الأربعاء، 20 أبريل 2022

ج 41. و42- مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

 

41. مجموع الفتاوى  لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)
أَكْثَرَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَيُسَلِّمُونَ وَيَدْعُونَ سَاعَةً فَقَالَ : لَمْ يَبْلُغْنِي هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ بِبَلْدَتِنَا وَلَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَصَدْرِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ؛ إلَّا مَنْ جَاءَ مَنْ سَفَرٍ أَوْ أَرَادَهُ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : رَأَيْت أَهْلَ الْمَدِينَةِ إذَا خَرَجُوا مِنْهَا أَوْ دَخَلُوهَا أَتَوْا الْقَبْرَ وَسَلَّمُوا . قَالَ : وَذَلِكَ دَأْبِي . فَهَذَا مَالِكٌ وَهُوَ أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِهِ - أَيْ زَمَنِ تَابِعِ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّذِينَ كَانَ أَهْلُهَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ أَعْلَمَ النَّاسِ بِمَا يُشْرَعُ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُونَ الْوُقُوفَ لِلدُّعَاءِ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَيْهِ . وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ الدُّعَاءُ لَهُ وَلِصَاحِبَيْهِ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا لَا يُسْتَحَبُّ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ كُلَّ وَقْتٍ . بَلْ عِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ سَفَرٍ أَوْ إرَادَتِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَحِيَّةٌ لَهُ وَالْمُحَيَّا لَا يُقْصَدُ بَيْتُهُ كُلَّ وَقْتٍ لِتَحِيَّتِهِ ؛ بِخِلَافِ الْقَادِمَيْنِ مِنْ السَّفَرِ . وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي وَهْبٍ : إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِفُ وَجْهَهُ إلَى الْقَبْرِ ؛ لَا إلَى الْقِبْلَةِ وَيَدْنُو وَيُسَلِّمُ وَلَا يَمَسُّ الْقَبْرَ بِيَدِهِ . وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُقَالَ : زُرْنَا قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : كَرَاهَةُ مَالِكٍ لَهُ لِإِضَافَتِهِ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ : " { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلُ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ

اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يَنْهَى عَنْ إضَافَةِ هَذَا اللَّفْظِ إلَى الْقَبْرِ وَالتَّشَبُّهِ بِفِعْلِ ذَلِكَ ؛ قَطْعًا لِلذَّرِيعَةِ وَحَسْمًا لِلْبَابِ . قُلْت : وَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الْمَرْوِيَّةُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بَلْ مَوْضُوعَةٌ . لَمْ يَرْوِ الْأَئِمَّةُ وَلَا أَهْلُ السُّنَنِ الْمُتَّبَعَةِ - كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي وَنَحْوِهِمَا فِيهَا شَيْئًا وَلَكِنْ جَاءَ لَفْظُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ : مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ . أَلَّا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ : " { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَة } . وَلَكِنْ صَارَ لَفْظُ " زِيَارَةِ الْقُبُورِ " فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَتَنَاوَلُ " الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ وَالزِّيَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ " وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَهَا إلَّا بِالْمَعْنَى الْبِدْعِيِّ ؛ لَا الشَّرْعِيِّ ؛ فَلِهَذَا كُرِهَ هَذَا الْإِطْلَاقُ . فَأَمَّا " الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ " فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ : يُقْصَدُ بِهَا الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ كَمَا يُقْصَدُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } فَلَمَّا نَهَى عَنْ

الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ : دَلَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْخِطَابِ وَعِلَّةِ الْحُكْمِ أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ . وَالْقِيَامُ عَلَى قَبْرِهِ بَعْدَ الدَّفْنِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّفْنِ يُرَادُ بِهِ الدُّعَاءُ لَهُ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَاسْتَحