيلَتَيْنِ وَأُمِّ الْمَرْأَةِ ؛ إذْ الدُّخُولُ فِي الْحَلِيلَةِ بِهَا نَفْسِهَا وَفِي أُمِّ الْمَرْأَةِ بِبِنْتِهَا . وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَحْمِلُوا الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي نَصْبِ الشَّهَادَةِ ؛ بَلْ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ فِي آيَةِ الدَّيْنِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وامرأتين وَفِي الرَّجْعَةِ رَجُلَيْنِ أَقَرُّوا كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْحُكْمِ مُخْتَلِفٌ وَهُوَ الْمَالُ وَالْبُضْعُ وَاخْتِلَافُ السَّبَبِ يُؤَثِّرُ فِي نِصَابِ الشَّهَادَةِ وَكَمَا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ فِي الْفَاحِشَةِ وَفِي الْقَذْفِ بِهَا اُعْتُبِرَ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ فَلَا يُقَاسُ بِذَلِكَ عُقُودُ الْأَيْمَانِ وَالْأَبْضَاعِ وَذَكَرَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ :

جَلْدُ ثَمَانِينَ وَتَرْكُ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ أَبَدًا وَإِنَّهُمْ فَاسِقُونَ { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَرْفَعُ الْجَلْدَ إذَا طَلَبَهُ الْمَقْذُوفُ وَتَرْفَعُ الْفِسْقَ بِلَا تَرَدُّدٍ وَهَلْ تَرْفَعُ الْمَنْعَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ؟ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ قَالُوا تَرْفَعُهُ .
وَإِذَا اُشْتُهِرَ عَنْ شَخْصٍ الْفَاحِشَةُ بَيْنَ النَّاسِ لَمْ يُرْجَمْ ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ الْمُلَاعَنَةِ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنْ جَاءَتْ بِهِ يُشْبِهُ الزَّوْجَ فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ يُشْبِهُ الرَّجُلَ الَّذِي رَمَاهَا بِهِ فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا } فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ } فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَهَذِهِ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتهَا } ؟ فَقَالَ : لَا تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُعْلِنُ السُّوءَ فِي الْإِسْلَامِ : فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَرْجُمُ أَحَدًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَلَوْ ظَهَرَ عَنْ الشَّخْصِ السُّوءُ . وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الشَّبَهَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا مَرَّ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا إلَى آخِرِهِ قَالَ : { أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ } وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { يُوشِكُ أَنْ تَعْلَمُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَبِمَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ } . فَقَدْ جَعَلَ الِاسْتِفَاضَةَ

حُجَّةً وَبَيِّنَةً فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا حُجَّةً فِي الرَّجْمِ . وَكَذَلِكَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ أَحْمَد وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِي الْجِرَاحِ إذَا أَدَّوْهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ رَأَى الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ وَالصَّبِيَّ فِي لِحَافٍ أَوْ فِي بَيْتِ مِرْحَاضٍ أَوْ رَآهُمَا مُجَرَّدَيْنِ أَوْ مَحْلُولَيْ السَّرَاوِيلِ وَيُوجَدُ مَعَ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . مِنْ وُجُودِ اللِّحَافِ قَدْ خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ إلَى مَكَانِهِمَا أَوْ يَكُونُ مَعَ أَحَدِهِمَا أَوْ مَعَهُمَا ضَوْءٌ قَدْ أَظْهَرَهُ فَرَآهُ فَأَطْفَأَهُ فَإِنَّ إطْفَاءَهُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِخْفَائِهِ بِمَا يَفْعَلُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا يُسْتَخْفَى بِهِ إلَّا مَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَيَانِ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ . فَهَذَا الْبَابُ بَابٌ عَظِيمُ النَّفْعِ فِي الدِّينِ وَهُوَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ الَّتِي أَهْمَلَهَا كَثِيرٌ مِنْ الْقُضَاةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ زَاعِمِينَ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ أَحَدٌ إلَّا بِشُهُودِ عَايَنُوا أَوْ إقْرَارٍ مَسْمُوعٍ وَهَذَا خِلَافُ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَسُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَخِلَافُ مَا فُطِرَتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ الَّتِي تَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ وَتُنْكِرُ الْمُنْكَرَ وَيَعْلَمُ الْعُقَلَاءُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا تَأْبَاهُ سِيَاسَةٌ عَادِلَةٌ ؛ فَضْلًا عَنْ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } . فَفِي الْآيَةِ دَلَالَاتٌ .

أَحَدُهَا قَوْلُهُ : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } فَأَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ عِنْدَ مَجِيءِ كُلِّ فَاسِقٍ بِكُلِّ نَبَأٍ ؛ بَلْ مِنْ الْأَنْبَاءِ مَا يُنْهَى فِيهِ عَنْ التَّبَيُّنِ وَمِنْهَا مَا يُبَاحُ فِيهِ تَرْكُ التَّبَيُّنِ وَمِنْ الْأَنْبَاءِ مَا يَتَضَمَّنُ الْعُقُوبَةَ لِبَعْضِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ الْأَمْرَ بِأَنَّهُ إذَا جَاءَنَا فَاسِقٌ بِنَبَأٍ خَشْيَةَ أَنْ نُصِيبَ قَوْمًا بِجَهَالَةِ فَلَوْ كَانَ كُلُّ مَنْ أُصِيبَ بِنَبَأٍ كَذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ بَلْ هَذِهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِصَابَةَ بِنَبَأِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ لَا يُنْهَى عَنْهَا مُطْلَقًا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ فِي جِنْسِ الْعُقُوبَاتِ فَإِنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي إخْبَارِ وَاحِدٍ بِأَنَّ قَوْمًا قَدْ حَارَبُوا بِالرِّدَّةِ أَوْ نَقْضِ الْعَهْدِ . وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ مَتَى اقْتَرَنَ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ دَلِيلٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فَقَدْ اسْتَبَانَ الْأَمْرُ وَزَالَ الْأَمْرُ بِالتَّثَبُّتِ فَتَجُوزُ إصَابَةُ الْقَوْمِ وَعُقُوبَتُهُمْ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ مَعَ قَرِينَةٍ إذَا تَبَيَّنَ بِهِمَا الْأُمُورُ فَكَيْفَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مَعَ دَلَالَةٍ أُخْرَى ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَوْثٌ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ فَإِذَا انْضَافَ إيمَانُ الْمُقْسِمِينَ صَارَ ذَلِكَ بَيِّنَةً تُبِيحُ دَمَ الْمُقْسِمِ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ : { أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } فَجَعَلَ الْمَحْذُورَ هُوَ الْإِصَابَةُ لِقَوْمِ بِلَا عِلْمٍ فَمَتَى أُصِيبُوا بِعِلْمِ زَالَ الْمَحْذُورُ وَهَذَا هُوَ الْمَنَاطُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَمَا قَالَ : { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَالَ : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } .

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِخَوْفِ النَّدَمِ وَالنَّدَمُ إنَّمَا يَحْصُلُ عَلَى عُقُوبَةِ الْبَرِيءِ مِنْ الذَّنْبِ كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد : { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ فَإِنَّ الْإِمَامَ إنْ يُخْطِئْ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ } فَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يُخْطِئَ فَيُعَاقِبَ بَرِيئًا أَوْ يُخْطِئَ فَيَعْفُوَ عَنْ مُذْنِبٍ كَانَ هَذَا الْخَطَأُ خَيْرُ الْخَطَأَيْنِ . أَمَّا إذَا حَصَلَ عِنْدَهُ عِلْمٌ أَنَّهُ لَمْ يُعَاقِبْ إلَّا مُذْنِبًا فَإِنَّهُ لَا يَنْدَمُ وَلَا يَكُونُ فِيهِ خَطَأٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد أَنَّ التَّغْرِيبَ جَاءَ فِي السُّنَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الزَّانِي إذَا لَمْ يُحْصَنْ : { جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } وَالثَّانِي نَفْيُ الْمُخَنَّثِينَ فِيمَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا مُخَنَّثٌ وَهُوَ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ أَخِيهَا : إنْ فَتَحَ اللَّهُ لَك الطَّائِفَ غَدًا أَدُلُّك عَلَى ابْنَةِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعِ وَتُدْبِرُ بِثَمَانِ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيُّ . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ { لَا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُمْ } وَفِي رِوَايَةٍ { أَرَى هَذَا يَعْرِفُ مِثْلَ هَذَا لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ بَعْدَ الْيَوْمِ } . قَالَ ابْنُ جريج : الْمُخَنَّثُ هُوَ هيْت وَهَكَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ هَنَبٌ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَاتِعٌ وَقِيلَ هَوَانٌ . وَرَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ ،

والمترجلات مِنْ النِّسَاءِ وَقَالَ : أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ وَأَخْرِجُوا فُلَانًا وَفُلَانًا : يَعْنِي الْمُخَنَّثِينَ } وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَةً : - بَهْمٌ وَهيْتُ وَمَاتِعٌ - عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُونُوا يُرْمَوْنَ بِالْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى إنَّمَا كَانَ تَخْنِيثُهُمْ وَتَأْنِيثُهُمْ لِينًا فِي الْقَوْلِ وَخِضَابًا فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ كَخِضَابِ النِّسَاءِ وَلَعِبًا كَلَعِبِهِنَّ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي يَسَارٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِمُخَنَّثِ وَقَدْ خَضَّبَ رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ بِالْحِنَّاءِ فَقَالَ : مَا بَالُ هَذَا ؟ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إلَى النَّقِيعِ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَقْتُلُهُ فَقَالَ : إنِّي نُهِيت عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ } قَالَ أَبُو أُسَامَةَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ : وَالنَّقِيعُ نَاحِيَةٌ عَنْ الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ بِالْبَقِيعِ وَقِيلَ : إنَّهُ الَّذِي حَمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ ثُمَّ حَمَاهُ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى عِشْرِينَ فَرْسَخًا مِنْ الْمَدِينَةِ وَقِيلَ : عِشْرِينَ مِيلًا . وَنَقِيعُ الْخُضُمَّاتِ مَوْضِعٌ آخَرُ قُرْبَ الْمَدِينَةِ وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي حَمَاهُ عُمَرُ . وَالنَّقِيعُ مَوْضِعٌ يَسْتَنْقِعُ فِيهِ الْمَاءُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { أَوَّلُ جُمْعَةٍ جُمِعَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي نَقِيعِ الْخُضُمَّاتِ } . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ مِثْلِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْبُيُوتِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يُمَكِّنُ الرِّجَالَ مِنْ نَفْسِهِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِ وَبِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ مَحَاسِنِهِ وَفِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى بِهِ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهُوَ

أَحَقُّ بِالنَّفْيِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِخْرَاجِهِ عَنْهُمْ ؛ فَإِنَّ الْمُخَنَّثَ فِيهِ إفْسَادٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَشَبَّهَ بِالنِّسَاءِ فَقَدْ تُعَاشِرُهُ النِّسَاءُ وَيَتَعَلَّمْنَ مِنْهُ وَهُوَ رَجُلٌ فَيُفْسِدُهُنَّ وَلِأَنَّ الرِّجَالَ إذَا مَالُوا إلَيْهِ فَقَدْ يُعْرِضُونَ عَنْ النِّسَاءِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا رَأَتْ الرَّجُلَ يَتَخَنَّثُ فَقَدْ تَتَرَجَّلُ هِيَ وَتَتَشَبَّهُ بِالرِّجَالِ فَتُعَاشِرُ الصِّنْفَيْنِ وَقَدْ تَخْتَارُ هِيَ مُجَامَعَةَ النِّسَاءِ كَمَا يَخْتَارُ هُوَ مُجَامَعَةَ الرِّجَالِ . وَأَمَّا إفْسَادُهُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنْ الْفِعْلِ بِهِ - كَمَا يَفْعَلُ بِالنِّسَاءِ - بِمُشَاهَدَتِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ وَعِشْقِهِ فَإِذَا أُخْرِجَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ وَسَافَرَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ سَاكِنٍ فِيهِ النَّاسُ وَوَجَدَ هُنَاكَ مَنْ يَفْعَلُ بِهِ الْفَاحِشَةَ فَهُنَا يَكُونُ نَفْيُهُ بِحَبْسِهِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَإِنْ خِيفَ خُرُوجُهُ فَإِنَّهُ يُقَيَّدُ إذْ هَذَا هُوَ مَعْنَى نَفْيِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ .
وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي نَفْيِ الْمُحَارَبِ مِنْ الْأَرْضِ هَلْ هُوَ طَرْدُهُ بِحَيْثُ لَا يَأْوِي فِي بَلَدٍ أَوْ حَبْسُهُ أَوْ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ هَذَا وَهَذَا فَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ الثَّالِثَةُ أَعْدَلُ وَأَحْسَنُ فَإِنَّ نَفْيَهُ بِحَيْثُ لَا يَأْوِي فِي بَلَدٍ لَا يُمْكِنُ لِتَفَرُّقِ الرَّعِيَّةِ وَاخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ بِطَرْدِهِ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَحَبْسُهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ إلَى طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَحَارِسٍ ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْيَ أَسْهَلُ إنْ أَمْكَنَ .

وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ هِيتًا لَمَّا اشْتَكَى الْجُوعَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ يَسْأَلُ مَا يُقِيتُهُ إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى } وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ : { أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } لَا يَتَضَمَّنُ نَفْيَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا هُوَ نَفْيُهُ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ وَهَذَا حَاصِلٌ بِطَرْدِهِ وَحَبْسِهِ . وَهَذَا الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ النَّفْيِ هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْهِجْرَةِ أَيْ هَجْرِهِ وَلَيْسَ هَذَا كَنَفْيِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَلَا هَجْرُهُ كَهَجْرِهِمْ فَإِنَّهُ مَنَعَ النَّاسَ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ حَتَّى أَزْوَاجُهُمْ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ مُشَاهَدَةِ النَّاسِ وَحُضُورِ مَجَامِعِهِمْ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا دُونَ النَّفْيِ الْمَشْرُوعِ فَإِنَّ النَّفْيَ الْمَشْرُوعَ مَجْمُوعٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْآدَمِيِّينَ مُحْتَاجِينَ إلَى مُعَاوَنَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى مَصْلَحَةِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَمَنْ كَانَ بِمُخَالَطَتِهِ لِلنَّاسِ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ عَوْنٌ عَلَى الدِّينِ بَلْ يُفْسِدُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ اسْتَحَقَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَضَرَّةٌ بِلَا مَصْلَحَةٍ ؛ فَإِنَّ مُخَالَطَتَهُ لَهُمْ فِيهَا فَسَادُهُمْ وَفَسَادُ أَوْلَادِهِمْ ؛ فَإِنَّ الصَّبِيَّ إذَا رَأَى صَبِيًّا مِثْلَهُ يَفْعَلُ شَيْئًا تَشَبَّهَ بِهِ وَسَارَ بِسِيرَتِهِ مَعَ الْفُسَّاقِ فَإِنَّ الِاجْتِمَاعَ بِالزُّنَاةِ وَاللُّوطِيِّينَ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَسَادِ وَالضَّرَرِ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرِّجَالِ فَيَجِبُ أَنْ يُعَاقَبَ اللُّوطِيُّ وَالزَّانِي بِمَا فِيهِ تَفْرِيقُهُ وَإِبْعَادُهُ . وَجِمَاعُ الْهِجْرَةِ هِيَ هِجْرَةُ السَّيِّئَاتِ وَأَهْلِهَا وَكَذَلِكَ هِجْرَانُ الدُّعَاةِ إلَى

الْبِدَعِ وَهِجْرَانُ الْفُسَّاقِ وَهِجْرَانُ مَنْ يُخَالِطُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ أَوْ يُعَاوِنُهُمْ وَكَذَلِكَ مَنْ يَتْرُكُ الْجِهَادَ الَّذِي لَا مَصْلَحَةَ لَهُمْ بِدُونِهِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ بِهَجْرِهِمْ لَهُ لَمَّا لَمْ يُعَاوِنْهُمْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَالزُّنَاةُ وَاللُّوطِيَّةُ وَتَارِكُ الْجِهَادِ وَأَهْلُ الْبِدَعِ وشربة الْخَمْرِ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَمُخَالَطَتُهُمْ مُضِرَّةٌ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ فِيهِمْ مُعَاوَنَةٌ لَا عَلَى بِرٍّ وَلَا تَقْوَى فَمَنْ لَمْ يَهْجُرْهُمْ كَانَ تَارِكًا لِلْمَأْمُورِ فَاعِلًا لِلْمَحْظُورِ فَهَذَا تَرْكُ الْمَأْمُورِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَذَلِكَ فِعْلُ الْمَحْظُورِ مِنْهُ فَعُوقِبَ كُلٌّ مِنْهَا بِمَا يُنَاسِبُ جُرْمَهُ فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّمَا يَشْرَعُ التَّعْزِيرُ فِي مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فَإِنْ كَانَ فِيهَا كَفَّارَةٌ فَعَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قَالَ : وَمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ مِنْهُ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُ عَلَى جِهَادِ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُ يُجَاهِدُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى جِهَادِهِ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى عُقُوبَةِ جَمِيعِ الْمُعْتَدِينَ فَإِنَّهُ يُعَاقِبُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى عُقُوبَتِهِ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ النَّفْيُ وَالْحَبْسُ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ كَانَ النَّفْيُ وَالْحَبْسُ عَلَى حَسَبِ الْقُدْرَةِ مِثْلَ أَنْ يُحْبَسَ بِدَارِ لَا يُبَاشِرُ إلَّا أَهْلَهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَوْ أَنْ لَا يُبَاشِرَ إلَّا شَخْصًا أَوْ شَخْصَيْنِ فَهَذَا هُوَ الْمُمْكِنُ ؛ فَيَكُونُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ فِي مَكَانٍ قَدْ قَلَّ فِيهِ الْقَبِيحُ وَلَا يُعْدَمُ بِالْكُلِّيَّةِ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ

الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا فَالْقَلِيلُ مِنْ الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ وَدَفْعُ بَعْضِ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ كُلِّهِ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ تُحْبَسُ شَبِيهًا بِحَالِهَا إذَا زَنَتْ سَوَاءٌ كانت بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا فَإِنَّ جِنْسَ الْحَبْسِ مِمَّا شُرِعَ فِي جِنْسِ الْفَاحِشَةِ . وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَفَى نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ مِنْ الْمَدِينَةِ وَمِنْ وَطَنِهِ إلَى الْبَصْرَةِ لَمَّا سَمِعَ تَشْبِيبَ النِّسَاءِ بِهِ وَتَشَبُّهَهُ بِهِنَّ وَكَانَ أَوَّلًا قَدْ أَمَرَ بِأَخْذِ شَعْرِهِ ؛ لِيُزِيلَ جَمَالَهُ الَّذِي كَانَ يَفْتِنُ بِهِ النِّسَاءَ فَلَمَّا رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْنَتَيْنِ غَمَّهُ ذَلِكَ فَنَفَاهُ إلَى الْبَصْرَةِ فَهَذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ ذَنْبٌ وَلَا فَاحِشَةٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا ؛ لَكِنْ كَانَ فِي النِّسَاءِ مَنْ يَفْتَتِنُ بِهِ فَأَمَرَ بِإِزَالَةِ جَمَالِهِ الْفَاتِنِ فَإِنَّ انْتِقَالَهُ عَنْ وَطَنِهِ مِمَّا يُضْعِفُ هِمَّتَهُ وَبَدَنِهِ وَيُعْلَمُ أَنَّهُ مُعَاقَبٌ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الَّذِينَ يُخَافُ عَلَيْهِمْ الْفَاحِشَةُ وَالْعِشْقُ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُعَاقَبَةِ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَنْفِي فِي الْخَمْرِ إلَى خَيْبَرَ زِيَادَةً فِي عُقُوبَةِ شَارِبهَا . وَمَنْ أَقْوَى مَا يُهَيِّجُ الْفَاحِشَةَ إنْشَادُ أَشْعَارِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مِنْ الْعِشْقِ وَمَحَبَّةِ الْفَوَاحِشِ وَمُقَدِّمَاتِهَا بِالْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ فَإِنَّ الْمُغَنِّيَ إذَا غَنَّى بِذَلِكَ حَرَّكَ الْقُلُوبَ الْمَرِيضَةَ إلَى مَحَبَّةِ الْفَوَاحِشِ فَعِنْدَهَا يَهِيجُ مَرَضُهُ وَيَقْوَى بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ فِي عَافِيَةٍ مِنْ ذَلِكَ جَعَلَ فِيهِ مَرَضًا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا .

وَرُقْيَةُ الْحَيَّةِ هِيَ مَا تُسْتَخْرَجُ بِهَا الْحَيَّةُ مِنْ جُحْرِهَا وَرُقْيَةُ الْعَيْنِ وَالْحُمَّةِ هِيَ مَا تُسْتَخْرَجُ بِهِ الْعَافِيَةُ وَرُقْيَةُ الزِّنَا هُوَ مَا يَدْعُو إلَى الزِّنَا وَيُخْرِجُ مِنْ الرَّجُلِ هَذَا الْأَمْرَ الْقَبِيحَ وَالْفِعْلَ الْخَبِيثَ كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ أُمُّ الْخَبَائِثِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : " الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ " وَقَالَ تَعَالَى لإبليس : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ } وَاسْتِفْزَازُهُ إيَّاهُمْ بِصَوْتِهِ يَكُونُ بِالْغِنَاءِ - كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ - وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ كَالنِّيَاحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ كُلَّهَا تُوجِبُ انْزِعَاجَ الْقَلْبِ وَالنَّفْسَ الْخَبِيثَةَ إلَى ذَلِكَ وَتُوجِبُ حَرَكَتَهَا السَّرِيعَةَ وَاضْطِرَابَهَا حَتَّى يَبْقَى الشَّيْطَانُ يَلْعَبُ بِهَؤُلَاءِ أَعْظَمَ مِنْ لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْكُرَةِ وَالنَّفْسُ مُتَحَرِّكَةٌ ؛ فَإِنْ سَكَنَتْ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَإِلَّا فَهِيَ لَا تَزَالُ مُتَحَرِّكَةً . وَشَبَّهَهَا بَعْضُهُمْ بِكُرَةِ عَلَى مُسْتَوَى أَمْلَسَ لَا تَزَالُ تَتَحَرَّكُ عَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ : { الْقَلْبُ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقِدْرِ إذَا اسْتَجْمَعْت غَلَيَانًا } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ رِيشَةٍ بِفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { كَانَتْ يَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ اصْرِفْ قُلُوبَنَا إلَى طَاعَتِك } وَفِي التِّرْمِذِيِّ

عَنْ أَبِي سُفْيَانَ { قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ : يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك . قَالَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِك وَبِمَا جِئْت بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . الْقُلُوبُ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ } .
وقَوْله تَعَالَى { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُقُوبَةِ الزَّانِيَيْنِ حَرَّمَ مُنَاكَحَتَهُمَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ هَجْرًا لَهُمَا وَلِمَا مَعَهُمَا مِنْ الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } وَجَعَلَ مُجَالِسَ فَاعِلِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ مِثْلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ } وَهُوَ زَوْجٌ لَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } أَيْ عُشَرَاءَهُمْ وَقُرَنَاءَهُمْ وَأَشْبَاهَهُمْ وَنُظَرَاءَهُمْ وَلِهَذَا يُقَالُ الْمُسْتَمِعُ شَرِيكُ الْمُغْتَابِ . وَرُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَكَانَ فِيهِمْ جَلِيسٌ لَهُمْ صَائِمٌ فَقَالَ : ابْدَءُوا بِهِ فِي الْجَلْدِ أَلَمْ تَسْمَعْ اللَّهَ يَقُولُ { فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ } ؟ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمُجَالَسَةِ وَالْعِشْرَةِ الْعَارِضَةِ حِينَ فِعْلِهِمْ لِلْمُنْكَرِ يَكُونُ مُجَالِسُهُمْ مِثْلًا لَهُمْ فَكَيْفَ بِالْعَشْرَةِ الدَّائِمَةِ . وَالزَّوْجُ يُقَالُ لَهُ الْعَشِيرُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { رَأَيْت النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ

يَكْفُرْنَ قِيلَ : يَكْفُرْنَ بِاَللَّهِ ؟ قَالَ : يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ . أَمَّا الْمُشْرِكُ فَلَا إيمَانَ لَهُ يَزْجُرُهُ عَنْ الْفَوَاحِشِ وَمُجَامَعَةِ أَهْلِهَا . وَأَمَّا الزَّانِي فَفُجُورُهُ يَدْعُوهُ إلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا . وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ مُطْلَقِ الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا مُشْرِكًا كَمَا فِي الصَّحِيحِ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } فَعُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيَزْجُرُ وَأَنَّ فَاعِلَهُ إمَّا مُشْرِكٌ وَإِمَّا زَانٍ لَيْسَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَمْنَعُهُمْ إيمَانُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الزَّانِيَةَ فِيهَا إفْسَادُ فِرَاشِ الرَّجُلِ وَفِي مُنَاكَحَتِهَا مُعَاشَرَةُ الْفَاجِرَةِ دَائِمًا وَمُصَاحَبَتُهَا وَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِهَجْرِ السُّوءِ وَأَهْلِهِ مَا دَامُوا عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الزَّانِي فَإِنَّ الزَّانِيَ إنْ لَمْ يُفْسِدْ فَرَاشَ امْرَأَتِهِ كَانَ قَرِينَ سُوءٍ لَهَا كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ : مَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ فَاسِقٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا . وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ بِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ ضَرَرٌ فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا فَنِكَاحُ الزَّانِيَةِ أَشَدُّ مِنْ جِهَةِ الْفِرَاشِ وَنِكَاحُ الزَّانِي أَشَدُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ السَّيِّدُ الْمَالِكُ الْحَاكِمُ عَلَى الْمَرْأَةِ فَتَبْقَى الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ الْعَفِيفَةُ فِي أَسْرِ الْفَاجِرِ الزَّانِي

الَّذِي يُقَصِّرُ فِي حُقُوقِهَا وَيَتَعَدَّى عَلَيْهَا . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي الدِّينِ وَعَلَى ثُبُوتِ الْفَسْخِ بِفَوَاتِ هَذِهِ الْكَفَاءَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ بِدُونِ ذَلِكَ وَهُمَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَإِنَّ مَنْ نَكَحَ زَانِيَةً مَعَ أَنَّهَا تَزْنِي فَقَدْ رَضِيَ بِأَنْ يَشْتَرِكَ هُوَ وَغَيْرُهُ فِيهَا وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْقِيَادَةِ وَالدِّيَاثَةِ وَمَنْ نَكَحَتْ زَانٍ وَهُوَ يَزْنِي بِغَيْرِهَا فَهُوَ لَا يَصُونُ مَاءَهُ حَتَّى يَضَعَهُ فِيهَا ؛ بَلْ يَرْمِيهِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ الْبَغَايَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الزَّانِيَةِ الْمُتَّخِذَةِ خِدْنًا فَإِنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ حِفْظُ الْمَاءِ فِي الْمَرْأَةِ وَهَذَا الرَّجُلُ لَا يَحْفَظُ مَاءَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ شَرَطَ فِي الرِّجَالِ أَنْ يَكُونُوا مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَقَالَ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يَنْبَغِي إغْفَالُهُ ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَصَّهُ وَبَيَّنَهُ بَيَانًا مَفْرُوضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } . فَأَمَّا تَحْرِيمُ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَفِيهِ آثَارٌ عَنْ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِيهِ وَلَيْسَ مَعَ مَنْ أَبَاحَهُ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ . وَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ { وَالْمُحْصَنَاتُ }

وَزَعَمُوا أَنَّ الْبَغْيَ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ وَتِلْكَ الْآيَاتُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ أَقَلَّ مَا فِي الْإِحْصَانِ الْعِفَّةُ وَإِذَا اُشْتُرِطَ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ فَذَاكَ تَكْمِيلٌ لِلْعِفَّةِ وَالْإِحْصَانِ وَمَنْ حَرَّمَ نِكَاحَ الْأَمَةِ لِئَلَّا يُرِقَّ وَلَدَهُ كَيْفَ يُبِيحُ الْبَغِيَّ الَّتِي تُلْحِقُ بِهِ مَنْ لَيْسَ بِوَلَدِهِ وَأَيْنَ فَسَادُ فِرَاشِهِ مِنْ رِقِّ وَلَدِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ النِّكَاحَ هُنَا هُوَ الْوَطْءُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَطَؤُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فَمَنْ وَطِئَ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً بِنِكَاحِ فَهُوَ زَانٍ وَكَذَلِكَ مَنْ وَطِئَهَا زَانٍ فَإِنَّ ذَمَّ الزَّانِي بِفِعْلِهِ الَّذِي هُوَ الزِّنَا حَتَّى لَوْ اسْتَكْرَهَهَا أَوْ استدخلت ذَكَرَهُ وَهُوَ نَائِمٌ كَانَتْ الْعُقُوبَةُ لِلزَّانِي دُونَ قَرِينِهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ . وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ هَذَا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ فَاجِرًا بَلْ لِخُصُوصِ كَوْنِهِ زَانِيًا وَكَذَلِكَ فِي الْمَرْأَةِ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ فُجُورِهَا بَلْ لِخُصُوصِ زِنَاهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَرْأَةَ زَانِيَةً إذَا تَزَوَّجَتْ زَانِيًا كَمَا جَعَلَ الزَّوْجَ زَانِيًا إذَا تَزَوَّجَ زَانِيَةً هَذَا إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ يَعْتَقِدَانِ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَإِذَا كَانَا مُشْرِكَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ . وَمَضْمُونُهُ أَنَّ الرَّجُلَ الزَّانِيَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ حَتَّى يَتُوبَ وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَافِقَ اشْتِرَاطَهُ الْإِحْصَانَ وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ

زَانِيَةً لَا تُحْصِنُ فَرْجَهَا عَنْ غَيْرِ زَوْجِهَا بَلْ يَأْتِيهَا هُوَ وَغَيْرُهُ كَانَ الزَّوْجُ زَانِيًا هُوَ وَغَيْرُهُ يَشْتَرِكُونَ فِي وَطْئِهَا كَمَا تَشْتَرِكُ الزُّنَاةُ فِي وَطْءِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفْيُ الْوَلَدِ الَّذِي لَيْسَ مِنْهُ . فَمَنْ نَكَحَ زَانِيَةً فَهُوَ زَانٍ أَيْ تَزَوَّجَهَا وَمَنْ نَكَحَتْ زَانِيًا فَهِيَ زَانِيَةٌ أَيْ تَزَوَّجَتْهُ ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الزُّنَاةِ قَصَرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الزَّوَانِي فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ خِدْنًا وَخَلِيلًا لَهُ لَا يَأْتِي غَيْرَهَا فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ زَانِيًا لَا يُعِفُّ امْرَأَتَهُ وَإِذَا لَمْ يُعِفَّهَا تَشَوَّقَتْ هِيَ إلَى غَيْرِهِ فَزَنَتْ بِهِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى نِسَاءِ الزَّوَانِي أَوْ مَنْ يَلُوطُ بِالصِّبْيَانِ فَإِنَّ نِسَاءَهُ يَزْنِينَ لِيَقْضِينَ إرْبَهُنَّ وَوَطَرَهُنَّ ويراغمن أَزْوَاجَهُنَّ بِذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَعِفُّوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ فَهُنَّ أَيْضًا لَمْ يَعْفِفْنَ أَنْفُسَهُنَّ عَنْ غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : " عِفُّوا تَعِفُّ نِسَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَبَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ " فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ وَمِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا رَضِيَ أَنْ يَنْكِحَ زَانِيَةً رَضِيَ بِأَنْ تَزْنِيَ امْرَأَتُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً فَأَحَدُهُمَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مَا يُحِبُّ لِلْآخَرِ فَإِذَا رَضِيَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَنْكِحَ زَانِيًا فَقَدْ رَضِيَتْ عَمَلَهُ وَكَذَلِكَ إنْ رَضِيَ الرَّجُلُ أَنْ يَنْكِحَ زَانِيَةً فَقَدْ رَضِيَ عَمَلَهَا وَمَنْ رَضِيَ الزِّنَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الزَّانِي . فَإِنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ هُوَ الْإِرَادَةُ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ " مَنْ غَابَ عَنْ مَعْصِيَةٍ فَرَضِيَهَا

كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا أَوْ فَعَلَهَا " : وَفِي الْحَدِيثِ { الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ } وَأَعْظَمُ الْخِلَّةِ خِلَّةُ الزَّوْجَيْنِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ فِي نُفُوسِ بَنِي آدَمَ مِنْ الْغَيْرَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فَيَسْتَعْظِمُ الرَّجُلُ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ أَعْظَمَ مِنْ غَيْرَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَزْنِيَ فَإِذَا لَمْ يَكْرَهْ أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ بَغِيًّا وَهُوَ دَيُّوثٌ كَيْفَ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ زَانٍ وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ هُوَ دَيُّوثٌ أَوْ قَوَّادٌ يَعِفُّ عَنْ الزِّنَا فَإِنَّ الزَّانِيَ لَهُ شَهْوَةٌ فِي نَفْسِهِ وَالدَّيُّوثُ لَيْسَ لَهُ شَهْوَةٌ فِي زِنَا غَيْرِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إيمَانٌ يَكْرَهُ بِهِ زِنَا غَيْرِهِ بِزَوْجَتِهِ كَيْفَ يَكُونُ مَعَهُ إيمَانٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الزِّنَا فَمَنْ اسْتَحَلَّ أَنْ يَتْرُكَ امْرَأَتَهُ تَزْنِي اسْتَحَلَّ أَعْظَمَ الزِّنَا وَمَنْ أَعَانَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ كَالزَّانِي وَمَنْ أَقَرَّ عَلَى ذَلِكَ مَعَ إمْكَانِ تَغْيِيرِهِ فَقَدْ رَضِيَهُ وَمَنْ تَزَوَّجَ غَيْرَ تَائِبَةٍ فَقَدْ رَضِيَ أَنْ تَزْنِيَ إذْ لَا يُمْكِنُهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ كَيْدَ النِّسَاءِ عَظِيمٌ .
وَلِهَذَا جَازَ لِلرَّجُلِ إذَا أَتَتْ امْرَأَتُهُ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أَنْ يَعْضُلَهَا لِتَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ وَهُوَ نَصُّ أَحْمَد وَغَيْرِهِ لِأَنَّهَا بِزِنَاهَا طَلَبَتْ الِاخْتِلَاعَ مِنْهُ وَتَعَرَّضَتْ لِإِفْسَادِ نِكَاحِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامَ مَعَهَا حَتَّى تَتُوبَ وَلَا يَسْقُطَ الْمُهْرُ بِمُجَرَّدِ زِنَاهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُلَاعِنِ لَمَّا قَالَ : مَالِي قَالَ { لَا مَالَ لَك عِنْدَهَا إنْ كُنْت صَادِقًا عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْت مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْت كَاذِبًا عَلَيْهَا

فَهُوَ أَبْعَدُ لَك } لِأَنَّهَا إذَا زَنَتْ قَدْ تَتُوبُ ؛ لَكِنَّ زِنَاهَا يُبِيحُ لَهُ إعْضَالَهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ نَفْسَهَا إنْ اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ أَوْ تَتُوبُ . وَفِي الْغَالِبِ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَزْنِي بِغَيْرِ امْرَأَتِهِ إلَّا إذَا أَعْجَبَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ فَلَا يَزَالُ يَزْنِي بِمَا يُعْجِبُهُ فَتَبْقَى امْرَأَتُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَلَّقَةِ الَّتِي لَا هِيَ أَيِّمٌ وَلَا ذَاتُ زَوْجٍ فَيَدْعُوهَا ذَلِكَ إلَى الزِّنَا وَيَكُونُ الْبَاعِثُ لَهَا عَلَى ذَلِكَ مُقَابَلَةُ زَوْجِهَا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ مُكَايِدَةً لَهُ وَمُغَايَظَةً ؛ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَحْفَظْ غَيْبَهَا لَمْ تَحْفَظْ غَيْبَهُ وَلَهَا فِي بُضْعِهِ حَقٌّ كَمَا لَهُ فِي بُضْعِهَا حَقٌّ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْعَادِينَ لِخُرُوجِهِ عَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَحْصَنَ نَفْسَهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ دَاعِيَةَ الزَّانِي تَشْتَغِلُ بِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ الْبَغَايَا فَلَا تَبْقَى دَاعِيَتُهُ إلَى الْحَلَالِ تَامَّةً وَلَا غَيْرَتُهُ كَافِيَةً فِي إحْصَانِهِ الْمَرْأَةَ فَتَكُونُ عِنْدَهُ كَالزَّانِيَةِ الْمُتَّخِذَةِ خِدْنًا . وَهَذِهِ مَعَانٍ شَرِيفَةٌ لَا يَنْبَغِي إهْمَالُهَا . وَعَلَى هَذَا فَالْمَرْأَةُ المساحقة زَانِيَةٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { زِنَا النِّسَاءِ سِحَاقُهُنَّ } وَالرَّجُلُ الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ بِمَمْلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ هُوَ زَانٍ وَالْمَرْأَةُ النَّاكِحَةُ لَهُ زَانِيَةٌ فَلَا تَنْكِحُهُ إلَّا زَانِيَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي نِسَاءِ اللُّوطِيَّةِ مَنْ تَزْنِي بِغَيْرِ زَوْجِهَا وَرُبَّمَا زَنَتْ بِمَنْ يتلوط هُوَ بِهِ مُرَاغَمَةً لَهُ وَقَضَاءً لِوَطَرِهَا وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُزَوَّجَةُ بِمُخَنَّثِ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ هِيَ مُتَزَوِّجَةٌ بِزَانٍ بَلْ هُوَ أَسْوَأُ الشَّخْصَيْنِ حَالًا فَإِنَّهُ مَعَ الزِّنَا صَارَ مُخَنَّثًا مَلْعُونًا عَلَى نَفْسِهِ لِلتَّخْنِيثِ غَيْرُ اللَّعْنَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ

فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ والمترجلات مِنْ النِّسَاءِ وَقَالَ { أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ . } وَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِمُخَنَّثِ قَدْ انْتَقَلَتْ شَهْوَتُهُ إلَى دُبُرِهِ ؟ فَهُوَ يُؤْتَى كَمَا تُؤْتَى الْمَرْأَةُ وَتَضْعُفُ دَاعِيَتُهُ مِنْ أَمَامِهِ كَمَا تَضْعُفُ دَاعِيَةُ الزَّانِي بِغَيْرِ امْرَأَتِهِ عَنْهَا فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ غَيْرَةٌ عَلَى نَفْسِهِ ضَعُفَتْ غَيْرَتُهُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَغَيْرِهَا ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ مَنْ كَانَ مُخَنَّثًا لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ غَيْرَةٍ عَلَى وَلَدِهِ وَمَمْلُوكِهِ وَمَنْ يَكْفُلُهُ وَالْمَرْأَةُ إذَا رَضِيَتْ بِالْمُخَنَّثِ وَاللُّوطِيِّ كَانَتْ عَلَى دِينِهِ فَتَكُونُ زَانِيَةً وَأَبْلَغَ فَإِنَّ تَمْكِينَ الْمَرْأَةِ مِنْ نَفْسِهَا أَسْهَلُ مِنْ تَمْكِينِ الرَّجُلِ مِنْ نَفْسِهِ فَإِذَا رَضِيَتْ ذَلِكَ مِنْ زَوْجِهَا رَضِيَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا . وَلَفْظُ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً } الْآيَةُ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ إمَّا بِطَرِيقِ عُمُومِ اللَّفْظِ أَوْ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَفَحْوَى الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَأَدْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي حَدِّ اللُّوطِيِّ وَنَحْوِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وقَوْله تَعَالَى { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ النِّسَاءَ الْخَبِيثَاتِ لِلرِّجَالِ الْخَبِيثَيْنِ فَلَا تَكُونُ خَبِيثَةٌ لِطَيِّبٍ فَإِنَّ ذَلِكَ خِلَافَ الْحَصْرِ ، فَلَا

تَنْكِحُ الزَّانِيَةُ الْخَبِيثَةُ إلَّا زَانِيًا خَبِيثًا وَأَخْبَرَ أَنَّ الطَّيِّبِينَ لِلطَّيِّبَاتِ فَلَا يَكُونُ الطَّيِّبُ لِامْرَأَةٍ خَبِيثَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ خِلَافَ الْحَصْرِ ؛ إذْ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَبِيثَاتِ لِلْخَبِيثَيْنِ فَلَا تَبْقَى خَبِيثَةٌ لِطَيِّبِ وَلَا طَيِّبٌ لِخَبِيثَةِ . وَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ الطَّيِّبَاتِ لِلطَّيِّبِينَ فَلَا تَبْقَى طَيِّبَةٌ لِخَبِيثِ فَجَاءَ الْحَصْرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَ صَدْرُهَا بِسَبَبِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَمَا قَالُوهُ فِي عَائِشَةَ وَلِهَذَا لَمَّا قِيلَ فِيهَا مَا قِيلَ وَصَارَتْ شُبْهَةٌ اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اسْتَشَارَهُ فِي طَلَاقِهَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَتَهَا ؛ إذْ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ تَكُونَ امْرَأَتُهُ غَيْرَ طَيِّبَةٍ وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ } وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ السُّوءَ فِي أَهْلِهِ . وَلِهَذَا كَانَتْ الْغَيْرَةُ عَلَى الزِّنَا مِمَّا يُحِبُّهَا اللَّهُ وَأَمَرَ بِهَا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ لَأَنَا أَغَيْرُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَغَيْرُ مِنِّي ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وَلِهَذَا أَذِنَ اللَّهُ لِلْقَاذِفِ إذَا كَانَ زَوْجَهَا أَنْ يُلَاعِنَ : فَيَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ وَجَعَلَ ذَلِكَ يَدْفَعُ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ كَمَا لَوْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَةَ شُهُودٍ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى قَذْفِهَا لِأَجْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ

الْغَيْرَةِ وَلِأَنَّهَا ظَلَمَتْهُ بِإِفْسَادِ فِرَاشِهِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ حَبِلَتْ مِنْ الزِّنَا فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ لِيَنْفِيَ عَنْهُ النَّسَبَ الْبَاطِلَ لِئَلَّا يَلْحَقَ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ . وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ سَوَاءٌ حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بِتَلَاعُنِهِمَا أَوْ احْتَاجَتْ إلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ أَوْ حَصَلَتْ عِنْدَ انْقِضَاءِ لِعَانِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَلْعُونٌ أَوْ خَبِيثٌ فَاقْتِرَانُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَقْتَضِي مُقَارَنَةَ الْخَبِيثِ الْمَلْعُونِ لِلطَّيِّبِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِمْرَانَ ابْنِ حُصَيْنٍ { حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَعَنَتْ نَاقَةً لَهَا فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ مَا عَلَيْهَا وَأُرْسِلَتْ ؛ وَقَالَ : لَا تَصْحَبُنَا نَاقَةٌ مَلْعُونَةٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا اجْتَازَ بِدِيَارِ ثَمُودٍ قَالَ : { لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ } فَنَهَى عَنْ عُبُورِ دِيَارِهِمْ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْخَوْفِ الْمَانِعِ مِنْ الْعَذَابِ . وَهَكَذَا السُّنَّةُ فِي مُقَارِنَةِ الظَّالِمِينَ وَالزُّنَاةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يُقَارِنَهُمْ وَلَا يُخَالِطَهُمْ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يَسْلَمُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا لِظُلْمِهِمْ مَاقِتًا لَهُمْ شَانِئًا مَا هُمْ فِيهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ

فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ } الْآيَةُ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ وَعَمَلِهِ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ لِصَاحِبِ مِصْرَ لِقَوْمِ كُفَّارٍ . وَذَلِكَ أَنَّ مُقَارَنَةَ الْفُجَّارِ إنَّمَا يَفْعَلُهَا الْمُؤْمِنُ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا عَلَيْهَا وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى مَفْسَدَةِ الْمُقَارَنَةِ أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي تَرْكِهَا مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ فِي دِينِهِ فَيَدْفَعُ أَعْظَمَ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا وَتَحْصُلُ الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ بِاحْتِمَالِ الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْمُكْرَهُ هُوَ مَنْ يَدْفَعُ الْفَسَادَ الْحَاصِلَ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا } { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } وَقَالَ : { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ } الْآيَةُ .

فَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُنَاكَحَةِ الزَّانِي وَالْمُنَاكَحَةُ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُزَاوَجَةِ وَالْمُقَارَنَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ وَلِهَذَا سُمِّيَ كُلٌّ مِنْهُمَا زَوْجًا وَصَاحِبًا وَقَرِينًا وَعَشِيرًا لِلْآخَرِ وَالْمُنَاكَحَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْمُجَامَعَةُ وَالْمُضَامَّةُ فَقُلُوبُهُمَا تَجْتَمِعُ إذَا عُقِدَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَيَصِيرُ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّعَاطُفِ وَالتَّرَاحُمِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى تَثْبُتَ بِذَلِكَ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ فِي غَيْرِ الرَّبِيبَةِ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ وَالتَّوَارُثُ وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ : وَأَوْسَطُ ذَلِكَ اجْتِمَاعُهُمَا خَالِيَيْنِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُعَاشَرَةُ الْمُقَرِّرَةُ لِلصَّدَاقِ كَمَا قَضَى بِهِ الْخُلَفَاءُ وَآخِرُ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ الْمُبَاضَعَةِ وَهَذَا وَإِنْ اجْتَمَعَ بِدُونِ عَقْدِ نِكَاحٍ فَهُوَ اجْتِمَاعٌ ضَعِيفٌ ؛ بَلْ اجْتِمَاعُ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ اجْتِمَاعِ الْبَدَنَيْنِ بِالسِّفَاحِ . وَدَلَّ قَوْلُهُ : { الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ } عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَمِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُقَارَنَةِ الْفُجَّارِ وَمُزَاوَجَتِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَى هَذَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ : مِثْلُ قَوْلِهِ : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } أَيْ : وَأَشْبَاهَهُمْ وَنُظَرَاءَهُمْ وَالزَّوْجُ أَعَمُّ مِنْ النِّكَاحِ الْمَعْرُوفِ قَالَ تَعَالَى : { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ } { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا } وَقَالَ : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } وَقَالَ : { مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } و { كَرِيمٌ } وَقَالَ : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } وَقَالَ : { جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } وَقَالَ : { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } وَقَالَ : { احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ

اثْنَيْنِ } وَقَالَ : { إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ } . وَإِنْ كَانَ فِي الْآيَةِ نَصَّ فِي الزَّوْجَةِ الَّتِي هِيَ الصَّاحِبَةُ وَفِي الْوَلَدِ مِنْهَا فَمَعْنَى ذَلِكَ فِي كُلِّ مُشَابِهٍ وَمُقَارِنٍ وَمُشَارِكٍ وَفِي كُلِّ فَرْعٍ وَتَابِعٍ ف { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ } و { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } . فَالْمُصَاحَبَةُ وَالْمُصَاهَرَةُ وَالْمُؤَاخَاةُ لَا تَجُوزُ إلَّا مَعَ أَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ : { لَا تُصَاحِبْ إلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَك إلَّا تَقِيٌّ } وَفِيهَا : { الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يخالل } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرِ } و " الضَّفِيرُ " الْحَبْلُ وَشَكَّ الرَّاوِي هَلْ أَمَرَ بِبَيْعِهَا فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ . وَهَذَا أَمْرٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعِ الْأُمَّةِ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَلَوْ بِأَدْنَى مَالٍ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : إنْ لَمْ يَبِعْهَا كَانَ تَارِكًا لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَالْإِمَاءُ اللَّاتِي يَفْعَلْنَ هَذَا تَكُونُ عَامَّتُهُنَّ لِلْخِدْمَةِ لَا لِلتَّمَتُّعِ فَكَيْفَ بِأَمَةِ التَّمَتُّعِ ؟ وَإِذَا وَجَبَ إخْرَاجُ الْأَمَةِ الزَّانِيَةِ عَنْ مِلْكِهِ فَكَيْفَ بِالزَّوْجَةِ الزَّانِيَةِ وَالْعَبْدُ وَالْمَمْلُوكُ نَظِيرُ الْأَمَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ لَعَنَ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا } فَهَذَا يُوجِبُ لَعْنَةَ كُلِّ مَنْ آوَى مُحْدِثًا سَوَاءٌ كَانَ إحْدَاثُهُ بِالزِّنَا أَوْ السَّرِقَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِيوَاءُ بِمِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا فِي ذَلِكَ تَرْكُهُ إنْكَارًا لِلْمُنْكَرِ .
فَصْلٌ :
وَالْمُؤْمِنُ مُحْتَاجٌ إلَى امْتِحَانِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُصَاحِبَهُ وَيُقَارِنَهُ بِنِكَاحِ وَغَيْرِهِ قَالَ تَعَالَى : { إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } الْآيَةُ . وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي زَنَى بِهَا الرَّجُلُ فَإِنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ بِهَا إلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ ؛ لَكِنْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَمْتَحِنَهَا هَلْ هِيَ صَحِيحَةُ التَّوْبَةِ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد : أَنَّهُ يُرَاوِدُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَإِنْ أَجَابَتْهُ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهَا وَإِنْ لَمْ تُجِبْهُ فَقَدْ تَابَتْ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هَذَا الِامْتِحَانُ

فِيهِ طَلَبُ الْفَاحِشَةِ مِنْهَا وَقَدْ تَنْقُضُ التَّوْبَةَ وَقَدْ تَأْمُرُهُ نَفْسُهُ بِتَحْقِيقِ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَيُزَيِّنُ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ يُحِبُّهَا وَتُحِبُّهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ مَعَهَا فِعْلُ الْفَاحِشَةِ مَرَّاتٍ وَذَاقَتْهُ وَذَاقَهَا فَقَدْ تَنْقُضُ التَّوْبَةَ وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا أَرَادَهُ مِنْهَا . وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ : الْأَمْرُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ امْتِحَانُهَا لَا يُقْصَدُ بِهِ نَفْسُ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ أَمْرًا بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَيُمْكِنُهُ أَنْ لَا يَطْلُبَ الْفَاحِشَةَ ؛ بَلْ يُعَرِّضُ بِهَا وَيَنْوِي شَيْئًا آخَرَ وَالتَّعْرِيضُ لِلْحَاجَةِ جَائِزٌ ؛ بَلْ وَاجِبٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . وَأَمَّا نَقْضُهَا تَوْبَتَهَا فَإِذَا جَازَ أَنْ تَنْقُضَ التَّوْبَةَ مَعَهُ جَازَ أَنْ تَنْقُضَهَا مَعَ غَيْرِهِ وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ مُمْتَنِعَةً مِمَّنْ يُرَاوِدُهَا فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُمْتَنِعَةً مِنْهُ لَمْ تَكُنْ مُمْتَنِعَةً مِنْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا تَزْيِينُ الشَّيْطَانِ لَهُ الْفِعْلَ فَهَذَا دَاخِلٌ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْخَيْرِ يَجِدُ فِيهِ مَحَبَّتَهُ فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُصَاحِبَ الْمُؤْمِنَ أَوْ أَرَادَ الْمُؤْمِنُ أَنْ يُصَاحِبَ أَحَدًا وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ الْفُجُورُ وَقِيلَ إنَّهُ تَابَ مِنْهُ أَوْ كَانَ ذَلِكَ مَقُولًا عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا : فَإِنَّهُ يَمْتَحِنُهُ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ بِرُّهُ أَوْ فُجُورُهُ وَصِدْقُهُ أَوْ كَذِبُهُ وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَ أَحَدًا وِلَايَةً امْتَحَنَهُ ؛ كَمَا أَمَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ غُلَامَهُ أَنْ يَمْتَحِنَ ابْنَ أَبِي مُوسَى لَمَّا أَعْجَبَهُ سَمْتُهُ فَقَالَ لَهُ : قَدْ عَلِمْت مَكَانِي عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَمْ تُعْطِينِي إذَا أَشَرْت عَلَيْهِ بِوِلَايَتِك ؟

فَبَذَلَ لَهُ مَالًا عَظِيمًا فَعَلِمَ عُمَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْوِلَايَةِ وَكَذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَكَذَلِكَ الصِّبْيَانُ وَالْمَمَالِيكُ الَّذِينَ عُرِفُوا أَوْ قِيلَ عَنْهُمْ الْفُجُورُ وَأَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَنَّهُ يَمْتَحِنُهُ فَإِنَّ الْمُخَنَّثَ كَالْبَغِيِّ وَتَوْبَتُهُ كَتَوْبَتِهَا . وَمَعْرِفَةُ أَحْوَالِ النَّاسِ تَارَةً تَكُونُ بِشَهَادَاتِ النَّاسِ وَتَارَةً تَكُونُ بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَتَارَةً تَكُونُ بِالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ.
فَصْلٌ :
وَكَمَا عَظَّمَ اللَّهُ الْفَاحِشَةَ عَظَّمَ ذِكْرَهَا بِالْبَاطِلِ وَهُوَ الْقَذْفُ فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } ثُمَّ ذَكَرَ رَمْيَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَمَا أَمَرَ فِيهِ مِنْ التَّلَاعُنِ ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ أَهْلِ الْإِفْكِ وَبَيَّنَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَيْرِ لِلْمَقْذُوفِ الْمَكْذُوبِ عَلَيْهِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ لِلْقَاذِفِ وَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذَا سَمِعُوا ذَلِكَ أَنْ يَظُنُّوا بِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْخَيْرَ وَيَقُولُونَ : هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ كَذِبٌ ظَاهِرٌ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَوْلٌ بِلَا حُجَّةٍ فَقَالَ : { لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْلَا فَضْلُهُ عَلَيْهِمْ وَرَحْمَتُهُ لَعَذَّبَهُمْ بِمَا تَكَلَّمُوا بِهِ .

وَقَوْلُهُ : { إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } فَهَذَا بَيَانٌ لِسَبَبِ الْعَذَابِ وَهُوَ تَلَقِّي الْبَاطِلِ بِالْأَلْسِنَةِ وَالْقَوْلِ بِالْأَفْوَاهِ وَهُمَا نَوْعَانِ مُحَرَّمَانِ : الْقَوْلُ بِالْبَاطِلِ وَالْقَوْلُ بِلَا عِلْمٍ . ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ : { لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } . فَالْأَوَّلُ تَحْضِيضٌ عَلَى الظَّنِّ الْحَسَنِ وَهَذَا نَهْيٌ لَهُمْ عَنْ التَّكَلُّمِ بِالْقَذْفِ . فَفِي الْأَوَّلِ قَوْلُهُ : { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ } وَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ } وَكَذَا قَوْله تَعَالَى { ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ مِثْلِ هَذَا الظَّنِّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ : { مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَدْرِيَانِ مِنْ أَمْرِنَا هَذَا شَيْئًا } . فَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ بَعْضِ الظَّنِّ كَمَا احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ بِذَلِكَ ؛ لَكِنْ مَعَ الْعِلْمِ بِمَا عَلَيْهِ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْإِيمَانِ الْوَازِعِ لَهُ عَنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ يَجِبُ أَنْ يَظُنَّ بِهِ الْخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ . وَفِي الْآيَةِ نَهْيٌ عَنْ تَلَقِّي مِثْلِ هَذَا بِاللِّسَانِ وَنَهْيٌ عَنْ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ فِي فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَالْقَذْفِ مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا الرَّجْمَ وَقَدْ رَجَمَ هُوَ - تَعَالَى - قَوْمَ

لُوطٍ إذْ كَانُوا هُمْ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَ فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ وَجَعَلَ الْعُقُوبَةَ عَلَى الْقَذْفِ بِهَا ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَالرَّمْيَ بِغَيْرِهَا فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَيَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَبْلُغَ الثَّمَانِينَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ : " لَا أُوتِيَ بِأَحَدِ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي " . وَكَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : إذَا شَرِبَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحَدُّ الشُّرْبِ ثَمَانُونَ وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ . وقَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } الْآيَةُ . وَهَذَا ذَمٌّ لِمَنْ يُحِبُّ ذَلِكَ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْقَلْبِ فَقَطْ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ وَهُوَ ذَمٌّ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْفَاحِشَةِ أَوْ يُخْبِرُ بِهَا مَحَبَّةً لِوُقُوعِهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ : إمَّا حَسَدًا أَوْ بُغْضًا وَإِمَّا مَحَبَّةً لِلْفَاحِشَةِ وَإِرَادَةً لَهَا وَكِلَاهُمَا مَحَبَّةٌ لِلْفَاحِشَةِ وَبُغْضًا لِلَّذِينَ آمَنُوا فَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ فِعْلَهَا ذَكَرَهَا . وَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ الْغَزَلَ مِنْ الشِّعْرِ الَّذِي يُرَغِّبُ فِيهَا وَكَذَلِكَ ذِكْرُهَا غِيبَةٌ مُحَرَّمَةٌ سَوَاءٌ كَانَ بِنَظْمِ أَوْ نَثْرٍ وَكَذَلِكَ التَّشَبُّهُ بِمَنْ يَفْعَلُهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ : مِثْلَ الْأَمْرِ بِهَا ؛ فَإِنَّ الْفِعْلَ يُطْلَبُ بِالْأَمْرِ تَارَةً وَبِالْإِخْبَارِ تَارَةً فَهَذَانِ الْأَمْرَانِ لِلْفَجَرَةِ الزُّنَاةِ اللُّوطِيَّةِ : مِثْلَ ذِكْرِ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ أُولَئِكَ يَعْتَبِرُونَ مِنْ الْغَيْرَةِ بِهِمْ وَهَؤُلَاءِ يَعْتَبِرُونَ مِنْ الِاغْتِرَارِ ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ يَذْكُرُونَ مِنْ قِصَصِ

أَشْبَاهِهِمْ مَا يَكُونُ بِهِ لَهُمْ فِيهِمْ قُدْوَةٌ وَأُسْوَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا } قِيلَ : أَرَادَ الْغِنَاءَ وَقِيلَ أَرَادَ قِصَصَ الْمُلُوكِ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ الْفَرَسِ . وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا رَغَّبَ النُّفُوسَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَنَهَاهَا عَنْ مَعْصِيَتِهِ مِنْ خَبَرٍ أَوْ أَمْرٍ فَهُوَ مِنْ طَاعَتِهِ وَكُلُّ مَا رَغَّبَهَا فِي مَعْصِيَتِهِ وَنَهَى عَنْ طَاعَتِهِ فَهُوَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فَأَمَّا ذِكْرُ الْفَاحِشَةِ وَأَهْلِهَا بِمَا يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ فِي الشَّرِيعَةِ : مِثْلَ النَّهْيِ عَنْهَا وَعَنْهُمْ وَالذَّمِّ لَهَا وَلَهُمْ وَذِكْرُ مَا يُبَغِّضُهَا وَيُنَفِّرُ عَنْهَا وَذِكْرُ أَهْلِهَا مُطْلَقًا حَيْثُ يَسُوغُ ذَلِكَ وَمَا يَشْرَعُ لَهُمْ مِنْ الذَّمِّ فِي وُجُوهِهِمْ وَمَغِيبِهِمْ : فَهَذَا كُلُّهُ حَسَنٌ يَجِبُ تَارَةً وَيُسْتَحَبُّ أُخْرَى وَكَذَلِكَ مَا يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ وَصْفِهَا وَوَصْفِ أَهْلِهَا مِنْ الْعِشْقِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي يُوجِبُ الِانْتِهَاءَ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالْبُغْضَ لِمَا يُبْغِضُهُ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ اللَّهَ قَصَّ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ وَقِصَصَ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ : لِنَعْتَبِرَ بِالْأَمْرَيْنِ : فَنُحِبُّ الْأَوَّلِينَ وَسَبِيلَهُمْ وَنَقْتَدِي بِهِمْ وَنُبْغِضُ الْآخَرِينَ وَسَبِيلَهُمْ وَنَجْتَنِبُ فِعَالَهُمْ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مِنْ ذِكْرِ الْفَاحِشَةِ

وَعَلَائِقِهَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ قَالَ تَعَالَى : { وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ . فَهَذَا لُوطٌ خَاطَبَ أَهْلَ الْفَاحِشَةِ - وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ - بِتَقْرِيعِهِمْ بِهَا بِقَوْلِهِ : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ وَنَهْيُ إنْكَارٍ ذَمٌّ وَنَهْيٌ كَالرَّجُلِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ : أَتَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ ؟ ثُمَّ قَالَ : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ } وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ ثَانٍ فِيهِ مِنْ الذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ مَا فِيهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْقَذْفِ وَاللَّمْزِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ فَقَدْ وَاجَهَهُمْ بِذَمِّهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى فِعْلِ الْفَاحِشَةِ ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْفَاحِشَةِ تَوَعَّدُوهُمْ وَتَهَدَّدُوهُمْ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ الْقَرْيَةِ وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْفُجُورِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ مَنْ يَنْهَاهُمْ طَلَبُوا نَفْيَهُ وَإِخْرَاجَهُ وَقَدْ عَاقَبَ اللَّهُ أَهْلَ الْفَاحِشَةِ اللُّوطِيَّةِ بِمَا أَرَادُوا أَنْ يَقْصِدُوا بِهِ أَهْلَ التَّقْوَى ؛ حَيْثُ أَمَرَ بِنَفْيِ الزَّانِي وَنَفْيِ الْمُخَنَّثِ فَمَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْيِ هَذَا وَهَذَا وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَخْرَجَ الْمُتَّقِينَ مِنْ بَيْنِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ } إلَى قَوْلِهِ : { فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وَمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَمِنْ كَلَامِ يُوسُفَ مِنْ قَوْلِهِ : { مَا بَالُ

النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاعْتِبَارِ الَّذِي يُوجِبُ انْتِهَارَ النُّفُوسِ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالتَّمَسُّكِ بِالتَّقْوَى وَكَذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } . وَمَعَ هَذَا فَمِنْ النَّاسِ وَالنِّسَاءِ مَنْ يُحِبُّ سَمَاعَ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الْعِشْقِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ؛ لِمَحَبَّتِهِ لِذَلِكَ وَرَغْبَتِهِ فِي الْفَاحِشَةِ حَتَّى إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقْصِدُ إسْمَاعَهَا لِلنِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ لِمَحَبَّتِهِمْ لِلسُّوءِ وَيَعْطِفُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَخْتَارُونَ أَنْ يَسْمَعُوا مَا فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : كُلُّ مَا حَصَّلْته فِي سُورَةِ يُوسُفَ أَنْفَقْته فِي سُورَةِ النُّورِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } ثُمَّ قَالَ : { وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا } وَقَالَ { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } . فَكُلُّ أَحَدٍ يُحِبُّ سَمَاعَ ذَلِكَ لِتَحْرِيكِ الْمُحِبَّةِ الْمَذْمُومَةِ وَيُبْغِضُ سَمَاعَ ذَلِكَ إعْرَاضًا عَنْ دَفْعِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَإِزَالَتِهَا : فَهُوَ مَذْمُومٌ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ ذِكْرُ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَرْغِيبٌ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ سَمَاعُ كَلَامِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالنَّظَرُ فِي كُتُبِهِمْ لِمَنْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ وَيَدْعُوهُ إلَى سَبِيلِهِمْ وَإِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهَذَا الْبَابُ تَجْتَمِعُ فِيهِ الشُّبُهَاتُ وَالشَّهَوَاتُ وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَمَّ هَؤُلَاءِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا } وَقَوْلِهِ : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } الْآيَةُ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ فَأَهْلُ الْمَعَاصِي كَثِيرُونَ فِي الْعَالَمِ ؛ بَلْ هُمْ أَكْثَرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } الْآيَةُ . وَفِي النُّفُوسِ مِنْ الشُّبُهَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَالشَّهَوَاتِ قَوْلًا وَعَمَلًا مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَأَهْلُهَا يَدْعُونَ النَّاسَ إلَيْهَا وَيَقْهَرُونَ مَنْ يَعْصِيهِمْ وَيُزَيِّنُونَهَا لِمَنْ يُطِيعُهُمْ . فَهُمْ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ وَأَنْدَادُهُمْ فَرُسُلُ اللَّهِ يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَيَأْمُرُونَهُمْ بِهَا بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَيُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَيُحَذِّرُونَهُمْ مِنْهَا بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَيُجَاهِدُونَ مَنْ يَفْعَلُهَا . وَهَؤُلَاءِ يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ

وَيَأْمُرُونَهُمْ بِهَا بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَيُجَاهِدُونَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ثُمَّ قَالَ : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَنَا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ مَسْبُوقٌ بِمَعْرِفَتِهِ فَمَنْ لَا يَعْلَمُ الْمَعْرُوفَ لَا يُمْكِنُهُ الْأَمْرُ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ مَسْبُوقٌ بِمَعْرِفَتِهِ فَمَنْ لَا يَعْلَمُهُ لَا يُمْكِنُهُ النَّهْيُ عَنْهُ وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا فِعْلَ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ حُبَّ الشَّيْءِ وَفِعْلَهُ وَبُغْضَ ذَلِكَ وَتَرْكَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِمَا حَتَّى يَصِحَّ الْقَصْدُ إلَى فِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَسْبُوقٌ بِعِلْمِهِ فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ الشَّيْءَ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ حُبٌّ لَهُ وَلَا بُغْضٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا تَرْكٌ ؛ لَكِنَّ فِعْلَ الشَّيْءِ وَالْأَمْرَ بِهِ يَقْتَضِي أَنْ يُعْلَمَ عِلْمًا مُفَصَّلًا يُمْكِنُ مَعَهُ فِعْلُهُ وَالْأَمْرُ بِهِ إذَا أُمِرَ بِهِ مُفَصَّلًا . وَلِهَذَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْإِنْسَانِ مَعْرِفَةَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ : مِثْلَ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ

وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا أَمَرَ بِأَوْصَافِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا فَكَمَا أَنَّا لَا نَكُونُ مُطِيعِينَ إذَا عَلِمْنَا عَدَمَ الطَّاعَةِ فَلَا نَكُونُ مُطِيعِينَ إلَّا إذَا لَمْ نَعْلَمْ وُجُودَهَا ؛ بَلْ الْجَهْلُ بِوُجُودِهَا كَالْعِلْمِ بِعَدَمِهَا وَكَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْصِيَةً فَإِنَّ الْجَهْلَ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ فِي بَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بَعْضِهَا بِجِنْسِهِ ؛ فَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ الْمُمَاثَلَةَ كَانَ كَمَا لَوْ عَلِمْنَا الْمُفَاضَلَةَ . وَأَمَّا مَعْرِفَةُ مَا يَتْرُكُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ فَقَدْ يُكْتَفَى بِمَعْرِفَتِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مُجْمَلًا فَالْإِنْسَانُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْكَرِ وَإِنْكَارِهِ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْحُجَجِ الْمُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ وَإِلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُعَارِضُ بِهِ أَصْحَابَهَا مِنْ الْحُجَجِ وَإِلَى دَفْعِ أَهْوَائِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى إرَادَةٍ جَازِمَةٍ وَقُدْرَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالصَّبْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْعَصْرِ } { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } . وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ نَذْكُرَ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ لَهَا وَالنَّهْيِ عَنْهَا وَبَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ فَإِنَّ الْإِنْكَارَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ قَبْلَ الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِيمَا يَذْكُرُهُ تَعَالَى عَنْ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ وَالْعُصَاةِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ ؛ يَذْكُرُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَالْبُغْضِ لَهَا وَلِأَهْلِهَا وَبَيَانِ فَسَادِهَا وَضِدِّهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا كَمَا أَنَّ فِيمَا يَذْكُرُهُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ وَالْحُبِّ وَبَيَانِ صَلَاحِهِ وَمَنْفَعَتِهِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا اتَّخَذَ

الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا } { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا } { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا } { أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا } { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } { لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا } { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } الْآيَاتُ . وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فَاَلَّذِي يُحِبُّ أَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ هُوَ مِنْهُمْ : إمَّا كَافِرٌ وَإِمَّا فَاجِرٌ بِحَسَبِ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ بِعَكْسِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَذَابٌ فِي تَرْكِهِ ؛ لَكِنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى مُجَرَّدِ عَدَمِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُثَابُ عَلَى قَصْدِهِ لِتَرْكِ ذَلِكَ وَإِرَادَتِهِ وَذَلِكَ مَسْبُوقٌ بِالْعِلْمِ بِقُبْحِ ذَلِكَ وَبُغْضِهِ لِلَّهِ وَهَذَا الْعِلْمُ وَالْقَصْدُ وَالْبُغْضُ هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي يُثَابُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَدْنَى الْإِيمَانِ ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ } إلَى آخِرِهِ وَتَغْيِيرُ الْقَلْبِ يَكُونُ بِالْبُغْضِ لِذَلِكَ وَكَرَاهَتِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَبِقُبْحِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْإِنْكَارُ بِاللِّسَانِ ثُمَّ يَكُونُ بِالْيَدِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } فِيمَنْ رَأَى الْمُنْكَرَ . فَأَمَّا إذَا رَآهُ فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُنْكَرٌ وَلَمْ يَكْرَهْهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْإِيمَانُ مَوْجُودًا فِي الْقَلْبِ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَرُؤْيَتِهِ : بِحَيْثُ يَجِبُ بُغْضُهُ

وَكَرَاهَتُهُ وَالْعِلْمُ بِقُبْحِهِ يُوجِبُ جِهَادَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ إذَا وُجِدُوا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُنْكَرُ مَوْجُودًا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ وَيُثَابُ مَنْ أَنْكَرَهُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَلَا يُثَابُ مَنْ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ حَتَّى يُنْكِرَهُ وَكَذَلِكَ مَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَاتِ قَدْ يَعْرِضُ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إعْرَاضَهُمْ عَنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَعَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا السَّيِّئَاتِ فَلَيْسُوا مِنْ الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ فِي إزَالَتِهَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَجْتَمِعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ هَذَانِ الْأَمْرَانِ بُغْضُ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ وَبُغْضُ الْفُجُورِ وَأَهْلِهِ وَبُغْضُ نَهْيِهِمْ وَجِهَادِهِمْ كَمَا يُحِبُّ الْمَعْرُوفَ وَأَهْلَهُ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ وَلَا يُجَاهِدَ عَلَيْهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وَقَوْلُهُ { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ

أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } الْآيَةُ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ كَرَاهَتُهُمْ لِلْجِهَادِ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ أَعْظَمُ مِنْ كَرَاهَتِهِمْ لِلْمُنْكَرَاتِ لَا سِيَّمَا إذَا كَثُرَتْ الْمُنْكَرَاتُ وَقَوِيَتْ فِيهَا الشُّبُهَاتُ وَالشَّهَوَاتُ فَرُبَّمَا مَالُوا إلَيْهَا تَارَةً وَعَنْهَا أُخْرَى فَتَكُونُ نَفْسُ أَحَدِهِمْ لَوَّامَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أَمَّارَةً ثُمَّ إذَا ارْتَقَى إلَى الْحَالِ الْأَعْلَى فِي هَجْرِ السَّيِّئَاتِ وَصَارَتْ نَفْسُهُ مُطَمْئِنَةً تَارِكَةً لِلْمُنْكَرَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ لَا تُحِبُّ الْجِهَادَ وَمُصَابَرَةَ الْعَدُوِّ عَلَى ذَلِكَ وَاحْتِمَالَ مَا يُؤْذِيهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ : فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ آخَرُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } الْآيَاتُ إلَى قَوْلِهِ : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } وَالشَّفَاعَةُ الْإِعَانَةُ ؛ إذْ الْمُعِينُ قَدْ صَارَ شَفْعًا لِلْمُعَانِ فَكُلُّ مَنْ أَعَانَ عَلَى بِرٍّ أَوْ تَقْوَى كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهُ وَمَنْ أَعَانَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ كَانَ لَهُ كِفْلٌ مِنْهُ وَهَذَا حَالُ النَّاسِ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمِنْ ذَلِكَ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } إلَى قَوْلِهِ { إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } .

وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ : مِنْ الْإِيمَانِ وَآثَارِهِ وَالْكُفْرِ وَآثَارِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ الْبَرِّ وَبَيْنَ الْكَافِرِ وَالْفَاجِرِ ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْمَعُونَ أَخْبَارَ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَيَشْهَدُونَ رُؤْيَتَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُمْ وَلِأَخْبَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ كَرُؤْيَةِ الصَّحَابَةِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمْعِهِمْ لِمَا بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ وَالْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ يَسْمَعُ وَيَرَى عَلَى وَجْهِ الْبُغْضِ وَالْجَهْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ } وَقَالَ : { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } وَقَالَ : { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } وَقَالَ : { فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ : { وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } وَقَالَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِتْنَةٌ فَقَالَ تَعَالَى { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } وَفِي التَّوْبَةِ { فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ } الْآيَةُ وَقَالَ : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } الْآيَةُ وَقَالَ : { وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وَقَالَ : { أَفَلَا يَنْظُرُونَ

إلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } الْآيَاتُ . وَقَالَ : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَقَالَ : { أَفَلَمْ يَرَوْا إلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } الْآيَةُ وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ : { إنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ } وَقَالَ : { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ } الْآيَاتُ وَقَالَ : { إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا } الْآيَةُ . فَالنَّظَرُ إلَى مَتَاعِ الدُّنْيَا عَلَى وَجْهِ الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ لَهَا وَلِأَهْلِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالنَّظَرُ إلَى الْمَخْلُوقَاتِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ مَأْمُورٌ بِهِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ . وَأَمَّا رُؤْيَةُ ذَلِكَ عِنْدَ الْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لِدَفْعِ شَرِّ أُولَئِكَ وَإِزَالَتِهِ فَمَأْمُورٌ بِهِ وَكَذَلِكَ رُؤْيَةُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا فِي الْجُمْلَةِ فَالْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ يُنْظَرُ إلَيْهَا نَظَرًا مَأْمُورًا بِهِ إمَّا لِلِاعْتِبَارِ وَإِمَّا لِبُغْضِ ذَلِكَ وَالنَّظَرُ إلَيْهِ لِبُغْضِ الْجِهَادِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَكَذَلِكَ الْمُوَالَاةُ وَالْمُعَادَاةُ ؛ وَقَدْ تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ فِتْنَةٌ بِنَظَرِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ نَظَرُ عِبْرَةٍ وَقَدْ يُؤْمَرُ بِالْجِهَادِ فَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ نَظَرُ فِتْنَةٍ كَاَلَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي } الْآيَةُ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ لَمَّا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَجَهَّزَ لِغَزْوِ الرُّومِ فَقَالَ : إنِّي مُغْرَمٌ بِالنِّسَاءِ وَأَخَافُ الْفِتْنَةَ بِنِسَاءِ الرُّومِ فَأْذَنْ لِي فِي الْقُعُودِ قَالَ تَعَالَى : { أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } .

فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يَكُونُ بِاللِّسَانِ مِنْ الْقَوْلِ وَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْ الْفِعْلِ بِالْجَوَارِحِ فَكُلُّ عَمَلٍ يَتَضَمَّنُ مَحَبَّةَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا دَاخِلٌ فِي هَذَا ؛ بَلْ يَكُونُ عَذَابُهُ أَشَدُّ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَوَعَّدَ بِالْعَذَابِ عَلَى مُجَرَّدِ مَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ قَدْ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ فَكَيْفَ إذَا اقْتَرَنَ بِهَا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ ؟ بَلْ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَالْقَذْفِ بِهَا وَإِشَاعَتِهَا فِي الَّذِينَ آمَنُوا وَمَنْ رَضِيَ عَمَلَ قَوْمٍ حُشِرَ مَعَهُمْ كَمَا حُشِرَتْ امْرَأَةُ لُوطٍ مَعَهُمْ وَلَمْ تَكُنْ تَعْمَلُ فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ مِنْ الْمَرْأَةِ لَكِنَّهَا لَمَّا رَضِيَتْ فِعْلَهُمْ عَمَّهَا الْعَذَابُ مَعَهُمْ . فَمِنْ هَذَا الْبَابِ قِيلَ : مَنْ أَعَانَ عَلَى الْفَاحِشَةِ وَإِشَاعَتِهَا مِثْلُ الْقُوَّادِ الَّذِي يَقُودُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ إلَى الْفَاحِشَةِ لِأَجْلِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ رِيَاسَةٍ أَوْ سُحْتٍ يَأْكُلُهُ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي تُنْفِقُ بِذَلِكَ : مِثْلَ الْمُغَنِّينَ وشربة الْخَمْرِ وَضُمَّانِ الْجِهَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ دَفْعِ مَنْ يُنْكِرُهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ قَلِيلَةً خَفِيفَةً خَفِيَّةً وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَا يَدْعُو إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَيَنْهَى عَنْ طَاعَتِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُحَرَّمٌ بِخِلَافِ عَكْسِهِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } أَيْ أَنَّ مَا فِيهَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ .

وَقَالَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ : { وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ } أَيْ : يُوقِعُهُمْ ذَلِكَ فِي مَعْصِيَتِهِ الَّتِي هِيَ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي تَنْهَى عَنْهُ الصَّلَاةُ وَالْخَمْرُ تَدْعُو إلَى الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فَإِنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إلَى الْجِمَاعِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا فَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ الْجِمَاعَ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا تَدْعُو إلَى الْحَرَامِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْجِمَاعِ فَيَأْتِي شَارِبُ الْخَمْرِ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ الْجِمَاعِ سَوَاءٌ كَانَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا وَالسُّكْرُ يُزِيلُ الْعَقْلَ الَّذِي كَانَ يُمَيِّزُ السَّكْرَانُ بِهِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْعَقْلُ الصَّحِيحُ يَنْهَى عَنْ مُوَاقَعَةِ الْحَرَامِ ؛ وَلِهَذَا يُكْثِرُ شَارِبُ الْخَمْرِ مِنْ مُوَاقَعَةِ الْفَوَاحِشِ مَا لَا يُكْثِرُ مِنْ غَيْرِهَا حَتَّى رُبَّمَا يَقَعُ عَلَى ابْنَتِهِ وَابْنِهِ وَمَحَارِمِهِ وَقَدْ يَسْتَغْنِي بِالْحَلَالِ إذَا أَمْكَنَهُ وَيَدْعُو شُرْبُ الْخَمْرِ إلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ : مِنْ سَرِقَةٍ وَمُحَارَبَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْخَمْرِ وَمَا يَسْتَتْبِعُهُ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ مِنْ فَوَاحِشَ وَغِنَاءٍ . وَشُرْبُ الْخَمْرِ يُظْهِرُ أَسْرَارَ الرِّجَالِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ شَارِبُهُ بِمَا فِي بَاطِنِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إذَا أَرَادُوا اسْتِفْهَامَ مَا فِي قُلُوبِ الرِّجَالِ مِنْ الْأَسْرَارِ يَسْقُونَهُمْ الْخَمْرَ وَرُبَّمَا يَشْرَبُونَ مَعَهُمْ مَا لَا يَسْكَرُونَ بِهِ . وَأَيْضًا فَالْخَمْرُ تَصُدُّ الْإِنْسَانَ عَنْ عِلْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَمَصْلَحَتِهِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ وَجَمِيعِ أُمُورِهِ الَّتِي يُدَبِّرُهَا بِرَأْيِهِ وَعَقْلِهِ فَجَمِيعُ الْأُمُورِ الَّتِي تَصُدُّ

عَنْهَا الْخَمْرُ مِنْ الْمَصَالِحِ وَتُوقِعُهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ دَاخِلَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى { وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ . } وَكَذَلِكَ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ هِيَ مُنْتَهَى قَصْدِ الشَّيْطَانِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلِ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ إفْسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ } . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْفَوَاحِشَ وَالظُّلْمَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوبِ تُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَأَنَّ كُلَّ عَدَاوَةٍ أَوْ بَغْضَاءَ فَأَصْلُهَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالشَّيْطَانُ يَأْمُرُ بِالْمَعْصِيَةِ لِيُوقِعَ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا وَلَا يَرْضَى بِغَايَةِ مَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَالْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ شَرٌّ مَحْضٌ لَا يُحِبُّهَا عَاقِلٌ ؛ بِخِلَافِ الْمَعَاصِي فَإِنَّ فِيهَا لَذَّةً كَالْخَمْرِ وَالْفَوَاحِشِ ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ تُرِيدُ ذَلِكَ وَالشَّيْطَانُ يَدْعُو إلَيْهَا النُّفُوسَ حَتَّى يُوقِعَهَا فِي شَرٍّ لَا تَهْوَاهُ وَلَا تُرِيدُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ مَا يُرِيدُهُ الشَّيْطَانُ بِالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ ثُمَّ قَالَ فِي سُورَةِ النُّورِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ }

وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } { إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَنَهَى عَنْ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِهِ - وَهُوَ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ بِالِاقْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ - وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالسُّوءِ وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ وَقَالَ فِيهَا : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا } فَالشَّيْطَانُ يَعِدُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالسُّوءِ وَاَللَّهُ يَعِدُ الْمَغْفِرَةَ وَالْفَضْلَ وَيَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَقَالَ عَنْ نَبِيِّهِ : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } وَقَالَ عَنْ أُمَّتِهِ : { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } . وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . فَتَارَةً يَخُصُّ اسْمَ الْمُنْكَرِ بِالنَّهْيِ وَتَارَةً يُقْرِنُهُ بِالْفَحْشَاءِ وَتَارَةً يُقْرِنُ مَعَهُمَا الْبَغْيَ وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ : تَارَةً يَخُصُّهُ بِالْأَمْرِ وَتَارَةً يُقْرِنُ بِهِ غَيْرَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ قَدْ يَكُونُ عُمُومُهَا وَخُصُوصُهَا بِحَسَبِ الْإِفْرَادِ وَالتَّرْكِيبِ : كَلَفْظِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا أُفْرِدَ كَانَ عَامًّا لِمَا يَدُلَّانِ عَلَيْهِ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ ؛ بِخِلَافِ اقْتِرَانِهِمَا فَإِنَّهُ يَكُونُ مَعْنَى كُلٍّ

مِنْهُمَا لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْآخَرِ بَلْ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْإِفْرَادِ وَأَيْضًا فَقَدْ يُعْطَفُ عَلَى الِاسْمِ الْعَامِّ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ ثُمَّ قَدْ قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ الْمُخَصَّصَ يَكُونُ مَذْكُورًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ وَالْخَاصِّ . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا . فَاسْمُ " الْمُنْكَرِ " يَعُمُّ كُلَّ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَنَهَى عَنْهُ وَهُوَ الْمُبْغَضُ وَاسْمُ " الْمَعْرُوفِ " يَعُمُّ كُلَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَأْمُرُ بِهِ فَحَيْثُ أُفْرِدَا بِالذِّكْرِ فَإِنَّهُمَا يَعُمَّانِ كُلَّ مَحْبُوبٍ فِي الدِّينِ وَمَكْرُوهٍ وَإِذَا قُرِنَ الْمُنْكَرُ بِالْفَحْشَاءِ فَإِنَّ الْفَحْشَاءَ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ و " الْمُنْكَرُ " هُوَ الَّذِي تُنْكِرُهُ الْقُلُوبُ فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ مَا فِي الْفَاحِشَةِ مِنْ الْمَحَبَّةِ يُخْرِجُهَا عَنْ الدُّخُولِ فِي الْمُنْكَرِ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُنْكِرُهَا الْقُلُوبُ فَإِنَّهَا تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ و " الْمُنْكَرُ " قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ يَعُمُّ مَعْنَى الْفَحْشَاءِ وَقَدْ يُقَالُ : خُصَّتْ لِقُوَّةِ الْمُقْتَضِي لِمَا فِيهَا مِنْ الشَّهْوَةِ وَقَدْ يُقَالُ : قَصَدَ بِالْمُنْكَرِ مَا يُنْكَرُ مُطْلَقًا وَالْفَحْشَاءُ لِكَوْنِهَا تُشْتَهَى وَتُحَبُّ وَكَذَلِكَ " الْبَغْيُ " قُرِنَ بِهَا لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ مَحَبَّةِ النُّفُوسِ . وَلِهَذَا كَانَ جِنْسُ عَذَابِ صَاحِبِهِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ عَذَابِ صَاحِبِ الْفَحْشَاءِ وَمَنْشَؤُهُ مِنْ قُوَّةِ الْغَضَبِ كَمَا أَنَّ الْفَحْشَاءَ مَنْشَؤُهَا عَنْ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَلِكُلِّ مِنْ النُّفُوسِ لَذَّةٌ بِحُصُولِ مَطْلُوبِهَا فَالْفَوَاحِشُ وَالْبَغْيُ مَقْرُونَانِ بِالْمُنْكَرِ وَأَمَّا الْإِشْرَاكُ وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ فَإِنَّهُ مُنْكَرٌ

مَحْضٌ لَيْسَ فِي النُّفُوسِ مَيْلٌ إلَيْهِمَا ؛ بَلْ إنَّمَا يَكُونَانِ عَنْ عِنَادٍ وَظُلْمٍ فَهُمَا مُنْكَرٌ وَظُلْمٌ مَحْضٌ بِالْفِطْرَةِ . فَهَذِهِ الْخِصَالُ فَسَادٌ فِي الْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ سَوَاءٌ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى الشَّيْطَانِ أَوْ إلَى مَنْ يَتَّبِعُ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ مَنْ أَتَى الْفَحْشَاءَ وَالْمُنْكَرَ سَوَاءٌ فَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ أَمَرَهُ فَهُوَ مُتَّبِعُهُ مُطِيعُهُ عَابِدٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ الْآتِي هُوَ الْآمِرُ فَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ أَبْلَغُ مِنْ فِعْلِهِ فَمَنْ أَمَرَ بِهَا غَيْرَهُ رَضِيَهَا لِنَفْسِهِ . وَمِنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ اسْتِمَاعُ الْعَبْدِ مَزَامِيرَ الشَّيْطَانِ وَالْمُغَنِّي هُوَ مُؤَذِّنُهُ الَّذِي يَدْعُو إلَى طَاعَتِهِ فَإِنَّ الْغِنَاءَ رُقْيَةُ الزِّنَا وَكَذَلِكَ مِنْ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ { قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ مُؤَاخَاةَ النِّسَاءِ والمردان وَإِحْضَارَهُمْ فِي سَمَاعِ الْغِنَاءِ وَدَعْوَى مَحَبَّةِ صُوَرِهِمْ لِلَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فُتِنَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَصَارُوا ضَالِّينَ مُضِلِّينَ . ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ نَهَى الْمَظْلُومَ بِالْقَذْفِ أَنْ يَمْنَعَ مَا يَنْبَغِي لَهُ فِعْلُهُ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى ذَوِي قَرَابَتِهِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَهْلِ التَّوْبَةِ وَأَمَرَهُ بِالْعَفْوِ

وَالصَّفْحِ ؛ فَإِنَّهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا وَلْيَغْفِرُوا وَلَا رَيْبَ أَنَّ صِلَةَ الْأَرْحَامِ وَاجِبَةٌ وَإِيتَاءَ الْمَسَاكِينِ وَاجِبٌ وَإِعَانَةَ الْمُهَاجِرِينَ وَاجِبٌ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا يَجِبُ مِنْ الْإِحْسَانِ لِلْإِنْسَانِ بِمُجَرَّدِ ظُلْمِهِ وَإِسَاءَتِهِ فِي عِرْضِهِ كَمَا لَا يَمْنَعُ الرَّجُلُ مِيرَاثَهُ وَحَقَّهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَالْفَيْءِ بِمُجَرَّدِ ذَنْبٍ مِنْ الذُّنُوبِ وَقَدْ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِبَعْضِ الذُّنُوبِ . وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الصِّلَةِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا لِذَوِي الْأَرْحَامِ - الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ بِفَرْضِ وَلَا تَعْصِيبٍ - فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ وَكَانَ أَحَدَ الْخَائِضِينَ فِي الْإِفْكِ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ وَكَانَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى الَّذِينَ نَهَى عَنْ تَرْكِ إيتَائِهِمْ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ كَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى تَرْكِ الْجَائِزِ جَائِزٌ .
فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وَقَالَ فِيهَا{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } ،

{ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وَقَالَ فِيهَا : { لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } فَذَكَرَ عَدَدَ الشُّهَدَاءِ وَأَطْلَقَ صِفَتَهُمْ وَلَمْ يُقَيِّدْهُمْ بِكَوْنِهِمْ مِنَّا وَلَا مِمَّنْ نَرْضَى وَلَا مِنْ ذَوِي الْعَدْلِ كَمَا قَيَّدَ صِفَةَ الشُّهَدَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْحَدُّ عَلَى الزَّانِي مِثْلُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَغَيْرِهِمْ هَلْ تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْ الْقَاذِفِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . " أَحَدُهُمَا " أَنَّهَا تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْ الْقَاذِفِ وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ حَدَّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ كَشَهَادَةِ الزَّوْجِ عَلَى امْرَأَتِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْرَأُ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى امْرَأَتِهِ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا تَدْفَعُ الْعَذَابَ عَنْهَا بِشَهَادَتِهَا أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ وَلَوْ لَمْ تَشْهَدْ فَهَلْ تُحَدُّ أَوْ تُحْبَسُ حَتَّى تُقِرَّ أَوْ تُلَاعِنَ أَوْ يُخَلَّى سَبِيلُهَا ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ دَرْءِ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ وُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا حَدٌّ وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْأَرْبَعُ شَهَادَاتٍ لِلْقَاذِفِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ وَلَوْ اعْتَرَفَ الْمَقْذُوفُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا دُرِئَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ وَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَنْهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ غَيْرَ مُحْصَنٍ - مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِالْفَاحِشَةِ - لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَمْ يُحَدَّ هُوَ حَدَّ الزِّنَا لِمُجَرَّدِ الِاسْتِفَاضَةِ ،

وَإِنْ كَانَ يُعَاقَبُ كُلٌّ مِنْهُمَا دُونَ الْحَدِّ وَقَدْ اُعْتُبِرَ نِصَابُ حَدِّ الزِّنَا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ . وَكَذَلِكَ تُعْتَبَرُ صِفَاتُهُمْ فَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى مُسْلِمٍ إلَّا بِشَهَادَةِ مُسْلِمِينَ لَكِنْ يُقَالُ : لَمْ يُقَيِّدْهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ كَمَا قَيَّدَهُمْ فِي آيَةِ الدَّيْنِ بِقَوْلِهِ : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } وَقَالَ فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ : { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَقَالَ فِي آيَةِ الرَّجْعَةِ { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ نَحْمِلَ الشَّهَادَةَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا لِأَهْلِ الْعَدْلِ وَالرِّضَا وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُمْتَثِلُونَ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ بِقَوْلِهِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا } الْآيَةُ . وَفِي قَوْلِهِ : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } وَقَوْلِهِ : { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ } وَقَوْلُهُ : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } وَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ } فَهُمْ يَقُومُونَ بِالشَّهَادَةِ بِالْقِسْطِ لِلَّهِ فَيَحْصُلُ مَقْصُودُ الَّذِي اسْتَشْهَدَهُ . " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنَّ كَوْنَ شَهَادَتِهِمْ مَقْبُولَةً مَسْمُوعَةً لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَالرِّضَى . فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِي الْقَبُولِ وَالْأَدَاءِ وَقَدْ نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ بِقَوْلِهِ : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } الْآيَةُ لَكِنَّ هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْفَاسِقَ الْوَاحِدَ يَجِبُ التَّبَيُّنُ فِي خَبَرِهِ ،

وَأَمَّا الْفَاسِقَانِ فَصَاعِدًا فَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ تَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ عَدَدِ الشُّهُودِ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فِي مَوَاضِعَ وَعِنْدَ جُمْهُورِهِمْ قَدْ يُحْكَمُ بِلَا شُهُودٍ فِي مَوَاضِعَ عِنْدَ النُّكُولِ وَالرَّدِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيُحْكَمُ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ كَمَا مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ { قَضَى بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ } وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْتَبِرْ عِنْدَ الْأَدَاءِ هَذَا الْقَيْدَ : لَا فِي آيَةِ الزِّنَا وَلَا فِي آيَةِ الْقَذْفِ بَلْ قَالَ : { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ عِنْدَ خَبَرِ الْفَاسِقِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ عِنْدَ خَبَرِ الْفَاسِقِينَ فَإِنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ يُوجِبُ مِنْ الِاعْتِقَادِ مَا لَا يُوجِبُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : إذَا اسْتَرَابَ الْحَاكِمُ فِي الشُّهُودِ فَرَّقَهُمْ وَسَأَلَهُمْ عَنْ مَكَانِ الشَّهَادَةِ وَزَمَانِهَا وَصِفَتِهَا وَتَحَمُّلِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَبَيَّنُ بِهِ اتِّفَاقُهُمْ وَاخْتِلَافُهُمْ . وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَذَفَةِ لَا تُقْبَلُ لَهُمْ شَهَادَةٌ أَبَدًا وَاحِدًا كَانُوا أَوْ عَدَدًا ؛ بَلْ لَفْظُ الْآيَةِ يَنْتَظِمُ الْعَدَدَ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ وَالْبَدَلِ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَكَانَ الَّذِينَ قَذَفُوا

عَائِشَةَ عَدَدًا وَلَمْ يَكُونُوا وَاحِدًا لَمَّا رَأَوْهَا قَدْ قَدِمَتْ صُحْبَةَ صَفْوَانِ بْنِ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِي بَعْدَ قُفُولِ الْعَسْكَرِ وَكَانَتْ قَدْ ذَهَبَتْ تَطْلُبُ قِلَادَةً لَهَا عَدِمَتْ فَرَفَعَ أَصْحَابُ الْهَوْدَجِ هَوْدَجَهَا مُعْتَقِدِينَ أَنَّهَا فِيهِ لِخِفَّتِهَا وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ فَلَمَّا رَجَعَتْ لَمْ تَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْجَيْشِ فَمَكَثَتْ مَكَانَهَا وَكَانَ صَفْوَانُ قَدْ تَخَلَّفَ وَرَاءَ الْجَيْشِ فَلَمَّا رَآهَا أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ عَنْهَا وَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى رَكِبَتْهَا ثُمَّ ذَهَبَ بِهَا إلَى الْعَسْكَرِ فَكَانَتْ خَلْوَتُهُ بِهَا لِلضَّرُورَةِ كَمَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِلَا مَحْرَمٍ لِلضَّرُورَةِ كَسَفَرِ الْهِجْرَةِ : مِثْلَ مَا قَدِمَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي معيط مُهَاجِرَةً وَقِصَّةِ عَائِشَةَ . وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَاذِفِينَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُجْتَمِعِينَ وَلَا مُتَفَرِّقِينَ . وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ شَهَادَتَهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ مَقْبُولَةٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ وَكَانَ مِنْهُمْ حمنة بِنْتُ جَحْشٍ وَغَيْرُهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ شَهَادَةَ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ تَابُوا لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِبَرَاءَتِهَا وَمَنْ لَمْ يَتُبْ حِينَئِذٍ فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُكَذِّبٌ بِالْقُرْآنِ وَهَؤُلَاءِ مَا زَالُوا مُسْلِمِينَ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ قَطْعِ صِلَتِهِمْ وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَاسْتَفَاضَ ذَلِكَ كَمَا اسْتَفَاضَ رَدُّ عُمَرَ شَهَادَةِ أَبِي بَكْرَةَ وَقِصَّةُ عَائِشَةَ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ قِصَّةِ الْمُغِيرَةِ ؛ لَكِنَّ مَنْ

رَدَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ قَدْ يَقُولُ : أَرُدُّ شَهَادَةَ مَنْ حُدَّ فِي الْقَذْفِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُحَدُّوا وَالْأَوَّلُونَ يُجِيبُونَ بِأَجْوِبَةِ .
أَحَدُهَا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ أُولَئِكَ . وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَالثَّالِثُ أَنَّ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْحَدَّ اعْتَبَرُوهُ وَقَالُوا : قَدْ يَكُونُ الْقَاذِفُ صَادِقًا وَقَدْ يَكُونُ كَاذِبًا فَإِعْرَاضُ الْمَقْذُوفِ عَنْ طَلَبِ حَدِّ الْقَذْفِ قَدْ يَكُونُ لِصِدْقِ الْقَاذِفِ فَإِذَا طُلِبَ الْحَدُّ وَلَمْ يَأْتِ الْقَاذِفُ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ظَهَرَ كَذِبُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ أَعْظَمَ مِنْ ظُهُورِ كَذِبِ كُلِّ أَحَدٍ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي بَرَّأَهَا بِكَلَامِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ يُتْلَى فَإِذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مَقْبُولَةً فَشَهَادَةُ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ شَهِدَ عَلَى غَيْرِهَا بِالْقَذْفِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَقِصَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الَّتِي حَكَمَ فِيهَا بَيْن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي شَأْنِ الْمُغِيرَةِ لَمَّا شَهِدَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا وَتَوَقَّفَ الرَّابِعُ عَنْ الشَّهَادَةِ فَجَلَدَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةَ وَرَدَّ شَهَادَتَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا كَمَا دَلَّتْ قِصَّةُ عَائِشَةَ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالْجَلَدِ ؛ لِأَنَّ اثْنَيْنِ مِنْ الثَّلَاثَةِ تَابَا فَقَبِلَ عُمَرُ

وَالْمُسْلِمُونَ شَهَادَتَهُمَا وَالثَّالِثُ وَهُوَ أَبُو بَكْرَةَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَفْضَلِهِمْ لَمْ يَتُبْ فَلَمَّا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَقْبَلْ الْمُسْلِمُونَ شَهَادَتَهُ وَكَانَ مِنْ صَالِحِي الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَك ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ الْقُرْآنُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْقَذَفَةَ إنْ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ أَبَدًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } فَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } وَصْفُ ذَمٍّ لَهُمْ زَائِدٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ رَدِّ شَهَادَتِهِمْ .
وَأَمَّا تَفْسِيرُ " الْعَدَالَةِ " الْمَشْرُوطَةِ فِي هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ : فَإِنَّهَا الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ وَالصَّلَاحُ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْكَبِيرَةِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغِيرَةِ . و " الصَّلَاحُ فِي الْمُرُوءَةِ " اسْتِعْمَالُ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ وَاجْتِنَابُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ فَإِذَا وُجِدَ هَذَا فِي شَخْصٍ كَانَ عَدْلًا فِي شَهَادَتِهِ وَكَانَ مِنْ الصَّالِحِينَ الْأَبْرَارِ . وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَشْهَدُ أَحَدٌ فِي وَصِيَّةٍ أَوْ رَجْعَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ حَتَّى يَكُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ بَلْ هَذَا صِفَةُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي أَكْمَلَ إيمَانَهُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَبَّاتِ لَمْ يُكْمِلْهَا وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ . ثُمَّ إنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا قَدْ يُفَسِّرُونَ الْوَاجِبَاتِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَنَحْوِهَا ؛ بَلْ قَدْ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ مَا لَا يُحْصِيهِ

إلَّا اللَّهُ تَعَالَى مِمَّا يَكُونُ تَرْكُهُ أَعْظَمَ إثْمًا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجْعَلُوهُ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ ؛ إمَّا لِعَدَمِ اسْتِشْعَارِ كَثْرَةِ الْوَاجِبَاتِ وَإِمَّا لِالْتِفَاتِهِمْ إلَى تَرْكِ السَّيِّئَاتِ دُونَ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ وَبِالْجُمْلَةِ هَذَا مُعْتَبَرٌ فِي بَابِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : الْأَصْلُ فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ بَلْ الْأَصْلُ فِي بَنِي آدَمَ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } . وَمُجَرَّدُ التَّكَلُّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَا يُوجِبُ انْتِقَالَ الْإِنْسَانِ عَنْ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ إلَى الْعَدْلِ . و ( بَابُ الشَّهَادَةِ مَدَارُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الشَّهِيدُ مَرْضِيًّا أَوْ يَكُونَ ذَا عَدْلٍ يَتَحَرَّى الْقِسْطَ وَالْعَدْلَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَالصِّدْقَ فِي شَهَادَتِهِ وَخَبَرِهِ وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ هَذَا مَعَ الْإِخْلَالِ بِكَثِيرِ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ ؛ كَمَا أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا كَثِيرًا مَا تُوجَدُ بِدُونِ هَذَا كَمَا قَدْ رَأَيْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الصِّنْفَيْنِ كَثِيرًا ؛ لَكِنْ يُقَالُ : إنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الشَّهَادَةِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهَا وَعَلَامَةٌ لَهَا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ : { عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَالْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ } الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ .

فَالصِّدْقُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْبِرِّ كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْفُجُورِ فَإِذَا وُجِدَ الْمَلْزُومُ وَهُوَ تَحَرِّي الصِّدْقِ وُجِدَ اللَّازِمُ وَهُوَ الْبِرُّ وَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ وَهُوَ الْبِرُّ انْتَفَى الْمَلْزُومُ وَهُوَ الصِّدْقُ وَإِذَا وُجِدَ الْكَذِبُ وَهُوَ الْمَلْزُومُ وُجِدَ الْفُجُورُ وَهُوَ اللَّازِمُ وَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ وَهُوَ الْفُجُورُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ وَهُوَ الْكَذِبُ ؛ فَلِهَذَا اُسْتُدِلَّ بِعَدَمِ بِرِّ الرَّجُلِ عَلَى كَذِبِهِ وَبِعَدَمِ فُجُورِهِ عَلَى صِدْقِهِ . فَالْعَدْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مَنْ انْتَفَى فُجُورُهُ وَهُوَ إتْيَانُ الْكَبِيرَةِ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ فِيهِ انْتَفَى كَذِبُهُ الَّذِي يَدْعُوهُ إلَى هَذَا الْفُجُورِ وَالْفَاسِقُ هُوَ مَنْ عَدِمَ بِرُّهُ وَإِذَا عَدِمَ بِرُّهُ عَدِمَ صِدْقُهُ وَدَلَالَةُ هَذَا الْحَدِيثِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْبِرِّ يَسْتَلْزِمُ الْبِرَّ وَالدَّاعِيَ إلَى الْفُجُورِ يَسْتَلْزِمُ الْفُجُورَ . فَالْخَطَأُ كَالنِّسْيَانِ وَالْعَمْدُ كَالْكَذِبِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } - فِي طَرْدِهِ الْكَلَامَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا فَقَالَ - وَأَمَّا الْجَوَابُ الْمُفَصَّلُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . " أَحَدُهَا " أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَرَوَى هَشِيمٌ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حوشب ثَنَا شَيْخٌ مِنْ بَنِي كَاهِلٍ قَالَ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ " سُورَةَ النُّورِ " فَلَمَّا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ : { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ : هَذِهِ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَهِيَ مُبْهَمَةٌ لَيْسَ فِيهَا تَوْبَةٌ وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ تَوْبَةً ثُمَّ قَرَأَ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } إلَى قَوْلِهِ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } فَجَعَلَ لِهَؤُلَاءِ تَوْبَةً وَلَمْ يَجْعَلْ لِأُولَئِكَ تَوْبَةً قَالَ : فَهَمَّ رَجُلٌ أَنْ يَقُومَ فَيُقَبِّلَ رَأْسَهُ مِنْ حُسْنِ مَا فَسَّرَهُ .

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِرَاشٍ عَنْ الْعَوَّامِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ } نَزَلَتْ فِي عَائِشَةَ خَاصَّةً وَاللَّعْنَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ عَامَّةٌ فَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَنْ يَقْذِفُ عَائِشَةَ وَأُمَّهَاتَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ لِمَا فِي قَذْفِهِنَّ مِنْ الطَّعْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَيْبِهِ فَإِنَّ قَذْفَ الْمَرْأَةِ أَذًى لِزَوْجِهَا كَمَا هُوَ أَذًى لِابْنِهَا لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ لَهُ إلَى الدِّيَاثَةِ وَإِظْهَارٌ لِفَسَادِ فِرَاشِهِ ؛ فَإِنَّ زِنَا امْرَأَتِهِ يُؤْذِيهِ أَذًى عَظِيمًا وَلِهَذَا جَوَّزَ لَهُ الشَّارِعُ أَنْ يَقْذِفَهَا إذَا زَنَتْ وَدَرَأَ الْحَدَّ عَنْهُ بِاللِّعَانِ وَلَمْ يُبِحْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْذِفَ امْرَأَةً بِحَالِ وَلَعَلَّ مَا يَلْحَقُ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ الْعَارِ وَالْخِزْيِ بِقُذُفِ أَهْلِهِ أَعْظَمُ مِمَّا يَلْحَقُهُ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَقْذُوفُ .
وَلِهَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَنْصُوصَتَيْنِ عَنْهُ إلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً مُحْصَنَةً كَالْأَمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ وَلَهَا زَوْجٌ أَوْ وَلَدٌ مُحْصَنٌ حُدَّ لِقَذْفِهَا لِمَا أَلْحَقُهُ مِنْ الْعَارِ بِوَلَدِهَا وَزَوْجِهَا الْمُحْصَنَيْنِ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ وَهِيَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَذًى لَهُمَا لَا قَذْفٌ لَهُمَا وَالْحَدُّ التَّامُّ إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَذْفِ وَفِي جَانِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذًى كَقَذْفِهِ وَمَنْ يَقْصِدُ عَيْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْبِ أَزْوَاجِهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ اللَّعْنَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ عَامَّةٌ . وَقَدْ وَافَقَ ابْنَ عَبَّاسٍ جَمَاعَةٌ فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَالْأَشَجُّ عَنْ خَصِيفٍ

قَالَ سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقُلْت : الزِّنَا أَشَدُّ أَوْ قَذْفُ الْمُحْصَنَةِ ؟ قَالَ : لَا ؛ بَلْ الزِّنَا قَالَ : قُلْت : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } فَقَالَ : إنَّمَا كَانَ هَذَا فِي عَائِشَةَ خَاصَّةً وَرَوَى أَحْمَد بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } فَقَالَ : هَذِهِ الْآيَةُ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً وَرَوَى الْأَشَجُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ : هُنَّ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الْكَلْبِيِّ : إنَّمَا عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا مَنْ رَمَى امْرَأَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فَاسِقٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ يَتُوبُ . وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا تُسْتَوْجَبُ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ فَتَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ : { الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ وَالْمَعْهُودُ هُنَا أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ وَوُقُوعِ مَنْ وَقَعَ فِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ أَوْ يُقْصَرُ اللَّفْظُ الْعَامُّ عَلَى سَبَبِهِ لِلدَّلِيلِ الَّذِي يُوجِبُ ذَلِكَ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَتَّبَ هَذَا الْوَعِيدَ عَلَى قَذْفِ مُحْصَنَاتٍ غَافِلَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } الْآيَةُ . فَرَتَّبَ الْحَدَّ وَرَدَّ الشَّهَادَةَ وَالْفِسْقَ عَلَى مُجَرَّدِ قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ

الْمُحْصَنَاتُ الْغَافِلَاتُ الْمُؤْمِنَاتُ لَهُنَّ مَزِيَّةٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْمُحْصَنَاتِ ؛ وَذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْهُودٌ لَهُنَّ بِالْإِيمَانِ ؛ لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُنَّ أَزْوَاجُ نَبِيِّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَعَوَامُّ الْمُسْلِمَاتِ إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْهُنَّ فِي الْغَالِبِ ظَاهِرُ الْإِيمَانِ . وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ : { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فَتَخْصِيصُهُ مُتَوَلِّي كِبَرَهُ دُونَ غَيْرِهِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ وَقَالَ : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فَعُلِمَ أَنَّ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ لَا يَمَسُّ كُلَّ مَنْ قَذَفَ وَإِنَّمَا يَمَسُّ مُتَوَلِّي كِبَرَهُ فَقَطْ وَقَالَ هُنَا : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي رَمَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ يَعِيبُ بِذَلِكَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَلَّى كِبَرَ الْإِفْكِ وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِ ابْنُ أبي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةً أَيْضًا مُوَافِقَةً لِتِلْكَ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَمْيُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَذًى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُعِنَ صَاحِبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَيْسَ فِيهَا تَوْبَةٌ ؛ لِأَنَّ مُؤْذِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ أَوْ يُرِيدُ إذَا تَابَ مِنْ الْقَذْفِ حَتَّى يُسْلِمَ إسْلَامًا جَدِيدًا وَعَلَى هَذَا فَرَمْيُهُنَّ نِفَاقٌ مُبِيحٌ لِلدَّمِ إذَا قُصِدَ بِهِ أَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ .

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَذْفَهُنَّ أَذًى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي ابْنِ سلول قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْت عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إلَّا مَعِي فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ : أَنَا أَعْذُرُك مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَك فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عبادة - وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ - فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ : لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلَنَّهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ فَقَامَ أسيد بْنُ حضير وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عبادة : كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ قَالَتْ فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْفِضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً . وَيَقُولُ آخَرُونَ يَعْنِي أَزْوَاجَ الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ : قَذْفُ

الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْمُوجِبَاتِ ثُمَّ قَرَأَ : { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } الْآيَةُ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : قَذْفُ الْمُحْصَنَةِ يُحْبِطُ عَمَلَ تِسْعِينَ سَنَةٍ رَوَاهُمَا الْأَشَجُّ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ . وَوَجْهُهُ ظَاهِرُ الْخِطَابِ فَإِنَّهُ عَامٌّ فَيَجِبُ إجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ ؛ إذْ لَا مُوجِبَ لِخُصُوصِهِ وَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِنَفْسِ السَّبَبِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ حُكْمَ غَيْرِ عَائِشَةَ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ السَّبَبِ وَلِأَنَّهُ لَفْظُ جَمْعٍ وَالسَّبَبُ فِي وَاحِدَةٍ هُنَا ؛ وَلِأَنَّ قَصْرَ عمومات الْقُرْآنِ عَلَى أَسْبَابِ نُزُولِهَا بَاطِلٌ فَإِنَّ عَامَّةَ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بِأَسْبَابِ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يُقْصَرْ عَلَى سَبَبِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ : أَنَّهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ذَكَرَ الْعُقُوبَاتِ الْمَشْرُوعَةَ عَلَى أَيْدِي الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْجَلْدِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ وَالتَّفْسِيقِ وَهُنَا ذَكَرَ الْعُقُوبَةَ الْوَاقِعَةَ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَهِيَ اللَّعْنَةُ فِي الدَّارَيْنِ وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَعَنْ أَصْحَابِهِ : { أَنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْكَبَائِرِ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ : { قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ . } تَمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الثمالي : بَلَغَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ إذْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا خَرَجَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ

مُهَاجِرَةً قَذَفَهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالُوا : إنَّمَا خَرَجَتْ تَفْجُرُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِيمَنْ قَذَفَ الْمُؤْمِنَاتِ قَذْفًا يَصُدُّهُنَّ بِهِ عَنْ الْإِيمَانِ وَيَقْصِدُ بِذَلِكَ ذَمَّ الْمُؤْمِنِينَ لِيُنَفِّرَ النَّاسَ عَنْ الْإِسْلَامِ كَمَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَعَلَى هَذَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَوْلُهُ : إنَّهَا نَزَلَتْ زَمَنَ الْعَهْدِ يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ عَنَى بِهَا مِثْلَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَاهِدِينَ وَإِلَّا فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ لَيَالِيَ الْإِفْكِ وَكَانَ الْإِفْكُ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَبْلَ الْخَنْدَقِ وَالْهُدْنَةُ كَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِنِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَعُمُومِهَا لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا قَذْفُ عَائِشَةَ وَكَانَ فِيمَنْ قَذَفَهَا مُؤْمِنٌ وَمُنَافِقٌ وَسَبَبُ النُّزُولِ لَا بُدَّ أَنْ يَنْدَرِجَ فِي الْعُمُومِ وَلِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِتَخْصِيصِهَا . وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ هُنَا : { لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّاعِنَ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } وَإِذَا لَمْ يُسَمَّ الْفَاعِلُ جَازَ أَنْ يَلْعَنَهُمْ غَيْرُ اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ وَجَازَ أَنْ يَلْعَنَهُمْ اللَّهُ فِي وَقْتٍ وَيَلْعَنَهُمْ بَعْضُ خَلْقِهِ فِي وَقْتٍ وَجَازَ أَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّى لَعْنَةَ بَعْضِهِمْ وَهُوَ مَنْ كَانَ قَذْفُهُ طَعْنًا فِي الدِّينِ وَيَتَوَلَّى خَلْقُهُ لَعْنَةَ الْآخَرِينَ وَإِذَا كَانَ اللَّاعِنُ مَخْلُوقًا فَلَعْنُهُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى

الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُبْعِدُونَهُمْ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ تَلَاعَنَا وَقَالَ الزَّوْجُ فِي الْخَامِسَةِ : لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فَهُوَ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ إنْ كَانَ كَاذِبًا فِي الْقَذْفِ أَنْ يَلْعَنَهُ اللَّهُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولُهُ أَنْ يُبَاهِلَ مَنْ حَاجَّهُ فِي الْمَسِيحِ بَعْدَ مَا جَاءَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِأَنْ يَبْتَهِلُوا فَيَجْعَلُوا لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ فَهَذَا مِمَّا يُلْعَنُ بِهِ الْقَاذِفُ وَمِمَّا يُلْعَنُ بِهِ أَنْ يُجْلَدَ وَأَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ وَيُفَسَّقَ فَإِنَّهُ عُقُوبَةٌ لَهُ وَإِقْصَاءٌ لَهُ عَنْ مَوَاطِنِ الْأَمْنِ وَالْقَبُولِ وَهِيَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَعَنَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ لَهُ تُوجِبُ زَوَالَ النَّصْرِ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبُعْدَهُ عَنْ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ فِي الدَّارَيْنِ . وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْفَرْقَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } وَلَمْ يَجِئْ إعْدَادُ الْعَذَابِ الْمُهِينِ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ كَقَوْلِهِ : { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } وَقَوْلِهِ : { وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } وَقَوْلِهِ : { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } { إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا

شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } { وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ . } وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } فَهِيَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - فِيمَنْ جَحَدَ الْفَرَائِضَ وَاسْتَخَفَّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْعَذَابَ أُعِدَّ لَهُ . وَأَمَّا الْعَذَابُ الْعَظِيمُ فَقَدْ جَاءَ وَعِيدًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ : { لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَقَوْلِهِ : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَفِي الْمُحَارِبِ { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَفِي الْقَاتِلِ { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } وَقَوْلِهِ : { وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ } وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِهَانَةَ إذْلَالٌ وَتَحْقِيرٌ وَخِزْيٌ وَذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَلَمِ الْعَذَابِ فَقَدْ يُعَذَّبُ الرَّجُلُ الْكَرِيمُ وَلَا يُهَانُ فَلَمَّا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : { وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ الَّذِي تَوَعَّدَ بِهِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَلَمَّا قَالَ هُنَاكَ : { وَلَهُمْ عَذَابٌ

عَظِيمٌ } جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ : { لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . } وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ أَيْضًا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ هُنَاكَ : { وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } وَالْعَذَابُ إنَّمَا أُعِدَّ لِلْكَافِرِينَ ؛ فَإِنَّ جَهَنَّمَ لَهُمْ خُلِقَتْ لِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلُوهَا وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلُوهَا إذَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ وَإِذَا دَخَلُوهَا فَإِنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ قَالَ سُبْحَانَهُ { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَأْكُلُوا الرِّبَا وَأَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ وَأَنْ يَتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ يُخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ دُخُولِ النَّارِ إذَا أَكَلُوا الرِّبَا وَفَعَلُوا الْمَعَاصِيَ مَعَ أَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلْكَافِرِينَ لَا لَهُمْ . وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ وَأَمَّا أَقْوَامٌ لَهُمْ ذُنُوبٌ فَيُصِيبُهُمْ سَفْعٌ مِنْ النَّارِ ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ اللَّهُ مِنْهَا . } وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَإِنْ كَانَ لَا يَدْخُلُهَا الْأَبْنَاءُ بِعَمَلِ آبَائِهِمْ وَيَدْخُلُهَا قَوْمٌ بِالشَّفَاعَةِ وَقَوْمٌ بِالرَّحْمَةِ وَيُنْشِئُ اللَّهُ لِمَا فَضَلَ مِنْهَا خَلْقًا آخَرَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَيُدْخِلُهُمْ إيَّاهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُعَدُّ لِمَنْ يَسْتَوْجِبُهُ وَيَسْتَحِقُّهُ وَلِمَنْ هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ ثُمَّ قَدْ يَدْخُلُ مَعَهُ غَيْرُهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ أَوْ لِسَبَبِ آخَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ } . وَالنَّظَرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ نَظَرُ الْعَوْرَاتِ وَنَظَرُ الشَّهَوَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْعَوْرَاتِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الِاسْتِئْذَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ . ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحَدَهُمَا وَفِي الْآيَتَيْنِ فِي آخِرِ السُّورَةِ النَّوْعَ الثَّانِيَ وَهُوَ اسْتِئْذَانُ الصِّغَارِ وَالْمَمَالِيكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } فَأَمَرَ بِاسْتِئْذَانِ الصِّغَارِ وَالْمَمَالِيكِ حِينَ الِاسْتِيقَاظِ مِنْ النَّوْمِ وَحِينَ إرَادَةِ النَّوْمِ ،

وَحِينَ الْقَائِلَةِ ؛ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ تَبْدُو الْعَوْرَاتُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ } . وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَ الْمُمَيِّزَ وَالْمُمَيِّزَ مِنْ الصِّبْيَانِ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ كَمَا لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى عَوْرَةِ الصَّبِيِّ وَالْمَمْلُوكِ وَغَيْرِهِمَا . وَأَمَّا دُخُولُ هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } . وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الطَّوَّافِينَ يُرَخَّصُ فِيهِمْ مَا لَا يُرَخَّصُ فِي غَيْرِ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ وَالطَّوَّافُ مَنْ يَدْخُلُ بِغَيْرِ إذْنٍ كَمَا تَدْخُلُ الْهِرَّةُ وَكَمَا يَدْخُلُ الصَّبِيُّ وَالْمَمْلُوكُ وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فَغَيْرُ الْمُمَيِّزِ أَوْلَى . وَيُرَخَّصُ فِي طَهَارَتِهِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي الصِّبْيَانِ وَالْهِرَّةِ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهُمْ إنْ أَصَابَتْهُمْ نَجَاسَةٌ أَنَّهَا تَطْهُرُ بِمُرُورِ الرِّيقِ عَلَيْهَا وَلَا تَحْتَاجُ إلَى غَسْلٍ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الطَّوَّافِينَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ فِي الْهِرَّةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهَا تَأْكُلُ الْفَأْرَةَ وَلَمْ تَكُنْ بِالْمَدِينَةِ مِيَاهٌ تَرِدُهَا السَّنَانِيرُ لِيُقَالَ طَهُرَ فَمُهَا بِوُرُودِهَا الْمَاءَ فَعُلِمَ أَنَّ طَهَارَةَ هَذِهِ الْأَفْوَاهِ لَا تَحْتَاجُ إلَى غَسْلٍ فَالِاسْتِئْذَانُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ قَبْلَ دُخُولِ

الْبَيْتِ مُطْلَقًا وَالتَّفْرِيقُ فِي آخِرِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ وَالصَّغِيرَ طَوَّافٌ يَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ الْبَيْتِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَشَقَّ اسْتِئْذَانُهُ بِخِلَافِ الْمُحْتَلِمِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } الْآيَةُ إلَى قَوْلِهِ : { وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ بِالْغَضِّ مِنْ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ كَمَا أَمَرَهُمْ جَمِيعًا بِالتَّوْبَةِ وَأَمَرَ النِّسَاءَ خُصُوصًا بِالِاسْتِتَارِ وَأَنْ لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ وَمَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ فَمَا ظَهَرَ مِنْ الزِّينَةِ هُوَ الثِّيَابُ الظَّاهِرَةُ فَهَذَا لَا جُنَاحَ عَلَيْهَا فِي إبْدَائِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَحْذُورٌ آخَرُ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَا بُدَّ مِنْ إبْدَائِهَا وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ مِنْ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ النِّسَاءَ بِإِرْخَاءِ الْجَلَابِيبِ لِئَلَّا يُعْرَفْنَ وَلَا يُؤْذَيْنَ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَقَدْ ذَكَرَ عُبَيْدَةُ السلماني وَغَيْرُهُ : أَنَّ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ كُنَّ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ الْجَلَابِيبَ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِنَّ حَتَّى لَا يَظْهَرَ إلَّا عُيُونُهُنَّ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ الطَّرِيقِ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُحْرِمَةَ تُنْهَى عَنْ الِانْتِقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ } وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّقَابَ

وَالْقُفَّازَيْنِ كَانَا مَعْرُوفَيْنِ فِي النِّسَاءِ اللَّاتِي لَمْ يُحْرِمْنَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي سَتْرَ وُجُوهِهِنَّ وَأَيْدِيهِنَّ . وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالزِّينَةِ الْخَفِيَّةِ بِالسَّمْعِ أَوْ غَيْرِهِ فَقَالَ : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } وَقَالَ : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } فَلَمَّا نَزَلَ ذَلِكَ عَمَدَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ إلَى خُمُرِهِنَّ فَشَقَقْنَهُنَّ وَأَرْخَيْنَهَا عَلَى أَعْنَاقِهِنَّ . و " الْجَيْبُ " هُوَ شِقٌّ فِي طُولِ الْقَمِيصِ . فَإِذَا ضَرَبَتْ الْمَرْأَةُ بِالْخِمَارِ عَلَى الْجَيْبِ سَتَرَتْ عُنُقَهَا . وَأُمِرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُرْخِيَ مِنْ جِلْبَابِهَا وَالْإِرْخَاءُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْبَيْتِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي الْبَيْتِ فَلَا تُؤْمَرُ بِذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ بِصَفِيَّةَ قَالَ أَصْحَابُهُ : إنْ أَرْخَى عَلَيْهَا الْحِجَابَ فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يَضْرِبْ عَلَيْهَا الْحِجَابَ فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَضَرَبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ } وَإِنَّمَا ضُرِبَ الْحِجَابُ عَلَى النِّسَاءِ لِئَلَّا تُرَى وُجُوهُهُنَّ وَأَيْدِيهِنَّ . وَالْحِجَابُ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ كَمَا كَانَتْ سُنَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ أَنَّ الْحُرَّةَ تَحْتَجِبُ وَالْأَمَةُ تَبْرُزُ وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَى أَمَةً مُخْتَمِرَةً ضَرَبَهَا وَقَالَ أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ أَيْ لُكَاعُ فَيَظْهَرُ مِنْ الْأَمَةِ رَأْسُهَا وَيَدَاهَا وَوَجْهُهَا .

وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ } . فَرَخَّصَ لِلْعَجُوزِ الَّتِي لَا تَطْمَعُ فِي النِّكَاحِ أَنْ تَضَعَ ثِيَابَهَا فَلَا تُلْقِي عَلَيْهَا جِلْبَابَهَا وَلَا تَحْتَجِبُ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْحَرَائِرِ لِزَوَالِ الْمَفْسَدَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي غَيْرِهَا كَمَا اسْتَثْنَى التَّابِعِينَ غَيْرَ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ فِي إظْهَارِ الزِّينَةِ لَهُمْ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ الَّتِي تَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْفِتْنَةُ وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا كَانَ يُخَافُ بِهَا الْفِتْنَةُ كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تُرْخِيَ مِنْ جِلْبَابِهَا وَتَحْتَجِبَ وَوَجَبَ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهَا وَمِنْهَا . وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إبَاحَةُ النَّظَرِ إلَى عَامَّةِ الْإِمَاءِ وَلَا تَرْكُ احْتِجَابِهِنَّ وَإِبْدَاءُ زِينَتِهِنَّ وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَأْمُرْهُنَّ بِمَا أَمَرَ الْحَرَائِرَ وَالسُّنَّةُ فَرَّقَتْ بِالْفِعْلِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْحَرَائِرِ وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْحَرَائِرِ بِلَفْظِ عَامٍّ بَلْ كَانَتْ عَادَةُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُمْ الْحَرَائِرُ دُونَ الْإِمَاءِ وَاسْتَثْنَى الْقُرْآنُ مِنْ النِّسَاءِ الْحَرَائِرِ الْقَوَاعِدَ فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِنَّ احْتِجَابًا وَاسْتَثْنَى بَعْضَ الرِّجَالِ وَهُمْ غَيْرُ أُولِي الْإِرْبَةِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إبْدَاءِ الزِّينَةِ الْخَفِيَّةِ لَهُمْ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَأَنْ يُسْتَثْنَى بَعْضُ الْإِمَاءِ أَوْلَى وَأَحْرَى وَهُنَّ مَنْ كَانَتْ الشَّهْوَةُ وَالْفِتْنَةُ حَاصِلَةً بِتَرْكِ احْتِجَابِهَا وَإِبْدَاءِ زِينَتِهَا . وَكَمَا أَنَّ الْمَحَارِمَ أَبْنَاءُ أَزْوَاجِهِنَّ وَنَحْوُهُ مِمَّنْ فِيهِ شَهْوَةٌ وَشَغَفٌ لَمْ يَجُزْ

إبْدَاءُ الزِّينَةِ الْخَفِيَّةِ لَهُ فَالْخِطَابُ خَرَجَ عَامًّا عَلَى الْعَادَةِ فَمَا خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ خَرَجَ بِهِ عَنْ نَظَائِرِهِ فَإِذَا كَانَ فِي ظُهُورِ الْأَمَةِ وَالنَّظَرِ إلَيْهَا فِتْنَةٌ وَجَبَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَهَكَذَا الرَّجُلُ مَعَ الرِّجَالِ وَالْمَرْأَةُ مَعَ النِّسَاءِ : لَوْ كَانَ فِي الْمَرْأَةِ فِتْنَةٌ لِلنِّسَاءِ وَفِي الرَّجُلِ فِتْنَةٌ لِلرِّجَالِ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالْغَضِّ لِلنَّاظِرِ مِنْ بَصَرِهِ مُتَوَجِّهًا كَمَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْأَمْرُ بِحِفْظِ فَرْجِهِ فَالْإِمَاءُ وَالصِّبْيَانُ إذَا كُنَّ حِسَانًا تختشى الْفِتْنَةُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِمْ كَانَ حُكْمُهُمْ كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ
قَالَ المروذي قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ - الرَّجُلُ يَنْظُرُ إلَى الْمَمْلُوكِ قَالَ : إذَا خَافَ الْفِتْنَةَ لَمْ يُنْظَرْ إلَيْهِ كَمْ نَظْرَةٍ أَلْقَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا الْبَلَاءَ : وَقَالَ المروذي : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : رَجُلٌ تَابَ وَقَالَ : لَوْ ضُرِبَ ظَهْرِي بِالسِّيَاطِ مَا دَخَلْت فِي مَعْصِيَةٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَدَعُ النَّظَرَ فَقَالَ : أَيُّ تَوْبَةٍ هَذِهِ { قَالَ جَرِيرٌ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ : اصْرِفْ بَصَرَك } . وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : حَدَّثَنِي أَبِي وَسُوِيدُ قَالَا : حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ هُرَاسَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ ذكوان قَالَ : لَا تُجَالِسُوا أَوْلَادَ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّ لَهُمْ صُوَرًا كَصُوَرِ النِّسَاءِ وَهُمْ أَشَدُّ فِتْنَةً مِنْ الْعَذَارَى . وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ وَالْقِيَاسُ وَالتَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى وَكَانَ يُقَالُ :

لَا يَبِيتُ الرَّجُلُ فِي بَيْتٍ مَعَ الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَهْلٍ الصعلوكي : قَالَ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمْ اللُّوطِيُّونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ . صِنْفٌ يَنْظُرُونَ وَصِنْفٌ يُصَافِحُونَ وَصِنْفٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ الْعَمَلَ . وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي : كَانُوا يَكْرَهُونَ مُجَالَسَةَ الْأَغْنِيَاءِ وَأَبْنَاءِ الْمُلُوكِ وَقَالَ : مُجَالَسَتُهُمْ فِتْنَةٌ إنَّمَا هُمْ بِمَنْزِلَةِ النِّسَاءِ . وَوَقَفَتْ جَارِيَةٌ لَمْ يُرَ أَحْسَنُ وَجْهًا مِنْهَا عَلَى بِشْرٍ الْحَافِي فَسَأَلَتْهُ عَنْ بَابِ حَرْبٍ فَدَلَّهَا ثُمَّ وَقَفَ عَلَيْهِ غُلَامٌ حَسَنُ الْوَجْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ بَابِ حَرْبٍ فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْغُلَامُ السُّؤَالَ فَغَمَّضَ عَيْنَيْهِ فَقِيلَ لَهُ : يَا أَبَا نَصْرٍ جَاءَتْك جَارِيَةٌ فَسَأَلَتْك فَأَجَبْتهَا وَجَاءَك هَذَا الْغُلَامُ فَسَأَلَك فَلَمْ تُكَلِّمْهُ فَقَالَ : نَعَمْ . يُرْوَى عَنْ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : مَعَ الْجَارِيَةِ شَيْطَانٌ وَمَعَ الْغُلَامِ شَيْطَانَانِ فَخَشِيت عَلَى نَفْسِي شَيْطَانَيْهِ . وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ الْقَزْوِينِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بِشْرٍ أَنَّهُ قَالَ : احْذَرُوا هَؤُلَاءِ الْأَحْدَاثَ وَقَالَ فَتْحٌ الْمُوصِلِيُّ : صَحِبْت ثَلَاثِينَ شَيْخًا كَانُوا يُعَدُّونَ مِنْ الْأَبْدَالِ كُلُّهُمْ أَوْصَانِي عِنْدَ مُفَارَقَتِي لَهُ : اتَّقِ صُحْبَةَ الْأَحْدَاثِ : اتَّقِ مُعَاشَرَةَ الْأَحْدَاثِ . وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لَا يَدَعُ أَمْرَدَ يُجَالِسُهُ وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَمْنَعُ دُخُولَ الْمُرْدِ مَجْلِسَهُ لِلسَّمَاعِ فَاحْتَالَ هِشَامٌ فَدَخَلَ فِي غِمَارِ النَّاسِ مُسْتَتِرًا بِهِمْ وَهُوَ أَمَرَدُ فَسَمِعَ مِنْهُ سِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ مَالِكٌ فَضَرَبَهُ سِتَّةَ عَشَرً سَوْطًا فَقَالَ هِشَامٌ : لَيْتَنِي سَمِعْت

مِائَةَ حَدِيثٍ وَضَرَبَنِي مِائَةَ سَوْطٍ وَكَانَ يَقُولُ : هَذَا عِلْمٌ إنَّمَا أَخَذْنَاهُ عَنْ ذَوِي اللِّحَى وَالشُّيُوخِ فَلَا يَحْمِلُهُ عَنَّا إلَّا أَمْثَالُهُمْ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : مَا طَمِعَ أَمْرَدُ أَنْ يَصْحَبَنِي وَلَا أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ فِي طَرِيقٍ . وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الروذباري : قَالَ لِي أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ الْمُؤَدَّبِ : يَا أَبَا عَلِيٍّ مِنْ أَيْنَ أَخَذَ صُوفِيَّةُ عَصْرِنَا هَذَا الْأُنْسَ بِالْأَحْدَاثِ وَقَدْ تَصْحَبُهُمْ السَّلَامَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ ؟ فَقَالَ : هَيْهَاتَ قَدْ رَأَيْنَا مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُمْ إيمَانًا إذَا رَأَى الْحَدَثَ قَدْ أَقْبَلَ فَرَّ مِنْهُ كَفِرَارِهِ مِنْ الْأَسَدِ وَإِنَّمَا ذَاكَ عَلَى حَسَبِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي تَغْلِبُ الْأَحْوَالُ عَلَى أَهْلِهَا فَيَأْخُذُهَا تَصَرُّفُ الطِّبَاعِ مَا أَكْثَرَ الْخَطَأِ مَا أَكْثَرَ الْغَلَطِ قَالَ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ جَاءَ رَجُلٌ إلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ مَعَهُ غُلَامٌ أَمْرَدُ حَسَنُ الْوَجْهِ فَقَالَ لَهُ : مَنْ هَذَا الْفَتَى فَقَالَ الرَّجُلُ : ابْنِي فَقَالَ لَا تَجِئْ بِهِ مَعَك مَرَّةً أُخْرَى فَلَامَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَحْمَد : عَلَى هَذَا رَأَيْنَا أَشْيَاخَنَا وَبِهِ أَخْبَرُونَا عَنْ أَسْلَافِهِمْ . وَجَاءَ حَسَنُ بْنُ الرَّازِي إلَى أَحْمَد وَمَعَهُ غُلَامٌ حَسَنُ الْوَجْهِ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ سَاعَةً فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ قَالَ لَهُ أَحْمَد : يَا أَبَا عَلِيٍّ لَا تَمْشِ مَعَ هَذَا الْغُلَامِ فِي طَرِيقٍ فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّهُ ابْنُ أُخْتِي قَالَ : وَإِنْ كَانَ : لَا يَأْثَمُ النَّاسُ فِيك وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ

سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يُلِحُّ بِالنَّظَرِ إلَى الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ فَاتَّهِمُوهُ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مُسْنَدَةٌ ضَعِيفَةٌ وَحَدِيثٌ مُرْسَلٌ أَجْوَدُ مِنْهَا وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ . ثَنَا عُمَرُ بْنُ شَاهِينَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمُقْرِي . ثَنَا أَحْمَد بْنُ حَمَّادٍ المصيصي ثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُجَوِّزٍ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : { قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِمْ غُلَامٌ أَمْرَدُ ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ فَأَجْلَسَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَقَالَ كَانَتْ خَطِيئَةُ دَاوُد فِي النَّظَرِ } هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ . وَأَمَّا الْمُسْنَدَةُ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ نَظَرَ إلَى غُلَامٍ أَمْرَدَ بِرِيبَةِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ أَرْبَعِينَ عَامًا } وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُجَالِسُوا أَبْنَاءَ الْمُلُوكِ ؛ فَإِنَّ الْأَنْفُسَ تَشْتَاقُ إلَيْهِمْ مَا لَا تَشْتَاقُ إلَى الْجَوَارِي الْعَوَاتِقِ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ .
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ مَعَ الْمَرْأَةِ وَكَذَلِكَ مَحَارِمُ الْمَرْأَةِ : مِثْلُ ابْنِ زَوْجِهَا وَابْنِهِ وَابْنِ أَخِيهَا وَابْنِ أُخْتِهَا وَمَمْلُوكِهَا عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهُ مَحْرَمًا : مَتَى كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ أَوْ عَلَيْهَا تَوَجَّهَ الِاحْتِجَابُ بَلْ وَجَبَ . وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاحْتِجَابِ فِيهَا مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى :

{ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } فَقَدْ تَحْصُلُ الزَّكَاةُ وَالطَّهَارَةُ بِدُونِ ذَلِكَ لَكِنَّ هَذَا أَزْكَى وَإِذَا كَانَ النَّظَرُ وَالْبُرُوزُ قَدْ انْتَفَى فِيهِ الزَّكَاةُ وَالطَّهَارَةُ لِمَا يُوجَدُ فِي ذَلِكَ مِنْ شَهْوَةِ الْقَلْبِ وَاللَّذَّةِ بِالنَّظَرِ كَانَ تَرْكُ النَّظَرِ وَالِاحْتِجَابُ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ وَلَا زَكَاةَ بِدُونِ حِفْظِ الْفَرْجِ مِنْ الْفَاحِشَةِ ؛ لِأَنَّ حِفْظَهُ يَتَضَمَّنُ حِفْظَهُ عَنْ الْوَطْءِ بِهِ فِي الْفُرُوجِ وَالْأَدْبَارِ وَدُونَ ذَلِكَ وَعَنْ الْمُبَاشَرَةِ وَمَسِّ الْغَيْرِ لَهُ وَكَشْفِهِ لِلْغَيْرِ وَنَظَرِ الْغَيْرِ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ فَرْجَهُ عَنْ نَظَرِ الْغَيْرِ وَمَسِّهِ . وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ { بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ لَمَّا قَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ فَقَالَ : احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك قَالَ : فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضَهُمْ فِي بَعْضٍ ؟ قَالَ : إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا قَالَ : فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا ؟ قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ } وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُبَاشِرَ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ وَأَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ } و { نَهَى عَنْ الْمَشْيِ عُرَاةً } { وَنَهَى عَنْ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَأَنْ تَنْظُرَ الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ } وَقَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ إنَاثِ أُمَّتِي فَلَا تَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرِ } .

وَقَالَ الْعُلَمَاءُ : يُرَخَّصُ لِلنِّسَاءِ فِي الْحَمَّامِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يُرَخَّصُ لِلرِّجَالِ مَعَ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ أَوْ عَلَيْهَا غُسْلٌ لَا يُمْكِنُهَا إلَّا فِي الْحَمَّامِ . وَأَمَّا إذَا اعْتَادَتْ الْحَمَّامَ وَشَقَّ عَلَيْهَا تَرْكُهُ فَهَلْ يُبَاحُ لَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَحَدُهُمَا لَا يُبَاحُ وَالثَّانِي يُبَاحُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ .
وَكَمَا يَتَنَاوَلُ غَضَّ الْبَصَرِ عَنْ عَوْرَةِ الْغَيْرِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ النَّظَرِ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْغَضَّ عَنْ بُيُوتِ النَّاسِ فَبَيْتُ الرَّجُلِ يَسْتُرُ بَدَنَهُ كَمَا تَسْتُرُهُ ثِيَابُهُ وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ غَضَّ الْبَصَرِ وَحِفْظَ الْفَرْجِ بَعْدَ آيَةِ الِاسْتِئْذَانِ وَذَلِكَ أَنَّ الْبُيُوتَ سُتْرَةٌ كَالثِّيَابِ الَّتِي عَلَى الْبَدَنِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ اللِّبَاسَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } فَكُلٌّ مِنْهُمَا وِقَايَةٌ مِنْ الْأَذَى الَّذِي يَكُونُ سَمُومًا مُؤْذِيًا كَالْحَرِّ وَالشَّمْسِ وَالْبَرْدِ وَمَا يَكُونُ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ وَالْيَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ " سُورَةِ النَّحْلِ " أُصُولَ النِّعَمِ وَذَكَرَ هُنَا مَا يَدْفَعُ الْبَرْدَ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا تَمَامَ النِّعَمِ وَمَا يَدْفَعُ الْحَرَّ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ ثُمَّ قَالَ : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ

تُسْلِمُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إذَا اطَّلَعَ فِي بَيْتِك أَحَدٌ وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ فَخَذَفْته بِحَصَاةِ فَفَقَأْت عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْك مِنْ جُنَاحٍ } وَهَذَا الْخَاصُّ يُفَسِّرُ الْعَامَّ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ : أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَخْذِفُ قَالَ : لَا تَخْذِفُ ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْخَذْفِ } وَقَالَ : إنَّهُ لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ وَلَا يُنْكَأُ بِهِ عَدُوٌّ وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ { أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي حُجْرَةٍ فِي بَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرَى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَنْظُرُ إلَيَّ لَطَعَنْت بِهِ فِي عَيْنِك ؛ إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ } . وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ ؛ لِأَنَّ النَّاظِرَ مُعْتَدٍ بِنَظَرِهِ فَيُدْفَعُ كَمَا يُدْفَعُ سَائِرُ الْبُغَاةِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا لَدُفِعَ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ . وَلَمْ يَجُزْ قَلْعُ عَيْنِهِ ابْتِدَاءً إذَا لَمْ يَذْهَبْ إلَّا بِذَلِكَ وَالنُّصُوصُ تُخَالِفُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ أَبَاحَ أَنْ تَخْذِفَهُ حَتَّى تَفْقَأَ عَيْنَهُ قَبْلَ أَمْرِهِ بِالِانْصِرَافِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تُنْظِرُنِي لَطَعَنْت بِهِ فِي عَيْنِك } فَجَعَلَ نَفْسَ النَّظَرِ مُبِيحًا لِلطَّعْنِ فِي الْعَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَمْرَ لَهُ بِالِانْصِرَافِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَاقَبَةِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ جَنَى هَذِهِ الْجِنَايَةَ عَلَى حُرْمَةِ صَاحِبِ الْبَيْتِ فَلَهُ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ بِالْحَصَى وَالْمِدْرَى .

وَالنَّظَرُ إلَى الْعَوْرَاتِ حَرَامٌ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ } فَإِنَّ الْفَوَاحِشَ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْمُبَاشَرَةِ بِالْفَرْجِ أَوْ الدُّبُرِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ الْمُلَامَسَةِ وَالنَّظَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَمَا فِي قِصَّةِ لُوطٍ : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ } وَقَوْلُهُ : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } . فَالْفَاحِشَةُ أَيْضًا تَتَنَاوَلُ كَشْفَ الْعَوْرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُبَاشَرَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا } وَهَذِهِ الْفَاحِشَةُ هِيَ طَوَافُهُمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَكَانُوا يَقُولُونَ لَا نَطُوفُ بِثِيَابِ عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا ؛ إلَّا الْحَمْسَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ فِي ثِيَابِهِمْ وَغَيْرُهُمْ إنْ حَصَلَ لَهُ ثِيَابٌ مِنْ الْحَمْسِ طَافَ فِيهَا وَإِلَّا طَافَ عريانا وَإِنْ طَافَ بِثِيَابِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ فَأَلْقَاهَا فَكَانَتْ تُسَمَّى لِقَاءً وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا ثِيَابٌ جَعَلَتْ يَدَهَا عَلَى فَرْجِهَا وَيَدَهَا الْأُخْرَى عَلَى دُبُرِهَا وَطَافَتْ وَتَقُولُ : الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ فَاحِشَةً وَقَوْلُهُ فِي سِيَاقِ ذَلِكَ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } يَتَنَاوَلُ كَشْفَ الْعَوْرَةِ أَيْضًا وَإِبْدَاءَهَا وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ إبْدَاءَ فِعْلِ النِّكَاحِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ يُسَمَّى فَحْشَاءَ وَتَفَحُّشًا فَكَشْفُ الْأَعْضَاءِ وَالْفِعْلُ لِلْبَصَرِ كَكَشْفِ ذَلِكَ لِلسَّمْعِ.

وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَشْفَيْنِ يُسَمَّى وَصْفًا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا تَنْعَتْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا } وَيُقَالُ : فُلَانٌ يَصِفُ فُلَانًا وَثَوْبٌ يَصِفُ الْبَشَرَةَ ثُمَّ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ إظْهَارِ ذَلِكَ لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ ؛ بَلْ يُسْتَحَبُّ إذَا لَمْ يَحْصُلْ الْمُسْتَحَبُّ أَوْ الْوَاجِبُ إلَّا بِذَلِكَ { كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزِ : أنكتها } وَكَقَوْلِهِ { مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بهن أَبِيهِ وَلَا تَكْنُوا } . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْفَاحِشَةَ تَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ الْقَبِيحَ وَتَتَنَاوَلُ إظْهَارَ الْفِعْلِ وَأَعْضَاءَهُ وَهَذَا كَمَا أَنَّ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ مَا فَحُشَ وَإِنْ كَانَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا } فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ فَاحِشَةً وَقَدْ قِيلَ إنَّ هَذَا مِنْ الْفَوَاحِشِ الْبَاطِنَةِ فَظَهَرَ أَنَّ الْفَاحِشَةَ تَتَنَاوَلُ الْعُقُودَ الْفَاحِشَةَ كَمَا تَتَنَاوَلُ الْمُبَاشَرَةَ بِالْفَاحِشَةِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ . وَفِي قَوْلِهِ : { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } عُمُومٌ لِأَنْوَاعِ كَثِيرَةٍ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَأَمَرَ تَعَالَى بِحِفْظِ الْفَرْجِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ : { وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } وَبِقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } الْآيَاتِ . وَقَالَ : { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ } فَحِفْظُ الْفَرْجِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } وَحِفْظُهَا هُوَ صَرْفُهَا عَمَّا لَا يَحِلُّ .

وَأَمَّا الْأَبْصَارُ فَلَا بُدَّ مِنْ فَتْحِهَا وَالنَّظَرِ بِهَا وَقَدْ يَفْجَأُ الْإِنْسَانُ مَا يَنْظُرُ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَلَا يُمْكِنُ غَضُّهَا مُطْلَقًا وَلِهَذَا أَمَرَ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالْغَضِّ مِنْهَا كَمَا أَمَرَ لُقْمَانُ ابْنَهُ بِالْغَضِّ مِنْ صَوْتِهِ . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ } الْآيَةَ فَإِنَّهُ مَدَحَهُمْ عَلَى غَضِّ الصَّوْتِ عِنْدَ رَسُولِهِ مُطْلَقًا فَهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يُنْهَوْنَ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا غَضُّ الصَّوْتِ مُطْلَقًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ غَضٌّ خَاصٌّ مَمْدُوحٌ وَيُمْكِنُ الْعَبْدُ أَنْ يَغُضَّ صَوْتَهُ مُطْلَقًا فِي كُلِّ حَالٍ وَلَمْ يُؤْمَرْ الْعَبْدُ بِهِ ؛ بَلْ يُؤْمَرُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ فِي مَوَاضِعَ : إمَّا أَمْرُ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ فَلِهَذَا قَالَ : { وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } فَإِنَّ الْغَضَّ فِي الصَّوْتِ وَالْبَصَرِ جِمَاعُ مَا يَدْخُلُ إلَى الْقَلْبِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ فَبِالسَّمْعِ يَدْخُلُ الْقَلْبُ وَبِالصَّوْتِ يَخْرُجُ مِنْهُ كَمَا جَمَعَ الْعُضْوَيْنِ فِي قَوْلِهِ : { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ } { وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ } فَبِالْعَيْنِ وَالنَّظَرِ يَعْرِفُ الْقَلْبُ الْأُمُورَ وَاللِّسَانُ وَالصَّوْتُ يُخْرِجَانِ مِنْ عِنْدِ الْقَلْبِ الْأُمُورَ هَذَا رَائِدُ الْقَلْبِ وَصَاحِبُ خَبَرِهِ وَجَاسُوسِهِ وَهَذَا تَرْجُمَانُهُ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } وَقَالَ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَقَالَ : { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } وَقَالَ فِي آيَةِ الِاسْتِئْذَانِ :

{ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } وَقَالَ : { فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } وَقَالَ : { فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ } وَقَالَ فِي دُعَاءِ الْجِنَازَةِ : { وَاغْسِلْهُ بِمَاءِ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ وَنَقِّهِ مِنْ خَطَايَاهُ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ } . فَالطَّهَارَةُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - هِيَ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ رِجْسٌ وَالزَّكَاةُ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ عَدَمُ الذُّنُوبِ وَمَعْنَى النَّمَاءِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ : مِثْلُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَمِثْلُ النَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ وَمِثْلُ عَدَمِ الشَّرِّ وَحُصُولِ الْخَيْرِ ؛ فَإِنَّ الطَّهَارَةَ تَكُونُ مِنْ الْأَرْجَاسِ وَالْأَنْجَاسِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } وَقَالَ : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ } وَقَالَ : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنَّهُمْ رِجْسٌ } . وَقَالَ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ : { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ } وَقَالَ اللُّوطِيَّةُ عَنْ لُوطٍ وَأَهْلِهِ : { أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } قَالَ مُجَاهِدٌ : عَنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ وَيُقَالُ فِي دُخُولِ الْغَائِطِ { أَعُوذُ بِك مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ } وَمِنْ الرِّجْسِ النَّجِسِ الْخَبِيثِ

الْمُخْبِثِ وَهَذِهِ النَّجَاسَةُ تَكُونُ مِنْ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَنَحْوِهَا وَهِيَ لَا تَزُولُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ عَنْ تَرْكِ الْفَاحِشَةِ وَغَيْرِهَا فَمَنْ تَابَ مِنْهَا فَقَدْ تَطَهَّرَ وَإِلَّا فَهُوَ مُتَنَجِّسٌ وَإِنْ اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَذَاكَ الْغُسْلُ يَرْفَعُ حَدَثَ الْجَنَابَةِ وَلَا يَرْفَعُ عَنْهُ نَجَاسَةَ الْفَاحِشَةِ الَّتِي قَدْ تَنَجَّسَ بِهَا قَلْبُهُ وَبَاطِنُهُ ؛ فَإِنَّ تِلْكَ نَجَاسَةٌ لَا يَرْفَعُهَا الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ وَإِنَّمَا يَرْفَعُهَا الِاغْتِسَالُ بِمَاءِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ الْمُسْتَمِرَّةِ إلَى الْمَمَاتِ . وَهَذَا مَعْنَى مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُ : ثَنَا سويد بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : لَوْ أَنَّ الَّذِي يَعْمَلُ - يَعْنِي عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ - اغْتَسَلَ بِكُلِّ قَطْرَةٍ فِي السَّمَاءِ وَكُلِّ قَطْرَةٍ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَزَلْ نَجِسًا . وَرَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ خَلَفٍ فِي " كِتَابِ ذَمِّ اللِّوَاطِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ أَنَّ لُوطِيًّا اغْتَسَلَ بِكُلِّ قَطْرَةٍ نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاءِ لَلَقِيَ اللَّهَ غَيْرَ طَاهِرٍ . وَقَدْ رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ عَنْ الْعَبَّاسِ الْهَاشِمِيِّ ذَلِكَ مَرْفُوعًا . وَحَدِيثُ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : اللُّوطِيَّانِ لَوْ اغْتَسَلَا بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمْ يُجْزِهِمَا إلَّا أَنْ يَتُوبَا وَرَفْعُ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ مُنْكَرٌ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ { أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ : مَنْ نَكَحَ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا

أَوْ غُلَامًا أَوْ رَجُلًا : حُشِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْتَنَ مِنْ الْجِيفَةِ يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ حَتَّى يُدْخِلَهُ اللَّهُ نَارَ جَهَنَّمَ وَيُحْبِطَ اللَّهُ عَمَلَهُ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَيُجْعَلُ فِي تَابُوتٍ مِنْ نَارٍ وَيُسَمَّرُ عَلَيْهِ بِمَسَامِيرَ مِنْ حَدِيدٍ فَتَشُكُّ تِلْكَ الْمَسَامِيرُ فِي وَجْهِهِ وَجَسَدِهِ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : هَذَا لِمَنْ لَمْ يَتُبْ وَذَلِكَ أَنَّ تَارِكَ اللِّوَاطِ مُتَطَهِّرٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَفَاعِلُهُ غَيْرُ مُتَطَهِّرٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُتَنَجِّسًا ؛ فَإِنَّ ضِدَّ الطَّهَارَةِ النَّجَاسَةُ ؛ لَكِنَّ النَّجَاسَةَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ : تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا . وَمِنْ هَاهُنَا غَلِطَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْفُقَهَاءِ ؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ طَلَبِ طَهَارَةِ الْجُنُبِ بِقَوْلِهِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } قَالُوا : فَيَكُونُ الْجُنُبُ نَجِسًا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ } لَمَّا انْخَنَسَ مِنْهُ وَهُوَ جُنُبٌ وَكَرِهَ أَنْ يُجَالِسَهُ فَهَذِهِ النَّجَاسَةُ الَّتِي نَفَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ نَجَاسَةُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ الَّتِي ظَنَّهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَالْجَنَابَةُ تَمْنَعُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ وَقَالَ أَحْمَد : إذَا وَضَعَ الْجُنُبُ يَدَهُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ أَنْجَسَ الْمَاءَ فَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَرَادَ النَّجَاسَةَ الْحِسِّيَّةَ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحُكْمِيَّةَ فَإِنَّ الْفَرْعَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ وَلَا يَكُونُ الْمَاءُ أَعْظَمَ مِنْ الْبَدَنِ ؛ بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْمَانِعُ الَّذِي قَامَ بِالْبَدَنِ وَالْجُنُبُ ظَاهِرُهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ الْمَاءُ كَذَلِكَ طَاهِرًا لاَ يَتَوَضَّأُ بِهِ لِلصَّلَاةِ .

وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ النَّمَاءَ وَالزِّيَادَةَ كَالزَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ الطَّهَارَةُ قَدْ تَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا ؛ فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا تَنَظَّفَ مِمَّا يُفْسِدُهُ زَكَا وَنَمَا وَصَلَحَ وَزَادَ فِي نَفْسِهِ كَالزَّرْعِ يُنْفَى مِنْ الدَّغَلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } { قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ } وَقَالَ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } وَقَالَ : { فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } فَإِنَّ الرُّجُوعَ عَمَلٌ صَالِحٌ يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ زَكَاةً وَطَهَارَةً وَقَالَ : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } فَإِنَّ ذَلِكَ مُجَانَبَةٌ لِأَسْبَابِ الرِّيبَةِ ؛ وَذَلِكَ مِنْ نَوْعِ مُجَانَبَةِ الذُّنُوبِ وَالْبُعْدِ عَنْهَا وَمُبَاعَدَتِهَا فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ أَطْهَرُ لِقُلُوبِ الطَّائِفَتَيْنِ . وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا وَهِيَ قَوْلُهُ : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } فَالْغَضُّ مِنْ الْبَصَرِ وَحِفْظُ الْفَرْجِ يَتَضَمَّنُ الْبُعْدَ عَنْ نَجَاسَةِ الذُّنُوبِ وَيَتَضَمَّنُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي يَزْكُو بِهَا الْإِنْسَانُ وَهُوَ أَزْكَى وَالزَّكَاةُ تَتَضَمَّنُ الطَّهَارَةَ ؛ فَإِنَّ فِيهَا مَعْنَى تَرْكِ السَّيِّئَاتِ وَمَعْنَى فِعْلِ الْحَسَنَاتِ وَلِهَذَا تُفَسَّرُ تَارَةً بِالطَّهَارَةِ وَتَارَةً بِالزِّيَادَةِ وَالنَّمَاءِ وَمَعْنَاهَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ كَانَ قَرَنَ الطَّهَارَةَ مَعَهَا فِي الذِّكْرِ مِثْلَ قَوْلِهِ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } فَالصَّدَقَةُ تُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنْ الذُّنُوبِ وَتُوجِبُ الزَّكَاةَ الَّتِي هِيَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ كَمَا أَنَّ الْغَضَّ مِنْ الْبَصَرِ وَحِفْظَ الْفَرْجِ هُوَ أَزْكَى لَهُمْ

وَهُمَا يَكُونَانِ بِاجْتِنَابِ الذُّنُوبِ وَحِفْظِ الْجَوَارِحِ وَيَكُونَانِ بِالتَّوْبَةِ وَالصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ الْإِحْسَانُ وَهَذَانِ هُمَا التَّقْوَى وَالْإِحْسَانُ و { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ ؟ فَقَالَ : الْأَجْوَفَانِ : الْفَمُ وَالْفَرْجُ وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ ؟ فَقَالَ : تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ } فَيَدْخُلُ فِي تَقْوَى اللَّهِ حِفْظُ الْفَرْجِ وَغَضُّ الْبَصَرِ وَيَدْخُلُ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ إيذَائِهِمْ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ يَكُونُ عَنْ الرَّحْمَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } . وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الزَّكَاةَ هُنَا كَمَا قَدَّمَهَا فِي قَوْلِهِ : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } فَإِنَّ اجْتِنَابَ الذُّنُوبِ يُوجِبُ الزَّكَاةَ الَّتِي هِيَ زَوَالُ الشَّرِّ وَحُصُولُ الْخَيْرِ وَالْمُفْلِحُونَ هُمْ الَّذِينَ أَدَّوْا الْوَاجِبَاتِ وَتَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا وَصَفَهُمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَقَالَ : { الم } { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } الْآيَاتُ : وَقَالَ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } فَإِذَا كَانَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُفْلِحُونَ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُفْلِحِينَ هُمْ الْمُتَّقُونَ : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ فَهُوَ مُفْلِحٌ : دَلَّ ذَلِكَ عَلَى

أَنَّ الزَّكَاةَ تَنْتَظِمُ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ . وَقَوْلُهُ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } وَقَوْلُهُ : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } فَالتَّزْكِيَةُ مِنْ الْعِبَادِ لِأَنْفُسِهِمْ هِيَ إخْبَارُهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِكَوْنِهَا زَاكِيَةً وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ ؛ لَا نَفْسُ جَعْلِهَا زَاكِيَةً وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إبْرَاهِيمَ : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } وَقَالَ : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } الْآيَةُ وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ } الْآيَةُ فَامْتَنَّ سُبْحَانَهُ عَلَى الْعِبَادِ بِإِرْسَالِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ أَرْسَلَهُ بِهَا : تِلَاوَةُ آيَاتِهِ عَلَيْهِمْ وَتَزْكِيَتُهُمْ وَتَعْلِيمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ . وَقَدْ أَفْرَدَ تَعْلِيمَهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بِالذِّكْرِ مِثْلَ قَوْلِهِ : { وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ } . وَقَوْلِهِ : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } وَذَلِكَ أَنَّ التِّلَاوَةَ عَلَيْهِمْ وَتَزْكِيَتَهُمْ أَمْرٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَإِنَّ التِّلَاوَةَ هِيَ تَبْلِيغُ كَلَامِهِ تَعَالَى إلَيْهِمْ وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَتَزْكِيَتُهُمْ هُوَ جَعْلُ أَنْفُسِهِمْ زَكِيَّةً بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّاشِئِ عَنْ الْآيَاتِ الَّتِي سَمِعُوهَا وَتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ فَالْأَوَّلُ سَمْعُهُمْ وَالثَّانِي طَاعَتُهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا . الْأَوَّلُ عِلْمُهُمْ وَالثَّانِي عَمَلُهُمْ وَالْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَإِذَا سَمِعُوا آيَاتِ اللَّهِ وَعَوْهَا بِقُلُوبِهِمْ وَأَحَبُّوهَا وَعَمِلُوا بِهَا وَلَمْ يَكُونُوا كَمَنْ قَالَ فِيهِمْ : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ

الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } وَإِذَا عَمِلُوا بِهَا زَكَوْا بِذَلِكَ وَكَانُوا مِنْ الْمُفْلِحِينَ الْمُؤْمِنِينَ . وَاَللَّهُ قَالَ : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وَقَالَ فِي ضِدِّهِمْ : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَعْظَمُ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَجَهْلًا وَذَلِكَ ضِدُّ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ فَاسْتِمَاعُ آيَاتِ اللَّهِ وَالتَّزَكِّي بِهَا أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ سَمَاعِ رِسَالَةِ سَيِّدِهِ الَّتِي أَرْسَلَ بِهَا رَسُولَهُ إلَيْهِ وَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ الْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَلَا بُدَّ مِنْ التَّزَكِّي بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ فَهَذَانِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا .
وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ : لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ عَالِمًا بِالْحِكْمَةِ جَمِيعِهَا ؛ بَلْ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ كَمَا هُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْجِهَادِ بَلْ وُجُوبُ ذَلِكَ أَسْبَقُ وَأَوْكَدُ مِنْ وُجُوبِ الْجِهَادِ ؛ فَإِنَّهُ أَصْلُ الْجِهَادِ وَلَوْلَاهُ لَمْ يَعْرِفُوا عَلَامَ يُقَاتِلُونَ وَلِهَذَا كَانَ قِيَامُ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ قَبْلَ قِيَامِهِمْ بِالْجِهَادِ فَالْجِهَادُ سَنَامُ الدِّينِ وَفَرْعُهُ وَتَمَامُهُ وَهَذَا أَصْلُهُ وَأَسَاسُهُ وَعَمُودُهُ وَرَأْسُهُ وَمَقْصُودُ الرِّسَالَةِ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات جَمِيعًا وَلَا رَيْبَ أَنَّ اسْتِمَاعَ كِتَابِ اللَّهِ وَالْإِيمَانَ بِهِ وَتَحْرِيمَ حَرَامِهِ وَتَحْلِيلَ حَلَالِهِ . وَالْعَمَلَ بِمُحْكِمِهِ وَالْإِيمَانَ بِمُتَشَابِهِهِ وَاجِبٌ

عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهَذَا هُوَ التِّلَاوَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } . فَأَخْبَرَ عَنْ الَّذِينَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَبِهِ قَالَ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلُهُ : { حَقَّ تِلَاوَتِهِ } كَقَوْلِهِ { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } . وَأَمَّا حِفْظُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَفَهْمُ جَمِيعِ مَعَانِيهِ وَمَعْرِفَةُ جَمِيعِ السُّنَّةِ فَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ؛ لَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَحْفَظَ مِنْ الْقُرْآنِ وَيَعْلَمَ مَعَانِيَهُ وَيَعْرِفَ مِنْ السُّنَّةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْمَعَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ الْحِكَمِيَّةِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لَيْسَ هُوَ عِلْمُ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي عَلَّمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَأُمَّتَهُ ؛ بَلْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي وَالْأَفْعَالِ وَالْمَقَاصِدِ وَلَا يَجِبُ هَذَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ .
وقَوْله تَعَالَى { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ هِيَ التَّقْوَى وَالتَّقْوَى تَنْتَظِمُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ؛ بَلْ تَرْكُ السَّيِّئَاتِ مُسْتَلْزِمٌ لِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ إذْ الْإِنْسَانُ حَارِثٌ هُمَامٌ وَلَا يَدَعُ إرَادَةَ السَّيِّئَاتِ وَفِعْلَهَا إلَّا بِإِرَادَةِ الْحَسَنَاتِ وَفِعْلِهَا ؛ إذْ النَّفْسُ لَا تَخْلُو عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ جَمِيعًا ؛ بَلْ الْإِنْسَانُ بِالطَّبْعِ مُرِيدٌ فَعَّالٌ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا يَكُونُ سَبَبُهُ

الزَّكَاةَ وَالتَّقْوَى الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّ الْإِنْسَانُ الْجَنَّةَ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَكَفَّلَ لِي بِحِفْظِ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ } . وَمَنْ تَزَكَّى فَقَدْ أَفْلَحَ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ ؛ وَالزَّكَاةُ مُتَضَمِّنَةٌ حُصُولَ الْخَيْرِ وَزَوَالَ الشَّرِّ فَإِذَا حَصَلَ الْخَيْرُ وَزَالَ الشَّرُّ - مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ - حَصَلَ لَهُ نُورٌ وَهُدًى وَمَعْرِفَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالْعَمَلُ يَحْصُلُ لَهُ مَحَبَّةٌ وَإِنَابَةٌ وَخَشْيَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ . هَذَا لِمَنْ تَرَكَ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ وَأَتَى بِالْمَأْمُورَاتِ وَيَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا قُدْرَةً وَسُلْطَانًا وَهَذِهِ صِفَاتُ الْكَمَالِ : الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ وَالْقُدْرَةُ . وَحُسْنُ الْإِرَادَةِ وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ لِمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ نُورٌ فِي قَلْبِهِ وَمَحَبَّةٌ كَمَا جَرَّبَ ذَلِكَ الْعَالِمُونَ الْعَامِلُونَ . وَفِي مَسْنَدِ أَحْمَد حَدَّثَنَا عَتَّابٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - أَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زُحَرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أمامة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا } . وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي أَمَالِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ بِهِ وَلَفْظُهُ : { مَنْ نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ فَغَضَّ بَصَرَهُ عِنْدَ أَوَّلِ دَفْعَةٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا } . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ :

حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ : قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو مَهْدِيٍّ سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ عَنْ أَبِي الزاهرية عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّظْرَةُ الْأُولَى خَطَأٌ وَالثَّانِيَةُ عَمْدٌ وَالثَّالِثَةُ تَدَبُّرٌ نَظَرُ الْمُؤْمِنِ إلَى مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهُ خَشْيَةَ اللَّهِ وَرَجَاءَ مَا عِنْدَهُ أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عِبَادَةً تُبَلِّغُهُ لَذَّتَهَا } رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ الخرائطي فِي " كِتَابِ اعْتِلَالِ الْقُلُوبِ " ثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ ثَنَا إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ ثَنَا هَشِيمٌ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ جِبِلَّةَ عَنْ حُذَيْفَةَ ابْنِ الْيَمَانِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهُ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ إيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ } . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَلِيٍّ وَفِيهِ ذِكْرُ السَّهْمِ . وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ : ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ أَبُو الشَّيْخِ ثَنَا ابْنُ عَفِيرٍ قَالَ ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ سَلَمَةَ ثَنَا عِصْمَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُوسَى يَعْنِي ابْنَ عُقْبَةَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ : قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُفُّ بَصَرَهُ عَنْ مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا لَنَظَرَ إلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ قَلْبَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا } وَرَوَى ابْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ مِنْ طَرِيقِ

ابْنِ الْجَوْزِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : " غَضُّ الْبَصَرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ يُورِثُ حُبَّ اللَّهِ " وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي زَرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ جَدِّهِ { جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البجلي : قَالَ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي } وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ هَشِيمٍ عَنْ يُونُسَ بِهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا وَقَالَ : التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : { أَطْرِقْ بَصَرَك } أَيْ اُنْظُرْ إلَى الْأَرْضِ وَالصَّرْفُ أَعَمُّ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ إلَى الْأَرْضِ أَوْ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى . وَقَالَ أَبُو دَاوُد : حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الفزاري حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ رَبِيعَةَ الإيادي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بريدة عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ : يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ . فَإِنَّ لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الْأُخْرَى } وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِهِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَقْعُدُ فِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ

يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ } وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ البغوي عَنْ { أَبِي أمامة قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : اُكْفُلُوا لِي سِتًّا أَكْفُلْ لَكُمْ الْجَنَّةَ : إذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبُ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ فَلَا يَخُنْ وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفُ : غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ } . فَالنَّظَرُ دَاعِيَةٌ إلَى فَسَادِ الْقَلْبِ . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : النَّظَرُ سَهْمُ سُمٍّ إلَى الْقَلْبِ فَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ كَمَا أَمَرَ بِغَضِّ الْأَبْصَارِ الَّتِي هِيَ بَوَاعِثُ إلَى ذَلِكَ وَفِي الطَّبَرَانِي مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أمامة مَرْفُوعًا : { لَتَغُضُّنَّ أَبْصَارَكُمْ وَلَتَحْفَظُنَّ فُرُوجَكُمْ وَلَتُقِيمُنَّ وُجُوهَكُمْ أَوْ لَتُكْسَفَنَّ وُجُوهُكُمْ } وَقَالَ الطَّبَرَانِي حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ زُهَيْرٍ التستري قَالَ قَرَأْنَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الضَّرِيرِ الْمُقْرِي : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنَا هَزِيمُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ النَّظَرَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ مَسْمُومٌ فَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ أَبْدَلَهُ اللَّهُ إيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ } وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَمُسْلِمٌ مُسْنَدًا وَقَدْ كَانُوا يُنْهُونَ

أَنْ يَحِدَّ الرَّجُلُ بَصَرَهُ إلَى المردان وَكَانُوا يَتَّهِمُونَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دِينِهِ . وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى الْأَجَانِبِ مِنْ الرِّجَالِ بِشَهْوَةِ وَلَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَصْلًا . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَأَمَّا النُّورُ وَالْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } فَهِيَ لِكُلِّ مُحْسِنٍ . وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ آيَةَ النُّورِ بَعْدَ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَأَمْرُهُ بِالتَّوْبَةِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ أَنْ يُدْرِكَ ابْنُ آدَمَ مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي : سَمِعْت أَبَا الْحُسَيْنِ الْوَرَّاقَ يَقُولُ : مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مُحَرَّمٍ أَوْرَثَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ حِكْمَةً عَلَى لِسَانِهِ يَهْتَدِي بِهَا وَيَهْدِي بِهَا إلَى طَرِيقِ مَرْضَاتِهِ . وَهَذَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ؛ فَإِذَا كَانَ النَّظَرُ إلَى مَحْبُوبٍ فَتَرَكَهُ لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ وَإِذَا كَانَ النَّظَرُ بِنُورِ الْعَيْنِ مَكْرُوهًا أَوْ إلَى مَكْرُوهٍ فَتَرَكَهُ لِلَّهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ نُورًا فِي قَلْبِهِ وَبَصَرًا يُبْصِرُ بِهِ الْحَقَّ . قَالَ شَاهٌ الكرماني : مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَعَوَّدَ نَفْسَهُ أَكْلَ الْحَلَالِ وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ : لَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِرَاسَةٌ وَإِذَا صَلَحَ عِلْمُ الرَّجُلِ فَعَرَفَ الْحَقَّ وَعَمِلَهُ وَاتَّبَعَ الْحَقَّ : صَارَ زَكِيًّا تَقِيًّا مُسْتَوْجِبًا لِلْجَنَّةِ .

وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي أمامة الْمَشْهُورُ مِنْ رِوَايَةِ البغوي : حَدَّثَنَا طَالُوتُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا فَضَالَةُ بْنُ جُبَيْرٍ سَمِعْت أَبَا أمامة يَقُولُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { اُكْفُلُوا لِي بِسِتِّ أَكْفُلْ لَكُمْ الْجَنَّةَ : إذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبْ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ فَلَا يَخُنْ وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفْ غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ } . فَقَدْ كَفَلَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَتَى بِهَذِهِ السِّتِّ خِصَالٍ فَالثَّلَاثَةُ الْأُولَى تَبْرِئَةٌ مِنْ النِّفَاقِ وَالثَّلَاثَةُ الْأُخْرَى تَبْرِئَةٌ مِنْ الْفُسُوقِ وَالْمُخَاطَبُونَ مُسْلِمُونَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا كَانَ مُؤْمِنًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَاسِقًا كَانَ تَقِيًّا فَيَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ . وَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْمَدَنِيُّ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ سَهْلٍ المازني قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صهبان حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ سَلِيمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا عَيْنٌ غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَعَيْنٌ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَيْنٌ يَخْرُجُ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } .
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } يَتَنَاوَلُ النَّظَرَ إلَى الْأَمْوَالِ وَاللِّبَاسِ وَالصُّوَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا : أَمَّا اللِّبَاسُ وَالصُّوَرُ فَهُمَا اللَّذَانِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمَا كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

{ إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا } وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يُمَتِّعُ بِالصُّوَرِ كَمَا يُمَتِّعُ بِالْأَمْوَالِ وَكِلَاهُمَا مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكِلَاهُمَا يَفْتِنُ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ وَرُبَّمَا أَفْضَى بِهِ إلَى الْهَلَاكِ دُنْيَا وَأُخْرَى . وَالْهَلْكَى رَجُلَانِ . فَمُسْتَطِيعٌ وَعَاجِزٌ فَالْعَاجِزُ مَفْتُونٌ بِالنَّظَرِ وَمَدِّ الْعَيْنِ إلَيْهِ وَالْمُسْتَطِيعُ مَفْتُونٌ فِيمَا أُوتِيَ مِنْهُ غَارِقٌ قَدْ أَحَاطَ بِهِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ إنْقَاذَ نَفْسِهِ مِنْهُ . وَهَذَا الْمَنْظُورُ قَدْ يُعْجِبُ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ كَانَ الْمَنْظُورُ مُنَافِقًا أَوْ فَاسِقًا كَمَا يُعْجِبُهُ الْمَسْمُوعُ مِنْهُمْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } فَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِمْ وَاسْتِمَاعِ قَوْلِهِمْ فَلَا يُنْظَرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ رُؤْيَاهُمْ تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ إلَيْهِمْ وَأَنَّ قَوْلَهُمْ يُعْجِبُ السَّامِعِينَ . ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ فَسَادِ قُلُوبِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِقَوْلِهِ : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ } فَهَذَا مِثْلُ قُلُوبِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الْآيَةُ : وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } . وَالتَّوَسُّمُ مِنْ السِّمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ فَأَخْبَرَ

سُبْحَانَهُ أَنَّهُ جَعَلَ عُقُوبَاتِ الْمُعْتَدِينَ آيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ } ثُمَّ قَرَأَ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ اعْتَبَرَ بِمَا عَاقَبَ اللَّهُ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْفَوَاحِشِ كَانَ مِنْ الْمُتَوَسِّمِينَ . وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ اللُّوطِيَّةِ أَنَّهُ طَمَسَ أَبْصَارَهُمْ فَكَانَتْ عُقُوبَةُ أَهْلِ الْفَوَاحِشِ طَمْسَ الْأَبْصَارِ كَمَا قَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِيهِمْ وَشُوهِدَ مِنْهُمْ . وَكَانَ ثَوَابُ الْمُعْتَبِرِينَ بِهِمْ التَّارِكِينَ لِأَفْعَالِهِمْ إعْطَاءَ الْأَنْوَارِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِذِكْرِ آيَةِ النُّورِ عَقِيبَ غَضِّ الْأَبْصَارِ . وَأَمَّا الْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ الَّتِي يُعْطِيهَا اللَّهُ لِمَنْ اتَّقَاهُ وَخَالَفَ هَوَاهُ فَذَلِكَ حَاصِلٌ مَعْرُوفٌ كَمَا جَاءَ { إنَّ الَّذِي يَتْرُكُ هَوَاهُ يَفْرُقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصَّرْعَةِ إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمِ يَخْذِفُونَ حَجَرًا فَقَالَ : لَيْسَ الشِّدَّةُ فِي هَذَا وَإِنَّمَا الشِّدَّةُ فِي أَنْ يَمْتَلِئَ أَحَدُكُمْ غَيْظًا ثُمَّ يَكْظِمُهُ لِلَّهِ } أَوْ كَمَا قَالَ . وَهَذَا ذَكَرَهُ فِي الْغَضَبِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ لِبَنِي آدَمَ كَثِيرًا وَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ . وَسُلْطَانُ الشَّهْوَةِ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ مَسْتُورًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَشَيْطَانُهَا خَافٍ وَيُمْكِنُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ الِاعْتِيَاضُ بِالْحَلَالِ عَنْ

الْحَرَامِ وَإِلَّا فَالشَّهْوَةُ إذَا اشْتَعَلَتْ وَاسْتَوْلَتْ قَدْ تَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْغَضَبِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } أَيْ ضَعِيفًا عَنْ النِّسَاءِ لَا يَصْبِرُ عَنْهُنَّ وَفِي قَوْلِهِ : { رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } ذَكَرُوا مِنْهُ الْعِشْقَ وَالْعِشْقُ يُفْضِي بِأَهْلِهِ إلَى الْأَمْرَاضِ وَالْإِهْلَاكِ وَإِنْ كَانَ الْغَضَبُ قَدْ يَبْلُغُ ذَلِكَ أَيْضًا وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْقُوَّةَ وَالْعِزَّةَ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ التَّائِبِينَ إلَى اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ : { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ } وَقَوْلِهِ : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . وَإِذَا كَانَ الَّذِي قَدْ يَهْجُرُ السَّيِّئَاتِ يَغُضُّ بَصَرَهُ وَيَحْفَظُ فَرْجَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ مِنْ النُّورِ وَالْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَمَا ظَنُّك بِاَلَّذِي لَمْ يَحُمْ حَوْلَ السَّيِّئَاتِ وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفَهُ قَطُّ وَلَمْ تُحَدِّثْهُ نَفْسُهُ بِهَا بَلْ هُوَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَهْلَهَا لِيَتْرُكُوا السَّيِّئَاتِ ؟ فَهَلْ هَذَا وَذَاكَ سَوَاءٌ ؛ بَلْ هَذَا لَهُ مِنْ النُّورِ وَالْإِيمَانِ وَالْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالسُّلْطَانِ وَالنَّجَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَاكَ وَحَالُهُ أَعْظَمُ وَأَعْلَى وَنُورُهُ أَتَمُّ وَأَقْوَى فَإِنَّ السَّيِّئَاتِ تَهْوَاهَا النُّفُوسُ وَيُزَيِّنُهَا الشَّيْطَانُ فَتَجْتَمِعُ فِيهَا الشُّبُهَاتُ وَالشَّهَوَاتُ . فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ قَدْ حَبَّبَ اللَّهُ إلَيْهِ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قَلْبِهِ وَكَرَّهَ

إلَيْهِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ حَتَّى يُعَوَّضَ عَنْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ بِحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ وَعَنْ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ بِالنُّورِ وَالْهُدَى وَأَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ مَا أَيَّدَهُ بِهِ : حَيْثُ دَفَعَ بِالْعِلْمِ الْجَهْلَ وَبِإِرَادَةِ الْحَسَنَاتِ إرَادَةَ السَّيِّئَاتِ وَبِالْقُوَّةِ عَلَى الْخَيْرِ الْقُوَّةَ عَلَى الشَّرِّ فِي نَفْسِهِ فَقَطْ وَالْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَطْلُبُ فِعْلَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا حَتَّى يَدْفَعَ جَهْلَهُ بِالظُّلْمِ وَإِرَادَتَهُ السَّيِّئَاتِ بِإِرَادَةِ الْحَسَنَاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَالْجِهَادُ تَمَامُ الْإِيمَانِ وَسَنَامُ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَالَ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } الْآيَةُ وَقَالَ { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ } الْآيَةُ فَكَذَلِكَ يَكُونُ هَذَا الْجَزَاءُ فِي حَقِّ الْمُجَاهِدِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } فَهَذَا فِي الْعِلْمِ وَالنُّورِ وَقَالَ : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } فَقَتْلُ النُّفُوسِ هُوَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَهُوَ مِنْ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجُ مِنْ دِيَارِهِمْ هُوَ الْهِجْرَةُ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ إذَا فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا فَفِي الْآيَةِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ : الْخَيْرُ الْمُطْلَقُ وَالتَّثْبِيتُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْقُوَّةِ وَالْمُكْنَةِ وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ وَهِدَايَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } وَقَالَ : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ

مَنْ يَنْصُرُهُ } إلَى قَوْلِهِ : { عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } وَقَالَ : { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } . وَأَمَّا أَهْلُ الْفَوَاحِشِ الَّذِينَ لَا يَغُضُّونَ أَبْصَارَهُمْ وَلَا يَحْفَظُونَ فُرُوجَهُمْ فَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِضِدِّ ذَلِكَ : مِنْ السَّكْرَةِ وَالْعَمَهِ وَالْجَهَالَةِ وَعَدَمِ الْعَقْلِ وَعَدَمِ الرُّشْدِ وَالْبُغْضِ وَطَمْسِ الْأَبْصَارِ هَذَا مَعَ مَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ الْخُبْثِ وَالْفُسُوقِ وَالْعُدْوَانِ وَالْإِسْرَافِ وَالسُّوءِ وَالْفُحْشِ وَالْفَسَادِ وَالْإِجْرَامِ فَقَالَ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } فَوَصَفَهُمْ بِالْجَهْلِ وَقَالَ : { لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وَقَالَ : { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ } وَقَالَ : { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } وَقَالَ : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } وَقَالَ : { فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } وَقَالَ : { إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ } وَقَالَ : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } إلَى قَوْلِهِ : { انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } وَقَوْلُهُ : { مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } .

فَصْلٌ :
فِي قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ : { وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ : مِنْهَا أَنَّ أَمْرَهُ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوْبَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مُؤْمِنٌ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ : تَرْكُ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَتَرْكُ إبْدَاءِ الزِّينَةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَّا أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةِ إلَّا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا } وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ نَظَرٍ وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ . } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " مَا رَأَيْت شَيْئًا أَشْبَهُ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ } الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ . وَفِيهِ : { وَالنَّفْسُ  ==

26 - مجموع الفتاوى  لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)
 تَتَمَنَّى ذَلِكَ وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مِنْ حَدِيثِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا يُدْرِكُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ : الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدَانِ زِنَاهُمَا الْبَطْشُ وَالرَّجُلَانِ زِنَاهُمَا الْخُطَى وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ } وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ حَدِيثًا وَاسْتَغْرَبَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ { إلَّا اللَّمَمَ } { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَك لَا أَلَمَّا . } وَمِنْهَا أَنَّ أَهْلَ الْفَوَاحِشِ الَّذِينَ لَمْ يَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ وَلَمْ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّوْبَةِ وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِهَا لِتُقْبَلَ مِنْهُمْ فَالتَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ مِنْهُمْ وَمِنْ سَائِرِ الْمُذْنِبِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْفَوَاحِشُ مُغَلَّظَةً لِشِدَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا - كَإِتْيَانِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - وَسَوَاءٌ تَابَ الْفَاعِلُ أَوْ الْمَفْعُولُ بِهِ فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ إذَا رَأَوْا مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْفَوَاحِشِ شَيْئًا أَيَّسُوهُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ

حَتَّى يَقُولَ أَحَدُهُمْ : مَنْ عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لَا يُفْلِحُ أَبَدًا وَلَا يَرْجُونَ لَهُ قَبُولَ تَوْبَةٍ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : مِنَّا كَذَا وَمِنَّا كَذَا وَالْمَعْفُوجُ لَيْسَ مِنَّا وَيَقُولُونَ : إنَّ هَذَا لَا يَعُودُ صَالِحًا وَلَوْ تَابَ مَعَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا مُقِرًّا بِتَحْرِيمِ مَا فَعَلَ . وَيُدْخِلُونَ فِي ذَلِكَ مَنْ اُسْتُكْرِهَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْفَوَاحِشِ وَيَقُولُونَ : لَوْ كَانَ لِهَذَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مَا سَلَّطَ عَلَيْهِ مَنْ فَعَلَ بِهِ مِثْلَ هَذَا وَاسْتَكْرَهَهُ كَمَا يُفْعَلُ بِكَثِيرِ مِنْ الْمَمَالِيكِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَكَمَا يُفْعَلُ بِأُجَرَاءِ أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَكَذَلِكَ مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ صِبْيَانِ الْكَتَاتِيبِ وَغَيْرِهِمْ وَنَسُوا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَهَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَعْلَمُونَ صُورَةَ التَّوْبَةِ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا حَالًا وَعَمَلًا لِأَحَدِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ اعْتِقَادًا فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ ؛ فَإِنَّ الْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَالُهُمْ مُقَابِلٌ لِحَالِ مُسْتَحِلِّي الْفَوَاحِشِ ؛ فَإِنَّ هَذَا أَمِنَ مَكْرَ اللَّهِ بِأَهْلِهَا وَذَاكَ قَنَّطَ أَهْلَهَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ؛ وَالْفَقِيهُ كُلُّ الْفَقِيهِ هُوَ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ . وَهَذَا فِي أَصْلِ الذُّنُوبِ الْإِرَادِيَّةِ نَظِيرُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ

فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَعْتَقِدُ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ فَيَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ تَوْبَةَ الْمُبْتَدِعِ لَا تُقْبَلُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً فَقَالَ : أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَد وَالْمُقَفَّى وَالْحَاشِرُ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَأَنَا نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ } وَذَلِكَ أَنَّهُ بُعِثَ بِالْمَلْحَمَةِ وَهِيَ : الْمَقْتَلَةُ لِمَنْ عَصَاهُ وَبِالتَّوْبَةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَبِالرَّحْمَةِ لِمَنْ صَدَّقَهُ وَاتَّبَعَهُ وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَكَانَ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُؤْمَرُ بِقِتَالِ . وَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْ أُمَمِهِمْ إذَا أَصَابَ بَعْضَ الذُّنُوبِ يَحْتَاجُ مَعَ التَّوْبَةِ إلَى عُقُوبَاتٍ شَدِيدَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَغَيْرِهِ : أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ إذَا أَصَابَ ذَنْبًا أَصْبَحَتْ الْخَطِيئَةُ وَالْكَفَّارَةُ مَكْتُوبَةٌ عَلَى بَابِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ : { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } إلَى قَوْلِهِ : { وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } فَخَصَّ الْفَاحِشَةَ بِالذِّكْرِ مَعَ قَوْلِهِ { ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } وَالظُّلْمُ يَتَنَاوَلُ الْفَاحِشَةَ وَغَيْرَهَا تَحْقِيقًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ

مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ الْفَوَاحِشِ مُطْلَقًا : مِنْ الَّذِينَ يَأْتِيَانِهَا مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَابَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا } وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَالَ الشَّيْطَانُ وَعِزَّتِك يَا رَبِّ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ فَقَالَ الرَّبُّ تَعَالَى : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي } وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ اللَّهُ يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْت لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْت لَك وَلَا أُبَالِي ابْنَ آدَمَ لَوْ لَقِيتنِي بِقِرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً ثُمَّ لَقِيتنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُك بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً . } وَاَلَّذِي يَمْنَعُ تَوْبَةَ أَحَدِ هَؤُلَاءِ إمَّا بِحَالِهِ وَإِمَّا بِقَالِهِ وَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَنْ يَقُولَ : إذَا تَابَ أَحَدُهُمْ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ وَإِمَّا أَنْ

يَقُولَ أَحَدُهُمْ : لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيَّ أَبَدًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي تَوْبَةِ الْقَاتِلِ وَتَوْبَةِ الدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا نِزَاعٌ ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّمْثِيلِ وَالْبَيَانِ فِي " الْجَامِعِ " وَغَيْرِهِ وَتَكَلَّمُوا أَيْضًا فِي تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهُمْ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي كَوْنِ التَّوْبَةِ فِي الظَّاهِرِ تَدْفَعُ الْعُقُوبَةَ : إمَّا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهَا وَإِمَّا لِكَوْنِهَا لَا تَمْنَعُ مَا وَجَبَ مِنْ الْحَدِّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ الزِّنْدِيقَ وَنَحْوَهُ إذَا تَابَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَوْبَةً صَحِيحَةً لَمْ يَتَقَبَّلْهَا اللَّهُ مِنْهُ وَأَمَّا الْقَاتِلُ وَالْمُضِلُّ فَذَاكَ لِأَجْلِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ وَالتَّوْبَةُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لَهَا حَالٌ آخَرُ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْكَلَامِ فِيهَا وَفِي تَفْصِيلِهَا وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَالْفَوَاحِشُ خُصُوصًا مَا عَلِمْت أَحَدًا نَازَعَ فِي التَّوْبَةِ مِنْهَا وَالزَّانِي وَالْمُزْنَى بِهِ مُشْتَرِكَانِ فِي ذَلِكَ إنْ تَابَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَيُبَيِّنُ التَّوْبَةَ خُصُوصًا مِنْ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ الْفَاحِشَةَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ دَعَاهُمْ جَمِيعَهُمْ إلَى تَقْوَى اللَّهِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا فَلَوْ كَانَتْ تَوْبَةُ الْمَفْعُولِ بِهِ أَوْ غَيْرِهِ لَا تُقْبَلُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمَا لَا يُقْبَلُ قَالَ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ } { إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ }

{ إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } فَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِتَوْبَتِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَالْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ لِلْفَاعِلِ فَإِنَّهُ إنَّمَا خُصَّ بِهِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الشَّهْوَةِ وَالطَّلَبِ فِي الْعَادَةِ ؛ بِخِلَافِ الْمَفْعُولِ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ تُخْلَقْ فِيهِ شَهْوَةٌ لِذَلِكَ فِي الْأَصْلِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَعْرِضُ لَهُ لِمَرَضِ طَارِئٍ أَوْ أَجْرٍ يَأْخُذُهُ مِنْ الْفَاعِلِ أَوْ لِغَرَضِ آخَرَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
عَنْ قَوْله تَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِكْرِ " زِنَا الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا " وَمَاذَا عَلَى الرَّجُلِ إذَا مَسَّ يَدَ الصَّبِيِّ الْأَمْرَدِ فَهَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ النِّسَاءِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا ؟ وَمَا عَلَى الرَّجُلِ إذَا جَاءَتْ إلَى عِنْدِهِ المردان وَمَدَّ يَدَهُ إلَى هَذَا وَهَذَا وَيَتَلَذَّذُ بِذَلِكَ وَمَا جَاءَ فِي التَّحْرِيمِ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ الْحَسَنِ ؟ وَهَلْ هَذَا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ : { إنَّ النَّظَرَ إلَى الْوَجْهِ الْمَلِيحِ عِبَادَةٌ } صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قَالَ أَحَدٌ : أَنَا مَا أَنْظُرُ إلَى الْمَلِيحِ الْأَمْرَدِ لِأَجْلِ شَيْءٍ ؛ وَلَكِنِّي إذَا رَأَيْته قُلْت : سُبْحَانَ اللَّهِ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ صَوَابٌ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ . (*)
فَأَجَابَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ وَرَحِمَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ وَنَفَعَ بِعُلُومِهِ وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِ - :

الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ كَمَسِّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يُعْلَى فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . " وَالثَّانِي " أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَإِنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ يُفْسِدُ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَفْسُدُ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ كَالصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَيُوجِبُ الْغُسْلَ كَمَا يُوجِبُهُ هَذَا ؛ فَتَكُونُ مُقَدِّمَاتُ هَذَا فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ كَمُقَدِّمَاتِ هَذَا فَلَوْ مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ كَمَا عَلَيْهِ لَوْ مَسَّ أَجْنَبِيَّةً لِشَهْوَةِ ؛ كَذَلِكَ إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ لِشَهْوَةِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ . وَاَلَّذِي لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِمَسِّهِ يَقُولُ : إنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مَحَلًّا لِذَلِكَ . فَيُقَالُ : لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ لِذَلِكَ وَأَنَّ الْفَاحِشَةَ اللُّوطِيَّةَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي بَعْضِ الْوَطْءِ فَلَوْ وَطِئَ فِي الدُّبُرِ تَعَلَّقَ بِهِ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنْ كَانَ الدُّبُرُ لَمْ يُخْلَقْ مَحَلًّا

لِلْوَطْءِ مَعَ أَنَّ نُفْرَةَ الطِّبَاعِ عَنْ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ أَعْظَمُ مِنْ نُفْرَتِهَا عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَنَقْضُ الْوُضُوءِ بِاللَّمْسِ يُرَاعَى فِيهِ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَسُّ لِشَهْوَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ - كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا - يُرَاعَى كَمَا يُرَاعَى مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَحَيْثُ وُجِدَ اللَّمْسُ لِشَهْوَةِ تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ حَتَّى لَوْ مَسَّ بِنْتِهِ وَأُخْتَه وَأُمَّهُ لِشَهْوَةِ انْتَقَضَ وَضَوْءُهُ ؛ فَكَذَلِكَ مِنْ الْأَمْرَدِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ فَيُعْتَبَرُ الْمَظِنَّةُ وَهُوَ أَنَّ النِّسَاءَ مَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ سَوَاءٌ كَانَ بِشَهْوَةِ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ ؛ وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ مَسُّ الْمَحَارِمِ ؛ لَكِنَّ لَوْ مَسَّ ذَوَاتَ مَحَارِمِهِ لِشَهْوَةِ فَقَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ . وَكَذَلِكَ إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ وَالتَّلَذُّذُ بِمَسِّ الْأَمْرَدِ - كَمُصَافَحَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ - كَمَا يَحْرُمُ التَّلَذُّذُ بِمَسِّ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ اللُّوطِيِّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الزِّنَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ فَيَجِبُ قَتْلُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا لِلْآخَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمِلَ بِهِ أَصْحَابُهُ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ وَقَتْلُهُ بِالرَّجْمِ كَمَا قَتَلَ اللَّهُ قَوْمَ لُوطٍ ؛ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ فِي قَتْلِ الزَّانِي أَنَّهُ بِالرَّجْمِ ؛ { فَرَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ والغامدية وَالْيَهُودِيِّينَ

وَالْمَرْأَةَ الَّتِي أَرْسَلَ إلَيْهَا أَنِيسًا وَقَالَ : اذْهَبْ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا فَرَجَمَهَا } .
وَالنَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ بِشَهْوَةِ كَالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالشَّهْوَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّهْوَةُ شَهْوَةَ الْوَطْءِ أَوْ كَانَتْ شَهْوَةَ التَّلَذُّذِ بِالنَّظَرِ كَمَا يَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَانَ مَعْلُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ هَذَا حَرَامٌ فَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ عِبَادَةٌ كَقَوْلِهِ : إنَّ النَّظَرَ إلَى وُجُوهِ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ وَالنَّظَرَ إلَى مَحَارِمِ الرَّجُلِ كَبِنْتِ الرَّجُلِ وَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ عِبَادَةٌ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَعَلَ هَذَا النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ عِبَادَةً فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ الْفَوَاحِشَ عِبَادَةً . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي صُوَرِ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْخَالِقِ مِنْ جِنْسِ مَا فِي صُوَرِ المردان فَهَلْ يَقُولُ مُسْلِمٌ : إنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَنْظُرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إلَى صُوَرِ النِّسَاءِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَصُوَرِ مَحَارِمِهِ . وَيَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ ؛ بَلْ مَنْ جَعَلَ مِثْلَ هَذَا

النَّظَرِ عِبَادَةً فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ إعَانَةَ طَالِبِ الْفَاحِشَةِ عِبَادَةً أَوْ جَعَلَ تَنَاوُلَ يَسِيرِ الْخَمْرِ عِبَادَةً أَوْ جَعَلَ السُّكْرَ مِنْ الْحَشِيشَةِ عِبَادَةً ؛ فَمَنْ جَعَلَ الْمُعَاوَنَةَ بِقِيَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا عِبَادَةً أَوْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يُعْلَمُ تَحْرِيمَهَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ عِبَادَةً : فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَهُوَ مُضَاهٍ بِهِ لِلْمُشْرِكِينَ { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَفَاحِشَةُ أُولَئِكَ إنَّمَا كَانَتْ طَوَافَهُمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَكَانُوا يَقُولُونَ : لَا نَطُوفُ فِي الثِّيَابِ الَّتِي عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً عَلَى وَجْهِ اجْتِنَابِ ثِيَابِ الْمَعْصِيَةِ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَ فَكَيْفَ بِمَنْ جَعَلَ جِنْسَ الْفَاحِشَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشَّهْوَةِ عِبَادَةً . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ . وَهُوَ نَوْعَانِ : غَضُّ الْبَصَرِ عَنْ الْعَوْرَةِ . وَغَضُّهُ عَنْ مَحَلِّ الشَّهْوَةِ . فَالْأَوَّلُ : كَغَضِّ الرَّجُلِ بَصَرَهُ عَنْ عَوْرَةِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ } وَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ كَمَا { قَالَ لمعاوية بْنِ حَيْدَةَ : احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك

قُلْت : فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا مَعَ قَوْمِهِ قَالَ : إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا تُرِيهَا أَحَدًا فَلَا يَرَيْنَهَا قُلْت : فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا ؟ قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ } . وَيَجُوزُ كَشْفُهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ كَمَا تُكْشَفُ عِنْدَ التَّخَلِّي وَكَذَلِكَ إذَا اغْتَسَلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ - بِحَيْثُ يَجِدُ مَا يَسْتُرُهُ - فَلَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ عريانا كَمَا اغْتَسَلَ مُوسَى عريانا وَأَيُّوبُ وَكَمَا فِي اغْتِسَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَاغْتِسَالِهِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ النَّظَرِ - كَالنَّظَرِ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ - فَهَذَا أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ أَشَدُّ مِنْ الْمِيتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَعَلَى صَاحِبِهَا الْحَدُّ وَتِلْكَ الْمُحَرَّمَاتُ إذَا تَنَاوَلَهَا مُسْتَحِلًّا لَهَا كَانَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ لَا تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ كَمَا تَشْتَهِي الْخَمْرَ . وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ لَا يُشْتَهَى كَمَا يُشْتَهَى النَّظَرُ إلَى النِّسَاءِ وَنَحْوِهِنَّ . وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى الْأَمْرَدِ بِشَهْوَةِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِشَهْوَةِ . وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ يُسَبَّحُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَخْلُوقَاتِهِ كُلِّهَا وَلَيْسَ خَلْقُ الْأَمْرَدِ بِأَعْجَبَ فِي قُدْرَتِهِ مِنْ خَلْقِ ذِي اللِّحْيَةِ ؛ وَلَا خَلْقُ النِّسَاءِ بِأَعْجَبَ فِي

قُدْرَتِهِ مِنْ خَلْقِ الرِّجَالِ ؛ فَتَخْصِيصُ الْإِنْسَانِ بِالتَّسْبِيحِ بِحَالِ نَظَرِهِ إلَى الْأَمْرَدِ دُونَ غَيْرِهِ كَتَخْصِيصِهِ بِالتَّسْبِيحِ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ ؛ وَمَا ذَاكَ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ عِنْدَهُ ؛ وَلَكِنْ لِأَنَّ الْجَمَالَ يُغَيِّرُ قَلْبَهُ وَعَقْلَهُ وَقَدْ يُذْهِلُهُ مَا رَآهُ فَيَكُونُ تَسْبِيحُهُ لِمَا حَصَلَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْهَوَى كَمَا أَنَّ النِّسْوَةَ لَمَّا رَأَيْنَ يُوسُفَ { أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إنْ هَذَا إلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } فَإِذَا كَانَ اللَّهُ لَا يَنْظُرُ إلَى الصُّوَرِ وَالْأَمْوَالِ ؛ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ فَكَيْفَ يُفَضِّلُ الشَّخْصَ بِمَا لَمْ يُفَضِّلْهُ اللَّهُ بِهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } . فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تُعْجِبُ النَّاظِرَ أَجْسَامُهُمْ ؛ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْبَهَاءِ وَالرُّوَاءِ وَالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَلَيْسُوا مِمَّنْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِشَهْوَةِ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَ فَكَيْفَ بِمَنْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِشَهْوَةِ

وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَهُنَا الِاعْتِبَارُ بِقَلْبِهِ وَعَمَلِهِ لَا بِصُورَتِهِ وَقَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الصُّورَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُصَوِّرِ فَهَذَا حَسَنٌ . وَقَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اسْتِحْسَانِ خَلْقِهِ كَمَا يُنْظَرُ إلَى الْخَيْلِ وَالْبَهَائِمِ وَكَمَا يُنْظَرُ إلَى الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْأَزْهَارِ ؛ فَهَذَا أَيْضًا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ اسْتِحْسَانِ الدُّنْيَا وَالرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ فَهُوَ مَذْمُومٌ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } . وَأَمَّا إنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْقُصُ الدِّينَ وَإِنَّمَا فِيهِ رَاحَةُ النَّفْسِ فَقَطْ : كَالنَّظَرِ إلَى الْأَزْهَارِ فَهَذَا مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْحَقِّ . وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَتَى كَانَ مَعَهُ شَهْوَةٌ كَانَ حَرَامًا بِلَا رَيْبٍ سَوَاءٌ كَانَتْ شَهْوَةُ تَمَتُّعٍ بِالنَّظَرِ أَوْ كَانَ نَظَرًا بِشَهْوَةِ الْوَطْءِ وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ نَظَرِهِ إلَى الْأَشْجَارِ وَالْأَزْهَارِ وَمَا يَجِدُهُ عِنْدَ نَظَرِهِ إلَى النِّسْوَانِ والمردان . فَلِهَذَا الْفُرْقَانِ افْتَرَقَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فَصَارَ النَّظَرُ إلَى المردان ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : " أَحَدُهَا " مَا تَقْتَرِنُ بِهِ الشَّهْوَةُ . فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالِاتِّفَاقِ .

و " الثَّانِي " مَا يُجْزَمُ أَنَّهُ لَا شَهْوَةَ مَعَهُ . كَنَظَرِ الرَّجُلِ الْوَرِعِ إلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ وَابْنَتِهِ الْحَسَنَةِ وَأُمِّهِ الْحَسَنَةِ فَهَذَا لَا يَقْتَرِنُ بِهِ شَهْوَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِنْ أَفْجَرِ النَّاسِ وَمَتَى اقْتَرَنَتْ بِهِ الشَّهْوَةُ حَرُمَ . وَعَلَى هَذَا نَظَرُ مَنْ لَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَى المردان كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَكَالْأُمَمِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْفَاحِشَةَ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بَيْنَ نَظَرِهِ إلَى ابْنِهِ وَابْنِ جَارِهِ وَصَبِيٍّ أَجْنَبِيٍّ لَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ الشَّهْوَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدْ ذَلِكَ وَهُوَ سَلِيمُ الْقَلْبِ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَتْ الْإِمَاءُ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ يَمْشِينَ فِي الطُّرُقَاتِ مُنْكْشِفَاتٍ الرُّءُوسَ وَيَخْدِمْنَ الرِّجَالَ مَعَ سَلَامَةِ الْقُلُوبِ فَلَوْ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِمَاءَ التُّرْكِيَّاتِ الْحِسَانَ يَمْشِينَ بَيْنَ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ وَالْأَوْقَاتِ كَمَا كَانَ أُولَئِكَ الْإِمَاءُ يَمْشِينَ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْفَسَادِ . وَكَذَلِكَ المردان الْحِسَانُ . لَا يَصْلُحُ أَنْ يَخْرُجُوا فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزِقَّةِ الَّتِي يُخَافُ فِيهَا الْفِتْنَةُ بِهِمْ إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَلَا يُمَكَّنُ الْأَمْرَدُ الْحَسَنُ مِنْ التَّبَرُّجِ وَلَا مِنْ الْجُلُوسِ فِي الْحَمَّامِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ ؛ وَلَا مِنْ رَقْصِهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ فِتْنَةٌ لِلنَّاسِ وَالنَّظَرُ إلَيْهِ كَذَلِكَ . وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي " الْقِسْمِ الثَّالِثِ " مِنْ النَّظَرِ وَهُوَ النَّظَرُ إلَيْهِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ ؛ لَكِنْ مَعَ خَوْفِ ثَوَرَانِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ فِي

مَذْهَبِ أَحْمَد أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ . و " الثَّانِي " يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ثَوَرَانِهَا ؛ فَلَا يَحْرُمُ بِالشَّكِّ بَلْ قَدْ يُكْرَهُ . وَالْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا أَنَّ الرَّاجِحَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنْ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَتْ الشَّهْوَةُ مُنْتَفِيَةً ؛ لَكِنْ لِأَنَّهُ يَخَافُ ثَوَرَانَهَا ؛ وَلِهَذَا حَرَّمَ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ . وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِنَّ الذَّرِيعَةَ إلَى الْفَسَادِ سَدُّهَا إذَا لَمْ يُعَارِضْهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ . وَلِهَذَا كَانَ النَّظَرُ الَّذِي قَدْ يُفْضِي إلَى الْفِتْنَةِ مُحَرَّمًا إلَّا إذَا كَانَ لِحَاجَةِ رَاجِحَةٍ مِثْلَ نَظَرِ الْخَاطِبِ وَالطَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ لِلْحَاجَةِ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ . وَأَمَّا النَّظَرُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ إلَى مَحَلِّ الْفِتْنَةِ فَلَا يَجُوزُ . وَمَنْ كَرَّرَ النَّظَرَ إلَى الْأَمْرَدِ وَنَحْوِهِ وَأَدَامَهُ وَقَالَ : إنِّي لَا أَنْظُرُ لِشَهْوَةِ كُذِّبَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ دَاعٍ يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى النَّظَرِ لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ إلَّا لِمَا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ مِنْ اللَّذَّةِ بِذَلِكَ . وَأَمَّا نَظَرُ الْفَجْأَةِ فَهُوَ عَفْوٌ إذَا صَرَفَ بَصَرَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ { عَنْ جَرِيرٍ قَالَ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ قَالَ : اصْرِفْ بَصَرَك } وَفِي . السُّنَنِ أَنَّهُ { قَالَ لِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الثَّانِيَةُ } وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ : { النَّظَرُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ } وَفِيهِ : { مَنْ نَظَرَ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ ثُمَّ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْهَا أَوْرَثَ اللَّهُ قَلْبَهُ حَلَاوَةَ عِبَادَةٍ يَجِدُهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } أَوْ كَمَا قَالَ . وَلِهَذَا يُقَالُ : إنَّ غَضَّ الْبَصَرِ عَنْ الصُّورَةِ الَّتِي يُنْهَى عَنْ النَّظَرِ إلَيْهَا : كَالْمَرْأَةِ وَالْأَمْرَدِ الْحَسَنِ يُورِثُ ذَلِكَ ثَلَاثَ فَوَائِدَ جَلِيلَةِ الْقَدْرِ :
" أَحَدُهَا " حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ وَلَذَّتُهُ الَّتِي هِيَ أَحْلَى وَأَطْيَبُ مِمَّا تَرَكَهُ لِلَّهِ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ وَالنَّفْسُ تُحِبُّ النَّظَرَ إلَى هَذِهِ الصُّوَرِ لَا سِيَّمَا نُفُوسُ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالصَّفَا ؛ فَإِنَّهُ يَبْقَى فِيهَا رِقَّةٌ تَنْجَذِبُ بِسَبَبِهَا إلَى الصُّوَرِ حَتَّى تَبْقَى الصُّورَةُ تَخْطِفُ أَحَدَهُمْ وَتَصْرَعُهُ كَمَا يَصْرَعُهُ السَّبُعُ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ : مَا أَنَا عَلَى الشَّابِّ التَّائِبِ مِنْ سَبُعٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ بِأَخْوَفَ عَلَيْهِ مِنْ حَدَثٍ جَمِيلٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : اتَّقُوا النَّظَرَ إلَى أَوْلَادِ الْمُلُوكِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمْ كَفِتْنَةِ الْعَذَارَى . وَمَا زَالَ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ - كَأَئِمَّةِ الْهُدَى وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ - يُوَصُّونَ بِتَرْكِ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ حَتَّى يُرْوَى عَنْ فَتْحٍ الْمُوصِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ : صَحِبْت ثَلَاثِينَ مِنْ

الْأَبْدَالِ كُلُّهُمْ يُوصِينِي عِنْدَ فِرَاقِهِ بِتَرْكِ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا سَقَطَ عَبْدٌ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ إلَّا ابْتَلَاهُ بِصُحْبَةِ هَؤُلَاءِ الأنتان . ثُمَّ النَّظَرُ يُوَلِّدُ الْمَحَبَّةَ فَيَكُونُ عَلَاقَةً ؛ لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ ثُمَّ صَبَابَةً ؛ لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إلَيْهِ ثُمَّ غَرَامًا ؛ لِلُزُومِهِ لِلْقَلْبِ . كَالْغَرِيمِ الْمُلَازِمِ لِغَرِيمِهِ ثُمَّ عِشْقًا إلَى أَنْ يَصِيرَ تتيما وَالْمُتَيَّمُ الْمُعَبَّدُ وَتَيْمُ اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ ؛ فَيَبْقَى الْقَلْبُ عَبْدًا لِمَنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَخًا وَلَا خَادِمًا . وَهَذَا إنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ أَهْلُ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ الَّذِينَ فِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ وَإِلَّا فَأَهْلُ الْإِخْلَاصِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَامْرَأَةُ الْعَزِيزِ كَانَتْ مُشْرِكَةً فَوَقَعَتْ مَعَ تَزَوُّجِهَا فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ مِنْ السُّوءِ وَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ عُزُوبَتِهِ وَمُرَاوَدَتِهَا لَهُ وَاسْتِعَانَتِهَا عَلَيْهِ بِالنِّسْوَةِ وَعُقُوبَتِهَا لَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى الْعِفَّةِ : عَصَمَهُ اللَّهُ بِإِخْلَاصِهِ لِلَّهِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ : { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } و " الْغَيُّ " هُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى . وَهَذَا الْبَابُ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَمَنْ أَمَرَ بِعِشْقِ الصُّوَرِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ - كَابْنِ سِينَا وَذَوِيهِ أَوْ مِنْ الْفُرْسِ كَمَا يُذْكَرُ

عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ جُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ - فَإِنَّهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ فَهُمْ مَعَ مُشَارَكَةِ الْيَهُودِ فِي الْغَيِّ وَالنَّصَارَى فِي الضَّلَالِ : زَادُوا عَلَى الْأُمَّتَيْنِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْعَاشِقِ كَتَلْطِيفِ نَفْسِهِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِ أَوْ لِلْمَعْشُوقِ مِنْ السَّعْيِ فِي مَصَالِحِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَضَرَّةُ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَنْفَعَتِهِ وَأَيْنَ إثْمُ ذَلِكَ مِنْ نَفْعِهِ ؟ . وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا يُقَالُ : إنَّ فِي الزِّنَا مَنْفَعَةٌ لِكُلِّ مِنْهُمَا بِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَيَحْصُلُ لَهَا مِنْ الْجَعْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَمَا يُقَالُ : إنَّ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ مَنَافِعَ بَدَنِيَّةً وَنَفْسِيَّةً . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ : { قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } . وَهَذَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ دَعْ مَا قَالَهُ عِنْدَ التَّحْرِيمِ وَبَعْدَهُ فَإِنَّ التَّعَبُّدَ بِهَذِهِ الصُّوَرِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْفَوَاحِشِ وَبَاطِنُهُ مِنْ بَاطِنِ الْفَوَاحِشِ وَهُوَ مِنْ بَاطِنِ الْإِثْمِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَلَيْسَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الدِّينِ نِزَاعٌ فِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُسْتَحَبِّ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ فَمَنْ جَعَلَهُ مَمْدُوحًا وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ بَلْ وَعَمَّا عَلَيْهِ عُقَلَاءُ بَنِي آدَمَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَهُوَ

مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } .
وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ إلَى المردان ظَانًّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى مَظَاهِرِ الْجَمَالِ الْإِلَهِيِّ وَجَعَلَ هَذَا طَرِيقًا لَهُ إلَى اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُهُ طَوَائِفُ مِنْ الْمُدَّعِينَ لِلْمَعْرِفَةِ فَقَوْلُهُ هَذَا أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ قَوْلِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَمِنْ كُفْرِ قَوْمِ لُوطٍ . فَهَؤُلَاءِ مِنْ شَرِّ الزَّنَادِقَةِ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ بِإِجْمَاعِ كُلِّ أُمَّةٍ فَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ قَالُوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } . وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَوْجُودًا فِي نَفْسِ الْأَصْنَامِ وَحَالًّا فِيهَا ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِظُهُورِهِ وَتَجَلِّيهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّهَا أَدِلَّةٌ عَلَيْهِ وَآيَاتٌ لَهُ بَلْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ظَهَرَ فِيهَا وَتَجَلَّى فِيهَا وَيُشَبِّهُونَ ذَلِكَ بِظُهُورِ الْمَاءِ فِي الصُّوفَةِ وَالزُّبْدِ فِي اللَّبَنِ وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي حُلُولَ نَفْسِ ذَاتِهِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ أَوْ اتِّحَادِهِ بِهَا فَيَقُولُونَ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ : نَظِيرَ مَا قَالَهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ خَاصَّةً ثُمَّ يَجْعَلُونَ المردان مَظَاهِرَ الْجَمَالِ فَيُقِرُّونَ هَذَا الشِّرْكَ الْأَعْظَمَ طَرِيقًا إلَى اسْتِحْلَالِ الْفَوَاحِشِ بَلْ إلَى اسْتِحْلَالِ كُلِّ مُحَرَّمٍ ؛ كَمَا قِيلَ لِأَفْضَلِ

مَشَايِخِهِمْ التلمساني : إذَا كَانَ قَوْلُكُمْ بِأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ هُوَ الْحَقُّ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ أُمِّي وَأُخْتِي وَبِنْتِي حَتَّى يَكُونَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ؟ قَالَ : الْجَمِيعُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا حَرَامٌ فَقُلْنَا حَرَامٌ عَلَيْكُمْ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْحُلُولِيَّةِ والاتحادية مَنْ يَخُصُّ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ إمَّا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كَالْمَسِيحِ أَوْ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ كَقَوْلِ الْغَالِيَةِ فِي عَلِيٍّ أَوْ بِبَعْضِ الشُّيُوخِ كَالْحَلَّاجِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ أَوْ بِبَعْضِ الْمُلُوكِ أَوْ بِبَعْضِ الصُّوَرِ كَصُوَرِ المردان . وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : إنَّمَا أَنْظُرُ إلَى صِفَاتِ خَالِقِي وَأَشْهَدُهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَالْكُفْرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَلَوْ قَالَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِي نَبِيٍّ كَرِيمٍ لَكَانَ كَافِرًا فَكَيْفَ إذَا قَالَهُ فِي صَبِيٍّ أَمْرَدَ فَقَبَّحَ اللَّهُ طَائِفَةً يَكُونُ مَعْبُودُهَا مِنْ جِنْسِ مَوْطُوئِهَا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فَإِذَا كَانَ مَنْ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ كُفَّارًا فَكَيْفَ بِمَنْ اتَّخَذَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ أَرْبَابًا ؟ مَعَ أَنَّ اللَّهَ فِيهَا أَوْ مُتَّحِدٌ بِهَا فَوُجُودُهُ وُجُودُهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ .

وَأَمَّا " الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ " فِي غَضِّ الْبَصَرِ : فَهُوَ نُورُ الْقَلْبِ وَالْفِرَاسَةِ قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ لُوطٍ : { لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } فَالتَّعَلُّقُ بِالصُّوَرِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْلِ وَعَمَى الْبَصِيرَةِ وَسُكْرَ الْقَلْبِ بَلْ جُنُونَهُ كَمَا قِيلَ : سكران سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ * * * فَمَتَى يُفِيقُ مَنْ بِهِ سكران
وَقِيلَ أَيْضًا :
قَالُوا جُنِنْت بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْت لَهُمْ * * * الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ
الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ * * * وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ
وَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ آيَةَ النُّورِ عَقِيبَ آيَاتِ غَضِّ الْبَصَرِ فَقَالَ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَكَانَ شُجَاعُ بْنُ شَاهٍ الكرماني لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ وَكَانَ يَقُولُ : مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ

الْمُرَاقَبَةِ وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَذَكَرَ خَصْلَةً سَادِسَةً أَظُنُّهُ هُوَ أَكْلُ الْحَلَالِ : لَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِرَاسَةٌ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْزِي الْعَبْدَ عَلَى عَمَلِهِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ فَيُطْلِقُ نُورَ بَصِيرَتِهِ وَيَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْكُشُوفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُنَالُ بِبَصِيرَةِ الْقَلْبِ . " الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ " قُوَّةُ الْقَلْبِ وَثَبَاتُهُ وَشَجَاعَتُهُ ؛ فَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ سُلْطَانُ الْبَصِيرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ فَإِنَّ فِي الْأَثَرِ : { الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ } وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي الْمُتَّبِعِ هَوَاهُ مَنْ ذُلِّ النَّفْسِ وَضَعْفِهَا وَمَهَانَتِهَا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِمَنْ عَصَاهُ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْعِزَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَالذِّلَّةَ لِمَنْ عَصَاهُ . قَالَ تَعَالَى : { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . وَلِهَذَا كَانَ فِي كَلَامِ الشُّيُوخِ : النَّاسُ يَطْلُبُونَ الْعِزَّ بِأَبْوَابِ الْمُلُوكِ وَلَا يَجِدُونَهُ إلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ . وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ : وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمْ الْبَرَاذِينُ وَطَقْطَقَتْ بِهِمْ ذُلُلُ الْبِغَالِ فَإِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ فِي رِقَابِهِمْ أَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ وَالَاهُ فِيمَا أَطَاعَهُ فِيهِ وَمَنْ عَصَاهُ فَفِيهِ قِسْطٌ مِنْ فِعْلِ مَنْ عَادَاهُ بِمَعَاصِيهِ وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ : { إنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْت وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْت } .

ثُمَّ الصُّوفِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ عِنْدَ الْأُمَّةِ - الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ - لَمْ يَكُونُوا يَسْتَحْسِنُونَ مِثْلَ هَذَا ؛ بَلْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَلَهُمْ فِي الْكَلَامِ فِي ذَمِّ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ وَفِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْحُلُولِ وَبَيَانِ مُبَايَنَةِ الْخَالِقِ : مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ . وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَهُ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ مِمَّنْ هُوَ عَاصٍ أَوْ فَاسِقٌ أَوْ كَافِرٌ فَيَتَظَاهَرُ بِدَعْوَى الْوِلَايَةِ لِلَّهِ وَتَحْقِيقِ الْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ وَهُوَ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْعَدَاوَةِ لِلَّهِ وَأَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبُهْتَانِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَجْعَلُ لِأَعْدَائِهِ الصَّفْقَةَ الْخَاسِرَةَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ الْفُرْقَانِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ ثَلَاثٌ : الْكُفْرُ ثُمَّ قَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ثُمَّ الزِّنَا كَمَا رَتَّبَهَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك . قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك } .
وَلِهَذَا التَّرْتِيبِ وَجْهٌ مَعْقُولٌ وَهُوَ أَنَّ قُوَى الْإِنْسَانِ ثَلَاثٌ :
قُوَّةُ الْعَقْلِ وَقُوَّةُ الْغَضَبِ وَقُوَّةُ الشَّهْوَةِ . فَأَعْلَاهَا الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ - الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا الْإِنْسَانُ دُونَ سَائِرِ الدَّوَابِّ وَتَشْرَكُهُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُ : خُلِقَ لِلْمَلَائِكَةِ عُقُولٌ بِلَا شَهْوَةٍ ،

وَخُلِقَ لِلْبَهَائِمِ شَهْوَةٌ بِلَا عَقْلٍ وَخُلِقَ لِلْإِنْسَانِ عَقْلٌ وَشَهْوَةٌ فَمَنْ غَلَبَ عَقْلُهُ شَهْوَتَهُ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَقْلَهُ فَالْبَهَائِمُ خَيْرٌ مِنْهُ . ثُمَّ الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ الَّتِي فِيهَا دَفْعُ الْمَضَرَّةِ ثُمَّ الْقُوَّةُ الشهوية الَّتِي فِيهَا جَلْبُ الْمَنْفَعَةِ . وَمِنْ الطبائعيين مَنْ يَقُولُ : الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ هِيَ الْحَيَوَانِيَّةُ ؛ لِاخْتِصَاصِ الْحَيَوَانِ بِهَا دُونَ النَّبَاتِ . وَالْقُوَّةُ الشهوية هِيَ النَّبَاتِيَّةُ لِاشْتِرَاكِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ فِيهَا . وَاخْتِصَاصُ النَّبَاتِ بِهَا دُونَ الْجَمَادِ . لَكِنْ يُقَالُ : إنْ أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ الشَّهْوَةِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ النَّبَاتَ لَيْسَ فِيهِ حَنِينٌ وَلَا حَرَكَةٌ إرَادِيَّةٌ وَلَا شَهْوَةٌ وَلَا غَضَبٌ . وَإِنْ أَرَادَ نَفْسَ النُّمُوِّ وَالِاغْتِذَاءِ فَهَذَا تَابِعٌ لِلشَّهْوَةِ وَمُوجِبُهَا . وَلَهُ نَظِيرٌ فِي الْغَضَبِ . وَهُوَ أَنَّ مُوجَبَ الْغَضَبِ وَتَابِعَهُ هُوَ الدَّفْعُ وَالْمَنْعُ وَهَذَا مَعْنَى مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الْأَجْسَامِ الصُّلْبَةِ الْقَوِيَّةِ فَذَاتُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ مُخْتَصٌّ بِالْحَيِّ . وَأَمَّا مُوجِبُهُمَا مِنْ الِاعْتِدَاءِ وَالدَّفْعِ فَمُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ النَّبَاتِ الْقَوِيِّ فَقُوَّةُ الدَّفْعِ وَالْمَنْعِ مَوْجُودٌ فِي النَّبَاتِ الصُّلْبِ الْقَوِيِّ دُونَ اللَّيِّنِ الرَّطْبِ فَتَكُونُ قُوَّةُ الدَّفْعِ مُخْتَصَّةٌ بِبَعْضِ النَّبَاتِ ؛ لَكِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الْأَجْسَامِ الصُّلْبَةِ فَبَيْنَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ .

وَسَبَبُ ذَلِكَ : أَنَّ قُوَى الْأَفْعَالِ فِي النَّفْسِ إمَّا جَذْبٌ وَإِمَّا دَفْعٌ فَالْقُوَّةُ الْجَاذِبَةُ الْجَالِبَةُ لِلْمُلَائِمِ هِيَ الشَّهْوَةُ وَجِنْسُهَا : مِنْ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْقُوَّةُ الدَّافِعَةُ الْمَانِعَةُ لِلْمُنَافِي هِيَ الْغَضَبُ وَجِنْسُهَا : مِنْ الْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ وَهَذِهِ الْقُوَّةُ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْبَهَائِمِ هِيَ مُطْلَقُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَبِاعْتِبَارِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْإِنْسَانُ الْعَقْلُ وَالْإِيمَانُ وَالْقُوَى الرُّوحَانِيَّةُ الْمُعْتَرِضَةُ . فَالْكُفْرُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ النَّاطِقَةِ الْإِيمَانِيَّةِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ بِهِ مَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَالْقَتْلُ نَاشِئٌ عَنْ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ وَعُدْوَانٍ فِيهَا . وَالزِّنَا عَنْ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ . فَالْكُفْرُ اعْتِدَاءٌ وَفَسَادٌ فِي الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَقَتْلُ النَّفْسِ اعْتِدَاءٌ وَفَسَادٌ فِي الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ وَالزِّنَا اعْتِدَاءٌ وَفَسَادٌ فِي الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ . وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ ظَاهِرٍ : أَنَّ الْخَلْقَ خَلَقَهُمْ اللَّهُ لِعِبَادَتِهِ وَقِوَامُ الشَّخْصِ بِجَسَدِهِ وَقِوَامُ النَّوْعِ بِالنِّكَاحِ وَالنَّسْلِ فَالْكُفْرُ فَسَادُ الْمَقْصُودِ الَّذِي لَهُ خُلِقُوا وَقَتْلُ النَّفْسِ فَسَادُ النُّفُوسِ الْمَوْجُودَةِ وَالزِّنَا فَسَادٌ فِي الْمُنْتَظَرِ مِنْ النَّوْعِ . فَذَاكَ إفْسَادُ الْمَوْجُودِ وَذَاكَ إفْسَادٌ لِمَا لَمْ يُوجَدْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَفْسَدَ مَالًا مَوْجُودًا أَوْ مَنَعَ الْمُنْعَقِدَ أَنْ يُوجَدَ وَإِعْدَامُ الْمَوْجُودِ أَعْظَمُ فَسَادًا ؛ فَلِهَذَا كَانَ التَّرْتِيبُ كَذَلِكَ . وَمِنْ

وَجْهٍ ثَالِثٍ أَنَّ الْكُفْرَ فَسَادُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ الَّذِي هُوَ مَلِكُ الْجَسَدِ وَالْقَتْلُ إفْسَادٌ لِلْجَسَدِ الْحَامِلِ لَهُ وَإِتْلَافُ الْمَوْجُودِ . وَأَمَّا الزِّنَا فَهُوَ فَسَادٌ فِي صِفَةِ الْوُجُودِ لَا فِي أَصْلِهِ لَكِنَّ هَذَا يَخْتَصُّ بِالزِّنَا وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ اللِّوَاطَ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الزِّنَا .
فَصْلٌ :
وَبِاعْتِبَارِ الْقُوَى الثَّلَاثِ انْقَسَمَتْ الْأُمَمُ الَّتِي أَفَضْلُ الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ ؛ وَهُمْ الْعَرَبُ وَالرُّومُ وَالْفُرْسُ . فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَمَ هِيَ الَّتِي ظَهَرَتْ فِيهَا الْفَضَائِلُ الْإِنْسَانِيَّةُ وَهُمْ سُكَّانُ وَسَطِ الْأَرْضِ طُولًا وَعَرْضًا فَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ كَالسُّودَانِ وَالتُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ فَتَبَعٌ . فَغَلَبَ عَلَى الْعَرَبِ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ النُّطْقِيَّةُ وَاشْتُقَّ اسْمُهَا مِنْ وَصْفِهَا فَقِيلَ لَهُمْ : عَرَبٌ : مِنْ الْإِعْرَابِ وَهُوَ الْبَيَانُ وَالْإِظْهَارُ وَذَلِكَ خَاصَّةُ الْقُوَّةِ الْمَنْطِقِيَّةِ .

وَغَلَبَ عَلَى الرُّومِ الْقُوَّةُ الشهوية مِنْ الطَّعَامِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا وَاشْتُقَّ اسْمُهَا مِنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُمْ الرُّومُ فَإِنَّهُ يُقَالُ : رُمْت هَذَا أَرُومُهُ إذَا طَلَبْته وَاشْتَهَيْته . وَغَلَبَ عَلَى الْفُرْسِ الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ مِنْ الدَّفْعِ وَالْمَنْعِ وَالِاسْتِعْلَاءِ وَالرِّيَاسَةِ وَاشْتُقَّ اسْمُهَا مِنْ ذَلِكَ فَقِيلَ فُرْسٌ كَمَا يُقَالُ فَرَسَهُ يَفْرِسُهُ إذَا قَهَرَهُ وَغَلَبَهُ . وَلِهَذَا تُوجَدُ هَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ غَالِبَةً عَلَى الْأُمَمِ الثَّلَاثِ حَاضِرَتِهَا وَبَادِيَتِهَا ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَرَبُ أَفْضَلَ الْأُمَمِ وَتَلِيهَا الْفُرْسُ لِأَنَّ الْقُوَّةَ الدفعية أَرْفَعُ وَتَلِيهَا الرُّومُ .
فَصْلٌ :
وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْقُوَى كَانَتْ الْفَضَائِلُ ثَلَاثًا : فَضِيلَةُ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ : الَّتِي هِيَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَفَضِيلَةُ الشَّجَاعَةِ الَّتِي هِيَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ وَكَمَالُ الشَّجَاعَةِ هُوَ الْحِلْمُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } وَالْحِلْمُ وَالْكَرَمُ مَلْزُوزَانِ فِي قَرْنٍ كَمَا أَنَّ كَمَالَ الْقُوَّةِ الشهوية الْعِفَّةُ فَإِذَا كَانَ الْكَرِيمُ عَفِيفًا وَالسَّخِيُّ حَلِيمًا اعْتَدَلَ الْأَمْرُ . وَفَضِيلَةُ السَّخَاءِ وَالْجُودِ الَّتِي هِيَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الطَّلَبِيَّةِ الحبية فَإِنَّ السَّخَاءَ يَصْدُرُ عَنْ اللِّينِ وَالسُّهُولَةِ وَرُطُوبَةِ الْخُلُقِ كَمَا تَصْدُرُ الشَّجَاعَةُ عَنْ

الْقُوَّةِ وَالصُّعُوبَةِ وَيُبْسِ الْخُلُقِ فَالْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ هِيَ قُوَّةُ النَّصْرِ وَالْقُوَّةُ الشهوية قُوَّةُ الرِّزْقِ وَهُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ : { الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } وَالرِّزْقُ وَالنَّصْرُ مُقْتَرِنَانِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ النَّاسِ كَثِيرًا . وَأَمَّا الْفَضِيلَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْعَدَالَةُ فَهِيَ صِفَةٌ مُنْتَظِمَةٌ لِلثَّلَاثِ وَهُوَ الِاعْتِدَالُ فِيهَا وَهَذِهِ الثَّلَاثُ الْأَخِيرَاتُ هِيَ الْأَخْلَاقُ الْعَمَلِيَّةُ كَمَا جَاءَ مِنْ { حَدِيثِ سَعْدٍ لَمَّا قَالَ فِيهِ الْعَبْسِيُّ : إنَّهُ لَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ وَلَا يَخْرُجُ فِي السَّرِيَّةِ } .
فَصْلٌ :
وَبِاعْتِبَارِ الْقُوَى الثَّلَاثِ كَانَتْ الْأُمَمُ الثَّلَاثُ : الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ الْعَقْلُ وَالْعِلْمُ وَالِاعْتِدَالُ فِي الْأُمُورِ فَإِنَّ مُعْجِزَةَ نَبِيِّهِمْ هِيَ عِلْمُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ ؛ وَهُمْ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ . وَأَمَّا الْيَهُودُ فَأُضْعِفَتْ الْقُوَّةُ الشهوية فِيهِمْ حَتَّى حَرُمَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ مَا لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى غَيْرِهِمْ وَأُمِرُوا مِنْ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ بِمَا أُمِرُوا بِهِ وَمَعَاصِيهِمْ غَالِبُهَا مِنْ بَابِ الْقَسْوَةِ وَالشِّدَّةِ لَا مِنْ بَابِ الشَّهْوَةِ

وَالنَّصَارَى أُضْعِفَتْ فِيهِمْ الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ فَنُهُوا عَنْ الِانْتِقَامِ وَالِانْتِصَارِ وَلَمْ تَضْعُفْ فِيهِمْ الْقُوَّةُ الشهوية فَلَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَطَاعِمِ مَا حُرِّمَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ بَلْ أُحِلَّ لَهُمْ بَعْضُ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ وَظَهَرَ فِيهِمْ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالشَّهَوَاتِ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْيَهُودِ وَفِيهِمْ مِنْ الرِّقَّةِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَيْسَ فِي الْيَهُودِ فَغَالِبُ مَعَاصِيهِمْ مِنْ بَابِ الشَّهَوَاتِ لَا مِنْ بَابِ الْغَضَبِ وَغَالِبُ طَاعَاتِهِمْ مِنْ بَابِ النَّصْرِ لَا مِنْ بَابِ الرِّزْقِ . وَلَمَّا كَانَ فِي الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَهَاءِ عيسوية مَشْرُوعَةً أَوْ مُنْحَرِفَةً كَانَ فِيهِمْ مِنْ الشَّهَوَاتِ وَوَقَعَ فِيهِمْ مِنْ الْمَيْلِ إلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ مَا يُذَمُّونَ بِهِ وَلَمَّا كَانَ فِي الْفُقَهَاءِ موسوية مَشْرُوعَةٌ أَوْ مُنْحَرِفَةٌ كَانَ فِيهِمْ مِنْ الْغَضَبِ وَوَقَعَ فِيهِمْ مِنْ الْقَسْوَةِ وَالْكِبْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَا يُذَمُّونَ بِهِ .
فَصْلٌ :
جِنْسُ الْقُوَّةِ الشهوية الْحُبُّ ، وَجِنْسُ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ الْبُغْضُ وَالْغَضَبُ وَالْبُغْضُ مُتَّفِقَانِ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ } فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ هَمَّا الْأَصْلُ وَقَالَ : { مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ

وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ } فَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ هُمَا الْأَصْلُ وَالْعَطَاءُ عَنْ الْحُبِّ وَهُوَ السَّخَاءُ وَالْمَنْعُ عَنْ الْبُغْضِ وَهُوَ الشَّحَاحَةُ . فَأَمَّا الْغَضَبُ فَقَدْ يُقَالُ : هُوَ خُصُوصٌ فِي الْبُغْضِ وَهُوَ الشِّدَّةُ الَّتِي تَقُومُ فِي النَّفْسِ الَّتِي يَقْتَرِنُ بِهَا غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَهَذَا هُوَ الْغَضَبُ الْخَاصُّ وَلِهَذَا تَعْدِلُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنْ مُقَابَلَةِ الشَّهْوَةِ بِالْغَضَبِ إلَى مُقَابَلَتِهَا بِالنَّفْرَةِ وَمَنْ قَابَلَ الشَّهْوَةَ بِالْغَضَبِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُرِيدَ الْغَضَبَ الْخَاصَّ فَإِنَّ نِسْبَةَ هَذَا إلَى النَّفْرَةِ نِسْبَةُ الطَّمَعِ إلَى الشَّهْوَةِ فَأَمَّا الْغَضَبُ الْعَامُّ فَهُوَ الْقُوَّةُ الدَّافِعَةُ البغضية الْمُقَابِلَةُ لِلْقُوَّةِ الْجَاذِبَةِ الحبية .
فَصْلٌ :
فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ صَادِرٌ عَنْ الْقُوَّةِ الْإِرَادِيَّةِ الحبية الشهوية وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ صَادِرٌ عَنْ الْقُوَّةِ الكَرَاهِيَّةِ الْبُغْضِيَّةِ الْغَضَبِيَّةِ النفرية وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ صَادِرٌ عَنْ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ صَادِرٌ عَنْ الْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ كَذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي الْمَعْرُوفِ وَالتَّرْهِيبُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْحَضُّ عَلَى هَذَا وَالزَّجْرُ عَنْ هَذَا وَلِهَذَا لَا تَكُفُّ النُّفُوسُ عَنْ الظُّلْمِ إلَّا بِالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ الدفعية وَبِذَلِكَ يَقُومُ الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ فِي الْحُكْمِ وَالْقِسْمِ

وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْإِحْسَانَ يَقُومُ بِالْقُوَّةِ الْجَذْبِيَّةِ الشهوية فَإِنَّ انْدِفَاعَ الْمَكْرُوهِ بِدُونِ حُصُولِ الْمَحْبُوبِ عَدَمٌ ؛ إذْ لَا مَحْبُوبَ وَلَا مَكْرُوهَ وَحُصُولُ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وُجُودٌ فَاسِدٌ إذْ قَدْ حَصَلَا مَعًا وَهُمَا مُتَقَابِلَانِ فِي التَّرْجِيحِ فَرُبَّمَا يَخْتَارُ بَعْضَ النُّفُوسِ هَذَا وَيَخْتَارُ بَعْضَهَا هَذَا وَهَذَا عِنْدَ التَّكَافُؤِ وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ الْيَسِيرُ مَعَ الْمَحْبُوبِ الْكَثِيرِ فَيَتَرَجَّحُ فِيهِ الْوُجُودُ كَمَا أَنَّ الْمَكْرُوهَ الْكَثِيرَ مَعَ الْمَحْبُوبِ الْيَسِيرِ يَتَرَجَّحُ فِيهِ الْعَدَمُ . لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُقْتَضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ الَّذِي هُوَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ مَوْجُودًا ؛ وَبِتَقْدِيرِ وَجُودِهِمَا يَحْصُلُ النَّصْرُ كَالرِّزْقِ مَعَ الْخَوْفِ صَارَ يَعْظُمُ فِي الشَّرْعِ وَالطَّبْعِ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ . أَمَّا فِي الشَّرْعِ فَبِالتَّقْوَى فَإِنَّ اسْمَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَظِيمٌ وَالْعَاقِبَةُ لِأَهْلِهَا وَالثَّوَابُ لَهُمْ . وَأَمَّا فِي الطَّبْعِ فَتَعْظِيمُ النُّفُوسِ لِمَنْ نَصْرُهُمْ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّ أَهْلَ الرِّزْقِ مُعَظَّمُونَ لِأَهْلِ النَّصْرِ أَكْثَرُ مِنْ تَعْظِيمِ أَهْلِ النَّصْرِ لِأَهْلِ الرِّزْقِ وَذَاكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ النَّصْرَ بِلَا رِزْقٍ يَنْفَعُ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ الْجَالِبَةَ لِلرِّزْقِ مَوْجُودَةٌ تَعْمَلُ عَمَلَهَا وَأَمَّا الرِّزْقُ بِلَا نَصْرٍ فَلَا يَنْفَعُ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ النَّاصِرَةَ تَابِعَةٌ وَفِي هَذَا نَظَرٌ فَقَدْ يُقَالُ : هُمَا مُتَقَابِلَانِ فَإِنَّ أَهْلَ النَّصْرِ يُحِبُّونَ أَهْلَ الرِّزْقِ أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّ أَهْلُ الرِّزْقِ لِأَهْلِ النَّصْرِ فَإِنَّ الرِّزْقَ مَحْبُوبٌ وَالنَّصْرَ مُعَظَّمٌ .

وَقَدْ يُقَالُ : بَلْ النَّصْرُ أَعْظَمُ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ انْدِفَاعَ الْمَكْرُوهِ مَحْبُوبٌ أَيْضًا وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِقُوَّةِ الدَّفْعِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْ قُوَّةِ الْجَذْبِ فَاخْتَصَّ النَّاصِرَ بِالتَّعْظِيمِ لِدَفْعِهِ الْمُعَارِضَ وَأَمَّا الرَّازِقُ فَلَا مُعَارِضَ لَهُ بَلْ لَهُ مُوَافِقٌ فَالنَّاصِرُ مَحْبُوبٌ مُعَظَّمٌ . وَقَدْ يُقَابِلُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ : وَفَوَاتُ الْمَحْبُوبِ مَكْرُوهٌ أَيْضًا وَالْمَحْبُوبِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِقُوَّةِ الْجَذْبِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قُوَّةَ الدَّفْعِ أَقْوَى ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْجَذْبُ أَقْوَى ؛ بَلْ الْجَذْبُ فِي الْأَصْلِ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَالدَّفْعِ خَادِمٌ تَابِعٌ لَهُ وَكَمَا أَنَّ الدَّافِعَ دَفْعُ الْمُعَارِضِ فَالْجَاذِبُ حصل الْمُقْتَضِي وَتَرْجِيحُ الْمَانِعِ عَلَى الْمُقْتَضِي غَيْرُ حَقٍّ ؛ بَلْ الْمُقْتَضِي أَقْوَى بِالْقَوْلِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْوُجُودِ . وَأَمَّا الْمَانِعُ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْمُعَارِضِ وَقَدْ لَا يَكُونُ مُعَارِضٌ فَالْمُقْتَضِي وَالْمَحَبَّةُ هُوَ الْأَصْلُ وَالْعُمْدَةُ فِي الْحَقِّ الْمَوْجُودِ وَالْحَقِّ الْمَقْصُودِ وَأَمَّا الْمَانِعُ وَالْبِغْضَةُ فَهُوَ الْفَرْعُ وَالتَّابِعُ . وَلِهَذَا كَتَبَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ الْمَوْضُوعِ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ : { إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي } . وَلِهَذَا كَانَ الْخَيْرُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَمَّا الشَّرُّ فَفِي الْأَفْعَالِ كَقَوْلِهِ : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } وَقَوْلُهُ : { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

يَبْقَى أَنْ يُقَالَ : فَلَمْ عَظُمَتْ التَّقْوَى ؟ فَيُقَالُ : إنَّهَا هِيَ تَحْفَظُ الْفِطْرَةَ وَتَمْنَعُ فَسَادَهَا وَاحْتَاجَ الْعَبْدُ إلَى رِعَايَتِهَا لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ الْفِطْرِيَّةَ لَا تَحْتَاجُ إلَى مُحَرِّكٍ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَعْظَمُ مَا دَعَتْ إلَيْهِ الرُّسُلُ الْإِخْلَاصَ وَالنَّهْيَ عَنْ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْفِطْرِيَّ حَاصِلٌ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى إخْلَاصِهِ وَدَفْعِ الشِّرْكِ عَنْهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ حَاجَةُ النَّاسِ إلَى السِّيَاسَةِ الدَّافِعَةِ لِظُلْمِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ وَالْجَالِبَةِ لِمَنْفَعَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ الزَّكَاةَ النَّافِعَةَ وَحَرَّمَ الرِّبَا الضَّارَّ وَأَصْلُ الدِّينِ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ : الَّذِي أَصْلُهُ الْحُبُّ وَالْإِنَابَةُ وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُ وَهُوَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا النَّاسَ . وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الدِّينِ : انْحَرَفَ فِيهَا فَرِيقٌ مِنْ مُنْحَرِفَةِ الموسوية مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين حَتَّى أَنْكَرُوهَا وَزَعَمُوا أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لَيْسَتْ إلَّا إرَادَةُ عِبَادَتِهِ ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ تَارِكُونَ لِلْعَمَلِ بِمَا أُمِرُوا بِهِ فَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهَذَا فَاشٍ فِيهِمْ وَهُوَ عَدَمُ الْمَحَبَّةِ وَالْعَمَلِ وَفَرِيقٌ مِنْ مُنْحَرِفَةِ العيسوية مِنْ الصُّوفِيَّةِ والمتعبدين خَلَطُوهَا بِمَحَبَّةِ مَا يَكْرَهُهُ وَأَنْكَرُوا الْبُغْضَ وَالْكَرَاهِيَةَ فَلَمْ يُنْكِرُوا شَيْئًا وَلَمْ يُكَرِّهُوهُ أَوْ قَصَّرُوا فِي الْكَرَاهَةِ وَالْإِنْكَارِ وَأَدْخَلُوا فِيهَا الصُّوَرَ وَالْأَصْوَاتَ وَمَحَبَّةَ الْأَنْدَادِ . وَلِهَذَا كَانَ لِغُوَاةِ الْأَوَّلِينَ وَصْفُ الْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ النَّاشِئُ عَنْ

الْبُغْضِ لِأَنَّ فِيهِمْ الْبُغْضَ دُونَ الْحُبِّ وَكَانَ لِضَلَالِ الْآخَرِينَ وَصْفُ الضَّلَالِ وَالْغُلُوِّ لِأَنَّ فِيهِمْ مُحِبَّةً لِغَيْرِ مَعْبُودٍ صَحِيحٍ فَفِيهِمْ طَلَبٌ وَإِرَادَةٌ وَمَحَبَّةٌ وَلَكِنْ لَا إلَى مَطْلُوبٍ صَحِيحٍ وَلَا مُرَادٍ صَحِيحٍ وَلَا مَحْبُوبٍ صَحِيحٍ بَلْ قَدْ خَلَطُوا وَغَلَوْا وَأَشْرَكُوهُ فَفِيهِمْ مَحَبَّةُ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُوَ وُجُودُ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ كَمَا فِي الْآخَرِينَ بُغْضُ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهُوَ دَفْعُ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَهْدِينَا صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ . فَيُحْمَدُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَحَبَّةُ الْحَقِّ وَالِاعْتِرَافُ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ بُغْضُ الْبَاطِلِ وَإِنْكَارُهُ .

سُورَةُ النَّمْلِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ فِيهَا،
مِنْهَا قَوْله تَعَالَى { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } الْآيَةَ . الْمَشْهُورُ عَنْ السَّلَفِ أَنَّ الْحَسَنَةَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ السَّيِّئَةَ الشِّرْكُ وَعَنْ السدي قَالَ : ذَلِكَ عِنْدَ الْحِسَابِ أُلْغِيَ بَدَلُ كُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ فَإِنْ بَقِيَتْ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ فَجَزَاؤُهُ النَّارُ إلَّا أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ . قُلْت : تَضْعِيفُ الْحَسَنَةِ إلَى عَشْرٍ وَإِلَى سَبْعِمِائَةٍ ثَابِتٌ فِي الصِّحَاح وَأَنَّ السَّيِّئَةَ مِثْلُهَا وَأَنَّ الْهَمَّ بِالْحَسَنَةِ حَسَنَةٌ وَالْهَمَّ بِالسَّيِّئَةِ لَا يُكْتَبُ . فَأَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالُوهُ لِأَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ دَاخِلَةٌ فِي التَّوْحِيدِ ؛ فَإِنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ بِمَا أَمَرَ بِهِ كَمَا قَالَ : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً } الْآيَةَ .

فَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ التَّوْحِيدُ وَهِيَ كَالشَّجَرَةِ وَالْأَعْمَالُ ثِمَارُهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَكَذَلِكَ السَّيِّئَةُ هِيَ الْعَمَلُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ حَارِثٌ هَمَّامٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَمَلٍ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَقْصُودٍ يَعْمَلُ لِأَجْلِهِ . وَإِنْ عَمِلَ لِلَّهِ وَلِغَيْرِهِ فَهُوَ شِرْكٌ . وَالذُّنُوبُ مِنْ الشِّرْكِ فَإِنَّهَا طَاعَةٌ لِلشَّيْطَانِ . قَالَ : { إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ } الْآيَةَ وَقَالَ : { أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ } الْآيَةَ . وَفِي الْحَدِيثِ : { وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ } لَكِنْ إذَا كَانَ مُوَحَّدًا وَفِعْلُ بَعْضِ الذُّنُوبِ نَقْصُ تَوْحِيدِهِ كَمَا قَالَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي } إلَخْ . وَمَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ فَلَيْسَ بِمُخْلِصِ وَفِي الْحَدِيثِ { تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ } إلَخْ . وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ { قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أُشْرِكَ بِك شَيْئًا وَأَنَا أَعْلَمُ } إلَخْ ؛ لَكِنْ إذَا لَمْ يَعْدِلْ بِاَللَّهِ غَيْرَهُ فَيُحِبُّهُ مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ بَلْ اللَّهُ أَحَبُّ إلَيْهِ وَأَخْوَفُ عِنْدَهُ وَأَرْجَى مِنْ كُلِّ مَخْلُوقٍ فَقَدْ خَلَصَ مِنْ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ .

سُورَةُ الْأَحْزَابِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
قَوْلُهُ تَعَالَى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } دَلِيلٌ عَلَى مِثْلِ مَعْنَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ فَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَعَلَيَّ } حَيْثُ جَعَلَهُ اللَّهُ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ . ثُمَّ جَعَلَ الْأَقَارِبَ بَعْضَهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أُولِي أَرْحَامِهِمْ ؛ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مِلْكَ مَالِهِمْ أَحْيَاءٌ فَكَذَلِكَ أَمْوَاتًا وَإِنَّمَا يَقْتَضِي حَمْلَ الْكَلِّ وَالضِّيَاعِ مِنْ مَالِهِ وَهُوَ الْخُمُسُ أَوْ خُمُسُهُ أَوْ مَالُ الْفَيْءِ كُلِّهِ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَوِيَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلْمِيرَاثِ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ } مَشْرُوطَةٌ بِالْإِيمَانِ .

وَهَذِهِ الْآيَةُ الْمُقَيَّدَةُ تَقْضِي عَلَى تِلْكَ الْمُطْلَقَةِ فِي الْأَنْفَالِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . " أَحَدُهَا " أَنَّ هَذِهِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ وَتِلْكَ فِي الْأَنْفَالِ عَقِبَ بَدْرٍ . " الثَّانِي " أَنَّ هَذَا مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ وَسَبَبٍ وَاحِدٍ وَالْحُكْمُ هُنَا مُتَضَمِّنٌ لِلْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّحْرِيمِ عَلَى الْغَيْرِ وَإِيجَابِ الْإِعْطَاءِ . " الثَّالِثُ " أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ ذَكَرَ فِيهَا الْأَوْلَوِيَّةَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ أَيْضًا فَهِيَ دَلِيلٌ ثَانٍ وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ تُفَسِّرَانِ الْمُطْلَقَ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ وَيَكُونُ هَذَا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ : { لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ } مُوَافِقًا لَهُ ؛ فَأَمَّا مِيرَاثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ فَفِيهِ الْخِلَافُ الشَّاذُّ فَنَسْتَفِيدُ مِنْ الْآيَتَيْنِ أَيْضًا مَعَ الْحَدِيثِ وَيَدْخُلُ فِي الْآيَتَيْنِ سَائِرُ الْوِلَايَاتِ مِنْ الْمُنَاكَحِ وَالْأَمْوَالِ وَالْعَقْلِ وَالْمَوْتِ وَفِي قَوْلِهِ : { إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } دَلِيلٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ كَآيَاتِ النِّسَاءِ . قَوْلُهُ : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ } الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا أُبِيحَ لَهُ كَانَ مُبَاحًا لِأُمَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ التَّزْوِيجَ كَانَ لِمَنْعِ الْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ التَّزْوِيجِ فَلَوْلَا أَنْ فِعْلَهُ الْمُبَاحَ لَهُ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ لِأُمَّتِهِ لَمْ يُحْسِنْ التَّعْلِيلَ وَهَذَا ظَاهِرٌ .

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي تَزْوِيجِهِ امْرَأَةَ الدَّعِيِّ الَّذِي كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ تَزَوُّجَهَا حَرَامٌ فَفِي مَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ أَوْلَى . وَأَيْضًا إذَا كَانَ هَذَا فِي النِّكَاحِ الَّذِي خَصَّ فِيهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ بِمَا لَمْ تُشْرِكْهُ أُمَّتُهُ كَالنِّكَاحِ بِلَا عَدَدٍ وَتَزَوَّجَ الْمَوْهُوبَةَ بِلَا مَهْرٍ وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ إبَاحَةَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَةِ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ فَفِيمَا لَمْ يَظْهَرْ خُصُوصِيَّةٌ فِيهِ كَالنِّكَاحِ أَوْلَى . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَائِرَ مَا أُبِيحَ لَهُ مُبَاحٌ لِأُمَّتِهِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَالْأَطْعِمَةِ وَاللِّبَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَوْلُهُ : فِي سِيَاقٍ مَا أَحِلُّهُ لَهُ : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } مِنْ وَجْهَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ لَمَّا أَحَلَّ لَهُ الْوَاهِبَةَ قَالَ : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } لِيُبَيِّنَ اخْتِصَاصَهُ بِذَلِكَ . فَعَلِمَ أَنَّهُ حَيْثُ سَكَتَ عَنْ الِاخْتِصَاصِ كَانَ الِاشْتِرَاكُ ثَابِتًا وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِبَيَانِ الِاخْتِصَاصِ . " الثَّانِي " أَنَّهُ مَا أَحَلَّهُ مِنْ الْأَزْوَاجِ وَمِنْ الْمَمْلُوكَاتِ وَمِنْ الْأَقَارِبِ

أَطْلَقَ وَفِي الْمَوْهُوبَةِ قَيَّدَهَا بِالْخُلُوصِ لَهُ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ التَّقْيِيدِ فِي أُولَئِكَ دَلِيلُ الِاشْتِرَاكِ . فَإِنْ قِيلَ : السُّكُوتُ لَا يَدُلُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالتَّقْيِيدُ بِالْخُلُوصِ يَنْفِي الِاشْتِرَاكَ فَتَكُونُ فَائِدَتُهُ أَنْ لَا يَظُنَّ الِاشْتِرَاكَ بِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ فَإِنَّ التَّحْلِيلَ لَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ قَطْعًا لَكِنْ هَلْ يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ أَمْ لَا يَدُلُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؟ هَذَا مَوْضِعُ التَّرَدُّدِ . فَإِذَا قُيِّدَ بِالْخُلُوصِ دَلَّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ . قِيلَ : لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ كَمَا أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ . وَهُنَا إمَّا أَنْ يُقَالَ : كَانُوا يَسْتَحِلُّونَهُ عَلَى الْأَصْلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْفُرُوجَ مَحْظُورَةٌ إلَّا بِالتَّحْلِيلِ الشَّرْعِيِّ فَكَانَ يَكُونُ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إخْلَاصِهِ لَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْخِطَابُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ وَالْعُمُومَ وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ فِي الْحُكْمِ . وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّفْظَ فِي اللُّغَةِ قَدْ يَصِيرُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ أَوْ غَيْرِهِ أَخَصَّ أَوْ أَعَمَّ ؛ فَالْخِطَابُ لَهُ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فِي اللَّفْظِ لُغَةً فَهُوَ عَامٌّ عُرْفًا وَهُوَ مِمَّا نُقِلَ بِالْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ كَمَا يُنْقَلُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مُخَاطَبَاتِ الْمُلُوكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ . كَمَا أَنَّ

الْعَامَّ قَدْ يَصِيرُ بِالْعُرْفِ خَاصًّا . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُبْنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ دَلِيلِ الْخِطَابِ وَأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ مَعَ الْعَامِّ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْمِيمِ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالْحُكْمِ فَلَمَّا خَصَّ خِطَابَ الْمَوْهُوبَةِ بِذِكْرِ الْخُلُوصِ دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الْخُلُوصِ عَنْ الْبَاقِي . وَإِنَّمَا انْتِفَاءُ الْخُلُوصِ عَنْ الْبَاقِي بِعَدَمِ ذِكْرِ الْخُلُوصِ مَعَ إثْبَاتِ التَّحْلِيلِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعُلِمَ أَنَّ إثْبَاتَ التَّحْلِيلِ لَهُ مَعَ عَدَمِ تَخْصِيصِهِ بِهِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ . وَعَلَى هَذَا فَالْخِطَابُ الَّذِي مَخْرَجُهُ فِي اللُّغَةِ خَاصٌّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ . إمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا فِي الْعَامِّ عُرْفًا مِثْلَ خِطَابِ الرَّسُولِ وَالْوَاحِدِ مِنْ الْأُمَّةِ وَمِثْلَ تَنْبِيهِ الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ : لَا أَشْرَبُ لَك الْمَاءَ مِنْ عَطَشٍ وَمِثْقَالُ حَبَّةٍ وَقِنْطَارٌ وَدِينَارٌ . وَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَذْكُورِ بِالْحُكْمِ وَنَفْيِهِ عَمَّا سِوَاهُ كَمَا فِي مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ إذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْمِيمِ قَائِمًا وَخُصَّ أَحَدُ الْأَقْسَامِ بِالذِّكْرِ . وَإِمَّا أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَفْظًا ثُمَّ يُوجَدُ الْعُمُومُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى إمَّا مِنْ جِهَةِ قِيَاسِ الْأَوْلَى وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ ،

وَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ تَنْبِيهِ الْخِطَابِ وَبَيْنَ قِيَاسِ الْأَوْلَى فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي ذَاكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ اللَّفْظِ عَمَّهُمَا عُرْفًا و خَطًّاباً وَهُنَا مُسْتَفَادٌ مِنْ الْحُكْمِ بِحَيْثُ لَوْ دَلَّ عَلَى الْحُكْمِ فِعْلٌ أَوْ إقْرَارٌ أَوْ خِطَابٌ يَقْطَعُ مَعَهُ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يُرَدَّ إلَّا الصُّورَةَ لَكَانَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِنَوْعِ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ لِمَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ ؛ فَالْعُمُومُ هُنَا مَعْنَوِيٌّ مَحْضٌ وَهُنَاكَ لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ فَصْلٌ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي التَّنْبِيهِ هَلْ هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ اللَّفْظِ أَوْ هُوَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ ؟ لِتَعْلَمَ أَنَّهُ قِسْمَانِ . وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ اللَّفْظِ يُرِيدُ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ الْعُمُومُ . وَيُمَثِّلُ بِوَاحِدِ تَنْبِيهًا كَقَوْلِ النَّحْوِيِّ : ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا ؛ بِخِلَافِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْمَعْنَى . وَالْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ : { زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا } تَدُلَّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ لِأُمَّتِهِ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ لَا يَعُمُّ لَفْظًا وَوَضْعًا وَإِنَّمَا يَعُمُّ بِمَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ الِاشْتِرَاكُ والايتساء . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي السُّورَةِ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } الْآيَةَ . فَإِنَّ فِيهَا التَّأَسِّي فِيمَا أَصَابَهُ . وَمَتَى ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الايتساء بِهِ فِي حُكْمِهِ عِنْدَمَا أَصَابَهُ : كَانَ كَذَلِكَ فِيمَا فَعَلَهُ ؛ إذْ الْمُصَابُ عَلَيْهِ فِيهِ وَاجِبَاتٌ وَمُحَرَّمَاتٌ ؛ فَدَلَّتْ هَذِهِ

الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ مُشَارَكَتُهُ فِي الْإِيجَابِ وَالْحَظْرِ كَمَا دَلَّتْ تِلْكَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ مُشَارَكَتُهُ فِي الْإِحْلَالِ .
قَوْلُهُ : { قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } الْآيَةَ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحِجَابَ إنَّمَا أَمَرَ بِهِ الْحَرَائِرَ دُونَ الْإِمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ خَصَّ أَزْوَاجَهُ وَبَنَاتَهُ وَلَمْ يَقُلْ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك وَإِمَائِك وَإِمَاءِ أَزْوَاجِك وَبَنَاتِك ثُمَّ قَالَ : { وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ } وَالْإِمَاءِ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ : { نِسَائِهِنَّ } مَا مَلَكَتْ أَيْمَانَهُنَّ حَتَّى عَطَفَ عَلَيْهِ فِي آيَتَيْ النُّورِ وَالْأَحْزَابِ : وَهَذَا قَدْ يُقَالُ إنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى قَوْلِ مَنْ يَخُصُّ مَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ بِالْإِنَاثِ وَإِلَّا فَمَنْ قَالَ : هِيَ فِيهِمَا أَوْ فِي الذُّكُورِ فَفِيهِ نَظَرٌ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } وَقَوْلُهُ : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ } إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْمَمْهُورَاتِ دُونَ الْمَمْلُوكَاتِ فَكَذَلِكَ هَذَا فَآيَةُ الْجَلَابِيبِ فِي الْأَرْدِيَةِ عِنْدَ الْبُرُوزِ مِنْ الْمَسَاكِنِ وَآيَةُ الْحِجَابِ عِنْدَ الْمُخَاطَبَةِ فِي الْمَسَاكِنِ ؛ فَهَذَا مَعَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ { لَمَّا اصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حيي وَقَالُوا : إنْ حَجَبَهَا فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِلَّا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ } دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحِجَابَ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْحَرَائِرِ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أُمُومَةَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَزْوَاجِهِ دُونَ سَرَارِيهِ

وَالْقُرْآنُ مَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } وَقَالَ : { وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا } وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ ثَالِثٌ مِنْ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ } عَائِدٌ إلَى أَزْوَاجِهِ فَلَيْسَ لِلْمَمْلُوكَاتِ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ ؛ لَكِنَّ إبَاحَةَ سَرَارِيِّهِ مِنْ بَعْدِهِ فِيهِ نَظَرٌ .
فَصْلٌ :
مَنْ قَالَ مِنْ أَنَّ السَّرَاحَ وَالْفِرَاقَ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَرَدَ بِذَلِكَ وَجَعَلَ الصَّرِيحَ مَا اسْتَعْمَلَهُ الْقُرْآنُ فِيهِ كَمَا يَقُولُهُ : الشَّافِعِيُّ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَصْحَابِ : فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ النَّاسَ يَنْطِقُونَ بِلُغَاتِهِمْ الَّتِي تُوَافِقُ لُغَةَ الْعَرَبِ أَوْ تُخَالِفُهَا مِنْ عَرَبِيَّةٍ أُخْرَى عَرَبًا مُقَرَّرَةً أَوْ مُغَيَّرَةً لَفْظًا أَوْ مَعْنًى أَوْ مِنْ عَرَبِيَّةٍ مُوَلَّدَةٍ أَوْ عَرَبِيَّةٍ مُعَرَّبَةٍ تُلُقِّيَتْ عَنْ الْعَجَمِ أَوْ عَنْ عَجَمِيَّةٍ ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ وَنَحْوَهُ يُثْبِتُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ اللُّغَاتِ : إذْ الْمَدَارُ عَلَى الْمَعْنَى وَلَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَوْ حَرُمَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَلْتَزِمُوهُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ مَا لَمْ يُوقِعُوهُ . وَأَيْضًا فَاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ لَفْظًا فِي مَعْنًى

لَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى . " الْوَجْهُ الثَّانِي " وَهُوَ الْقَاصِمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ أَكْثَرُ مَا جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ ؛ مِثْلَ قَوْلِهِ : { إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ } فَهَذَا بَعْدَ التَّطْلِيقِ الْبَائِنِ الَّذِي لَا عِدَّةَ فِيهِ أَمْرٌ بِتَسْرِيحِهِنَّ مَعَ التَّمْتِيعِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ إيقَاعَ طَلَاقٍ ثَانٍ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ وِفَاقًا وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّخْلِيَةَ بِالْفِعْلِ وَهُوَ رَفْعُ الْحَبْسِ عَنْهَا حَيْثُ كَانَ النِّكَاحُ فِيهِ الْجَمْعَ مِلْكًا وَحُكْمًا وَالْجَمْعُ حِسًّا وَفِعْلًا بِالْحَبْسِ وَكِلَاهُمَا مُوجِبُهُ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ ؛ فَإِذَا زَالَ الْمِلْكُ أُمِرَ بِإِزَالَةِ الْيَدِ : كَمَا يُقَالُ فِي الْأَمْوَالِ الْمِلْكُ وَالْحِيَازَةُ فَالْقَبْضُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَابِعٌ لِلْعَقْدِ فَإِذَا رُفِعَ الْعَقْدُ إمَّا بِإِزَالَةِ الْيَدِ الَّتِي هِيَ الْقَبْضُ . وَقَوْلُهُ : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ } لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّسْرِيحَ هُوَ التَّطْلِيقُ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُرِيدُ بِهِ التَّخْلِيَةَ الْفِعْلِيَّةَ : حَيْثُ قَرَنَهُ بِالْمَتَاعِ ؛ لَكِنَّ التَّخْلِيَةَ الْفِعْلِيَّةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلتَّطْلِيقِ أَوْ يُرِيدُ بِهِ الْأَمْرَيْنِ وَلَمْ يَرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ وَحْدَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُهُنَّ بَلْ يَضُرُّهُنَّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وَقَوْلُهُ : { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } كَذَلِكَ . فَإِنَّ الرَّجْعِيَّةَ إذَا قَارَبَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَا يُؤْمَرُ فِيهَا بِتَطْلِيقِ ثَانٍ : إذَا لَمْ يَرْتَجِعْهَا وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ

بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهَا وَهُوَ التَّسْرِيحُ وَالْفِرَاقُ بِالْأَبْدَانِ ؛ بِحَيْثُ لَا يَحْبِسُهُنَّ وَلَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِنَّ كَرَفْعِ الْيَدِ عَنْ الْأَمْوَالِ . قَوْلُهُ : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِيمَا أَخْطَأَ بِهِ مِنْ دُعَاءِ الرَّجُلِ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ إلَى غَيْرِ مَوْلَاهُ . ثُمَّ قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى رَفْعِ الْجَنَاحِ فِي جَمِيعِ مَا أَخْطَأَ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ : إمَّا بِالْعُمُومِ لَفْظًا وَيُقَالُ : وُرُودُ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ مُقَارَنٍ لَهُ فِي الْخِطَابِ لَا يُوجِبُ قَصْرَهُ عَلَيْهِ وَإِمَّا بِالْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ بِالْجَامِعِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ أَنَّ الْأَخْطَاءَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْقَلْبِ ؛ فَيَكُونُ عَمَلُ جَارِحَةٍ بِلَا عَمْدِ قَلْبٍ وَالْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ كَمَا قَالَ : { إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ } وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ لَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا لَمْ يَضُرَّ عَمَلُ الْفُرُوعِ دُونَهُ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لَا فَسَادَ فِيهِ فَيَكُونُ الْجَسَدُ كُلُّهُ صَالِحًا فَلَا يَكُونُ فَاسِدًا : فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ إثْمٌ إذْ الْإِثْمُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ فَسَادٍ فِي الْجَسَدِ وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ رِدْفًا لِقَوْلِهِ : { لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ قَدْ فَعَلْت . وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْإِيمَانِ : { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } فَإِنَّهُ

إذَا كَانَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ - وَفِيهَا مَا فِيهَا - لَا يُؤَاخِذُ فِيهَا إلَّا بِمَا كَسَبَ الْقَلْبُ فَغَيْرُهَا مِنْ الْأَقْوَالِ كَذَلِكَ وَأَوْلَى وَإِذَا كَانَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنْ الْيَمِينِ يَظُنُّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ هُوَ مِنْ الْخَطَأِ الَّذِي هُوَ اللَّغْوُ ؛ لِأَنَّ قَلْبَهُ لَمْ يَكْسِبْ مُخَالَفَةً كَمَا لَوْ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمُ الْكَاذِبِ كَمَا لَوْ دَعَا الرَّجُلُ لِغَيْرِ أَبِيهِ وَمَوْلَاهُ خَطَأً وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِلَا يَمِينٍ عَلَيْهِ إثْمُ الْكَاذِبِ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْيَمِينِ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَالِفِ الْمُخَالِفِ ؛ إذْ الْيَمِينُ عَلَى الْمَاضِي حِينَ يُؤَكَّدُ بِالْقَسَمِ فَكَذَلِكَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَفِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ أَوْ مُخْطِئًا جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَكْسِبْ قَلْبَهُ مُخَالَفَةً وَلَا حِنْثًا كَمَا أَنَّهُ لَوْ وَعَدَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا وَلَوْ أَمَرَ بِهِ فَتَرَكَهُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا . وَهَذَا دَلِيلٌ يَتَنَاوَلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ إمَّا مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ أَوْ الْمَعْنَوِيِّ وَاللَّفْظِيِّ وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يُقَارِنَ اللَّغْوُ عَقْدَ الْيَمِينِ أَوْ يُقَارِنَ الْحِنْثُ فِيهَا وَقَوْلُهُ : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } أَيْ هَذَا سَبَبُ الْمُؤَاخَذَةِ ؛ لَا أَنَّهُ مُوجِبٌ لَهَا بِالِاتِّفَاقِ فَيُوجَدُ الْخَطَأُ فِي سَبَبِهَا وَشَرْطِهَا وَمَنْ قَالَ : لَا لَغْوَ فِي الطَّلَاقِ فَلَا حُجَّةَ مَعَهُ ؛ بَلْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ سَبَقَ لِسَانَهُ بِذِكْرِ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ عَمْدِ الْقَلْبِ لَمْ يَقَعْ بِهِ وِفَاقًا وَأَمَّا إذَا قَصَدَ اللَّفْظَ بِهِ هَازِلًا فَقَدْ عَمَدَ قَلْبُهُ ذِكْرَهُ كَمَا لَوْ عَمَدَ ذِكْرَ الْيَمِينِ بِهِ .
__________
آخِرُهُ الْمُجَلِّدِ الْخَامِسِ عَشْرَ

الْجُزْءُ الْسَادِسِ عَشَرَ
كِتَابُ الْتَفْسِيرِ
الْجُزْءُ الْثَالِثُ
من سُورَةِ الزُّمَرِ إِلَى سُورَةِ الْإِخْلَاصِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.
سُورَةُ الزُّمَرِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
قَدْ قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْقُرْآنُ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ } وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْقَوْلِ الْمَعْهُودِ ؛ فَإِنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا إنَّمَا تَضَمَّنَتْ مَدْحَ الْقُرْآنِ وَاسْتِمَاعَهُ وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ عَلَى سَمَاعِ الْغِنَاءِ وَغَيْرِهِ وَجَعَلَهَا عَامَّةً وَبَيَّنَّا أَنَّ تَعْمِيمَهَا فِي كُلِّ قَوْلٍ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَهُنَا سُؤَالٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : { يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ

أَحْسَنَهُ } فَقَدْ قَسَّمَ الْقَوْلَ إلَى حَسَنٍ وَأَحْسَنَ وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مُتَّبَعٌ وَهَذَا حُجَّتُهُمْ . فَيُقَالُ : الْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إلْزَامٌ وَحَلٌّ . " الْأَوَّلُ " أَنَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } فَقَدْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِاتِّبَاعِ أَحْسَنِ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَرَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِ التَّوْرَاةِ وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ ؛ فَإِنَّ تِلْكَ إنَّمَا فِيهَا مَدْحٌ بِاتِّبَاعِ الْأَحْسَنِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ الْخَبَرُ وَالْأَمْرُ بِالْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ وَاتِّبَاعُ الْقَوْلِ إنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ وَمُقْتَضَاهُ فِيهِ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ لَيْسَ كُلُّهُ أَحْسَنَ وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي نَفْسِهِ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ؛ فَفَرَّقَ بَيْنَ حَسَنِ الْكَلَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَبَيْنَ حَسَنِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُقْتَضَاهُ الْمَأْمُورِ وَالْمُخْبِرِ عَنْهُ . " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ قَالَ : { فَبَشِّرْ عِبَادِ } { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ } وَالْقُرْآنُ تَضَمَّنَ خَبَرًا وَأَمْرًا فَالْخَبَرُ عَنْ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرَّبِينَ وَعَنْ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ ؛ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اتِّبَاعَ الصِّنْفَيْنِ حَسَنٌ

وَاتِّبَاعَ الْمُقَرَّبِينَ أَحْسَنُ وَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالْوَاجِبَاتِ والمستحبات . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ حَسَنٌ وَفِعْلُ الْمُسْتَحَبَّاتِ مَعَهَا أَحْسَنُ وَمَنْ اتَّبَعَ الْأَحْسَنَ فَاقْتَدَى بِالْمُقَرَّبِينَ وَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ كَانَ أَحَقَّ بِالْبُشْرَى . وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } هُوَ أَيْضًا أَمْرٌ بِذَلِكَ ؛ لَكِنَّ الْأَمْرَ يَعُمُّ أَمْرَ الْإِيجَابِ وَالِاسْتِحْبَابِ . فَهُمْ مَأْمُورُونَ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ وَاجِبٍ أَمْرَ إيجَابٍ وَبِمَا فِيهِ مِنْ مُسْتَحَبٍّ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ كَمَا هُمْ مَأْمُورُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } وَقَوْلِهِ : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } وَالْمَعْرُوفُ يَتَنَاوَلُ الْقِسْمَيْنِ وَقَوْلِهِ : { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وَهُوَ يَعُمُّ الْقِسْمَيْنِ : وَقَوْلِهِ : { ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ .

وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
فَصْلٌ :
فِي السَّمَاعِ
أَصْلُ السَّمَاعِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ هُوَ سَمَاعُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَاعُ فِقْهٍ وَقَبُولٍ ؛ وَلِهَذَا انْقَسَمَ النَّاسُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ : صِنْفٌ مُعْرِضٌ مُمْتَنِعٌ عَنْ سَمَاعِهِ وَصِنْفٌ سَمِعَ الصَّوْتَ وَلَمْ يَفْقَهْ الْمَعْنَى وَصِنْفٌ فَقِهَهُ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهُ وَالرَّابِعُ الَّذِي سَمِعَهُ سَمَاعَ فِقْهٍ وَقَبُولٍ . ف " الْأَوَّلُ " كَاَلَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } و " الصِّنْفُ الثَّانِي " مَنْ سَمِعَ الصَّوْتَ بِذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَفْقَهْ الْمَعْنَى . قَالَ تَعَالَى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ

إلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ } { إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إذْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إذًا أَبَدًا } . وَقَوْلُهُ : { أَنْ يَفْقَهُوهُ } يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ تَفْسِيرَ اللَّفْظِ كَمَا يَفْهَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَنْ فَهِمَ ذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ نَفْسَ الْمُرَادِ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ : " الْأَعْيَانُ " و " الْأَفْعَالُ " و " الصِّفَاتُ " الْمَقْصُودَةُ بِالْأَمْرِ وَالْخَبَرِ ؛ بِحَيْثُ يَرَاهَا وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مَدْلُولُ الْخِطَابِ : مِثْلُ مَنْ يَعْلَمُ وَصْفًا مَذْمُومًا وَيَكُونُ هُوَ مُتَّصِفًا بِهِ أَوْ بَعْضًا مِنْ جِنْسِهِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ . وَقَالَ تَعَالَى :

{ إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } فَقَوْلُهُ : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } لَمْ يُرِدْ بِهِ مُجَرَّدَ إسْمَاعِ الصَّوْتِ لِوَجْهَيْنِ . " أَحَدِهِمَا " أَنَّ هَذَا السَّمَاعَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَى الْمَدْعُوِّينَ إلَّا بِهِ . كَمَا قَالَ { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } وَقَالَ { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } وَقَالَ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } . وَالثَّانِي أَنَّهُ وَحْدَهُ لَا يَنْفَعُ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ حَصَلَ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ وَكَفَرُوا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ إسْمَاعِ الْفِقْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُعْطِيهِ اللَّهُ لِمَنْ فِيهِ خَيْرٌ وَهَذَا نَظِيرُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ } وَهَذِهِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ السَّمَاعُ الَّذِي يَفْقَهُ مَعَهُ الْقَوْلَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ خَيْرًا وَلَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْرًا وَأَنَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا أَوْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُسْمِعَهُ وَيُفَقِّهَهُ ؛ إذْ الْحَدِيثُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ : فَالْأَوَّلُ مُسْتَلْزِمٌ لِلثَّانِي وَالصِّيغَةُ عَامَّةٌ فَمَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ فَلَا يَكُونُ اللَّهُ

أَرَادَ بِهِ خَيْرًا وَقَدْ انْتَفَى فِي حَقِّهِ اللَّازِمُ فَيَنْتَفِي الْمَلْزُومُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } بَيَّنَ أَنَّ الْأَوَّلَ شَرْطٌ لِلثَّانِي : شَرْطًا نَحْوِيًّا وَهُوَ مَلْزُومٌ وَسَبَبٌ فَيَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا أَسْمَعَهُ هَذَا الْإِسْمَاعَ فَمَنْ لَمْ يُسْمِعْهُ إيَّاهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا فَتَدَبَّرْ كَيْفَ وَجَبَ هَذَا السَّمَاعُ وَهَذَا الْفِقْهُ وَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ بِخِلَافِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِسَمَاعِ لَا فِقْهَ مَعَهُ أَوْ فِقْهٍ لَا سَمَاعَ مَعَهُ أَعْنِي هَذَا السَّمَاعَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } فَقَدْ يُشْكِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ . لِظَنِّهِمْ أَنَّ هَذَا السَّمَاعَ الْمَشْرُوطَ هُوَ السَّمَاعُ الْمَنْفِيُّ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى الَّذِي كَانَ يَكُونُ لَوْ عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ ؛ بَلْ ظَاهِرُهَا وَبَاطِنُهَا يُنَافِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ : { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ } عَائِدٌ إلَى الضَّمِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } وَهَؤُلَاءِ قَدْ دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْلَمْ فِيهِمْ خَيْرًا فَلَمْ يُسْمِعْهُمْ إذْ " لَوْ " يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الشَّرْطِ دَائِمًا : وَإِذَا كَانَ اللَّهُ مَا عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا فَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ . بِمَنْزِلَةِ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَهُمْ " الصِّنْفُ الثَّالِثُ " . وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَ وَفَقِهَ يَكُونُ فِيهِ خَيْرٌ ؛

بَلْ قَدْ يَفْقَهُ وَلَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ خَيْرًا وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ إسْمَاعَ التَّفْهِيمِ إنَّمَا يُطْلَبُ لِمَنْ فِيهِ خَيْرٌ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ يَنْتَفِعُ بِهِ فَلَا يُطْلَبُ تَفْهِيمُهُ . و " الصِّنْفُ الثَّالِثُ " مَنْ سَمِعَ الْكَلَامَ وَفَقِهَهُ ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهُ وَلَمْ يُطِعْ أَمْرَهُ : كَالْيَهُودِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ } أَيْ تِلَاوَةً . فَهَؤُلَاءِ مِنْ " الصِّنْفِ الْأَوَّلِ " الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَيَقْرَءُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ وَيَعْقِلُونَ - إلَى قَوْلِهِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ } كَمَا

قَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ : { وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ فِي النِّسَاءِ : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إلَّا قَلِيلًا } { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ فَأَخْبَرَ بِذُنُوبِهِمْ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا مَا اسْتَحَقُّوهُ . وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } . فَعَلِمَ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي هَذَا الْقَوْلِ قَاصِدُونَ بِهِ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْوَاجِبِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } وَ { طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } فَهِيَ وَإِنْ سَمِعَتْ الْخِطَابَ وَفَقِهَتْهُ لَا تَقْبَلُهُ وَلَا تُؤْمِنُ بِهِ لَا تَصْدِيقًا لَهُ وَلَا طَاعَةً وَإِنْ عَرَفُوهُ كَمَا قَالَ : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } . ف ( غُلْفٌ جَمْعُ أَغْلَفَ . وَأَمَّا " غَلَّفَ " بِالتَّحْرِيكِ فَجَمْعُ غِلَافٍ وَالْقَلْبُ الْأَغْلَفُ بِمَنْزِلَةِ الْأَقْلَفِ . فَهُمْ ادَّعَوْا ذَلِكَ وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ وَاللَّعْنَةُ الْإِبْعَادُ عَنْ الرَّحْمَةِ فَلَوْ عَمِلُوا بِهِ لَرُحِمُوا ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ فَكَانُوا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ مَلْعُونِينَ وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَلَمْ يَتَّبِعْهُ وَفَقِهَ كَلَامَ الرُّسُلِ وَلَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لَهُ بِالْإِقْرَارِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا . و " الصِّنْفُ الرَّابِعُ " الَّذِينَ سَمِعُوا سَمَاعَ فِقْهٍ وَقَبُولٍ فَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ الْمَأْمُورُ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ

أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } { يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ } الْآيَاتِ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } الْآيَةَ : وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } فَالْبَيَانُ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ فَقِهَهُ وَالْهُدَى وَالْمَوْعِظَةُ لِلْمُتَّقِينَ . وَقَوْلُهُ : { هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ

لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وَقَوْلُهُ : { الم } { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } . وَهُنَا لَطِيفَةٌ تُزِيلُ إشْكَالًا يُفْهَمُ هُنَا وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْمُتَّقِي الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ كَانَ مِنْ الْمُتَّقِينَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ هَذَا أَوَّلًا مُمْتَنِعٌ ؛ إذْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا مُتَّقِيًا مَنْ لَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ . وَثَانِيًا أَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُقَارِنَ الْمَشْرُوطَ لَا يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ تَقَدُّمًا زَمَانِيًّا كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ . وَثَالِثًا أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَبِينَ شَيْئَانِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ بِالِاهْتِدَاءِ وَالِاتِّعَاظِ وَالرَّحْمَةِ هُوَ وَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لَهُ ؛ لَكِنْ لَا بُدَّ مَعَ الْفَاعِلِ مِنْ الْقَابِلِ إذْ الْكَلَامُ لَا يُؤَثِّرُ فِيمَنْ لَا يَكُونُ قَابِلًا لَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَهْدِيَ وَيَعِظَ وَيَرْحَمَ وَهَذَا حَالُ كُلِّ كَلَامٍ . " الثَّانِي " أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْمُهْتَدِينَ بِهَذَا هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ وَيُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى كَمَا يُقَالُ الْمُتَعَلِّمُونَ لِكِتَابِ بقراط هُمْ الْأَطِبَّاءُ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَطِبَّاءَ قَبْلَ تَعَلُّمِهِ بَلْ بِتَعَلُّمِهِ وَكَمَا يُقَالُ : كِتَابُ سِيبَوَيْهِ كِتَابٌ عَظِيمُ الْمَنْفَعَةِ لِلنُّحَاةِ وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا صَارُوا نُحَاةً بِتَعَلُّمِهِ وَكَمَا يُقَالُ : هَذَا مَكَانٌ مُوَافِقٌ لِلرُّمَاةِ وَالرِّكَابِ .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَسْلُكُ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ يَنَابِيعَ وَالْيَنَابِيعُ جَمْعُ يَنْبُوعٍ وَهُوَ مَنْبَعُ الْمَاءِ كَالْعَيْنِ وَالْبِئْرِ فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ تَنْبُعُ مِنْهُ الْأَرْضُ وَالِاعْتِبَارُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا كَثُرَ مَاءُ السَّمَاءِ كَثُرَتْ الْيَنَابِيعُ وَإِذَا قَلَّ قَلَّتْ . وَمَاءُ السَّمَاءِ يَنْزِلُ مِنْ السَّحَابِ وَاَللَّهُ يُنْشِئُهُ مِنْ الْهَوَاءِ الَّذِي فِي الْجَوِّ وَمَا يَتَصَاعَدُ مِنْ الْأَبْخِرَةِ . وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَنْبُعُ يَكُونُ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَلَا هَذَا أَيْضًا مَعْلُومًا بِالِاعْتِبَارِ فَإِنَّ الْمَاءَ قَدْ يَنْبُعُ مِنْ بُطُونِ الْجِبَالِ ،

وَيَكُونُ فِيهَا أَبْخِرَةٌ يَخْلُقُ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْأَبْخِرَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْأَهْوِيَةِ قَدْ تَسْتَحِيلُ كَمَا إذَا أُخِذَ إنَاءٌ فَوُضِعَ فِيهِ ثَلْجٌ فَإِنَّهُ يَبْقَى مَا أَحَاطَ بِهِ مَاءٌ وَهُوَ هَوَاءٌ اسْتَحَالَ مَاءً وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ فَعُلِمَ أَنَّهُ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ مَاءٌ لَيْسَ مِنْ السَّمَاءِ فَلَا يُجْزَمُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمِيَاهِ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَإِنْ كَانَ غَالِبُهَا مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
فِي قَوْله تَعَالَى { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } { وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ وَأَمَّا آيَتَا النِّسَاءِ قَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْ الشِّرْكِ يُغْفَرُ لَهُ الشِّرْكُ أَيْضًا بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَخْصِيصٌ وَتَقْيِيدٌ وَتِلْكَ الْآيَةُ فِيهَا تَعْمِيمٌ وَإِطْلَاقٌ هَذِهِ خَصَّ فِيهَا الشِّرْكَ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ وَمَا عَدَاهُ لَمْ يَجْزِمْ بِمَغْفِرَتِهِ ؛ بَلْ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَقَالَ : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } .

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ هَذِهِ كَمَا تَرُدُّ عَلَى الوعيدية مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَهِيَ تَرُدُّ أَيْضًا عَلَى الْمُرْجِئَةِ الواقفية الَّذِينَ يَقُولُونَ : يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ كُلَّ فَاسِقٍ فَلَا يَغْفِرُ لِأَحَدِ وَيَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ لِلْجَمِيعِ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فَأَثْبَتَ أَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ هُوَ مَغْفُورٌ لَكِنْ لِمَنْ يَشَاءُ فَلَوْ كَانَ لَا يَغْفِرُهُ لِأَحَدِ بَطَلَ قَوْلُهُ : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } وَلَوْ كَانَ يَغْفِرُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ بَطَلَ قَوْلُهُ : { لِمَنْ يَشَاءُ } فَلَمَّا أَثْبَتَ أَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ وَأَنَّ الْمَغْفِرَةَ هِيَ لِمَنْ يَشَاءُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُقُوعِ الْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ مِمَّا دُونَ الشِّرْكِ ؛ لَكِنَّهَا لِبَعْضِ النَّاسِ . وَحِينَئِذٍ فَمَنْ غُفِرَ لَهُ لَمْ يُعَذَّبْ وَمَنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ عُذِّبَ وَهَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَهُوَ الْقَطْعُ بِأَنَّ بَعْضَ عُصَاةِ الْأُمَّةِ يَدْخُلُ النَّارَ وَبَعْضَهُمْ يُغْفَرُ لَهُ : لَكِنْ هَلْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُوَازَنَةِ وَالْحِكْمَةِ أَوْ لَا اعْتِبَارَ بِالْمُوَازَنَةِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ الْأَفْعَالِ الْإِلَهِيَّةِ هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ . وَأَيْضًا فَمَسْأَلَةُ الْجَزَاءِ فِيهَا نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ دَلَّتْ عَلَى الْمُوَازَنَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَهُ : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } فِيهِ نَهْيٌ عَنْ الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ عَظُمَتْ الذُّنُوبُ وَكَثُرَتْ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَقْنَطَ مِنْ

رَحْمَةِ اللَّهِ وَإِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ وَلَا أَنْ يُقَنِّطَ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ إنَّ الْفَقِيهَ كُلَّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ .
وَالْقُنُوطُ يَكُونُ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ . إمَّا لِكَوْنِهِ إذَا تَابَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَيَغْفِرُ ذُنُوبَهُ وَإِمَّا بِأَنْ يَقُولَ نَفْسُهُ لَا تُطَاوِعُهُ عَلَى التَّوْبَةِ ؛ بَلْ هُوَ مَغْلُوبٌ مَعَهَا وَالشَّيْطَانُ قَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ فَهُوَ يَيْأَسُ مِنْ تَوْبَةِ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا تَابَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَهَذَا يَعْتَرِي كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ . وَالْقُنُوطُ يَحْصُلُ بِهَذَا تَارَةً وَبِهَذَا تَارَةً : فَالْأَوَّلُ { كَالرَّاهِبِ الَّذِي أَفْتَى قَاتِلَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ فَقَتَلَهُ وَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ دُلَّ عَلَى عَالِمٍ فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ فَأَفْتَاهُ بِأَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ } . وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَالثَّانِي كَاَلَّذِي يَرَى لِلتَّوْبَةِ شُرُوطًا كَثِيرَةً وَيُقَالُ لَهُ لَهَا شُرُوطٌ كَثِيرَةٌ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا فَيَيْأَسُ مِنْ أَنْ يَتُوبَ .
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْعَبْدِ هَلْ يَصِيرُ فِي حَالٍ تَمْتَنِعُ مِنْهُ التَّوْبَةُ إذَا أَرَادَهَا . وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجُمْهُورُ أَنَّ التَّوْبَةَ مُمْكِنَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَمُمْكِنٌ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهُ وَقَدْ فَرَضُوا فِي ذَلِكَ مَنْ تَوَسَّطَ أَرْضًا مَغْصُوبَةً وَمَنْ تَوَسَّطَ جَرْحَى فَكَيْفَمَا تَحَرَّكَ قَتَلَ بَعْضَهُمْ . فَقِيلَ هَذَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى التَّوْبَةِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا إذَا تَابَ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ .

أَمَّا مَنْ تَوَسَّطَ الْأَرْضَ الْمَغْصُوبَةَ فَهَذَا خُرُوجُهُ بِنِيَّةِ تَخْلِيَةِ الْمَكَانِ وَتَسْلِيمِهِ إلَى مُسْتَحَقِّهِ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَلَا مُحَرَّمًا ؛ بَلْ الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ دَارًا وَتَرَكَ فِيهَا قُمَاشَهُ وَمَالَهُ إذَا أُمِرَ بِتَسْلِيمِهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا وَبِإِخْرَاجِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَوْعُ تَصَرُّفٍ فِيهَا لَكِنَّهُ لِأَجْلِ إخْلَائِهَا . وَالْمُشْرِكُ إذَا دَخَلَ الْحَرَمَ أُمِرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُرُورٌ فِيهِ وَمِثْلُ هَذَا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ لَمَّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ النَّاسُ إلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَزْرِمُوهُ أَيْ لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَصُبُّوا عَلَى بَوْلِهِ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ } . فَهُوَ لَمَّا بَدَأَ بِالْبَوْلِ كَانَ إتْمَامُهُ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَقْطَعُوهُ فَيُلَوِّثَ ثِيَابَهُ وَبَدَنَهُ وَلَوْ زَنَى رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَابَ لِنَزْعِ وَلَمْ يَكُنْ مُذْنِبًا بِالنَّزْعِ وَهَلْ هُوَ وَطْءٌ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . فَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَ امْرَأَتَهُ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ إذَا وَطِئَهَا تَنَازَعُوا هَلْ يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . " أَحَدُهُمَا " يَجُوزُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . و " الثَّانِي " لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ : إذَا أَجَزْت الْوَطْءَ لَزِمَ أَنْ يُبَاشِرَهَا فِي حَالِ النَّزْعِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَهَذَا إنَّمَا يُجَوَّزُ لِلضَّرُورَةِ لَا يُجَوِّزُهُ ابْتِدَاءً وَذَلِكَ يَقُولُ النَّزْعُ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ .

وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إذَا طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ وَهُوَ مُولِجٌ فَقَدْ جَامَعَ لَهُمْ فِي النَّزْعِ قَوْلَانِ : فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَأَمَّا عَلَى مَا نَصَرْنَاهُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَإِنَّ الْحَالِفَ إذَا حَنِثَ يُكَفِّرُ يَمِينَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ وَمَا فَعَلَهُ النَّاسُ حَالَ التَّبَيُّنِ مِنْ أَكْلٍ وَجِمَاعٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِقَوْلِهِ : ( حَتَّى ) . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْنَطَ أَحَدٌ وَلَا يُقَنِّطَ أَحَدًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا . فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } مَعَهُ عُمُومٌ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ فَدَلَّ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ كُلَّ ذَنْبٍ ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ مِنْ كَافِرٍ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَغْفِرُ لَهُ وَلَا يُعَذِّبُهُ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ وَالتَّوَاتُرِ وَالْقُرْآنِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ إذْ كَانَ اللَّهُ أَهْلَكَ أُمَمًا كَثِيرَةً بِذُنُوبِهَا وَمِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ عُذِّبَ بِذُنُوبِهِ إمَّا قَدَرًا وَإِمَّا شَرْعًا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } وَقَالَ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا ؛ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا . أَيْ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَفْعَلُهُ أَوْ أَنَّهُ يَغْفِرُهُ لِكُلِّ تَائِبٍ لَكِنْ يُقَالُ : فَلِمَ أَتَى بِصِيغَةِ الْجَزْمِ وَالْإِطْلَاقِ فِي مَوْضِعِ التَّرَدُّدِ وَالتَّقْيِيدِ ؟ قِيلَ بَلْ

الْآيَةُ عَلَى مُقْتَضَاهَا فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ جَمِيعَ الذُّنُوبِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَغْفِرُ لِكُلِّ مُذْنِبٍ ؛ بَلْ قَدْ ذَكَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِمَنْ مَاتَ كَافِرًا فَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } . وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } لَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْعَامَّ فِي الذُّنُوبِ هُوَ مُطْلَقٌ فِي الْمُذْنِبِينَ . فَالْمُذْنِبُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ ؛ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَغْفُورًا لَهُ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مَغْفُورًا لَهُ . إنْ أَتَى بِمَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى مَا يُنَاقِضُهَا لَمْ يَغْفِرْ لَهُ . وَأَمَّا جِنْسُ الذَّنْبِ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهُ فِي الْجُمْلَةِ : الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ وَغَيْرُهُمَا ؛ يَغْفِرُهَا لِمَنْ تَابَ مِنْهَا لَيْسَ فِي الْوُجُودِ ذَنْبٌ لَا يَغْفِرُهُ الرَّبُّ تَعَالَى ؛ بَلْ مَا مِنْ ذَنَبٍ إلَّا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُهُ فِي الْجُمْلَةِ .
وَهَذِهِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ جَامِعَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ نَفْعًا وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى طَوَائِفَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْبِدْعَةِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَيَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ إسْرَائِيلِيٍّ فِيهِ : { أَنَّهُ قِيلَ لِذَلِكَ الدَّاعِيَةِ فَكَيْفَ بِمَنْ أَضْلَلْت ؟ } وَهَذَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَلَيْسُوا مِنْ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ كَأَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ

الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْمَوْضُوعَةِ وَمَا يُحْتَجُّ بِهِ وَمَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ ؛ بَلْ يَرْوُونَ كُلَّ مَا فِي الْبَابِ مُحْتَجِّينَ بِهِ . وَقَدْ حَكَى هَذَا طَائِفَةٌ قَوْلًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد أَوْ رِوَايَةً عَنْهُ وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ مَعَ مَذَاهِبِ سَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ كَمَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الدَّاعِي إلَى الْكُفْرِ وَتَوْبَةُ مَنْ فَتَنَ النَّاسَ عَنْ دِينِهِمْ . وَقَدْ تَابَ قَادَةُ الْأَحْزَابِ : مِثْلُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَالْحَارِثِ ابْنِ هِشَامٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِمْ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ عَلَى الْكُفْرِ بِدُعَائِهِمْ مَنْ قُتِلَ وَكَانُوا مَنْ أَحْسَنِ النَّاسِ إسْلَامًا وَغَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } . وَعَمْرُو بْنُ العاص كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الدُّعَاةِ إلَى الْكُفْرِ وَالْإِيذَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَسْلَمَ { يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } قَالَ كَانَ نَاسٌ مِنْ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَاسًا مِنْ الْجِنِّ فَأَسْلَمَ أُولَئِكَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَعْبُدُونَهُمْ . فَفِي هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَضُرَّ الَّذِينَ أَسْلَمُوا عِبَادَةَ غَيْرِهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَهُمْ وَإِنْ كَانُوا هُمْ أَضَلُّوهُمْ أَوَّلًا .

وَأَيْضًا فَالدَّاعِي إلَى الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَإِنْ كَانَ أَضَلَّ غَيْرَهُ فَذَلِكَ الْغَيْرُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَنْبِهِ ؛ لِكَوْنِهِ قَبِلَ مِنْ هَذَا وَاتَّبَعَهُ وَهَذَا عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَوِزْرُ مَنْ اتَّبَعَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَعَ بَقَاءِ أَوْزَارِ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ فَإِذَا تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَلَا مَا حَمَلَهُ هُوَ لِأَجْلِ إضْلَالِهِمْ وَأَمَّا هُمْ فَسَوَاءٌ تَابَ أَوْ لَمْ يَتُبْ حَالُهُمْ وَاحِدٌ ؛ وَلَكِنَّ تَوْبَتَهُ قَبْلَ هَذَا تَحْتَاجُ إلَى ضِدِّ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الدُّعَاءِ إلَى الْهُدَى كَمَا تَابَ كَثِيرٌ مِنْ الْكُفَّارِ وَأَهْلُ الْبِدَعِ وَصَارُوا دُعَاةً إلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ . وَسَحَرَةُ فِرْعَوْنَ كَانُوا أَئِمَّةً فِي الْكُفْرِ ثُمَّ أَسْلَمُوا وَخَتَمَ اللَّهُ لَهُمْ بِخَيْرِ . وَمِنْ ذَلِكَ تَوْبَةُ قَاتِلِ النَّفْسِ . وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ ؛ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا تُقْبَلُ ؛ وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَحَدِيثُ قَاتِلِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ فِي الصَّحِيحَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَآيَةُ النِّسَاءِ إنَّمَا فِيهَا وَعِيدٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } وَمَعَ هَذَا فَهَذَا إذَا لَمْ يَتُبْ . وَكُلُّ وَعِيدٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ فَبِأَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ وَعِيدُ الْقَاتِلِ لَاحِقًا بِهِ وَإِنْ تَابَ ؟ هَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ ؟ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَظْلُومِ بِالْقَتْلِ ؛ بَلْ التَّوْبَةُ تُسْقِطُ حَقَّ اللَّهِ وَالْمَقْتُولُ مُطَالِبُهُ بِحَقِّهِ وَهَذَا صَحِيحٌ فِي جَمِيعِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ حَتَّى الدَّيْنِ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الشَّهِيدُ يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الدَّيْنُ } لَكِنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ يُعْطَاهُ مِنْ حَسَنَاتِ الْقَاتِلِ . فَمِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ الْحَسَنَاتِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَا يُقَابِلُ حَقَّ الْمَقْتُولِ وَلَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَأَى أَنَّ الْقَتْلَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ بَعْدَ الْكُفْرِ فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِهِ حَسَنَاتٌ تُقَابِلُ حَقَّ الْمَقْتُولِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى لَهُ سَيِّئَاتٌ يُعَذَّبُ بِهَا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَدْ يَقَعُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ فَيَبْقَى الْكَلَامُ فِيمَنْ تَابَ وَأَخْلَصَ : وَعَجَزَ عَنْ حَسَنَاتٍ تُعَادِلُ حَقَّ الْمَظْلُومِ هَلْ يُجْعَلُ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَقْتُولِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ ؟ وَهَذَا مَوْضِعٌ دَقِيقٌ عَلَى مِثْلِهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ لَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يُنَافِي مُوجَبَ الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ كُلَّ ذَنْبٍ الشِّرْكَ وَالْقَتْلَ وَالزِّنَا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْأَفْعَالِ مُطْلَقَةٌ فِي الْأَشْخَاصِ . وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ : { اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } عَامٌّ فِي الْأَشْخَاصِ مُطْلَقٌ فِي أَحْوَالِ . . . (1) الْأَرْجُلِ ؛ إذْ قَدْ تَكُونُ مَسْتُورَةً بِالْخُفِّ وَاللَّفْظُ لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَى الْأَحْوَالِ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } عَامٌّ فِي الْأَوْلَادِ عَامٌّ فِي الْأَحْوَالِ ؟ إذْ قَدْ يَكُونُ الْوَلَدُ مُوَافِقًا فِي الدِّينِ وَمُخَالِفًا وَحُرًّا وَعَبْدًا . وَاللَّفْظُ لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَى الْأَحْوَالِ .

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { يَغْفِرُ الذُّنُوبَ } عَامٌّ فِي الذُّنُوبِ مُطْلَقٌ فِي أَحْوَالِهَا ؛ فَإِنَّ الذَّنْبَ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُهُ تَائِبًا مِنْهُ وَقَدْ يَكُونُ مُصِرًّا وَاللَّفْظُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ بَلْ الْكَلَامُ يُبَيِّنُ أَنَّ الذَّنْبَ يُغْفَرُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِفِعْلِ مَا تُغْفَرُ بِهِ الذُّنُوبُ وَنَهَى عَمَّا بِهِ يَحْصُلُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلَا مَغْفِرَةٍ فَقَالَ : { وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } { بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } فَهَذَا إخْبَارٌ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعَذِّبُ نُفُوسًا لَمْ يَغْفِرْ لَهَا كَاَلَّتِي كَذَّبَتْ بِآيَاتِهِ وَاسْتَكْبَرَتْ وَكَانَتْ مِنْ الْكَافِرِينَ وَمِثْلُ هَذِهِ الذُّنُوبِ غَفَرَهَا اللَّهُ لِآخَرِينَ لِأَنَّهُمْ تَابُوا مِنْهَا . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا } ؟ قِيلَ : إنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَيَّنَ تَوْبَةَ الْكَافِرِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ارْتَدَّ ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ

وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } { خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَوْلُهُ : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ } أَيْ أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ مُرْتَدِّينَ ظَالِمِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } فَمَنْ ارْتَدَّ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ إلَّا ضَالًّا لَا يَحْصُلُ لَهُ الْهُدَى إلَى أَيِّ دِينٍ ارْتَدَّ . " وَالْمَقْصُودُ " أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ وَلَا يَغْفِرُ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَتُوبُوا . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي قَوْلِهِ : { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ } وَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَهُوَ مُرْتَدٌّ قَالَ : { ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي آلِ عِمْرَانَ ذَكَرَ الْمُرْتَدِّينَ ثُمَّ ذَكَرَ التَّائِبِينَ مِنْهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَمَنْ مَاتَ كَافِرًا ؛ فَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ } { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ قَدْ ذَكَرُوا فِيهِمْ أَقْوَالًا : قِيلَ لِنِفَاقِهِمْ وَقِيلَ

لِأَنَّهُمْ تَابُوا مِمَّا دُونَ الشِّرْكِ وَلَمْ يَتُوبُوا مِنْهُ وَقِيلَ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ كَالْحَسَنِ وقتادة وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ والسدي : لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ حِينَ يَحْضُرُهُمْ الْمَوْتُ فَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا } قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : ازْدَادُوا كُفْرًا ثَبَتُوا عَلَيْهِ حَتَّى مَاتُوا . قُلْت : وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّائِبَ رَاجِعٌ عَنْ الْكُفْرِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَإِنَّهُ مُسْتَمِرٌّ يَزْدَادُ كُفْرًا بَعْدَ كُفْرٍ فَقَوْلُهُ : { ثُمَّ ازْدَادُوا } بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ ثُمَّ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَدَامُوا عَلَى الْكُفْرِ فَهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ ثُمَّ زَادَ كُفْرُهُمْ مَا نَقَصَ فَهَؤُلَاءِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ وَهِيَ التَّوْبَةُ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ مَنْ تَابَ قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ وَرَجَعَ عَنْ كُفْرِهِ فَلَمْ يَزْدَدْ بَلْ نَقَصَ ؛ بِخِلَافِ الْمُصِرِّ إلَى حِينِ الْمُعَايَنَةِ فَمَا بَقِيَ لَهُ زَمَانٌ يَقَعُ لِنَقْصِ كُفْرِهِ فَضْلًا عَنْ هَدْمِهِ . وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ : { لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } وَذَكَرَ أَنَّهُمْ

آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا قِيلَ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا تَابَ غُفِرَ لَهُ كُفْرُهُ فَإِذَا كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَاتَ كَافِرًا حَبِطَ إيمَانُهُ فَعُوقِبَ بِالْكُفْرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ فَقَالَ : مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ } فَلَوْ قَالَ : إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي آلِ عِمْرَانَ فَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ الْمُرْتَدُّ التَّائِبُ ؛ فَهَذَا إذَا كَفَرَ وَازْدَادَ كُفْرًا لَمْ يُغْفَرْ لَهُ كُفْرُهُ السَّابِقُ أَيْضًا فَلَوْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا لَمْ يَكُونُوا قَدْ ازْدَادُوا كُفْرًا فَلَا يَدْخُلُونَ فِي الْآيَةِ . وَالْفُقَهَاءُ إذَا تَنَازَعُوا فِي قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ أَوْ قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ فَذَاكَ إنَّمَا هُوَ فِي الْحُكْمِ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوثَقُ بِتَوْبَتِهِ أَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ أَخْلَصَ التَّوْبَةَ لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . وَنَحْنُ حَقِيقَةُ قَوْلِنَا أَنَّ التَّائِبَ لَا يُعَذَّبُ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ

لَا شَرْعًا وَلَا قَدَرًا وَالْعُقُوبَاتُ الَّتِي تُقَامُ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ إمَّا أَنْ يَثْبُتَ سَبَبُهَا بِالْبَيِّنَةِ مِثْلَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِأَنَّهُ زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ شَرِبَ فَهَذَا إذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ لَمْ يُوثَقْ بِهَا وَلَوْ دُرِئَ الْحَدُّ بِإِظْهَارِ هَذَا لَمْ يَقُمْ حَدٌّ فَإِنَّهُ كُلُّ مَنْ تُقَامُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ يَقُولُ قَدْ تُبْت وَإِنْ كَانَ تَائِبًا فِي الْبَاطِنِ كَانَ الْحَدُّ مُكَفِّرًا وَكَانَ مَأْجُورًا عَلَى صَبْرِهِ وَأَمَّا إذَا جَاءَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَاعْتَرَفَ وَجَاءَ تَائِبًا فَهَذَا لَا يَجِبُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد نَصَّ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ التَّعْلِيقِ وَاحْتَجَّ عَلَيْهَا الْقَاضِي بِعِدَّةِ أَحَادِيثَ وَحَدِيثِ الَّذِي قَالَ : { أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ } يَدْخُلُ فِي هَذَا لِأَنَّهُ جَاءَ تَائِبًا وَإِنْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا شَهِدَ بِهِ مَاعِزٌ والغامدية وَاخْتَارَ إقَامَةَ الْحَدِّ أُقِيمَ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا . كَمَا فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ : { فَهَلَّا تَرَكْتُمُوهُ ؟ } والغامدية رَدَّهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ . فَالْإِمَامُ وَالنَّاسُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مِثْلِ هَذَا ؛ وَلَكِنْ هُوَ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ أُقِيمَ عَلَيْهِ كَاَلَّذِي يُذْنِبُ سِرًّا وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ حَدًّا : لَكِنْ إذَا اخْتَارَ هُوَ أَنْ يَعْتَرِفَ وَيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أُقِيمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَائِبًا وَهَذَا كَقَتْلِ الَّذِي يَنْغَمِسُ فِي الْعَدُوِّ هُوَ مِمَّا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَتَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مُكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ وَهَلْ وَجَدْت أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ } . وَقَدْ قِيلَ فِي مَاعِزٍ إنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ

فِيهِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : سَقَطَ الْحَدُّ لِكَوْنِهِ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ وَيَقُولُونَ رُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ مَقْبُولٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ بَلْ فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ أَقَرَّ تَائِبًا وَمَنْ أَقَرَّ غَيْرَ تَائِبٍ فَإِسْقَاطُ الْعُقُوبَةِ بِالتَّوْبَةِ - كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ - أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِهَا بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ ؛ وَالْإِقْرَارُ شَهَادَةٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ ؛ وَلَوْ قَبِلَ الرُّجُوعَ لَمَا قَامَ حَدٌّ بِإِقْرَارِ فَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ التَّوْبَةُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا فَالرُّجُوعُ الَّذِي هُوَ فِيهِ كَاذِبٌ أَوْلَى . آخِرُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : مَاتَ مِنْ الْفَزَعِ وَشِدَّةِ الصَّوْتِ { مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ } (*) . أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفِيُّ الصُّوفِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الرَّمْلِيُّ ثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ { رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } مِنْ الَّذِي لَمْ يَشَأْ اللَّهُ أَنْ يَصْعَقَهُمْ ؟ قَالَ : هُمْ الشُّهَدَاءُ مُتَقَلِّدِينَ سُيُوفَهُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ } وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ والسدي وَالْكَلْبِيُّ : هُوَ جِبْرِيلُ وميكائيل وَإِسْرَافِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ . { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ } يَعْنِي الْخَلْقَ كُلُّهُمْ قِيَامٌ عَلَى أَرْجُلِهِمْ { يُنْظَرُونَ } مَا يُقَالُ لَهُمْ وَمَا يُؤْمَرُونَ بِهِ . هَذَا كَلَامُ الْوَاحِدِيِّ فِي " كِتَابِ الْوَسِيطِ " . بَيِّنُوا لَنَا

حَقِيقَةَ الصعوق هَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَوْتِ فِي حَقِّ الْمَذْكُورِينَ ؟ . وَحَقِيقَةَ الِاسْتِثْنَاءِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ يَمُوتُونَ حَتَّى الْمَلَائِكَةُ وَحَتَّى عِزْرَائِيلُ مَلَكُ الْمَوْتِ . وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مُتَّفِقُونَ عَلَى إمْكَانِ ذَلِكَ وَقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هِيَ الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَوْتُهَا بِحَالِ ؛ بَلْ هِيَ عِنْدَهُمْ آلِهَةُ وَأَرْبَابُ هَذَا الْعَالَمِ . وَالْقُرْآنُ وَسَائِرُ الْكُتُبِ تَنْطِقُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ عَبِيدٌ مدبرون كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى }. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمِيتَهُمْ ثُمَّ يُحْيِيَهُمْ كَمَا هُوَ قَادِرٌ

عَلَى إمَاتَةِ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ ثُمَّ إحْيَائِهِمْ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَعَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ إذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ أَخَذَ الْمَلَائِكَةَ غَشْيٌ } وَفِي رِوَايَةٍ : { إذَا سَمِعَتْ الْمَلَائِكَةُ كَلَامَهُ صُعِقُوا } وَفِي رِوَايَةٍ { سَمِعَتْ الْمَلَائِكَةُ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ فَيُصْعَقُونَ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا : مَاذَا قَالَ : رَبُّكُمْ ؟ قَالُوا : الْحَقَّ فَيُنَادُونَ : الْحَقَّ الْحَقَّ } . فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُمْ يُصْعَقُونَ صعوق الْغَشْيِ فَإِذَا جَازَ عَلَيْهِمْ صعوق الْغَشْيِ جَازَ عَلَيْهِمْ صعوق الْمَوْتِ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ لَا يُجَوِّزُونَ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وصعوق الْغَشْيِ هُوَ مِثْلُ صعوق مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ . قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } وَالْقُرْآنُ قَدْ أَخْبَرَ بِثَلَاثِ نَفَخَاتٍ : نَفْخَةِ الْفَزَعِ ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي قَوْلِهِ : { وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } . وَنَفْخَةِ الصَّعْقِ وَالْقِيَامِ ذَكَرَهُمَا فِي قَوْلِهِ : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ

فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } . وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِمَنْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا مَوْتٌ وَمُتَنَاوِلٌ لِغَيْرِهِمْ وَلَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِكُلِّ مَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ فِي كِتَابِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَأَجِدُ مُوسَى آخِذًا بِسَاقِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي هَلْ أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ ؟ } وَهَذِهِ الصَّعْقَةُ قَدْ قِيلَ إنَّهَا رَابِعَةٌ وَقِيلَ إنَّهَا مِنْ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْقُرْآنِ ؛ وَبِكُلِّ حَالٍ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَقَّفَ فِي مُوسَى هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ أَمْ لَا ؟ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْزِمْ بِكُلِّ مَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ لَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نَجْزِمَ بِذَلِكَ وَصَارَ هَذَا مِثْلُ الْعِلْمِ بِقُرْبِ السَّاعَةِ وَأَعْيَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ وَهَذَا الْعِلْمُ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْخَبَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .

سُورَةُ الشُّورَى
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
قَدْ كَتَبْت بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } فَمَدَحَهُمْ عَلَى الِانْتِصَارِ تَارَةً وَعَلَى الصَّبْرِ أُخْرَى . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ اللَّهَ لَمَّا حَمِدَهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّوَكُّلِ وَمُجَانَبَةِ الْكَبَائِرِ وَالِاسْتِجَابَةِ لِرَبِّهِمْ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَالِاشْتِوَارِ فِي أَمْرِهِمْ وَانْتِصَارِهِمْ إذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ وَالْعَفْوُ وَالصَّبْرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ ضِدَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَيْسَ مَحْمُودًا بَلْ مَذْمُومًا فَإِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِعَدَمِ ضِدِّهَا ؛ فَلَوْ كَانَ ضِدُّهَا مَحْمُودًا لَكَانَ عَدَمُ الْمَحْمُودِ مَحْمُودًا وَعَدَمُ الْمَحْمُودِ لَا يَكُونُ مَحْمُودًا إلَّا أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ مَحْمُودٌ ؛ وَلِأَنَّ حَمْدَهَا وَالثَّنَاءَ عَلَيْهَا طَلَبٌ لَهَا وَأَمْرٌ بِهَا وَلَوْ أَنَّهُ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ قَصْدًا أَوْ لُزُومًا وَضِدُّ الِانْتِصَارِ الْعَجْزُ وَضِدُّ الصَّبْرِ الْجَزَعُ ؛ فَلَا خَيْرَ فِي الْعَجْزِ وَلَا فِي الْجَزَعِ كَمَا نَجِدُهُ فِي حَالِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى بَعْضُ الْمُتَدَيِّنِينَ إذَا ظَلَمُوا أَوْ

أَرَادُوا مُنْكَرًا فَلَا هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَلَا يَصْبِرُونَ ؛ بَلْ يَعْجِزُونَ وَيَجْزَعُونَ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَاكَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ وَإِنْ غَلَبَك أَمْرٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } . لَا تَعْجِزْ عَنْ مَأْمُورٍ وَلَا تَجْزَعْ مِنْ مَقْدُورٍ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْمَعُ كِلَا الشَّرَّيْنِ ؛ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِرْصِ عَلَى النَّافِعِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَإِلَّا فَالِاسْتِحْبَابُ . وَنَهَى عَنْ الْعَجْزِ وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ } وَالْعَاجِزُ ضِدُّ الَّذِينَ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَالْأَمْرُ بِالصَّبْرِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْجَزَعِ مَعْلُومٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : أَمْرٍ أُمِرَ بِفِعْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ

وَيَحْرِصَ عَلَيْهِ وَيَسْتَعِينَ اللَّهَ وَلَا يَعْجِزُ وَأَمْرٍ أُصِيبَ بِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ وَلَا يَجْزَعَ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ ابْنُ الْمُقَفَّعِ أَوْ غَيْرُهُ الْأَمْرُ أَمْرَانِ : أَمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ فَلَا تَعْجِزْ عَنْهُ وَأَمْرٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ فَلَا تَجْزَعْ مِنْهُ . وَهَذَا فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ ؛ لَكِنْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي فِيهِ حِيلَةٌ هُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَحَبَّهُ لَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ إلَّا بِمَا فِيهِ حِيلَةٌ لَهُ إذْ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَقَدْ أَمَرَهُ بِكُلِّ خَيْرٍ فِيهِ لَهُ حِيلَةٌ وَمَا لَا حِيلَةَ فِيهِ هُوَ مَا أُصِيبَ بِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ . وَاسْمُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ يَتَنَاوَلُ الْقِسْمَيْنِ فَالْأَفْعَالُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إلَّا مِثْلَهَا } وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى { إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى { بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } وَالْمَصَائِبُ الْمُقَدَّرَةُ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } . إلَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ الزُّخْرُفِ
وَقَالَ :
فَصْلٌ :
قَوْلُهُ : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } يُشْبِهُ قَوْلَهُ : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } { وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } فَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ ضَرْبُ الْمَثَلِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَسِيحَ ابْنَهُ . وَالْمَلَائِكَةَ بَنَاتَه وَالْوَلَدُ يُشْبِهُ أَبَاهُ فَجَعَلُوهُ لِلَّهِ شَبِيهًا وَنَظِيرًا . أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى فِي الْمَسِيحِ أَنَّهُ مَثَلٌ لِآلِهَتِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ . فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ ضَارِبُهُ كَضَارِبِ الْمَثَلِ لِلرَّحْمَنِ وَهُمْ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ ضَارِبُهُ هُوَ الَّذِي عَارَضَ بِهِ قَوْلَهُ : { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } فَلَمَّا قَالَ ابْنُ الزبعرى : لَأَخْصِمَن مُحَمَّدًا . فَعَارَضَهُ بِالْمَسِيحِ وَنَاقَضَهُ بِهِ كَانَ قَدْ ضَرَبَهُ مَثَلًا قَاسَ الْآلِهَةَ عَلَيْهِ وَيَتَرَجَّحُ هَذَا بِقَوْلِهِ : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا } فَعُلِمَ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ

ضَرَبُوهُ لَا النَّصَارَى . فَإِنَّ " الْمَثَلَ " يُقَالُ عَلَى الْأَصْلِ وَعَلَى الْفَرْعِ " وَالْمَثَلُ " يُقَالُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَيُقَالُ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ الْقِيَاسُ كَمَا قَدْ ذَكَرْت فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ هُوَ الْقِيَاسُ أَمَّا قِيَاسُ التَّمْثِيلِ فَيَكُونُ الْمَثَلُ هُوَ الْمُفْرَدُ وَأَمَّا قِيَاسُ الشُّمُولِ فَيَكُونُ تَسْمِيَتُهُ ضَرْبَ مِثْلٍ كَتَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا كَمَا بَيَّنْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ جِهَةِ مُطَابَقَةِ الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ لِلْأَعْيَانِ الْخَارِجِيَّةِ وَمُمَاثَلَتِهَا لَهَا وَمِنْ جِهَةِ مُطَابِقَةِ ذَلِكَ الْمُفْرَدِ الْمُعَيَّنِ لِلْمَعْنَى الْعَامِّ الشَّامِلِ لِلْأَفْرَادِ وَلِسَائِرِ الْأَفْرَادِ ؛ فَإِنَّ الذِّهْنَ يَرْتَسِمُ فِيهِ مَعْنًى عَامٌّ يُمَاثِلُ الْفَرْدَ الْمُعَيَّنُ وَكُلُّ فَرْدٍ يُمَاثِلُ الْآخَرَ فَصَارَ هَذَا الْمَعْنَى يُمَاثِلُ هَذَا وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُمَاثِلُ الْمَعْنَى الْعَامَّ الشَّامِلَ لَهُمَا . وَبِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ سُمِّيَ ضَرْبَ مَثَلٍ وَسُمِّيَ قِيَاسًا فَإِنَّ الضَّرْبَ الْجَمْعُ وَالْجَمْعُ فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَهُوَ الْعُمُومُ وَالشُّمُولُ فَالْجَمْعُ وَالضَّرْبُ وَالْعُمُومُ وَالشُّمُولُ فِي النَّفْسِ مَعْنًى وَلَفْظًا فَإِذَا ضَرَبَ مَثَلًا فَقَدْ صِيغَ عُمُومًا مُطَابِقًا أَوْ صِيغَ مُفْرَدًا مُشَابِهًا ؛ فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَلَك أَنْ تَقُولَ : كُلُّ إخْبَارٍ بِمَثَلِ صَوَّرَهُ الْمُخْبِرُ فِي النَّفْسِ فَهُوَ ضَرْبُ

مَثَلٍ ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ جَمَعَ مَثَلًا فِي نَفْسِهِ وَنَفْسِ الْمُسْتَمِعِ بِالْخَبَرِ الْمُطَابِقِ لِلْمُخْبِرِ فَيَكُونُ الْمَثَلُ هُوَ الْخَبَرُ وَهُوَ الْوَصْفُ كَقَوْلِهِ : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } وَقَوْلِهِ : { ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ } . وَبَسْطُ هَذَا اللَّفْظِ وَاشْتِمَالُهُ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَحْكَامِ وَالْأَدِلَّةِ قَدْ ذَكَرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

سُورَةُ الْأَحْقَافِ
سَأَلَ رَجُلٌ آخَرُ :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً } فَقَالَ : مَا سَمِعْنَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ مَا قَبْلَ كِتَابِنَا إلَّا الْإِنْجِيلَ فَقَالَ الْآخَرُ : عِيسَى إنَّمَا كَانَ تَبَعًا لِمُوسَى وَالْإِنْجِيلُ إنَّمَا فِيهِ تَوَسُّعٌ فِي الْأَحْكَامِ تَيْسِيرٌ مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَقَالَ : كَانَ لِعِيسَى شَرْعٌ غَيْرُ شَرْعِ مُوسَى وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } قَالَ : فَمَا الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ } ؟ فَقَالَ : لَيْسَتْ هَذِهِ حُجَّةً .
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ عِيسَى قَالَ لَهُمْ : { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } فَعُلِمَ أَنَّهُ أَحَلَّ الْبَعْضَ دُونَ الْجَمِيعِ وَأَخْبَرَ عَنْ الْمَسِيحِ أَنَّهُ عَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ بِقَوْلِهِ : { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِبَعْضِ مَا فِي التَّوْرَاةِ لَمْ يَكُنْ تَعَلُّمُهَا

لَهُ مِنَّةً أَلَا تَرَى أَنَّا نَحْنُ لَمْ نُؤْمَرْ بِحِفْظِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ شَرَائِعِ الْكِتَابَيْنِ يُوَافِقُ شَرِيعَةَ الْقُرْآنِ فَهَذَا وَغَيْرُهُ يُبَيِّنُ مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنَّ الْإِنْجِيلَ لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَحْكَامٌ قَلِيلَةٌ وَأَكْثَرُ الْأَحْكَامِ يَتْبَعُ فِيهَا مَا فِي التَّوْرَاةِ ؛ وَبِهَذَا يَحْصُلُ التَّغَايُرُ بَيْنَ الشرعتين . وَلِهَذَا كَانَ النَّصَارَى مُتَّفِقِينَ عَلَى حِفْظِ التَّوْرَاةِ وَتِلَاوَتِهَا كَمَا يَحْفَظُونَ الْإِنْجِيلَ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا سَمِعَ النَّجَاشِيُّ الْقُرْآنَ قَالَ : إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَلِكَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ذَكَرَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَأْتِيهِ قَالَ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى . وَكَذَلِكَ قَالَتْ الْجِنُّ : { إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } قَالُوا سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا أَيْ مُوسَى وَمُحَمَّدٌ وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى : { سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } أَيْ التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ . وَكَذَلِكَ قَالَ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ

مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا فِيهِ اقْتِرَانُ التَّوْرَاةِ بِالْقُرْآنِ وَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ يُبَيِّنُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ التَّوْرَاةَ هِيَ الْأَصْلُ وَالْإِنْجِيلَ تَبَعٌ لَهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنْ كَانَ مُغَايِرًا لِبَعْضِهَا . فَلِهَذَا يَذْكُرُ الْإِنْجِيلَ مَعَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } { مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } وَقَالَ : { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ } فَيَذْكُرُ الثَّلَاثَةَ تَارَةً وَيَذْكُرُ الْقُرْآنَ مَعَ التَّوْرَاةِ وَحْدَهَا تَارَةً لِسِرِّ : وَهُوَ أَنَّ الْإِنْجِيلَ مِنْ وَجْهٍ أَصْلٌ وَمِنْ وَجْهٍ تَبَعٌ ؛ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ مَعَ التَّوْرَاةِ فَإِنَّهُ أَصْلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ هُوَ مُهَيْمِنٌ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلتَّوْرَاةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَكُتُبِهِ مِنْ الشَّرَائِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

سُورَةُ ق
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِهِ : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } مَا الْمَزِيدُ ؟
فَأَجَابَ :
قَدْ قِيلَ إنَّهَا تَقُولُ : { هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } أَيْ لَيْسَ فِيَّ مُحْتَمَلٌ لِلزِّيَادَةِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَقُولُ : { هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } عَلَى سَبِيلِ الطَّلَبِ أَيْ هَلْ مِنْ زِيَادَةٍ تُزَادُ فِيَّ وَالْمَزِيدُ مَا يَزِيدُهُ اللَّهُ فِيهَا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَزَالُ جَهَنَّمَ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ وَيُرْوَى عَلَيْهَا قَدَمُهُ فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ : قَطْ قَطْ } . فَإِذَا قَالَتْ حَسْبِي حَسْبِي كَانَتْ قَدْ اكْتَفَتْ بِمَا أُلْقِيَ فِيهَا وَلَمْ تَقُلْ بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ بَلْ تَمْتَلِئُ بِمَا فِيهَا لِانْزِوَاءِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُضَيِّقُهَا عَلَى مَنْ فِيهَا لِسِعَتِهَا فَإِنَّهُ قَدْ وَعَدَهَا لَيَمْلَأَنهَا

مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَهِيَ وَاسِعَةٌ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يُضَيِّقَهَا عَلَى مَنْ فِيهَا . قَالَ : " وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ . فَبَيَّنَ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يُضَيِّقُهَا سُبْحَانَهُ بَلْ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ لِأَنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ . وَأَمَّا الْعَذَابُ بِالنَّارِ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ عَصَى فَلَا يُعَذِّبُ أَحَدًا بِغَيْرِ ذَنْبٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَوْله تَعَالَى { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } خَصَّ سُبْحَانَهُ رَفْعَهُ بِالْأَقْدَارِ وَالدَّرَجَاتِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَهُمْ الَّذِينَ اسْتَشْهَدَ بِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَرَوْنَ مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ هُوَ الْحَقُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ الْحُجَّةِ وَالْقِيَامَ بِهَا يَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ يَرْفَعُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : بِالْعِلْمِ . فَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ وَالْأَقْدَارِ عَلَى قَدْرِ مُعَامَلَةِ الْقُلُوبِ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فَكَمْ مِمَّنْ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ وَآخَرُ لَا يَنَامُ اللَّيْلَ وَآخَرُ لَا يُفْطِرُ وَغَيْرُهُمْ أَقَلُّ عِبَادَةً

مِنْهُمْ وَأَرْفَعُ قَدْرًا فِي قُلُوبِ الْأُمَّةِ فَهَذَا كُرْزُ بْنُ وَبَرَةَ وكهمس وَابْنُ طَارِقٍ يَخْتِمُونَ الْقُرْآنَ فِي الشَّهْرِ تِسْعِينَ مَرَّةً وَحَالُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ سِيرِين وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْقُلُوبِ أَرْفَعُ . وَكَذَلِكَ تَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ لَبِسَ الصُّوفَ وَيَهْجُرُ الشَّهَوَاتِ وَيَتَقَشَّفُ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ لَا يُدَانِيهِ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ أَعْظَمُ فِي الْقُلُوبِ وَأَحْلَى عِنْدَ النُّفُوسِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِقُوَّةِ الْمُعَامَلَةِ الْبَاطِنَةِ وَصَفَائِهَا وَخُلُوصِهَا مِنْ شَهَوَاتِ النُّفُوسِ وَأَكْدَارِ الْبَشَرِيَّةِ وَطَهَارَتِهَا مِنْ الْقُلُوبِ الَّتِي تُكَدِّرُ مُعَامَلَةَ أُولَئِكَ وَإِنَّمَا نَالُوا ذَلِكَ بِقُوَّةِ يَقِينِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَكَمَالِ تَصْدِيقِهِ فِي قُلُوبِهِمْ وَوُدِّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنَّ أَرْفَعَ دَرَجَاتِ الْقُلُوبِ فَرَحُهَا التَّامُّ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْتِهَاجُهَا وَسُرُورُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا } الْآيَةَ . فَفَضْلُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ الْقُرْآنُ وَالْإِيمَانُ مَنْ فَرِحَ بِهِ فَقَدْ فَرِحَ بِأَعْظَمِ مَفْرُوحٍ بِهِ وَمَنْ فَرِحَ بِغَيْرِهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَوَضَعَ الْفَرَحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ . فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِي الْقَلْبِ وَتَمَكَّنَ فِيهِ الْعِلْمُ بِكِفَايَتِهِ لِعَبْدِهِ وَرَحْمَتِهِ لَهُ وَحِلْمِهِ عِنْدَهُ وَبِرِّهِ بِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ أَوْجَبَ لَهُ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ كُلِّ مُحِبٍّ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ سِوَاهُ . فَلَا يَزَالُ مُتَرَقِّيًا

فِي دَرَجَاتِ الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ بِحَسَبِ رُقِيِّهِ فِي هَذِهِ الْمَعَارِفِ . هَذَا فِي " بَابِ مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " وَأَمَّا فِي " بَابِ فَهْمِ الْقُرْآنِ " فَهُوَ دَائِمُ التَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ وَالتَّدَبُّرِ لِأَلْفَاظِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَحُكْمِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَإِذَا سَمِعَ شَيْئًا مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَعُلُومِهِمْ عَرَضَهُ عَلَى الْقُرْآنِ فَإِنْ شَهِدَ لَهُ بِالتَّزْكِيَةِ قَبِلَهُ وَإِلَّا رَدَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ بِقَبُولِ وَلَا رَدٍّ وَقَفَهُ وَهِمَّتُهُ عَاكِفَةٌ عَلَى مُرَادِ رَبِّهِ مِنْ كَلَامِهِ . وَلَا يَجْعَلُ هِمَّتَهُ فِيمَا حُجِبَ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ الْعُلُومِ عَنْ حَقَائِقِ الْقُرْآنِ إمَّا بِالْوَسْوَسَةِ فِي خُرُوجِ حُرُوفِهِ وَتَرْقِيقِهَا وَتَفْخِيمِهَا وَإِمَالَتِهَا وَالنُّطْقِ بِالْمَدِّ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَالْمُتَوَسِّطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنَّ هَذَا حَائِلٌ لِلْقُلُوبِ قَاطِعٌ لَهَا عَنْ فَهْمِ مُرَادِ الرَّبِّ مِنْ كَلَامِهِ وَكَذَلِكَ شَغْلُ النُّطْقِ بـ { أَأَنْذَرْتَهُمْ } وَضَمُّ الْمِيمِ مِنْ ( عَلَيْهِمْ وَوَصْلُهَا بِالْوَاوِ وَكَسْرُ الْهَاءِ أَوْ ضَمُّهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ مُرَاعَاةُ النَّغَمِ وَتَحْسِينُ الصَّوْتِ . وَكَذَلِكَ تَتَبُّعُ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ وَاسْتِخْرَاجُ التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَكْرَهَةِ الَّتِي هِيَ بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِيِّ أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْبَيَانِ .

وَكَذَلِكَ صَرْفُ الذِّهْنِ إلَى حِكَايَةِ أَقْوَالِ النَّاسِ وَنَتَائِجِ أَفْكَارِهِمْ . وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَلَّدَ دِينَهُ أَوْ مَذْهَبَهُ فَهُوَ يَتَعَسَّفُ بِكُلِّ طَرِيقٍ حَتَّى يَجْعَلَ الْقُرْآنَ تَبَعًا لِمَذْهَبِهِ وَتَقْوِيَةً لِقَوْلِ إمَامِهِ وَكُلٌّ مَحْجُوبُونَ بِمَا لَدَيْهِمْ عَنْ فَهْمِ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرِهِ . وَكَذَلِكَ يَظُنُّ مَنْ لَمْ يُقَدِّرْ الْقُرْآنَ حَقَّ قَدْرِهِ أَنَّهُ غَيْرُ كَافٍ فِي مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَمَا يَجِبُ لِلَّهِ وَيُنَزَّهُ عَنْهُ ؛ بَلْ الْكَافِي فِي ذَلِكَ عُقُولُ الْحَيَارَى والمتهوكين الَّذِينَ كُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ خَالَفَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً . وَهَؤُلَاءِ أَغْلَظُ النَّاسِ حِجَابًا عَنْ فَهْمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

سُورَةُ الطَّلَاقِ
وَقَالَ :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } فَقَدْ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ الْمُتَّقِيَ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْهُ الْمَضَرَّةَ بِمَا يَجْعَلُهُ لَهُ مِنْ الْمَخْرَجِ وَيَجْلِبُ لَهُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِمَا يُيَسِّرُهُ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُغْتَذَى بِهِ الْإِنْسَانُ ؛ وَذَلِكَ يَعُمُّ رِزْقَ الدُّنْيَا وَرِزْقَ الْآخِرَةِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : مَا افْتَقَرَ تَقِيٌّ قَطُّ قَالُوا : وَلِمَ ؟ قَالَ : لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : قَدْ نَرَى مَنْ يَتَّقِي وَهُوَ مَحْرُومٌ . وَمَنْ هُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ مَرْزُوقٌ . فَجَوَابُهُ : أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ أَنَّ الْمُتَّقِيَ يُرْزَقُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَلَمْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُتَّقِي لَا يُرْزَقُ ؛ بَلْ لَا بُدَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ الرِّزْقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } حَتَّى

إنَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَبْدُ مِنْ الْحَرَامِ هُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الرِّزْقِ فَالْكُفَّارُ قَدْ يُرْزَقُونَ بِأَسْبَابِ مُحَرَّمَةٍ وَيُرْزَقُونَ رِزْقًا حَسَنًا وَقَدْ لَا يُرْزَقُونَ إلَّا بِتَكَلُّفِ وَأَهْلُ التَّقْوَى يَرْزُقُهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ وَلَا يَكُونُ رِزْقُهُمْ بِأَسْبَابِ مُحَرَّمَةٍ وَلَا يَكُونُ خَبِيثًا وَالتَّقِيُّ لَا يُحْرَمُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ وَإِنَّمَا يُحْمَى مِنْ فُضُولِ الدُّنْيَا رَحْمَةً بِهِ وَإِحْسَانًا إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ تَوْسِيعَ الرِّزْقِ قَدْ يَكُونُ مَضَرَّةً عَلَى صَاحِبِهِ وَتَقْدِيرَهُ يَكُونُ رَحْمَةً لِصَاحِبِهِ . قَالَ تَعَالَى : { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ } { وَأَمَّا إذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ } { كُلًّا } أَيْ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ يَكُونُ مُكْرَمًا وَلَا كُلُّ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ يَكُونُ مُهَانًا ؛ بَلْ قَدْ يُوَسَّعُ عَلَيْهِ رِزْقُهُ إمْلَاءً وَاسْتِدْرَاجًا وَقَدْ يُقَدَّرُ عَلَيْهِ رِزْقُهُ حِمَايَةً وَصِيَانَةً لَهُ وَضِيقُ الرِّزْقِ عَلَى عَبْدٍ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ قَدْ يَكُونُ لِمَا لَهُ مِنْ ذُنُوبٍ وَخَطَايَا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَكْثَرَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ وَالِاسْتِغْفَارُ سَبَبٌ لِلرِّزْقِ وَالنِّعْمَةِ وَأَنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبٌ لِلْمَصَائِبِ وَالشَّدَّةِ فَقَالَ تَعَالَى :

{ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } { فَلَوْلَا إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ؛ فَالْحَسَنَاتُ هِيَ النِّعَمُ وَالسَّيِّئَاتُ هِيَ الْمَصَائِبُ ؛ لِيَكُونَ الْعَبْدُ صَبَّارًا شَكُورًا . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدِ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ } .

وَقَالَ أَيْضًا :
فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ أَخَذَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَكَفَتْهُمْ } وَقَوْلُهُ : ( مَخْرَجًا ) عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ : أَيْ مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مُطَابِقَةٌ لِقَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } الْجَامِعَةِ لِعِلْمِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كُلِّهَا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ التَّقْوَى هِيَ الْعِبَادَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ وَعِبَادَتَهُ وَطَاعَتَهُ أَسْمَاءٌ مُتَقَارِبَةٌ مُتَكَافِئَةٌ مُتَلَازِمَةٌ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ فَمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ مِثَالُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ } وَمَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ مِثَالُ { إيَّاكَ نَسْتَعِينُ } كَمَا قَالَ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَالَ : { عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } وَقَالَ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } . ثُمَّ جَعَلَ لِلتَّقْوَى فَائِدَتَيْنِ : أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا وَأَنْ يَرْزُقَهُ مِنْ

حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ . وَالْمَخْرَجُ هُوَ مَوْضِعُ الْخُرُوجِ وَهُوَ الْخُرُوجُ وَإِنَّمَا يُطْلَبُ الْخُرُوجُ مِنْ الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ وَهَذَا هُوَ الْفَرَجُ وَالنَّصْرُ وَالرِّزْقُ فَبَيَّنَ أَنَّ فِيهَا النَّصْرَ وَالرِّزْقَ كَمَا قَالَ : { أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ ؟ بِدُعَائِهِمْ وَصِلَاتِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ } هَذَا لِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَهَذَا لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ . وَأَمَّا التَّوَكُّلُ فَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ حَسْبُهُ أَيْ كَافِيهِ وَفِي هَذَا بَيَانُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّهَ يَكْفِي الْمُتَوَكِّلَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } ؟ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : لَيْسَ فِي التَّوَكُّلِ إلَّا التَّفْوِيضُ وَالرِّضَا . ثُمَّ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ لَيْسَ هُوَ كَالْعَاجِزِ . { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } وَقَدْ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِالْمَخْرَجِ مِنْ ضِيقِ الشُّبُهَاتِ بِالشَّاهِدِ الصَّحِيحِ وَالْعِلْمِ الصَّرِيحِ وَالذَّوْقِ . كَمَا قَالُوا يُعَلِّمُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمِ بَشَرٍ وَيُفَطِّنُهُ مِنْ غَيْرِ تَجْرِبَةٍ ؛ ذَكَرَهُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ : { إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } إنَّهُ نُورٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا قَالُوا : بَصَرًا وَالْآيَةُ تَعُمُّ الْمَخْرَجَ مِنْ الضِّيقِ الظَّاهِرِ وَالضِّيقِ الْبَاطِنِ قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } وَتَعُمُّ ذَوْقَ الْأَجْسَادِ وَذَوْقَ الْقُلُوبِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وَكَمَا قَالَ : { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْإِيمَانُ .

سُورَةُ التَّحْرِيمِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } هَلْ هَذَا اسْمُ رَجُلٍ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا ؟ وإيش مَعْنَى قَوْلِهِ { نَصُوحًا } ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ : أَنْ يَتُوبَ مِنْ الذَّنْبِ ثُمَّ لَا يَعُودُ إلَيْهِ و " نَصُوحٌ " هِيَ صِفَةٌ لِلتَّوْبَةِ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ النُّصْحِ وَالنَّصِيحَةِ . وَأَصْلُ ذَلِكَ هُوَ الْخُلُوصُ . يُقَالُ : فُلَانٌ يَنْصَحُ لِفُلَانِ إذَا كَانَ يُرِيدُ لَهُ الْخَيْرَ إرَادَةً خَالِصَةً لَا غِشَّ فِيهَا وَفُلَانٌ يَغُشُّهُ إذَا كَانَ بَاطِنُهُ يُرِيدُ السُّوءَ وَهُوَ يُظْهِرُ إرَادَةَ الْخَيْرِ كَالدِّرْهَمِ الْمَغْشُوشِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } أَيْ أَخْلَصُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ قَصْدَهُمْ وَحُبَّهُمْ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ

{ الدِّينُ النَّصِيحَةُ ثَلَاثًا قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } فَإِنَّ أَصْلَ الدِّينِ هُوَ حُسْنُ النِّيَّةِ وَإِخْلَاصُ الْقَصْدِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ لَا يَغُلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ } أَيْ هَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ لَا يَحْقِدُ عَلَيْهَا قَلْبُ مُسْلِمٍ بَلْ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا . فَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ هِيَ الْخَالِصَةُ مِنْ كُلِّ غِشٍّ وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ كَائِنَةً فَإِنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَعُودُ إلَى الذَّنْبِ لِبَقَايَا فِي نَفْسِهِ فَمَنْ خَرَجَ مِنْ قَلْبِهِ الشُّبْهَةُ وَالشَّهْوَةُ لَمْ يَعُدْ إلَى الذَّنْبِ فَهَذِهِ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ وَلَوْ تَابَ الْعَبْدُ ثُمَّ عَادَ إلَى الذَّنْبِ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ الْأُولَى ثُمَّ إذَا عَادَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَيْضًا . وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ إذَا تَابَ ثُمَّ عَادَ أَنْ يُصِرَّ ؛ بَلْ يَتُوبُ وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ المفتن التَّوَّابَ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ }

وَمَنْ قَالَ مِنْ الْجُهَّالِ : إنَّ " نَصُوحَ " اسْمُ رَجُلٍ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتُوبُوا كَتَوْبَتِهِ : فَهَذَا رَجُلٌ مُفْتَرٍ كَذَّابٌ جَاهِلٌ بِالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ جَاهِلٌ بِاللُّغَةِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ هَذَا امْرُؤٌ لَمْ يَخْلُقْهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا كَانَ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ أَحَدٌ اسْمُهُ نَصُوحٌ وَلَا ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ الْجَاهِلُ لَقِيلَ تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةَ نَصُوحٍ وَإِنَّمَا قَالَ : { تَوْبَةً نَصُوحًا } وَالنَّصُوحُ هُوَ التَّائِبُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ اسْمُهُ نَصُوحٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ عِيسَى أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ يَجِبُ أَنْ يَتُوبَ مِنْ هَذِهِ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ وَجَبَتْ عُقُوبَتُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ الْمُلْكِ
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
قَوْلُهُ تَعَالَى { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } دَلَّتْ عَلَى عِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ مِنْ وُجُوهٍ تَضَمَّنَتْ الْبَرَاهِينَ الْمَذْكُورَةَ لِأَهْلِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ : " أَحَدُهَا " أَنَّهُ خَالِقٌ لَهَا وَالْخَلْقُ هُوَ الْإِبْدَاعُ بِتَقْدِيرِ فَتَضَمَّنَ تَقْدِيرُهَا فِي الْعِلْمِ قَبْلَ تَكْوِينِهَا . " الثَّانِي " أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ ؛ فَيَلْزَمُ تَصَوُّرُ الْمُرَادِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ . " الثَّالِثُ " أَنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْهُ وَهُوَ سَبَبُهَا التَّامُّ وَالْعِلْمُ بِالْأَصْلِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْفَرْعِ فَعِلْمُهُ بِنَفْسِهِ يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ كُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ . " الرَّابِعُ " أَنَّهُ لَطِيفٌ يُدْرِكُ الدَّقِيقَ خَبِيرٌ يُدْرِكُ الْخَفِيَّ وَهَذَا هُوَ الْمُقْتَضِي لِلْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ فَيَجِبُ وُجُودُ الْمُقْتَضِي لِوُجُودِ السَّبَبِ التَّامِّ .

سُورَةُ الْقَلَمِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
سُورَةُ ( ن ) هِيَ سُورَةُ " الْخُلُقِ " الَّذِي هُوَ جِمَاعُ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : عَلَى دِينٍ عَظِيمٍ . وَقَالَهُ ابْنُ عُيَيْنَة وَأَخَذَهُ أَحْمَد عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة . فَإِنَّ الدِّينَ وَالْعَادَةَ وَالْخُلُقَ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى فِي الذَّاتِ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ فِي الصِّفَاتِ كَمَا قِيلَ فِي لَفْظِ الدِّينِ : فَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي . وَجَمَعَ بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ :
مَا الْأَمْرُ إلَّا نَسَقٌ وَاحِدٌ * * * مَا فِيهِ مِنْ مَدْحٍ وَلَا ذَمِّ
وَإِنَّمَا الْعَادَةُ قَدْ خَصَّصَتْ * * * وَالطَّبْعُ وَالشَّارِعُ بِالْحُكْمِ

( ن ) أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ؛ فَإِنَّ الْقَلَمَ بِهِ يَكُونُ الْكِتَابُ السَّاطِرُ لِلْكَلَامِ : الْمُتَضَمِّنِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ ؛ فَالْإِقْسَامُ وَقَعَ بِقَلَمِ التَّقْدِيرِ وَمَسْطُورِهِ فَتَضَمَّنَ أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ تَنَاسُبَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ . " أَحَدَهُمَا " الْإِحَاطَةُ بِالْحَوَادِثِ قَبْلَ كَوْنِهَا وَأَنَّ مَنْ عَلِمَ بِالشَّيْءِ قَبْلَ كَوْنِهِ أَبْلَغُ مِمَّنْ عَلِمَهُ بَعْدَ كَوْنِهِ فَإِخْبَارُهُ عَنْهُ أَحْكَمُ وَأَصْدَقُ . " الثَّانِي " أَنَّ حُصُولَهُ فِي الْكِتَابَةِ وَالتَّقْدِيرِ يَتَضَمَّنُ حُصُولَهُ فِي الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَالْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ ؛ فَإِقْسَامُهُ بِآخِرِ الْمَرَاتِبِ الْعِلْمِيَّةِ يَتَضَمَّنُ أَوَّلَهَا مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ ؛ وَذَلِكَ غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ وَاسْتِقْرَارُ الْعِلْمِ إذَا صَارَ مَكْتُوبًا . فَلَيْسَ كُلُّ مَعْلُومٍ مَقُولًا وَلَا كُلُّ مَقُولٍ مَكْتُوبًا وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك حِكْمَةَ الْإِخْبَارِ عَنْ الْقَدْرِ السَّابِقِ بِالْكِتَابِ دُونَ الْكَلَامِ فَقَطْ أَوْ دُونَ الْعِلْمِ فَقَطْ . وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ ثَلَاثُ جُمَلٍ : { مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } { وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ } { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } سَلَبَ عَنْهُ النَّقْصَ الَّذِي يَقْدَحُ فِيهِ وَأَثْبَتَ لَهُ الْكَمَالَ الْمَطْلُوبَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا وَإِذَا كَانَ بَاطِلًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعَقْلِ أَوْ عَدَمِهِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْمُمْكِنَةُ فِي نَظَائِرِ هَذَا .

" الْأَوَّلُ " أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا وَلَا عَقْلَ لَهُ . فَهَذَا مَجْنُونٌ لَا ذَمَّ عَلَيْهِ وَلَا يُتَّبَعُ . " الثَّانِي " أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا وَلَهُ عَقْلٌ فَهَذَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ . " الثَّالِثُ " أَنْ يَكُونَ حَقًّا مَعَ الْعَقْلِ فَنَفَى عَنْهُ الْجُنُونَ أَوَّلًا ثُمَّ أَثْبَتَ لَهُ الْأَجْرَ الدَّائِمَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعِقَابِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ؛ وَذَلِكَ يُبَيِّنُ عِظَمَ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ نَفَى عَنْهُ الْبُطْلَانَ . وَأَيْضًا : فَالنَّاسُ نَوْعَانِ : إمَّا مُعَذَّبٌ وَإِمَّا سَلِيمٌ مِنْهُ . وَالسَّلِيمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : إمَّا غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَإِمَّا مُكَلَّفٌ قَدْ عَمِلَ صَالِحًا : مُقْتَصِدًا وَإِمَّا سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ . فَجَعَلَ الْقَسَمَ مُرَتَّبًا عَلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ أَفْضَلُ قَسْمِ السُّعَدَاءِ وَهَذَا غَايَةُ كَمَالِ السَّابِقِينَ بِالْخَيْرَاتِ وَهَذَا تَرْكِيبٌ بَدِيعٌ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ . ثُمَّ قَالَ { فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ } الْآيَاتِ ؛ فَتَضَمَّنَ أَصْلَيْنِ : " أَحَدَهُمَا " أَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ طَاعَةِ هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ فَكَانَ فِيهِ فَوَائِدُ : " مِنْهَا " أَنَّ النَّهْيَ عَنْ طَاعَةِ الْمَرْءِ نَهْيٌ عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِ بِالْأَوْلَى ، فَلَا

يُطَاعُ الْمُكَذِّبُ وَالْحَلَّافُ وَلَا يُعْمَلُ بِمِثْلِ عَمَلِهِمَا كَقَوْلِهِ : { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } وَأَمْثَالِهِ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ قَبُولِ قَوْلِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْخُلُقِ النَّاقِصِ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ التَّخَلُّقِ بِهِ . " وَمِنْهَا " أَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْإِكْرَامِ . وَالِاحْتِرَامِ فَإِنَّ قَوْلَهُ : لَا تَكْذِبْ وَلَا تَحْلِفْ وَلَا تَشْتُمْ وَلَا تَهْمِزْ : لَيْسَ هُوَ مِثْلَ قَوْلِهِ لَا تُطِعْ مَنْ يَكُونُ مُتَلَبِّسًا بِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْرِيفِهِ وَبَرَاءَتِهِ . " وَمِنْهَا " أَنَّ الْأَخْلَاقَ مُكْتَسَبَةٌ بِالْمُعَاشَرَةِ ؛ فَفِيهِ تَحْذِيرٌ عَنْ اكْتِسَابِ شَيْءٍ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ بِالْمُخَالَطَةِ لَهُمْ ؛ فَلْيَأْخُذْ حِذْرَهُ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى مُخَالَطَتِهِمْ لِأَجْلِ دَعْوَتِهِمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . " وَمِنْهَا " أَنَّهُمْ يُبْدُونَ مَصَالِحَ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ فَلَا تُطِعْ مَنْ كَانَ هَكَذَا وَلَوْ أَبْدَاهَا فَإِنَّ الْبَاعِثَ لَهُمْ عَلَى مَا يَأْمُرُونَ بِهِ هُوَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ الْمُقْتَضِي لِلْأَمْرِ فَاسِدًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْ الْآمِرِ فَإِنَّ الْأَمْرَ مَدَارُهُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَصْلَحَةِ وَإِرَادَتِهَا فَإِذَا كَانَ جَاهِلًا لَمْ يَعْلَمْ الْمَصْلَحَةَ وَإِذَا كَانَ الْخُلُقُ فَاسِدًا لَمْ يَرُدَّهَا ؛ وَهَذَا مَعْنًى بَلِيغٌ . "

الْأَصْلُ الثَّانِي " أَنَّهُ ذَكَرَ قِسْمَيْنِ الْمُكَذِّبِينَ وَذَوِي الْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ وَذَلِكَ لِوُجُوهِ : " أَحَدُهَا " أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فَضِدُّهُ التَّكْذِيبُ وَالْعَمَلُ الْفَاسِدُ . و " الثَّانِي " أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مَأْمُورُونَ بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ فَكَمَا أَنَّا مَأْمُورُونَ بِقَبُولِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَالْإِيصَاءِ بِهَا : فَقَدْ نُهِينَا عَنْ قَبُولِ ضِدِّهَا . وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِالْحَقِّ وَالتَّرْكُ لِلصَّبْرِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ إنَّمَا تَحْصُلُ لِعَدَمِ الصَّبْرِ وَالصَّبْرُ ضَابِطُ الْأَخْلَاقِ الْمَأْمُورِ بِهَا ؛ وَلِهَذَا خَتَمَ السُّورَةَ بِهِ وَقَالَ : { وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا } فَكَانَ فِي سُورَةِ الْعَصْرِ مَا بُيِّنَ هُنَا . فَنَهَاهُ عَنْ طَاعَةِ الَّذِي فِي خُسْرٍ ضِدَّ الَّذِي لِلْمُؤْمِنِينَ الْآمِرِينَ بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ وَاَلَّذِي فِي خُسْرٍ هُوَ الْكَذَّابُ الْمَهِينُ فَهُوَ تَارِكٌ لِلْحَقِّ وَالصَّبْرِ .
" الْأَصْلُ الثَّالِثُ " (1) : أَنَّ صَلَاحَ الْإِنْسَانِ فِي الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُوَ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ الَّذِي يَصْعَدُ إلَى اللَّهِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ جِمَاعُ الْعَدْلِ وَجِمَاعُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ : هُوَ الظُّلْمُ . كَمَا قَرَّرَ فِي غَيْرِ هَذَا . قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } وَالتَّكْذِيبُ بِالْحَقِّ صَادِرٌ إمَّا عَنْ جَهْلٍ وَإِمَّا عَنْ ظُلْمٍ وَهُوَ الْجَاحِدُ

الْمُعَانِدُ وَصَاحِبُ الْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ إنَّمَا يُوقِعُهُ فِيهَا أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا الْجَهْلُ بِمَا فِيهَا وَمَا فِي ضِدِّهَا فَهَذَا جَاهِلٌ وَإِمَّا الْمَيْلُ وَالْعُدْوَانُ وَهُوَ الظُّلْمُ فَلَا يَفْعَلُ السَّيِّئَاتِ إلَّا جَاهِلٌ بِهَا أَوْ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا مُتَلَذِّذٌ بِهَا وَهُوَ الظَّالِمُ . فَنَهَاهُ عَنْ طَاعَةِ الْجَاهِلِينَ وَالظَّالِمِينَ . وَقَوْلُهُ : { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ } الْآيَةَ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ ادِّهَانَهُ لِيَدَّهِنُوا فَهُمْ لَا يَأْمُرُونَهُ نُصْحًا ؛ بَلْ يُرِيدُونَ مِنْهُ الِادِّهَانَ وَيَتَوَسَّلُونَ بِادِّهَانِهِ إلَى ادِّهَانِهِمْ ويستعملونه لِأَغْرَاضِهِمْ فِي صُورَةِ النَّاصِحِ ؛ وَذَلِكَ لِمَا نَشَأَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي قُلُوبِهِمْ غَايَةٌ يَنْتَهُونَ إلَيْهَا مِنْ الْحَقِّ ؛ لَا فِي الْحَقِّ الْمَقْصُودِ وَلَا الْحَقِّ الْمَوْجُودِ لَا خَبَرًا عَنْهُ وَلَا أَمْرًا بِهِ وَلَا اعْتِقَادًا وَلَا اقْتِصَادًا . ثُمَّ قَالَ : { وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ } إلَخْ . ذَكَرَ أَرْبَعَ آيَاتٍ كُلَّ آيَتَيْنِ جَمَعَتْ نَوْعًا مِنْ الْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ الْمَذْمُومَةِ وَجَمَعَ فِي كُلِّ آيَةٍ بَيْنَ النَّوْعِ الْمُتَشَابِهِ خَبَرًا وَطَلَبًا فَالْحَلَّافُ مَقْرُونٌ بِالْمَهِينِ ؛ لِأَنَّ الْحَلَّافَ هُوَ كَثِيرُ الْحَلِفِ وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْخَبَرِ أَوْ الطَّلَبِ فَهُوَ إمَّا تَصْدِيقٌ أَوْ تَكْذِيبٌ أَوْ حَضٌّ أَوْ مَنْعٌ ؛ وَإِنَّمَا يُكْثِرُ الرَّجُلُ ذَلِكَ فِي خَبَرِهِ إذَا احْتَاجَ أَنْ يَصَدَّقَ وَيُوثَقَ بِخَبَرِهِ . وَمَنْ كَانَ كَثِيرَ الْحَلِفِ كَانَ كَثِيرَ الْكَذِبِ فِي الْعَهْدِ مُحْتَاجًا إلَى النَّاسِ فَهُوَ مِنْ أَذَلِّ النَّاسِ { حَلَّافٍ مَهِينٍ } حَلَّافٌ فِي أَقْوَالِهِ . مَهِينٌ فِي أَفْعَالِهِ .

وَأَمَّا الْهَمَّازُ الْمَشَّاءُ بِنَمِيمِ : فَالْهَمْزُ أَقْوَى مِنْ اللَّمْزِ وَأَشَدُّ - سَوَاءٌ كَانَ هَمْزَ الصَّوْتِ أَوْ هَمْزَ حَرَكَةٍ - وَمِنْهُ " الْهَمْزَةُ " وَهِيَ نَبْرَةٌ مِنْ الْحَلْقِ مِثْلُ التَّهَوُّعِ وَمِنْهُ الْهَمْزُ بِالْعَقِبِ كَمَا فِي حَدِيثِ زَمْزَمَ : { أَنَّهُ هَمْزُ جِبْرِيلَ بِعَقِبِهِ } وَالْفَعَّالُ : مُبَالَغَةٌ فِي الْفَاعِلِ . فَالْهَمَّازُ الْمُبَالِغُ فِي الْعَيْبِ نَوْعًا وَقَدْرًا . الْقُدْرَةُ مِنْ صُورَةِ اللَّفْظِ وَهُوَ الْفَعَّالُ . وَالنَّوْعُ مِنْ مَادَّةِ اللَّفْظِ وَهُوَ الْهَمْزَةُ . وَالْمَشَّاءُ بِنَمِيمِ هُوَ مِنْ الْعَيْبِ وَلَكِنَّهُ عَيْبٌ فِي الْقَفَا فَهُوَ عَيْبُ الضَّعِيفِ الْعَاجِزِ . فَذَكَرَ الْعَيَّابَ بِالْقُوَّةِ وَالْعَيَّابَ بِالضَّعْفِ وَالْعَيَّابَ فِي مَشْهَدٍ وَالْعَيَّابَ فِي مَغِيبٍ . وَأَمَّا { مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } فَإِنَّ الظُّلْمَ نَوْعَانِ : تَرْكُ الْوَاجِبِ وَهُوَ مَنْعُ الْخَيْرِ وَتَعَدٍّ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الْمُعْتَدِي . وَأَمَّا الْأَثِيمُ مَعَ الْمُعْتَدِي فَكَقَوْلِهِ : { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } . وَأَمَّا الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ : فَهُوَ الْجَبَّارُ الْفَظُّ الْغَلِيظُ الَّذِي قَدْ صَارَ مِنْ شِدَّةِ تَجَبُّرِهِ وَغِلَظِهِ مَعْرُوفًا بِالشَّرِّ مَشْهُورًا بِهِ لَهُ زَنَمَةٌ كَزَنَمَةِ الشَّاةِ . وَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ الْحَلَّافُ الْمَهِينُ الْهَمَّازُ الْمَشَّاءُ بِنَمِيمِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ فِي الْأَقْوَالِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْمَنَّاعُ الْمُعْتَدِي الْأَثِيمُ الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ مِنْ جِنْسٍ وَهُوَ فِي الْأَفْعَالِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ الْأَقْوَالِ . فَالْأَوَّلُ الْغَالِبُ عَلَى جَانِبِ الْأَعْرَاضِ وَالثَّانِي الْغَالِبُ عَلَى جَانِبِ

الْحُقُوقِ فِي الْأَحْوَالِ وَالْمَنَافِعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَوَصَفَهُ بِالظُّلْمِ وَالْبُخْلِ وَالْكِبْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } الْآيَةَ . وَقَوْلُهُ : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } فِيهِ إطْلَاقٌ يَتَضَمَّنُ الْوَسْمَ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا أَيْضًا . فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلصَّالِحِينَ سيما وَجَعَلَ لِلْفَاجِرِينَ سيما . قَالَ تَعَالَى : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } وَقَالَ يَظْهَرُ : { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } الْآيَةَ . فَجَعَلَ الْإِرَادَةَ وَالتَّعْرِيفَ بِالسِّيمَا الَّذِي يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ مُعَلَّقًا عَلَى الْمَشِيئَةِ وَأَقْسَمَ عَلَى التَّعْرِيفِ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفُوا فِي أَصْوَاتِهِمْ وَكَلَامِهِمْ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ لَحْنُ قَوْلِهِمْ وَهَذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ فِي النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْفِرَاسَةِ فِي الْأَقْوَالِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَظْهَرُ فِيهَا مِنْ النَّوَاقِضِ وَالْفُحْشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَأَمَّا ظُهُورُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ فَقَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ ظُهُورَ مَا فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ عَلَى فَلَتَاتِ لِسَانِهِ أَقْوَى مِنْ ظُهُورِهِ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ ؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ تُرْجُمَانُ الْقَلْبِ فَإِظْهَارُهُ لِمَا أَكَنَّهُ أَوْكَدُ ؛ وَلِأَنَّ دَلَالَةَ اللِّسَانِ قَالِيَةٌ وَدَلَالَةَ الْوَجْهِ حَالِيَّةٌ . وَالْقَوْلُ أَجْمَعُ وَأَوْسَعُ لِلْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقَلْبِ مِنْ الْحَالِ ؛ وَلِهَذَا فَضَّلَ مَنْ فَضَّلَ كَابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ السَّمْعَ عَلَى الْبَصَرِ .

وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ السَّمْعَ أَوْسَعُ وَالْبَصَرَ أَخَصُّ وَأَرْفَعُ وَإِنْ كَانَ إدْرَاكُ السَّمْعِ أَكْثَرَ فَإِدْرَاكُ الْبَصَرِ أَكْمَلُ ؛ وَلِهَذَا أَقْسَمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَهُمْ بِسَمْعِهِ وَأَمَّا إدْرَاكُهُ إيَّاهُمْ بِالْبَصَرِ بِسِيمَاهُمْ فَقَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَسِمَ صَاحِبَ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْخَبِيثَةِ عَلَى خُرْطُومِهِ وَهُوَ أَنْفُهُ الَّذِي هُوَ عُضْوُهُ الْبَارِزُ الَّذِي يَسْبِقُ الْبَصَرَ إلَيْهِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِ ؛ لِتَكُونَ السِّيمَا ظَاهِرَةً مِنْ أَوَّلِ مَا يَرَى وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْفَجَرَةِ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ وَدَعَهُمْ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِمْ وَفُحْشِهِمْ فَإِنَّ لَهُمْ سِيمَا مِنْ شَرٍّ يُعْرَفُونَ بِهَا . وَكَذَلِكَ الْفَسَقَةُ وَأَهْلُ الرِّيَبِ . وَقَوْلُهُ : { إنَّا بَلَوْنَاهُمْ } إلَخْ . فِيهِ بَيَانُ حَالِ الْبُخَلَاءِ وَمَا يُعَاقَبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ مِنْ تَلَفِ الْأَمْوَالِ إمَّا إغْرَاقًا وَإِمَّا إحْرَاقًا وَإِمَّا نَهْبًا وَإِمَّا مُصَادَرَةً وَإِمَّا فِي شَهَوَاتِ الْغَيِّ وَإِمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَاقَبُ بِهِ الْبُخَلَاءُ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ الْحَقَّ . وَلَيْسَ إقْدَامٌ فِي صَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ قَوْلُهُ { مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ } وَهُوَ أَحَدُ نَوْعَيْ الظُّلْمِ كَمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنْ نُفُوسِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ : { يَا وَيْلَنَا إنَّا كُنَّا طَاغِينَ } وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } . وَتَضَمُّنُ عُقُوبَةِ الظَّالِمِ الْمَانِعِ لِلْحَقِّ أَوْ مُتَعَدِّي الْحَقِّ كَمَا يُعَاقِبُ اللَّهُ مَانِعَ الزَّكَاةِ وَهُوَ مَنَّاعٌ الْخَيْرَ وَآكِلَ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ : الَّذِي هُوَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ يُعَاقِبُهُ بِنَقِيضِ

قَصْدِهِ فَهُنَا أَخْبَرَ بِعُقُوبَةِ تَارِكِ الْحُقُوقِ وَفِي الْبَقَرَةِ بِعُقُوبَةِ الْمُرَابِي وَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ تَتَنَاوَلُ مَنْ يَتْرُكُ هَذَا الْوَاجِبَ وَفَعَلَ هَذَا الْمُحَرَّمَ مِنْ الْمُحْتَالِينَ كَمَا أَخْبَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَكَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي أَهْلِ مَنْعِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ مِنْ الْعُقُوبَاتِ وَالْمَثُلَاتِ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ بِبَابِ مِنْ الْخَيْرِ وَأَمَرَهُ بِالْإِنْفَاقِ فِيهِ فَبَخِلَ عَاقَبَهُ بِبَابِ مِنْ الشَّرِّ يَذْهَبُ فِيهِ أَضْعَافُ مَا بَخِلَ بِهِ وَعُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ مُدَّخَرَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِعُقُوبَةِ الْمُتَكَبِّرِ الَّذِي هُوَ مِنْ نَوْعِ الْعُتُلِّ الزَّنِيمِ الَّذِي يُدْعَى إلَى السُّجُودِ وَالطَّاعَةِ فَيَأْبَى ؛ فَفِيهَا عُقُوبَةُ تَارِكِ الصَّلَاةِ وَتَارِكِ الزَّكَاةِ . فَتَارِكُ الصَّلَاةِ هُوَ الْمُعْتَدِي الْأَثِيمُ الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ . وَتَارِكُ الزَّكَاةِ الظَّالِمُ الْبَخِيلُ . وَخَتَمَهَا بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ الَّذِي هُوَ جِمَاعُ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ فِي قَوْلِهِ : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } وَذَلِكَ نَصٌّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا يَنَالُهُ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ وَعَلَى الْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ . وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَوَّلِ أَشَدُّ وَصَاحِبُ الْحُوتِ ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ لِأَجْلِ الْأَمْرِ السَّمَاوِيِّ وَلِهَذَا قَالَ : { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } إلَخْ فَآخِرُهَا مُنْعَطِفٌ عَلَى أَوَّلِ مَا فِي قَوْلِهِ : { مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } وَقَوْلِهِ : { وَيَقُولُونَ إنَّهُ لَمَجْنُونٌ } وَالْإِزْلَاقُ بِالْبَصَرِ هُوَ الْغَايَةُ فِي الْبُغْضِ وَالْغَضَبِ وَالْأَذَى . فَالصَّبْرُ

عَلَى ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْحِلْمِ وَهُوَ احْتِمَالُ أَذَى الْخَلْقِ وَفِي ذَلِكَ مَا يَدْفَعُ كَيْدَهُمْ وَشَرَّهُمْ . وَمَا ذَكَرَهُ فِي قِصَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ أَمْرِ السَّخَاءِ وَالْجُودِ وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ الْحِلْمِ وَالصَّبْرِ : هُوَ جِمَاعُ الْخُلُقِ الْحَسَنِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ } الْآيَةَ كَمَا قِيلَ :
بِحِلْمِ وَبَذْلٍ سَادَ فِي قَوْمِهِ الْفَتَى * * * وَكَوْنُك إيَّاهُ عَلَيْك يَسِيرُ
فَالْإِحْسَانُ إلَى النَّاسِ بِالْمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ وَاحْتِمَالُ أَذَاهُمْ كَالسَّخَاءِ الْمَحْمُودِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } فَفِي أَخْذِهِ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ احْتِمَالُ أَذَاهُمْ وَهُوَ نَوْعَانِ : تَرْكُ مَا لَك مِنْ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ فَأَخْذُ الْعَفْوِ أَنْ لَا تُطْلَبَ مَا تَرَكُوهُ مِنْ حَقِّك وَأَنْ لَا تَنْهَاهُمْ فِيمَا تَعَدَّوْا فِيهِ الْحَدَّ فِيك وَإِذَا لَمْ تَأْمُرْهُمْ وَلَمْ تَنْهَهُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ (1) .

وَقَالَ : هَذِهِ تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ فِيهَا .
مِنْهَا قَوْلُهُ : { بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ } حَارَ فِيهَا كَثِيرٌ وَالصَّوَابُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ . قَالَ مُجَاهِدٌ : الشَّيْطَانُ . وَقَالَ الْحَسَنُ : هُمْ أَوْلَى بِالشَّيْطَانِ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ . فَبَيَّنَ الْمُرَادَ فَإِنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَلَى اللَّفْظِ كَعَادَةِ السَّلَفِ فِي الِاخْتِصَارِ مَعَ الْبَلَاغَةِ وَفَهْمِ الْمَعْنَى . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : الْمَجْنُونُ . فَإِنَّ مَنْ كَانَ بِهِ الشَّيْطَانُ فَفِيهِ الْجُنُونُ . وَعَنْ الْحَسَنِ : الضَّالُّ . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِالْمَجْنُونِ الَّذِي يَخْرِقُ ثِيَابَهُ وَيَهْذِي ؛ بَلْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالَفَ أَهْلَ الْعَقْلِ فِي نَظَرِهِمْ كَمَا يُقَالُ مَا لِفُلَانِ عَقْلٌ . وَمِثْلُ هَذَا رَمَوْا بِهِ أَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ كَقَوْلِهِ : { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ } وَمِثْلُهُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَثِيرٌ يَسْخَرُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَيَرْمُونَهُمْ بِالْجُنُونِ وَالْعَظَائِمِ الَّتِي هُمْ أَوْلَى بِهَا مِنْهُمْ . قَالَ الْحَسَنُ لَقَدْ رَأَيْت رِجَالًا لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ لَقُلْتُمْ مَجَانِينَ وَلَوْ رَأَوْكُمْ لَقَالُوا هَؤُلَاءِ شَيَاطِينُ وَلَوْ رَأَوْا خِيَارَكُمْ لَقَالُوا هَؤُلَاءِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ وَلَوْ رَأَوْا شِرَارَكُمْ لَقَالُوا هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ

بِيَوْمِ الْحِسَابِ . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ ؛ يَصِفُونَ أَهْلَ زَمَانِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ مَنْ تَقَدَّمَ فَمَا الظَّنُّ بِأَهْلِ زَمَانِنَا . وَاَلَّذِينَ لَمْ يَفْهَمُوا هَذَا . قَالُوا الْبَاءُ زَائِدَةٌ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ . وَهَذَا كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ : { سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ } { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } الْآيَاتِ . { إنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ } الْآيَةَ .

وَقَالَ :
فَصْلٌ
وَلِجَمَاعَةِ مِنْ الْفُضَلَاءِ كَلَامٌ فِي قَوْله تَعَالَى { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ } { وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } لِمَ ابْتَدَأَ بِالْأَخِ وَمِنْ عَادَة الْعَرَبِ أَنْ يُبْدَأَ بِالْأَهَمِّ ؟
فَلَمَّا سُئِلْت عَنْ هَذَا قُلْت : إنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ فَتَارَةً يَقْتَضِي الِابْتِدَاءَ بِالْأَعْلَى وَتَارَةً بِالْأَدْنَى وَهُنَا الْمُنَاسَبَةُ تَقْتَضِي الِابْتِدَاءَ بِالْأَدْنَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ فِرَارِهِ عَنْ أَقَارِبِهِ مُفَصَّلًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَلَوْ ذَكَرَ الْأَقْرَبَ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِ الْأَبْعَدِ فَائِدَةٌ طَائِلَةٌ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا فَرَّ مِنْ الْأَقْرَبِ فَرَّ مِنْ الْأَبْعَدِ وَلَمَا حَصَلَ لِلْمُسْتَمِعِ اسْتِشْعَارُ الشِّدَّةِ مُفَصَّلَةً فَابْتُدِئَ بِنَفْيِ الْأَبْعَدِ مُنْتَقِلًا مِنْهُ إلَى الْأَقْرَبِ فَقِيلَ أَوَّلًا . { يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ } فَعُلِمَ أَنَّ ثَمَّ شِدَّةً تُوجِبُ ذَلِكَ . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَفِرَّ مِنْ غَيْرِهِ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَفِرَّ . فَقِيلَ { وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } فَعُلِمَ أَنَّ الشِّدَّةَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ تُوجِبُ الْفِرَارَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ . ثُمَّ قِيلَ { وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ } فَعُلِمَ أَنَّهَا طَامَّةٌ بِحَيْثُ تُوجِبُ الْفِرَارَ

مِمَّا لَا يَفِرُّ مِنْهُمْ إلَّا فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَهِيَ الزَّوْجَةُ وَالْبَنُونَ وَلَفْظُ صَاحِبَتِهِ أَحْسَنُ مِنْ زَوْجَتِهِ . قُلْت : فَهَذَا فِي الْخَبَرِ وَنَظِيرُهُ فِي الْأَمْرِ قَوْلُهُ : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وَقَوْلُهُ : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } فَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ نَوْعَانِ عَلَى التَّرْتِيبِ . فَيُقَدَّمُ فِيهِ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى كَمَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْيَمِينِ وَعَلَى التَّخْيِيرِ فَابْتَدَأَ فِيهَا بِأَخَفِّهَا لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ كَانَ مُجْزِيًا لَا نَقْصَ فِيهِ وَإِنْ ذَكَرَ الْأَعْلَى بَعْدَهُ لِلتَّرْغِيبِ فِيهِ لَا لِلْإِيجَابِ فَانْتِقَالُ الْقَلْبِ مِنْ الْعَمَلِ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى أَوْلَى مِنْ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْأَعْلَى ثُمَّ يُذْكَرُ لَهُ الْأَدْنَى فَيَزْدَرِيَهُ الْقَلْبُ . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ الْأَعْلَى ابْتِدَاءً كَانَ لَنَا فِي تَرْتِيبِهِ رِوَايَتَانِ وَإِذَا نَصَرْنَا الْمَشْهُورَ قُلْنَا قَدَّمَ فِيهِ الْأَعْلَى لِأَنَّ الْأَدْنَى بِقُدْرَتِهِ فِي قَوْلِهِ : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } . وَلِهَذَا لَمَّا ابْتَدَأَ بِالْأَثْقَلِ فِي حُدُودِ الْمُحَارِبِينَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا عَلَى التَّخْيِيرِ وَلَا عَلَى التَّرْتِيبِ ؛ بَلْ بِحَسَبِ الْجَرَائِمِ وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ الْوَاجِبُ أَوْ الْجَزَاءُ هَذَا

أَوْ هَذَا أَوْ هَذَا كَمَا قَالَ : فَكَفَّارَتُهُ هَذَا أَوْ هَذَا أَوْ هَذَا وَكَمَا قَالَ : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وَإِنَّمَا قَالَ : إنَّمَا جَزَاؤُهُمْ هَذَا أَوْ هَذَا أَوْ هَذَا فَالْكَلَامُ فِيهِ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ : تَقْدِيرُهُ : مَا جَزَاؤُهُمْ إلَّا أَحَدُ الثَّلَاثَةِ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } أَيْ مَا هِيَ إلَّا لِهَؤُلَاءِ . وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْخِطَابِ يُثْبِتُ لِلْمَذْكُورِ مَا نَفَاهُ عَنْ غَيْرِهِ فَلَمَّا نَفَى الْجَوَازَ لِغَيْرِ الْأَصْنَافِ أَثْبَتَ الْجَوَازَ لَا الْوُجُوبَ وَلَا الِاسْتِحْقَاقَ كَمَا فَهِمَهُ مَنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَ الِاسْتِيعَابِ مِنْ ظَاهِرِ الْخِطَابِ وَهُنَا نَفَى أَنْ يَكُونَ مَا سِوَى أَحَدِ هَذِهِ جَزَاءً فَأَثْبَتَ أَنْ يَكُونَ جَزَاءُ الْمُحَارِبِ أَحَدَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ . وَالْمُحَارِبُونَ جُمْلَةً لَيْسُوا وَاحِدًا فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ . الْآيَةِ وَبَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُحَارِبِينَ ذُكِرُوا بِاسْمِ الْجَمْعِ وَمُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ تَقْتَضِي تَوْزِيعَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ فَلَوْ قِيلَ : جَزَاءُ الْمُعْتَدِينَ إمَّا الْقَتْلُ وَإِمَّا الْقَطْعُ وَإِمَّا الْجَلْدُ وَإِمَّا الصَّلْبُ وَإِمَّا الْحَبْسُ : لَمْ يَقْتَضِ هَذَا التَّخْيِيرَ فِي كُلِّ مُعْتَدٍ بَيْنَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بَلْ تَوْزِيعُ الْعُقُوبَاتِ عَلَى أَنْوَاعِهِمْ كَذَلِكَ إذَا قِيلَ : جَزَاءُ الْمُحَارِبِينَ كَذَا أَوْ كَذَا أَوْ كَذَا أَوْ كَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { فَكَفَّارَتُهُ } وَقَوْلُهُ : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ }

الثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ جَوَازِ مَا سِوَى [ ذَلِكَ ] (1) وَإِثْبَاتُ ضِدِّهِ وَهِيَ جَوَازُ الْمَذْكُورِ فِي الْجُمْلَةِ وَذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا أَوْ مُعَيَّنًا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ إلَّا مُجَرَّدَ الْإِثْبَاتِ ؛ فَإِنَّ إثْبَاتَهُ بِصِيغَةِ التَّخْيِيرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ . وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي مَوَادِّ الْإِثْبَاتِ الْمَحْضِ أَوْ مَوَادِّ الْحَصْرِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخَصْمِ الْمُدَّعِي : { شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ } وَفِي لَفْظٍ : { لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ } فَحَصَرَ طَرِيقَ الْحَقِّ وَلَيْسَ الْغَرَضُ التَّخْيِيرَ . وَكَذَلِكَ يُقَالُ : الْوَاجِبُ فِي الْقَتْلِ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِوُضُوءِ أَوْ تَيَمُّمٍ وَلَا بُدَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ الظُّهْرِ أَوْ الْجُمُعَةِ وَلَا يُتْرَكُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُعَاهَدٌ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ بَعْضُ الْمَقْصُودِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ نَفْسَ مَا سِوَى الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ مَدْلُولُهُ إثْبَاتًا يَقْتَضِي النَّفْيَ وَهُوَ الْوُجُودُ الْمُشْتَرَكُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا أَوْ مُخَيَّرًا وَأَمَّا إذَا أُثْبِتَتْ ابْتِدَاءً فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُخَيَّرَةً بَلْ مُعَيَّنَةً وَلَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ كَانَ تَلْبِيسًا . " الْوَجْهُ الثَّالِثُ " وَهُوَ لَطِيفٌ أَنْ يُقَالَ : مَفْهُومُ ( أَوْ ) إثْبَاتُ التَّقْسِيمِ الْمُطْلَقِ كَمَا قُلْنَا : إنَّ الْوَاوَ مَفْهُومُهَا التَّشْرِيكُ الْمُطْلَقُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَأَمَّا التَّرْتِيبُ : فَلَا يَنْفِيهِ وَلَا يُثْبِتُهُ ؛ إذْ الدَّالُّ

عَلَى مُجَرَّدِ الْمُشْتَرِكِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُمَيَّزِ فَكَذَلِكَ ( أَوْ ) هِيَ لِلتَّقْسِيمِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ ثُبُوتُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ . أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّوْزِيعِ وَهُوَ ثُبُوتُ هَذَا فِي حَالٍ وَهَذَا فِي حَالٍ كَمَا أَنَّهُمْ قَالُوا : هِيَ فِي الطَّلَبِ يُرَادُ بِهَا الْإِبَاحَةُ تَارَةً كَقَوْلِهِمْ : تَعَلَّمْ النَّحْوَ أَوْ الْفِقْهَ وَالتَّخْيِيرُ أُخْرَى . كَقَوْلِهِمْ : كُلْ السُّمْكَ أَوْ اللَّبَنَ وَأَرَادُوا بِالْإِبَاحَةِ جَوَازَ الْجَمْعِ . وَهِيَ فِي نَفْسِهَا تُثْبِتُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ وَهُوَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ . إمَّا مَعَ إبَاحَةِ الْآخَرِ أَوْ حَظْرِهِ فَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ بِنَفْسِهَا بَلْ مِنْ جِهَةِ الْمَادَّةِ الْخَاصَّةِ ؛ وَلِهَذَا جَمَعْنَا بَيْنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَطْعِ عَلَى رِوَايَةٍ فَإِنَّ ( أَوْ لَا تَنْفِي ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ حَرْفٌ أَوْ يَدُلُّ عَلَى مُجَرَّدِ إثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَاتِ فَهُنَا مَسْلَكَانِ : " أَحَدُهُمَا " أَنْ يُقَالَ : إذَا كَانَتْ فِي مَادَّةِ الْإِيجَابِ أَفَادَتْ التَّخْيِيرَ وَإِذَا كَانَتْ فِي مَادَّةِ الْجَوَازِ أَفَادَتْ الْقَدْرَ الْمُشْتَرِكَ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْ النُّحَاةِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مَعَانِي الْحُرُوفِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : يُرَادُ بِهَا تَارَةً الْإِذْنَ فِي أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مَعَ حَظْرِ الْآخَرِ وَتَارَةً الْإِذْنَ فِي أَحَدِهِمَا وَإِنْ ضَمَّ إلَيْهِ الْآخَرَ كَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَمْثِلَةِ . وَحِينَئِذٍ فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي مَادَّةِ الْجَوَازِ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْجَوَازُ . فَيَكُونُ

الْمُثْبَتُ هُوَ الْجَوَازَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ بِخِلَافِ آيَةِ الْكَفَّارَةِ ؛ فَإِنَّهَا فِي مَادَّةِ الْوُجُوبِ . " الْمَسْلَكُ الثَّانِي " أَنْ يُقَالَ : لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَادَّتَيْنِ الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ ؛ بَلْ وَفِي الْوُجُوبِ قَدْ يُبَاحُ الْجَمْعُ . كَمَا لَوْ كَفَرَ بِالْجَمِيعِ مَعَ الْغِنَى ؛ لَكِنْ يُقَالُ : دَلَالَتُهَا فِي الْجَمِيعِ عَلَى التَّفْرِيقِ الْمُطْلَقِ ضِدُّ دَلَالَةِ ( الْوَاوِ . ثُمَّ إنْ لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَرْتِيبٍ وَلَا تَعْيِينٍ : جَازِ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخِصَالِ لِعَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ وَالتَّرْتِيبِ لَا لِلدَّلِيلِ الْمُنَافِي لِذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } فَإِنَّ الرَّقَبَةَ الْمُعَيَّنَةَ يَجْزِي عِتْقُهَا ؛ كَثُبُوتِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فِيهَا وَعَدَمِ مَا يُوجِبُ الْمُعَيَّنَ لَا لِدَلِيلِ دَلَّ عَلَى نَفْسِ الْمُعَيَّنِ ؛ وَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّعْيِينِ وَالتَّرْتِيبِ : قُلْنَا بِهِ كَمَا نَقُولُ بِتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَلَيْسَ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ رَفْعًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ بَلْ ضَمُّ حُكْمٍ آخَرَ إلَيْهِ وَهَذَا مَسْلَكٌ حَسَنٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَنَظَائِرِهِ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُثْبِتُهُ اللَّفْظُ وَبَيْنَ مَا يَنْفِيهِ فَإِذَا قُلْنَا فِي الْمُحَارِبِينَ بِالتَّعْيِينِ لِدَلِيلِ خَبَرِيٍّ أَوْ قِيَاسِيٍّ كَانَ كَالْقَوْلِ بِالتَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ وَالْإِيمَانِ فِي الرَّقَبَةِ وَنَحْوِهِمَا .

سُورَةُ التَّكْوِيرِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
قَوْلُهُ : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } { بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ النَّفْسِ إلَّا بِذَنْبِ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ قَتْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُمَا فَلَا ذَنْبَ لَهُمَا وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَكَّ فِيهَا فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ صِبْيَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَمَّا الْعِلَّةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النِّسَاءِ فَكَوْنُهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَوْ كَوْنُهُمْ يَصِيرُونَ لِلْمُسْلِمِينَ . فَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِهَذَا وَحْدَهُ فِي الصَّبِيِّ فَلَا وَالْآيَةُ تَقْتَضِي ذَمَّ قَتْلِ كُلِّ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ وَسُؤَالَهَا تَوْبِيخَ قَاتِلِهَا وَقَوْلُهُ فِي السُّورَةِ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } هُوَ جِبْرِيلُ وَهُوَ نَظِيرُ مَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ تَنَزَّلَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ لَا الشَّيَاطِينُ ؛ بِخِلَافِ الْإِفْكِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ تَنْزِلُ بِهِ الشَّيَاطِينُ فَوَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَفَّاكِ وَالشَّاعِرِ وَالْكَاهِنِ وَبَيْنَ الْمَلَكِ وَالشَّيْطَانِ وَالْعُلَمَاءِ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أَخْبَرَ أَنَّ مَشِيئَتَهُمْ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَشِيئَتِهِ وَمَعَ هَذَا فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ وُجُودَ الْفِعْلِ مِنْهُمْ ؛ إذْ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ جَعَلَهُمْ شَائِينَ وَلَا يَقَعُ الْفِعْلُ مِنْهُمْ حَتَّى يَشَاؤُهُ مِنْهُمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } { وَمَا يَذْكُرُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ إرَادَةِ الْفِعْلِ مِنْهُمْ حَتَّى يُرِيدَ مِنْ نَفْسِهِ إعَانَتَهُمْ وَتَوْفِيقَهُمْ . فَهُنَا أَرْبَعُ إرَادَاتٍ : إرَادَةُ الْبَيَانِ وَإِرَادَةُ الْمَشِيئَةِ وَإِرَادَةُ الْفِعْلِ وَإِرَادَةُ الْإِعَانَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُورَةُ الْأَعْلَى
قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَالَ ابْنُ فورك فِي كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ إلَى أَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني يَحْكِي مَا جَرَى لَهُ قَالَ : وَجَرَى فِي كَلَامِ السُّلْطَانِ : أَلَيْسَ تَقُولُ : إنَّهُ يُرَى لَا فِي جِهَةٍ ؟ فَقُلْت : " نَعَمْ يُرَى لَا فِي جِهَةٍ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَرَى نَفْسَهُ لَا فِي جِهَةٍ وَلَا مِنْ جِهَةٍ وَيَرَاهُ غَيْرُهُ عَلَى مَا يَرَى وَرَأَى نَفْسَهُ وَالْجِهَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطِ فِي الرُّؤْيَةِ . وَقُلْت أَيْضًا : " الْمَرْئِيَّاتُ الْمَعْقُولَةُ فِيمَا بَيْنَنَا هَكَذَا نَرَاهَا فِي جِهَةٍ وَمَحَلٍّ . وَالْقَضَاءُ بِمُجَرَّدِ الْمَعْهُودِ لَا يُمْكِنُ دُونَ السَّيْرِ وَالْبَحْثِ لِأَنَّا كَمَا لَا نَرَى إلَّا فِي جِهَةٍ وَمَحَلٍّ كَذَلِكَ لَمْ نَرَ إلَّا مُتَلَوِّنًا ذَا قَدْرٍ وَحَجْمٍ يَحْتَمِلُ الْمِسَاحَةَ وَالثِّقَلَ وَلَا يَخْلُو مِنْ

حَرَارَةٍ وَرُطُوبَةٍ أَوْ يُبُوسَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَرْضًا لَا يَقْبَلُ التَّثْنِيَةَ وَالتَّأْلِيفَ وَغَيْرَ ذَلِكَ . وَمَعَ هَذَا فَلَا عِبْرَةَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا " . قَالَ : ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّ السُّلْطَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ وَثَانِي يَوْمٍ يُكَرِّرُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَجْلِسِهِ : " كَيْفَ يُعْقَلُ شَيْءٌ لَا فِي جِهَةٍ ؟ " . وَمَا شَغَلَ الْقَلْبَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَتَرَبَّى عَلَيْهِ فَإِنَّ قَلْعَهُ صَعْبٌ وَاَللَّهُ الْمُعِينُ . غَيْرَ أَنَّهُ فَرِحَتْ الكَرَّامِيَة بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ . فَلَمَّا رَجَعْت إلَى الْبَيْتِ فَإِذَا أَنَا بِرُقْعَةِ فِيهَا مَكْتُوبٌ : " الْأُسْتَاذُ أَدَامَ اللَّهُ سَلَامَتَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ إنَّ الْبَارِيَ لَيْسَ فِي جِهَةٍ فَكَيْفَ يُرَى لَا فِي جِهَةٍ ؟ " فَكَتَبْت : " خَبَرُ الرُّؤْيَةِ صَحِيحٌ وَهِيَ وَاجِبَةٌ كَمَا بَشَّرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُرَى لَا فِي جِهَةٍ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تضامون فِي رُؤْيَتِهِ } وَمَعْنَاهُ : لَا تضمكم جِهَةٌ وَاحِدَةٌ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنَّهُ لَا فِي جِهَةٍ " وَكَلَامًا طَوِيلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَلَأْت ظَهْرَ الرُّقْعَةِ وَبَطْنَهَا مِنْهُ . فَلَمَّا رُدَّتْ إلَيْهِ أَنْفَذَهَا إلَى حَاكِمِ الْبَلَدِ وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الناصحي وَاسْتَفْتَاهُ فِيمَا قُلْته . فَجَمَعَ قَوْمًا مِنْ الْحَنَفِيَّةِ والكَرَّامِيَة فَكَتَبَ هُوَ أَعَزَّك اللَّهُ بِأَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي جِهَةٍ مُبْتَدَعٌ ضَالُّ وَكَتَبَ أَبُو حَامِدٍ الْمُعْتَزِلِيُّ مِثْلَهُ وَكَتَبَ إنْسَانٌ بسطامي مُؤَدَّبٌ فِي دَارِ

صَاحِبِ الْجَيْشِ مِثْلَهُ فَرَدُّوا عَلَيْهِ . فَأَنْفِذْ إلَيَّ مَا فِي ذَلِكَ الْمَحْضَرِ الَّذِي فِيهِ خُطُوطُهُمْ وَكَتَبَ إلَيَّ رُقْعَةً وَقَالَ فِيهَا : " إنَّهُمْ كَتَبُوا هَكَذَا فَمَا تَقُولُ فِي هَذِهِ الْفَتَاوَى ؟ " فَقُلْت : إنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَجِبُ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا بِتَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِلْعَالِمِ . فَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْأُصُولِ وَالْفَتَاوَى فِيهَا فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّا لَا نُحْسِنُ ذَلِكَ . قُلْت : قَوْلُ هَؤُلَاءِ : " إنَّ اللَّهَ يُرَى مِنْ غَيْرِ مُعَايَنَةٍ وَمُوَاجَهَةٍ " قَوْلٌ انْفَرَدُوا بِهِ دُونَ سَائِرِ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ وَجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ . وَالْأَخْبَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ : { إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ } { وَقَوْلِهِ لَمَّا سَأَلَهُ النَّاسُ : هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : هَلْ تَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ؟ . قَالُوا : نَعَمْ . وَهَلْ تَرَوْنَ الْقَمَرَ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُ سَحَاب ؟ قَالُوا نَعَمْ . قَالَ : فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } . فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَلَمْ يُشَبِّهْ الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ ؛ فَإِنَّ الْكَافَ - حَرْفَ

التَّشْبِيهِ - دَخَلَ عَلَى الرُّؤْيَةِ . وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ { يَرَوْنَهُ عِيَانًا } . وَمَعْلُومٌ أَنَّا نَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عِيَانًا مُوَاجَهَةً فَيَجِبُ أَنْ نَرَاهُ كَذَلِكَ . وَأَمَّا رُؤْيَةُ مَا لَا نُعَايِنُ وَلَا نُوَاجِهُهُ فَهَذِهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ فِي الْعَقْلِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ كَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ . وَلِهَذَا صَارَ حُذَّاقُهُمْ إلَى إنْكَارِ الرُّؤْيَةِ وَقَالُوا : قَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْبَاطِنِ ؛ فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا الرُّؤْيَةَ بِزِيَادَةِ انْكِشَافٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا نُنَازِعُ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْخَبَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ لَا فِي جِهَةٍ وَقَوْلُهُ : " لَا تضامون " مَعْنَاهُ لَا تضمكم جِهَةٌ وَاحِدَةٌ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنَّهُ لَا فِي جِهَةٍ فَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلْحَدِيثِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ ؛ بَلْ هُوَ تَفْسِيرٌ مُنْكَرٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَلُغَةً . فَإِنَّ قَوْلَهُ " لَا تُضَامُونَ " يُرْوَى بِالتَّخْفِيفِ . أَيْ : لَا يَلْحَقُكُمْ ضَيْمٌ فِي رُؤْيَتِهِ كَمَا يَلْحَقُ النَّاسَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ الْحَسَنِ كَالْهِلَالِ فَإِنَّهُ قَدْ يَلْحَقُهُمْ ضَيْمٌ فِي طَلَبِ رُؤْيَتِهِ حِينَ يُرَى ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتَجَلَّى تَجَلِّيًا ظَاهِرًا فَيَرَوْنَهُ كَمَا تُرَى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِلَا ضَيْمٍ يَلْحَقُكُمْ فِي رُؤْيَتِهِ . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ . وَقِيلَ " لَا تضامون " بِالتَّشْدِيدِ أَيْ : لَا يَنْضَمُّ بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ

كَمَا يتضام النَّاسُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ الْخَفِيِّ كَالْهِلَالِ . وَكَذَلِكَ " تُضَارُّونَ " و " تُضَارُونَ " . فَإِمَّا أَنْ يُرْوَى بِالتَّشْدِيدِ وَيُقَالَ : " لَا تضامون " أَيْ لَا تَضُمُّكُمْ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ التَّضَامَّ انْضِمَامُ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ . فَهُوَ " تَفَاعُلٌ " كَالتَّمَاسِّ وَالتَّرَادِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَدْ يُرْوَى " لَا تضامون " بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ أَيْ لَا يُضَامُّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا . وَبِكُلِّ حَالٍ فَهُوَ مِنْ " التَّضَامِّ " الَّذِي هُوَ مُضَامَّةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لَيْسَ هُوَ أَنَّ شَيْئًا آخَرَ لَا يَضُمُّكُمْ فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُقَالُ فِيهِ " لَا تضامون " فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ " لَا يَضُمُّكُمْ شَيْءٌ " ثُمَّ يُقَالُ : الرَّاءُونَ كُلُّهُمْ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْأَرْضِ . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ الْمَرْئِيَّ لَيْسَ فِي جِهَةٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : " لَا تَضُمُّكُمْ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ " وَهُمْ كُلُّهُمْ عَلَى الْأَرْضِ أَرْضِ الْقِيَامَةِ أَوْ فِي الْجَنَّةِ وَكُلُّ ذَلِكَ جِهَةٌ وَوُجُودُهُمْ نَفْسُهُمْ لَا فِي جِهَةٍ وَمَكَانٍ مُمْتَنِعٌ حِسًّا وَعَقْلًا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " هُوَ يُرَى لَا فِي جِهَةٍ فَكَذَلِكَ يَرَاهُ غَيْرُهُ فَهَذَا تَمْثِيلٌ بَاطِلٌ . فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَرَى بَدَنَهُ وَلَا يُمْكِنَ أَنْ يَرَى غَيْرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِجِهَةِ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَمَامَهُ سَوَاءٌ كَانَ عَالِيًا أَوْ سَافِلًا .

وَقَدْ تُخْرَقُ لَهُ الْعَادَةُ فَيَرَى مَنْ خَلْفَهُ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي } وَفِي رِوَايَةٍ { مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي } وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ { إنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ وَرَائِي } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ { إنِّي وَاَللَّهِ لَأُبْصِرُ مِنْ وَرَائِي كَمَا أُبْصِرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ } . لَكِنْ هُمْ بِجِهَةِ مِنْهُ وَهُمْ خَلْفَهُ . فَكَيْفَ تُقَاسُ رُؤْيَةُ الرَّائِي لِغَيْرِهِ عَلَى رُؤْيَتِهِ لِنَفْسِهِ ؟ ثُمَّ تَشْبِيهُ رُؤْيَتِهِ هُوَ بِرُؤْيَتِنَا نَحْنُ تَشْبِيهٌ بَاطِلٌ . فَإِنَّ بَصَرَهُ يُحِيطُ بِمَا رَآهُ بِخِلَافِ أَبْصَارِنَا . وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ أَثْبَتُوا مَا لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ وَأَحَبُّوا نَصْرَ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْحَدِيثِ فَجَمَعُوا بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ . فَإِنَّ مَا لَا يَكُونُ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا يُشَارُ إلَيْهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَى بِالْعَيْنِ لَوْ كَانَ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ مُمْكِنًا فَكَيْفَ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ ؟ وَإِنَّمَا يُقَدَّرُ فِي الْأَذْهَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ الْبَاطِلِ . وَلِهَذَا فَسَّرُوا " الْإِدْرَاكَ " بِالرُّؤْيَةِ فِي قَوْلِهِ : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } كَمَا فَسَّرَتْهَا الْمُعْتَزِلَةُ . لَكِنْ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ فَلَا يُرَى بِحَالِ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا : لَا يُرَى فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ . وَالْآيَةُ تَنْفِي الْإِدْرَاكَ مُطْلَقًا دُونَ الرُّؤْيَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ كِلَابٍ

وَهَذَا أَصَحُّ . وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ وَهُوَ أَنَّهُ يُرَى وَلَا يُدْرَكُ فَيُرَى مِنْ غَيْرِ إحَاطَةٍ وَلَا حَصْرٍ . وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْمَدْحُ فَإِنَّهُ وَصْفٌ لِعَظَمَتِهِ أَنَّهُ لَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُ الْعِبَادِ وَإِنْ رَأَتْهُ وَهُوَ يُدْرِكُ أَبْصَارَهُمْ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ بِحَضْرَتِهِ لِمَنْ عَارَضَ بِهَذِهِ الْآيَةِ : " أَلَسْت تَرَى السَّمَاءَ ؟ " . قَالَ : " بَلَى " قَالَ : " أَفَكُلَّهَا تَرَى ؟ " وَكَذَلِكَ قَالَ : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : عِلْمُهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَاطَ بِشَيْءٍ مِنْهُ دُونَ شَيْءٍ فَقَالُوا : وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ مَعْلُومِهِ . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ نَفْسُ الْعِلْمِ جِنْسٌ يُحِيطُونَ مِنْهُ بِمَا شَاءَ وَسَائِرُهُ لَا يُحِيطُونَ بِهِ . وَقَالَ : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } وَالرَّاجِحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } وَإِذَا لَمْ يُحِيطُوا بِهَذَا عِلْمًا وَهُوَ بَعْضُ مَخْلُوقَاتِ الرَّبِّ فَأَنْ لَا يُحِيطُوا عِلْمًا بِالْخَالِقِ أَوْلَى وَأَحْرَى . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ } وَقَالَ : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } - الْآيَةَ فَإِذَا قِيلَ { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } . أَيْ لَا تُحِيطُ بِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ

يُوصَفُ بِنَفْيِ الْإِحَاطَةِ بِهِ مَعَ إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ . وَهَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ بِزَعْمِهِمْ فِيمَا يَنْقَسِمُ فَيُرَى بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ . فَتَكُونُ هُنَاكَ رُؤْيَةٌ بِلَا إدْرَاكٍ وَإِحَاطَةٍ وَعِنْدَهُمْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُرَى إلَّا رُؤْيَةً وَاحِدَةً مُتَمَاثِلَةً كَمَا يَقُولُونَهُ فِي كَلَامِهِ : إنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَعَدَّدُ . وَفِي الْإِيمَانِ بِهِ . إنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ . وَأَمَّا الْإِدْرَاكُ وَالْإِحَاطَةُ الزَّائِدُ عَلَى مُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ فَلَيْسَ انْتِفَاؤُهُ لِعَظَمَةِ الرَّبِّ عِنْدَهُمْ بَلْ لِأَنَّ ذَاتَه لَا تَقْبَلُ ذَاكَ كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ : إنَّهَا لَا تَقْبَلُ الرُّؤْيَةَ . وَأَيْضًا فَهُمْ وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَجْعَلُوا لِلْأَبْصَارِ إدْرَاكًا غَيْرَ الرُّؤْيَةِ . سَوَاءٌ أُثْبِتَتْ الرُّؤْيَةُ أَوْ نُفِيَتْ . فَإِنَّ هَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ بِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ وَيُبْطِلُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ بِإِثْبَاتِ رُؤْيَةٍ بِلَا مُعَايَنَةٍ وَمُوَاجَهَةٍ .
فَصْلٌ :
هَذَا مَعَ أَنَّ ابْنَ فورك هُوَ مِمَّنْ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَكَذَلِكَ الْمَجِيءُ وَالْإِتْيَانُ . مُوَافَقَةً لِأَبِي الْحَسَنِ فَإِنَّ هَذَا قَوْلُهُ وَقَوْلُ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِهِ .

فَقَالَ ابْنُ فورك فِيمَا صَنَّفَ فِي أُصُولِ الدِّينِ : فَإِنْ سَأَلَتْ الْجَهْمِيَّة عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقَدِيمَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ قِيلَ لَهُمْ : قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ تَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْآفَاتُ وَالْحَيُّ إذَا لَمْ يَكُنْ مأووفا بِآفَاتِ تَمْنَعُهُ مِنْ إدْرَاكِ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصِرَاتِ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا . وَإِنْ سَأَلْت فَقُلْت : " أَيْنَ هُوَ ؟ " فَجَوَابُنَا " إنَّهُ فِي السَّمَاءِ " كَمَا أَخْبَرَ فِي التَّنْزِيلِ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ فَقَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٍ { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } وَإِشَارَةُ الْمُسْلِمِينَ بِأَيْدِيهِمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي رَفْعِهَا إلَيْهِ . وَأَنَّك لَوْ سَأَلْت صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ فَقُلْت : " أَيْنَ اللَّهُ ؟ " لَقَالُوا : " إنَّهُ فِي السَّمَاءِ " وَلَمْ يُنْكِرُوا لَفْظَ السُّؤَالِ بـ " أَيْنَ " . { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ الْجَارِيَةَ الَّتِي عُرِضَتْ لِلْعِتْقِ فَقَالَ أَيْنَ اللَّهُ ؟ فَقَالَتْ فِي السَّمَاءِ مُشِيرَةً بِهَا . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا مُنْكَرًا لَمْ يَحْكُمْ بِإِيمَانِهَا وَلَأَنْكَرَهُ عَلَيْهَا . وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ لِأَنَّ " فِي " بِمَعْنَى فَوْقُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ } أَيْ فَوْقَهَا . قَالَ : وَإِنْ سَأَلْت " كَيْفَ هُوَ ؟ " قُلْنَا لَهُ : " كَيْفَ " سُؤَالٌ عَنْ صِفَتِهِ . وَهُوَ ذُو الصِّفَاتِ الْعُلَى هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي لَهُ الْعِلْمُ وَالْقَادِرُ

الَّذِي لَهُ الْقُدْرَةُ وَالْحَيُّ الَّذِي لَهُ الْحَيَاةُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ مُنْفَرِدًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا وَلَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ . ( قُلْت : فَهَذَا الْكَلَامُ هُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " وَلِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ كِلَابٍ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ فورك . لَكِنَّ ابْنَ كِلَابٍ يَقُولُ : إنَّ الْعُلُوَّ وَالْمُبَايَنَةَ مِنْ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَقُولُونَ : كَوْنُهُ فِي السَّمَاءِ صِفَةٌ خَبَرِيَّةٌ كَالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَيُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَذَلِكَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ عِنْدَهُمْ . وَالْأَشْعَرِيُّ يُبْطِلُ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ الِاسْتِوَاءَ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ وَالْقَهْرِ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْتَوْلِيًا عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالِاسْتِوَاءُ مُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ . فَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ : " هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَعَلَى الْأَرْضِ وَغَيْرِهَا " كَمَا يُقَالُ " إنَّهُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا " وَلِمَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ . فَهَذَا الِاسْتِوَاءُ الْخَاصُّ لَيْسَ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ الْعَامِّ . وَأَيْنَ لِلسُّلْطَانِ جَعْلُ الِاسْتِوَاءِ بِمَعْنَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ ؟ . فَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُهُ مُخْتَلِفًا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَمَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ غَيْرِهِ . فَأَبُو الْمَعَالِي كَانَ يَقُولُ بِالتَّأْوِيلِ ثُمَّ حَرَّمَهُ وَحَكَى إجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى تَحْرِيمِهِ . وَابْنُ عَقِيلٍ لَهُ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ وَكَذَلِكَ

لِأَبِي حَامِدٍ وَالرَّازِي وَغَيْرِهِمْ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ اخْتِلَافَ كَلَامِ ابْنِ فورك أَنَّهُ فِي مُصَنَّفٍ آخَرَ قَالَ ؛ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : " أَيْنَ هُوَ ؟ " قِيلَ : لَيْسَ بِذِي كَيْفِيَّةٍ فَنُخْبِرُ عَنْهَا إلَّا أَنْ يَقُولَ " كَيْفَ صَنَعَهُ ؟ " فَمَنْ صَنَعَهُ أَنَّهُ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الصَّانِعُ لِلْأَشْيَاءِ كُلِّهَا . فَهُنَا أَبْطَلَ السُّؤَالَ عَنْ الْكَيْفِيَّةِ وَهُنَاكَ جَوَّزَهُ وَقَالَ ؛ الْكَيْفِيَّةُ هِيَ الصِّفَةُ وَهُوَ ذُو الصِّفَاتِ وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ عَنْ الْمَاهِيَّةِ قَالَ فِي ذَلِكَ الْمُصَنَّفِ : وَإِنْ سَأَلَتْ الْجَهْمِيَّة فَقَالَتْ " مَا هُوَ ؟ " يُقَالُ لَهُمْ : " مَا " يَكُونُ اسْتِفْهَامًا عَنْ جِنْسٍ أَوْ صِفَةٍ فِي ذَاتِ الْمُسْتَفْهِمِ . فَإِنْ أَرَدْت بِذَلِكَ سُؤَالًا عَنْ صِفَتِهِ فَهُوَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ وَالْعِزَّةُ وَالْعَظَمَةُ . وَقَالَ فِي الْآخَرِ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ " حَدِّثُونَا عَنْ الْوَاحِدِ الَّذِي تَعْبُدُونَهُ مَا هُوَ ؟ " قِيلَ : إنْ أَرَدْت بِقَوْلِك " مَا جِنْسُهُ ؟ " . فَلَيْسَ بِذِي جِنْسٍ . وَإِنْ أَرَدْت بِقَوْلِك " مَا هُوَ ؟ " أَيْ : أَشِيرُوا إلَيْهِ حَتَّى أُدْرِكَهُ بِحَوَاسِّي فَلَيْسَ بِحَاضِرِ لِلْحَوَاسِّ . وَإِنْ أَرَدْت بِقَوْلِك : " مَا هُوَ ؟ " أَيْ دُلُّونِي عَلَيْهِ بِعَجَائِبِ صَنْعَتِهِ وَآثَارِ حِكْمَتِهِ فَالدِّلَالَةُ عَلَيْهِ قَائِمَةٌ . وَإِنْ أَرَدْت بِقَوْلِك " مَا اسْمُهُ ؟ " فَنَقُولُ : هُوَ اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْقَادِرُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .

وَهُوَ فِي هَذَا الْمُصَنَّفِ أَثْبَتَ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ بِخِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَرْشِ . فَقَالَ : فَإِنْ قَالَ " فَحَدِّثُونَا عَنْهُ أَيْنَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ ؟ " قِيلَ " أَيْنَ ؟ " تَقْتَضِي مَكَانًا وَالْأَمْكِنَةُ مَخْلُوقَاتٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ قَبْلَ الْخَلْقِ وَالْأَمَاكِنُ لَا فِي مَكَانٍ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ وَقْتٌ وَلَا زَمَانٌ . فَإِنْ قَالَ : " فَعَلَى مَا هُوَ الْيَوْمَ ؟ " قِيلَ لَهُ : مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } . وَقَالَ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : " لَمْ يَزَلْ الْبَارِي قَادِرًا عَالِمًا حَيًّا سَمِيعًا بَصِيرًا ؟ " قِيلَ : نَعَمْ . فَإِنْ قَالَ فَلِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا ؟ " قِيلَ لَهُ : إنْ أَرَدْت بِقَوْلِك " لَمْ يَزَلْ خَالِقًا أَيْ لَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ مَعَهُ فِي قَدَمِهِ فَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَعْنَى الْخَلْقِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ . فَكَيْفَ يَكُونُ مَا لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا وَإِنْ أَرَدْت بِقَوْلِك أَنَّ الْخَالِقَ لَمْ يَزَلْ وَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ فَكَذَلِكَ نَقُولُ لِأَنَّ الْخَالِقَ لَمْ يَزَلْ وَالْخَلْقَ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ وَقَدْ كَانَ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ فَهَذَا الْجَوَابُ . قَالَ : فَإِنْ قِيلَ " إذَا قُلْتُمْ إنَّهُ الْآنَ خَالِقٌ فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا " ؟ قِيلَ لَهُ : لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ . وَذَلِكَ أَنَّهُ الْآنَ مُسْتَوٍ عَلَى

عَرْشِهِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ . فَكَذَلِكَ مَا قُلْنَاهُ يُنَاسِبُهُ . فَإِنْ قِيلَ " الِاسْتِوَاءُ مِنْهُ فِعْلٌ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ لَمْ يَزَلْ " قَالَ قِيل : وَالْخَلْقُ مِنْهُ فِعْلٌ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ لَمْ يَزَلْ . فَهَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ إلَّا بِبَيَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَقُولُونَ بِقِدَمِ صِفَةِ التَّكْوِينِ وَالْخَلْقِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا . فَأَلْزَمَهُمْ : " أَنَّا نَقُولُ فِي الْخَلْقِ مَا نَقُولُهُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي الِاسْتِوَاءِ " . وَهَذَا جَوَابٌ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ عِنْدَهُ أَنَّهُ اسْتَوَى بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَمَا قَدْ بَحَثَهُ مَعَ السُّلْطَانِ بَلْ هُوَ الْآنَ كَمَا كَانَ . فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ . الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ وَهَذَا يَقْتَضِي إمْكَانَ وُجُودِ الْمَقْدُورِ فِي الْأَزَلِ . فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْدُورُ مُمْتَنِعًا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ قُدْرَةٌ فَكَيْفَ يَجْعَلُهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا مَعَ امْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْدُورُ لَمْ يَزَلْ مُمْكِنًا ؟ بَلْ الْمَقْدُورُ عِنْدَهُ كَانَ مُمْتَنِعًا ثُمَّ صَارَ مُمْكِنًا بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ اقْتَضَى ذَلِكَ .

الثَّالِثُ : أَنَّ قَوْلَهُ : " لِأَنَّ مَعْنَى الْخَلْقِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ فَكَيْفَ يَكُونُ مَا لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا ؟ " فَيُقَالُ : بَلْ كُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ مَسْبُوقٌ بِعَدَمِ نَفْسِهِ وَمَا ثَمَّ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ . وَإِذَا قِيلَ : " لَمْ يَزَلْ خَالِقًا " فَإِنَّمَا يَقْتَضِي قِدَمَ نَوْعِ الْخَلْقِ و " دَوَامُ خالقيته " لَا يَقْتَضِي قِدَمَ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ . فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَعْيَانِ الْمَخْلُوقَاتِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فَإِنَّ هَذِهِ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ مِنْهَا شَيْئًا أَزَلِيًّا . وَمَنْ قَالَ بِقِدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ - كَالْفُلْكِ أَوْ مَادَّتِهِ - فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ مَخْلُوقًا بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ؛ وَلَكِنْ إذْ أَوْجَدَهُ الْقَدِيمُ . وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فَعَّالًا خَالِقًا وَدَوَامُ خالقيته مِنْ لَوَازِمَ وُجُودِهِ . فَهَذَا لَيْسَ قَوْلًا بِقِدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ بَلْ هَذَا مُتَضَمِّنٌ لِحُدُوثِ كُلِّ مَا سِوَاهُ . وَهَذَا مُقْتَضَى سُؤَالِ السَّائِلِ لَهُ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يُقَالَ : الْعَرْشُ حَادِثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَزَلْ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُودِهِ . وَأَمَّا الْخَلْقُ فَالْكَلَامُ فِي نَوْعِهِ وَدَلِيلِهِ عَلَى امْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا قَدْ عُرِفَ ضِعْفُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَكَانَ ابْنُ فورك فِي مُخَاطَبَةِ السُّلْطَانِ قَصَدَ إظْهَارَ مُخَالِفَةِ الكَرَّامِيَة كَمَا قَصَدَ بِنَيْسَابُورَ الْقِيَامَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي اسْتِتَابَتِهِمْ وَكَمَا كَفَّرَهُمْ عِنْدَ

السُّلْطَانِ . وَمَنْ لَمْ يَعْدِلْ فِي خُصُومِهِ وَمُنَازَعِيهِ وَيَعْذُرْهُمْ بِالْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ بَلْ ابْتَدَعَ بِدْعَةً وَعَادَى مَنْ خَالَفَهُ فِيهَا أَوْ كَفَّرَهُ فَإِنَّهُ هُوَ ظَلَمَ نَفْسَهُ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ ؛ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ فَلَا يَبْتَدِعُونَ . وَمَنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ خَطَأً يَعْذُرُهُ فِيهِ الرَّسُولُ عَذَرُوهُ . وَأَهْلُ الْبِدَعِ مِثْلُ الْخَوَارِجِ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ وَيَسْتَحِلُّونَ دَمَهُ . وَهَؤُلَاءِ كُلٌّ مِنْهُمْ يَرُدُّ بِدْعَةَ الْآخَرِينَ وَلَكِنْ هُوَ أَيْضًا مُبْتَدِعٌ فَيَرُدُّ بِدْعَةً بِبِدْعَةِ وَبَاطِلًا بِبَاطِلِ . وَكَذَلِكَ مَا حَكَاهُ مِنْ مُنَاظَرَاتِهِمْ لَهُ عِنْدَ الْوَزِيرِ مَجْلِسًا بَعْدَ مَجْلِسٍ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ والكَرَّامِيَة يَقُولُونَ حَقًّا وَبَاطِلًا وَسُنَّةً وَبِدْعَةً كَمَا أَنَّهُ هُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ يَقُولُ حَقًّا وَبَاطِلًا مُوَافَقَةً لِأَبِي الْحَسَنِ . وَأَبُو الْحَسَنِ سَلَكَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْقَدَرِ مَسْلَكَ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَان - مَسْلَكَ الْمُجْبِرَةِ وَمَسْلَكَ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ . فَهَؤُلَاءِ قَدَرِيَّةٌ مُجْبِرَةٌ وَالْمُعْتَزِلَةُ قَدَرِيَّةٌ نَافِيَةٌ . فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ غَايَةُ التَّضَادِّ فِي مَسَائِلِ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيرِ وَنَحْوِهَا . وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْكَلَامَ بِعِلْمِ وَعَدْلٍ وَيَكْرَهُ الْكَلَامَ بِجَهْلِ وَظُلْمٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ : قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ

فِي الْجَنَّةِ - رَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ . وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ } . وَقَدْ حَرَّمَ سُبْحَانَهُ الْكَلَامَ بِلَا عِلْمٍ مُطْلَقًا وَخَصَّ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ بِالنَّهْيِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَأَمَرَ بِالْعَدْلِ عَلَى أَعْدَاءِ الْمُسْلِمِينَ . فَقَالَ : { كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } .
فَصْلٌ :
وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعُلُوِّ . وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ لَهُ بِذَلِكَ وَالتَّعْظِيمِ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا مَدَحَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الْعَظِيمُ وَالْعَلِيمُ وَالْقَدِيرُ وَالْعَزِيزُ وَالْحَلِيمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَأَنَّهُ الْحَيُّ

الْقَيُّومُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِفَ بِأَضْدَادِ هَذِهِ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِضِدِّ الْحَيَاةِ والقيومية وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ مِثْلِ الْمَوْتِ وَالنَّوْمِ وَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَاللُّغُوبِ . وَلَا بِضِدِّ الْعِزَّةِ وَهُوَ الذُّلُّ وَلَا بِضِدِّ الْحِكْمَةِ وَهُوَ السَّفَهُ . فَكَذَلِكَ لَا يُوصَفُ بِضِدِّ الْعُلُوِّ وَهُوَ السُّفُولُ وَلَا بِضِدِّ الْعَظِيمِ وَهُوَ الْحَقِيرُ . بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ النَّقَائِصِ الْمُنَافِيَةِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ لَهُ . فَثُبُوتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ يَنْفِي اتِّصَافَهُ بِأَضْدَادِهَا وَهِيَ النَّقَائِصُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِيمَا يُوصَفُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ . فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ النَّقْصِ الْمُضَادِّ لِكَمَالِهِ وَمُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ . وَمَعَانِي التَّنْزِيهِ تَرْجِعُ إلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ . وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِمَا سُورَةُ الْإِخْلَاصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } . فَاسْمُهُ " الصَّمَدُ " يَجْمَعُ مَعَانِي صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَهُوَ كَمَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْمُسْتَوْجِبُ لِصِفَاتِ السُّؤْدُدِ الْعَلِيمُ

الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ الْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ بُيِّنَ . وَقَوْلُهُ " الْأَحَدُ " يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ مَعْنًى ثُبُوتِيًّا . فَالْكَمَالُ هُوَ فِي الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ وَالنَّفْيُ مَقْصُودُهُ نَفْيُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ . فَإِذَا نُفِيَ النَّقِيضُ الَّذِي هُوَ الْعَدَمُ وَالسَّلْبُ لَزِمَ ثُبُوتُ النَّقِيضِ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ الْوُجُودُ وَالثُّبُوتُ . وَبَيَّنَّا هَذَا فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَغَيْرِهَا مِمَّا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ : { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ والقيومية . وَقَوْلُهُ : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْمُلْكِ . وَقَوْلُهُ : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالتَّعْلِيمِ دُونَ مَا سِوَاهُ . والوحدانية تَقْتَضِي الْكَمَالَ وَالشَّرِكَةُ تَقْتَضِي النَّقْصَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } { وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } { لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ عُلُوَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ اللَّازِمَةِ لَهُ . فَلَا يَجُوزُ اتِّصَافُهُ بِضِدِّ الْعُلُوِّ أَلْبَتَّةَ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ } وَلَمْ يَقُلْ " تَحْتَك " . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ لَا يَجْعَلُونَهُ مُتَّصِفًا بِالْعُلُوِّ دُونَ السُّفُولِ . بَلْ إمَّا أَنْ يَصِفُوهُ بِالْعُلُوِّ وَالسُّفُولِ أَوْ بِمَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ يَنْفُوا عَنْهُ الْعُلُوَّ وَالسُّفُولَ . وَهُمْ نَوْعَانِ . فالْجَهْمِيَّة الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوْ بِأَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ لَا يَصِفُونَهُ بِالْعُلُوِّ دُونَ السُّفُولِ . فَإِنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَالْأَمْكِنَةُ مِنْهَا عَالٍ وَسَافِلٌ . فَهُوَ فِي الْعَالِي عَالٍ وَفِي السَّافِلِ سَافِلٌ . بَلْ إذَا قَالُوا إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَجَعَلُوا الْأَمْكِنَةَ كُلَّهَا مَحَالّ لَهُ - ظُرُوفًا وَأَوْعِيَةً جَعَلُوهَا فِي الْحَقِيقَةِ أَعْلَى مِنْهُ . فَإِنَّ الْمَحَلَّ يَحْوِي الْحَالَّ وَالظَّرْفَ وَالْوِعَاءَ يَحْوِي الْمَظْرُوفَ الَّذِي فِيهِ وَالْحَاوِيَ فَوْقَ المحوى . وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَسَائِرُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ إذَا قَالُوا " إنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ

وَإِنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ " لَا يَقُولُونَ إنَّ هُنَاكَ شَيْئًا يَحْوِيهِ أَوْ يَحْصُرُهُ أَوْ يَكُونُ مَحَلًّا لَهُ أَوْ ظَرْفًا وَوِعَاءً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بَلْ هُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ شَيْءٍ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ . وَهُوَ عَالٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْحَامِلُ لِلْعَرْشِ وَلِحَمَلَةِ الْعَرْشِ بِقُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَرْشِ وَعَنْ كُلِّ مَخْلُوقٍ . وَمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ يَفْهَمُ مِنْهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ " السَّمَاءِ " هِيَ نَفْسُ الْمَخْلُوقِ الْعَالِي الْعَرْشُ فَمَا دُونَهُ . فَيَقُولُونَ : قَوْلُهُ { فِي السَّمَاءِ } بِمَعْنَى " عَلَى السَّمَاءِ " كَمَا قَالَ : { وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أَيْ " عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ " وَكَمَا قَالَ : { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } أَيْ " عَلَى الْأَرْضِ " . وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا بَلْ " السَّمَاءِ " اسْمُ جِنْسٍ لِلْعَالِي لَا يَخُصُّ شَيْئًا . فَقَوْلُهُ { فِي السَّمَاءِ } أَيْ " فِي الْعُلُوِّ دُونَ السُّفْلِ " . وَهُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى فَلَهُ أَعْلَى الْعُلُوِّ وَهُوَ مَا فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَيْسَ هُنَاكَ غَيْرُهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ هُوَ عِنْدَهُمْ فِي الْمَخْلُوقَاتِ السُّفْلِيَّةِ الْقَذِرَةِ الْخَبِيثَةِ كَمَا هُوَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ الْعَالِيَةِ . وَغُلَاةُ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ " الْوُجُودُ وَاحِدٌ " كَابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ صَاحِبِ " فُصُوصِ

الْحِكَمِ " و " الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ " يَقُولُونَ " الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ هُوَ الْمَوْجُودُ الْمُحْدَثُ الْمُمْكِنُ " . وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ فِي " فُصُوصِ الْحِكَمِ " : " وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى " الْعَلِيُّ " . عَلَى مَنْ وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ ؟ وَعَنْ مَاذَا وَمَا هُوَ إلَّا هُوَ ؟ . فَعُلُوُّهُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ فَالْمُسَمَّى " مُحْدَثَاتٌ " هِيَ الْعَلِيَّةُ لِذَاتِهَا وَلَيْسَتْ إلَّا هُوَ . إلَى أَنْ قَالَ : " فَالْعَلِيُّ لِنَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ جَمِيعُ الْأَوْصَافِ الْوُجُودِيَّةِ وَالنِّسَبِ الْعَدَمِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْمُودَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا أَوْ مَذْمُومَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا . وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْمُسَمَّى اللَّهُ " . فَهُوَ عِنْدُهُ الْمَوْصُوفُ بِكُلِّ ذَمٍّ كَمَا هُوَ الْمَوْصُوفُ بِكُلِّ مَدْحٍ . وَهَؤُلَاءِ يُفَضِّلُونَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا يُوصَفُ بِالْعُلُوِّ دُونَ السُّفُولِ كَالسَّمَوَاتِ . وَمَا كَانَ مَوْصُوفًا بِالْعُلُوِّ دُونَ السُّفُولِ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّا لَا يُوصَفُ بِالْعُلُوِّ أَوْ يُوصَفُ بِالْعُلُوِّ وَالسُّفُولِ . وَقَدْ قَالَ فِرْعَوْنُ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } . قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ :

" وَلَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ فِي مَنْصِبِ التَّحَكُّمِ وَالْخَلِيفَةِ بِالسَّيْفِ جَازَ فِي الْعُرْفِ الناموسي أَنْ قَالَ { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } . أَيْ وَإِنْ كَانَ أَنَّ الْكُلَّ أَرْبَابًا بِنِسْبَةِ مَا فَأَنَا الْأَعْلَى مِنْهُمْ بِمَا أُعْطِيته مِنْ الْحُكْمِ فِيكُمْ . وَلَمَّا عَلِمَتْ السَّحَرَةُ صِدْقَهُ فِيمَا قَالَ لَمْ يُنْكِرُوهُ بَلْ أَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ وَقَالُوا لَهُ : { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } فَالدَّوْلَةُ لَك . فَصَحَّ قَوْلُ فِرْعَوْنَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } . فَبِهَذَا وَأَمْثَالِهِ يُصَحِّحُونَ قَوْلَ فِرْعَوْنَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وَيَنْكَرُونَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَالِيًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَعْلَى وَيَقُولُونَ : " عَلَى مَنْ يَكُونُ أَعْلَى أَوْ عَمَّا ذَا يَكُونُ أَعْلَى ؟ " . وَهَكَذَا سَائِرُ الْجَهْمِيَّة يَصِفُونَ بِالْعُلُوِّ عَلَى وَجْه الْمَدْحِ مَا هُوَ عَالٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ كَالسَّمَاءِ وَالْجَنَّةِ وَالْكَوَاكِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الْعَالِيَ أَفْضَلُ مِنْ السَّافِلِ وَهُمْ لَا يَصِفُونَ رَبَّهُمْ بِأَنَّهُ الْأَعْلَى وَلَا الْعَلِيُّ بَلْ يَجْعَلُونَهُ فِي السَّافِلَاتِ كَمَا هُوَ فِي الْعَالِيَاتِ . وَالْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ " لَيْسَ هُوَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا يُشَارُ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ هُمْ أَقْرَبُ إلَى التَّعْطِيلِ وَالْعَدَمِ كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَخْلُوقَاتِ . فَهَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ مَوْجُودًا لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ الْمَخْلُوقُ لَا الْخَالِقُ ؛ وَأُولَئِكَ يَنْفُونَ فَلَا يُثْبِتُونَ وُجُودًا أَلْبَتَّةَ لَكِنَّهُمْ

يُثْبِتُونَ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ وَيَقُولُونَ إنَّهُمْ يُثْبِتُونَ وُجُودَ الْخَالِقِ . وَإِذَا قَالُوا : نَحْنُ نَقُولُ : " هُوَ عَالٍ بِالْقُدْرَةِ أَوْ بِالْقَدْرِ " قِيلَ : هَذَا فَرْعُ ثُبُوتِ ذَاتِهِ وَأَنْتُمْ لَمْ تُثْبِتُوا مَوْجُودًا يُعْرَفُ وُجُودُهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا أَوْ عَظِيمَ الْقَدْرِ . وَإِذَا قَالُوا : كَانَ اللَّهُ قَبْلَ خَلْقِ الْأَمْكِنَةِ وَالْمَخْلُوقَاتِ مَوْجُودًا وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فَوْقَ شَيْءٍ وَلَا عَالِيًا عَلَى شَيْءٍ فَكَذَلِكَ هُوَ الْآنَ قِيلَ : هَذَا غَلَطٌ وَيَظْهَرُ فَسَادُهُ بِالْمُعَارَضَةِ ثُمَّ بِالْحَلِّ وَبَيَان فَسَادِهِ . أَمَّا " الْأَوَّلُ " فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ الْآنَ عَالِيًا بِالْقُدْرَةِ وَلَا بِالْقَدْرِ كَمَا كَانَ فِي الْأَزَلِ . فَإِنَّهُ إذَا قُدِّرَ وُجُودُهُ وَحْدَهُ فَلَيْسَ هُنَاكَ مَوْجُودٌ يَكُونُ قَادِرًا عَلَيْهِ وَلَا قَاهِرًا لَهُ وَلَا مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ وَلَا مَوْجُودًا يَكُونُ هُوَ أَعْظَمَ قَدْرًا مِنْهُ . فَإِنْ كَانَ مَعَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ عُلُوٌّ عَلَيْهَا كَمَا زَعَمُوا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا لَيْسَ قَادِرًا لِشَيْءِ وَلَا مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ وَلَا قَاهِرًا لِعِبَادِهِ وَلَا قَدْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ قَدْرِهَا . وَإِذَا كَانُوا يَقُولُونَ هُمْ وَجَمِيعُ الْعُقَلَاءِ إنَّهُ مَعَ وُجُودِ الْمَخْلُوقِ يُوصَفُ بِأُمُورِ إضَافِيَّةٍ لَا يُوصَفُ

بِهَا إذَا قَدَّرَ مَوْجُودًا وَحْدَهُ عَلِمَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ خَطَأٌ مِنْهُمْ . وقد اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى جَوَازِ تُجَدِّدُ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ مِثْلِ الْمَعِيَّةِ وإنما النِّزَاعُ فِي تَجَدُّدِ مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ مِنْ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ . وَقَدْ بُيِّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ النِّسَبَ وَالْإِضَافَاتِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِأُمُورِ ثُبُوتِيَّةٍ وَأَنَّ وُجُودَهَا بِدُونِ الْأُمُورِ الثُّبُوتِيَّةِ مُمْتَنِعٌ . وَالْإِنْسَانُ إذَا كَانَ جَالِسًا فَتَحَوَّلَ الْمُتَحَوِّلُ عَنْ يَمِينِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَنْ شِمَالِهِ قِيلَ " إنَّهُ عَنْ شِمَالِهِ " . فَقَدْ تَجَدَّدَ مِنْ هَذَا فِعْلٌ بِهِ تَغَيَّرَتْ النِّسْبَةُ وَالْإِضَافَةُ . وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ تَحْتَ السَّطْحِ فَصَارَ فَوْقَهُ فَإِنَّ النِّسْبَةَ بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ تَجَدَّدَ لَمَّا تَجَدَّدَ فِعْلُ هَذَا . وَإِذَا قِيلَ " نَفْسُ السَّقْفِ لَمْ يَتَغَيَّرْ " قِيلَ قَدْ يُمْنَعُ هَذَا وَيُقَالُ : لَيْسَ حُكْمُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ شَيْءٌ كَحُكْمِهِ إذَا كَانَ فَوْقَهُ شَيْءٌ . وَإِذَا قِيلَ عَنْ الْجَالِسِ " إنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ " قِيلَ : قَدْ يُمْنَعُ هَذَا وَيُقَالُ : لَيْسَ حُكْمُهُ إذَا كَانَ الشَّخْصُ عَنْ يَسَارِهِ كَحُكْمِهِ إذَا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّهُ يَحْجُبُ هَذَا الْجَانِبَ وَيُوجِبُ مِنْ الْتِفَاتِ الشَّخْصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ مَنْ تَجَدَّدَ لَهُ أَخٌ أَوْ ابْنُ أَخ بِإِيلَادِ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ قَدْ وُجِدَ هُنَا أُمُورٌ ثُبُوتِيَّةٌ . وَهَذَا الشَّخْصُ يَصِيرُ فِيهِ مِنْ الْعَطْفِ وَالْحُنُوِّ عَلَى هَذَا الْوَلَدِ الْمُتَجَدِّدِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ وَهِيَ الرَّحِمُ وَالْقَرَابَةُ .

وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : الْعُلُوُّ وَالسُّفُولُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْإِضَافَةِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِوَاءُ وَالرُّبُوبِيَّةُ والخالقية وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَإِذَا كَانَ غَيْرُهُ مَوْجُودًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِيًا عَلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَمَا يَقُولُونَ هُمْ : إمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِيًا عَلَيْهِ بِالْقَهْرِ أَوْ بِالْقَدْرِ أَوْ لَا يَكُونَ خِلَافُ مَا إذَا قَدَّرَ وَحْدَهُ فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ إنَّهُ حِينَئِذٍ قَاهِرٌ أَوْ قَادِرٌ أَوْ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ فَلَا يُقَالُ إنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ . وَإِنْ قَالُوا : " إنَّهُ قَادِرٌ وَقَاهِرٌ " كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِالْغَيْرِ وَكَذَلِكَ عُلُوُّ الْقَدْرِ قِيلَ : وَكَذَلِكَ عُلُوُّ ذَاتِهِ مَا زَالَ عَالِيًا بِذَاتِهِ لَكِنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ الْغَيْرِ . وَالْإِلْزَامَاتُ مُفْحِمَةٌ لَهُمْ . وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ ثُمَّ صَارَ قَادِرًا . يَقُولُونَ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا مَعَ امْتِنَاعِ الْمَقْدُورِ وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مُمْكِنًا فَصَارَ مُمْكِنًا . فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الَّذِينَ يَصِفُونَهُ بِالْعُلُوِّ وَالسُّفُولِ فَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ : هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ أَيْضًا فِي كُلِّ مَكَانٍ وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ : إذَا نَزَلَ كُلَّ لَيْلَةٍ فَإِنَّهُ

يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ أَكْبَرُ مِنْهُ وَيَقُولُونَ : لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ أَصْغَرَ مِنْ الْمَخْلُوقِ كَمَا يَقُولُ شُيُوخُهُمْ : إنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ أَسْفَلَ مِنْ الْمَخْلُوقِ فَهَؤُلَاءِ لَا يَصِفُونَهُ بِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بَلْ وَلَا هُوَ عَلَى قَوْلِهِمْ الْكَبِيرُ المتعال وَلَا هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ . وَقَدْ بَسَطَ الرَّدَّ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي " مَسْأَلَةِ النُّزُولِ " لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِثْلِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمَا : " إنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ " ذَكَرَ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَبَيَّنَ فَسَادَ قَوْلِهِمْ شَرْعًا وَعَقْلًا . وَهَؤُلَاءِ فِي مُقَابَلَةِ الَّذِينَ يَنْفُونَ النُّزُولَ . وَإِذَا قِيلَ : حَدِيثُ النُّزُولِ وَنَحْوِهِ ظَاهِرُهُ لَيْسَ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فَهَذَا صَحِيحٌ إذَا أُرِيدَ بِالظَّاهِرِ مَا يَظْهَرُ لِهَؤُلَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى أَسْفَلَ فَيَصِيرُ تَحْتَ الْعَرْشِ كَمَا يَنْزِلُ الْإِنْسَانُ مِنْ سَطْحِ دَارِهِ إلَى أَسْفَلُ . وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَلَا يَبْقَى حِينَئِذٍ الْعَلِيُّ وَلَا الْأَعْلَى بَلْ يَكُونُ تَارَةً أَعْلَى وَتَارَةً أَسْفَلَ - تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ نُزُولِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَمِنْ نُزُولِهِ

إلَى الْأَرْضِ لَمَّا خَلَقَهَا وَمِنْ نُزُولِهِ لِتَكْلِيمِ مُوسَى وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } وَقَوْلِهِ : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } وَقَوْلِهِ : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } والْنُّفَاةِ الْمُعَطِّلَةُ يَنْفُونَ الْمَجِيءَ وَالْإِتْيَانَ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَقُولُونَ : مَا ثَمَّ إلَّا مَا يَحْدُثُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَالْحُلُولِيَّةُ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَأْتِي وَيَجِيءُ بِحَيْثُ يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ وَيُشْغَلُ آخَرُ فَيَخْلُو مِنْهُ مَا فَوْقَ الْعَرْشِ وَيَصِيرُ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ فَوْقَهُ . فَإِذَا أَتَى وَجَاءَ لَمْ يَصِرْ عَلَى قَوْلِهِمْ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى وَلَا كَانَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ . لَا سِيَّمَا إذَا قَالُوا : إنَّهُ يَحْوِيهِ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ فَتَكُونُ أَكْبَرَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ عُلُوًّا عَظِيمًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } إنْ كَانَ قَدْ قَالَ أَحَدٌ : إنَّهُ فِي جَوْفِ السَّمَاءِ فَهُوَ شَرٌّ قَوْلًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَكِنَّ هَذَا مَا عَلِمْت بِهِ قَائِلًا مُعَيَّنًا مَنْسُوبًا إلَى عِلْمٍ حَتَّى أَحْكِيَهُ قَوْلًا . وَمَنْ قَالَ : " إنَّهُ فِي السَّمَاءِ " فَمُرَادُهُ أَنَّهُ فِي الْعُلُوِّ لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُ فِي جَوْفِ الْأَفْلَاكِ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ يَتَوَهَّمُ ذَلِكَ . وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ هَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ .

الظَّاهِرُ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى خِلَافِ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ ؛ لَكِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُطْلِقُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَيَسْمَعُونَهُ أَوْ هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ هُوَ مِمَّا لَا يَسْلَمُ لَهُمْ كَمَا قَدْ يُبْسَطُ فِي مَوَاضِعَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ } فَاسْتَثْنَى نَفْسَهُ وَالْعَالِمُ " مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَرْفُوعٌ وَلَوْ كَانَ مُنْقَطِعًا لَكَانَ مَنْصُوبًا . وَالْمَرْفُوعُ عَلَى الْبَدَلِ وَالْعَامِلُ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُفَرَّغِ كَأَنَّهُ قَالَ " لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ " . فَيَلْزَمُ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي " مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ " . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ " السَّمَاءِ " يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا سَمَا وَيَدْخُلُ فِيهِ السَّمَوَاتُ وَالْكُرْسِيُّ وَالْعَرْشُ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ . لِأَنَّ هَذَا فِي جَانِبِ النَّفْيِ وَهُوَ لَمْ يَقُلْ هُنَا : " السَّمَوَاتِ السَّبْعَ " بَلْ عَمَّ بِلَفْظِ " السَّمَوَاتِ " . وَإِذَا كَانَ لَفْظُ " السَّمَاءِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ السَّحَابُ وَيُرَادُ بِهِ الْفُلْكُ وَيُرَادُ بِهِ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ وَيُرَادُ بِهِ الْعُلُوُّ مُطْلَقًا فـ " السَّمَوَاتُ " جَمْعُ " سَمَاءٍ " وَكُلُّ مَنْ فِيمَا يُسَمَّى " سَمَاءً " وَكُلُّ مَنْ فِيمَا يُسَمَّى " أَرْضًا " لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ .

وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ } وَلَمْ يَقُلْ " مَا " فَإِنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ مَا يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ غَلَبَ مَا يَعْقِلُ وَعَبَّرَ عَنْهُ بـ " مَنْ " لِتَكُونَ أَبْلَغَ فَإِنَّهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهَ . وَهَذَا هُوَ الْغَيْبُ الْمُطْلَقُ عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِي قَالَ فِيهِ { فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا } .
وَالْغَيْبُ الْمُقَيَّدُ مَا عَلِمَهُ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْجِنِّ أَوْ الْإِنْسِ وَشَهِدُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ غَيْبٌ عَمَّنْ غَابَ عَنْهُ لَيْسَ هُوَ غَيْبًا عَمَّنْ شَهِدَهُ . وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ قَدْ يَغِيبُ عَنْ هَذَا مَا يَشْهَدُهُ هَذَا فَيَكُونُ غَيْبًا مُقَيَّدًا أَيْ غَيْبًا عَمَّنْ غَابَ عَنْهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ لَا عَمَّنْ شَهِدَهُ لَيْسَ غَيْبًا مُطْلَقًا غَابَ عَنْ الْمَخْلُوقِينَ قَاطِبَةً . وَقَوْلُهُ : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أَيْ عَالِمُ مَا غَابَ عَنْ الْعِبَادِ مُطْلَقًا وَمُعَيَّنًا وَمَا شَهِدُوهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ .
والْنُّفَاةِ لِلْعُلُوِّ وَنَحْوِهِ مِنْ الصِّفَاتِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَنَدُهُمْ خَبَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا الْكِتَابَ وَلَا السُّنَّةَ وَلَا أَقْوَالَ السَّلَفِ وَلَا مُسْتَنَدُهُمْ فِطْرَةَ الْعَقْلِ وَضَرُورَتَهُ وَلَكِنْ يَقُولُونَ : مَعَنَا النَّظَرُ الْعَقْلِيُّ . وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ الْمُثْبِتُونَ لِلْعُلُوِّ فَيَقُولُونَ : إنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مَعَ فِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ الْعِبَادَ عَلَيْهَا وَضَرُورَةُ الْعَقْلِ وَمَعَ نَظَرِ الْعَقْلِ وَاسْتِدْلَالِهِ .

لَكِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَبْقَى فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَخْلُوقَاتِ وَنَحْوُ هَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ إنَّ مُسْتَنَدَهُمْ فِي ذَلِكَ السَّمْعُ وَهُوَ مَا فَهِمُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَوْ غَيْرِ الصَّحِيحَةِ أَوْ مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَهُمْ أَخْطَئُوا مِنْ حَيْثُ نَظَرُوا اقْتَصَرُوا عَلَى فَهْمِهِ مِنْ نَصٍّ وَاحِدٍ كَفَهْمِهِمْ مِنْ حَدِيثِ النُّزُولِ وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يَصِفُهُ بِالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ أَعْلَى مِنْهُ أَوْ أَكْبَرَ مِنْهُ .
وَيَتَدَبَّرُوا أَيْضًا دَلَالَةَ النَّصِّ مِثْلُ نُزُولِهِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ بِأَنَّ اللَّيْلَ يَخْتَلِفُ فَيَكُونُ لَيْلُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَنِصْفُهُ وَثُلُثُهُ الْآخِرُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ بِقَرِيبِ مِنْ يَوْمٍ . فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَا يَزَالُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَهُوَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . وَمَا ذَكَرُوهُ يُنَافِي اسْتِوَاءَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ .
فَصْلٌ :
" الْأَعْلَى " عَلَى وَزْنِ أَفْعَلْ التَّفْضِيلِ مِثْلُ الْأَكْرَمِ وَالْأَكْبَرِ وَالْأَجَلِّ . وَلِهَذَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ

اُعْلُ هُبَلُ اُعْلُ هُبَلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تُجِيبُونَهُ ؟ قَالُوا : وَمَا نَقُولُ ؟ قَالَ : قُولُوا : اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ } . . وَهُوَ مَذْكُورٌ بِأَدَاةِ التَّعْرِيفِ " الْأَعْلَى " مِثْلُ { وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ " اللَّهُ أَكْبَرُ " فَإِنَّهُ مُنَكَّرٌ . وَلِهَذَا مَعْنًى يَخُصُّهُ يَتَمَيَّزُ بِهِ وَلِهَذَا مَعْنًى يَخُصُّهُ يَتَمَيَّزُ بِهِ كَمَا بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ . فَإِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَةً بَلْ مُتَلَازِمَةً فَبَيْنَهَا فُرُوقٌ لَطِيفَةٌ ؛ وَلِهَذَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى : الْعَظَمَةُ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْته } . فَجَعَلَ الْكِبْرِيَاءَ بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ وَهُوَ أَعْلَى مِنْ الْإِزَارِ .
وَلِهَذَا كَانَ شَعَائِرُ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانُ وَالْأَعْيَادِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَالِيَةِ هُوَ التَّكْبِيرَ . وَهُوَ أَحَدُ الْكَلِمَاتِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيح عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَمْ يَجِئْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَثَرِ بَدَلَ قَوْلِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " " اللَّهُ أَعْظَمُ " وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ . فَلَوْ قَالَ : " اللَّهُ أَعْظَمُ " لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الصَّلَاةُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } . وَهَذَا

قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي يُوسُفَ ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ . وَلَوْ أَتَى بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَذْكَارِ مِثْلَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الصَّلَاةُ .
وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ مُخْتَصٌّ بِالذِّكْرِ فِي حَالِ الِارْتِفَاعِ كَمَا أَنَّ التَّسْبِيحَ مُخْتَصٌّ بِحَالِ الِانْخِفَاضِ كَمَا فِي السُّنَنِ { عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا هَبَطْنَا سَبَّحْنَا فَوُضِعَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ } . { وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قَالَ : اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ } { وَلَمَّا نَزَلَ { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قَالَ : اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ } . { وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَفِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى } وَلَمْ يَكُنْ يُكَبِّرْ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . لَكِنْ قَدْ كَانَ يَقْرِنُ بِالتَّسْبِيحِ التَّحْمِيدَ وَالتَّهْلِيلَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } أَيْ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } . فَكَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ .

وَكَذَلِكَ قَدْ كَانَ يَقْرِنُ بِالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ التَّهْلِيلَ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : افْتَقَدْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَظَنَنْت أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَتَحَسَّسْت ثُمَّ رَجَعْت فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ يَقُولُ سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ . فَقُلْت : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إنِّي لَفِي شَأْنٍ وَإِنَّك لَفِي شَأْنٍ } . فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا أَنَّهُ كَانَ يُسَبِّحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَكِنْ قَدْ يَقْرِنُ بِالتَّسْبِيحِ التَّحْمِيدَ وَالتَّهْلِيلَ وَقَدْ يَقْرِنُ بِهِ الدُّعَاءَ . وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَبَّرَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِيهِمَا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا وَسَاجِدًا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ فَلَا يُتْلَى إلَّا فِي حَالِ الِارْتِفَاعِ وَالتَّكْبِيرِ أَيْضًا مَحَلُّهُ حَالَ الِارْتِفَاعِ . وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُهُ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ . فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ وُجُوبُهُ . وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ اسْتِحْبَابُهُ . وَالْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَتَعَيَّنُ " سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ "

و " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " لِلْأَمْرِ بِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ يَذْكُرُ بَعْضَ الْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ . وَالْأَقْوَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ التَّسْبِيحُ إمَّا بِلَفْظِ " سُبْحَانَ " وَإِمَّا بِلَفْظِ " سُبْحَانَك " وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ سَمَّاهَا " تَسْبِيحًا " فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ التَّسْبِيحِ فِيهَا وَقَدْ بَيَّنَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ كَمَا سَمَّاهَا اللَّهُ " قُرْآنًا " وَقَدْ بَيَّنَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ الْقِيَامُ . وَسَمَّاهَا " قِيَامًا " و " سُجُودًا " و " رُكُوعًا " وَبَيَّنَتْ السُّنَّةُ عِلَّةَ ذَلِكَ وَمَحَلَّهُ . وَكَذَلِكَ التَّسْبِيحُ يُسَبِّحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَقَدْ نُقِلَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ و سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ؛ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ؛ و سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } . وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ أَبِي دَاوُد { سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ } وَفِي اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ } وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ { سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوت وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ } . فَهَذِهِ كُلُّهَا تَسْبِيحَاتٌ .

وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى ذَلِكَ . فَإِنْ كَانَ كَرَاهَةُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى وَالْعَظِيمِ " فَلَهُ وَجْهٌ وَإِنْ كَانَ كَرَاهَةُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى جِنْسِ التَّسْبِيحِ فَلَا وَجْهَ لَهُ وَأَظُنُّهُ الْأَوَّلَ . وَكَذَلِكَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ كَرَاهَةُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى " سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ " لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهَا فَرْضٌ ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَالِكًا أَنْكَرُ أَنْ تَكُونَ فَرْضًا وَاجِبًا . وَهَذَا قَوِيٌّ ظَاهِرٌ بِخِلَافِ جِنْسِ التَّسْبِيحِ فَإِنَّ أَدِلَّةَ وُجُوبِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى التَّسْبِيحِ بِأَلْفَاظِ مُتَنَوِّعَةٍ . وَقَوْلُهُ " اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَفِي سُجُودِكُمْ " يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا مَحَلٌّ لِامْتِثَالِ هَذَا الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُقَالُ إلَّا هِيَ مَعَ مَا قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ غَيْرَهَا . وَالْجَمْعُ بَيْنَ صِيغَتَيْ تَسْبِيحٍ بَعِيدٍ بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالدُّعَاءِ . فَإِنَّ هَذِهِ أَنْوَاعٌ وَالتَّسْبِيحَ نَوْعٌ وَاحِدٌ فَلَا يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ صِيغَتَيْنِ . وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ

أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } . فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا . فَإِنْ جُعِلَ التَّسْبِيحُ نَوْعًا وَاحِدًا ف " سُبْحَانَ اللَّهِ " و " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " سَوَاءٌ وَإِنْ جُعِلَ مُتَفَاضِلًا ف " سُبْحَانَ اللَّهِ " أَفْضَلُ بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } و { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } أَمْرٌ بِتَسْبِيحِ رَبِّهِ لَيْسَ أَمْرًا بِصِيغَةِ مُعَيَّنَةٍ . فَإِذَا قَالَ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ " " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك " فَقَدْ سَبَّحَ رَبَّهُ الْأَعْلَى وَالْعَظِيمَ . فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَظِيمُ وَاسْمُهُ " اللَّهُ " يَتَنَاوَلُ مَعَانِيَ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ بِطَرِيقِ التَّضَمُّن وَإِنْ كَانَ التَّصْرِيحُ بِالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ لَيْسَ هُوَ فِيهِ . فَفِي اسْمِهِ " اللَّهُ " التَّصْرِيحُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَاسْمُهُ " اللَّهُ " أَعْظَمَ مِنْ اسْمِهِ " الرَّبُّ " . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } . فَالْقِيَامُ فِيهِ التَّحْمِيدُ وَفِي الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ وَفِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ التَّسْبِيحُ وَفِي الِانْتِقَالِ التَّكْبِيرُ وَفِي الْقُعُودِ التَّشَهُّدُ وَفِيهِ التَّوْحِيدُ . فَصَارَتْ الْأَنْوَاعُ الْأَرْبَعَةُ فِي الصَّلَاةِ .

وَالْفَاتِحَةِ أَيْضًا فِيهَا التَّحْمِيدُ وَالتَّوْحِيدُ . فَالتَّحْمِيدُ وَالتَّوْحِيدُ رُكْنٌ يَجِبُ فِي الْقِرَاءَةِ ؛ وَالتَّكْبِيرُ رُكْنٌ فِي الِافْتِتَاحِ ؛ وَالتَّشَهُّدُ الْآخِرُ رُكْنٌ فِي الْقُعُودِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَفِيهِ التَّشَهُّدُ الْمُتَضَمِّنُ لِلتَّوْحِيدِ . يَبْقَى التَّسْبِيحُ وَأَحْمَد يُوجِبُهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رُكْنٌ وَهُوَ قَوِيٌّ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ . فَكَيْفَ يُوجِبُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجِئْ أَمْرٌ بِهَا فِي الصَّلَاةِ خُصُوصًا وَلَا يُوجِبُ التَّسْبِيحَ مَعَ الْأَمْرِ بِهِ فِي الصَّلَاةِ وَمَعَ كَوْنِ الصَّلَاةِ تُسَمَّى " تَسْبِيحًا " ؟ وَكُلُّ مَا سُمِّيَتْ بِهِ الصَّلَاة مِنْ أَبْعَاضِهَا فَهُوَ رَكْنٌ فِيهَا كَمَا سُمِّيَتْ " قِيَامًا " و " رُكُوعًا " و " سُجُودًا " " وَقِرَاءَةً " وَسُمِّيَتْ أَيْضًا " تَسْبِيحًا " . وَلَمْ يَأْتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَنْفِي وُجُوبَهُ فِي حَالِ السَّهْوِ كَمَا وَرَدَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمَّا تَرَكَهُ سَجَدَ لِلسَّهْوِ ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : لَمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ لَيْسَ بِرُكْنِ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ قَدْ خُصَّ بِهِ حَالُ الِانْخِفَاضِ كَمَا خُصَّ حَالُ الِارْتِفَاعِ بِالتَّكْبِيرِ . فَذَكَّرَ الْعَبْدَ فِي حَالِ انْخِفَاضِهِ وَذُلِّهِ مَا يَتَّصِفُ بِهِ

الرَّبُّ مُقَابِلَ ذَلِكَ . فَيَقُولُ فِي السُّجُودِ " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " وَفِي الرُّكُوعِ " سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ " .
و " الْأَعْلَى " يَجْمَعُ مَعَانِي الْعُلُوِّ جَمِيعهَا وَأَنَّهُ الْأَعْلَى بِجَمِيعِ مَعَانِي الْعُلُوِّ . وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ عَلَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَاهِرٌ لَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ كَمَا قَالَ : { إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } وَعَلَا أَنَّهُ عَالٍ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ فَهُوَ عَالٍ عَنْ ذَلِكَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إنَاثًا إنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا } { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إلَّا نُفُورًا } { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } فَقَرَنَ تَعَالِيَهُ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّسْبِيحِ . وَقَالَ تَعَالَى : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } { عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَالَتْ الْجِنُّ : { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا } .

وَفِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ : " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ اسْتِفْتَاحِهِ : { تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك } فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الْمُبْطِلُونَ وَعَمَّا يُشْرِكُونَ . فَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلَادِ كَمَا أَنَّهُ مُسَبَّحٌ عَنْ ذَلِكَ . وَتَعَالِيهِ سُبْحَانَهُ عَنْ الشَّرِيكِ هُوَ تَعَالِيهِ عَنْ السَّمِيِّ وَالنِّدِّ وَالْمِثْلِ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِثْلَهُ . وَقَدْ ذَكَرُوا مِنْ مَعَانِي الْعُلُوِّ الْفَضِيلَةَ كَمَا يُقَالُ : الذَّهَبُ أَعْلَى مِنْ الْفِضَّةِ . وَنَفْيُ الْمِثْلِ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا شَيْءَ مِثْلَهُ . وَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ أَفْضَلُ وَخَيْرٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ . وَفِي الْقُرْآنِ : { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ } . وَيَقُولُ : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } وَيَقُولُ : { أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إلَّا أَنْ يُهْدَى } وَقَالَتْ السَّحَرَةُ : { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَعْبُودِينَ دُونَهُ لَيْسُوا مِثْلَهُ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ

وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلَّا ظَنًّا إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ

وَأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ . وَيُبَيِّنُ مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَانْتِفَائِهَا عَمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ . وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ يَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَعَمَّا يَقُولُونَ مِنْ إثْبَاتِ الْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ لَهُ . وَقَالَ : { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } وَهْم كَانُوا يَقُولُونَ إنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ . لَكِنْ كَانُوا يُثْبِتُونَ الشَّفَاعَةَ بِدُونِ إذْنِهِ فَيَجْعَلُونَ الْمَخْلُوقَ يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ . فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } فَالشَّفَاعَةُ لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ غَيْرَ اللَّهِ . كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ السدي فِي قَوْلِهِ : { إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } يَقُولُ : لَابْتَغَتْ الْحَوَائِجُ مِنْ اللَّهِ . وَعَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قتادة : { لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } لَابْتَغَوْا التَّقَرُّبَ إلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ . وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ قتادة : { لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ } يَقُولُ : لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ إذًا لَعَرَفُوا لَهُ فَضْلَهُ وَمَزِيَّتَهُ عَلَيْهِمْ وَلَابْتَغَوْا إلَيْهِ مَا يُقَرِّبُهُمْ إلَيْهِ . وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ : لَتَعَاطَوْا سُلْطَانَهُ . وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الهذلي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : سَبِيلًا إلَى أَنْ يُزِيلُوا مُلْكَهُ والهذلي ضَعِيفٌ .

فَقَدْ تَضَمَّنَ الْعُلُوَّ الَّذِي يَنْعَتُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ مُتَعَالٍ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلَادِ فَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . وَهَذَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ . وَأَنَّهُ لَا يُمَاثِلُهُ غَيْرُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ بَلْ هُوَ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ شَيْءٌ . وَتَضَمَّنَ أَنَّهُ عَالٍ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ قَاهِرٌ لَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ نَافِذَةٌ مَشِيئَتُهُ فِيهِ وَأَنَّهُ عَالٍ عَلَى الْجَمِيعِ فَوْقَ عَرْشِهِ . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٌ فِي اسْمِهِ " الْعَلِيِّ " . وَإِثْبَاتُ عُلُوِّهِ عُلُوُّهُ عَلَى مَا سِوَاهُ وَقُدْرَتُهُ عَلَيْهِ وَقَهْرُهُ يَقْتَضِي رُبُوبِيَّتَهُ لَهُ وَخَلْقَهُ لَهُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْكَمَالِ . وَعُلُوُّهُ عَنْ الْأَمْثَالِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ . وَهَذَا وَهَذَا يَقْتَضِي جَمِيعَ مَا يُوصَفُ بِهِ فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ . فَفِي الْإِثْبَاتِ يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَفِي النَّفْيِ يُنَزَّهُ عَنْ النَّقْصِ الْمُنَاقِضِ لِلْكَمَالِ وَيُنَزَّهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ . كَمَا قَدْ دَلَّتْ عَلَى هَذَا وَهَذَا سُورَةُ الْإِخْلَاصِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } . وَتَعَالِيهِ عَنْ الشُّرَكَاءِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ

الْعِبَادَةَ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ : { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } أَيْ وَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولُونَ يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَيُقَرِّبُونَكُمْ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ الرَّبُّ وَالْإِلَهُ دُونَهُمْ وَكَانُوا يَبْتَغُونَ إلَيْهِ سَبِيلًا بِالْعِبَادَةِ لَهُ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ . هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ . كَمَا قَالَ : { إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَقَالَ { إنَّهُ تَذْكِرَةٌ } { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } وَقَالَ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } ثُمَّ قَالَ : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } فَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إلَهٌ غَيْرُهُ أَوْ أَحَدٌ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ أَوْ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانُوا يَقُولُونَ . وَلَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ إنَّ آلِهَتَهُمْ تَقْدِرُ أَنْ تُمَانَعَهُ أَوْ تُغَالِبَهُ . بَلْ هَذَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ إلَهٍ آخَرَ يَخْلُقُ كَمَا يَخْلُقُ وَإِنْ كَانُوا هُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ كَمَا قَالَ : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ اسْمَهُ " الْأَعْلَى " يَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا يُنَافِيهَا مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَعَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ وَأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ .

فَصْلٌ :
وَالْأَمْرُ بِتَسْبِيحِهِ يَقْتَضِي أَيْضًا تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَسُوءٍ وَإِثْبَاتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ . فَإِنَّ التَّسْبِيحَ يَقْتَضِي التَّنْزِيهَ وَالتَّعْظِيمَ وَالتَّعْظِيمَ يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ الْمَحَامِدِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا . فَيَقْتَضِي ذَلِكَ تَنْزِيهَهُ وَتَحْمِيدَهُ وَتَكْبِيرَهُ وَتَوْحِيدَهُ . قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا ابْنُ نفيل الْحَرَّانِي ثَنَا النَّضْرُ ابْنُ عَرَبِيٍّ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ مَيْمُونَ بْنَ مهران عَنْ " سُبْحَانَ اللَّهِ " . فَقَالَ : " اسْمٌ يُعَظَّمُ اللَّهُ بِهِ وَيُحَاشَى بِهِ مِنْ السُّوءِ " . وَقَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ " سُبْحَانَ " قَالَ : تَنْزِيهُ اللَّهِ نَفْسِهِ مِنْ السُّوءِ . وَعَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } قَالَ عَجَبٌ . وَعَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : " سُبْحَانَ " اسْمٌ لَا يَسْتَطِيعُ النَّاسُ أَنْ يَنْتَحِلُوهُ . وَقَدْ جَاءَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّهُ

تَنْزِيهُ نَفْسِهِ مِنْ السُّوءِ " وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ وَهُوَ يَقْتَضِي تَنْزِيهَ نَفْسِهِ مِنْ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ كَمَا يَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ . وَنَفْيُ النَّقَائِصِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَفِيهَا التَّعْظِيمُ كَمَا قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مهران " اسْمٌ يُعَظَّمُ اللَّهُ بِهِ وَيُحَاشَى بِهِ مِنْ السُّوءِ " . وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حميد : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ موهب عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ : { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّسْبِيحِ فَقَالَ : إنزاهه عَنْ السُّوءِ } . وَقَالَ حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مخلد عَنْ شَبِيبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " سُبْحَانَ اللَّهِ " قَالَ : تَنْزِيهُهُ . حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانٍ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " نَعْرِفُهَا أَنَّهُ لَا إلَهَ غَيْرُهُ و " الْحَمْدُ لِلَّهِ " نَعْرِفُهَا أَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنْهُ وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهَا و " اللَّهُ أَكْبَرُ " نَعْرِفُهَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَكْبَرَ مِنْهُ فَمَا " سُبْحَانَ اللَّهِ " ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَمَا يُنْكَرُ مِنْهَا ؟ هِيَ كَلِمَةٌ رَضِيَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَأَمَرَ بِهَا مَلَائِكَتَهُ وَفَزِعَ إلَيْهَا الْأَخْيَارُ مِنْ خَلْقِهِ .

فَصْلٌ :
قَوْلُهُ : { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } الْعَطْفُ يَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِيمَا ذَكَرَ وَأَنَّ بَيْنَهُمَا مُغَايِرَةٌ إمَّا فِي الذَّاتِ وَإِمَّا فِي الصِّفَاتِ . وَهُوَ فِي الذَّاتِ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } . وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ فَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ . فَإِنَّ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى هُوَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ؛ لَكِنَّ هَذَا الِاسْمَ وَالصِّفَةَ لَيْسَ هُوَ ذَاكَ الِاسْمُ وَالصِّفَةُ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } إلَى قَوْلِهِ { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } . وَقَوْلُهُ : { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَقَوْلُهُ : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } وَقَوْلُهُ : { إلَّا الْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ }

{ وَاَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } الْآيَاتِ . وَقَوْلُهُ : { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } الْآيَاتِ فَإِنَّهُ مَنْ صَدَقَ وصَبَرَ وَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يُؤْمِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا . وَكَثِيرًا مَا تَأْتِي الصِّفَاتُ بِلَا عَطْفٍ كَقَوْلِهِ : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ } وَقَوْلُهُ : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } { مَلِكِ النَّاسِ } { إلَهِ النَّاسِ } . وَقَدْ تَجِيءُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ كَقَوْلِهِ : { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } . وَلَوْ كَانَ " فَعَّالٌ " صِفَةً لَكَانَ مُعَرَّفًا بَلْ هُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ . وَقَوْلُهُ : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ } خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لَكِنْ بِالْعَطْفِ بِكُلِّ مِنْ الصِّفَاتِ . وَأَخْبَارُ الْمُبْتَدَأِ قَدْ تَجِيءُ بِعَطْفِ وَبِغَيْرِ عَطْفٍ . وَإِذَا ذُكِرَ بِالْعَطْفِ كَانَ كُلُّ اسْمٍ مُسْتَقِلًّا بِالذِّكْرِ وَبِلَا عِطْفٍ يَكُونُ الثَّانِي مِنْ تَمَامِ الْأَوَّلِ بِمَعْنَى . وَمَعَ الْعَطْفِ لَا تَكُونُ الصِّفَاتُ إلَّا لِلْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ أَوْ لِلْمَدْحِ وَأَمَّا بِلَا عَطْفٍ فَهُوَ فِي النَّكِرَاتِ لِلتَّمْيِيزِ وَفِي الْمَعَارِفِ قَدْ يَكُونُ لِلتَّوْضِيحِ .

{ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } وُصِفَ بِكُلِّ صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَمُدِحَ بِهَا وَأُثْنِيَ عَلَيْهِ بِهَا . وَكَانَتْ كُلُّ صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُسْتَوْجِبَةً لِذَلِكَ .
فَصْلٌ :
قَالَ تَعَالَى : { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } . فَأَطْلَقَ الْخَلْقَ وَالتَّسْوِيَةَ وَلَمْ يَخُصَّ بِذَلِكَ الْإِنْسَانَ كَمَا أَطْلَقَ قَوْلَهُ بَعْدَ { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } لَمْ يُقَيِّدْهُ . فَكَانَ هَذَا الْمُطْلَقَ لَا يَمْنَعُ شُمُولَهُ لِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ . وَقَدْ بَيَّنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ شُمُولَهُ فِي قَوْلِهِ : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } . وَقَدْ ذَكَرَ الْمُقَيَّدَ بِالْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } . وَقَدْ ذَكَرَ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَّلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ مُطْلَقِهَا وَمُقَيَّدِهَا وَالْجَامِعِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ قَدْ ذَكَرَ خَلْقَهُ وَذَكَرَ هِدَايَتَهُ وَتَعْلِيمَهُ بَعْدَ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ : { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } .

لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ خُلِقَتْ لِغَايَةِ مَقْصُودَةٍ بِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ تُهْدَى إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ الَّتِي خُلِقَتْ لَهَا . فَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهَا وَمَا أُرِيدَتْ لَهُ إلَّا بِهِدَايَتِهَا لِغَايَاتِهَا . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ لِحِكْمَةِ وَغَايَةٍ تَصِلُ إلَيْهَا كَمَا قَالَ ذَلِكَ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَجَهْمِ وَأَتْبَاعِهِ إنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا لِشَيْءِ وَوَافَقَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ . وَهُمْ يُثْبِتُونَ أَنَّهُ مُرِيدٌ وَيُنْكِرُونَ أَنْ تَكُونَ لَهُ حِكْمَةٌ يُرِيدُهَا . وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ يُثْبِتُونَ عِنَايَتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَيُنْكِرُونَ إرَادَتَهُ . وَكِلَاهُمَا تَنَاقُضٌ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَنَّ مُنْتَهَاهُمْ جَحْدُ الْحَقَائِقِ . فَإِنَّ هَذَا يَقُولُ : " لَوْ كَانَ لَهُ حِكْمَةٌ يَفْعَلُ لِأَجْلِهَا لَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُرِيدَ الْحِكْمَةَ وَيَنْتَفِعَ بِهَا وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ " . وَذَاكَ يَقُولُ : " لَوْ كَانَ لَهُ إرَادَةٌ لَكَانَ يَفْعَلُ لِجَرِّ مَنْفَعَةٍ ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَا تُعْقَلُ إلَّا كَذَلِكَ " . وَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ يَقُولُونَ : " لَوْ فَعَلَ شَيْئًا لَكَانَ الْفِعْلُ لِغَرَضِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ " .

فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ : هَذِهِ الْحَوَادِثُ الْمَشْهُودَةُ أَلَهَا مُحْدِثٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالُوا " لَا " فَهُوَ غَايَةُ الْمُكَابَرَةِ . وَإِذَا جَوَّزُوا حُدُوثَ الْحَوَادِثِ بِلَا مُحْدِثٍ فَتَجْوِيزُهَا بِمُحْدِثِ لَا إرَادَةَ لَهُ أَوْلَى . وَإِنْ قَالُوا " لَهَا مُحْدِثٌ " ثَبَتَ الْفَاعِلُ . وَإِذَا ثَبَتَ الْخَالِقُ الْمُحْدِثُ فَإِمَّا أَنْ يَفْعَلَ بِإِرَادَةِ أَوْ بِغَيْرِ إرَادَةٍ . فَإِنْ قَالُوا " يَفْعَلُ بِغَيْرِ إرَادَةٍ " كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مُكَابَرَةٌ . فَإِنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ إنَّمَا صَدَرَتْ عَنْ إرَادَةٍ . فَإِنَّ الْحَرَكَاتِ إمَّا طَبْعِيَّةٌ وَإِمَّا قَسْرِيَّةٌ وَإِمَّا إرَادِيَّةٌ . لِأَنَّ مَبْدَأَ الْحَرَكَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُتَحَرِّكِ أَوْ مِنْ سَبَبٍ خَارِجٍ . وَمَا كَانَ مِنْهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الشُّعُورِ أَوْ بِدُونِ الشُّعُورِ . فَمَا كَانَ سَبَبُهُ مِنْ خَارِجٍ فَهُوَ الْقَسْرِيُّ وَمَا كَانَ سَبَبُهُ مِنْهَا بِلَا شُعُورٍ فَهُوَ الطَّبْعِيُّ وَمَا كَانَ مَعَ الشُّعُورِ فَهُوَ الْإِرَادِيُّ . فَالْقَسْرِيُّ تَابِعٌ لِلْقَاسِرِ وَاَلَّذِي يَتَحَرَّكُ بِطَبْعِهِ كَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالْأَرْضِ هُوَ سَاكِنٌ فِي مَرْكَزِهِ ؛ لَكِنْ إذَا خَرَجَ عَنْ مَرْكَزِهِ قَسْرًا طَلَب الْعَوْدَ إلَى مَرْكَزِهِ فَأَصْلُ حَرَكَتِهِ الْقَسْرُ . وَلَمْ تَبْقَ حَرَكَةٌ أَصْلِيَّةٌ إلَّا الْإِرَادِيَّةُ . فَكُلُّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ فَهِيَ عَنْ إرَادَةٍ . فَكَيْفَ تَكُونُ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ وَالْحَرَكَاتِ بِلَا إرَادَةٍ ؟ . وَأَيْضًا فَإِذَا جَوَّزُوا أَنْ تَحْدُثَ الْحَوَادِثُ الْعَظِيمَةُ عَنْ فَاعِلٍ غَيْرِ مُرِيدٍ فَجَوَازُ ذَلِكَ عَنْ فَاعِلٍ مُرِيدٍ أَوْلَى .

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُرِيدٌ قِيلَ : إمَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَهَا لِحِكْمَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَهَا لِغَيْرِ حِكْمَةٍ . فَإِنْ قَالُوا " لِغَيْرِ حِكْمَةٍ " كَانَ مُكَابَرَةً . فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَا تُعْقَلُ إلَّا إذَا كَانَ الْمُرِيدُ قَدْ فَعَلَ لِحِكْمَةِ يَقْصِدُهَا بِالْفِعْلِ . وَأَيْضًا فَإِذَا جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا مُرِيدًا بِلَا حِكْمَةٍ فَكَوْنُهُ فَاعِلًا مُرِيدًا لِحِكْمَةِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : " هَذَا لَا يُعْقَلُ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ يَنْتَفِعُ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَاجَةَ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ " . فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ يُوجِبُ احْتِيَاجَهُ إلَى غَيْرِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ وَبَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَهُوَ الصَّمَدُ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَهُوَ الْقَيُّومُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الْمُقِيمُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ . فَكَيْفَ يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَى غَيْرِهِ ؟ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ تَحْصُلُ لَهُ بِالْخَلْقِ حِكْمَةٌ هِيَ أَيْضًا حَاصِلَةٌ بِمَشِيئَتِهِ فَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ بَلْ هُوَ الْحَقُّ . وَإِذَا قَالُوا " الْحِكْمَةُ هِيَ اللَّذَّةُ " قِيلَ : لَفْظُ " اللَّذَّةِ " لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ وَهُوَ مُوهِمٌ وَمُجْمَلٌ . لَكِنْ جَاءَ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ " يُحِبُّ " و " يَرْضَى "

و " يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ " وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِذَا أُرِيدَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ فَهُوَ حَقٌّ . وَإِنْ قَالُوا : " الْحِكْمَةَ إمَّا أَنْ تُرَادَ لِنَفْسِهَا أَوْ لِحِكْمَةِ " قِيلَ : الْمُرَادَاتُ نَوْعَانِ مَا يُرَادُ لِنَفْسِهِ وَمَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ . وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ غَايَةً وَحِكْمَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى مَخْلُوقٍ وَهُوَ مَخْلُوقٌ لِحِكْمَةِ أُخْرَى . فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى حِكْمَةٍ يُرِيدُهَا الْفَاعِلُ لِذَاتِهَا . وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ تُثْبِتُ حِكْمَةً لَا تَعُودُ إلَى ذَاتِهِ . وَأَمَّا السَّلَفُ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ حِكْمَةً تَعُودُ إلَيْهِ كَمَا قَدْ بُيِّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ قَوْله تَعَالَى { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } . وَالتَّسْوِيَةُ : جَعْلُ الشَّيْئَيْنِ سَوَاءً كَمَا قَالَ : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } وقَوْله تَعَالَى { تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } و { سَوَاءٌ } وَسَطٌ لِأَنَّهُ مُعْتَدِلٌ بَيْنَ الْجَوَانِبِ . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ مِنْ الْعَدْلِ . فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَإِذَا فُضِّلَ أَحَدُهُمَا فَسَدَ الْمَصْنُوعُ كَمَا فِي مَصْنُوعَاتِ الْعِبَادِ إذَا بَنَوْا بُنْيَانًا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحِيطَانِ إذْ لَوْ رُفِعَ

حَائِطٌ عَلَى حَائِطٍ رَفْعًا كَثِيرًا فَسَدَ . وَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ جُذُوعِ السَّقْفِ فَلَوْ كَانَ بَعْضُ الْجُذُوعِ قَصِيرًا عَنْ الْغَايَةِ وَبَعْضُهَا فَوْقَ الْغَايَةِ فَسَدَ . وَكَذَلِكَ إذَا بُنِيَ صَفٌّ فَوْقَ صَفٍّ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الصُّفُوفِ وَكَذَلِكَ الدَّرَجُ الْمَبْنِيَّةُ . وَكَذَلِكَ إذَا صُنِعَ لِسَقْيِ الْمَاءِ جَدَاوِلُ وَمَسَاكِبُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ فِيهَا . وَكَذَلِكَ إذَا صُنِعَتْ مَلَابِسُ لِلْآدَمِيِّينَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً عَلَى أَبْدَانِهِمْ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ . وَكَذَلِكَ مَا يُصْنَعُ مِنْ الطَّعَامِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ أَخْلَاطُهُ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِدَالِ وَالنَّارُ الَّتِي تَطْبُخُهُ كَذَلِكَ . وَكَذَلِكَ السُّفُنُ الْمَصْنُوعَةُ . وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ لدَاوُد : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } أَيْ لَا تَدُقَّ الْمِسْمَارَ فَيُقْلِقْ وَلَا تُغْلِظْهُ فَيُفْصَمْ وَاجْعَلْهُ بِقَدْرِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي مَصْنُوعَاتِ الْعِبَادِ وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ مَصْنُوعَاتِ الرَّبِّ فَكَيْفَ بِمَخْلُوقَاتِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا صُنْعَ فِيهَا لِلْعِبَادِ كَخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَسَائِرِ الْبَهَائِمِ وَخَلْقِ النَّبَاتِ وَخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَلَائِكَةِ . فَالْفُلْكُ الَّذِي خَلَقَهُ وَجَعَلَهُ مُسْتَدِيرًا مَا لَهُ مِنْ فُرُوجٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ } وَقَالَ :

{ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ سَوَّاهَا كَمَا سَوَّى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَعَدَلَ بَيْنَ أَجْزَائِهَا . وَلَوْ كَانَ أَحَدُ جَانِبَيْ السَّمَاءِ دَاخِلًا أَوْ خَارِجًا لَكَانَ فِيهَا فُرُوجٌ وَهِيَ الْفُتُوقُ وَالشُّقُوقُ وَلَمْ يَكُنْ سَوَّاهَا كَمَنْ بَنَى قُبَّةً وَلَمْ يُسَوِّهَا . وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ أَحَدَ جَانِبَيْهَا أَطْوَلَ أَوْ أَنْقَصَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَالْعَدْلُ وَالتَّسْوِيَةُ لَازِمٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمَصْنُوعَاتِ . فَمَتَى لَمْ تُصْنَعْ بِالْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَقَعَ فِيهَا الْفَسَادُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ : { خَلَقَ فَسَوَّى } قَالَ : سَوَّى خَلْقَهُنَّ وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } .
فَصْلٌ :
ثُمَّ إذَا خَلَقَ الْمَخْلُوقَ فَسَوَّى فَإِنْ لَمْ يَهْدِهِ إلَى تَمَامِ الْحِكْمَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا فَسَدَ . فَلَا بُدَّ أَنْ يُهْدَى بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَا خُلِقَ لَهُ .

وَتِلْكَ الْغَايَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلْخَالِقِ . فَإِنَّ الْعِلَّةَ الغائية هِيَ أَوَّلٌ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَهِيَ آخِرٌ فِي الْوُجُودِ وَالْحُصُولِ . وَلِهَذَا كَانَ الْخَالِقُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ مَا خَلَقَ . فَإِنَّهُ قَدْ أَرَادَهُ وَأَرَادَ الْغَايَةَ الَّتِي خَلَقَهُ لَهَا وَالْإِرَادَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْعِلْمِ . فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ الْحَيُّ مَا لَا شُعُورَ لَهُ بِهِ . وَالصَّانِعُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا فَقَدْ عَلِمَهُ وَأَرَادَهُ وَقَدَّرَ فِي نَفْسِهِ مَا يَصْنَعُهُ وَالْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي إلَيْهَا وَمَا الَّذِي يُوَصِّلُهُ إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ وَكَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمْرَانَ بْن حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } .

فَقَدْ قَدَّرَ سُبْحَانَهُ مَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَهُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ حِين كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ : اُكْتُبْ . فَقَالَ مَا أَكْتُبُ ؟ فَقَالَ : اُكْتُبْ مَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَأَحَادِيثُ تَقْدِيرِهِ سُبْحَانَهُ وَكِتَابَتِهِ لِمَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا . رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ : { إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } فَقَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ بِقُدْرَتِهِ وَدَبَّرَ الْأُمُورَ بِحِكْمَتِهِ وَعَلِمَ مَا الْعِبَادُ صَائِرُونَ إلَيْهِ وَمَا هُوَ خَالِقٌ وَكَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ فَخَلَقَ اللَّهُ لِذَلِكَ جَنَّةً وَنَارًا فَجَعَلَ الْجَنَّةَ لِأَوْلِيَائِهِ وَعَرَّفَهُمْ وَأَحَبَّهُمْ وَتَوَلَّاهُمْ وَوَفَّقَهُمْ وَعَصَمَهُمْ وَتَرَكَ أَهْلَ النَّارِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ وَأَضَلَّهُمْ وَأَزَلَّهُمْ . فَخَلَقَ لِكُلِّ شَيْءٍ مَا يُشَاكِلُهُ فِي خَلْقِهِ مَا يُصْلِحُهُ مِنْ رِزْقِهِ فِي بَرٍّ أَوْ فِي بَحْرٍ . فَجَعَلَ لِلْبَعِيرِ خَلْقًا لَا يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الدَّوَابِّ . وَكَذَلِكَ كَلُّ دَابَّةٍ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ مِنْهَا مَا يُشَاكِلُهَا فِي خَلْقِهَا فَخَلْقُهُ مُؤْتَلِفٌ لِمَا خَلَقَهُ لَهُ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ . قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : ثَنَا أَبِي ثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ مهران الْقَزَّازُ

نا حِبَّانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : سَأَلْت الضَّحَّاكَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ { إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } قَالَ الضَّحَّاكُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ . وَقَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ثَنَا طَلْحَةُ بْنُ سِنَانٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : مَنْ كَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ . خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا وَأَجَّلَ أَجَلًا وَقَدَّرَ رِزْقًا وَقَدَّرَ مُصِيبَةً وَقَدَّرَ بَلَاءً وَقَدَّرَ عَافِيَةً . فَمَنْ كَفَرَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ . وَقَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ الجزري عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ جريح عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : أَتَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَنْزِعُ مِنْ زَمْزَمَ وَقَدْ ابْتَلَّتْ أَسَافِلُ ثِيَابِهِ فَقُلْت لَهُ : قَدْ تُكُلِّمَ فِي الْقَدَرِ . فَقَالَ : أو قَدْ فَعَلُوهَا ؟ قُلْت : نَعَمْ . قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إلَّا فِيهِمْ : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } { إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } أُولَئِكَ شِرَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَا تَعُودُوا مَرْضَاهُمْ وَلَا تُصَلُّوا عَلَى مَوْتَاهُمْ . إنْ رَأَيْت أَحَدًا مِنْهُمْ فَقَأْت عَيْنَيْهِ بِأُصْبُعَيَّ هَاتَيْنِ . وَقَالَ أَيْضًا : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْد حَدَّثَنَا سَهْلٌ الْخَيَّاطُ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ الحداني نا حِبَّانُ بْنُ عُبَيْدٍ اللَّهِ قَالَ : سَأَلْت

الضَّحَّاكَ عَنْ قَوْلِهِ : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } . قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ ثُمَّ خَلَقَ الْقَلَمَ فَأَمَرَهُ لِيَجْرِيَ بِإِذْنِهِ وَعِظَمُ الْقَلَمِ كَقَدْرِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ الْقَلَمُ : بِمَا يَا رَبِّ أُجْرِي ؟ فَقَالَ . " بِمَا أَنَا خَالِقٌ وَكَائِنٌ فِي خَلْقِي مِنْ قُطْرٍ أَوْ نَبَاتٍ أَوْ نَفْسٍ أَوْ أَثَرٍ يَعْنِي بِهِ الْعَمَلَ أَوْ رِزْقٍ أَوْ أَجَلٍ " . فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . فَأَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ عِنْدَهُ تَحْتَ الْعَرْشِ .
فَصْلٌ :
فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ قَدَّرَ مَا سَيَكُونُ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَهَدَاهَا إلَيْهِ . عَلِمَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ مِنْ الرِّزْقِ فَخَلَقَ ذَلِكَ الرِّزْقَ وَسَوَّاهُ وَخَلَقَ الْحَيَوَانَ وَسَوَّاهُ وَهَدَاهُ إلَى ذَلِكَ الرِّزْقِ . وَهَدَى غَيْرَهُ مِنْ الْأَحْيَاءِ أَنْ يَسُوقَ إلَيْهِ ذَلِكَ الرِّزْقَ . وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَقَدَّرَ حَاجَتِهَا إلَى الْمَطَرِ وَقَدَّرَ السَّحَابَ وَمَا يَحْمِلُهُ مِنْ الْمَطَرِ . وَخَلَقَ مَلَائِكَةً هَدَاهُمْ لِيَسُوقُوا ذَلِكَ السَّحَابَ إلَى تِلْكَ الْأَرْضِ

فَيُمْطِرَ الْمَطَرَ الَّذِي قَدَّرَهُ . وَقَدَّرَ مَا نَبَتَ بِهَا مِنْ الرِّزْقِ وَقَدَّرَ حَاجَةَ الْعِبَادِ إلَى ذَلِكَ الرِّزْقِ . وَهَدَاهُمْ إلَى ذَلِكَ الرِّزْقِ وَهَدَى مَنْ يَسُوقُ ذَلِكَ الرِّزْقَ إلَيْهِمْ . وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنْوَاعًا مِنْ تَقْدِيرِهِ وَهِدَايَتِهِ : فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا بِالْإِسْنَادِ الثَّابِتِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ : { قَدَّرَ فَهَدَى } قَالَ : الْإِنْسَانَ لِلشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حميد فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ : هَدَى الْإِنْسَانَ لِلسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا . وَقَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ شيبان عَنْ قتادة : { قَدَّرَ فَهَدَى } قَالَ : " لَا وَاَللَّهِ مَا أَكْرَهَ اللَّهُ عَبْدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ قَطُّ وَلَا عَلَى ضَلَالَةٍ وَلَا رَضِيَهَا لَهُ وَلَا أَمَرَهُ وَلَكِنْ رَضِيَ لَكُمْ الطَّاعَةَ فَأَمَرَكُمْ بِهَا وَنَهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ " . قُلْت : قتادة ذَكَرَ هَذَا عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَا قَدَّرَهُ مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ وقتادة وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَنَازِعِينَ . فَمَا سَبَقَ مِنْ سَبْقِ تَقْدِيرِ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَانَ نِزَاعُ بَعْضِهِمْ فِي الْإِرَادَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ .

وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي التَّقْدِيرِ السَّابِقِ وَالْكِتَابِ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ الصَّحَابَةُ كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا . وَذَكَرَ قتادة أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكْرَهْ أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ . وَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْرِهُ أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ كَمَا يُكْرِهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا لِلْمَخْلُوقِ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ يُكْرِهُونَهُ بِالْعُقُوبَةِ وَالْوَعِيدِ . بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ إرَادَةَ الْعَبْدِ لِلْعَمَلِ وَقُدْرَتَهُ وَعَمَلَهُ وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قتادة قَدْ يُظَنُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ وَأَنَّهُ لِسَبَبِ مِثْلِ هَذَا اُتُّهِمَ قتادة بِالْقَدَرِ حَتَّى قِيلَ : إنَّ مَالِكًا كَرِهَ لِمَعْمَرٍ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ التَّفْسِيرَ لِكَوْنِهِ اُتُّهِمَ بِالْقَدَرِ . وَهَذَا الْقَوْلُ حَقٌّ وَلَمْ يُعْرَفْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ قَالَ " إنَّ اللَّهَ أَكْرَهَ أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ " . بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ " الْجَبْرِ " مَنَعُوا مِنْ إطْلَاقِهِ كالأوزاعي وَالثَّوْرِيِّ وَالزُّبَيْدِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ . نَهَوْا عَنْ أَنْ يُقَالَ " إنَّ اللَّهَ جَبَرَ الْعِبَادَ " وَقَالُوا : إنَّ هَذَا بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ مُفْهِمٌ لِلْمَعْنَى الْفَاسِدِ .

قَالَ الأوزاعي وَغَيْرُهُ : إنَّ السَّنَةَ جَاءَتْ بـ " جَبَلَ " وَلَمْ تَأْتِ بـ " جَبَرَ " { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَشَجَّ عَبْدِ الْقَيْسِ : إنَّ فِيك لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ . فَقَالَ : أَخُلُقَيْنِ تَخَلَّقْت بِهِمَا أَمْ خُلُقَيْنِ جُبِلْت عَلَيْهِمَا ؟ فَقَالَ : بَلْ خُلُقَيْنِ جُبِلْت عَلَيْهِمَا . قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ } . وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ وَغَيْرُهُ : إنَّمَا يُجْبَرُ الْعَاجِزُ يَعْنِي الْجَبْرَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْإِكْرَاهِ كَمَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى النِّكَاحِ . وَاَللَّهُ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُجْبِرَ أَحَدًا يَعْنِي أَنَّهُ يَخْلُقُ إرَادَةَ الْعَبْدِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إجْبَارِهِ . فَالزُّبَيْدِيُّ وَطَائِفَةٌ نَفَوْا " الْجَبْرَ " وَكَانَ مَفْهُومُهُ عِنْدَهُمْ هَذَا . وَأَمَّا الأوزاعي وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا فَكَرِهُوا أَنْ يُقَالَ " جَبَرَ " وَأَنْ يُقَالَ " لَمْ يُجْبِرْ " لِأَنَّ " الْجَبْرَ " قَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِكْرَاهُ وَاَللَّهُ لَا يُكْرِهُ أَحَدًا . وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ خَالِقُ الْإِرَادَةِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ : " الْجَبَّارُ هُوَ الَّذِي جَبَرَ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَرَادَ " . و " الْجَبْرُ " بِهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ . وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ : { قَدَّرَ فَهَدَى } " هَدَى الْإِنْسَانَ لِلسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ " يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا عِنْدَهُ مِمَّا دَخَلَ فِي قَوْلِهِ : { قَدَّرَ فَهَدَى }

أَيْ هَدَى السُّعَدَاءِ إلَى السَّعَادَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا وَهَدَى الْأَشْقِيَاءَ إلَى الشَّقَاءِ الَّذِي قَدَّرَهُ . وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ : { إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } قَالَ : السَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةَ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ : سَبِيلَ الْهُدَى . رَوَاهُمَا عَبْدُ بْنُ حميد . وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قَالَ : الشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ . وَقَدْ قَالَ هُوَ وَجَمَاهِيرُ السَّلَفِ : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } : أَيْ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ . ثُمَّ قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى . . . (1) وَشَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي صَالِحٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَعِكْرِمَةَ وَشُرَحْبِيلَ بْنِ سَعِيدٍ وَابْنِ سِنَانٍ الرَّازِي وَالضَّحَّاكِ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَعَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الملائي نَحْوِ ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القرظي قَالَ : الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ .

وَهَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ فِيهِ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا أَرْسَلَهُ مِنْ الرُّسُلِ وَنَصَبَهُ مِنْ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ وَأَعْطَاهُمْ مِنْ الْعُقُولِ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } . وَأَمَّا إدْخَالُ الْهُدَى الَّذِي هُوَ الْإِلْهَامُ فِي ذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ هَدَى الْمُؤْمِنَ إلَى أَنْ يُؤْمِنَ وَيَعْمَلَ صَالِحًا إلَى أَنْ يَسْعَدَ بِذَلِكَ وَهَدَى الْكَافِرَ إلَى مَا يَعْمَلُهُ إلَى أَنْ يَشْقَى بِذَلِكَ فَهَذَا مِنْهُمْ مَنْ يُدْخِلُهُ فِي الْآيَةِ كَمُجَاهِدِ وَغَيْرِهِ وَيُدْخِلُهُ فِي قَوْلِهِ : { إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } . وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْقَدَرِ . وَمَنْ قَالَ : " هَدَى " بِمَعْنَى بَيَّنَ فَقَطْ فَقَدْ هَدَى كُلَّ عَبْدٍ إلَى نَجْدِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا أَيْ بَيَّنَ لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ . وَمَنْ أَدْخَلَ فِي ذَلِكَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ يَقُولُ : فِي هَذَا تَقْسِيمٌ أَيْ هَذِهِ الْهِدَايَةُ عَامَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ وَخَصَّ الْمُؤْمِنَ بِهِدَايَةِ إلَى نَجْدِ الْخَيْرِ وَخَصَّ الْكَافِرَ بِهِدَايَةِ إلَى نَجْدِ الشَّرِّ . وَمَنْ لَمْ يُدْخِلْ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ قَالَ : ذَكَرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ : إنَّمَا هُمَا النَّجْدَانِ نَجْدُ الْخَيْرِ وَنَجْدُ الشَّرِّ . فَمَا يُجْعَلُ نَجْدُ الشَّرِّ أَحَبُّ إلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ ؟ } .

وَيَحْتَجُّونَ بِأَنَّ إلْهَامَ الْفَاجِرِ طَرِيقَ الْفُجُورِ لَمْ يُسَمِّهِ هُدًى بَلْ سَمَّاهُ ضَلَالًا وَاَللَّهُ امْتَنَّ بِأَنَّهُ هَدَى . وَقَدْ يُجِيبُ الْآخَرُ بِأَنْ يَقُولَ : هُوَ لَا يَدْخُلُ فِي الْهُدَى الْمُطْلَقِ لَكِنْ يَدْخُلُ فِي الْهُدَى الْمُقَيَّدِ كَقَوْلِهِ : { فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } وَكَمَا فِي لَفْظِ الْبِشَارَةِ قَالَ : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَلَفْظُ الْإِيمَانِ فَقَالَ : { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي قَوْلِهِ : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } قِيلَ : هُوَ الْبَيَانُ الْعَامُّ وَقِيلَ : بَلْ أَلْهَمَ الْفَاجِرَ الْفُجُورَ وَالتَّقِيَّ التَّقْوَى . وَهَذَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْإِلْهَامَ اسْتِعْمَالُهُ مَشْهُورٌ فِي إلْهَامِ الْقُلُوبِ لَا فِي التَّبْيِينِ الظَّاهِرِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ . وَقَدْ { عَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُصَيْنًا الخزاعي لَمَّا أَسْلَمَ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي } . وَلَوْ كَانَ الْإِلْهَامُ بِمَعْنَى الْبَيَانِ الظَّاهِرِ لَكَانَ هَذَا حَاصِلًا لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : و { سُوًى } مَعْنَاهُ عَدَّلَ وَأَتْقَنَ حَتَّى صَارَتْ الْأُمُورُ مُسْتَوِيَةً دَالَّةً عَلَى قُدْرَتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ . وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ { قَدَرٍ } بِتَشْدِيدِ الدَّالِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ

مِنْ الْقَدَرِ وَالْقَضَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّقْدِيرِ وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ . قُلْت : هُمَا مُتَلَازِمَانِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلَ يُسَمَّى تَقْدِيرًا ؛ لِأَنَّ مَا يَجْرِي بَعْدَ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى قَدَرِهِ فَهُوَ مُوَازِنٌ لَهُ وَمُعَادِلٌ لَهُ . قَالَ : وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ بِتَخْفِيفِ الدَّالِّ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّقْدِيرِ وَالْمُوَازَنَةِ " . قُلْت : وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : وَقَوْلُهُ { فَهَدَى } عَامٌّ لِوُجُوهِ الْهِدَايَاتِ فِي الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ . وَقَدْ خَصَّصَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَشْيَاءَ مِنْ الْهِدَايَاتِ فَقَالَ الْفَرَّاءُ : مَعْنَاهُ هَدَى وَأَضَلَّ وَاكْتَفَى بِالْوَاحِدِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْأُخْرَى . قَالَ وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ : هَدَى إلَى وَطْءِ الذُّكُورِ لِلْإِنَاثِ . وَقِيلَ هَدَى الْمَوْلُودَ عِنْدَ وَضْعِهِ إلَى مَصِّ الثَّدْيِ . وَقَالَ مُجَاهِد : هَدَى النَّاسَ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْبَهَائِمَ لِلْمَرَاتِعِ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : " وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مثالات وَالْعُمُومُ فِي الْآيَةِ أَصْوَبُ فِي كُلِّ تَقْدِيرٍ وَفِي كُلِّ هِدَايَةٍ " . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَغَيْرَهَا فَذَكَرَ

سَبْعَةَ أَقْوَالٍ : قَدَّرَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ وَهَدَى لِلرُّشْدِ وَالضَّلَالَةِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَقِيلَ : جَعَلَ لِكُلِّ دَابَّةٍ مَا يُصْلِحُهَا وَهَدَاهَا إلَيْهِ قَالَهُ عَطَاءٌ . وَقِيلَ : قَدَّرَ مُدَّةَ الْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ هَدَاهُ لِلْخُرُوجِ قَالَهُ السدي . وَقِيلَ : قَدَّرَهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَهَدَى الذُّكُورَ لِإِتْيَانِ الْإِنَاثِ قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَقِيلَ : قَدَّرَ فَهَدَى وَأَضَلَّ فَحَذَفَ " وَأَضَلَّ " لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَكَاهُ الزَّجَّاجُ . وَقِيلَ : قَدَّرَ الْأَرْزَاقَ وَهَدَى إلَى طَلَبِهَا ؛ وَقِيلَ قَدَّرَ الذُّنُوبَ فَهَدَى إلَى التَّوْبَةِ حَكَاهُمَا الثَّعْلَبِيُّ . قُلْت : الْقَوْلُ الَّذِي حَكَاهُ الزَّجَّاجُ هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ : " إنْ نَفَعَتْ وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْ " وَمِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ " سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ " . وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَعْفُ مِثْلِ هَذَا وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . وَالْأَقْوَالُ الصَّحِيحَةُ هِيَ مِنْ بَابِ المثالات كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ . وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ تَفْسِيرِ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ مِنْ النَّوْعِ مِثَالًا لِيُنَبِّهُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ لِحَاجَةِ الْمُسْتَمِعِ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ كَمَا يَذْكُرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . كَقَوْلِهِ : { سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } وَقَوْلِهِ : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ } وَقَوْلِهِ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وَقَوْلِهِ : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ }

وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ : { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } و { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَوْلِهِ : { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمِثَالِ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ : إنَّ " هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ " فَبِهَذَا يُمَثِّلُ بِمَنْ نَزَلَتْ فِيهِ نَزَلَتْ فِيهِ أَوَّلًا وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا لَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهَا آيَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ كَآيَةِ اللِّعَانِ وَآيَةِ الْقَذْفِ وَآيَةِ الْمُحَارَبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . لَا يَقُولُ مُسْلِمٌ إنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ كَانَ نُزُولُهَا بِسَبَبِهِ . وَاللَّفْظُ الْعَامُّ وَإِنْ قَالَ طَائِفَةٌ إنَّهُ يُقْصَرُ عَلَى سَبَبِهِ فَمُرَادُهُمْ عَلَى النَّوْعِ الَّذِي هُوَ سَبَبُهُ لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ . فَلَا يَقُولُ مُسْلِمٌ إنَّ آيَةَ الظِّهَارِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا إلَّا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ وَآيَةَ اللِّعَانِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا إلَّا عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ أَوْ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ : وَأَنَّ ذَمَّ الْكُفَّارِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ إلَّا كُفَّارُ قُرَيْشٍ ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ . فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَرَفَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِهِ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إلَى جَمِيعِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ بِالْقُرْآنِ جَمِيعَ

الثَّقَلَيْنِ كَمَا قَالَ : { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } . فَكُلُّ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ مِنْ إنْسِيٍّ وَجِنِّيٍّ فَقَدْ أَنْذَرَهُ الرَّسُولُ بِهِ . وَالْإِنْذَارُ هُوَ الْإِعْلَامُ بِالْمَخُوفِ وَالْمَخُوفُ هُوَ الْعَذَابُ يَنْزِلُ بِمَنْ عَصَى أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ . فَقَدْ أَعْلَمَ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ الْقُرْآنَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُطِعْهُ وَإِلَّا عَذَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّهُ إنْ أَطَاعَهُ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَهُوَ قَدْ مَاتَ فَإِنَّمَا طَاعَتُهُ بِاتِّبَاعِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَحَرَّمَهُ وَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الرَّسُولُ وَحَرَّمَهُ بِسُنَّتِهِ . فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَيَّنَ وُجُوبَ طَاعَتِهِ وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَقَالَ لِأَزْوَاجِ نَبِيِّهِ { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ }
فَصْلٌ :
ثُمَّ قَالَ : { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } { فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } هُوَ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ : { قَدَّرَ فَهَدَى } دَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا قَدَّرَهُ مِنْ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ وَالْبَهَائِمِ وَهَدَاهُمْ إلَيْهَا فَهَدَى مَنْ يَأْتِي بِهَا إلَيْهِمْ . وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ إنْعَامِهِ عَلَى عِبَادِهِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : { إنَّ اللَّهَ يَقُولُ :

إنِّي وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ لَفِي نَبَأٍ عَظِيمٍ أَخْلُقُ وَيَعْبُدُونَ غَيْرِي وَأَرْزُقُ وَيَشْكُرُونَ سِوَايَ } وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ رُوِيَ فِي قَوْلِهِ : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أَيْ تَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ وَشُكْرَ رَبِّكُمْ التَّكْذِيبَ بِإِنْعَامِ اللَّهِ وَإِضَافَةِ الرِّزْقِ إلَى غَيْرِهِ كَالْأَنْوَاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْبَحَ مِنْ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ قَالُوا : هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا قَالَ : فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } حَتَّى بَلَغَ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ إلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ يُنَزِّلُ اللَّهُ الْغَيْثَ فَيَقُولُونَ : الْكَوْكَبُ كَذَا وَكَذَا وَفِي رِوَايَةٍ بِكَوْكَبِ كَذَا وَكَذَا } . وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي تَفْسِيرِهِ : ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ يَعْنِي الصَّائِغَ ثَنَا سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ ثَنَا هشيم عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ " وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ " ،

يَعْنِي الْأَنْوَاءَ . وَمَا مُطِرَ قَوْمٌ إلَّا أَصْبَحَ بَعْضُهُمْ كَافِرًا وَكَانُوا يَقُولُونَ : مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قَالَ : تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ تَكْذِيبًا وَشُكْرًا لِغَيْرِهِ .
لَكِنَّ قَوْلَهُ : { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } خَصَّ بِهِ إخْرَاجَ الْمَرْعَى وَهُوَ مَا تَرْعَاهُ الدَّوَابُّ وَذَكَرَ أَنَّهُ جَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى . وَهَذَا فِيهِ ذِكْرُ أَقْوَاتِ الْبَهَائِمِ لَكِنَّ أَقْوَاتَ الْآدَمِيِّينَ أَجَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ دَخَلَتْ هِيَ وَأَقْوَاتُ الْبَهَائِمِ فِي قَوْلِهِ { قَدَّرَ فَهَدَى } . وَأَيْضًا فَاَلَّذِي يَصِيرُ غُثَاءً أَحْوَى لَمْ تَقْتَتْ بِهِ الْبَهَائِمُ وَإِنَّمَا تَقْتَاتُ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ . فَهُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ خَصَّ هَذَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا . إذْ كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تَضَمَّنَتْ أُصُولَ الْإِيمَانِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْمَلَائِكَةِ . وَفِيهَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ وَالْفَاسِدُ الَّذِي يَضُرُّ فِيهَا .

فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْمَرْعَى عَقِبَ مَا ذِكْرِهِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْهُدَى لِيُبَيِّنَ مَآلَ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّ الدُّنْيَا هَذَا مَثَلُهَا . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْكَهْفِ وَيُونُسَ وَالْحَدِيدِ . قَالَ تَعَالَى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } { وَاللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } وَقَدْ جَعَلَ إهْلَاكَ الْمُهْلَكِينَ حَصَادًا لَهُمْ فَقَالَ : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ

الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } وَقَالَ : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } فَقَوْلُهُ : { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } { فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } هُوَ مَثَلٌ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَعَاقِبَةُ الْكُفَّارِ وَمَنْ اغْتَرَّ بِالدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي نَعِيمٍ وَزِينَةٍ وَسَعَادَةٍ ثُمَّ يَصِيرُونَ إلَى شَقَاءٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . كَالْمَرْعَى الَّذِي جَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى .
فَصْلٌ :
قَوْلُهُ : { فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى . سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى . الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } فَقَوْلُهُ : إنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى كَقَوْلِهِ : إنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَوْلُهُ : إنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى وَ " إنْ " هِيَ الشَّرْطِيَّةُ .

وَحَكَى الماوردي أَنَّهَا بِمَعْنَى " مَا " .
وَهَذِهِ تَكُونُ " مَا " الْمَصْدَرِيَّةُ . وَهِيَ بِمَعْنَى الظَّرْفِ ، أَيْ : ذَكِّرْ مَا نَفَعَتْ ، مَا دَامَتْ تَنْفَعُ . وَمَعْنَاهَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ . وَأَمَّا إنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّهَا نَافِيَةٌ فَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ . فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْفِي نَفْعَ الذِّكْرَى مُطْلَقًا وَهُوَ الْقَائِلُ { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومِ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ } ثُمَّ قَالَ { الْمُؤْمِنِينَ } . . . (1) .
وَعَنْ . . . (2) فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى : إنْ قَبِلْت الذِّكْرَى . وَعَنْ مُقَاتِلٍ : فَذَكِّرْ وَقَدْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى . وَقِيلَ : ذَكِّرْ إنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْ . قَالَهُ طَائِفَةٌ ، أَوَّلُهُمْ الْفَرَّاءُ ، وَاتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ ، مِنْهُمْ النَّحَّاسُ ، وَالزَّهْرَاوِيُّ . وَالْوَاحِدِيُّ . والبغوي وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ . قَالُوا : وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الْحَالَ الثَّانِيَةَ كَقَوْلِهِ : سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَأَرَادَ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ . وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَتَذْكِيرُهُمْ سَوَاءٌ آمَنُوا أَوْ كَفَرُوا . فَلَمْ يَكُنْ وُجُوبُ التَّذْكِيرِ مُخْتَصًّا بِمَنْ

تَنْفَعُهُ الذِّكْرَى كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ } { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } وَقَالَ : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } وَقَالَ : { وَيَقُولُونَ إنَّهُ لَمَجْنُونٌ } { وَمَا هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } وَقَالَ : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } . وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِ لَكِنْ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ . وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ يُنْكِرُ عَلَى الْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِ مَا يُنْكِرُهُ وَيَقُولُ : كُنْت أَحْسَبُ الْفَرَّاءَ رَجُلًا صَالِحًا حَتَّى رَأَيْت كِتَابَهُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ . وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَالُوهُ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِآيَاتِ أُخَرٍ . وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ أَمْرِ الرَّسُولِ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ مُبَلِّغًا وَمُذَكِّرًا لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ . بَلْ مَعْنَى هَذِهِ يُشْبِهُ قَوْلَهُ : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } وَقَوْلَهُ : { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } وَقَوْلَهُ : { إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } وَقَوْلَهُ { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } فَالْقُرْآنُ جَاءَ بِالْعَامِّ وَالْخَاصِّ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ .

وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ التَّعْلِيمَ وَالتَّذْكِيرَ وَالْإِنْذَارَ وَالْهُدَى وَنَحْوَ ذَلِكَ لَهُ فَاعِلٌ وَلَهُ قَابِلٌ . فَالْمُعَلِّمُ الْمُذَكِّرُ يُعَلِّمُ غَيْرَهُ ثُمَّ ذَلِكَ الْغَيْرُ قَدْ يَتَعَلَّمُ وَيَتَذَكَّرُ وَقَدْ لَا يَتَعَلَّمُ وَلَا يَتَذَكَّرُ . فَإِنْ تَعَلَّمَ وَتَذَكَّرَ فَقَدْ تَمَّ التَّعْلِيمُ وَالتَّذْكِيرُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ فَقَدْ وُجِدَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ وَهُوَ الْفَاعِلُ دُونَ الْمَحَلِّ الْقَابِلِ . فَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا : عَلَّمْته فَمَا تَعَلَّمَ وَذَكَّرْته فَمَا تَذَكَّرَ وَأَمَرْته فَمَا أَطَاعَ . وَقَدْ يُقَالُ " مَا عَلَّمْته وَمَا ذَكَّرْته " لِأَنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْ تَامًّا وَلَمْ يُحَصِّلْ مَقْصُودَهُ فَيُنْفَى لِانْتِفَاءِ كَمَالِهِ وَتَمَامِهِ . وَانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُخَاطَبِ السَّامِعِ وَإِنْ كَانَتْ الْفَائِدَةُ حَاصِلَةً لِلْمُتَكَلِّمِ الْقَائِلِ الْمُخَاطَبِ . فَحَيْثُ خُصَّ بِالتَّذْكِيرِ وَالْإِنْذَارِ وَنَحْوِهِ الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ مَخْصُوصُونَ بِالتَّامِّ النَّافِعِ الَّذِي سَعِدُوا بِهِ . وَحَيْثُ عُمِّمَ فَالْجَمِيعُ مُشْتَرِكُونَ فِي الْإِنْذَارِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ سَوَاءٌ قَبِلُوا أَوْ لَمْ يَقْبَلُوا .
وَهَذَا هُوَ الْهُدَى الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } فَالْهُدَى هُنَا هُوَ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ الْعَامُّ الْمُشْتَرَكُ . وَهُوَ كَالْإِنْذَارِ الْعَامِّ وَالتَّذْكِيرِ الْعَامِّ . وَهُنَا قَدْ هَدَى الْمُتَّقِينَ وَغَيْرَهُمْ كَمَا قَالَ : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } وَأَمَّا قَوْلُهُ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } فَالْمَطْلُوبُ الْهُدَى الْخَاصُّ

التَّامُّ الَّذِي يَحْصُلُ مَعَهُ الِاهْتِدَاءُ كَقَوْلِهِ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَقَوْلِهِ : { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ } وَقَوْلِهِ : { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ } وَقَوْلِهِ : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ الْإِنْذَارُ قَدْ قَالَ : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا } وَقَالَ فِي الْخَاصِّ : { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } { إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } فَهَذَا الْإِنْذَارُ الْخَاصُّ وَهُوَ التَّامُّ النَّافِعُ الَّذِي انْتَفَعَ بِهِ الْمُنْذِرُ . وَالْإِنْذَارُ هُوَ الْإِعْلَامُ بِالْمَخُوفِ فَعَلِمَ الْمَخُوفُ فَخَافَ فَآمَنَ وَأَطَاعَ . وَكَذَلِكَ التَّذْكِيرُ عَامٌّ وَخَاصٌّ . فَالْعَامُّ هُوَ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ إلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهَذَا يَحْصُلُ بِإِبْلَاغِهِمْ مَا أُرْسِلَ بِهِ مِنْ الرِّسَالَةِ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا هِيَ إلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } . ثُمَّ قَالَ : { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } فَذَكَرَ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ .

وَالتَّذَكُّرُ هُوَ الذِّكْرُ التَّامُّ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْمُذَكَّرُ بِهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ . وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } { لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ } فَقَدْ أَتَاهُمْ وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ وَلَكِنْ لَمْ يَصْغَوْا إلَيْهِ بِقُلُوبِهِمْ فَلَمْ يَفْهَمُوهُ أَوْ فَهِمُوهُ فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ كَمَا قَالَ : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } وَالْخَاصُّ هُوَ التَّامُّ النَّافِعُ وَهُوَ الَّذِي حَصَلَ مَعَهُ تَذَكُّرٌ لِمُذَكَّرِ فَإِنَّ هَذَا ذِكْرَى كَمَا قَالَ : { فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } أَيْ يُجَنَّبُ الذِّكْرَى وَهُوَ إنَّمَا جُنِّبَ الذِّكْرَى الْخَاصَّةَ . وَأَمَّا الْمُشْتَرَكُ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ فَقَدْ ذُكِّرَ هُوَ وَغَيْرُهُ بِذَلِكَ وَقَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَقَالَ : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَقَالَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ

يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } . وَأَمَّا تَمْثِيلُهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } أَيْ وَتَقِيَكُمْ الْبَرْد فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ حَرْفُ شَرْطٍ عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ بِخِلَافِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِنَّهُ إذَا عُلِّقَ الْأَمْرُ بِشَرْطِ وَكَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي حَالِ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي حَالِ عَدَمِهِ كَانَ ذِكْرُ الشَّرْطِ تَطْوِيلًا لِلْكَلَامِ تَقْلِيلًا لِلْفَائِدَةِ وَإِضْلَالًا لِلسَّامِعِ . وَجُمْهُورُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ حُجَّةٌ وَمَنْ نَازَعَ فِيهِ يَقُولُ : سَكَتَ عَنْ غَيْرِ الْمُعَلَّقِ لَا يَقُولُ : إنَّ اللَّفْظَ دَلَّ عَلَى الْمَسْكُوتِ كَمَا دَلَّ عَلَى الْمَنْطُوقِ . فَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ . الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ { تَقِيكُمُ الْحَرَّ } عَلَى بَابِهِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْبَرْدِ . وَإِنَّمَا يَقُولُ " إنَّ الْمَعْطُوفَ مَحْذُوفٌ " هُوَ الْفَرَّاءُ وَأَمْثَالُهُ مِمَّنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ الْأَئِمَّةُ حَيْثُ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِمُجَرَّدِ ظَنِّهِمْ وَفَهْمِهِمْ لِنَوْعِ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَهُمْ . وَكَثِيرًا لَا يَكُونُ مَا فَسَّرُوا بِهِ مُطَابِقًا . وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ الْبَرْدِ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي

هَذِهِ السُّورَةِ إنْعَامَهُ عَلَى عِبَادِهِ وَتُسَمَّى " سُورَةُ النِّعَمِ " فَذَكَرَ فِي أَوَّلِهَا أُصُولَ النِّعَمِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا وَلَا تَقُومُ الْحَيَاةُ إلَّا بِهَا وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا تَمَامَ النِّعَمِ . وَكَانَ مَا يَقِي الْبَرْدَ مِنْ أُصُولِ النِّعَمِ فَذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } . فَالدِّفْءُ مَا يُدْفِئُ وَيَدْفَعُ الْبَرْدَ . وَالْبَرْدُ الشَّدِيدُ يُوجِبُ الْمَوْتَ بِخِلَافِ الْحَرِّ . فَقَدْ مَاتَ خَلْقٌ مِنْ الْبَرْدِ بِخِلَافِ الْحَرِّ فَإِنَّ الْمَوْتَ مِنْهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ الْبَرْدُ بُؤْسٌ وَالْحَرُّ أَذًى . فَلَمَّا ذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا تَمَامَ النِّعَمِ ذَكَرَ الظِّلَالَ وَمَا يَقِي الْحَرَّ وَذَكَرَ الْأَسْلِحَةَ وَمَا يَقِي الْقَتْلَ فَقَالَ : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } . فَذَكَرَ أَنَّهُ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَقَالَ : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } . وَفَرْقٌ بَيْنَ الظِّلَالِ وَالْأَكْنَانِ ؛ فَإِنَّ الظِّلَالَ يَكُونُ بِالشَّجَرِ

وَنَحْوِهِ مِمَّا يُظِلُّ وَلَا يُكِنُّ بِخِلَافِ مَا فِي الْجِبَالِ مِنْ الْغَيْرَانِ فَإِنَّهُ يُظِلُّ وَيُكَنُّ . فَهَذَا فِي الْأَمْكِنَةِ ثُمَّ قَالَ فِي اللِّبَاسِ : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } فَهَذَا فِي اللِّبَاسِ . وَاللِّبَاسُ وَالْمَسَاكِنُ كِلَاهُمَا تَقِي النَّاسَ مَا يُؤْذِيهِمْ مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ وَعَدُوٍّ وَكِلَاهُمَا تَسْتُرُهُمْ عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ . وَفِي الْبُيُوتِ خَاصَّةً يَسْكُنُونَ كَمَا قَالَ : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقَامَتِكُمْ } . فَلَمَّا ذَكَرَ الْبُيُوتَ الْمَسْكُونَةَ امْتَنَّ بِكَوْنِهِ جَعَلَهَا سَكَنًا يَسْكُنُونَ فِيهَا مِنْ تَعَبِ الْحَرَكَاتِ . وَذَكَرَ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ بُيُوتًا أُخْرَى يَحْمِلُونَهَا مَعَهُمْ ويستخفونها يَوْمَ ظَعْنِهِمْ وَيَوْمَ إقَامَتِهِمْ . فَذَكَرَ الْبُيُوتَ الثَّقِيلَةَ الَّتِي لَا تُحْمَلُ وَالْخَفِيَّةَ الَّتِي تُحْمَلُ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا مَثَّلُوا بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ . فَقَوْلُهُ : { إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } - كَمَا قَالَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ وَالْجُمْهُورِ - عَلَى بَابِهَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : تَذْكِرَةٌ لِلْمُؤْمِنِ وَحُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ .

وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْكَافِرِ يُبَلِّغُ الْقُرْآنَ لِوُجُوهِ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ لَكِنْ قَالَ : { فَذَكِّرْ } وَهَذَا مُطْلَقٌ بِتَذْكِيرِ كُلِّ أَحَدٍ . وَقَوْلُهُ : { إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } لَمْ يَقُلْ " إنْ نَفَعَتْ كُلَّ أَحَدٍ " . بَلْ أَطْلَقَ النَّفْعَ . فَقَدْ أَمَرَ بِالتَّذْكِيرِ إنْ كَانَ يَنْفَعُ . وَالتَّذْكِيرُ الْمُطْلَقُ الْعَامُّ يَنْفَعُ . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَذَكَّرُ فَيَنْتَفِعُ بِهِ وَالْآخَرُ تَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَيَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ عِبْرَةً لِغَيْرِهِ فَيَحْصُلُ بِتَذْكِيرِهِ نَفْعٌ أَيْضًا . وَلِأَنَّهُ بِتَذْكِيرِهِ تَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَتَجُوزُ عُقُوبَتُهُ بَعْدَ هَذَا بِالْجِهَادِ وَغَيْرِهِ فَتَحْصُلُ بِالذِّكْرَى مَنْفَعَةٌ . فَكُلُّ تَذْكِيرٍ ذَكَّرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُشْرِكِينَ حَصَلَ بِهِ نَفْعٌ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ النَّفْعُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قَبِلُوهُ وَاعْتَبَرُوا بِهِ وَجَاهَدُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ . فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا كُلُّ تَذْكِيرٍ قَدْ حَصَلَ بِهِ نَفْعٌ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي التَّقْيِيدِ ؟

قِيلَ : بَلْ مِنْهُ مَا لَمْ يَنْفَعْ أَصْلًا وَهُوَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ . وَذَلِكَ كَمَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ كَأَبِي لَهَبٍ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ } فَإِنَّهُ لَا يُخَصُّ بِتَذْكِيرِ بَلْ يُعْرَضُ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَصْغَ إلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَمِعْ لِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَنْهُ كَمَا قَالَ : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ } ثُمَّ قَالَ : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } فَهُوَ إذَا بَلَّغَ قَوْمًا الرِّسَالَةَ فَقَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ امْتَنَعُوا مِنْ سَمَاعِ كَلَامِهِ أَعْرَضَ عَنْهُمْ . فَإِنَّ الذِّكْرَى حِينَئِذٍ لَا تَنْفَعُ أَحَدًا . وَكَذَلِكَ مَنْ أَظْهَرَ أَنَّ الْحُجَّةَ قَامَتْ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي فَإِنَّهُ لَا يُكَرِّرُ التَّبْلِيغَ عَلَيْهِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّذْكِيرِ أَمْرٌ بِالتَّذْكِيرِ التَّامِّ النَّافِعِ كَمَا هُوَ أَمْرٌ بِالتَّذْكِيرِ الْمُشْتَرَكِ . وَهَذَا التَّامُّ النَّافِعُ يَخُصُّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْتَفِعِينَ . فَهُمْ إذَا آمَنُوا ذَكَّرَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ وَكُلَّمَا أُنْزِلَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ ذَكَّرَهُمْ بِهِ وَيُذَكِّرُهُمْ بِمَعَانِيهِ وَيُذَكِّرُهُمْ بِمَا نَزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ . بِخِلَافِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } { كَأَنَّهُمْ

حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ } { فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُذَكِّرُهُمْ كَمَا يُذَكِّرُ الْمُؤْمِنِينَ إذَا كَانَتْ الْحُجَّةُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ التَّذْكِرَةِ لَا يَسْمَعُونَ . وَلِهَذَا قَالَ . { عَبَسَ وَتَوَلَّى } { أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } { أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى } { فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى } { وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى } { وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى } { وَهُوَ يَخْشَى } { فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى } فَأَمَرَهُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى مَنْ جَاءَهُ يَطْلُبُ أَنْ يَتَزَكَّى وَأَنْ يَتَذَكَّرَ . وَقَالَ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } إلَى قَوْلِهِ { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } فَذَكَرَ التَّذَكُّرَ وَالتَّزَكِّي كَمَا ذَكَرَهُمَا هُنَاكَ . وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّ هَذَا يَنْتَفِعُ بِالذِّكْرَى دُونَ ذَاكَ . فَيَكُونُ مَأْمُورًا أَنْ يُذَكِّرَ الْمُنْتَفِعِينَ بِالذِّكْرَى تَذْكِيرًا يَخُصُّهُمْ بِهِ غَيْرَ التَّبْلِيغِ الْعَامِّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ كَمَا قَالَ : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ } { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } . وَقَالَ : { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ فَسَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ : وَلَا تَجْهَرْ بِهِ فَيَسْمَعَهُ الْمُشْرِكُونَ وَلَا تُخَافِتْ

بِهِ عَنْ أَصْحَابِك } . فَنَهَى عَنْ أَنْ يُسْمِعَهُمْ إسْمَاعًا يَكُونُ ضَرَرُهُ أَعْظَمَ مِنْ نَفْعِهِ . وَهَكَذَا كُلُّ مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةً عَلَى مَفْسَدَتِهِ وَالْمَصْلَحَةُ هِيَ الْمَنْفَعَةُ وَالْمَفْسَدَةُ هِيَ الْمَضَرَّةُ . فَهُوَ إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالتَّذْكِيرِ إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ رَاجِحَةً وَهُوَ أَنْ تَحْصُلَ بِهِ مَنْفَعَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى الْمَضَرَّةِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي . فَحَيْثُ كَانَ الضَّرَرُ رَاجِحًا فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَمَّا يَجْلِبُ ضَرَرًا رَاجِحًا . وَالنَّفْعُ أَعَمُّ فِي قَبُولِ جَمِيعِهِمْ فَقَبُولُ بَعْضِهِمْ نَفْعٌ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَقْبَلْ نَفْعٌ وَظُهُورُ كَلَامِهِ حَتَّى يُبَلِّغَ الْبَعِيدَ نَفْعٌ وَبَقَاؤُهُ عِنْدَ مَنْ سَمِعَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ نَفْعٌ . فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذَكَّرَ قَطُّ إلَّا ذِكْرَى نَافِعَةً لَمْ يُذَكِّرْ ذِكْرَى قَطُّ يَكُونُ ضَرَرُهَا رَاجِحًا . وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةً وَمَنْفَعَتُهُ رَاجِحَةً . وَأَمَّا مَا كَانَتْ مُضَرَّتُهُ رَاجِحَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِهِ . وَأَمَّا جَهْمٌ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ فَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَلَا مَصْلَحَةٌ أَلْبَتَّةَ بَلْ يَكُونُ ضَرَرًا مَحْضًا إذَا فَعَلَهُ

الْمَأْمُورُ بِهِ وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْمُتَكَلِّمِينَ - أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ فَنَصَرَ مَذْهَبَ جَهْمٍ وَالْجَبْرِيَّةِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ قَوْلَهُ : { الذِّكْرَى } يَتَنَاوَلُ التَّذَكُّرَ وَالتَّذْكِيرَ . فَإِنَّهُ قَالَ : { فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } . فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَ ذَلِكَ تَذْكِيرَهُ .
ثُمَّ قَالَ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } . وَاَلَّذِي يَتَجَنَّبُهُ الْأَشْقَى هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ مَنْ يَخْشَى وَهُوَ التَّذَكُّرُ . فَضَمِيرُ الذِّكْرَى هُنَا يَتَنَاوَلُ التَّذَكُّرَ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ التَّذْكِيرِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ لَمْ يَتَجَنَّبْهُ أَحَدٌ . لَكِنْ قَدْ يُرَادُ بِتَجَنُّبِهَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِعْ إلَيْهَا وَلَمْ يُصْغِ كَمَا قَالَ : { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ } . وَالْحُجَّةُ قَامَتْ بِوُجُودِ الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ وَتَمَكُّنِهِمْ مِنْ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّدَبُّرِ لَا بِنَفْسِ الِاسْتِمَاعِ . فَفِي الْكُفَّارِ مَنْ تَجَنَّبَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَاخْتَارَ غَيْرَهُ كَمَا يَتَجَنَّبُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَمَاعَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُونَ إذَا ذُكِّرُوا فَتَذَّكَّرُوا كَمَا قَالَ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } . فَلَمَّا قَالَ : { فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } فَقَدْ يُرَادُ بِالذِّكْرَى نَفْسُ

تَذْكِيرِهِ تَذَكَّرَ أَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ . وَتَذْكِيرُهُ نَافِعٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا يُنَاسِبُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ . وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا يُرَادُ بِهِ تَوْبِيخَ مِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : { فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } فَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالنَّحَّاسُ وَالزَّهْرَاوِيُّ : مَعْنَاهُ " وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْ " فَاقْتَصَرَ عَلَى الِاسْمِ الْوَاحِدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الثَّانِي . قَالَ وَقَالَ بَعْضُ الْحُذَّاقِ : قَوْلُهُ : { إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ لِقُرَيْشِ . أَيْ إنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى فِي هَؤُلَاءِ الطُّغَاةِ الْعُتَاةِ . وَهَذَا كَنَحْوِ قَوْلِ الشَّاعِرِ :
لَقَدْ أَسْمَعْت لَوْ نَادَيْت حَيًّا * * * وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي
وَهَذَا كُلُّهُ كَمَا تَقُولُ لِرَجُلِ : " قُلْ لِفُلَانِ وَاعْذُلْهُ إنْ سَمِعَك " إنَّمَا هُوَ تَوْبِيخٌ لِلْمُشَارِ إلَيْهِ .
قُلْت : هَذَا الْقَائِلُ هُوَ الزمخشري وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ بَعْضُ الْحَقِّ . لَكِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ ذَاكَ الْقَوْلِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَذْكِيرِ مَنْ لَا يَقْبَلُ وَلَا يَنْفَعُ بِالذِّكْرَى دُونَ مَنْ يَقْبَلُ كَمَا قَالَ : " إنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى فِي هَؤُلَاءِ الطُّغَاةِ الْعُتَاةِ " وَكَمَا أَنْشَدَهُ فِي الْبَيْتِ .

ثُمَّ الْبَيْتُ الَّذِي أَنْشَدَهُ خَبَرٌ عَنْ شَخْصٍ خَاطَبَ آخَرَ . فَيَقُولُ : لَقَدْ أَسْمَعْت لَوْ كَانَ مَنْ تُنَادِيهِ حَيًّا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } وَقَوْلِهِ : { إنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } وَقَوْلِهِ : { قُلْ إنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إذَا مَا يُنْذَرُونَ } . فَهَذَا يُنَاسِبُ مَعْنَى الْبَيْتِ وَهُوَ خَبَرٌ خَاصٌّ . وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْإِنْذَارِ فَهُوَ مُطْلَقٌ عَامٌّ . وَإِنْ كَانَ مَخْصُوصًا فَالْمُؤْمِنُونَ أَحَقُّ بِالتَّخْصِيصِ كَمَا قَالَ : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } وَقَالَ : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } . لَيْسَ الْأَمْرُ مُخْتَصًّا بِمَنْ لَا يَسْمَعُ . كَيْفَ وَقَدْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } فَهَذَا الَّذِي يَخْشَى هُوَ مِمَّنْ أَمَرَهُ بِتَذْكِيرِهِ وَهُوَ يَنْتَفِعُ بِالذِّكْرَى . فَكَيْفَ لَا يَكُونُ لِهَذَا الشَّرْطِ فَائِدَةٌ إلَّا ذَمَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ ؟ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ " قُلْ لِفُلَانِ وَاعْذِلْهُ إنْ سَمِعَك " فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يَقُولُهُ النَّاسُ لِمَنْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ وَلَكِنْ يَرْجُونَ قَبُولَهُ . فَهُمْ يَقْصِدُونَ تَوْبِيخَهُ عَلَى تَقْدِيرِ الرَّدِّ لَا عَلَى تَقْدِيرِ الْقَبُولِ . فَيَقُولُونَ : " قُلْ لَهُ إنْ كَانَ يَسْمَعُ مِنْك " و " قُلْ لَهُ إنْ كَانَ يَقْبَلُ " و " انْصَحْهُ إنْ

كَانَ يَقْبَلُ النَّصِيحَةَ " وَهُوَ كُلُّهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ . فَهُوَ أَمْرٌ بِالنَّصِيحَةِ التَّامَّةِ الْمَقْبُولَةِ إنْ كَانَ يَقْبَلُهَا وَأَمْرٌ بِأَصْلِ النُّصْحِ وَإِنْ رَدَّهُ وَذَمَّ لَهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } أَمَرَ بِتَذْكِيرِ كُلِّ أَحَدٍ فَإِنْ انْتَفَعَ كَانَ تَذَكُّرُهُ تَامًّا نَافِعًا . وَإِلَّا حَصَلَ أَصْلُ التَّذْكِيرِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ذَمِّهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ التَّوْبِيخَ . مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَالَ : { إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } وَلَمْ يَقُلْ " ذَكِّرْ مَنْ تَنْفَعُهُ الذِّكْرَى فَقَطْ " . كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } فَهُنَاكَ الْأَمْرُ بِالتَّذْكِيرِ خَاصٌّ . وَقَدْ جَاءَ عَامًّا وَخَاصًّا كَخِطَابِ الْقُرْآنِ بـ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } وَهُوَ عَامٌّ وب { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } خَاصٌّ لِمَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ . فَهُنَاكَ قَالَ : { فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } وَهُنَا قَالَ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } . وَلَمْ يَقُلْ " سَيَنْتَفِعُ مَنْ يَخْشَى " . فَإِنَّ النَّفْعَ الْحَاصِلَ بِالتَّذْكِيرِ أَعَمُّ مِنْ تَذَكُّرِ مَنْ يَخْشَى . فَإِنَّهُ إذَا ذَكَّرَ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَى الْجَمِيعِ . وَالْأَشْقَى الَّذِي تَجَنَّبَهَا حَصَلَ بِتَذْكِيرِهِ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقُهُ لِعَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .

وَفِي ذَلِكَ لِلَّهِ حِكَمٌ وَمَنَافِعُ هِيَ نِعَمٌ عَلَى عِبَادِهِ . فَكُلُّ مَا يَقْضِيهِ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ : وَلِهَذَا يَقُولُ عَقِبَ تَعْدِيدِ مَا يَذْكُرُهُ : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } وَلَمَّا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ النَّجْمِ وَذَكَرَ إهْلَاكَ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ قَالَ : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } فَإِهْلَاكُهُمْ مِنْ آلَاءِ رَبِّنَا . وَآلَاؤُهُ نِعَمُهُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَلَى حِكْمَتِهِ وَعَلَى مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَمِنْ نَفْعِ تَذْكِيرِ الَّذِي يَتَجَنَّبُهَا أَنَّهُ لَمَّا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَاسْتَحَقَّ الْعَذَابَ خَفَّ بِذَلِكَ شَرٌّ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ اللَّهَ يُهْلِكُهُمْ بِعَذَابِ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِيهِمْ . وَبِهَلَاكِهِ يَنْتَصِرُ الْإِيمَانُ وَيَنْتَشِرُ وَيَعْتَبِرُ بِهِ غَيْرُهُ وَذَلِكَ نَفْعٌ عَظِيمٌ . وَهُوَ أَيْضًا يَتَعَجَّلُ مَوْتَهُ فَيَكُونُ أَقَلَّ لِكُفْرِهِ . فَإِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ فَبِهِ تَصِلُ الرَّحْمَةُ إلَى كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي يَتَجَنَّبُهَا بِتَجَنُّبِهِ اسْتَحَقَّ هَذَا الْوَعِيدَ الْمَذْكُورَ فَصَارَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا لِغَيْرِهِ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ . قَالَ تَعَالَى : { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ : { فَجَعَلْنَاهُمْ

سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ }
فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ يَخْشَى يَتَذَكَّرُ . وَالْخَشْيَةُ قَدْ تَحْصُلُ عَقِبَ الذِّكْرِ وَقَدْ تَحْصُلُ قَبْلَ الذِّكْرِ وَقَوْلُهُ : { مَنْ يَخْشَى } مُطْلَقٌ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَشِيَ أَوَّلًا حَتَّى يَذَّكَّرَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . بَلْ هَذَا كَقَوْلِهِ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } وَقَوْلُهُ : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } وَهُوَ إنَّمَا خَافَ الْوَعِيدَ بَعْدَ أَنْ سَمِعَهُ لَمْ يَكُنْ وَعِيدٌ قَبْلَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } وَهُوَ إنَّمَا اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُ الرَّسُولُ . وَقَدْ لَا يَكُونُونَ خَافُوهَا قَبْلَ الْإِنْذَارِ وَلَا كَانُوا مُتَّقِينَ قَبْلَ سَمَاعِ

الْقُرْآنِ بَلْ بِهِ صَارُوا مُتَّقِينَ . وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : مَا يَسْمَعُ هَذَا إلَّا سَعِيدٌ وَإِلَّا مُفْلِحٌ وَإِلَّا مَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَسَنَاتُ وَالنِّعَمُ تَحْصُلُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ . وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ : { هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وَقَدْ قَالَ فِي نَظِيرِهِ { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } وَإِنَّمَا يَشْقَى بِتَجَنُّبِهَا . وَهَذَا كَمَا يُقَالُ : إنَّمَا يُحَذِّرُ مَنْ يَقْبَلُ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِالْعِلْمِ مَنْ عَمِلَ بِهِ . فَمَنْ اسْتَمَعَ الْقُرْآنَ فَآمَنَ بِهِ وَعَمِلَ بِهِ صَارَ مِنْ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ هُوَ هُدًى لَهُمْ . وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُتَّقِينَ ؛ وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ اهْتَدَى بِهِ . بَلْ هُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ . فَلَمَّا سَمِعُوهُ صَارَ هُدًى وَشِفَاءٌ ؛ بَلْ إذَا سَمِعَهُ الْكَافِرُ فَآمَنَ بِهِ صَارَ فِي حَقِّهِ هُدًى وَشِفَاءٌ وَكَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ بَعْدَ سَمَاعِهِ .

وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي النَّوْعِ الْمَذْمُومِ : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ } { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وَلَا يَجِبَ أَنْ يَكُونُوا فَاسِقِينَ قَبْلَ ضَلَالِهِمْ ؛ بَلْ مَنْ سَمِعَهُ فَكَذَّبَ بِهِ صَارَ فَاسِقًا وَضَلَّ . وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُ أَدْخَلُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ كَالْخَوَارِجِ . وَكَانَ سَعْدٌ يَقُولُ : هُمْ مِنْ { الْفَاسِقِينَ } { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وَلَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ وَسَعْدٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ يُكَفِّرُونَهُمْ . وَسَعْدٌ أَدْخَلَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِقَوْلِهِ : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ } وَهْم ضَلُّوا بِهِ بِسَبَبِ تَحْرِيفِهِمْ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَأْوِيلِهِ عَلَى غَيْرِ مَا أَرَادَ اللَّهُ . فَتَمَسَّكُوا بِمُتَشَابِهِهِ وَأَعْرَضُوا عَنْ مُحْكَمِهِ وَعَنْ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ مُرَادَ اللَّهِ بِكِتَابِهِ . فَخَالَفُوا السُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مَعَ مَا خَالَفُوهُ مِنْ مُحْكَمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . وَلِهَذَا أَدْخَلَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ فِي الَّذِينَ { يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ الْآيَةُ وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَخْشَى فَلَا بُدَّ أَنْ

يَتَذَكَّرَ . فَقَدْ يَتَذَكَّرُ فَتَحْصُلُ لَهُ بِالتَّذَكُّرِ خَشْيَةٌ وَقَدْ يَخْشَى فَتَدْعُوهُ الْخَشْيَةُ إلَى التَّذَكُّرِ . وَهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَهُ قتادة : فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا خَشِيَ اللَّهَ عَبْدٌ قَطُّ إلَّا ذَكَرَهُ . { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } قَالَ قتادة : فَلَا وَاَللَّهِ لَا يَتَنَكَّبُ عَبْدٌ هَذَا الذِّكْرَ زُهْدًا فِيهِ وَبُغْضًا لَهُ وَلِأَهْلِهِ إلَّا شَقِيًّا بَيْنَ الشَّقَاءِ . وَالْخَشْيَةُ فِي الْقُرْآنِ مُطْلَقَةٌ تَتَنَاوَلُ خَشْيَةَ اللَّهِ وَخَشْيَةَ عَذَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } { فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا } { إلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } وَقَالَ : { قَالُوا إنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ }

فَصْلٌ :
الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } وَقَالَ فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ : { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } فَعَطَفَ الْخَشْيَةَ عَلَى التَّذَكُّرِ . وَقَالَ : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } وَفِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ الْمُؤْمِنِ الْأَعْمَى قَالَ : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } وَقَالَ فِي { حم } الْمُؤْمِنِ : { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ } فَقَالَ { وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ }

وَالْإِنَابَةُ جَعَلَهَا مَعَ الْخَشْيَةِ فِي قَوْلِهِ : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } { ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ } وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ لَا بُدَّ أَنْ يَرْجُوَهُ وَيَطْمَعَ فِي رَحْمَتِهِ فَيُنِيبَ إلَيْهِ وَيُحِبَّهُ وَيُحِبَّ عِبَادَتَهُ وَطَاعَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُنَجِّيهِ مِمَّا يَخْشَاهُ وَيَحْصُلُ بِهِ مَا يُحِبُّهُ . وَالْخَشْيَةُ لَا تَكُونُ مِمَّنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ مُعَذَّبٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا قَطْعٌ بِالْعَذَابِ يَكُونُ مَعَهُ الْقُنُوطُ وَالْيَأْسُ وَالْإِبْلَاسُ . لَيْسَ هَذَا خَشْيَةً وَخَوْفًا . وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخَشْيَةُ وَالْخَوْفُ مَعَ رَجَاءِ السَّلَامَةِ . وَلِهَذَا قَالَ : { تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } فَصَاحِبُ الْخَشْيَةِ لِلَّهِ يُنِيبُ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ : { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } { ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ } وَهَذَا يَكُونُ مَعَ تَمَامِ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ . فَأَمَّا فِي مُبَادِيهَا فَقَدْ يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ خَوْفٌ مِنْ الْعَذَابِ وَالذَّنْبِ

الَّذِي يَقْتَضِيهِ فَيَشْتَغِلُ بِطَلَبِ النَّجَاةِ وَالسَّلَامِ وَيُعْرِضُ عَنْ طَلَبِ الرَّحْمَةِ وَالْجَنَّةِ . وَقَدْ يَفْعَلُ مَعَ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ تُوَازِيهَا وَتُقَابِلُهَا فَيَنْجُو بِذَلِكَ مِنْ النَّارِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ بَلْ يَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ . وَإِنْ كَانَ مَآلُهُمْ إلَى الْجَنَّةِ فَلَيْسُوا مِمَّنْ أُزْلِفَتْ لَهُمْ الْجَنَّةُ أَيْ قُرِّبَتْ لَهُمْ إذْ كَانُوا لَمْ يَأْتُوا بِخَشْيَةِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ . وَاسْتَجْمَلَ بَعْدَ ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ : { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } وَقَوْلُهُ : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } فَلَا يُنَاقِضُ هَذِهِ الْآيَةَ . لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ " سَيَخْشَى مَنْ يَذَّكَّرُ " بَلْ ذَكَرَ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ فَإِنَّهُ يَتَذَكَّرُ إمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ فَيَخْشَى وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَتَذَكَّرُ فَلَا يَخْشَى ؛ وَإِمَّا أَنْ تَدْعُوَهُ الْخَشْيَةُ إلَى التَّذَكُّرِ . فَالْخَشْيَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلتَّذَكُّرِ . فَكُلُّ خَاشٍ مُتَذَكِّرٌ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } فَلَا يَخْشَاهُ إلَّا

عَالِمٌ فَكُلُّ خَاشٍ لِلَّهِ فَهُوَ عَالِمٌ . هَذَا مَنْطُوقُ الْآيَةِ . وَقَالَ السَّلَفُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ فَإِنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ كَمَا دَلَّ غَيْرُهَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ . كَمَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَنْ قَوْلِهِ : { إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ } فَقَالُوا لِي : " كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ " . وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . وَذَلِكَ أَنَّ الْحَصْرَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . فَنَفَى الْخَشْيَةَ عَمَّنْ لَيْسَ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ بِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ يَخَافُونَهُ . قَالَ تَعَالَى : { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وَأَثْبَتَهَا لِلْعُلَمَاءِ . فَكُلُّ عَالِمٍ يَخْشَاهُ . فَمَنْ لَمْ يَخْشَ اللَّهَ فَلَيْسَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ مِنْ الْجُهَّالِ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : " كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا وَكَفَى

بِالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ جَهْلًا " . وَقَالَ رَجُلٌ لِلشَّعْبِيِّ " أَيُّهَا الْعَالِمُ " فَقَالَ : " إنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ " فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ يَخْشَاهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَذَكَّرَ . وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْأَشْقَى يَتَجَنَّبُ الذِّكْرَى فَصَارَ الَّذِي يَخْشَى ضِدَّ الْأَشْقَى . فَلِذَلِكَ يُقَالُ " كُلُّ مَنْ تَذَكَّرَ خَشِيَ " . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّذَكُّرَ سَبَبُ الْخَشْيَةِ فَإِنْ كَانَ تَامًّا أَوْجَبَ الْخَشْيَةَ ؛ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ سَبَبُ الْخَشْيَةِ فَإِنْ كَانَ تَامًّا أَوْجَبَ الْخَشْيَةَ .
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } جَعَلَ ذَلِكَ نَوْعَيْنِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِدِ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ وَلَيْسَ هُوَ إلَهًا وَرَبًّا كَمَا ذُكِّرَ وَذَكَرَ إحْسَانَ اللَّهِ إلَيْهِ . فَهَذَا التَّذَكُّرُ يَدْعُوهُ إلَى اعْتِرَافِهِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ . فَيَقْتَضِي الْإِيمَانَ وَالشُّكْرَ وَإِنْ قَدَّرَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُهُ . فَإِنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وَنَافِعًا يَقْتَضِي طَلَبَهُ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا

بِعَدَمِهِ . كَمَا يُسَارِعُ الْمُؤْمِنُونَ إلَى فِعْلِ التَّطَوُّعَاتِ وَالنَّوَافِلِ لِمَا فِيهَا مِنْ النَّفْعِ وَإِنْ كَانَ لَا عُقُوبَةَ فِي تَرْكِهَا . كَمَا يُحِبُّ الْإِنْسَانُ عُلُومًا نَافِعَةً وَإِنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِتَرْكِهَا . وَكَمَا قَدْ يُحِبُّ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِيَ الْأُمُورِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَاللَّذَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا بِتَرْكِهَا . فَهُوَ إذَا تَذَكَّرَ آلَاء اللَّهِ وَتَذَكَّرَ إحْسَانَهُ إلَيْهِ فَهَذَا قَدْ يُوجِبُ اعْتِرَافَهُ بِحَقِّ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ وَيَقْتَضِي شُكْرَهُ لِلَّهِ وَتَسْلِيمَ قَوْمِ مُوسَى إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ عَذَابًا . فَهَذَا قَدْ حَصَلَ بِمُجَرَّدِ التَّذَكُّرِ . قَالَ { أَوْ يَخْشَى } . وَنَفْسُ الْخَشْيَةِ إذَا ذَكَرَ لَهُ مُوسَى مَا تَوَعَّدَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّ هَذَا الْخَوْفَ قَدْ يَحْمِلُهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ وَلَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ . وَقَدْ يَحْصُلُ تَذَكُّرٌ بِلَا خَشْيَةٍ وَقَدْ يَحْصُلُ خَشْيَةٌ بِلَا تَذَكُّرٍ وَقَدْ يَحْصُلَانِ جَمِيعًا وَهُوَ الْأَغْلَبُ . قَالَ تَعَالَى : { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } . وَأَيْضًا فَذِكْرُ الْإِنْسَانِ يَحْصُلُ بِمَا عَرَفَهُ مِنْ الْعُلُومِ قَبْلَ هَذَا فَيَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ وَخَشْيَتُهُ تَكُونُ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ الْوَعِيدِ . فَبِالْأَوَّلِ يَكُونُ مِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ يَعْقِلُ بِهِ وَالثَّانِي يَكُونُ مِمَّنْ لَهُ أُذُنٌ يَسْمَعُ بِهَا .

وَقَدْ تَحْصُلُ الذِّكْرَى الْمُوجِبَةُ لِلْخَيْرِ بِهَذَا وَبِهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ } { إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } . الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ : أَنَّ التَّذَكُّرَ سَبَبُ الْخَشْيَةِ وَالْخَشْيَةُ حَاصِلَةٌ عَنْ التَّذَكُّرِ . فَذَكَرَ التَّذَكُّرَ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ وَذَكَرَ الْخَشْيَةَ الَّتِي هِيَ النَّتِيجَةُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْتَلْزِمًا لِلْآخَرِ كَمَا قَالَ { إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } وَكَمَا قَالَ أَهْلُ النَّارِ : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } وَقَالَ : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } فَكُلٌّ مِنْ النَّوْعَيْنِ يَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ . فَاَلَّذِي يَسْمَعُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ سَمْعًا يَعْقِلُ بِهِ مَا قَالُوهُ يَنْجُو . وَإِلَّا فَالسَّمْعُ بِلَا عَقْلٍ لَا يَنْفَعُهُ كَمَا قَالَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } وَقَالَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ } وَقَالَ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .

وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ بِلَا سَمْعٍ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَا يَنْفَعُ . وَقَدْ اعْتَرَفَ أَهْلُ النَّارِ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ فَقَالُوا : { بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } . وَكَذَلِكَ الْمُعْتَبِرِينَ بِآثَارِ الْمُعَذَّبِينَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } . إنَّمَا يَنْتَفِعُونَ إذَا سَمِعُوا أَخْبَارَ الْمُعَذَّبِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَالنَّاجِينَ الَّذِينَ صَدَّقُوهُمْ فَسَمِعُوا قَوْلَ الرُّسُلِ وَصَدَّقُوهُمْ . الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ الْخَشْيَةَ أَيْضًا سَبَبٌ لِلتَّذَكُّرِ كَمَا تَقَدَّمَ . فَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْآخَرِ . فَقَدْ يَخَافُ الْإِنْسَانُ فَيَتَذَكَّرُ وَقَدْ يَتَذَكَّرُ الْأُمُورَ الْمَخُوفَةَ فَيَطْلُبُ النَّجَاةَ مِنْهَا وَيَتَذَكَّرُ مَا يَرْجُو بِهِ النَّجَاةَ مِنْهَا فَيَفْعَلُهُ . فَإِنْ قِيلَ : مُجَرَّدُ ظَنِّ الْخَوْفِ قَدْ يُوجِبُ الْخَوْفَ فَكَيْفَ قَالَ : { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ؟ . قِيلَ : النَّفْسُ لَهَا هَوًى غَالِبٌ قَاهِرٌ لَا يَصْرِفُهُ مُجَرَّدُ الظَّنِّ وَإِنَّمَا يَصْرِفُهُ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الْعَذَابَ يَقَعُ وَلَا يُوقِنُ بِذَلِكَ فَلَا يَتْرُكُ هَوَاهُ . وَلِهَذَا قَالَ : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } .

وَقَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ الْكُفَّارِ : { وَإِذَا قِيلَ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إنْ نَظُنُّ إلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } وَوَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّهُمْ بِالْآخِرَةِ يُوقِنُونَ . وَلِهَذَا أَقْسَمَ الرَّبُّ عَلَى وُقُوعِ الْعَذَابِ وَالسَّاعَةِ . وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى وُقُوعِ السَّاعَةِ وَعَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ فَقَالَ : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } وَقَالَ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } وَقَالَ : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ } .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ } فَهُوَ حَقٌّ كَمَا قَالَ . فَإِنَّ الْمُتَذَكِّرَ إمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ مَا يَدْعُوا إلَى الرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ وَالثَّوَابِ كَمَا يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا يَدْعُوهُ إلَى السُّؤَالِ فَيُنِيبُ وَإِمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ مَا يَقْتَضِي الْخَوْفَ وَالْخَشْيَةَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْإِنَابَةِ حِينَئِذٍ لِيَنْجُوَ مِمَّا يَخَافُ . وَلِهَذَا قِيلَ فِي فِرْعَوْنَ { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } فَيُنِيبُ { أَوْ يَخْشَى }

وَكَذَلِكَ قَالَ لَهُ مُوسَى { هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى } { وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } فَجَمَعَ مُوسَى : بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِتَلَازُمِهِمَا . وَقَالَ فِي حَقِّ الْأَعْمَى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } . فَذَكَرَ الِانْتِفَاعَ بِالذِّكْرَى كَمَا قَالَ { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } . وَالنَّفْعُ نَوْعَانِ : حُصُولُ النِّعْمَةِ وَانْدِفَاعُ النِّقْمَةِ . وَنَفْسُ انْدِفَاعِ النِّقْمَةِ نَفْعٌ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ نَفْعٌ آخَرُ وَنَفْسُ الْمَنَافِعِ الَّتِي يُخَافُ مَعَهَا عَذَابٌ نَفْعٌ وَكِلَاهُمَا نَفْعٌ . فَالنَّفْعُ تَدْخُلُ فِيهِ الثَّلَاثَةُ وَالثَّلَاثَةُ تَحْصُلُ بِالذِّكْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } . وَأَمَّا ذِكْرُ التَّزَكِّي مَعَ التَّذَكُّرِ فَهُوَ كَمَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ الْخَشْيَةَ مَعَ التَّذَكُّرِ . وَذَلِكَ أَنَّ التَّزَكِّيَ هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي تَصِيرُ بِهِ نَفْسُ الْإِنْسَانِ زَكِيَّةً كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } وَقَالَ { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا }

وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } وَقَالَ { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ : { هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى } { وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } . وَعَطَفَ عَلَيْهِ { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنْ التَّزَكِّيَ يَحْصُلُ بِامْتِثَالِ أَمْرِ الرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ لَا يَتَذَكَّرُ عُلُومًا عَنْهُ كَمَا قَالَ : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } ثُمَّ قَالَ : { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } . فَالتِّلَاوَةُ عَلَيْهِمْ وَالتَّزْكِيَةُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْلِيمُ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ خَاصٌّ بِبَعْضِهِمْ . وَكَذَلِكَ التَّزَكِّي عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ وَأَمَّا التَّذَكُّرُ فَهُوَ مُخْتَصٌّ لِمَنْ لَهُ عُلُومٌ يَذَّكَّرُهَا فَعَرَفَ بِتَذَكُّرِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } يَدْخُلُ فِيهِ النَّفْعُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَالتَّزَكِّي أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ . الثَّالِثُ : أَنَّ التَّذَكُّرَ سَبَبُ التَّزَكِّي . فَإِنَّهُ إذَا تَذَكَّرَ خَافَ وَرَجَا فَتَزَكَّى . فَذَكَرَ الْحُكْمَ وَذَكَرَ سَبَبَهُ . ذَكَرَ الْعَمَلَ وَذَكَرَ الْعِلْمَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ .

فَإِنَّهُ لَا يَتَزَكَّى حَتَّى يَتَذَكَّرَ مَا يَسْمَعُهُ مِنْ الرَّسُولِ كَمَا قَالَ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } . فَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ خَشْيَةٍ وَتَذَكُّرٍ . وَهُوَ إذَا تَذَكَّرَ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ وَقَدْ تَتِمُّ الْمَنْفَعَةُ فَيَتَزَكَّى . وَقَوْلُهُ : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } فِيهِ أَيْضًا نَحْوَ هَذِهِ الْوُجُوهِ . فَإِنَّ الشَّاكِرَ قَدْ يَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى نِعَمِهِ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ وَالتَّذَكُّرُ قَدْ يَقْتَضِي الْخَشْيَةَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّذَكُّرَ يَقْتَضِي الْخَوْفَ مِنْ الْعِقَابِ وَطَلَبَ الثَّوَابِ فَيَعْمَلُ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَالشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ الْمَاضِيَةِ . وَأَيْضًا فَالتَّذَكُّرُ تَذَكُّرُ عُلُومٍ سَابِقَةٍ وَمِنْهَا تَذَكُّرُ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ فَهُوَ سَبَبٌ لِلشُّكْرِ . تَذَكُّرُ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الشُّكْرَ يَقْتَضِي الْمَزِيدَ مِنْ النِّعَمِ وَالتَّذَكُّرَ قَدْ يَكُونُ لِهَذَا وَقَدْ يَكُونُ خَوْفًا مِنْ الْعَذَابِ . وَقَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَالشَّاكِرُ قَدْ يَشْكُرُ الشُّكْرَ الْوَاجِبَ لِئَلَّا يَكُونَ كَفُورًا فَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الشُّكْرِ بِسَلْبِ النِّعْمَةِ وَعُقُوبَاتٍ أُخَرٍ

وَالْمُتَذَكِّرُ قَدْ يَتَذَكَّرُ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِمَنْ أَطَاعَهُ فَيُطِيعُهُ طَلَبًا لِرَحْمَتِهِ . وَأَيْضًا فَالتَّذَكُّرُ قَدْ يَكُونُ لِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا الْعُقَابَ وَالشَّكُورُ يَكُونُ لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ . فَقِيلَ لَهُ : أَتَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ ؟ فَقَالَ : أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ؟ } . { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَمَنَّيَن أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ : إمَّا مُحْسِنٌ فَيَزْدَادُ إحْسَانًا وَإِمَّا مُسِيءٌ فَلَعَلَّهُ أَنْ يُسْتَعْتَبَ } . فَالْمُؤْمِنُ دَائِمًا فِي نِعْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ تَقْتَضِي شُكْرًا وَفِي ذَنْبٍ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِغْفَارٍ . وَهُوَ فِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ يَقُولُ { أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } . وَقَدْ عَلِمَ تَحْقِيقَ قَوْلِهِ : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } فَمَا أَصَابَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ هِيَ نِعَمُ اللَّهِ فَتَقْتَضِي شُكْرًا وَمَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَصَائِبِ فَبِذُنُوبِهِ تَقْتَضِي تَذَكُّرًا لِذُنُوبِهِ يُوجِبُ تَوْبَةً وَاسْتِغْفَارًا . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ { اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ } فَيَتُوبَ

وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ ذُنُوبِهِ { أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } لِرَبِّهِ عَلَى نِعَمِهِ . وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِالْعَبْدِ مِنْ نِعْمَةٍ وَكُلُّ مَا يُخْلِفُهُ اللَّه فَهُوَ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ . فَكُلَّمَا نَظَرَ إلَى مَا فَعَلَهُ رَبُّهُ شَكَرَ وَإِذَا نَظَرَ إلَى نَفْسِهِ اسْتَغْفَرَ . وَالتَّذَكُّرُ قَدْ يَكُونُ تَذَكُّرَ ذُنُوبِهِ وَعِقَابِ رَبِّهِ . وَقَدْ يَدْخُلُ فِيهِ تَذَكُّرُ آلَائِهِ وَنِعَمِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو إلَى الشُّكْرِ . قَالَ تَعَالَى { اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَدْ أَمَرَ بِذِكْرِ نِعَمِهِ . فَالْمُتَذَكِّرُ يَتَذَكَّرُ نِعَمَ رَبِّهِ وَيَتَذَكَّرُ ذُنُوبَهُ . وَأَيْضًا فَهُوَ ذَكَرَ الشَّكُورِ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ فَإِنَّ الشُّكْرَ ثَابِتٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَذَكَرَ التَّذَكُّرَ لِأَنَّهُ أَصْلٌ لِلِاسْتِغْفَارِ وَالشُّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَذَكَرَ الْمَبْدَأَ وَذَكَرَ النِّهَايَةَ . وَهَذَا الْمَعْنَى يَجْمَعُ مَا قِيلَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَالتَّذَكُّرُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِتَذَكُّرِهِ كَمَا قَالَ : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ } أَيْ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ بِالنَّذِيرِ الَّذِي جَاءَكُمْ وَبِتَعْمِيرِكُمْ عُمْرًا يَتَّسِعُ لِلتَّذَكُّرِ .

وَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِذِكْرِ نِعَمِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } . وَالْمَطْلُوبُ بِذِكْرِهَا شُكْرَهَا كَمَا قَالَ : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } . وَقَوْلُهُ : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ خُوطِبَ بِالْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . فَالرَّسُولُ مِنْ أَنْفَسِ مَنْ خُوطِبَ بِهَذَا الْكَلَامِ إذْ هِيَ كَافُ الْخِطَابِ . وَلَمَّا خُوطِبَ بِهِ أَوَّلًا قُرَيْشٌ ثُمَّ الْعَرَبُ ثُمَّ سَائِرُ الْأُمَمِ صَارَ يَخُصُّ وَيَعُمُّ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَفِيهِ مَا يَخُصُّ قُرَيْشًا كَقَوْلِهِ : { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ } { إيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ

وَالصَّيْفِ } . وَقَوْلِهِ : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } . وَفِيهِ مَا يَعُمُّ الْعَرَبَ وَيَخُصُّهُمْ كَقَوْلِهِ : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } وَالْأُمِّيُّونَ يَتَنَاوَلُ الْعَرَبَ قَاطِبَةً دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ . ثُمَّ قَالَ : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } . فَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ دُخُولِ الْعَرَبِ فِيهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا . فَإِنَّ قَوْلَهُ { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ } أَيْ فِي الدِّينِ دُونَ النَّسَبِ إذْ لَوْ كَانُوا مِنْهُمْ فِي النَّسَبِ لَكَانُوا مِنْ الْأُمِّيِّينَ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ فَقَالَ : { لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ } . فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ هَؤُلَاءِ لَا يَمْنَعُ دُخُولَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ . وَإِذَا كَانُوا هُمْ مِنْهُمْ فَقَدْ دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى

الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } . فَالْمِنَّةُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ سَابِقِهِمْ وَلَاحِقِهِمْ . وَالرَّسُولُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ إنْسِيٌّ مُؤْمِنٌ . وَهُوَ مِنْ الْعَرَب أَخَصُّ لِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا جَاءَ بِلِسَانِهِمْ وَهُوَ مِنْ قُرَيْشٍ أَخَصَّ . وَالْخُصُوصُ يُوجِبُ قِيَامَ الْحُجَّةِ لَا يُوجِبُ الْفَضْلَ إلَّا بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى لِقَوْلِهِ : { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } . وَلِهَذَا كَانَ الْأَنْصَارُ أَفْضَلَ مِنْ الطُّلَقَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ رَبِيعَةَ وَلَا مُضَرَ بَلْ مِنْ قَحْطَانَ . وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ هُودٍ لَيْسُوا مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ . وَقِيلَ إنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ لِحَدِيثِ أَسْلَمَ لَمَّا قَالَ { ارْمُوا فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا } وَأَسْلَمَ مِنْ خُزَاعَةَ وَخُزَاعَةُ مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ . وَفِي هَذَا كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ إذْ الْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَنْصَارَ أَبْعَدُ نَسَبًا مِنْ كُلِّ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ مَعَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْقَبَائِلِ . وَمَعَ هَذَا هُمْ أَفْضَلُ مِنْ جُمْهُورِ قُرَيْشٍ إلَّا مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَفِيهِمْ قُرَشِيٌّ وَغَيْرُ قُرَشِيٍّ . وَمَجْمُوعُ السَّابِقِينَ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةِ غَيْرُ مُهَاجِرِي الْحَبَشَةِ .

فَقَوْلُهُ : { لَقَدْ جَاءَكُمْ } يَخُصُّ قُرَيْشًا وَالْعَرَبَ ثُمَّ يَعُمُّ سَائِرَ الْبَشَرِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ خِطَابٌ لَهُمْ . وَالرَّسُولُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَالْمَعْنَى لَيْسَ بِمَلَكِ لَا يُطِيقُونَ الْأَخْذَ مِنْهُ وَلَا جِنِّيٍّ . ثُمَّ يَعُمُّ الْجِنَّ لِأَنَّ الرَّسُولَ أُرْسِلَ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْقُرْآنِ خِطَاب لِلثَّقَلَيْنِ وَالرَّسُولُ مِنْهُمْ جَمِيعًا كَمَا قَالَ : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } فَجَعَلَ الرُّسُلَ الَّتِي أَرْسَلَهَا مِنْ النَّوْعَيْنِ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ الْإِنْسِ . فَإِنَّ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ مُشْتَرِكُونَ مَعَ كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً نَاطِقِينَ مَأْمُورِينَ مَنْهِيِّينَ . فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْكِحُونَ وَيَنْسِلُونَ وَيَغْتَذُونَ وَيَنْمُونَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ . وَهُمْ يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنْ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ وَلَا تَنْكِحُ وَلَا تَنْسِلُ . فَصَارَ الرَّسُولُ مِنْ أَنْفَسِ الثَّقَلَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْقَدْر الْمُشْتَرِك بَيْنَهُمْ الَّذِي تَمَيَّزُوا بِهِ عَنْ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى كَانَ الرَّسُولُ مَبْعُوثًا إلَى الثَّقَلَيْنِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ

أَنْفُسِهِمْ } هُوَ كَقَوْلِهِ : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } وَقَوْلِهِ : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } . ثُمَّ قَالَ : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ أَمَرَ بِذِكْرِ النِّعَمِ وَشُكْرِهَا . وَقَالَ : { يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ : { وَاذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ } فَذِكْرُ النِّعَمِ مِنْ الذِّكْرِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ . وَمِمَّا أُمِرُوا بِهِ تَذْكِرَةُ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا قَالَ : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ } { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى } { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إسْمَاعِيلَ } { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إدْرِيسَ } وَقَالَ { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ } { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } { وَاذْكُرْ إسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ } . وَمِمَّا أُمِرُوا بِهِ تَذْكِرَةُ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } .

وَمِمَّا أُمِرُوا بِتَذَكُّرِهِ آيَاتُ اللَّهِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَلَى الْمَعَادِ كَقَوْلِهِ : { وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا } { أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } . وَقَدْ قَالَ لِمُوسَى : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ } وَهِيَ تَتَنَاوَلُ أَيَّامَ نِعَمِهِ وَأَيَّامَ نِقَمِهِ لِيَشْكُرُوا وَيَعْتَبِرُوا . وَلِهَذَا قَالَ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } . فَإِنَّ ذِكْرَ النِّعَمِ يَدْعُو إلَى الشُّكْرِ ؛ وَذِكْرَ النِّقَمِ يَقْتَضِي الصَّبْرَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَإِنْ كَرِهَتْهُ النَّفْسُ . وَعَنْ الْمَحْظُورِ وَإِنْ أَحَبَّتْهُ النَّفْسُ لِئَلَّا يُصِيبَهُ مَا أَصَابَ غَيْرَهُ مِنْ النِّقْمَةِ .
فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ : { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } { الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } { ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا } . وَقَدْ ذَكَرَ فِي سُورَةِ اللَّيْلِ قَوْلَهُ : { فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى } { لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى } { الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } . وَهَذَا الصَّلْيُ قَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ

الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمْ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ أَوْ قَالَ : بِخَطَايَاهُمْ فَأَمَاتَهُمْ إمَاتَةً حَتَّى إذَا كَانُوا فَحْمًا أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ . فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ ثُمَّ قِيلَ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ . فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : كَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ بِالْبَادِيَةِ } . وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَقَالَ : ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ ثَنَا أَبِي ثَنَا سُلَيْمَانَ التيمي عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ { ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا } فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا أَهْلُهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ . وَأَمَّا الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّ النَّارَ تُمِيتُهُمْ ثُمَّ يَقُومُ الشُّفَعَاءُ فَيُشَفَّعُونَ فِيهِمْ فَيَشْفَعُونَ فَيُؤْتَى بِهِمْ إلَى نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ الْحَيَاةُ أَوْ الْحَيَوَانُ فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْغُثَاءُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ } . فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا الصَّلْيَ لِأَهْلِ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا وَأَنَّ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا فَإِنَّهَا تُصِيبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ يُمِيتُهُمْ فِيهَا حَتَّى يَصِيرُوا فَحْمًا ثُمَّ يُشَفَّعُ فِيهِمْ فَيَخْرُجُونَ وَيُؤْتَى

بِهِمْ إلَى نَهْرِ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ . وَهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ مُتَوَاتِرٌ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا . وَفِيهَا الرَّدُّ عَلَى طَائِفَتَيْنِ . عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ " إنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يُخَلَّدُونَ فِيهَا " وَهَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ حُكِيَ عَنْهُ مِنْ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ " أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ " . فَإِنَّ إخْبَارَهُ بِأَنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يَخْرُجُونَ مِنْهَا بَعْدَ دُخُولِهَا تَكْذِيبٌ لِهَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ . وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ " يَجُوزُ أَنْ لَا يُدْخِلَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدًا النَّارَ " كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ الشِّيعَةِ وَمُرْجِئَةِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَهُمْ الْوَاقِفَةُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ . فَإِنَّ النُّصُوصَ الْمُتَوَاتِرَةَ تَقْتَضِي دُخُولَ بَعْضِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَخُرُوجِهِمْ . وَالْقَوْلُ بـ " أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْخُلُهَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ " مَا أَعْلَمُهُ ثَابِتًا عَنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَأَحْكِيَهُ عَنْهُ . لَكِنْ حُكِيَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ

وَقَالَ : احْتَجَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ . وَقَدْ أُجِيبُوا بِجَوَابَيْنِ . أَحَدِهِمَا : جَوَابُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الزَّجَّاجُ قَالُوا . هَذِهِ نَارٌ مَخْصُوصَةٌ . لَكِنَّ قَوْلَهُ بَعْدَهَا { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } لَا يَبْقَى فِيهِ كَبِيرُ وَعْدٍ فَإِنَّهُ إذَا جُنِّبَ تِلْكَ النَّارَ جَازَ أَنْ يُدَخِّلَ غَيْرَهَا . وَجَوَابُ آخَرِينَ قَالُوا : لَا يَصْلَوْنَهَا صَلْيَ خُلُودٍ . وَهَذَا أَقْرَبُ . وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الصَّلْيَ هُنَا هُوَ الصَّلْيُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ الْمُكْثُ فِيهَا وَالْخُلُودُ عَلَى وَجْهٍ يَصِلُ الْعَذَابُ إلَيْهِمْ دَائِمًا . فَأَمَّا مَنْ دَخَلَ وَخَرَجَ فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الصَّلْيِ لَيْسَ هُوَ الصَّلْيُ الْمُطْلَقُ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ قَدْ مَاتَ فِيهَا وَالنَّارُ لَمْ تَأْكُلْهُ كُلَّهُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَأْكُلُ مَوَاضِعَ السُّجُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى سَائِرِ الْمُرْسَلِينَ فِي أُمُورٍ مِثْلُ قَوْلِهِ : { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى } { صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } .

وَفِي حَدِيثِ { أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ كِتَابًا أَنْزَلَ اللَّهُ ؟ قَالَ : مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ : ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً عَلَى شيث وَخَمْسِينَ عَلَى إدْرِيسَ وَعَشْرٍ عَلَى إبْرَاهِيمَ . وَعَشْرٍ عَلَى مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ . وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ : فَهَلْ عِنْدَنَا شَيْءٌ مِمَّا فِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ وَقَرَأَ قَوْلَهُ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى } { صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } } . فَإِنَّ التَّزَكِّي هُوَ التَّطَهُّرُ وَالتَّبَرُّكُ بِتَرْكِ السَّيِّئَاتِ الْمُوجِبِ زَكَاةَ النَّفْسِ كَمَا قَالَ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } وَلِهَذَا تُفَسَّرُ الزَّكَاةُ تَارَةً بِالنَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ وَتَارَةً بِالنَّظَافَةِ وَالْإِمَاطَةِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ إزَالَةِ الشَّرِّ وَزِيَادَةِ الْخَيْرِ . وَهَذَا هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَهُوَ الْإِحْسَانُ . وَذَلِكَ لَا يَنْفَعُ إلَّا بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ . وَهُوَ قَوْلُ { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } . فَهَذِهِ الثَّلَاثُ قَدْ يُقَالُ تُشْبِهُ الثَّلَاثَ الَّتِي يَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَهَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } . وَمِثْلُ قَوْلِهِ :

{ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } . وَقَدْ يُقَالُ : تُشْبِهُ الثِّنْتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } . لَكِنَّ هُنَا التَّزَكِّيَ فِي الْآيَةِ أَعَمُّ مِنْ الْإِنْفَاقِ . فَإِنَّهُ تَرْكُ السَّيِّئَاتِ الَّذِي أَصْلُهُ بِتَرْكِ الشِّرْكِ . فَأَوَّلُ التَّزَكِّي التَّزَكِّي مِنْ الشِّرْكِ كَمَا قَالَ : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَقَالَ : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } . وَالتَّزَكِّي مِنْ الْكَبَائِرِ الَّذِي هُوَ تَمَامُ التَّقْوَى كَمَا قَالَ { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } وَقَالَ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } . فَعُلِمَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالتَّقْوَى . وَمِنْهُ التَّزَكِّي بِالطَّهَارَةِ وَبِالصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا قَالَ { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } . و { ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ } قَدْ يَعْنِي بِهِ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ و " الصَّلَاةَ " :

الْعَمَلَ . فَقَدْ يَذْكُرُ اسْمَ رَبِّهِ مَنْ لَا يُصَلِّي . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ : هُوَ ذِكْرُ اسْمِهِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ . وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَدَّمَ التَّزَكِّي فِي هَذِهِ الْآيَةِ . وَكَانَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ إذَا أَدَّوْا صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ يَتَأَوَّلُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ . وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ أَظُنُّهُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ أَمَامَ كُلِّ صَلَاةٍ لِهَذَا الْمَعْنَى . وَلَمَّا قَدَّمَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّحْرِ فِي قَوْلِهِ : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } وَقَدَّمَ التَّزَكِّي عَلَى الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } كَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الصَّدَقَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ وَأَنَّ الذَّبْحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي عِيدِ النَّحْرِ . وَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مِنْ التَّزَكِّي الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ . فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . فَمَقْصُودُ الصَّوْمِ التَّقْوَى وَهُوَ مِنْ مَعْنَى التَّزَكِّي . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ طهرة لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ } .

فَالصَّدَقَةُ مِنْ تَمَامِ طهرة الصَّوْمِ . وَكِلَاهُمَا تَزَكٍّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ . فَجَمَعَتْ هَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ التَّرْغِيبَ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَفِي قَوْلِهِ : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَهَذِهِ الْأُصُولُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَقَالَ : { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى } { صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } . وَقَالَ : أَيْضًا { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى } { وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى } { أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى } { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى } وَأَيْضًا فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ صَاحِبَ الْمِلَّةِ وَإِمَامُ الْأُمَّةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } . وَقَالَ : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ

حَنِيفًا } وَقَالَ : { إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا } وَقَالَ { إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا } . وَمُوسَى صَاحِبُ الْكِتَابِ وَالْكَلَامِ وَالشَّرِيعَةِ الَّذِي لَمْ يَنْزِلْ مِنْ السَّمَاءِ كِتَابٌ أَهْدَى مِنْهُ وَمِنْ الْقُرْآنِ . وَلِهَذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا } إلَى قَوْلِهِ { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } وَقَوْلِهِ { قَالُوا سِحْرَانِ } إلَى قَوْلِهِ { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ } وَقَوْلِ الْجِنِّ : { إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } وَقَوْلِ النَّجَاشِيِّ " إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ " . وَقِيلَ فِي مُوسَى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَفِي إبْرَاهِيمَ { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } وَأَصْلُ الْخُلَّةِ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالْعِبَادَةُ غَايَةُ الْحُبِّ وَالذُّلِّ . وَمُوسَى صَاحِبُ الْكِتَابِ وَالْكَلَامِ . وَلِهَذَا كَانَ الْكُفَّارُ بِالرُّسُلِ يُنْكِرُونَ حَقِيقَةَ خُلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَتَكْلِيمِ مُوسَى . وَلَمَّا نَبَغَتْ الْبِدَعُ الشَّرِكِيَّة فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْكَرَ ذَلِكَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ

فَقَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا ضَحَّى بِهِ أَمِيرُ الْعِرَاقِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ : " ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا " . ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ . وَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ . وَهُمْ فِي الْأَصْلِ صِنْفَانِ - أُمِّيُّونَ وَكِتَابِيُّونَ . وَالْأُمِّيُّونَ كَانُوا يَنْتَسِبُونَ إلَى إبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُمْ ذُرِّيَّتُهُ وخزان بَيْتِهِ وَعَلَى بَقَايَا مِنْ شَعَائِرِهِ . وَالْكِتَابِيُّونَ أَصْلُهُمْ كِتَابُ مُوسَى . وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ بَدَّلَتْ وَغَيَّرَتْ . فَأَقَامَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ بَعْدَ اعْوِجَاجِهَا وَجَاءَ بِالْكِتَابِ الْمُهَيْمِنِ الْمُصَدِّقِ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُبَيِّنِ لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ وَمَا حُرِّفَ وَكُتِمَ مِنْ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ .
فَصْلٌ :
وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى قَامَا بِأَصْلِ الدِّينِ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَمُخَاصِمَةُ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . فَأَمَّا إبْرَاهِيمُ فَقَالَ اللَّهُ فِيهِ { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ

أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وَذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ إرَادَةَ إحْيَاءِ الْمَوْتَى فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَخْذِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الطَّيْرِ . فَقَرَّرَ أَمْرُ الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَهُمَا اللَّذَانِ يَكْفُرُ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا كُفَّارُ الصَّابِئَةِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ بُعِثَ الْخَلِيلُ إلَى نَوْعِهِمْ . فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ وُجُودَ الصَّانِعِ ؛ وَفِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ صِفَاتِهِ ؛ وَفِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ خَلْقَهُ وَيَقُولُ : إنَّهُ عِلَّةٌ ؛ وَأَكْثَرُهُمْ يُنْكِرُونَ إحْيَاءَ الْمَوْتَى . وَهُمْ مُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ الْعُلْوِيَّةَ وَالْأَصْنَامَ السُّفْلِيَّةَ . وَالْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ رَدَّ هَذَا جَمِيعَهُ . فَقَرَّرَ رُبُوبِيَّةَ رَبِّهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ . وَقَرَّرَ الْإِخْلَاصَ لَهُ وَنَفَى الشِّرْكَ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا . وَقَرَّرَ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ . وَاسْتَقَرَّ فِي مِلَّتِهِ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُ بِاِتِّخَاذِ اللَّهِ لَهُ خَلِيلًا .

ثُمَّ إنَّهُ نَاظَرَ الْمُشْرِكِينَ بِعِبَادَةِ مَنْ لَا يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ . فَقَالَ لِأَبِيهِ : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } . وَقَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ : { مَا تَعْبُدُونَ } { قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ } { أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } إلَى قَوْلِهِ { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } إلَى آخَرِ الْكَلَامِ . وَقَالَ : { إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ : { إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فَإِبْرَاهِيمُ دَعَا إلَى الْفِطْرَةِ . وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ وَالْإِقْرَارُ بِصِفَاتِ الْكَلِمَاتِ لِلَّهِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ عَبَدَ مَنْ سَلَبَهَا . فَلَمَّا عَابَهُمْ بِعِبَادَةِ مِنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ قَالَ : { رَبَّنَا إنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ } { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ }

وَلَمَّا عَابَهُمْ بِعِبَادَةِ مَنْ لَا يُغْنِي شَيْئًا فَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ قَالَ : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لِقَلْبِهِ وَجِسْمِهِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ ذَلِكَ . وَهُوَ أَمْرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا . فَمَنْفَعَةُ الدِّينِ الْهُدَى ؛ وَمَضَرَّتُهُ الذُّنُوبُ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ الْمَغْفِرَةُ . وَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ . وَمَنْفَعَةُ الْجَسَدِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ ؛ وَمَضَرَّتُهُ الْمَرَضُ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ الشِّفَاءُ . وَأَخْبَرَ أَنَّ رَبَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَأَنَّهُ فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ . وَإِحْيَاؤُهُ فَوْقَ كَمَالِهِ بِأَنَّهُ حَيٌّ . وَأَنَّهُ فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ يَقْتَضِي إمْسَاكَهَا وَقِيَامَهَا الَّذِي هُوَ فَوْقَ كَمَالِهِ بِأَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ عَنْ النُّجُومِ { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } فَإِنَّ الْآفِلَ هُوَ الَّذِي يَغِيبُ تَارَةً وَيَظْهَرُ تَارَةً فَلَيْسَ هُوَ قَائِمًا عَلَى

عَبْدِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ . وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَا سِوَى اللَّه مِنْ الْكَوَاكِبِ وَنَحْوِهَا وَيَتَّخِذُونَهَا أَوْثَانًا يَكُونُونَ فِي وَقْتِ الْبُزُوغِ طَالِبِينَ سَائِلِينَ وَفِي وَقْتِ الْأُفُولِ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُمْ وَلَا مُرَادُهُمْ . فَلَا يَجْتَلِبُونَ مَنْفَعَةً وَلَا يَدْفَعُونَ مَضَرَّةً وَلَا يَنْتَفِعُونَ إذْ ذَاكَ بِعِبَادَةِ . فَبَيَّنَ مَا فِي الْآلِهَةِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ النَّقْصِ وَبَيَّنَّ مَا لِرَبِّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ الْكَمَالِ بِأَنَّهُ الْخَالِقُ الْفَاطِرُ الْعَلِيمُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْهَادِي الرَّازِقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ . وَسَمَّى رَبَّهُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الدَّالَّةِ عَلَى نُعُوتِ كَمَالِهِ فَقَالَ : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ : { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } فَوَصَفَ رَبَّهُ بِالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ الْمُنَاسِبِ لِمَعْنَى الْخُلَّةِ كَمَا قَالَ { إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاصَمَ فِرْعَوْنَ الَّذِي جَحَدَ الرُّبُوبِيَّةَ وَالرِّسَالَةَ وَقَالَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } و { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي } . وَقِصَّتُهُ فِي الْقُرْآنِ مُثَنَّاةٌ مَبْسُوطَةٌ لَا يَحْتَاجُ هَذَا الْمَوْضِعُ إلَى بَسْطِهَا . وَقَرَّرَ أَيْضًا أَمْرَ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ وَنَفَى الشِّرْكَ .

وَلَمَّا اتَّخَذَ قَوْمُهُ الْعِجْلَ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ صِفَاتِ النَّقْصِ الَّتِي تُنَافِي الْأُلُوهِيَّةَ فَقَالَ : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ } . وَقَالَ : { فَقَالُوا هَذَا إلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } { أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا } { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ } فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَوَّتَ صَوْتًا هُوَ خُوَارٌ فَإِنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَأَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ فِي الشِّرْكِ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَقَالَ : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } { وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } { إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ }

وَاسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ إنْكَارٍ وَجُحُودٍ لِطُرُقِ الْإِدْرَاكِ التَّامِّ وَهُوَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ . وَالْعَمَلُ التَّامُّ وَهُوَ الْيَدُ وَالرِّجْلُ كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ فِيمَا رَوَى عَنْهُ رَسُولُهُ عَنْ أَحْبَابِهِ الْمُتَقَرِّبِينَ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ فَقَالَ : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ . فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا } .
فَصْلٌ :
وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْمُتَّبِعُونَ لِإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ يُثْبِتُونَ مَا أَثْبَتُوهُ مِنْ تَكْلِيمِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَسَائِرَ مَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالْمَثَلِ الْأَعْلَى . وَيُنَزِّهُونَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْأَجْسَادِ الَّتِي لَا حَيَاةَ فِيهَا . فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ } وَقَالَ : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ } . وَقَالَ : { عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ } فَوَصَفَ الْجَسَدَ بِعَدَمِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْمَوْتَانِ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَنْطِقُ وَلَا يُغْنِي شَيْئًا . وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُمْ سَلَكُوا

سَبِيلَ أَعْدَاءِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَمُحَمَّدٍ الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَاِتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا . وَقَدْ كَلَّمَ اللَّهُ مُحَمَّدًا وَاِتَّخَذَهُ خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَرَفَعَهُ فَوْقَ ذَلِكَ دَرَجَاتٍ : وَتَابَعُوا فِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ : { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ } { أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } وَتَابَعُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } وَاتَّبَعُوا الَّذِينَ أَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ . فَهُمْ يَجْحَدُونَ حَقِيقَةَ كَوْنِهِ الرَّحْمَنَ أَوْ أَنَّهُ يَرْحَمُ أَوْ يُكَلِّمُ أَوْ يَوَدُّ عِبَادَهُ أَوْ يَوَدُّونَهُ أَوْ أَنَّهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ . وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالْأَجْسَامِ الْحِسِّيَّةِ وَهِيَ الْحَيَوَانُ كَالْإِنْسَانِ وَأَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ . فَهُمْ قَدْ شَبَّهُوهُ بِالْأَجْسَادِ الْمَيِّتَةِ فِيمَا هُوَ نَقْصٌ وَعَيْبٌ وَتَشْبِيهٌ دَلَّتْ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْفِطْرَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَنَّهُ عَيْبٌ وَنَقْصٌ بَلْ يَقْتَضِي عَدَمُهُ . وَأَمَّا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ فِيمَا قَالُوهُ تَشْبِيهًا مَا فَلَيْسَ هُوَ تَشْبِيهًا بِمَنْقُوصِ مَعِيبٍ وَلَا هُوَ فِي صِفَةِ نَقْصٍ أَوْ عَيْبٍ بَلْ فِي غَايَةِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ الْكَمَالُ وَأَنَّ لِصَاحِبِهِ الْجَلَالَ وَالْإِكْرَامَ .

فَصَارَ أَهْلُ السُّنَّةِ يَصِفُونَهُ بِالْوُجُودِ وَكَمَالِ الْوُجُودِ وَأُولَئِكَ يَصِفُونَهُ بِعَدَمِ كَمَالِ الْوُجُودِ أَوْ بِعَدَمِ الْوُجُودِ بِالْكُلِّيَّةِ . فَهُمْ مُمَثِّلَةٌ مُعَطِّلَةٌ مُمَثِّلَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مُعَطِّلَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . أَمَّا فِي الْعَقْلِ فَلِأَنَّهُمْ مَثَّلُوهُ بِالْعَدَمِ وَالْأَجْسَادِ الْمَوْتَانِ . وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَإِنَّهُمْ مَثَّلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ صِفَاتِهِ بِنَفْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ كَانَ هَذَا التَّمْثِيلُ الَّذِي ادَّعَوْا أَنَّهُ مَعْنَى النُّصُوصِ أَقَلَّ تَمْثِيلًا مِنْ تَمْثِيلِهِمْ الَّذِي ادَّعَوْهُ . وَأَمَّا تَعْطِيلُهُمْ فِي الْعَقْلِ فَإِنَّهُ تَعْطِيلٌ لِلصِّفَاتِ تَعْطِيلٌ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ الذَّاتِ . وَلِهَذَا أُلْجِئُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى نَفْيِ الذَّاتِ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارُوا عَلَى طَرِيقَةِ فِرْعَوْنَ لَا يُقِرُّونَ إلَّا بِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُنَافِقُونَ فَيُقِرُّونَ بِأَلْفَاظٍ لَا مَعْنَى لَهَا أَوْ بِعِبَادَاتٍ لَا مَعْبُودَ لَهَا . وَأَمَّا تَعْطِيلُهُمْ لِلشَّرْعِ فَإِنَّهُمْ جَحَدُوا مَا فِي كُتُبِ اللَّهِ مِنْ الْمَعَانِي وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ أَوْ قَالُوا : نَحْنُ كَالْأُمِّيِّينَ لَا نَعْلَمُ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ أَوْ : قُلُوبُنَا غُلْفٌ . وَقَالُوا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَظِيرَ مَا قَالَتْهُ الْكُفَّارُ

{ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } و ( { قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ } . وَهَكَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ : لَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا يَقُولُ الرَّسُولُ وَقَالُوا كَمَا قَالَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ لِلرَّسُولِ فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ { قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا } . وَصَارُوا كَاَلَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } . فَتَدَبَّرْ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ مِنْ نَفْيِ فِقْهِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ تَجِدْ بَعْضَ ذَلِكَ فِيمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ تَدَبُّرِ كِتَابِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ وَمَا تُوحِيهِ إلَى أَوْلِيَائِهَا وَاَللَّهُ يَهْدِينَا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا . وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةُ الْمُشَابِهُونَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ الصَّابِئَةِ وَغَيْرِهِمْ الْجَاحِدَةِ لِوُجُودِ الصَّانِعِ أَوْ صِفَاتِهِ تَرْمِي أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَارَةً بِأَنَّهُمْ يُشْبِهُونَ الْيَهُودَ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ

وَكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الصِّفَاتِ وَلِمَا ابْتَدَعَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ مِنْ التَّشْبِيهِ الْمَنْفِيِّ عَنْ اللَّهِ ؛ وَتَارَةً بِأَنَّهُمْ يُشْبِهُونَ النَّصَارَى لِمَا أَثْبَتَتْهُ النَّصَارَى مِنْ صِفَةِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَلِمَا ابْتَدَعَتْهُ مِنْ أَنَّ الْأَقَانِيمَ جَوَاهِرُ وَأَنَّ أُقْنُومَ الْكَلِمَةِ اتَّحَدَ بِالنَّاسُوتِ . وَهَذَا الرَّمْيُ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِمْ قَبْلَ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَفِي زَمَنِهِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ أَصْحَابِهِ حِكَايَةُ ذَلِكَ . ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالزَّنَادِقَةِ " وَأَنَّهُمْ قَالُوا " إذَا أَثْبَتُّمْ الصِّفَاتِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِقَوْلِ النَّصَارَى " وَرَدَّ ذَلِكَ . وَفِي " مَسَائِلِهِ " : أَنَّ طَائِفَةً قَالُوا لَهُ : مَنْ قَالَ " الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ هُوَ فِي الصُّدُورِ " فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ النَّصَارَى . وَهَكَذَا الْجَهْمِيَّة تَرْمِي الصفاتية بِأَنَّهُمْ يَهُودُ هَذِهِ الْأُمَّةِ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ مُتَقَدِّمِي الْجَهْمِيَّة وَمُتَأَخَّرِيهِمْ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِي الجهمي الْجَبْرِيُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَخْرُجُ إلَى حَقِيقَةِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ . وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ كِتَابَهُ الْمَعْرُوفَ فِي السِّحْرِ وَعِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ . مَعَ أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُحَرِّمُ ذَلِكَ وَيَنْهَى عَنْهُ مُتَّبِعًا لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكُتُبِ وَالرِّسَالَةِ . وَيَنْصُرُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَمَا يُشَكِّكُ أَهْلَهُ وَيُشَكِّكُ غَيْرَ

أَهْلِهِ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ . وَقَدْ يَنْصُرُ غَيْرَ أَهْلِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ . فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ التَّشْكِيكُ وَالْحَيْرَةُ أَكْثَرُ مِنْ الْجَزْمِ وَالْبَيَانِ . وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَجْوِبَةٌ . أَحَدُهَا : أَنَّ مُشَابَهَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَيْسَتْ مَحْذُورًا إلَّا فِيمَا خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَنُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ . وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ دِينَ الْمُرْسَلِينَ وَاحِدٌ وَأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْقُرْآنَ خَرَجَا مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ . وَقَدْ اسْتَشْهَدَ اللَّهُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَتَّى قَالَ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ } . فَإِذَا أَشْهَدَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى مِثْلِ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ هَذَا حُجَّةً وَدَلِيلًا وَهُوَ مِنْ حِكْمَةِ إقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ . فَيَفْرَحُ بِمُوَافَقَةِ الْمَقَالَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِمَا يَأْثُرُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَهُمْ . وَيَكُونُ هَذَا مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَمِنْ حُجَجِ الرِّسَالَةِ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى اتِّفَاقِ الرُّسُلِ . الثَّانِي : أَنَّ الْمُشَابَهَةَ الَّتِي يَدْعُونَهَا لَيْسَتْ صَحِيحَةً . فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ

لَا يُوَافِقُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِيمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الدِّينِ وَالِاعْتِقَاد . وَلِهَذَا قُلْت فِي بَيَانِ فَسَادِ قَوْلِ ابْنِ الْخَطِيبِ : إنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مَقَالَةَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يَفْهَمْ مَقَالَةَ النَّصَارَى . وَأَوْضَحْت ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ كَمَا بَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَد الْفَرْقَ بَيْنَ مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَبَيْنَ مَقَالَةِ النَّصَارَى الْمُبْتَدَعَةِ وَكَمَا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمَقَالَةِ الْيَهُودِ الْمُبْتَدَعَةِ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ إذَا فُرِضَ مُشَابَهَةُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لِلْيَهُودِ أَوْ النَّصَارَى فَأَهْلُ النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ مُشَابِهُونَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ . وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ مُشَابَهَةَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ خَيْرٌ مِنْ مُشَابَهَةِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْكُفَّارِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالنُّبُوَّاتِ وَنَحْوِهِمْ . وَلِهَذَا قِيلَ : الْمُشَبِّهُ أَعْشَى وَالْمُعَطِّلُ أَعْمَى . وَلِهَذَا فَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِانْتِصَارِ النَّصَارَى عَلَى الْمَجُوسِ كَمَا فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِانْتِصَارِ الْمَجُوسِ عَلَى النَّصَارَى . فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ نَافِعٌ فِي مَوَاضِعَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ . وَهُمْ يَجْعَلُونَ الصفاتية نَصَارَى الْأُمَّةِ وَيَمِيلُونَ إلَى الْيَهُودِ لِمُوَافَقَتِهِمْ

لَهُمْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ أَكْثَرَ مِنْ النَّصَارَى كَمَا يَمِيلُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ إلَى النَّصَارَى أَكْثَرَ مِنْ الْيَهُودِ . فَإِذَا كَانَ الصفاتية إلَى النَّصَارَى أَقْرَبَ وَضِدُّهُمْ إلَى الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ أَقْرَبَ تَبَيَّنَ أَنَّ الصفاتية أَتْبَاعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ فَرِحُوا بِانْتِصَارِ الرُّومِ النَّصَارَى عَلَى فَارِسَ الْمَجُوسِ وَأَنَّ الْمُعَطِّلَةَ هُمْ إلَى الْمُشْرِكِينَ أَقْرَبُ الَّذِينَ فَرِحُوا بِانْتِصَارِ الْمَجُوسِ عَلَى النَّصَارَى .

سُورَةُ الْغَاشِيَةِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
قَوْلُهُ : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ } { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ } { تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَعْنَى وُجُوهٌ فِي الدُّنْيَا خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا حَامِيَةً وَيَعْنِي بِهَا عِبَادَ الْكُفَّارِ كَالرُّهْبَانِ وَعِبَادَ البدود وَرُبَّمَا تُؤُوِّلَتْ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ كَالْخَوَارِجِ . و " الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَخْشَعُ أَيْ تَذِلُّ وَتَعْمَلُ وَتَنْصَبُ قُلْت هَذَا هُوَ الْحَقُّ لِوُجُوهِ : " أَحَدُهَا " أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَتَعَلَّقُ الظَّرْفُ بِمَا يَلِيهِ أَيْ : وُجُوهٌ يَوْمَ الْغَاشِيَةِ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ صَالِيَةٌ . وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا

بِقَوْلِهِ ( تَصْلَى ) وَيَكُونُ قَوْلُهُ ( خَاشِعَةٌ ) صِفَةً لِلْوُجُوهِ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِأَجْنَبِيٍّ مُتَعَلِّقٍ بِصِفَةٍ أُخْرَى مُتَأَخِّرَةٍ وَالتَّقْدِيرُ : وُجُوهٌ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ يَوْمَئِذٍ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً . وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ؛ فَالْأَصْلُ إقْرَارُ الْكَلَامِ عَلَى نَظْمِهِ وَتَرْتِيبِهِ تَغْيِيرُ تَرْتِيبِهِ . ثُمَّ إنَّمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ مَعَ الْقَرِينَةِ أَمَّا مَعَ اللَّبْسِ فَلَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَبِسُ عَلَى الْمُخَاطَبِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَا قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ؛ بَلْ الْقَرِينَةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَإِرَادَةُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِمِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ خِلَافُ الْبَيَانِ وَأَمْرُ الْمُخَاطَبِ بِفَهْمِهِ تَكْلِيفٌ لِمَا لَا يُطَاقُ . " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ وُجُوهَ الْأَشْقِيَاءِ وَوُجُوهَ السُّعَدَاءِ فِي السُّورَةِ فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ } { لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا وَصَفَهَا بِالنِّعْمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا فِي الدُّنْيَا ؛ إذْ هَذَا لَيْسَ بِمَدْحِ فَالْوَاجِبُ تَشَابُهُ الْكَلَامِ وَتَنَاظُرُ الْقِسْمَيْنِ لَا اخْتِلَافُهُمَا وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْأَشْقِيَاءُ وُصِفَتْ وُجُوهُهُمْ بِحَالِهَا فِي الْآخِرَةِ . " الثَّالِثُ " أَنَّ نَظِيرَ هَذَا التَّقْسِيمِ قَوْلُهُ : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ }

{ إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } { تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } وَقَوْلُهُ : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ } { ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ } { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } { أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } وَهَذَا كُلُّهُ وَصْفٌ لِلْوُجُوهِ لِحَالِهَا فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا . " الرَّابِعُ " أَنَّ وَصْفَ الْوُجُوهِ بِالْأَعْمَالِ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْعَلَامَةِ كَقَوْلِهِ : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } وَقَوْلِهِ : { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } وَقَوْلِهِ : { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَالنَّصْبَ لَيْسَ قَائِمًا بِالْوُجُوهِ فَقَطْ ؛ بِخِلَافِ السِّيمَا وَالْعَلَامَةِ . " الْخَامِسُ " أَنَّ قَوْلَهُ : { خَاشِعَةً } { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ } لَوْ جُعِلَ صِفَةً لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا اللَّفْظِ ذَمٌّ فَإِنَّ هَذَا إلَى الْمَدْحِ أَقْرَبُ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ وَصْفٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ عِبَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَعِبَادِ الْكُفَّارِ وَالذَّمُّ لَا يَكُونُ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ وَلَوْ أُرِيدَ الْمُخْتَصَّ لَقِيلَ خَاشِعَةٌ لِلْأَوْثَانِ مَثَلًا عَامِلَةُ لِغَيْرِ اللَّهِ نَاصِبَةٌ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي كَوْنَ هَذَا الْوَصْفِ مُخْتَصًّا بِالْكُفَّارِ وَلَا كَوْنَهُ مَذْمُومًا . وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذَمٌّ لِهَذَا الْوَصْفِ مُطْلَقًا وَلَا وَعِيدَ عَلَيْهِ فَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى خُرُوجٌ عَنْ الْخِطَابِ الْمَعْرُوفِ فِي الْقُرْآنِ .

" السَّادِسُ " أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِ الْكُفَّارِ وَلَا مُوجِبَ لِلتَّخْصِيصِ فَإِنَّ الَّذِينَ لَا يَتَعَبَّدُونَ مِنْ الْكُفَّارِ أَكْثَرُ وَعُقُوبَةَ فُسَّاقِهِمْ فِي دِينِهِمْ أَشَدُّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّ مَنْ كَفَّ مِنْهُمْ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَأَدَّى الْوَاجِبَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ عُقُوبَتُهُ كَعُقُوبَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَيَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَيَزْنُونَ . فَإِذَا كَانَ الْكُفْرُ وَالْعَذَابُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي الْقِسْمِ الْمَتْرُوكِ أَكْثَرَ وَأَكْبَرَ كَانَ هَذَا التَّخْصِيصُ عَكْسَ الْوَاجِبِ . " السَّابِعُ " أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ فِيهِ تَنْفِيرٌ عَنْ الْعِبَادَةِ وَالنُّسُكِ ابْتِدَاءً ثُمَّ إذَا قُيِّدَ ذَلِكَ بِعِبَادَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُبْتَدِعَةِ وَلَيْسَ فِي الْخِطَابِ تَقْيِيدٌ كَانَ هَذَا سَعْيًا فِي إصْلَاحِ الْخِطَابِ بِمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ .

سُورَةُ الْبَلَدِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ } { وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ } { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } الْهِدَايَةُ مَحِلُّهَا الْقَلْبُ وَهَذِهِ الْأَعْضَاءُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي هِيَ دَائِمَةُ الْحَرَكَةِ وَالْكَسْبِ إمَّا لِلْإِنْسَانِ وَإِمَّا عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا يَتَحَرَّكُ مِنْ دَاخِلٍ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَبِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّ السُّكُونَ أَغْلَبُ وَحَرَكَتَهَا قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يُرْوَى { عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ كَانَ صَمْتُهُ فِكْرًا وَنُطْقُهُ ذِكْرًا وَنَظَرُهُ عِبْرَةً } . وَفِي حَدِيثٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الصَّمْتِ دَائِمَ الْفِكْرِ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ فَالصَّمْتُ وَالْفِكْرُ لِلِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَأَمَّا الْحُزْنُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْحُزْنَ الَّذِي هُوَ الْأَلَمُ عَلَى فَوْتِ مَطْلُوبٍ أَوْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ حَالِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الِاهْتِمَامَ وَالتَّيَقُّظَ لِمَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنْ الْأُمُورِ وَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْعَيْنِ .

وَفِيهِ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي يَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ وَيَقْرَأُ الْآيَاتِ الْعَشْرِ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ } فَيَجْمَعُ بَيْنَ الذِّكْرِ وَالنَّظَرِ وَالْفِكْرِ فَالنَّظَرُ أَيْ نَظَرُ الْقَلْبِ وَنَظَرُ الْعَيْنِ وَالذِّكْرُ أَيْضًا لَا بُدَّ مَعَ ذِكْرِ اللِّسَانِ مِنْ ذِكْرِ الْقَلْبِ . وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ مَبْدَأً وَالذِّكْرُ مُنْتَهًى لِأَنَّ النَّظَرَ يَتَقَدَّمُ الْإِدْرَاكَ وَالْعِلْمَ وَالذِّكْرَ يَتَأَخَّرُ عَنْ الْإِدْرَاكِ وَالْعِلْمِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمَةُ فِي النَّظَرِ الْمُقْتَضِي لِلْعِلْمِ وَكَانَ الْمُتَصَوِّفَةُ فِي الذِّكْرِ الْمُقَرِّرِ لِلْعِلْمِ قَدَّمَ آلَةَ النَّظَرِ عَلَى آلَةِ الذِّكْرِ وَخَتَمَ بِهِدَايَةِ الْمَلِكِ الْجَامِعِ الَّذِي هُوَ النَّاظِرُ الذَّاكِرُ . وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ اللِّسَانَ وَالشَّفَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا الْعُضْوَانِ النَّاطِقَانِ . فَأَمَّا الْهَوَاءُ وَالْحَلْقُ وَالنِّطْعُ وَاللَّهَوَاتُ وَالْأَسْنَانُ فَمُتَّصِلَةٌ حَرَكَةُ بَعْضِهَا مُرْتَبِطَةٌ بِحَرَكَةِ الْبَعْضِ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْحَنَكِ فَأَمَّا اللِّسَانُ وَالشَّفَتَانِ فَمُنْفَصِلَةٌ . ثُمَّ الشَّفَتَانِ لَمَّا كَانَا النِّهَايَةَ حَمَلَا الْحُرُوفَ الْجَوَامِعَ : الْبَاءَ وَالْفَاءَ وَالْمِيمَ وَالْوَاوَ . فَأَمَّا الْبَاءُ وَالْفَاءُ فَهُمَا الْحَرْفَانِ السَّبَبِيَّانِ فَإِنَّ الْبَاءَ أَبَدًا تُفِيدُ الْإِلْصَاقَ وَالسَّبَبُ وَكَذَلِكَ الْفَاءُ تُفِيدُ التَّعْقِيبَ وَالسَّبَبَ ؛ وَبِالْأَسْبَابِ تَجْتَمِعُ الْأُمُورُ بَعْضُهَا بِبَعْضِ .

وَأَمَّا الْمِيمُ وَالْوَاوُ فَلَهُمَا الْجَمْعُ وَالْإِحَاطَةُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمِيمَ ضَمِيرٌ لِجَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ : ضَمِيرَيْ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ الْمُتَّصِلَيْنِ والمنفصلين وَضَمِيرُ الْخَفْضِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : ( أَنْتُمْ ) و ( عَلِمْتُمْ ) و ( إيَّاكُمْ ) و ( عِلْمُكُمْ ) و ( بِكُمْ ) وَضَمِيرٌ لِجَمْعِ الْغَائِبِينَ فِي الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ أَيْضًا وَالْمُضْمَرُ أَيًّا كَانَ إمَّا مُتَكَلِّمٌ أَوْ مُخَاطَبٌ أَوْ غَائِبٌ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ أَوْ جَمْعٌ مَرْفُوعٌ أَوْ مَنْصُوبٌ أَوْ مَجْرُورٌ . فَقَدْ أَحَاطَتْ بِالْجَمِيعِ مُطْلَقًا . أَمَّا الْجَمْعُ الْمُطْلَقُ فَبِنَفْسِهَا وَأَمَّا الْجَمْعُ الْمُقَدَّرُ بِاثْنَيْنِ فَبِزِيَادَةِ عَلَمِ التَّثْنِيَة وَهُوَ الْأَلِفُ فِي مِثْلِ أَنْتُمَا وَعَلِمْتُمَا وَكَذَلِكَ الْبَاقِي . وَلِهَذَا زِيدَتْ الْوَاوُ فِي الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَقِيلَ عليهموا وأنتموا كَمَا زِيدَتْ الْأَلِفُ فِي التَّثْنِيَةِ وَمَنْ حَذَفَهَا حَذَفَهَا تَخْفِيفًا ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْعَلَامَةِ عَلَامَةٌ فَصَارَتْ الْمِيمُ مُشْتَرَكَةً ثُمَّ الْفَارِقُ الْأَلِفُ أَوْ عَدَمُهَا مَعَ الْوَاوِ . وَأَمَّا الْوَاوُ فَلَهَا جُمُوعُ الضَّمَائِرِ الْغَائِبَةِ فِي مِثْلِ قَالُوا وَنَحْوِهَا وَأَمَّا الْمُتَّصِلَةُ مِثْلُ إيَّاكُمْ وَهُمْ فَعَلَى اللُّغَتَيْنِ ؛ فَلَمَّا صَارَتْ الْوَاوُ تَمَامَ الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ الْمُنْفَصِلِ وَالْيَاءُ تَمَامَ الْمُؤَنَّثِ : صَارَتْ لِلْمُؤَنَّثِ مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ تِلْوَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُفْرَدُ مُذَكَّرُهُ وَمُؤَنَّثُهُ قَبْلَ الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ فَإِنَّ الْمُفْرَدَ قَبْلَ الْمُرَكَّبِ ثُمَّ الْأَلِفُ صَارَتْ عَلَمَ التَّثْنِيَةِ مُطْلَقًا فِي الْمُظْهَرِ وَالْمُضْمَرِ كَمَا أَنَّ الْوَاوَ عَلَمٌ لِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ وَجَعْلُ الْيَاءِ عَلَمَيْ النَّصْبِ وَالْجَرِّ

فِي الْمُظْهَرِ مِنْ الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ ؛ لِأَنَّ الْمُظْهَرَ قَبْلَ الْمُضْمَرِ وَأَقْوَى مِنْهُ فَكَانَتْ أَحَقَّ أَنْ تَكُونَ فِيهِ مِنْ الْأَلِفِ فَحِينَ مَا كَانَ أَقْوَى كَانَتْ الْوَاوَ وَحِينَ مَا كَانَ أَوْسَطَ كَانَ الْيَاءَ . وَأَمَّا الْجُمُوعُ الظَّاهِرَةُ فَالْوَاوُ هِيَ عَلَمُ الْجَمْعِ الْمُذَكِّرِ الصَّحِيحِ كَمَا أَنَّ الْأَلِفَ عَلَمُ التَّثْنِيَةِ ؛ وَلِهَذَا يُنْطَقُ بِهَا حَيْثُ لَا إعْرَابَ لَكِنْ فِي حَالِ النَّصْبِ وَالْخَفْضِ قُلِبَتَا يَاءَيْنِ لِأَجْلِ الْفَرْقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الظَّاهِرَةَ لَهَا الْغَيْبَةُ دُونَ الْخِطَابِ فِي جَمِيعِ الْعَرَبِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاوَ أَقْوَى حُرُوفِ الْعِلَّةِ وَالضَّمَّةُ بَعْضُهَا وَهِيَ أَقْوَى الْحَرَكَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْجَمْعِ وَكَوْنِهَا آخِرًا فَجُعِلَتْ لِلْجَمْعِ وَالْأَلِفُ أَخَفُّ حُرُوفِ الْعِلَّةِ فَجُعِلَتْ لِلِاثْنَيْنِ لِأَنَّ الْيَاءَ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ لِلْمُؤَنَّثِ فِي الْمُفْرَدِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي قَوْلِك . . . (1) ، وَجَاءَتْ الْمِيمُ فِي مِثْلِ اللَّهُمَّ إشْعَارٌ بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَرْفَ الشَّفَةِ لَمَّا كَانَ جَامِعًا لِلْقُوَّةِ مِنْ مَبْدَإِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ إلَى مُنْتَهَاهَا بِمَنْزِلَةِ الْخَاتَمِ الْآخَرِ الَّذِي حَوَى مَا فِي الْمُتَقَدِّمِ وَزِيَادَةٍ كَانَ جَامِعًا لِقَوِيِّ الْحُرُوفِ فَجُعِلَ جَامِعًا لِلْأَسْمَاءِ مُظْهَرِهَا وَمُضْمَرِهَا وَجَامِعًا بَيْنَ الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ فَالْوَاوُ وَالْفَاءُ عَاطِفَانِ وَالْفَاءُ رَابِطَةُ جُمْلَةٍ بِجُمْلَةِ . وَلَمَّا كَانَتْ النُّونُ قَرِيبَةً مِنْ الْفِيهَةِ فَهِيَ أَنْفِيَّةٌ جُعِلَتْ لِجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ

لِأَنَّهُ دُونَ جَمْعِ الْمُذَكِّرِ وَثَنَّى الْعَيْنَيْنِ وَالشَّفَتَيْنِ لِأَنَّ الْعَيْنَيْنِ هُمَا رَبِيئَةُ الْقَلْبِ وَلَيْسَ مِنْ الْأَعْضَاءِ أَشَدُّ ارْتِبَاطًا بِالْقَلْبِ مِنْ الْعَيْنَيْنِ ؛ وَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنِهِمَا فِي قَوْلِهِ : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ } { تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } { وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } { أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } وَلِأَنَّ كِلَيْهِمَا لَهُ النَّظَرُ ؛ فَنَظَرُ الْقَلْبِ الظَّاهِرُ بِالْعَيْنَيْنِ وَالْبَاطِنُ بِهِ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ اللِّسَانُ هُوَ الذَّكَرُ وَالشَّفَتَانِ أُنْثَاهُ .

سُورَةُ الشَّمْسِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
فِي قَوْله تَعَالَى { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } { وَالْقَمَرِ إذَا تَلَاهَا } { وَالنَّهَارِ إذَا جَلَّاهَا } { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَاهَا } . وَضَمِيرُ التَّأْنِيثِ فِي { جَلَّاهَا } و { يَغْشَاهَا } لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ إلَّا الشَّمْسُ فَيَقْتَضِي أَنَّ النَّهَارَ يُجَلِّي الشَّمْسَ وَأَنَّ اللَّيْلَ يَغْشَاهَا و " التَّجْلِيَةُ " الْكَشْفُ وَالْإِظْهَارُ و " الْغَشَيَانُ " التَّغْطِيَةُ وَاللَّبْسُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ظَرْفَا الزَّمَانِ وَالْفِعْلُ إذَا أُضِيفَ إلَى الزَّمَانِ فَقِيلَ هَذَا الزَّمَانُ أَوْ هَذَا الْيَوْمُ يُبْرِدُ أَوْ يُبَرِّدُ أَوْ يُنْبِتُ الْأَرْضَ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَالْمَقْصُودُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِيهِ كَمَا يُوصَفُ الزَّمَانُ بِأَنَّهُ عَصِيبٌ وَشَدِيدٌ وَنَحْسٌ وَبَارِدٌ وَحَارٌّ وَطَيِّبٌ وَمَكْرُوهٌ وَالْمُرَادُ وَصْفُ مَا فِيهِ . فَكَوْنُ الشَّيْءِ فَاعِلًا وَمَوْصُوفًا هُوَ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ .

فَالنَّهَارُ يُجَلِّي الشَّمْسَ وَاللَّيْلُ يَغْشَاهَا وَإِنْ كَانَ ظُهُورُ الشَّمْسِ هُوَ سَبَبُ النَّهَارِ وَمَغِيبُهَا سَبَبُ اللَّيْلِ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } فَأَضَافَ الضُّحَى إلَيْهَا . وَالضُّحَى يَعُمُّ النَّهَارَ كُلَّهُ كَمَا قَالَ { أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا } { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } وَقَالَ { وَالضُّحَى } { وَاللَّيْلِ إذَا سَجَى } . وَقَوْلِهِ : { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } { وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } فَقَدْ قِيلَ : إنَّ " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ : وَالسَّمَاءِ وَبِنَاءِ اللَّهِ إيَّاهَا وَالْأَرْضِ وَطَحْوِ اللَّهِ إيَّاهَا وَنَفْسٍ وَتَسْوِيَةِ اللَّهِ إيَّاهَا . لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْفَاعِلِ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَدَّرَ الْمَصْدَرُ هُنَا مُضَافًا إلَى الْفِعْلِ فَقَطْ فَيُقَالُ " وَبِنَائِهَا " لِأَنَّ الْفَاعِلَ مَذْكُورٌ فِي الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ { وَمَا بَنَاهَا } { وَمَا طَحَاهَا } فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ فِي الْجُمْلَةِ وَمَفْعُولٍ أَيْضًا . فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي التَّقْدِيرِ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ . لَكِنْ إذَا كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً كَانَتْ " مَا " حَرْفًا لَيْسَ فِيهَا ضَمِيرٌ فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي " بَنَاهَا " عَائِدًا عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ بَلْ إلَى مَعْلُومٍ وَالتَّقْدِيرُ : وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا اللَّهُ وَهَذَا خِلَافُ الْأَصْلِ ؛ وَخِلَافُ الظَّاهِرِ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ وَالتَّقْدِيرُ : الَّذِي بَنَاهَا وَاَلَّذِي طَحَاهَا . و " مَا " فِيهَا عُمُومٌ وَإِجْمَالٌ يَصْلُحُ لِمَا لَا يُعْلَمُ وَلِصِفَاتِ مَنْ يَعْلَمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } وَقَوْلِهِ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } . وَهَذَا الْمَعْنَى يَجِيءُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } . وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا أَنَّهُ ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَأَصْلُهُ هُوَ أَكْمَلُ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا . فَإِنَّ الْقَسَمَ بِالْفَاعِلِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْسَامَ بِفِعْلِهِ بِخِلَافِ الْإِقْسَامِ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ . وَأَيْضًا فَالْأَقْسَامُ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ عَامَّتُهَا بِالذَّوَاتِ الْفَاعِلَةِ وَغَيْرِ الْفَاعِلَةِ . يُقْسِمُ بِنَفْسِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا } { فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا } { فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا } وَكَقَوْلِهِ : { وَالنَّازِعَاتِ } { وَالْمُرْسَلَاتِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ تَارَةً يُقْسِمُ بِنَفْسِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ وَتَارَةً بِرَبِّهَا وَخَالِقِهَا كَقَوْلِهِ { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } وَكَقَوْلِهِ { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } وَتَارَةً يُقْسِمُ بِهَا وَبِرَبِّهَا . وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ أَقَسَمَ بِمَخْلُوقٍ وَبِفِعْلِهِ ؛ وَأَقْسَمَ بِمَخْلُوقٍ دُونَ فِعْلِهِ فَأَقْسَمَ بِفَاعِلِهِ .

فَإِنَّهُ قَالَ : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } { وَالْقَمَرِ إذَا تَلَاهَا } { وَالنَّهَارِ إذَا جَلَّاهَا } { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَاهَا } . فَأَقْسَمَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَآثَارِهَا وَأَفْعَالِهَا كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } وَقَالَ : { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } فَإِنَّهُ بِأَفْعَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَآثَارِهَا تَقُومُ مَصَالِحُ بَنِي آدَمَ وَسَائِرُ الْحَيَوَانِ . وَقَالَ : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } وَلَمْ يَقُلْ : " وَنَهَارِهَا " وَلَا " ضِيَائِهَا " لِأَنَّ " الضُّحَى " يَدُلُّ عَلَى النُّورِ وَالْحَرَارَةِ جَمِيعًا وَبِالْأَنْوَارِ وَالْحَرَارَةِ تَقُومُ مَصَالِحُ الْعِبَادِ . ثُمَّ أَقْسَمَ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَبِالنَّفْسِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا فِعْلًا فَذَكَرَ فَاعِلَهَا فَقَالَ : { وَمَا بَنَاهَا } { وَمَا طَحَاهَا } { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } . فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُقْسِمَ بِفِعْلِ النَّفْسِ لِأَنَّهَا تَفْعَلُ الْبِرَّ وَالْفُجُورَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُقْسِمُ إلَّا بِمَا هُوَ مُعَظَّمٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ . لَكِنْ ذَكَرَ فِي ضَمِيرِ الْقَسَمِ أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِهَا بِقَوْلِهِ : { وَمَا سَوَّاهَا } { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } . فَإِذَا كَانَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ خَالِقُ فِعْلِ الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ الْأَشْيَاءِ فِعْلًا وَاخْتِيَارًا وَقُدْرَةً فَلَأَنْ يَكُونَ خَالِقَ فِعْلِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى .

وَأَمَّا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ فَلَيْسَ لَهُمَا فِعْلٌ ظَاهِرٌ يُعَظَّمُ فِي النُّفُوسِ حَتَّى يُقْسِمَ بِهَا إلَّا مَا يَظْهَرُ مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ . وَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ أَعْظَمُ مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالنَّفْسُ أَشْرَفُ الْحَيَوَانِ الْمَخْلُوقِ . فَكَانَ الْقَسَمُ بِصَانِعِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ مُنَاسِبًا وَكَانَ إقْسَامُهُ بِصَانِعِهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ صَانِعٌ مَا فِيهَا مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ . فَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ الْإِقْسَامَ بِصَانِعِ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبِأَعْيَانِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْآثَارِ وَالْمَنَافِعِ لِبَنِي آدَمَ . وَخَتَمَ الْقَسَمَ بِالنَّفْسِ الَّتِي هِيَ آخِرُ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ الْمَخْلُوقَاتِ . وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَالِقٌ جَمِيعَ أَفْعَالِهَا وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ جَمِيعَ أَفْعَالِ مَا سِوَاهَا . وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ مَا ذَكَرَ مِنْ عُمُومِ خَلْقِهِ لِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَرَاتِبِهَا حَتَّى أَفْعَالِ الْعَبْدِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَى التَّقْوَى وَالْفُجُورِ و بَيْنَ انْقِسَامِ الْأَفْعَالِ إلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَانْقِسَامِ الْفَاعِلِينَ إلَى مُفْلِحٍ وَخَائِبٍ سَعِيدٍ وَشَقِيٍّ . وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ . فَكَانَ فِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ الَّذِينَ يُخْرِجُونَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ عَنْ خَلْقِهِ وَإِلْهَامِهِ وَعَلَى الْقَدَرِيَّةِ المشركية الَّذِينَ يُبْطِلُونَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ . احْتِجَاجًا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ .

وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } إنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى " اللَّهِ " أَيْ " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا اللَّهُ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا اللَّهُ " . وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ بَعِيدٌ عَنْ نَهْجِ الْبَيَانِ الَّذِي أَلَّفَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ إذْ كَانَ الْأَحْسَنُ " قَدْ أَفْلَحَتْ مَنْ زَكَّاهَا اللَّهُ وَقَدْ خَابَتْ مَنْ دَسَّاهَا " وَهَذَا ضَعِيفٌ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } بَيَانٌ لِلْقَدَرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ . مَرَّةً ثَانِيَةً عَقِبَ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْقَصِيرَةِ . وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إثْبَاتِ الْقَدَرِ إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ دُونَ الثَّانِيَةِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الْأُسُودِ الدؤلي قَالَ قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ : أَرَأَيْت مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سُبِقَ أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ ؟ فَقُلْت : بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ . قَالَ فَقَالَ : أَفَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا ؟ قَالَ : فَفَزِعْت مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا وَقُلْت : كُلُّ شَيْءٍ خَلْقُ اللَّهِ وَمِلْكُ يَدِهِ فَلَا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ . فَقَالَ لِي : يَرْحَمُك اللَّهُ : إنِّي لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُك إلَّا لِأُحْرِزَ عَقْلَك . فَإِنَّ { رَجُلَيْنِ مِنْ مزينة أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ

قَدْ سُبِقَ أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ ؟ فَقَالَ : لَا بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ } وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تَصْدِيقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْقَضَاءِ قَوْلُهُ { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } وَاَلَّذِي فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْقَدَرُ السَّابِقُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَكَلَامِهِ ؛ وَهَذَا إنَّمَا تُنْكِرُهُ غَالِيَةُ الْقَدَرِيَّةِ . وَأَمَّا الَّذِي فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ خَلْقُ اللَّهِ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَهَذَا أَبْلَغُ . فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ الْمَجُوسِيَّةَ تُنْكِرُهُ . فَاَلَّذِي فِي الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ وَزِيَادَةٌ وَلِهَذَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقًا لَهُ . وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُلْهِمُ لِلْفُجُورِ وَالتَّقْوَى وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ظُلْمٌ كَمَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ الإبليسية وَلَا مُخَالَفَةَ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ المشركية فالْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ قَبْلَ وُجُودِهِ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ مِنْ جِهَةِ الْقَدَرِ . وَلِهَذَا قَدْ أَقَرَّ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ جُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ خَلْقَ الْأَفْعَالِ . وَلَمْ يُثْبِتْ أَحَدٌ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَيُنْكِرُهُ مِنْ جِهَةِ الْقَدَرِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ ذَلِكَ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ فِعْلِ الْعَبْدِ وَأَنَّهُ الْمُلْهِمُ الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى كَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَصْنُوعَاتِهِ وَالشُّبْهَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لِلْقَدَرِيَّةِ الَّتِي سَأَلَ المزنيان النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هِيَ فِي أَعْمَالِ الْعِبَادِ الَّتِي عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ خَاصَّةً وَلَمْ يُنْكِرُوا مِنْ جِهَةِ الْقَدَرِ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَا يَخْلُقُهُ هُوَ قَبْلَ وُجُودِهِ . وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ إذَا اشْتَبَهَ أَمْرُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ الْأُمُورَ قَبْلَ وُجُودِهَا إلَّا أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَالسَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ . فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَهُ حَتَّى يَكُونَ لِأَنَّ أَمْرَ الْأَمِيرِ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يُطِيعُهُ فِيهِ بَلْ يَكُونُ ضَرَرًا عَلَيْهِ مُسْتَقْبَحٌ عِنْدَهُمْ . وَقَدْ حَكَى طَوَائِفُ مِنْ الْمُصَنَّفِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِمْ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ . وَقَالُوا : يَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعَبْدَ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ . لِأَنَّ فِي جِنْسِ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ . فَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ قَدْ أَثْبَتَ أَنَّهُ الْمُلْهِمُ لِلنَّفْسِ فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَفْعُولَاتِهِ . فَلَا تَبْقَى شُبْهَةُ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِهِ كَمَا لَا شُبْهَةَ عِنْدِهِمْ فِي تَقْدِيرِهِ لِمَا يَخْلُقُهُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ . وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ تَقْدِيرَهُ الْعِلْمَ مِنْ مُنْكِرَةِ الصِّفَاتِ أَوْ بَعْضِهَا فَأُولَئِكَ

لَهُمْ مَأْخَذٌ آخَرُ لَيْسَ مَأْخَذُهُمْ أَمْرَ الصِّفَاتِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَلْهَمَ الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى وَهُوَ خَالِقُ فِعْلِ الْعَبْدِ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ مَا خَلَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ كَمَا قَالَ { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } لِأَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ يُرِيدُ مَا يَفْعَلُهُ وَالْإِرَادَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِتَصَوُّرِ الْمُرَادِ . وَذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُرَادِ الْمَفْعُولِ . وَإِذَا كَانَ خُلُقُهُ لِلشَّيْءِ مُسْتَلْزِمًا لِعِلْمِهِ بِهِ فَذَلِكَ أَصْلُ الْقَدَرِ السَّابِقِ وَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ وَبِكُتُبِهِ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ . وَهَذَا بَيِّنٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إذَا أَلْهَمَ الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى فَالْمُلْهَمُ إنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى وَيَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ هَذَا فُجُورٌ وَاَلَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ هَذَا تَقْوَى لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إلْهَامُ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى . فَظَهَرَ بِهَذَا حُسْنُ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَصْدِيقِ الْآيَةِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقَدَرِ السَّابِقِ . وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } كَمَا يَدُلُّ عَلَى الْقَدَرِ فَيَدُلُّ عَلَى الشَّرْعِ . فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ " فَأَلْهَمَهَا أَفْعَالَهَا " كَمَا يَقُولُ النَّاسُ

" خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَمْيِيزٌ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ . بَلْ كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ المباحية وَالْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْحُسْنَ وَالْقُبْحَ ؛ فَإِنَّهُ خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ . فَلَمَّا قَالَ { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } كَانَ الْكَلَامُ تَفْرِيقًا بَيْنَ الْحَسَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْقَبِيحِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَأَنَّ الْأَفْعَالَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى حَسَنٍ وَسَيِّئٍ مَعَ كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقَ الصِّنْفَيْنِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ وَأَفْعَالَهُمَا الْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ ووَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ ؛ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ خَالِقُ الصِّنْفَيْنِ كَقَوْلِهِ { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَهَذَا الْأَصْلُ ضَلَّتْ فِيهِ الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ : فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ الْمَجُوسِيَّةَ قَالُوا : إنَّ الْأَفْعَالَ تَنْقَسِمُ إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ لِصِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِهَا وَالْعَبْدُ هُوَ الْمُحْدِثُ لَهَا بِدُونِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبِدُونِ خَلْقِهِ . فَقَالَتْ الْجَبْرِيَّةُ : بَلْ الْعَبْدُ مَجْبُورٌ عَلَى فِعْلِهِ وَالْجَبْرُ حَقٌّ يُوجِبُ وُجُودَ أَفْعَالِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَخْلُقُهَا اللَّهُ وَامْتِنَاعُ وَجُودِهَا عِنْدَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْأَسْبَابِ . وَإِذَا كَانَ مَجْبُورًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا لِمَعْنَى يَقُومُ بِهِ .

وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي وَنَحْوِهِ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ النَّافِينَ لِانْقِسَامِ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ . وَالْأُولَى طَرِيقَةُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَمْ يُحْدِثْهُ إلَّا هُوَ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ أَوْ نَظَرِيٌّ ؛ وَأَنَّ الْفِعْلَ يَنْقَسِمُ فِي نَفْسِهِ إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ . وَأَبُو الْحُسَيْنِ هُوَ إمَامُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَهُ مِنْ الْعَقْلِ وَالْفَضْلِ مَا لَيْسَ لِأَكْثَرِ نُظَرَائِهِ . لَكِنْ هُوَ قَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِالسُّنَنِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ وَطَرِيقَةِ السَّلَفِ . وَهُوَ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي فِي هَذَا الْبَابِ فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ وَمَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْحَقِّ مَا لَيْسَ مَعَ الْآخَرِ . فَأَبُو الْحُسَيْنِ يَدَّعِي أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يُحْدِثُ فِعْلَهُ ضَرُورِيٌّ وَالرَّازِي يَدَّعِي أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ افْتِقَارَ الْفِعْلِ الْمُحْدَثِ الْمُمْكِنِ إلَى مُرَجَّحٍ يَجِبُ وَجُودُهُ عِنْدَهُ وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ عَدَمِهِ ضَرُورِيٌّ كَذَلِكَ . بَلْ كِلَاهُمَا صَادِقٌ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ . ثُمَّ يَعْتَقِدُ كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ يُبْطِلُ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ مِنْ الضَّرُورَةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . بَلْ كِلَاهُمَا صَادِقٌ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَمُصِيبٌ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا وَقَعَ غَلَطُهُ فِي إنْكَارِهِ مَا مَعَ الْآخَرِ مِنْ الْخَلْقِ . فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الْعَبْدِ مُحْدِثًا لِفِعْلِهِ وَكَوْنِ

هَذَا الْإِحْدَاثِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى . وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً كَمَا ادَّعَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ مِنْ الضَّرُورَةِ ؛ لَا يَقُولُونَ : لَيْسَ بِفَاعِلِ حَقِيقَةً أَوْ لَيْسَ بِفَاعِلِ كَمَا يَقُولُهُ الْمَائِلُونَ إلَى الْجَبْرِ مِثْلُ طَائِفَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي . يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِهَذَا الْفَاعِلِ وَلِفِعْلِهِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَهُ فَاعِلًا حَقِيقَةً وَهُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ طَائِفَةِ الرَّازِي وَغَيْرِهِمْ ؛ لَا كَمَا يَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ مِثْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ وَطَائِفَتِهِ : إنَّ اللَّه لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ . وَلِهَذَا نَصَّ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ كالأوزاعي وَغَيْرِهِ عَلَى إنْكَارِ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَلَا يُقَالُ " إنَّ اللَّهَ جَبَرَ الْعِبَادَ " وَلَا يُقَالُ " لَمْ يَجْبُرْهُمْ " . فَإِنَّ لَفْظَ " الْجَبْرِ " فِيهِ اشْتِرَاكٌ وَإِجْمَالٌ . فَإِذَا قِيلَ " جَبَرَهُمْ " أَشْعَرَ بِأَنَّ اللَّهَ يُجْبِرُهُمْ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ وَإِذَا قِيلَ " لَمْ يُجْبِرْهُمْ " أَشْعَرَ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يَشَاءُونَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ اعْتَقَدُوا تَنَافِي الْقَدَرِ وَالشَّرْعِ كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ الْمَجُوسُ وَالْمُشْرِكُونَ فَقَالُوا : إذَا كَانَ خَالِقًا لِلْفِعْلِ امْتَنَعَ

أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ حَسَنًا لَهُ ثَوَابٌ أَوْ قَبِيحًا عَلَيْهِ عِقَابٌ . ثُمَّ قَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ : لَكِنَّ الْفِعْلَ مُنْقَسِمٌ فَلَيْسَ خَالِقًا لِلْفِعْلِ . وَقَالَتْ الْجَبْرِيَّةُ : لَكِنَّهُ خَالِقٌ فَلَيْسَ الْفِعْلُ مُنْقَسِمًا . وَلَكِنَّ الْجَبْرِيَّةَ الْمُقِرُّونَ بِالرُّسُلِ يُقِرُّونَ بِالِانْقِسَامِ مِنْ جِهَةِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ فَقَطْ وَيَقُولُونَ : لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا شَاءَ لَا لِمَعْنَى فِيهِ وَيَنْهَى عَمَّا يَشَاءُ لَا لِأَجْلِ مَعْنًى فِيهِ وَيَقُولُونَ فِي خَلْقِهِ وَفِي أَمْرِهِ جَمِيعًا : يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ . وَأَمَّا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ رَأْيٌ أَوْ هَوًى فَإِنَّهُ يَنْحَلُّ عَنْ رِبْقَةِ الشَّارِعِ إذَا عَايَنَ الْجَبْرَ وَيَقُولُونَ مَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } وَمَنْ أَقَرَّ بِالشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْي وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ دُونَ الْقَدَرِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ كَمَا عَلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ فَهُوَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ الَّذِينَ شَابَهُوا الْمَجُوسَ . وَلِلْمُعْتَزِلَةِ مِنْ مُشَابَهَةِ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ نَصِيبٌ وَافِرٌ . وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ وَعُمُومِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنْكَرَ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكِرَ وَالْهُدَى وَالضَّلَالَ وَالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئَةِ .

وَكَانَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَذَلِكَ لَمَّا نَاظَرَ أَهْلَ الْهِنْدِ كَمَا كَانَ الْمُعْتَزِلَةُ كَذَلِكَ لَمَّا نَاظَرُوا الْمَجُوسَ الْفُرْسَ وَالْمَجُوسُ أَرْجَحُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ أَوْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ فَهُوَ مُشْرِكٌ صَرِيحٌ كَافِرٌ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ أَهْلِ الْإِبَاحَةِ وَنَحْوِهِمْ . وَلِهَذَا لَمْ يَظْهَرْ هَؤُلَاءِ وَنَحْوُهُمْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالنُّبُوَّةِ . وَإِنَّمَا ظَهَرَ أُولَئِكَ الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ فِيهِ تَعْظِيمٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . فَهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالرَّسُولِ وَالدِّينِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعَطِّلَةِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ . وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ الإبليسية فَهَمّ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِوُجُودِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ اللَّهِ وَيُقِرُّونَ مَعَ ذَلِكَ بِوُجُودِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مِنْهُ لَكِنْ يَقُولُونَ : هَذَا فِيهِ جَهْلٌ وَظُلْمٌ . فَإِنَّهُ بِتَنَاقُضِهِ يَكُونُ جَهْلًا وَسَفَهًا وَبِمَا فِيهِ مِنْ عُقُوبَةِ الْعَبْدِ بِمَا خَلَقَ فِيهِ يَكُونُ ظُلْمًا . وَهَذَا حَالُ إبْلِيسَ . فَإِنَّهُ قَالَ { بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ

وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } . فَأَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ أَغْوَاهُ ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَهُ دَاعِيًا يَقْتَضِي أَنْ يُغْوِيَ هُوَ ذَرِّيَّةَ آدَمَ . وَإِبْلِيسٌ هُوَ أَوَّلُ مَنْ عَادَى اللَّهَ وَطَغَى فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَعَارَضَ النَّصَّ بِالْقِيَاسِ . وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُ السَّلَفِ : أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ . فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَاعْتَرَضَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِأَنِّي خَيْرٌ مِنْهُ وَامْتَنَعَ مِنْ السُّجُودِ . فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَادَى اللَّهَ وَهُوَ الْجَاهِلُ الظَّالِمُ الْجَاهِلُ بِمَا فِي أَمْرِ اللَّهِ مِنْ الْحِكْمَةِ الظَّالِمُ بِاسْتِكْبَارِهِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ بَطَرِ الْحَقِّ وَغَمْطِ النَّاسِ . ثُمَّ قَوْلُهُ لِرَبِّهِ " فَبِمَا أَغْوَيْتِنِي لَأَفْعَلَنَّ " جَعَلَ فِعْلَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ إغْوَاؤُهُ لَهُ حُجَّةً لَهُ وَدَاعِيًا إلَى أَنْ يُغْوِيَ ابْنَ آدَمَ . وَهَذَا طَعْنٌ مِنْهُ فِي فِعْلِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَزَعْمٌ مِنْهُ أَنَّهُ قَبِيحٌ فَأَنَا أَفْعَلُ الْقَبِيحَ أَيْضًا . فَقَاسَ نَفْسَهُ عَلَى رَبِّهِ وَمَثَّلَ نَفْسَهُ بِرَبِّهِ . وَلِهَذَا كَانَ مُضَاهِيًا لِلرُّبُوبِيَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ إبْلِيسَ يَنْصِبُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً أَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ مَنْزِلَةً . فَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ : مَا زِلْت بِهِ حَتَّى فَعَلَ كَذَا . ثُمَّ يَجِيءُ الْآخَرُ فَيَقُولُ : مَا زِلْت بِهِ حَتَّى فَرَّقْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ فَيَلْتَزِمُهُ وَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ : أَنْتَ أَنْتَ } .

وَالْقَدَرِيَّةُ قَصَدُوا تَنْزِيهَ اللَّهِ عَنْ السَّفَهِ وَأَحْسَنُوا فِي هَذَا الْقَصْدِ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ مِنْ إبْلِيسَ وَجُنُودِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا حَكَمٌ عَدْلٌ . لَكِنْ ضَاقَ ذَرْعُهُمْ وَحَصَلَ عِنْدَهُمْ نَوْعُ جَهْلٍ اعْتَقَدُوا مَعَهُ أَنَّ هَذَا التَّنْزِيهَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِأَنْ يَسْلُبُوهُ قُدْرَتَهُ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَخَلْقِهِ لَهَا وَشُمُولِ إرَادَتِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ . فَنَاظَرُوا إبْلِيسَ وَحِزْبَهُ فِي شَيْءٍ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى . وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ آفَاتِ الْجِدَالِ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ بِغَيْرِ الْحَقِّ . وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَرُدُّ بَاطِلًا بِبَاطِلِ وَبِدْعَةً بِبِدْعَةِ . فَجَاءَ طَوَائِفُ مِمَّنْ نَاظَرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لِيُقَرِّرُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . فَضَاقَ ذَرْعُهُمْ وَعِلْمُهُمْ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ إنْ لَمْ نُنْكِرْ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَمَا خَصَّ بِهِ بَعْضَ الْأَفْعَالِ دُونَ بَعْضٍ مِنْ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ ؛ وَنُنْكِرُ حِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ فَيَجُوزُ عَلَيْهِ كُلُّ فِعْلٍ لَا يُنَزَّهُ عَنْ ظُلْمٍ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ . وَزَادَ قَوْمٌ فِي ذَلِكَ حَتَّى عَطَّلُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ رَأْسًا . وَمَالَ هَؤُلَاءِ إلَى الْإِرْجَاءِ كَمَا مَالَ الْأَوَّلُونَ إلَى الْوَعِيدِ . فَقَالَتْ الوعيدية :

كُلُّ فَاسِقٍ خَالِدٌ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا ؛ وَقَالَتْ الْخَوَارِجُ : هُوَ كَافِرٌ . وَغَالِيَةُ الْمُرْجِئَةِ أَنْكَرَتْ عِقَابَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ . وَمَنْ صَرَّحَ بِالْكُفْرِ أَنْكَرَ الْوَعِيدَ فِي الْآخِرَةِ رَأْسًا كَمَا يَفْعَلُهُ طَوَائِفُ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ والمتفلسفة وَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ . وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْجَبْرِيَّةُ الْمُرْجِئَةُ أَكْفَرُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الوعيدية الْقَدَرِيَّةِ . وَأَمَّا مُقْتَصِدَةُ الْمُرْجِئَةِ الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَنَّ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ فَهَؤُلَاءِ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لُعِنَتْ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا أَنَا آخِرُهُمْ } . لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ أَصْلَحُ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَنَحْوِهِمْ فِي الشَّرِيعَةِ عِلْمَهَا وَعَمَلَهَا . فَكَلَامُهُمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِي اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ خَيْرٌ مِنْ كَلَامِ الْمُرْجِئَةِ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . فَإِنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ قَاصِرٌ جِدًّا وَكَذَلِكَ هُمْ مُقَصِّرُونَ فِي تَعْظِيمِ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي . وَلَكِنْ هُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ أَصْلَحُ مِنْ أُولَئِكَ فَإِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ بِمَا لَا يُؤْمِنُ بِهِ أُولَئِكَ . وَهَذَا الصِّنْفُ أَعْلَى .

فَلِهَذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ فِي الْجُمْلَةِ خَيْرًا مِنْ الْقَدَرِيَّةِ حَتَّى إنَّ الْإِرْجَاءَ دَخَلَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ بِخِلَافِ الِاعْتِزَالِ . فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّتِهِمْ .
فَصْلٌ :
فَإِذَا كَانَ الضَّلَالُ فِي الْقَدَرِ حَصَلَ تَارَةً بِالتَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ وَالْخَلْقِ . وَتَارَةً بِالتَّكْذِيبِ بِالشَّرْعِ وَالْوَعِيدِ وَتَارَةً بِتَظْلِيمِ الرَّبِّ كَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ رَدًّا عَلَى هَذِهِ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا . فَقَوْلُهُ تَعَالَى { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } إثْبَاتٌ لِلْقَدَرِ بِقَوْلِهِ " فَأَلْهَمَهَا " ؛ وَإِثْبَاتٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ بِإِضَافَةِ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى إلَى نَفْسِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهَا هِيَ الْفَاجِرَةُ وَالْمُتَّقِيَةُ ؛ وَإِثْبَاتٌ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِقَوْلِهِ { فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } . وَقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } إثْبَاتٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِفَلَاحِ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَخَيْبَةِ مَنْ دَسَّاهَا . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَعَلَى الْجَبْرِيَّةِ لِلشَّرْعِ أَوْ لِفِعْلِ الْعَبْدِ وَهُمْ الْمُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ .

وَأَمَّا الْمُظْلِمُونَ لِلْخَالِقِ فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى عَدْلِهِ بِقَوْلِهِ { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } وَالتَّسْوِيَةُ : التَّعْدِيلُ . فَبَيَّنَ أَنَّهُ عَادِلٌ فِي تَسْوِيَةِ النَّفْسِ الَّتِي أَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عُقُوبَةَ مَنْ كَذَّبَ رُسُلَهُ وَطَغَى وَأَنَّهُ لَا يَخَافُ عَاقِبَةَ انْتِقَامِهِ مِمَّنْ خَالَفَ رُسُلَهُ لِيُبَيِّنَ أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِهَذَا أَوْ بِهَذَا فَإِنَّ اللَّهَ يَنْتَقِمُ مِنْهُ وَلَا يَخَافُ عَاقِبَةَ انْتِقَامِهِ كَمَا انْتَقَمَ مِنْ إبْلِيسِ وَجُنُودِهِ وَأَنَّ تَظَلُّمَهُ مِنْ رَبِّهِ وَتَسْفِيهَهُ لَهُ إنَّمَا يُهْلِكُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا . " فَإِنَّ الْعِبَادَ لَنْ يَبْلُغُوا ضُرَّ اللَّهِ فَيَضُرُّوهُ وَلَنْ يَبْلُغُوا نَفْعَهُ فَيَنْفَعُوهُ وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ وَإِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِهِ شَيْئًا وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ وَإِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا " . وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَبَا الْأُسُودِ الدؤلي عَنْ ذَلِكَ لِيَحْزِرَ عَقْلَهُ " هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا ؟ " فَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْهُ ظُلْمًا وَخَافَ مِنْ قَوْلِهِ { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } وَذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِشْهَادَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ الْخَائِضِينَ بِالْبَاطِلِ إمَّا أَنْ يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ لِمَا

أَخْبَرَ بِهِ الرَّبُّ مِنْ خَلْقِهِ أَوْ أَمْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُظْلِمِينَ لَهُ فِي حُكْمِهِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ الصَّادِقُ الْعَدْلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . فَإِنَّ الْكَلَامَ إمَّا إنْشَاءٌ وَإِمَّا إخْبَارٌ . فَالْإِخْبَارُ صِدْقٌ لَا كَذِبٌ ؛ وَالْإِنْشَاءُ أَمْرُ التَّكْوِينِ وَأَمْرُ التَّشْرِيعِ عَدْلٌ لَا ظُلْمٌ . وَالْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ كَذَّبُوا بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ خَلْقِهِ وَشَرْعِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ والإبليسية جَعَلُوهُ ظَالِمًا فِي مَجْمُوعِهِمَا أَوْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا . وَقَدْ ظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُفْتَرِقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ الْأُمَّةِ إنَّمَا ذَلِكَ بِتَرْكِهِمْ بَعْضَ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ وَأَخْذِهِمْ بَاطِلًا يُخَالِفُهُ وَاشْتِرَاكِهِمْ فِي بَاطِلٍ يُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مُخَالِفَةِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } إلَى قَوْلِهِ { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } . فَإِذَا اشْتَرَكُوا فِي بَاطِلٍ خَالَفُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَلْقَى بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي حَقٍّ آخَرَ جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَآمَنِ هَؤُلَاءِ بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ وَالْآخَرُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا كَفَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ وَيَكْفُرُونَ بِمَا يُؤْمِنُ بِهِ هَؤُلَاءِ . وَهُنَا كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْن الْمُفْتَرِقَتَيْن مَذْمُومَةٌ . وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ

الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهَا . وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ . فَإِنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي أَنَّ كَوْنَ الرَّبِّ خَالِقًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ يُنَافِي كَوْنَ فِعْلِهِ مُنْقَسِمًا إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ . وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ اشْتَرَكُوا فِيهَا جَدَلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ حَقًّا فِي نَفْسِهَا أَوْ عَلَيْهَا حُجَّةٌ مُسْتَقِيمَةٌ . وَهِيَ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا الرَّازِي فِي مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ . فَإِنَّهُ اعْتَقَدَ فِي " مَحْصُولِهِ " وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ عَلَى فِعْلِهِ وَالْمَجْبُورُ لَا يَكُونُ فِعْلُهُ قَبِيحًا فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ قَبِيحًا . وَهَذِهِ الْحُجَّةُ بِنَفْيٍ ذَلِكَ أَصْلُهَا حُجَّةُ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ قَالُوا { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } فَإِنَّهُمْ نَفَوْا قُبْحَ الشِّرْكِ وَتَحْرِيمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ بِإِثْبَاتِ الْقَدَرِ . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِالْجَبْرِ عَلَى نَفْيِ الْأَحْكَامِ إذَا أَقَرُّوا بِالشَّرْعِ لَمْ يَكُونُوا مِثْلَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُقِرُّونَ بِالشَّرِيعَةِ كَالْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ جُزْءٌ مِنْ بَاطِلٍ الْمُشْرِكِينَ . لَكِنْ يُوجَدُ فِي الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُتَصَوِّفَةِ طَوَائِفُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الْجَبْرُ حَتَّى

يَكْفُرُوا حِينَئِذٍ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ إمَّا قَوْلًا وَإِمَّا حَالًا وَعَمَلًا . وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ إسْقَاطَ اللَّوْمِ وَالْعِقَابِ عَنْهُمْ وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إلَّا ذَمًّا وَعِقَابًا كَالْمُسْتَجِيرِ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ . فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُطَرَّدُ الْعَمَلُ بِهِ لِأَحَدِ إذْ لَا غِنَى لِبَنِي آدَمَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مِنْ إرَادَةِ شَيْءٍ وَالْأَمْرِ بِهِ وَبُغْضِ شَيْءٍ وَالنَّهْيِ عَنْهُ . فَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَرْضِيِّ وَالْمَسْخُوطِ وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْهُدَى وَالرُّشْدِ وَالْغَيِّ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا . بَلْ إذَا حَصَلَ لَهُ مَا يَكْرَهُهُ وَيُؤْذِيهِ فَرَّ إلَى دَفْعِ ذَلِكَ وَعُقُوبَةُ فَاعِلِهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتَدِيَ فِي ذَلِكَ . فَهُمْ مِنْ أَظْلَمِ الْخَلْقِ فِي تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الْقَبِيحِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ وَمِمَّنْ يَهْوُونَهُ وَمَنْ لَا يَهْوُونَهُ وَاحْتِجَاجُهُمْ بِالْقَدَرِ لِأَنْفُسِهِمْ دُونَ خُصُومِهِمْ . وَتَجِدُ أَحَدَهُمْ عِنْدَ فِعْلِ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ يَغْلِبُ عَلَى قَلْبِهِ حَالُ أَهْلِ الْقَدَرِ فَيَجْعَلُ نَفْسَهُ هُوَ الْمُحْدِثُ لِذَلِكَ دُونَ اللَّهِ وَيَنْسَى نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ

فِي إلْهَامِهِ إيَّاهُ تَقْوَاهُ . وَهَذَا مِنْ أَظْلَمِ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ . وَأَهْلُ الْعَدْلِ ضِدُّ ذَلِكَ . إذَا فَعَلُوا حَسَنَةً شَكَرُوا اللَّهَ عَلَيْهَا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي حَبَّبَ إلَيْهِمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَرَّهَ إلَيْهِمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ؛ { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . فَاتَّبَعُوا أَبَاهُمْ حَيْثُ أَذْنَبَ : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وَقَالَ { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ " أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي " كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ . خَلَقْتِنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت . أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ ؛ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي . فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } . وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ تُرَدُّ

عَلَيْكُمْ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ شَرًّا فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ } . وَيَقُولُونَ بِمُوجَبِ قَوْله تَعَالَى { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ثَمُودَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ فَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة :
هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى . فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ أَخَفُّ ذَنْبًا وَعَذَابًا مِنْهُمْ (*) إذْ لَمْ يَذْكُرُ عَنْهُمْ مِنْ الذُّنُوبِ مَا ذَكَرَ عَنْ عَادٍ وَمَدْيَنَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَهُمْ وَعَادًا قَالَ { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } وَكَذَلِكَ إذَا ذَكَرَهُمْ مَعَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُمْ مَا يَذْكُرُ عَنْ أُولَئِكَ مِنْ التَّجَبُّرِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ كَاللِّوَاطِ وَبَخْسِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ كَمَا فِي سُورَةِ هُودٍ وَالشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمَا . فَكَانَ فِي قَوْمِ لُوطٍ مَعَ الشِّرْكِ إتْيَانُ الْفَوَاحِشِ الَّتِي

لَمْ يُسْبَقُوا إلَيْهَا ؛ وَفِي عَادٍ مَعَ الشِّرْكِ التَّجَبُّرُ وَالتَّكَبُّرُ وَالتَّوَسُّعُ فِي الدُّنْيَا وَشِدَّةُ الْبَطْشِ وَقَوْلُهُمْ { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } وَفِي أَصْحَابِ مَدْيَنَ مَعَ الشِّرْكِ الظُّلْمُ فِي الْأَمْوَالِ ؛ وَفِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ وَالْعُلُوُّ .
وَكَانَ عَذَابُ كُلِّ أُمَّةٍ بِحَسَبِ ذُنُوبِهِمْ وَجَرَائِمِهِمْ . فَعُذِّبَ قَوْمُ عَادٍ بِالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْعَاتِيَةِ الَّتِي لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ ؛ وَعُذِّبَ قَوْمُ لُوطٍ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يُعَذَّبْ بِهَا أُمَّةٌ غَيْرُهُمْ . فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْهَلَاكِ وَالرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ مِنْ السَّمَاءِ وَطَمْسِ الْأَبْصَارِ وَقَلْبِ دِيَارِهِمْ عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَالْخَسْفِ بِهِمْ إلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ . وَعَذَّبَ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِالنَّارِ الَّتِي أَحْرَقَتْهُمْ وَأَحْرَقَتْ تِلْكَ الْأَمْوَالَ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ . وَأَمَّا ثَمُودُ فَأَهْلَكَهُمْ بِالصَّيْحَةِ فَمَاتُوا فِي الْحَالِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا عَذَابَهُ لِهَؤُلَاءِ وَذَنْبُهُمْ مَعَ الشِّرْكَ عَقْرُ النَّاقَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ آيَةً لَهُمْ فَمَنْ انْتَهَكَ مَحَارِمَ اللَّهِ وَاسْتَخَفَّ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَعَقَرَ عِبَادَهُ وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ كَانَ أَشَدَّ عَذَابًا . وَمَنْ اعْتَبَرَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَمَا يُعَاقَبُ بِهِ مَنْ يَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَقَامَ الْفِتَنَ وَاسْتَهَانَ بِحُرُمَاتِ اللَّهِ عَلِمَ أَنَّ النَّجَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ .

سُورَةُ الْعَلَقِ
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي بَيَانِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ بَيَانُ أُصُولِ الدِّينِ وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى ثُبُوتِ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُعَادِ إمْكَانًا وَوُقُوعًا . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ هَذَا الْأَصْلَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ وَالسَّمْعِيَّةَ الَّتِي يَهْتَدِي بِهَا النَّاسُ إلَى دِينِهِمْ وَمَا فِيهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَنَّ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا أُصُولًا تُخَالِفُ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ هِيَ أُصُولُ دِينِهِمْ لَا أُصُولُ دِينِهِ . وَهِيَ بَاطِلَةٌ عَقْلًا وَسَمْعًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَبَيَّنَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ قَاصِرُونَ أَوْ مُقَصِّرُونَ فِي مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ

الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ . فَطَائِفَةٌ قَدْ ابْتَدَعَتْ أُصُولًا تُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ هَذَا وَهَذَا . وَطَائِفَةٌ رَأَتْ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةً فَأَعْرَضَتْ عَنْهُ وَصَارُوا يَنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ لِسَلَامَتِهِمْ مِنْ بِدْعَةِ أُولَئِكَ . وَلَكِنْ هُمْ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتَّبِعُوا السُّنَّةَ عَلَى وَجْهِهَا وَلَا قَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ . بَلْ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ مِنْ السَّمْعِيَّاتِ مِمَّا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ رَبِّهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ غَايَتُهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِلَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرٍ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ . بَلْ قَدْ يَقُولُونَ مَعَ هَذَا إنَّهُ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَعْنَى مَا أَخْبَرَ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ هُوَ تَأْوِيلُ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فَقَدْ لَا يَتَصَوَّرُونَ أَنَّهُ أَتَى بِالْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ كَالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهَذَا مُجْمَلًا وَلَا يَعْرِفُ أَدِلَّتَهُ . بَلْ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ كَالِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ عَلَى حُدُوثِ جَوَاهِرِهِ هُوَ دَلِيلُ الرَّسُولِ . وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْعَقْلِ كَالْمُعَادِ وَحُسْنِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالصِّدْقِ وَقُبْحِ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ

وَالْكَذِبِ . وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ . وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِهَا . وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ بِالْعَقْلِ يَعْرِفُ الْمُعَادَ وَحُسْنَ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَحُسْنَ شُكْرِهِ وَقُبْحَ الشِّرْكِ وَكُفْرَ نِعَمِهِ كَمَا قَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَكُونُ هَذَا فِي فِطْرَتِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ تَحْسِينَ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحَهُ إذَا صُنِّفَ فِي أُصُولِ الدِّينِ عَلَى طَرِيقَةِ الْنُّفَاةِ الْجَبْرِيَّةِ أَتْبَاعِ جَهْمٍ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ مَا يَقُولُهُ الْمُبْطِلُونَ يَقُولُونَ بِفِطْرَتِهِمْ مَا يُنَاقِضُ مَا يَقُولُونَهُ فِي اعْتِقَادِهِمْ الْبِدْعِيِّ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ الْجَدِّ الْأَعْلَى أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْفَرَجِ ابْنَ الْجَوْزِيِّ يُنْشِدُ فِي مَجْلِسِ وَعْظِهِ الْبَيْتَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ :
هَبْ الْبَعْثَ لَمْ تَأْتِنَا رُسُلُهُ * * * وَجَاحِمَةُ النَّارِ لَمْ تُضْرَمْ
أَلَيْسَ مِنْ الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَقِّ * * * حَيَاءُ الْعِبَادِ مِنْ الْمُنْعِمِ ؟
فَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذَا بِأَنَّهُ مِنْ الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَقِّ حَيَاءُ الْخَلْقِ مِنْ الْخَالِقِ الْمُنْعِمِ . وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ شُكْرَهُ وَاجِبٌ مُسْتَحَقٌّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَعِيدٌ وَلَا

رِسَالَةٌ أَخْبَرَتْ بِجَزَاءِ . وَهُوَ يُبَيِّنُ ثُبُوتَ الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَا عَذَابَ . وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ . وَنَتِيجَةُ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ انْخِفَاضُ الْمَنْزِلَةِ وَسَلْبُ كَثِيرٍ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي كَانَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُعَاقَبُ بِالضَّرَرِ . وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْوُجُوبَ وَالِاسْتِحْقَاقَ يُعْلَمُ بِالْبَدِيهَةِ . فَتَارِكُ الْوَاجِبِ وَفَاعِلُ الْقَبِيحِ وَإِنْ لَمْ يُعَذَّبْ بِالْآلَامِ كَالنَّارِ فَيُسْلَبُ مِنْ النِّعَمِ وَأَسْبَابِهِ مَا يَكُونُ جَزَاءَهُ . وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النِّعْمَةَ بَلْ كَفَرَهَا أَنْ يُسْلَبَهَا . فَالشُّكْرُ قَيْدُ النِّعَمِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْمَزِيدِ . وَالْكُفْرُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ مُوجِبٌ لِلْعَذَابِ وَقَبْلَ ذَلِكَ يُنْقِصُ النِّعْمَةَ وَلَا يَزِيدُ . مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ رَسُولٍ يَسْتَحِقُّ مَعَهُ النَّعِيمَ أَوْ الْعَذَابَ فَإِنَّهُ مَا ثَمَّ دَارٌ إلَّا الْجَنَّةُ أَوْ النَّارُ . قَالَ تَعَالَى { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ بَيَانَ هَذِهِ الْأُصُولِ وَقَعَ فِي أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ . فَإِنَّ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } عِنْدَ جَمَاهِيرِ

الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ قِيلَ { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ . فَإِنَّ مَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ يُبَيِّنُ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ وَأَنَّ " الْمُدَّثِّرَ " نَزَلَتْ بَعْدُ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي . فَإِنَّ قَوْلَهُ { اقْرَأْ } أَمْرٌ بِالْقِرَاءَةِ لَا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَبِذَلِكَ صَارَ نَبِيًّا . وَقَوْلُهُ { قُمْ فَأَنْذِرْ } أَمْرٌ بِالْإِنْذَارِ وَبِذَلِكَ صَارَ رَسُولًا مُنْذِرًا . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ . فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ . ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَأْتِي غَارَ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ . ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ . فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ : اقْرَأْ . قَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئِ . قَالَ : فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ .

فَقُلْت : مَا أَنَا بِقَارِئِ . فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ . فَقُلْت : مَا أَنَا بِقَارِئِ . فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةُ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ . فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خويلد فَقَالَ : " زَمِّلُونِي . زَمِّلُونِي " فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ . فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي . فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : كَلَّا وَاَللَّهِ لَا يُخْزِيك اللَّهُ أَبَدًا إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتُعِينَ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ

الْعُزَّى ابْنِ عَمِّ خَدِيجَةَ . وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ . فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : يَا ابْنَ عَمٍّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيك . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى ؟ . فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى . يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُك قَوْمُك . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ . قَالَ : نَعَمْ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْت بِهِ إلَّا عُودِي . وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزَّرًا . } ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوَفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ سَمِعْت أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ

عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ : { فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْت صَوْتًا فَرَفَعْت بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءِ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجِئْت حَتَّى هَوَيْت إلَى الْأَرْضِ . فَجِئْت أَهْلِي فَقُلْت : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُونِي . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } { قُمْ فَأَنْذِرْ } إلَى قَوْلِهِ { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } } . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ " الْمُدَّثِّرَ " نَزَلَتْ بَعْدَ تِلْكَ الْفَتْرَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ أَنْ عَايَنَ الْمَلَكَ الَّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءِ أَوَّلًا . فَكَانَ قَدْ رَأَى الْمَلَكَ مَرَّتَيْنِ . وَهَذَا يُفَسِّرُ حَدِيثَ جَابِرٍ الَّذِي رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ كَمَا أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ { يَحْيَى بْن أَبِي كَثِيرٍ قَالَ : سَأَلْت أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ . قَالَ : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } . قُلْت : يَقُولُونَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } . فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ : سَأَلْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ وَقُلْت لَهُ مِثْلَ مَا قُلْت فَقَالَ جَابِرٌ : لَا أُحَدِّثُك إلَّا مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : جَاوَرْت بِحِرَاءِ ؛ فَلَمَّا قَضَيْت جِوَارِي هَبَطْت فَنُودِيت فَنَظَرْت عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْت عَنْ شَمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْت أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْت خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا . فَرَفَعْت رَأْسِي فَرَأَيْت شَيْئًا . فَأَتَيْت خَدِيجَةَ فَقُلْت دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا .

قَالَ : فَنَزَلَتْ { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } { قُمْ فَأَنْذِرْ } { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } } . فَهَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ الْمُتَقَدِّمَ وَإِنَّ " الْمُدَّثِّرَ " نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ هَبَطَ مِنْ الْجَبَلِ وَهُوَ يَمْشِي وَبَعْدَ أَنْ نَادَاهُ الْمَلَكُ حِينَئِذٍ . وَقَدْ بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ هَذَا الْمَلَكَ هُوَ الَّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَتْ عَائِشَةُ أَنَّ { اقْرَأْ } نَزَلَتْ حِينَئِذٍ فِي غَارِ حِرَاءٍ . لَكِنْ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ أَنَّ { اقْرَأْ } نَزَلَتْ حِينَئِذٍ بَلْ عَلِمَ أَنَّهُ رَأَى الْمَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَدْ يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُ مِنْهُ . لَكِنَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ زِيَادَةَ عَلِمَ وَهُوَ أَمْرُهُ بِقِرَاءَةِ { اقْرَأْ } . وَفِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمَّى هَذَا " فَتْرَةَ الْوَحْيِ " وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ " فَتْرَةُ الْوَحْيِ " . فَقَدْ يَكُونُ الزُّهْرِيُّ رَوَى حَدِيثَ جَابِرٍ بِالْمَعْنَى وَسَمَّى مَا بَيْنَ الرُّؤْيَتَيْنِ " فَتْرَةَ الْوَحْيِ " كَمَا بَيَّنَتْهُ عَائِشَةُ ؛ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ جَابِرٌ سَمَّاهُ " فَتْرَةَ الْوَحْيِ " فَكَيْفَ يَقُولُ إنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ ؟ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَالزُّهْرِيُّ عِنْدَهُ حَدِيثُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ؛ وَحَدِيثُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ ؛ وَهُوَ أَوْسَعُ عِلْمًا وَأَحْفَظُ مِنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ لَوْ اخْتَلَفَا . لَكِنْ يَحْيَى ذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا سَلَمَةَ عَنْ الْأُولَى فَأَخْبَرَ جَابِرٌ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ مَا نَزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَائِشَةُ أَثْبَتَتْ وَبَيَّنَتْ .

وَالْآيَاتُ آيَاتُ " اقْرَأْ " و " الْمُدَّثِّرُ " تُبَيِّنُ ذَلِكَ وَالْحَدِيثَانِ مُتَصَادِقَانِ مَعَ الْقُرْآنِ وَمَعَ دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ هُوَ الْمُنَاسِبُ . وَإِذَا كَانَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى إثْبَاتُ الْخَالِقِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ . وَفِيهَا وَفِي الثَّانِيَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى إمْكَانِ النُّبُوَّةِ وَعَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَمَّا الْأُولَى فَإِنَّهُ قَالَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ثُمَّ قَالَ { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } . فَذَكَرَ الْخَلْقَ مُطْلَقًا ثُمَّ خَصَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ عَلَقٍ . وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْدُثُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ عَلَقٍ . وَهَؤُلَاءِ بَنُو آدَمَ . وَقَوْلُهُ الْإِنْسَانُ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ النَّاسِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ آدَمَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ طِينٍ . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى الْخَالِقِ تَعَالَى وَالِاسْتِدْلَالُ إنَّمَا يَكُونُ بِمُقَدِّمَاتِ

يَعْلَمُهَا الْمُسْتَدِلُّ . وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ دَلَالَةِ النَّاسِ وَهِدَايَتِهِمْ وَهُمْ كُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ النَّاسَ يُخْلَقُونَ مِنْ الْعَلَقِ . فَأَمَّا خَلْقُ آدَمَ مِنْ طِينٍ فَذَاكَ إنَّمَا عُلِمَ بِخَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِدَلَائِلَ أُخَرَ . وَلِهَذَا يُنْكِرُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ الدَّهْرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِالنُّبُوَّاتِ . وَهَذَا بِخِلَافِ ذِكْرِ خَلْقِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ . فَإِنَّ ذَاكَ ذِكْرُهُ لِمَا يُثْبِتُ النُّبُوَّةَ وَهَذِهِ السُّورَةُ أَوَّلُ مَا نَزَلَ وَبِهَا تَثْبُتُ النُّبُوَّةُ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا مَا عُلِمَ بِالْخَبَرِ بَلْ ذَكَرَ فِيهَا الدَّلِيلَ الْمَعْلُومَ بِالْعَقْلِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ لِمَنْ لَمْ يَرَ الْعَلَقَ . وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ الْعَلَقِ وَهُوَ جَمْعُ " عَلَقَةٍ " وَهِيَ الْقِطْعَةُ الصَّغِيرَةُ مِنْ الدَّمِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ نُطْفَةً وَالنُّطْفَةُ قَدْ تَسْقُطُ فِي غَيْرِ الرَّحِمِ كَمَا يَحْتَلِمُ الْإِنْسَانُ وَقَدْ تَسْقُطُ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ يَرْمِيهَا الرَّحِمُ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ عَلَقَةً . فَقَدْ صَارَ مَبْدَأً لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَعُلِمَ أَنَّهَا صَارَتْ عَلَقَةً لِيُخْلَقَ مِنْهَا الْإِنْسَانُ . وَقَدْ قَالَ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى } { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى } { فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ

عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } فَهُنَا ذَكَرَ هَذَا عَلَى إمْكَانِ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَكُونُ مِنْ التُّرَابِ . وَلِهَذَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } فَفِي الْقِيَامَةِ اسْتَدَلَّ بِخَلْقِهِ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَفِي الْحَجِّ ذَكَرَ خَلْقَهُ مِنْ تُرَابٍ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ . وَذِكْرُ أَوَّلِ الْخَلْقِ أَدَلُّ عَلَى إمْكَانِ الْإِعَادَةِ . وَأَمَّا هُنَا فَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْخَالِقِ تَعَالَى ابْتِدَاءً فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ وَهُوَ مِنْ الْعَلَقَةِ الدَّمُ يَصِيرُ مُضْغَةً وَهُوَ قِطْعَةُ لَحْمٍ كَاللَّحْمِ الَّذِي يُمْضَغُ بِالْفَمِ ثُمَّ تَخَلَّقَ فَتُصُوِّرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ } فَإِنَّ الرَّحِمَ قَدْ يَقْذِفُهَا غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ . فَبَيَّنَ لِلنَّاسِ مَبْدَأَ خَلْقِهِمْ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ بِأَعْيُنِهِمْ . وَهَذَا الدَّلِيلُ وَهُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ مِنْ عَلَقٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ . فَإِنَّ النَّاسَ هُمْ الْمُسْتَدِلُّونَ وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ وَالْآيَةُ . فَالْإِنْسَانُ هُوَ الدَّلِيلُ وَهُوَ الْمُسْتَدِلُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } وَقَالَ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } . وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } .

وَهُوَ دَلِيلٌ يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَذْكُرُهُ كُلَّمَا تَذَكَّرَ فِي نَفْسِهِ وَفِيمَنْ يَرَاهُ مِنْ بَنِي جِنْسِهِ . فَيَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا } { أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } وَقَالَ تَعَالَى { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } . وكذلك قَالَ زَكَرِيَّا لَمَّا تَعَجَّبَ مِنْ حُصُولِ وَلَدٍ عَلَى الْكِبَرِ فَقَالَ { أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا } { قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } وَلَمْ يُقَلْ " إنَّهُ أَهْوَنَ عَلَيْهِ " كَمَا قَالَ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } . وقال سُبْحَانَهُ { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } بَعْدَ أَنْ قَالَ { الَّذِي خَلَقَ } . فَأَطْلَقَ الْخَلْقَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَخْلُوقٍ ثُمَّ عَيَّنَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ فَكَانَ كُلُّ مَا يُعْلَمُ حُدُوثُهُ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ { الَّذِي خَلَقَ } . وذكر بَعْدَ الْخَلْقِ التَّعْلِيمَ الَّذِي هُوَ التَّعْلِيمُ بِالْقَلَمِ وَتَعْلِيمُ الْإِنْسَانِ مَا لَمْ يَعْلَمْ . فَخَصَّ هَذَا التَّعْلِيمَ الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى إمْكَانِ النُّبُوَّةِ . وَلَمْ يُقَلْ هُنَا " هُدَى " فَيَذْكُرُ الْهُدَى الْعَامَّ الْمُتَنَاوَلَ لِلْإِنْسَانِ

وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } وَكَمَا قَالَ مُوسَى { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيمَ الْخَاصَّ يَسْتَلْزِمُ الْهُدَى الْعَامَّ وَلَا يَنْعَكِسُ . وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى إثْبَاتِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ نَوْعٌ مِنْ التَّعْلِيمِ . وَلَيْسَ جَعْلُ الْإِنْسَانِ نَبِيًّا بِأَعْظَمَ مِنْ جَعْلِهِ الْعَلَقَةَ إنْسَانًا حَيًّا عَالِمًا نَاطِقًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا قَدْ عَلِمَ أَنْوَاعَ الْمَعَارِفِ ؛ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْ إعَادَتِهِ . وَالْقَادِرُ عَلَى الْمَبْدَأِ كَيْفَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُعَادِ ؟ وَالْقَادِرُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيمِ كَيْفَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَاكَ التَّعْلِيمِ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَا يُحِيطُ أَحَدٌ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ ؟ وَقَالَ سُبْحَانَهُ أَوَّلًا { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } فَأَطْلَقَ التَّعْلِيمَ وَالْمُعَلِّمَ فَلَمْ يَخُصَّ نَوْعًا مِنْ الْمُعَلِّمِينَ . فَيَتَنَاوَلُ تَعْلِيمَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَمَا تَنَاوَلَ الْخَلْقَ لَهُمْ كُلَّهُمْ . وَذَكَرَ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَعْلِيمَ الْخَطِّ وَالْخَطُّ يُطَابِقُ اللَّفْظَ وَهُوَ الْبَيَانُ وَالْكَلَامُ . ثُمَّ اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ الَّتِي فِي الْقَلْبِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ عِلْمٍ فِي الْقُلُوبِ . وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي نَفْسِهِ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ الذِّهْنِ ثُمَّ

يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ وَالْقَلْبُ ثُمَّ يُعَبِّرُ عَنْهُ اللِّسَانُ ثُمَّ يَخُطُّهُ الْقَلَمُ . فَلَهُ وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَذِهْنِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَذْهَانِ وَاللِّسَانِ وَالْبَنَانِ . لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ هُوَ وَأَمَّا الثَّلَاثُ فَإِنَّهَا مِثَالٌ مُطَابِقٌ لَهُ . فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالثَّلَاثَةُ مُعَلِّمَةٌ . فَذَكَرَ الْخَلْقَ وَالتَّعْلِيمَ لِيَتَنَاوَلَ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ فَقَالَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْمَاهِيَّاتِ هَلْ هِيَ مَجْعُولَةٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ مَاهِيَّةُ كُلِّ شَيْءٍ زَائِدَةٌ عَلَى وُجُودِهِ ؟ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مَا يُتَصَوَّرُ فِي الذِّهْنِ وَيُوجَدُ فِي الْخَارِجِ . فَإِنْ أُرِيدَ الْمَاهِيَّةَ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الذِّهْنِ . وَبِالْوُجُودِ مَا فِي الْخَارِجِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَالْمَاهِيَّةُ غَيْرُ الْوُجُودِ إذَا كَانَ مَا فِي الْأَعْيَانِ مُغَايِرًا لِمَا فِي الْأَذْهَانِ . وَإِنْ أُرِيدَ بِالْمَاهِيَّةِ مَا فِي الذِّهْنِ أَوْ الْخَارِجِ أَوْ كِلَاهُمَا وَكَذَلِكَ بِالْوُجُودِ فَاَلَّذِي فِي الْخَارِجِ مِنْ الْوُجُودِ هُوَ الْمَاهِيَّةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ وَكَذَلِكَ مَا فِي الذِّهْنِ مِنْ هَذَا هُوَ هَذَا لَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْئَانِ .

وَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلِمَ مَا فِي الْأَذْهَانِ وَخَلَقَ مَا فِي الْأَعْيَانِ وَكِلَاهُمَا مَجْعُول لَهُ . لَكِنَّ الَّذِي فِي الْخَارِجِ جَعَلَهُ جَعْلًا خِلْقِيًّا . وَاَلَّذِي فِي الذِّهْنِ جَعَلَهُ جَعْلًا تَعْلِيمِيًّا . فَهُوَ الَّذِي { خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } وَهُوَ { الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . وَقَوْلُهُ { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } يَدْخُلُ فِيهِ تَعْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ الْكَاتِبِينَ وَيَدْخُلُ فِيهِ تَعْلِيمُ كُتُبِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ . فَعَلَّمَ بِالْقَلَمِ أَنْ يَكْتُبَ كَلَامَهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ كَالتَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ بَلْ هُوَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى . وَكَوْنُ مُحَمَّدٍ كَانَ نَبِيًّا أُمِّيًّا هُوَ مِنْ تَمَامِ كَوْنِ مَا أَتَى بِهِ مُعْجِزًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ وَمِنْ تَمَامِ بَيَانِ أَنَّ تَعْلِيمَهُ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ تَعْلِيمٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } فَغَيْرُهُ يَعْلَمُ مَا كَتَبَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ عِلْمُ النَّاسِ مَا يَكْتُبُونَهُ وَعَلَّمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ بِمَا أَوْحَاهُ إلَيْهِ . وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ هُوَ آيَةٌ وَبُرْهَانٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ . { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ

مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
فَصْلٌ :
وَقَدْ بَسَطْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ طُرُقَ النَّاسِ فِي إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَالنُّبُوَّةِ وَأَنَّ كُلَّ طَرِيقٍ تَتَضَمَّنُ مَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ فِي الْعَقْلِ كَمَا هِيَ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ . وَالطَّرِيقُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ . وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَعْلَمُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ لَكِنْ لَا يَعْلَمُ فَسَادَهَا فِي الْعَقْلِ . وَبَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَأَنَّهَا طَرِيقَةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَقَدْ بُيِّنَ فَسَادُ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ النُّظَّارِ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ أَرَادُوا

سُلُوكَ سَبِيلِ السُّنَّةِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إلَّا هَذِهِ الطَّرِيقُ . فَاسْتَدَلُّوا بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ لَكِنْ لَمْ يَجْعَلُوا خَلْقَهُ دَلِيلًا كَمَا فِي الْآيَةِ ؛ بَلْ جَعَلُوهُ مُسْتَدَلًّا عَلَيْهِ . وَظَنُّوا أَنَّهُ يُعْرَفُ بِالْبَدِيهَةِ وَالْحِسِّ حُدُوثَ أَعْرَاضِ النُّطْفَةِ . وَأَمَّا جَوَاهِرُهَا فَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَجْسَامَ كُلَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ وَأَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا هُوَ إحْدَاثُ أَعْرَاضٍ فِي تِلْكَ الْجَوَاهِرِ بِجَمْعِهَا وَتَفْرِيقِهَا لَيْسَ هُوَ إحْدَاثَ عَيْنٍ . فَصَارُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ . ثُمَّ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ قَالُوا : إنَّ لَهُ خَالِقًا . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ بِدَلِيلِ الْأَعْرَاضِ وَأَنَّ النُّطْفَةَ وَالْعَلَقَةَ وَالْمُضْغَةَ لَا تَنْفَكُّ مِنْ أَعْرَاضٍ حَادِثَةٍ . إذْ كَانَ عِنْدَهُمْ جَوَاهِرُ تُجْمَعُ تَارَةً وَتُفَرَّقُ أُخْرَى فَلَا تَخْلُو عَنْ اجْتِمَاعٍ وَافْتِرَاقٍ وَهُمَا حَادِثَانِ . فَلَمْ يَخْلُ الْإِنْسَانُ عَنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . وَهَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي سَلَكَهَا الْأَشْعَرِيُّ فِي " اللُّمَعِ فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ " وَشَرَحَهُ أَصْحَابُهُ شُرُوحًا كَثِيرَةً . وَكَذَلِكَ فِي " رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ الثَّغْرِ " . وَذَكَرَ قَوْله تَعَالَى { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ } { أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ

نَحْنُ الْخَالِقُونَ } فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ بِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الَّتِي لَا تَخْلُو مِنْ اجْتِمَاعٍ وَافْتِرَاقٍ فَلَمْ تَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهِيَ حَادِثَةٌ . وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ مُقْتَضِيَةٌ مِنْ كَوْنِ الْأَجْسَامِ كُلِّهَا كَذَلِكَ . وَتِلْكَ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي يَسْلُكُهَا الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَمَا ذَكَرَهَا الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا . وَذَكَرَهَا أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَصَاحِبُ " التَّتِمَّةِ " وَغَيْرُهُمَا . وَذَكَرَهَا أَبُو الْوَلِيدِ الباجي وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيّ وَغَيْرُهُمَا . وَذَكَرَهَا أَبُو مَنْصُورٍ الماتريدي وَالصَّابُونِيّ . وَغَيْرُهُمَا . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ فَرَضُوا ذَلِكَ فِي الْإِنْسَانِ ظَنًّا أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ . وَطَوَّلُوا فِي ذَلِكَ وَدَقَّقُوا حَتَّى اسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِ عَيْنِ الْإِنْسَانِ وَجَوَاهِرِهِ مَخْلُوقَةً لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْمَعْلُومَ بِالْحِسِّ وَبَدِيهَةِ الْعَقْلِ إنَّمَا هُوَ حُدُوثُ أَعْرَاضٍ لَا حُدُوثُ جَوَاهِرَ . وَزَعَمُوا أَنَّ كُلَّ مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ مِنْ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ وَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ فَإِنَّمَا يُحْدِثُ فِيهِ أَعْرَاضًا وَهِيَ جَمْعُ الْجَوَاهِرِ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً وَتَفْرِيقُهَا .

وَزَعَمُوا أَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُ حُدُوثَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْيَانِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَلَا بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَإِنَّمَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إذَا اسْتَدَلَّ كَمَا اسْتَدَلُّوا . فَقَالُوا : هَذِهِ أَعْرَاضٌ حَادِثَةٌ فِي جَوَاهِرَ وَتِلْكَ الْجَوَاهِرُ لَمْ تَخْلُ مِنْ الْأَعْرَاضِ لِامْتِنَاعِ خُلُوِّ الْجَوَاهِرِ مِنْ الْأَعْرَاضِ . ثُمَّ قَالُوا : وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ . وَهَذَا بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْقِسْمَةَ وَقَالُوا : إنَّ الْأَجْسَامَ لَا يَسْتَحِيلُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ . وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَأَنْوَاعِ الْعُلَمَاءِ وَأَكْثَرِ النُّظَّارِ يُخَالِفُونَ هَؤُلَاءِ فِيمَا يُثْبِتُونَ مِنْ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَيُثْبِتُونَ اسْتِحَالَةَ الْأَجْسَامِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ وَيَقُولُونَ بِأَنَّ الرَّبَّ لَا يَزَالُ يُحْدِثُ الْأَعْيَانَ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ . وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الطَّرِيقُ بَاطِلَةً عَقْلًا وَشَرْعًا وَهِيَ مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ . فَإِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ مَخْلُوقًا مُحْدَثًا كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ أَمْرَ مَعْلُومٍ بِالضَّرُورَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ . وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَدَثَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ عَيْنَهُ حَدَثَتْ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } وَقَالَ تَعَالَى { أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا }

لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَبْيَنُ وَأَوْضَحُ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا . فَكَيْفَ إذَا كَانَ بَاطِلًا . وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْحَادِثَ أَعْرَاضٌ فَقَطْ وَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ قَوْلَانِ بَاطِلَانِ لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُمَا . بَلْ يُعْلَمُ بُطْلَانُهُمَا . وَيُعْلَمُ حُدُوثُ جَوْهَرِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَادَّةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا وَهِيَ الْعَلَقُ كَمَا قَالَ { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } . وَكَوْنُهُ مُرَكَّبًا مِنْ جَوَاهِرَ فَرِدَّةٌ لَيْسَ صَحِيحًا . وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا إلَّا بِأَدِلَّةِ دَقِيقَةٍ لَا تَكُونُ هِيَ أَصْلَ الدِّينِ الَّذِي هُوَ مُقَدِّمَاتٌ أَوَّلِيَّةٌ . فَإِنَّ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةً أَوَّلِيَّةً مَعْلُومَةً بِالْبَدِيهَةِ . فَطَرِيقُهُمْ تَضْمَنُ جَحْدَ الْمَعْلُومِ وَهُوَ حُدُوثُ الْأَعْيَانِ الْحَادِثَةِ وَهَذَا مَعْلُومٌ لِلْخَلْقِ ؛ وَإِثْبَاتُ مَا لَيْسَ بِمَعْلُومِ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ ؛ وَأَنَّ الْأَحْدَاثَ لَهَا إنَّمَا هُوَ جَمْعٌ وَتَفْرِيقٌ لِلْجَوَاهِرِ وَأَنَّهُ إحْدَاثُ أَعْرَاضٍ فَقَطْ . وَلِهَذَا كَانَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِطَرِيقَةِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَبَيَّنُوا أَنَّهُمْ مُبْتَدِعُونَ فِي ذَلِكَ بَلْ

بَيَّنُوا ضَلَالَهُمْ شَرْعًا وَعَقْلًا كَمَا بُسِطَ كَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ إذْ هُوَ كَثِيرٌ . فَالْقُرْآنُ اسْتَدَلَّ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ لِلْخَلْقِ مِنْ أَنَّهُ { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } . وَهَؤُلَاءِ جَاءُوا إلَى هَذَا الْمَعْلُومِ فَزَعَمُوا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ هُوَ مَشْكُوكٌ فِيهِ . ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الدَّلِيلَ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ مَعْلُومًا . فَذَكَرُوا دَلِيلًا بَاطِلًا لَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ بَلْ يُظَنُّ أَنَّهُ دَلِيلٌ وَهُوَ شُبْهَةٌ وَلَهَا لَوَازِمُ فَاسِدَةٌ . فَأَنْكَرُوا الْمَعْلُومَ بِالْعَقْلِ ثُمَّ الشَّرْعِ وَادَّعَوْا طَرِيقًا مَعْلُومَةً بِالْعَقْلِ وَهِيَ بَاطِلَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . فَضَاهَوْا الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } . وَكَذَلِكَ فِي إثْبَاتِ النُّبُوَّاتِ وَإِمْكَانِهَا وَفِي إثْبَاتِ الْمُعَادِ وَإِمْكَانِهِ عَدَلُوا عَنْ الطَّرِيقِ الْهَادِيَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ الَّتِي هَدَى اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ إلَى طَرِيقٍ تُورِثُ الشَّكَّ وَالشُّبْهَةَ وَالْحَيْرَةَ . وَلِهَذَا قِيلَ : غَايَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُبْتَدِعِينَ الشَّكُّ وَغَايَةُ الصُّوفِيَّةِ الْمُبْتَدِعِينَ الشَّطْحُ . ثُمَّ لَهَا لَوَازِمُ بَاطِلَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فَأَلْزَمُوا لَوَازِمَهَا الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُمْ السَّفْسَطَةَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالْقَرْمَطَةِ فِي السَّمْعِيَّاتِ . وَتَكَلَّمُوا

فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَالْمُعَادِ وَدَلَائِلِ الرُّبُوبِيَّةِ بِأُمُورِ وَزَعَمُوا أَنَّهَا أَدِلَّةٌ وَهِيَ عِنْدُ التَّحْقِيقِ لَيْسَتْ بِأَدِلَّةِ . وَلِهَذَا يَطْعَنُ بَعْضُهُمْ فِي أَدِلَّةِ بَعْضٍ . وَإِذَا اسْتَدَلُّوا بِدَلِيلِ صَحِيحٍ فَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إنْ تَنَوَّعَتْ الْعِبَارَاتُ . وَلِهَذَا قَدْ يَسْتَدِلُّ بَعْضُهُمْ بِدَلِيلِ إمَّا صَحِيحٌ وَإِمَّا غَيْرُ صَحِيحٍ فَيَطْعَنُ فِيهِ آخَرُ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَذْكُرُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَيَكُونُ الَّذِي يَذْكُرُهُ دُونَ مَا ذَكَرَهُ ذَاكَ . وَهَذَا يُصِيبُهُمْ كَثِيرًا فِي الْحُدُودِ يَطْعَنُ هَؤُلَاءِ فِي حَدِّ هَؤُلَاءِ وَيَذْكُرُونَ حَدًّا مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ . وَتَكُونُ الْحُدُودُ كُلُّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهِيَ صَحِيحَةٌ إذَا أُرِيدَ بِهَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْحُدُودَ تُفِيدُ تَصْوِيرَ مَاهِيَّةِ الْمَحْدُودِ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ فَهَؤُلَاءِ غالطون ضَالُّونَ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا الْحَدُّ مُعَرَّفٌ لِلْمَحْدُودِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ لَكِنَّهُ يَفْصِلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِالْإِجْمَالِ . فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّرِيقِ الْمُفِيدِ لِلْعِلْمِ وَالْيَقِينِ كَاَلَّتِي بَيَّنَّهَا الْقُرْآنُ وَبَيَّنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ مِنْ طُرُقِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْبَاطِلَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا .

فَصْلٌ :
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَنَوْا أَصْلَ دِينِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَعْرَاضِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ اضْطَرَبُوا كَثِيرًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مِنْهُمْ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ مِنْ السَّمَاءِ إلَى أَنْ يُخَالِفَ أَيْضًا صَرِيحَ الْعَقْلِ وَيُكَابِرَ : فَيَكُونُ مِمَّنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَعْقِلُ . فَإِنَّ الْقَوْلَ لَهُ لَوَازِمُ فَإِذَا كَانَ بَاطِلًا فَقَدْ يَسْتَلْزِمُ أُمُورًا بَاطِلَةً ظَاهِرَةَ الْبُطْلَانِ . وَصَاحِبُهُ يُرِيدُ إثْبَاتَ تِلْكَ اللَّوَازِمِ فَيُظْهِرُ مُخَالَفَتَهُ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ . كَاَلَّذِينَ أَثْبَتُوا الْجَوَاهِرَ الْمُنْفَرِدَةَ وَقَالُوا إنَّ الْحَرَكَاتِ فِي نَفْسِهَا لَا تَنْقَسِمُ إلَى سَرِيعٍ وَبَطِيءٍ إذْ كَانَتْ الْحَرَكَةُ عِنْدَهُمْ مُنْقَسِمَةً كَانْقِسَامِ الْمُتَحَرِّكِ وَكَذَلِكَ الزَّمَانُ وَأَجْزَاءُ الزَّمَانِ . وَالْحَرَكَةُ وَالْمُتَحَرِّكُ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ لَا يَنْقَسِمُ فَإِذَا كَانَ الْمُتَحَرِّكَانِ سَوَاءً وَحَرَكَةُ أَحَدِهِمَا أَسْرَعَ قَالُوا : إنَّمَا ذَاكَ لِتَخَلُّلِ السَّكَنَاتِ . وَادَّعَوْا أَنَّ الرَّحَا وَالدُّولَابَ وَكُلَّ مُسْتَدِيرٍ إذَا تَحَرَّكَ فَإِنَّ زَمَانَ حَرَكَةِ الْمُحِيطِ وَالطَّوْقِ الصَّغِيرِ وَاحِدٌ مَعَ كَثْرَةِ أَجْزَاءِ الْمُحِيطِ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ حَرَكَتُهَا أَكْثَرَ فَيَكُونُ زَمَنُهَا أَكْثَرَ وَلَيْسَ هُوَ بِأَكْثَرَ ؛

فَادَّعَوْا أَنَّهَا تَنْفَكُّ ثُمَّ تَتَّصِلُ . وَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ مِنْ جِنْسِ " طَفْرَةِ النِّظَامِ " . وَكَذَلِكَ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْعَرْضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ خَالَفُوا الْحِسَّ وَمَا يَعْلَمُهُ الْعُقَلَاءُ بِضَرُورَةِ عُقُولِهِمْ . فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ لَوْنَ جَسَدِهِ الَّذِي كَانَ لَحْظَةً هُوَ هَذَا اللَّوْنُ . وَكَذَلِكَ لَوْنُ السَّمَاءِ وَالْجِبَالِ وَالْخَشَبِ وَالْوَرَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَمِمَّا أَلْجَأَهُمْ إلَى هَذَا ظَنُّهُمْ أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا بَاقِيَيْنِ لَمْ يُمْكِنْ إعْدَامُهُمَا . فَإِنَّهُمْ حَارُوا فِي إفْنَاءِ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُفْنِيَهَا كَمَا حَارُوا فِي إحْدَاثِهَا . وَحَيْرَتُهُمْ فِي الْإِفْنَاءِ أَظْهَرُ . هَذَا يَقُولُ : يَخْلُقُ فَنَاءً لَا فِي مَحَلٍّ فَيَكُونُ ضِدًّا لَهَا فَتَفْنَى بِضِدِّهَا . وَهَذَا يَقُولُ : يَقْطَعُ عَنْهَا الْأَعْرَاضَ مُطْلَقًا أَوْ الْبَقَاءَ الَّذِي لَا تَبْقَى إلَّا بِهِ فَيَكُونُ فَنَاؤُهَا لِفَوَاتِ شَرْطِهَا . وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ ظَنُّهُمْ أَوْ ظَنُّ مَنْ ظَنَّ مِنْهُمْ أَنَّ الْحَوَادِثَ لَا تَحْتَاجُ إلَى اللَّهِ إلَّا حَالَ إحْدَاثِهَا لَا حَالَ بَقَائِهَا وَقَدْ قَالُوا إنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إفْنَائِهَا . فَتَكَلَّفُوا هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْبَاطِلَةَ . وَهَؤُلَاءِ لَا يَحْتَجُّونَ عَلَى بَقَاءِ الرَّبِّ بِافْتِقَارِ الْعَالَمِ إلَيْهِ بَلْ بِأَنَّهُ قَدِيمٌ وَمَا وَجَبَ قِدَمُهُ امْتَنَعَ عَدَمُهُ . وَإِلَّا فَالْبَاقِي حَالَ بَقَائِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الرَّبِّ عِنْدَهُمْ .

وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الَّذِينَ سَأَلُوا مُوسَى : هَلْ يَنَامُ رَبُّك ؟ فَضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ الْمَثَلَ بالقارورتين لَمَّا أَرِقَ مُوسَى لَيَالِيَ ثُمَّ أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِ الْقَارُورَتَيْنِ فَلَمَّا أَمْسَكَهُمَا غَلَبَهُ النَّوْمُ فَتَكَسَّرَتَا . فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُ لَوْ أَخَذَتْهُ سِنَةٌ أَوْ نَوْمٌ لَتَدَكْدَكَ الْعَالَمُ . وَعَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ لَوْ أَخَذَتْهُ سِنَةٌ أَوْ نَوْمٌ لَمْ يَعْدَمْ الْبَاقِيَ . لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى إحْدَاثِ الْأَعْرَاضِ مُتَوَالِيَةً لِأَنَّ الْعَرْضَ عِنْدَهُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ . فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقُولُ : إذْ لَوْ أَخَذَتْهُ سِنَةٌ أَوْ نَوْمٌ لَمْ تَحْدُثْ الْأَعْرَاضُ الَّتِي تَبْقَى بِهَا الْأَجْسَامُ لَا لِأَنَّ الْأَجْسَامَ فِي نَفْسِهَا مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ فِي حَالِ بَقَائِهَا عِنْدَهُ . وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ : إنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْقَدِيمِ وَلَا بِالْبَاقِي . وَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ عِنْدَهُمْ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْبَاقِي وَلَا الْعَجُزُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَجْزًا عَنْ الْبَاقِي وَالْقَدِيمِ عِنْدَهُمْ . لِأَنَّ الْعَجْزَ عِنْدَهُمْ إنَّمَا يَكُونُ عَجْزًا عَمَّا تَصِحُّ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : عِلَّةُ الِافْتِقَارِ إلَى الْخَالِقِ مُجَرَّدُ الْحُدُوثِ . وَآخَرُونَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ يَقُولُونَ : هُوَ مُجَرَّدُ الْإِمْكَانِ وَيَدَّعُونَ أَنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى الصَّانِعِ . فَهَذَا يَدَّعِي أَنَّ الْبَاقِيَ الْمُحْدَثَ لَا يَفْتَقِرُ وَهَذَا يَدَّعِي أَنَّ الْبَاقِيَ الْقَدِيمَ يَفْتَقِرُ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ

فَاسِدٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ حَادِثٌ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ دَائِمًا . وَهُوَ يُبْقِيه وَيَعْدَمُهُ كَمَا يُنْشِئُهُ وَيُحْدِثُهُ كَمَا يُحْدِثُ الْحَوَادِثَ مِنْ التُّرَابِ وَغَيْرِهِ ثُمَّ يُفْنِيهَا وَيُحِيلُهَا إلَى التُّرَابِ وَغَيْرِهِ . وَهَؤُلَاءِ ادَّعَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ يَعْدَمُ ثُمَّ يُعَادُ . وَبَعْضُهُمْ قَالَ : هَذَا مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْخَبَرِ وَالْخَبَرُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ . وَهَذَا هُوَ الْمُعَادُ عِنْدَهُمْ . وَهَذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ عَقْلٌ . بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ يُحِيلُ الْعَالَمَ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ كَمَا يَشُقُّ السَّمَاءَ وَيَجْعَلُ الْجِبَالَ كَالْعِهْنِ وَيُكَوِّرُ الشَّمْسَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ لَمْ يُخْبِرْ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ تَعْدَمُ ثُمَّ تُعَادُ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّهَا تَعْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ وُجُودِ حَوَادِثَ لَا آخِرَ لَهَا كَمَا تَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة . وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهَؤُلَاءِ إنَّمَا قَالُوا هَذَا طَرْدًا لِقَوْلِهِمْ بِامْتِنَاعِ دَوَامِ جِنْسِ الْحَوَادِثِ وَقَالُوا : مَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ ابْتِدَاءٌ وَجَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ انْتِهَاءٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا وَبَيَّنَ فَسَادَ هَذَا الْأَصْلِ .

فَصْلٌ :
وَهُوَ سُبْحَانَهُ تَارَةً يَذْكُرُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مُجْمَلًا وَتَارَةً يَذْكُرُهُ مُفَصَّلًا كَقَوْلِهِ { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ } { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً } { فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً } { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } { فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } . ثُمَّ ذَكَرَ الْمُعَادَيْنِ الْأَصْغَرَ وَالْأَكْبَرَ فَقَالَ { ثُمَّ إنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ } { ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : لِمَ دَخَلَتْ لَامُ التَّوْكِيدِ فِي الْمَوْتِ وَهُوَ مُشَاهَدٌ وَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَعْثِ وَهُوَ غَيْبٌ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيدِ ؟ وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالْجَزَاءِ وَالْمُعَادِ وَأَوَّلُ ذَلِكَ هُوَ الْمَوْتُ . فَنَبَّهَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْمُعَادِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ . وَهُوَ إنَّمَا قَالَ " تُبْعَثُونَ " فَقَطْ وَلَمْ يَقُلْ " تُجَازُونَ " لَكِنْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْبَعْثَ لِلْجَزَاءِ . وَأَيْضًا فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى قَهْرِ الْإِنْسَانِ وَإِذْلَالِهِ يَقُولُ : بَعْدَ هَذَا

كُلِّهِ إنَّك تَمُوتُ فَتُرَدُّ إلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَمَا قَالَ { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } . وَهَذَا الرَّدُّ هُوَ بِالْمَوْتِ . فَإِنَّهُ يَصِيرُ فِي أَسْفَلَ سَافِلِينَ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَمَا قَالَ { كَلَّا إنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } وَقَالَ { إنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } . وَفِي قَوْلِهِ { أَسْفَلَ سَافِلِينَ } قَوْلَانِ . قِيلَ : الْهَرَمُ . وَقِيلَ : الْعَذَابُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ قَطْعًا . فَإِنَّهُ جَعَلَهُ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ إلَّا الْمُؤْمِنِينَ . وَالنَّاسُ نَوْعَانِ : فَالْكَافِرُ بَعْدَ الْمَوْتِ يُعَذَّبُ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ وَالْمُؤْمِنُ فِي عِلِّيِّينَ . وَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَفِيهِ نَظَرٌ . فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ سِوَى الْمُؤْمِنِينَ يَهْرَمُ فَيُرَدُّ إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ . بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْكُفَّارِ يَمُوتُ قَبْلَ الْهَرَمِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَهْرَمُ وَإِنْ كَانَ حَالُ الْمُؤْمِنِ فِي الْهَرَمِ أَحْسَنَ حَالًا مِنْ الْكَافِرِ فَكَذَلِكَ فِي الشَّبَابِ حَالُ الْمُؤْمِنِ أَحْسَنُ مِنْ حَالِ الْكَافِرِ فَجُعِلَ الرَّدُّ إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ فِي آخِرِ الْعُمُرِ وَتَخْصِيصُهُ بِالْكُفَّارِ ضَعِيفٌ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ أَيْضًا

ضَعِيفٌ . فَإِنَّ الْمُنْقَطِعَ لَا يَكُونُ فِي الْمُوجَبِ وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ فِي أَيِّ اسْتِثْنَاءٍ شَاءَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ . وَأَيْضًا فَالْمُنْقَطِعُ لَا يَكُونُ الثَّانِيَ مِنْهُ بَعْضَ الْأَوَّلِ وَالْمُؤْمِنُونَ بَعْضُ نَوْعِ الْإِنْسَانِ . وَقَدْ فَسَّرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَكْتُبُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ إذَا عَجَزَ . قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي : إذَا بَلَغَ الْمُؤْمِنُ مِنْ الْكِبَرِ مَا يَعْجِزُ عَنْ الْعَمَلِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ قَوْلُهُ { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الْمَعْنَى { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا } فِي وَقْتِ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ فَإِنَّهُمْ فِي حَالِ الْكِبَرِ غَيْرَ مَنْقُوصِينَ وَإِنْ عَجَزُوا عَنْ الطَّاعَاتِ . فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ لَوْ لَمْ يَسْلُبْهُمْ الْقُوَّةَ لَمْ يَنْقَطِعُوا عَنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ فَهُوَ يَجْرِي لَهُمْ أَجْرُ ذَلِكَ . فَيُقَالُ : وَهَذَا أَيْضًا ثَابِتٌ فِي حَالِ الشَّبَابِ إذَا عَجَزَ الشَّابُّ لِمَرَضِ أَوْ سِفْرٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } . وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ . فَيُقَالُ : هَذَا مَخْصُوصٌ بِقَارِئِ الْقُرْآنِ وَالْآيَةُ اسْتَثْنَتْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءٌ قَرَؤُوا الْقُرْآنَ أَوْ لَمْ

يَقْرَؤُوهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا } . وَأَيْضًا فَيُقَالُ : هَرَمُ الْحَيَوَانِ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالْإِنْسَانِ بَلْ غَيْرُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ إذَا كَبِرَ هَرِمَ . وَأَيْضًا فَالشَّيْخُ وَإِنْ ضَعُفَ بَدَنُهُ فَعَقْلُهُ أَقْوَى مِنْ عَقْلِ الشَّابِّ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ يَنْقُصُ بَعْضُ قُوَاهُ فَلَيْسَ هَذَا رَدًّا إلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يَصِفُ الْهَرَمَ بِالضَّعْفِ كَقَوْلِهِ { ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً } وَقَوْلِهِ { وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ } فَهُوَ يُعِيدُهُ إلَى حَالِ الضَّعْفِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطِّفْلَ لَيْسَ هُوَ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ فَالشَّيْخُ كَذَلِكَ وَأَوْلَى . وَإِنَّمَا فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ مَنْ يَكُونُ فِي سِجِّينٍ لَا فِي عِلِّيِّينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } . فَإِنَّهُ يَقْتَضِي ارْتِبَاطَ هَذَا بِمَا قَبِلَهُ لِذِكْرِهِ بِحَرْفِ الْفَاءِ . وَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ رَدُّهُ إلَى الْهَرَمِ دُونَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَعَرُّضٌ لِلدِّينِ وَالْجَزَاءِ بِخِلَافِ

مَا إذَا كَانَ الْمَذْكُورُ أَنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ يُرَدُّ إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ الْمُصْلِحِ . فَإِنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ الْخَبَرَ بِأَنَّ اللَّهَ يَدِينُ الْعِبَادُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُكْرِمُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُهِينُ الْكَافِرِينَ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ بِأَقْسَامِ عَظِيمَةٍ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ . وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي جَاءَ مِنْهَا مُحَمَّدٌ وَالْمَسِيحُ وَمُوسَى وَأَرْسَلَ اللَّهُ بِهَا هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ . وَهَذَا الْإِقْسَامُ لَا يَكُونُ عَلَى مُجَرَّدِ الْهَرَمِ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ بَلْ عَلَى الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ الَّتِي تُؤَكَّدُ بِالْأَقْسَامِ . فَإِنَّ إقْسَامَ اللَّهِ هُوَ عَلَى أَنْبَاءِ الْغَيْبِ . وَفِي نَفْسِ الْمُقْسِمِ بِهِ وَهُوَ إرْسَالُ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ تَحْقِيقٌ لِلْمُقْسِمِ عَلَيْهِ وَهُوَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الرُّسُلَ أَخْبَرُوا بِهِ . وَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَيْضًا الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا كَإِهْلَاكِ مَنْ أَهْلَكَهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ . فَإِنَّهُ رَدَّهُمْ إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ بِهَلَاكِهِمْ فِي الدُّنْيَا . وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى زَوَالِ النِّعَمِ إذَا حَصَلَتْ الْمَعَاصِي كَمَنْ رُدَّ فِي الدُّنْيَا إلَى أَسْفَلِ جَزَاءٍ عَلَى ذُنُوبِهِ .

وَقَوْلُهُ { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } أَيْ بِالْجَزَاءِ يَتَنَاوَلُ جَزَاءَهُ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ . إذْ كَانَ قَدْ أَقْسَمَ بِأَمَاكِنِ هَؤُلَاءِ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ أُرْسِلُوا بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ مُبَشِّرِينَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ مُنْذِرِينَ لِأَهْلِ الْكُفْرِ . وَقَدْ أَقْسَمَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ أَنْ جُعِلَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ إنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا كَانَ لَهُ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وَإِلَّا كَانَ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ . فَتَضَمَّنَتْ السُّورَةُ بَيَانَ مَا بُعِثَ بِهِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ الَّذِينَ أَقْسَمَ بِأَمَاكِنِهِمْ . وَالْإِقْسَامُ بِمَوَاضِعِ مِحَنِهِمْ تَعْظِيمٌ لَهُمْ . فَإِنَّ مَوْضِعَ الْإِنْسَانِ إذَا عَظُمَ لِأَجْلِهِ كَانَ هُوَ أَحَقَّ بِالتَّعْظِيمِ . وَلِهَذَا يُقَالُ فِي الْمُكَاتَبَاتِ " إلَى الْمَجْلِسِ وَالْمَقَرِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ السَّامِي وَالْعَالِي " وَيُذْكَرُ بِخُضُوعِ لَهُ وَتَعْظِيمٍ وَالْمُرَادُ صَاحِبُهُ . فَلَمَّا قَالَ { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } دُلَّ عَلَى أَنَّ مَا تَقَدَّمَ قَدْ بُيِّنَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ التَّكْذِيبَ بِالدِّينِ . وَفِي قَوْلِهِ { يُكَذِّبُكَ } قَوْلَانِ . قِيلَ : هُوَ خِطَابٌ لِلْإِنْسَانِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ وَلَمْ يَذْكُرْ البغوي غَيْرَهُ . قَالَ عِكْرِمَةُ يَقُولُ : فَمَا يُكَذِّبُك بَعْدُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي فَعَلْت بِك . وَعَنْ مُقَاتِلٍ :

فَمَا الَّذِي يَجْعَلُك مُكَذِّبًا بِالْجَزَاءِ وَزَعَمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ . وَالثَّانِي أَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ وَهَذَا أَظْهَرُ . فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا ذُكِرَ مُخْبِرًا عَنْهُ لَمْ يُخَاطَبْ . وَالرَّسُولُ هُوَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ السُّوَرِ لَهُ كَقَوْلِهِ { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } وَقَوْلِهِ { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } وَقَوْلِهِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } . وَالْإِنْسَانُ إذَا خُوطِبَ قِيلَ لَهُ { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا } . وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْإِنْسَانِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْجِنْسِ كَقَوْلِهِ { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ } وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِلْكَافِرِ خَاصَّةً الْمُكَذِّب بِالدِّينِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ { يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } أَيْ يَجْعَلُك كَاذِبًا هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ . فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ " كَذَّبَ غَيْرَهُ أَيْ نَسَبَهُ إلَى الْكَذِبِ وَجَعَلَهُ كَاذِبًا " مَشْهُورٌ وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذَا . وَحَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ تَكْذِيبَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ أَوْ التَّكْذِيبَ بِالْحَقِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا مُرَادُهُ .

لَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهَا غُمُوضٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ قَالَ { يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } . فَذَكَرَ الْمُكَذِّبَ بِالدِّينِ فَذَكَرَ الْمُكَذِّبَ وَالْمُكَذِّبُ بِهِ جَمِيعًا . وَهَذَا قَلِيلٌ جَاءَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } فَأَمَّا أَكْثَرُ الْمَوَاضِعِ فَإِنَّمَا يَذْكُرُ أَحَدَهُمَا إمَّا الْمُكَذِّبُ كَقَوْلِهِ { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } وَإِمَّا الْمُكَذِّبُ بِهِ كَقَوْلِهِ { بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ } . وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيَّنَ ذِكْرِ الْمُكَذِّبِ وَالْمُكَذَّبِ بِهِ فَقَلِيلٌ . وَمِنْ هُنَا اشْتَبَهَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْخِطَابَ فِيهَا لِلْإِنْسَانِ وَفَسَّرَ مَعْنَى قَوْلِهِ { فَمَا يُكَذِّبُكَ } فَمَا يَجْعَلُك مُكَذِّبًا . وَعِبَارَةُ آخَرِينَ : فَمَا يَجْعَلُك كَذَّابًا . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : وَقَالَ جُمْهُورٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : الْمُخَاطَبُ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ أَيْ مَا الَّذِي يَجْعَلُك كَذَّابًا بِالدِّينِ تَجْعَلُ لِلَّهِ أَنْدَادًا وَتَزْعُمُ أَنْ لَا بَعْثَ بَعْدَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ ؟ . ( قُلْت وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولَ " كَذَّبَك أَيْ جَعَلَك مُكَذَّبًا " بَلْ " كَذَّبَك : جَعَلَك كَذَّابًا " . وَإِذَا قِيلَ " جَعَلَك كَذَّابًا " أَيْ كَاذِبًا فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ كَمَا جَعَلَ الْكُفَّارُ الرُّسُلَ كَاذِبِينَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ فَكَذَّبُوهُمْ وَهَذَا يَقُولُ :

جَعَلَك كَاذِبًا بِالدِّينِ فَجَعَلَ كَذِبَهُ أَنَّهُ أَشْرَكَ وَأَنَّهُ أَنْكَرَ الْمُعَادَ وَهَذَا ضِدُّ الَّذِي يُنْكِرُ . ذَاكَ جَعَلَهُ مُكَذِّبًا بِالدِّينِ وَهَذَا جَعَلَهُ كَاذِبًا بِالدِّينِ . وَالْأَوَّلُ فَاسِدٌ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالثَّانِي فَاسِدٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى . فَإِنَّ الدِّينَ هُوَ الْجَزَاءُ الَّذِي كَذَّبَ بِهِ الْكَافِرُ . وَالْكَافِرُ كَذَّبَ بِهِ لَمْ يُكَذِّبْ هُوَ بِهِ . وَأَيْضًا فَلَا يُعْرَفُ فِي الْمُخْبِرِ أَنْ يُقَالَ " كَذَبْت بِهِ " بَلْ يُقَالُ " كَذَّبْته " . وَأَيْضًا فَالْمَعْرُوفُ فِي " كَذِبِهِ " أَيْ نَسَبَهُ إلَى الْكَذِبِ لَا أَنَّهُ جَعَلَ الْكَذِبَ فِيهِ . فَهَذَا كُلُّهُ تَكَلُّفٌ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ بَلْ الْمَعْرُوفُ خِلَافُهُ . وَهُوَ لَمْ يَقُلْ " فَمَا يُكَذِّبُك " وَلَا قَالَ " فَمَا كَذَّبَك " . وَلِهَذَا كَانَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : وَاخْتُلِفَ فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ { فَمَا يُكَذِّبُكَ } فَقَالَ قتادة وَالْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ : هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ اللَّهُ لَهُ : " فَمَا الَّذِي يُكَذِّبُك فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْجَزَاءِ وَالْبَعْثِ وَهُوَ الدِّينُ بَعْدَ هَذِهِ الْعِبْرَةِ الَّتِي يُوجِبُ النَّظَرَ فِيهَا صِحَّةُ مَا قُلْت " ؟ . قَالَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ جَمِيعَ شَرْعِهِ وَدِينِهِ .

قُلْت : وَعَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَعْنَى قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا قَوْلُ قتادة قَالَ : { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } أَيْ اسْتَيْقِنْ فَقَدْ جَاءَك الْبَيَانُ مِنْ اللَّهِ . وَهَكَذَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِ ثَابِتٍ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ المهدوي : { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } أَيْ اسْتَيْقِنْ مَعَ مَا جَاءَك مِنْ اللَّهِ أَنَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ . فَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : مَعْنَاهُ عَنْ قتادة . قَالَ : وَقِيلَ الْمَعْنَى : فَمَا يُكَذِّبُك أَيُّهَا الشَّاكُّ يَعْنِي الْكُفَّارَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ ؟ أَيُّ شَيْءٍ يَحْمِلُك عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَك مِنْ قُدْرَتِهِ ؟ قَالَ وَقَالَ الْفَرَّاءُ : فَمَنْ يُكَذِّبُك بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ؟ وَهُوَ اخْتِيَارُ الطبري . ( قُلْت : هَذَا الْقَوْلُ الْمَنْقُولُ عَنْ قتادة هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ نُفُورَ مُجَاهِدٍ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَى النَّاسُ وَمِنْهُمْ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : عَنْ الثَّوْرِيّ : عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ قُلْت لِمُجَاهِدِ : { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } عَنَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : مَعَاذَ اللَّهِ عَنَى بِهِ الْإِنْسَانَ . وَقَدْ أَحْسَنَ مُجَاهِدٌ فِي تَنْزِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَالَ لَهُ { فَمَا يُكَذِّبُكَ } أَيْ اسْتَيْقِنْ وَلَا تُكَذِّبْ . فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ " لَا تُكَذِّبْ "

لَكَانَ هَذَا مِنْ جِنْسِ أَمْرِهِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَنَهْيِهِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ . وَأَمَّا إذَا قِيلَ { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } فَهُوَ لَمْ يُكَذِّبْ بِالدِّينِ بَلْ هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ بِالدِّينِ وَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ { الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُ . { مَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } ؟ فَهَذَا الْقَوْلُ فَاسِدٌ لَفْظًا وَمَعْنًى . وَاللَّفْظُ الَّذِي رَأَيْته مَنْقُولًا بِالْإِسْنَادِ عَنْ قتادة لَيْسَ صَرِيحًا فِيهِ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ خِطَابَ الْإِنْسَانِ . فَإِنَّهُ قَالَ { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } قَالَ : " اسْتَيْقِنْ فَقَدْ جَاءَك الْبَيَانُ " . وَكُلُّ إنْسَانٍ مُخَاطَبٌ بِهَذَا . فَإِنْ كَانَ قتادة أَرَادَ هَذَا فَالْمَعْنَى صَحِيحٌ . لَكِنْ هُمْ حَكَوْا عَنْهُ أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا فَهَذَا الْمَعْنَى بَاطِلٌ . فَلَا يُقَالُ لِلرَّسُولِ " فَأَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُك مُكَذِّبًا بِالدِّينِ ؟ " وَإِنْ ارْتَأَتْ بِهِ النَّفْسُ لِأَنَّ هَذَا فِيهِ دَلَائِلُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ . وَلِهَذَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ مُجَاهِدٌ . وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُمَا . وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ الْفَرَّاءِ فَقَالَ : إنَّهُ خِطَابٌ

لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى : فَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى تَكْذِيبِك بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ عَلَى مَا وَصَفْنَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ . قَالَ : وَأَمَّا " الدِّينُ " فَهُوَ الْجَزَاءُ . ( قُلْت : وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ النَّضِرِ بْنِ عَرَبِيٍّ : { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } أَيْ بِالْحِسَابِ . وَمِنْ تَفْسِيرِ العوفي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ . قُلْت : قَالَ " بِحُكْمِ اللَّهِ " لِقَوْلِهِ { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } . وَهَوِّ سُبْحَانَهُ يَحْكُمُ بَيْنَ الْمُصَدِّقِ بِالدِّينِ وَالْمُكَذِّبِ بِهِ . وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ ( فَمَا وَصْفٌ لِلْأَشْخَاصِ . وَلَمْ يَقُلْ " فَمَنْ " لِأَنَّ " مَا " يُرَادُ بِهِ الصِّفَاتُ دُونَ الْأَعْيَانِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ كَقَوْلِهِ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } وَقَوْلِهِ { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } وَقَوْلِهِ { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } . كَأَنَّهُ قِيلَ : فَمَا الْمُكَذِّبُ بِالدِّينِ بَعْدَ هَذَا ؟ أَيْ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَنَعْتُهُ هُوَ جَاهِلٌ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَاَللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ هَذَا النَّبَإِ الْعَظِيمِ . وَقَوْلُهُ ( بَعْدُ قَدْ قِيلَ إنَّهُ " بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْ دَلَائِلَ الدِّينِ "

وَقَدْ يُقَالُ : لَمْ يَذْكُرْ إلَّا الْإِخْبَارَ بِهِ . وَأَنَّ النَّاسَ نَوْعَانِ : فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ وَنَوْعٌ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ؟ فَقَدْ ذَكَرَ الْبِشَارَةَ وَالنِّذَارَةَ وَالرُّسُلُ بُعِثُوا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ . فَمَنْ كَذَّبَك بَعْدَ هَذَا فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَنْتَ قَدْ بَلَّغْت مَا وَجَبَ عَلَيْك تَبْلِيغُهُ . وَقَوْلُهُ { فَمَا يُكَذِّبُكَ } لَيْسَ نَفْيًا لِلتَّكْذِيبِ فَقَدْ وَقَعَ . بَلْ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ تَعَجُّبٌ مِنْهُ كَمَا قَالَ { وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } وَقَدْ يُقَالُ إنَّ هَذَا تَحْقِيرٌ لِشَأْنِهِ وَتَصْغِيرٌ لِقَدْرِهِ لِجَهْلِهِ وَظُلْمِهِ كَمَا يُقَالُ " مَنْ فُلَانٌ ؟ " و " مَنْ يَقُولُ هَذَا إلَّا جَاهِلٌ ؟ " . لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ " مَا " فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِفَتِهِ وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ إذْ لَا غَرَضَ فِي عَيْنِهِ . كَأَنَّهُ قِيلَ " فَأَيُّ صِنْفٍ وَأَيُّ جَاهِلٍ يُكَذِّبُك بَعْدُ بِالدِّينِ ؟ فَإِنَّهُ مِنْ الَّذِينَ يردون إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ " وَقَوْلُهُ { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْحَاكِمُ بَيْنَ الْمُكَذِّبِ بِالدِّينِ وَالْمُؤْمِنِ بِهِ . وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .

وَالْقُرْآنُ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ مُرَادَهُ بَيَانًا أَحْكَمَهُ لَكِنَّ الِاشْتِبَاهَ يَقَعُ عَلَى مَنْ لَمْ يَرْسَخْ فِي عِلْمِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ . فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ وَغَيْرَهَا فِيهَا عَجَائِبُ لَا تَنْقَضِي . مِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } ذَكَرَ فِيهِ الرَّسُولَ الْمُكَذَّبَ وَالدِّينَ الْمُكَذَّبَ بِهِ جَمِيعًا . فَإِنَّ السُّورَةَ تَضَمَّنَتْ الْأَمْرَيْنِ . تَضَمَّنَتْ الْإِقْسَامَ بِأَمَاكِنِ الرُّسُلِ الْمُبَيِّنَةِ لِعَظَمَتِهِمْ وَمَا أُتُوا بِهِ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ الْمُوجِبَةِ لِلْإِيمَانِ . وَهُمْ قَدْ أَخْبَرُوا بِالْمَعَادِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ . وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَمَا يُقْسِمُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِع وَكَمَا أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } وَقَوْلِهِ { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } . فَلَمَّا تَضَمَّنَتْ هَذَا وَهَذَا ذَكَرَ نَوْعِيَّ التَّكْذِيبِ فَقَالَ { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا ذَنَبَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَالْقُرْآنُ مُرَادُهُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا الرَّدَّ جَزَاءٌ عَلَى ذُنُوبِهِ . وَلِهَذَا قَالَ { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

الصَّالِحَاتِ } كَمَا قَالَ { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } لَكِنَّ هُنَا ذَكَرَ الْخُسْرَ فَقَطْ فَوَصَفَ الْمُسْتَثْنِينَ بِأَنَّهُمْ تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ مَعَ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ . وَهُنَاكَ ذَكَرَ أَسْفَلَ سَافِلِينَ وَهُوَ الْعَذَابُ وَالْمُؤْمِنُ الْمُصْلِحُ لَا يُعَذَّبُ وَإِنْ كَانَ قَدْ ضَيَّعَ أُمُورًا خَسِرَهَا لَوْ حَفِظَهَا لَكَانَ رَابِحًا غَيْرَ خَاسِرٍ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا . وَتَارَةً يَذْكُرُ إحْيَاءَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وَهُوَ كَقَوْلِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } فَإِنَّ خَلْقَ الْحَيَاةِ وَلَوَازِمَهَا وَمَلْزُومَاتِهَا أَعْظَمُ وَأَدَلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ وَالْحِكْمَةِ .

فَصْلٌ :
قَوْلُهُ { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . سَمَّى وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْكَرَمِ وَبِأَنَّهُ الْأَكْرَمُ بَعْدَ إخْبَارِهِ أَنَّهُ خَلَقَ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يُنْعِمُ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ وَيُوصِلُهُمْ إلَى الْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } وَكَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } وَكَمَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } فَالْخَلْقُ يَتَضَمَّنُ الِابْتِدَاءَ وَالْكَرَمُ تَضَمَّنَ الِانْتِهَاءَ كَمَا قَالَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ { رَبِّ الْعَالَمِينَ } ثُمَّ قَالَ { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وَلَفْظُ الْكَرَمِ لَفْظٌ جَامِعٌ لِلْمَحَاسِنِ وَالْمَحَامِدِ . لَا يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدَ الْإِعْطَاءِ بَلْ الْإِعْطَاءُ مِنْ تَمَامِ مَعْنَاهُ فَإِنَّ الْإِحْسَانَ إلَى الْغَيْرِ تَمَامُ الْمَحَاسِنِ . وَالْكَرَمُ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَيَسْرَتُهُ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ فَإِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ } .

وَهُمْ سَمَّوْا الْعِنَبَ " الْكَرْمَ " لِأَنَّهُ أَنْفَعُ الْفَوَاكِهِ يُؤْكَلُ رَطْبًا وَيَابِسًا وَيُعْصَرُ فَيُتَّخَذُ مِنْهُ أَنْوَاعٌ . وَهُوَ أَعَمُّ وُجُودًا مِنْ النَّخْلِ يُوجَدُ فِي عَامَّةِ الْبِلَادِ وَالنَّخْلُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ . وَلِهَذَا قَالَ فِي رِزْقِ الْإِنْسَانِ { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِهِ } { أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا } { ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا } { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا } { وَعِنَبًا وَقَضْبًا } { وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا } { وَحَدَائِقَ غُلْبًا } { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } { مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } فَقَدَّمَ الْعِنَبَ . وَقَالَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ { إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا } { حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا } وَمَعَ هَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَسْمِيَتِهِ بِالْكَرْمِ وَقَالَ : { الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ } . فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُ وَلَا أَعْظَمُ خَيْرًا مِنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ . وَالشَّيْءُ الْحَسَنُ الْمَحْمُودُ يُوصَفُ بِالْكَرْمِ . قَالَ تَعَالَى { أَوَلَمْ يَرَوْا إلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : مِنْ كُلِّ جِنْسٍ حَسَنٍ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الزَّوْجُ النَّوْعُ وَالْكَرِيمُ الْمَحْمُودُ . وَقَالَ غَيْرُهُمَا { مِنْ كُلِّ زَوْجٍ } صِنْفٌ وَضَرْبٌ { كَرِيمٌ } حَسَنٌ مِنْ النَّبَاتِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ . يُقَالُ : " نَخْلَةٌ كَرِيمَةٌ " إذَا طَابَ حَمْلُهَا و " نَاقَةٌ كَرِيمَةٌ " إذَا كَثُرَ لَبَنُهَا .

وَعَنْ الشَّعْبِيّ : النَّاسُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ كَرِيمٌ وَمَنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ لَئِيمٌ . وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّاسَ فِيهِمْ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ يُكْرِمُهُ وَفِيهِمْ مَنْ يُهِينُهُ . قَالَ تَعَالَى { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : { وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } . وَكَرَائِمُ الْأَمْوَالِ : الَّتِي تَكْرُمُ عَلَى أَصْحَابِهَا لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا وَانْتِفَاعِهِمْ بِهَا مِنْ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا . وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ الْأَكْرَمُ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ وَالتَّعْرِيفِ لَهَا . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْأَكْرَمُ وَحْدَهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ " وَرَبُّك أَكْرَمُ " . فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ وَقَوْلُهُ { الْأَكْرَمُ } يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ . وَلَمْ يَقُلْ " الْأَكْرَمُ مِنْ كَذَا " بَلْ أَطْلَقَ الِاسْمَ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ الْأَكْرَمُ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِغَايَةِ الْكَرَمِ الَّذِي لَا شَيْءَ فَوْقَهُ وَلَا نَقْصَ فِيهِ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : ثُمَّ قَالَ لَهُ تَعَالَى { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } عَلَى

جِهَةَ التَّأْنِيسِ كَأَنَّهُ يَقُولُ : امْضِ لِمَا أُمِرْت بِهِ وَرَبُّك لَيْسَ كَهَذِهِ الْأَرْبَابِ بَلْ هُوَ الْأَكْرَمُ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ فَهُوَ يَنْصُرُك وَيُظْهِرُك . قُلْت وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : " لَا يَهْدِيَنَّ أَحَدُكُمْ لِلَّهِ مَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَهْدِيَهُ لِكَرِيمِهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ الْكُرَمَاءِ " . أَيْ هُوَ أَحَقُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِالْإِكْرَامِ إذْ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ . فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَأَنْ يُجَلَّ وَلَأَنْ يُكْرَمَ . وَالْإِجْلَالُ يَتَضَمَّنُ التَّعْظِيمَ وَالْإِكْرَامُ يَتَضَمَّنُ الْحَمْدَ وَالْمَحَبَّةَ . وَهَذَا كَمَا قِيلَ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِ : إنَّهُ رُزِقَ حَلَاوَةً وَمَهَابَةً . وَفِي حَدِيثِ هِنْدِ بْنِ أَبِي هَالَةَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ } وَهَذَا لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَصِفُونَهُ بِالْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ . وَهُمْ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ وَيَحْمَدُونَهُ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَأَنْ يُعْبَدَ دُونَ مَا سِوَاهُ وَالْعِبَادَةُ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الذُّلِّ وَغَايَةَ الْحُبِّ .

وَأَنَّ الْمُنْكِرِينَ لِكَوْنِهِ يُحِبُّ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ وَافَقَهُمْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ إنَّهُ يَفْعَلُ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا رَحْمَةٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُحْمَدُ . فَهُمْ إنَّمَا يَصِفُونَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ . وَهَذَا إنَّمَا يَقْتَضِي الْإِجْلَالَ فَقَطْ لَا يَقْتَضِي الْإِكْرَامَ وَالْمَحَبَّةَ وَالْحَمْدَ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْأَكْرَمُ . قَالَ تَعَالَى { إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } { إنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ } ثُمَّ قَالَ { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } وَقَالَ شُعَيْبٌ { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } وَفِي أَوَّلِ مَا نَزَّلَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الَّذِي خَلَقَ وَبِأَنَّهُ الْأَكْرَمُ . وَالْجَهْمِيَّة لَيْسَ عِنْدَهُمْ إلَّا كَوْنُهُ خَالِقًا مَعَ تَقْصِيرِهِمْ فِي إثْبَاتِ كَوْنِهِ خَالِقًا لَا يَصِفُونَهُ بِالْكَرَمِ وَلَا الرَّحْمَةِ وَلَا الْحِكْمَةِ . وَإِنْ أَطْلَقُوا أَلْفَاظَهَا فَلَا يَعْنُونَ بِهَا مَعْنَاهَا بَلْ يُطْلِقُونَهَا لِأَجْلِ مَجِيئِهَا فِي الْقُرْآنِ ثُمَّ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ . فَتَارَةً يَقُولُونَ : الْحِكْمَةُ هِيَ الْقُدْرَةُ وَتَارَةً يَقُولُونَ : هِيَ الْمَشِيئَةُ وَتَارَةً يَقُولُونَ : هِيَ الْعِلْمُ . وَأَنَّ الْحِكْمَةَ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ ذَلِكَ وَاسْتَلْزَمَتْهُ فَهِيَ أَمْرٌ زَائِدٌ

عَلَى ذَلِكَ . فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ قَادِرًا أَوْ مُرِيدًا كَانَ حَكِيمًا ؛ وَلَا كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ يَكُونُ حَكِيمًا حَتَّى يَكُونَ عَامِلًا بِعِلْمِهِ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ : الْحِكْمَةُ هِيَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَهِيَ أَيْضًا : الْقَوْلُ الصَّوَابُ . فَتَتَنَاوَلُ الْقَوْلَ السَّدِيدَ وَالْعَمَلَ الْمُسْتَقِيمَ الصَّالِحَ . وَالرَّبُّ تَعَالَى أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَحْكَمُ الْحُكَمَاءِ . وَالْإِحْكَامُ الَّذِي فِي مَخْلُوقَاتِهِ دَلِيلٌ عَلَى عِلْمِهِ . وَهُمْ مَعَ سَائِرِ الطَّوَائِفِ يَسْتَدِلُّونَ بِالْإِحْكَامِ عَلَى الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ إذَا كَانَ الْفَاعِلُ حَكِيمًا يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ . وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ بِمَشِيئَةِ تَخُصُّ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا سَبَبٍ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ . وَهَذَا مُنَاقِضٌ لِلْحِكْمَةِ بَلْ هَذَا سَفَهٌ . وَهُوَ قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ وَأَنَّهُ

لَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلًا وَأَنَّ ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا . وَقَالَ { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } وَقَالَ { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } أَيْ مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى . وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ عَلَى مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ عَلَى الرَّبِّ . وَالْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةُ تُجَوِّزُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا تُنَزِّهُهُ عَنْ فِعْلٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَفْعَالِ . وَلَا تَنْعَتُهُ بِلَوَازِمِ كَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا هُوَ اللَّائِقُ بِذَلِكَ وَلَا يَفْعَلُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ . بَلْ تُجَوِّزُ كُلَّ مَقْدُورٍ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَإِنَّمَا يَجْزِمُ بِأَحَدِهِمَا لِأَجْلِ خَبَرٍ سَمْعِيٍّ أَوْ عَادَةٍ مُطَّرِدَةٍ مَعَ تُنَاقِضُهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَبَرِ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَعَادَاتِ الرَّبِّ . كَمَا بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى إرْسَالِ الرُّسُلِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَعَلَى الْمَعَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ الصَّادِرَةِ عَنْ مَشِيئَتِهِ . فَإِنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ حِكْمَتِهِ وَعَنْ رَحْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِهَذَا وَهَذَا لَا يَشَاءُ إلَّا مَشِيئَةً مُتَضَمِّنَةً لِلْحِكْمَةِ وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا } .

فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ الْأَكْرَمُ . وَالْإِرَادَةُ الَّتِي يُثْبِتُونَهَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا سَمْعٌ وَلَا عَقْلٌ . فَإِنَّهُ لَا تُعْرَفُ إرَادَةٌ تُرَجِّحُ مُرَادًا عَلَى مُرَادٍ بِلَا سَبَبٍ يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ " إنَّ الْقَادِرَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ " فَهُوَ مُكَابِرٌ . وَتَمْثِيلُهُمْ ذَلِكَ بِالْجَائِعِ إذَا أَخَذَ أَحَدَ الرَّغِيفَيْنِ وَالْهَارِبِ إذَا سَلَكَ أَحَدَ الطَّرِيقَيْنِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ . فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ إلَّا مَعَ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا إمَّا لِكَوْنِهِ أَيْسَرَ فِي الْقُدْرَةِ وَإِمَّا لِأَنَّهُ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِهِ وَتَصَوَّرَهُ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ أَنْفَعُ . فَلَا بُدَّ مِنْ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا بِنَوْعِ مَا إمَّا مِنْ جِهَةِ الْقُدْرَةِ وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ التَّصَوُّرِ وَالشُّعُورِ . وَحِينَئِذٍ يُرَجِّحُ إرَادَتَهُ وَالْآخَرُ لَمْ يُرِدْهُ . فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ إرَادَتَهُ رَجَّحَتْ أَحَدَهُمَا بِلَا مُرَجِّحٍ ؟ أَوْ أَنَّهُ رَجَّحَ إرَادَةَ هَذَا عَلَى إرَادَةِ ذَاكَ بِلَا مُرَجِّحٍ ؟ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ يُعْرَفُ امْتِنَاعُهُ مِنْ تَصَوُّرِهِ حَقَّ التَّصَوُّرِ . وَلَكِنْ لَمَّا تَكَلَّمُوا فِي مَبْدَأِ الْخَلْقِ بِكَلَامِ ابْتَدَعُوهُ خَالَفُوا بِهِ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ احْتَاجُوا إلَى هَذِهِ الْمُكَابَرَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَبِذَلِكَ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى . فَلَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِلْفَلَاسِفَةِ كَسَرُوا .

وَمَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْل أَنَّ الْقَادِرَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ وَلَا فَاعِلًا ثُمَّ صَارَ مُرِيدًا فَاعِلًا فَلَا بُدَّ مِنْ حُدُوثِ أَمْرٍ اقْتَضَى ذَلِكَ . وَالْكَلَامُ هُنَا فِي مَقَامَيْنِ . أَحَدِهِمَا فِي جِنْسِ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ هَلْ صَارَ فَاعِلًا مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ أَوْ مَا زَالَ فَاعِلًا مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَسَائِلِ الْكَلَامِ وَالْأَفْعَالِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ . وَالثَّانِي إرَادَةُ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ وَفِعْلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَوْلِهِ { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا } وَقَوْلِهِ { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } وَقَوْلِهِ { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ } وَقَوْلِهِ { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } وَقَوْلِهِ { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } . وَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلِلنَّاسِ فِيهَا أَقْوَالٌ . قِيلَ : الْإِرَادَةُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ تَعَلُّقُهَا بِالْمُرَادِ

وَنِسْبَتُهَا إلَى الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ وَلَكِنْ مِنْ خَوَاصِّ الْإِرَادَةِ أَنَّهَا تُخَصَّصُ بِلَا مُخَصِّصٍ . فَهَذَا قَوْلُ ابْنِ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ . وَمَنْ تَابَعَهُمَا . وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ يَقُولُ : إنَّ هَذَا فَسَادُهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ حَتَّى قَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ : لَيْسَ فِي الْعُقَلَاءِ مَنْ قَالَ بِهَذَا . وَمَا عُلِمَ أَنَّهُ قَوْلُ طَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ أَهْل النَّظَرِ وَالْكَلَامِ . وَبُطْلَانُهُ مِنْ جِهَاتٍ : مِنْ جِهَةِ جَعْلِ إرَادَةِ هَذَا غَيْرِ إرَادَةِ ذَاكَ وَمِنْ جِهَةٍ أَنَّهُ جَعَلَ الْإِرَادَةَ تُخَصَّصُ لِذَاتِهَا . وَمِنْ جِهَةٍ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عِنْدَ وُجُودِ الْحَوَادِثِ شَيْئًا حَدَثَ حَتَّى تَخَصَّصَ أَوْ لَا تَخَصَّصَ . بَلْ تَجَدَّدَتْ نِسْبَةٌ عَدَمِيَّةٌ لَيْسَتْ وُجُودًا وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءِ فَلَمْ يَتَجَدَّدْ شَيْءٌ . فَصَارَتْ الْحَوَادِثُ تَحْدُثُ وَتَتَخَصَّصُ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَلَا مُخَصِّصٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِإِرَادَةِ وَاحِدَةٍ قَدِيمَةٍ مِثْلُ هَؤُلَاءِ لَكِنْ يَقُولُ : تَحْدُثُ عِنْدَ تَجَدُّدِ الْأَفْعَالِ إرَادَاتٍ فِي ذَاتِهِ بِتِلْكَ الْمَشِيئَةِ الْقَدِيمَةِ كَمَا تَقُولُهُ الكَرَّامِيَة وَغَيْرُهُمْ . وَهَؤُلَاءِ أَقْرَبُ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتُوا إرَادَاتِ الْأَفْعَالِ . وَلَكِنْ يَلْزَمُهُمْ مَا لَزِمَ أُولَئِكَ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتُوا حَوَادِثَ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَتَخْصِيصَاتٍ بِلَا مُخَصِّصٍ وَجَعَلُوا تِلْكَ الْإِرَادَةَ وَاحِدَةً تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْإِرَادَاتِ الْحَادِثَةِ

وَجَعَلُوهَا أَيْضًا تُخَصَّصُ لِذَاتِهَا وَلَمْ يَجْعَلُوا عِنْدَ وُجُودِ الْإِرَادَاتِ الْحَادِثَةِ شَيْئًا حَدَثَ حَتَّى تُخَصِّصَ تِلْكَ الْإِرَادَاتُ الْحُدُوثَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَنْفُونَ قِيَامَ الْإِرَادَةِ بِهِ . ثُمَّ إمَّا أَنْ يَقُولُوا بِنَفْيِ الْإِرَادَةِ أَوْ يُفَسِّرُونَهَا بِنَفْسِ الْأَمْرِ وَالْفِعْلِ أَوْ يَقُولُوا بِحُدُوثِ إرَادَةٍ لَا فِي مَحَلٍّ كَقَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ . وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَدْ عُلِمَ أَيْضًا فَسَادُهَا . وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا بِإِرَادَاتِ مُتَعَاقِبَةٍ . فَنَوْعُ الْإِرَادَةِ قَدِيمٌ وَأَمَّا إرَادَةُ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّمَا يُرِيدُهُ فِي وَقْتِهِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُقَدِّرُ الْأَشْيَاءَ وَيَكْتُبُهَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْلُقُهَا . فَهُوَ إذَا قَدَّرَهَا عَلِمَ مَا سَيَفْعَلُهُ وَأَرَادَ فِعْلَهُ فِي الْوَقْتِ الْمُسْتَقْبَلِ لَكِنْ لَمْ يُرِدْ فِعْلَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَإِذَا جَاءَ وَقْتُهُ أَرَادَ فِعْلَهُ فَالْأَوَّلُ عَزْمٌ وَالثَّانِي قَصْدٌ . وَهَلْ يَجُوزُ وَصْفُهُ بِالْعَزْمِ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ كَقَوْلِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى ؛ وَالثَّانِي الْجَوَازُ وَهُوَ أَصَحُّ . فَقَدْ قَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } بِالضَّمِّ . وَفِي الْحَدِيثِ

الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ : { ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لِي } . وَكَذَلِكَ فِي خُطْبَةِ مُسْلِمٍ : { فَعَزَمَ لِي } . وَسَوَاءٌ سُمِّيَ " عَزْمًا " أَوْ لَمْ يُسَمَّ فَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا قَدَّرَهَا عَلِمَ أَنَّهُ سَيَفْعَلُهَا فِي وَقْتِهَا وَأَرَادَ أَنْ يَفْعَلَهَا فِي وَقْتِهَا . فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ فَلَا بُدَّ مِنْ إرَادَةِ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ وَنَفْسِ الْفِعْلِ وَلَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِ بِمَا يَفْعَلُهُ . ثُمَّ الْكَلَامُ فِي عِلْمِهِ بِمَا يَفْعَلُهُ هَلْ هُوَ الْعِلْمُ الْمُتَقَدِّمُ بِمَا سَيَفْعَلُهُ وَعِلْمُهُ بِأَنَّ قَدْ فَعَلَهُ هَلْ هُوَ الْأَوَّلُ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ . وَالْعَقْلُ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْرٌ زَائِدٌ كَمَا قَالَ { لِنَعْلَمَ } فِي بِضْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إلَّا لِنَرَى . وَحِينَئِذٍ فَإِرَادَةُ الْمُعَيَّنِ تَتَرَجَّحُ لِعِلْمِهِ بِمَا فِي الْمُعَيَّنِ مِنْ الْمَعْنَى الْمُرَجِّحِ لِإِرَادَتِهِ . فَالْإِرَادَةُ تَتْبَعُ الْعِلْمَ . وَكَوْنُ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ مُتَّصِفًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُرَجَّحَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْعِلْمِ وَالتَّصَوُّرِ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ . وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ قَالَ " الْمَعْدُومُ شَيْءٌ " حَيْثُ أَثْبَتُوا ذَلِكَ الْمُرَادَ فِي الْخَارِجِ . وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْهُ شَيْئًا فِي الْعِلْمِ أَوْ كَانَ لَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا إرَادَةٌ

وَاحِدَةٌ وَعِلْمٌ وَاحِدٌ لَيْسَ لِلْمَعْلُومَاتِ وَالْمُرَادَاتِ صُورَةٌ عِلْمِيَّةٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ . فَهَؤُلَاءِ نَفَوْا كَوْنَهُ شَيْئًا فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَأُولَئِكَ أَثْبَتُوا كَوْنَهُ شَيْئًا فِي الْخَارِجِ . وَتِلْكَ الصُّورَةُ الْعِلْمِيَّةُ الْإِرَادِيَّةُ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ . وَهِيَ حَادِثَةٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَمَا يُحْدِثُ الْحَوَادِثَ الْمُنْفَصِلَةَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . فَيُقَدِّرُ مَا يَفْعَلُهُ ثُمَّ يَفْعَلُهُ . فَتَخْصِيصُهَا بِصِفَةِ دُونَ صِفَةٍ وَقَدَرٍ دُونَ قَدَرٍ هُوَ لِلْأُمُورِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ . فَلَا يُرِيدُ إلَّا مَا تَقْتَضِي نَفْسُهُ إرَادَتَهُ بِمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ وَلَا يُرَجِّحُ مُرَادًا عَلَى مُرَادٍ إلَّا لِذَلِكَ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَجِّحَ شَيْئًا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ قَادِرًا . فَإِنَّهُ كَانَ قَادِرًا قَبْلَ إرَادَتِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى غَيْرِهِ . فَتَخْصِيصُ هَذَا بِالْإِرَادَةِ لَا يَكُونُ بِالْقُدْرَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْإِرَادَةُ تُخَصِّصُ مِثْلًا عَلَى مِثْلٍ بِلَا مُخَصِّصٍ . بَلْ إنَّمَا يُرِيدُ الْمُرِيدُ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لِمَعْنَى فِي الْمُرِيدِ وَالْمُرَادِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرِيدُ إلَى ذَلِكَ أَمْيَلَ وَأَنْ يَكُونَ فِي الْمُرَادِ مَا أَوْجَبَ رُجْحَانَ ذَلِكَ الْمَيْلِ .

وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ تُثْبِتُ الْقَدَرَ وَتَقْدِيرَ الْأُمُورِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهَا وَأَنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ يُثْبِتُ الْعِلْمَ وَالْإِرَادَةَ لِكُلِّ مَا سَيَكُونُ وَيُزِيلُ إشْكَالَاتٍ كَثِيرَةً ضَلَّ بِسَبَبِهَا طَوَائِفُ فِي هَذَا الْمَكَانِ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ . فَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ كَمَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ قَالَ : { الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ . وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ . وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ } وَقَدْ تَبَرَّأَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ . وَمَعَ هَذَا فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ لَا تُثْبِتُ الْقَدَرَ إلَّا عِلْمًا أَزَلِيًّا وَإِرَادَةً أَزَلِيَّةً فَقَطْ . وَإِذَا أَثْبَتُوا الْكِتَابَةَ قَالُوا إنَّهَا كِتَابَةٌ لِبَعْضِ ذَاكَ . وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ إنَّهُ قَدَّرَهَا حِينَئِذٍ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } فَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَهُوَ كَقَوْلِهِ { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } وَقَوْلِهِ { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَوْلِهِ { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى } وَقَوْلِهِ { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } { إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } وَقَوْلِهِ { لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . وَالْكِتَابُ فِي نَفْسِهِ لَا يَكُونُ أَزَلِيًّا . وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجَرْمِي عَنْ أَبِي قِلاَبَة عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِي عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا . وَكَثِيرٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالْكَلَامِ يُوجَدُ فِيهَا الْأَقْوَالُ الْمُبْتَدَعَةُ دُونَ الْقَوْلِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَالشَّهْرَستَانِي مَعَ تَصْنِيفِهِ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ يَذْكُرُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ

وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهِمَا أَقْوَالًا لَيْسَ فِيهَا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَقْرَبَ .
وَقَبِلَهُ أَبُو الْحَسَنِ كِتَابُهُ فِي اخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ مِنْ أَجْمَعِ الْكُتُبِ وَقَدْ اسْتَقْصَى فِيهِ أَقَاوِيلَ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ ذَكَرَهُ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفَصَّلٍ . وَتَصَرَّفَ فِي بَعْضِهِ فَذَكَرَهُ بِمَا اعْتَقَدَهُ هُوَ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنْقُولًا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ .
وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ إلَيْهِ قَوْلُ ابْنُ كِلَابٍ . فَأَمَّا ابْنُ كِلَابٍ فَقَوْلُهُ مَشُوبٌ بِقَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ فِي الصِّفَاتِ . وَأَمَّا فِي الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ فَقَوْلُهُ قَوْلُ جَهْمٍ . وَأَمَّا مَا حَكَاهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَقَالَ " وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ " فَهُوَ أَقْرَبُ مَا ذَكَرَهُ . وَبَعْضُهُ ذَكَرَهُ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِهِ وَبَعْضُهُ تَصَرَّفَ فِيهِ وَخَلَطَهُ بِمَا هُوَ مِنْ أَقْوَالِ جَهْمٍ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ إذْ كَانَ هُوَ نَفْسُهُ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ تِلْكَ الْأُصُولِ . وَهُوَ يُحِبُّ الِانْتِصَارَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَمُوَافَقَتَهُمْ فَأَرَادَ أَنْ

يَجْمَعُ بَيْنَ مَا رَآهُ مِنْ رَأْيِ أُولَئِكَ وَبَيْنَ مَا نَقَلَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ . وَلِهَذَا يَقُولُ فِيهِ طَائِفَةٌ إنَّهُ خَرَجَ مِنْ التَّصْرِيحِ إلَى التَّمْوِيهِ . كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ : إنَّهُمْ الْجَهْمِيَّة الْإِنَاثُ وَأُولَئِكَ الْجَهْمِيَّة الذُّكُورُ . وَأَتْبَاعُهُ الَّذِينَ عَرَفُوا رَأْيَهُ فِي تِلْكَ الْأُصُولِ وَوَافَقُوهُ أَظْهَرُوا مِنْ مُخَالَفَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مَا هُوَ لَازِمٌ لِقَوْلِهِمْ وَلَمْ يَهَابُوا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَيُعَظِّمُوا وَيَعْتَقِدُوا صِحَّةَ مَذَاهِبِهِمْ كَمَا كَانَ هُوَ يَرَى ذَلِكَ . وَالطَّائِفَتَانِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ إنَّهُ تَنَاقُضٌ لَكِنَّ السُّنِّيَّ يُحْمَدُ مُوَافَقَتُهُ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَيُذَمُّ مُوَافَقَتُهُ للجهمية والجهمي يُذَمُّ مُوَافَقَتُهُ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَيُحْمَدُ مُوَافَقَتُهُ للجهمية . وَلِهَذَا كَانَ مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِهِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَنَحْوِهِ أَظْهَرَ تَجَهُّمًا وَتَعْطِيلًا مِنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ . وَهِيَ مَوَاضِعُ دَقِيقَةٌ يَغْفِرُ اللَّهُ لِمَنْ أَخْطَأَ فِيهَا بَعْدَ اجْتِهَادِهِ . لَكِنَّ الصَّوَابَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ فَلَا يَكُونُ الْحَقُّ فِي خِلَافِ ذَلِكَ قَطُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَعَلَيْهَا تَدُلُّ

الْمَعْقُولَاتُ الصَّرِيحَةُ هُوَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مِثْلُ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا يَقُومُ بِذَاتِهِ وَكَذَلِكَ يَقُومُ بِذَاتِهِ فِعْلُهُ الَّذِي يَفْعَلُهُ بِمَشِيئَتِهِ . فَإِثْبَاتُ هَذَا الْأَصْلِ يَمْنَعُ ضُلَّالَ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِهِ وَالْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ مَمْلُوءٌ وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مَمْلُوءٌ مِنْ إثْبَاتِهِ . فَالْحَقُّ الْمَحْضُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَكُونُ الْحَقُّ فِي خِلَافِ ذَلِكَ . لَكِنَّ الْهُدَى التَّامَّ يَحْصُلُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَتَصَوُّرِهِ . فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ تَارَةً يَنْشَأُ مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ وَنَقْصِ الْعِلْمِ وَتَارَةً مِنْ سُوءِ الْقَصْدِ . وَالنَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ فِي تَعَدُّدٍ ذَلِكَ وَإِيجَادِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ إرَادَةِ الْأُمُورِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ . الْعِلْمُ بِهَذَا هُوَ الْعِلْمُ بِهَذَا وَلَا إرَادَةُ هَذَا هُوَ إرَادَةُ هَذَا . فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ وَعِنَادٌ . وَلَيْسَ تَمْيِيزُ الْعِلْمِ عَنْ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ عَنْ الْإِرَادَةِ تَمْيِيزًا مَعَ انْفِصَالِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ . بَلْ نَفْسُ الصِّفَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ كَالْعِلْمِ

وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ وَاحِدٍ لَمْ يَنْفَصِلْ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بَلْ مَحَلُّ هَذَا هُوَ مَحَلُّ هَذَا كَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ الْقَائِمَةِ بِالْأُتْرُجَّةِ الْوَاحِدَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ الْفَاكِهَةِ وَغَيْرِهَا . فَإِذَا قِيلَ " هِيَ عُلُومٌ وَإِرَادَاتٌ " لَمْ يَنْفَصِلْ هَذَا عَنْ هَذَا بِفَصْلِ حِسِّيٍّ بَلْ هُوَ نَوْعٌ وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالنَّفْسِ . وَإِذَا عَلِمَ هَذَا بَعْدَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ فَقَدْ زَادَ هَذَا النَّوْعُ وَكَثُرَ وَإِنْ شِئْت قُلْت : عَظُمَ . فَلَا يَزِيدُ فِيهِ زِيَادَةَ الْكَمِّيَّةِ عَنْ زِيَادَةِ الْكَيْفِيَّةِ . بَلْ يُقَالُ " عِلْمٌ كَثِيرٌ وَعِلْمٌ عَظِيمٌ " بِأَنْ تَكُونَ الْعَظَمَةُ تَرْجِعُ إلَى قُوَّتِهِ وَشَرَفِ مَعْلُومِهِ . وَنَحْوِ ذَلِكَ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بْنِ كَعْبٍ : { أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَك أَعْظَمُ ؟ قَالَ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } . فَقَالَ : ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } وَكَتَبَ سَلْمَانُ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ : لَيْسَ الْخَيْرُ أَنْ يَكْثُرَ مَالُك وَوَلَدُك وَلَكِنَّ الْخَيْرَ أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُك وَيَعْظُمَ حِلْمُك . وَانْضِمَامُ الْعِلْمِ إلَى الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ إلَى الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ إلَى الْقُدْرَةِ هُوَ شَبِيهٌ بِانْضِمَامِ الْأَجْسَامِ الْمُتَّصِلَةِ كَالْمَاءِ إذَا زِيدَ فِيهِ مَاءٌ فَإِنَّهُ يَكْثُرُ قَدْرُهُ . لَكِنْ هُوَ كَمٌّ مُتَّصِلٌ لَا مُنْفَصِلٍ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ .

فَإِذَا قِيلَ " تَعَدَّدَتْ الْعُلُومُ وَالْإِرَادَاتُ " فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ كَثْرَةِ قَدْرِهَا وَأَنَّهَا أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِمَّا كَانَتْ لَا أَنَّ هُنَاكَ مَعْدُودَاتٍ مُنْفَصِلَةٍ كَمَا قَدْ يَفْهَمُ بَعْضُ النَّاسِ . وَلِهَذَا كَانَ الْعِلْمُ اسْمَ جِنْسٍ . فَلَا يَكَادُ يَجْمَعُ فِي الْقُرْآنِ بَلْ يُقَالُ { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } فَيَذْكُرُ الْجِنْسَ . وَكَذَلِكَ الْمَاءُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ مِيَاهٍ بَلْ إنَّمَا يَذْكُرُ جِنْسَ الْمَاءِ : { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَالْعِلْمُ يُشَبَّهُ بِالْمَاءِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا . . . الْحَدِيثَ } . وَقَدْ قَالَ : { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } إلَى قَوْلِهِ { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } . وما خَلَقَهُ الرَّبُّ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَرَاهُ وَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ عِبَادِهِ . وَالْمَعْدُومُ لَا يَرَى بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ . والسالمية كَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ لَمْ يَقُولُوا : إنَّهُ يُرَى قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا قَالُوا : يَرَاهُ الرَّبُّ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ مَعْدُومًا فِي ذَاتِ الشَّيْءِ الْمَعْدُومِ . فَهُمْ يَجْعَلُونَ الرُّؤْيَةَ لِمَا يَقُومُ بِنَفْسِ الْعَالَمِ مِنْ صُورَتِهِ الْعِلْمِيَّةِ

مَا هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ . وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا غَلِطُوا فِي بَعْضِ مَا قَالُوهُ فَلَمْ يَقُولُوا : إنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ الَّذِي لَيْسَ بِشَيْءِ يُرَى فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ . وَفِي الْحَقِيقَةِ إذَا رُئِيَ شَيْءٌ فَإِنَّمَا رُئِيَ مِثَالُهُ الْعِلْمِيُّ لَا عَيْنُهُ . وَأَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني لَمَّا ذُكِرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ عَنْهَا . فَقَبْلَ أَنْ يُوجَدَ لَمْ يَكُنْ يُرَى وَبَعْدَ أَنْ يُعْدَمَ لَا يُرَى وَإِنَّمَا يُرَى حَالَ وُجُودِهِ . وَهَذَا هُوَ الْكَمَالُ فِي الرُّؤْيَةِ . وَكَذَلِكَ سَمْعُ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ هُوَ عِنْدَ وُجُودِهَا لَا بَعْدَ فَنَائِهَا . وَلَا قَبْلَ حُدُوثِهَا . قَالَ تَعَالَى { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } وَقَالَ { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } .
فَصْلٌ :
الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُدًى وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ . فَإِنَّهُ كَمَا أَرْسَلَهُ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ فَإِنَّهُ أَرْسَلَهُ بِالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ بِلَا عِوَضٍ وَبِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ

وَاحْتِمَالِهِ . فَبَعَثَهُ بِالْعِلْمِ وَالْكَرَمِ وَالْحِلْمِ عَلِيمٌ هَادٍ كَرِيمٌ مُحْسِنٌ حَلِيمٌ صَفُوحٌ . قَالَ تَعَالَى { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } . وَقَالَ تَعَالَى { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } . وَقَالَ تَعَالَى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَقَالَ { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } . وَقَالَ { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى اللَّهِ } . وَقَالَ { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } . فَهُوَ يَعْلَمُ وَيَهْدِي وَيُصْلِحُ الْقُلُوبَ وَيَدُلُّهَا عَلَى صَلَاحِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِلَا عِوَضٍ . وَهَذَا نَعْتُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ كُلٌّ يَقُولُ { مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } . وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ يس { يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } { اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ } . وَهَذِهِ سَبِيلُ مَنْ اتَّبَعَهُ كَمَا قَالَ { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } .

وَأَمَّا الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ فَقَدْ قَالَ عَنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ مَعَ بِدْعَةٍ { إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } . فَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ وَمَنَعُوهُمْ سَبِيلَ اللَّهِ ضِدَّ الرَّسُولِ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَالسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ ؟ فَهُمْ أوكل لِأَمْوَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ وأصد عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ { إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ } فَلَيْسَ كُلُّهُمْ كَذَلِكَ ؛ بَلْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } . وَقَدْ قَالَ فِي وَصْفِ الرَّسُولِ { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } .
وَفِيهَا قِرَاءَتَانِ ، فَمَنْ قَرَأَ ( بِظَنِينِ ) أَيْ مَا هُوَ بِمُتَّهَمِ عَلَى الْغَيْبِ بَلْ هُوَ صَادِقٌ أَمِينٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ . وَمَنْ قَرَأَ ( بِضَنِينٍ أَيْ مَا هُوَ بِبَخِيلِ لَا يَبْذُلُهُ إلَّا بِعِوَضِ كَاَلَّذِينَ يَطْلُبُونَ الْعِوَضَ عَلَى مَا يَعْلَمُونَهُ . فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ فَلَا يَكْذِبُ وَلَا يَكْتُمُ . وَقَدْ وَصَفَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا وَأَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا .

وَمَعَ هَذَا وَهَذَا قَدْ أَمَدَّهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ . وَجَعَلَهُ كَذَلِكَ يُعْطِيهِمْ مَا هُمْ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ غَايَةَ الْحَاجَةِ بِلَا عِوَضٍ وَهُمْ يُكْرِهُونَهُ وَيُؤْذُونَهُ عَلَيْهِ . وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ الَّذِي يَبْذُلُ الدَّوَاءَ النَّافِعَ لِلْمَرْضَى وَيَسْقِيهِمْ إيَّاهُ بِلَا عِوَضٍ وَهُمْ يُؤْذُونَهُ كَمَا يَصْنَعُ الْأَبُ الشَّفِيقُ . وَهُوَ أَبُو الْمُؤْمِنِينَ . وَكَذَلِكَ نَعَتَ أُمَّتَهُ بِقَوْلِهِ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ حَتَّى تُدْخِلُوهُمْ الْجَنَّةَ . فَيُجَاهِدُونَ يَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِمَنْفَعَةِ الْخَلْقِ وَصَلَاحِهِمْ وَهُمْ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ كَمَا قَالَ أَحْمَد فِي خُطْبَتِهِ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَتْرَةً مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى . فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لإبليس قَدْ أَحْيَوْهُ وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ فَمَا أَحْسَنَ أَثَرِهِمْ عَلَى النَّاسِ وَأَقْبَحَ أَثَرِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ " إلَى آخِرِ كَلَامِهِ . فَهَذَا هَذَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَجْزِي النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ

فَهُوَ يُنْعِمُ عَلَى الرَّسُولِ بِإِنْعَامِهِ جَزَاءً عَلَى إحْسَانِهِمْ وَالْجَمِيعُ مِنْهُ . فَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَلَهُ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا . وَهُوَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ . وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا : وَقَدْ يُحِبُّ الشَّجَاعَةَ وَلَوْ عَلَى قَتْلِ الْحَيَّاتِ وَيُحِبُّ السَّمَاحَةَ وَلَوْ بِكَفِّ مِنْ تَمَرَاتٍ . وَالْقُرْآنُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَيُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَهَذَا هُوَ الْكَرَمُ وَالشَّجَاعَةُ .
فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ { الْأَكْرَمُ } يَقْتَضِي اتِّصَافَهُ بِالْكَرَمِ فِي نَفْسِهِ وَأَنَّهُ الْأَكْرَمُ وَأَنَّهُ مُحْسِنٌ إلَى عِبَادِهِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ لِمَحَاسِنِهِ وَإِحْسَانِهِ . وَقَوْلُهُ { ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } . فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . قِيلَ : أَهْلٌ أَنْ يُجِلَّ وَأَنْ يُكْرِمَ . كَمَا يُقَالُ إنَّهُ { أَهْلُ التَّقْوَى } أَيْ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ

يُتَّقَى . وَقِيلَ : أَهْلٌ أَنْ يُجَلَّ فِي نَفْسِهِ وَأَنْ يُكْرِمَ أَهْلَ وِلَايَتِهِ وَطَاعَتِهِ . وَقِيلَ : أَهْلٌ أَنْ يُجَلَّ فِي نَفْسِهِ وَأَهْلٌ أَنْ يُكْرِمَ . ذَكَرَ الخطابي الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كَلَامَهُ فَقَالَ : قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الخطابي : الْجَلَالُ مَصْدَرُ الْجَلِيلِ يُقَالُ : جَلِيلٌ بَيْنَ الْجَلَالَةِ وَالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ مَصْدَرُ أَكْرَمَ يُكْرِمُ إكْرَامًا . وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُكْرِمُ أَهْلَ وِلَايَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَأَنَّ اللَّهَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجَلَّ وَيُكْرَمَ وَلَا يُجْحَدَ وَلَا يُكْفَرَ بِهِ قَالَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : يُكْرِمُ أَهْلَ وِلَايَتِهِ وَيَرْفَعُ دَرَجَاتِهِمْ . ( قُلْت : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ البغوي فَقَالَ : { ذُو الْجَلَالِ } الْعَظْمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْإِكْرَامِ يُكْرِمُ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ بِلُطْفِهِ مَعَ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ . قَالَ الخطابي : وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْجَلَالُ مُضَافًا إلَى اللَّهِ بِمَعْنَى الصِّفَةِ لَهُ وَالْآخَرُ مُضَافًا إلَى الْعَبْدِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } فَانْصَرَفَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إلَى اللَّهِ وَهُوَ الْمَغْفِرَةُ وَالْآخَرُ إلَى الْعِبَادِ وَهِيَ التَّقْوَى . قُلْت : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَقْرَبُهَا إلَى الْمُرَادِ مَعَ أَنَّ الْجَلَالَ هُنَا

لَيْسَ مَصْدَرَ جَلَّ جَلَالًا بَلْ هُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ أَجَلَّ إجْلَالًا . كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ إكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَلَا الْجَافِي عَنْهُ وَإكْرَامِ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ } . فَجَعَلَ إكْرَامَ هَؤُلَاءِ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ أَيْ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ كَمَا قَالَ { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } . وَكَمَا يُقَالُ : كَلَّمَهُ كَلَامًا وَأَعْطَاهُ عَطَاءً وَالْكَلَامُ وَالْعَطَاءُ اسْمُ مَصْدَرِ التَّكْلِيمِ وَالْإِعْطَاءِ . وَالْجَلَالُ قُرِنَ بِالْإِكْرَامِ وَهُوَ مَصْدَرُ الْمُتَعَدِّي فَكَذَلِكَ الْإِكْرَامُ . وَمِنْ كَلَامِ السَّلَفِ : " أَجِلُّوا اللَّهَ أَنْ تَقُولُوا كَذَا " . وَفِي حَدِيثِ مُوسَى : يَا رَبِّ إنِّي أَكُونُ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أُجِلُّك أَنْ أَذْكُرَك عَلَيْهَا . قَالَ : " اُذْكُرْنِي عَلَى كُلِّ حَالٍ " . وَإِذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا فِي نَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ ذَلِكَ كَمَا إذَا قَالَ : الْإِلَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُؤَلَّهَ أَيْ يُعْبَدُ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُسْتَحِقًّا لِمَا يُوجِبُ ذَلِكَ . وَإِذَا قِيلَ { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى } كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُتَّصِفًا بِمَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتَّقَى . وَمِنْهُ { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ بَعْدَ

مَا يَقُولُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ : مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ . اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ } . أَيْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَأَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ وَتُمَجَّدُ نَفْسُهُ . وَالْعِبَادُ لَا يُحْصُونَ ثَنَاءً عَلَيْهِ وَهُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ كَذَلِكَ هُوَ أَهْلُ أَنْ يُجَلَّ وَأَنْ يُكْرَمَ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُجِلُّ نَفْسَهُ وَيُكْرِمُ نَفْسَهُ . وَالْعِبَادُ لَا يُحْصُونَ إجْلَالَهُ وَإِكْرَامَهُ . وَالْإِجْلَالُ مِنْ جِنْسِ التَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ مِنْ جِنْسِ الْحُبِّ وَالْحَمْدِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ . فَلَهُ الْإِجْلَالُ وَالْمُلْكُ وَلَهُ الْإِكْرَامُ وَالْحَمْدُ . وَالصَّلَاةُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّوْحِيدِ فِي الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالتَّكْبِيرِ فِي الِانْتِقَالَاتِ كَمَا قَالَ جَابِرٌ { كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنَّا إذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا هَبَطْنَا سَبَّحْنَا فَوُضِعَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَفِي الرُّكُوعِ يَقُولُ " سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ " . وَقَالَ النَّبِيُّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنِّي نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا . أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنَ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ } . وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ حَمِدَ فَقَالَ { سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ } . فَيَحْمَدُهُ فِي هَذَا الْقِيَامِ كَمَا يَحْمَدُهُ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ إذَا قَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ . فَالتَّحْمِيدُ وَالتَّوْحِيدُ مُقَدَّمٌ عَلَى مُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ . وَلِهَذَا اشْتَمَلَتْ الْفَاتِحَةُ عَلَى هَذَا أَوَّلُهَا تَحْمِيدٌ وَأَوْسَطُهَا تَمْجِيدٌ . ثُمَّ فِي الرُّكُوعِ تَعْظِيمُ الرَّبِّ . وَفِي الْقِيَامِ يَحْمَدُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُمَجِّدُهُ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّعْظِيمَ الْمُجَرَّدَ تَابِعٌ لِكَوْنِهِ مَحْمُودًا وَكَوْنِهِ مَعْبُودًا . فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ وَيُعْبَدَ وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ التَّعْظِيمِ فَإِنَّ التَّعْظِيمَ لَازِمٌ لِذَلِكَ . وَأَمَّا التَّعْظِيمُ فَقَدْ يَتَجَرَّدُ عَلَى الْحَمْدِ وَالْعِبَادَةِ عَلَى أَصْلِ الْجَهْمِيَّة . فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَأْمُورِ بِهِ وَلَا يَصِيرُ الْعَبْدُ بِهِ لَا مُؤْمِنًا وَلَا عَابِدًا وَلَا مُطِيعًا . وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْخَطِيبِ الرَّازِي يَجْعَلُ الْجَلَالَ لِلصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ وَالْإِكْرَامَ لِلصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ فَيُسَمِّي هَذِهِ " صِفَاتِ الْجَلَالِ " وَهَذِهِ " صِفَاتِ الْإِكْرَامِ " وَهَذَا اصْطِلَاحٌ لَهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا فِي قَوْلِهِ

{ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } . وقوله : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } وَهُوَ فِي مُصْحَفِ أَهْلِ الشَّامِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّك ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ فَالِاسْمُ نَفْسُهُ يُذْوَى بِالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ . وَفِي سَائِرِ الْمَصَاحِفِ وَفِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ { ذِي الْجَلَالِ } فَيَكُونُ الْمُسَمَّى نَفْسَهُ . وَفِي الْأُولَى { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } . فَالْمُذْوَى وَجْهُهُ سُبْحَانَهُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ هُوَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ . فَإِنَّهُ إذَا كَانَ وَجْهُهُ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ كَانَ هَذَا تَنْبِيهًا كَمَا أَنَّ اسْمَهُ إذَا كَانَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى الْمُسَمَّى . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجَلَّ وَيُكْرَمَ . فَإِنَّ الِاسْمَ نَفْسَهُ يُسَبِّحُ وَيَذْكُرُ وَيُرَادُ بِذَلِكَ الْمُسَمَّى وَالِاسْمُ نَفْسُهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لَا إكْرَامًا وَلَا غَيْرَهُ . وَلِهَذَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إضَافَةُ شَيْءٍ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالنِّعَمِ إلَى الِاسْمِ . وَلَكِنْ يُقَالُ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَإِنَّ اسْمَ اللَّهِ مُبَارَكٌ تُنَالُ مَعَهُ الْبَرَكَةُ وَالْعَبْدُ يُسَبِّحُ اسْمَ رَبِّهِ الْأَعْلَى فَيَقُولُ " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " { وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ { سَبِّحِ اسْمَ

رَبِّكَ الْأَعْلَى } قَالَ : اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ ؛ فَقَالُوا سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى } . فَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ " سُبْحَانَ اسْمِ رَبِّي الْأَعْلَى " . لَكِنَّ قَوْلَهُ " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " هُوَ تَسْبِيحٌ لِاسْمِهِ يُرَادُ بِهِ تَسْبِيحُ الْمُسَمَّى لَا يُرَادُ بِهِ تَسْبِيحُ مُجَرَّدِ الِاسْمِ كَقَوْلِهِ { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } . فَالدَّاعِي يَقُولُ " يَا اللَّهُ " " يَا رَحْمَنُ " وَمُرَادُهُ الْمُسَمَّى . وَقَوْلُهُ { أَيَّا مَا } أَيُّ الِاسْمَيْنِ تَدْعُو وَدُعَاءُ الِاسْمِ هُوَ دُعَاءُ مُسَمَّاهُ .
وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ : إنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى . أَرَادُوا بِهِ أَنَّ الِاسْمَ إذَا دُعِيَ وَذُكِرَ يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى . فَإِذَا قَالَ الْمُصَلِّي " اللَّهُ أَكْبَرُ " فَقَدْ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ وَمُرَادَهُ الْمُسَمَّى . لَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ هُوَ الذَّاتُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ . فَإِنَّ فَسَادَ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَصَوَّرَهُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَنْ قَالَ " نَارًا " احْتَرَقَ لِسَانُهُ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْجَلَالَ وَالْإِكْرَامَ مِثْلُ الْمُلْكِ وَالْحَمْدِ كَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ . وَهَذَا يَكُونُ فِي الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ . فَإِنَّ كُلَّ سَلْبٍ فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ

لِلثُّبُوتِ . وَأَمَّا السَّلْبُ الْمَحْضُ فَلَا مَدْحَ فِيهِ . وَهَذَا مِمَّا يَظْهَرُ بِهِ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ أَحَدَهُمَا لِلسَّلْبِ وَالْآخِرَ لِلْإِثْبَاتِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مِنْ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يُنْكِرُونَ مَحَبَّتَهُ وَلَا يُثْبِتُونَ لَهُ صِفَاتٍ تُوجِبُ الْمَحَبَّةَ وَالْحَمْدَ . بَلْ إنَّمَا يُثْبِتُونَ مَا يُوجِبُ الْقَهْرَ كَالْقُدْرَةِ . فَهَؤُلَاءِ آمَنُوا بِبَعْضِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ بِقَدْرِ مَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ الْحَقِّ كَمَا بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَصْلٌ :
قَوْله تَعَالَى فِي أَوَّلِ مَا أَنْزَلَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } وَقَوْلُهُ { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } . ذَكَرَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْإِضَافَةِ الَّتِي تُوجِبُ التَّعْرِيفَ وَأَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ إذْ الرَّبُّ تَعَالَى مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَبْدِ بِدُونِ الِاسْتِدْلَالِ بِكَوْنِهِ خَلَقَ . وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ مَعَ أَنَّهُ دَلِيلٌ وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْخَالِقِ لَكِنْ هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْفِطْرَةِ قَبْلَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ ؛ وَمَعْرِفَتُهُ فِطْرِيَّةٌ مَغْرُوزَةٌ فِي الْفِطْرَةِ ؛ ضَرُورِيَّةٌ بَدِيهِيَّةٌ أَوَّلِيَّةٌ . وَقَوْلُهُ { اقْرَأْ } وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا ، فَهُوَ

خِطَابٌ لِكُلِّ أَحَدٍ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } هُوَ خِطَابٌ لِلْإِنْسَانِ مُطْلَقًا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْخِطَابَ أَوْ مِنْ النَّوْعِ أَوْ هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصُوصًا كَمَا قَدْ قِيلَ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ . مِثْلُ قَوْلِهِ { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } قِيلَ خِطَابٌ لَهُ وَقِيلَ خِطَابٌ لِلْجِنْسِ ؛ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ خِطَابٌ لَهُ فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا خُوطِبَ بِهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ فَالْأُمَّةُ مُخَاطَبَةٌ بِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ . وَبِهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ . أَيْ هُمْ الَّذِينَ أُرِيدَ مِنْهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا لِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الشَّكِّ وَهُوَ لَمْ يُرَدْ مِنْهُ السُّؤَالُ إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَكٌّ . وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُخَاطَبًا وَمُرَادًا بِالْخِطَابِ بَلْ هَذَا صَرِيحُ اللَّفْظِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ . وَلِأَنَّ لَيْسَ فِي الْخِطَابِ أَنَّهُ أُمِرَ بِالسُّؤَالِ مُطْلَقًا بَلْ أُمِرَ بِهِ إنْ كَانَ عِنْدَهُ شَكٌّ وَهَذَا لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ شَكٌّ . وَلَا أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ

مُطْلَقًا بَلْ أُمِرَ بِهِ إنْ كَانَ هَذَا مَوْجُودًا وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِهِ . وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } وَفِي قَوْلِهِ { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ : إنَّ الْخِطَابَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادَ بِهِ غَيْرُهُ . أَيْ غَيْرُهُ قَدْ يَكُونُ مُمْتَرِيًا وَمُطِيعًا لِأُولَئِكَ فَنُهِيَ وَهُوَ لَا يَكُونُ مُمْتَرِيًا وَلَا مُطِيعًا لَهُمْ . وَلَكِنْ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهُوَ أَيْضًا مُخَاطَبٌ بِهَذَا وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ هَذَا . فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ نَهَاهُ عَمَّا حَرَّمَهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْقَوْلِ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ . وَبِنَهْيِ اللَّهِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ وَطَاعَتِهِ لِلَّهِ فِي هَذَا اسْتَحَقَّ عَظِيمَ الثَّوَابِ وَلَوْلَا النَّهْيُ وَالطَّاعَةُ لَمَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ . وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ مِمَّنْ يُشَكُّ فِي طَاعَتِهِ وَيَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْصِيَ الرَّبَّ أَوْ يَعْصِيَهُ مُطْلَقًا وَلَا يُطِيعَهُ . بَلْ اللَّهُ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُطِيعُونَهُ وَيَأْمُرُ الْأَنْبِيَاءَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُطِيعُونَهُ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّ مَا أَطَاعُوهُ فِيهِ قَدْ أَمَرَهُمْ بِهِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُطِيعُونَهُ .

وَلَا يُقَالُ : لَا يَحْتَاجُ إلَى الْأَمْرِ بَلْ بِالْأَمْرِ صَارَ مُطِيعًا مُسْتَحِقًّا لِعَظِيمِ الثَّوَابِ . وَلَكِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي قُدْرَتَهُ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَهُ لِيُثَابَ عَلَى ذَلِكَ إذَا تَرَكَهُ . وَقَدْ يَقْتَضِي قِيَامَ السَّبَبِ الدَّاعِي إلَى فِعْلِهِ فَيُنْهَى عَنْهُ فَإِنَّهُ بِالنَّهْيِ وَإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ عَلَى الِامْتِثَالِ يَمْتَنِعُ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ إذَا قَامَ السَّبَبُ الدَّاعِي لَهُ إلَيْهِ . وَكَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ { سَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ } إنَّهُ أَمْرٌ لِلرَّسُولِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُوَ وَالْمُؤْمِنُونَ ؛ وَقِيلَ هُوَ أَمْرٌ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ . فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ { اقْرَأْ } كَقَوْلِهِ فِي آخِرِهَا { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } وَقَوْلِهِ { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ } { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } هَذَا مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ . وَقَوْلُهُ { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } { قُمِ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا } فَإِنَّهُ كَانَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } { قُمْ فَأَنْذِرْ } لَمَّا أُمِرَ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ الْإِنْذَارِ . وَهَذَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . فَوَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يُبَلِّغُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَيُنْذِرُوا كَمَا أَنْذَرَ . قَالَ تَعَالَى { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ

يَحْذَرُونَ } وَالْجِنُّ لَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ { وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ إنْسَانٍ فِي قَلْبِهِ مَعْرِفَةٌ بِرَبِّهِ . فَإِذَا قِيلَ لَهُ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } عَرَفَ رَبَّهُ الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يَقْرَأَ بِاسْمِهِ كَمَا يَعْرِفُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَالْمَخْلُوقُ يَسْتَلْزِمُ الْخَالِقَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْرَارَ وَالِاعْتِرَافَ بِالْخَالِقِ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ فِي نُفُوسِ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مَا يُفْسِدُ فِطْرَتَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى نَظَرٍ تَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ . وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ وَعَلَيْهِ حُذَّاقُ النُّظَّارِ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَارَةً تَحْصُلُ بِالضَّرُورَةِ وَتَارَةً بِالنَّظَرِ كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ . وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ النَّظَرُ أَوَّلَ وَاجِبٍ بَلْ أَوَّلُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } لَمْ يَقُلْ " اُنْظُرْ وَاسْتَدِلَّ حَتَّى تَعْرِفَ الْخَالِقَ " وَكَذَلِكَ هُوَ أَوَّلُ مَا بَلَّغَ هَذِهِ السُّورَةَ . فَكَانَ الْمُبَلِّغُونَ مُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَلَمْ يُؤْمَرُوا فِيهَا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ . وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إلَى أَنَّ اعْتِرَاف النَّفْسِ بِالْخَالِقِ وَإِثْبَاتَهَا لَهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالنَّظَرِ .

ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ نَظَرًا مَخْصُوصًا وَهُوَ النَّظَرُ فِي الْأَعْرَاضِ وَأَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْأَجْسَامِ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُ الْأَجْسَامِ بِدُونِهَا . قَالُوا : وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ أَوْ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ بَيِّنَةٌ بِنَفْسِهَا بَلْ ضَرُورِيَّةٌ وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ وَالْمَحْدُودِ وَبَيْنَ الْجِنْسِ الْمُتَّصِلِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إمَّا لِظَنِّهِ أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ أَوْ لِعَدَمِ خُطُورِهِ بِقَلْبِهِ . لَكِنْ وَإِنْ قِيلَ هُوَ مُمْتَنِعٌ فَلَيْسَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ بَدِيهِيًّا . وَإِنَّمَا الْعِلْمُ الْبَدِيهِيُّ أَنَّ الْحَادِثَ الَّذِي لَهُ مَبْدَأٌ مَحْدُودٌ كَالْحَادِثِ . وَالْحَوَادِثُ الْمُقَدَّرَةُ مِنْ حِينٍ مَحْدُودٌ فَتِلْكَ مَا لَا يَسْبِقُهَا فَهُوَ حَادِثٌ . وَمَا لَا يَخْلُو مِنْهَا لَمْ يَسْبِقْهَا فَهُوَ حَادِثٌ . فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَسْبِقْهَا كَانَ مَعَهَا أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا . وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ حَادِثٌ . وَأَمَّا إذَا قَدَّرَ حَوَادِثَ دَائِمَةً شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَهَذَا إمَّا أَنْ يُقَالَ هُوَ مُمْكِنٌ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ هُوَ مُمْتَنِعٌ . لَكِنَّ الْعِلْمَ بِامْتِنَاعِهِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَلَمْ تَعَلُّمِ طَائِفَةٍ مَعْرُوفَةٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ قَالُوا : إنَّ الْعِلْمَ بِامْتِنَاعِ هَذَا بَدِيهِيٌّ ضَرُورِيٌّ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ .==

=========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب مقتطفات من كتاب العبودية ابن تيمية

  بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على صفوة خلقه وخات...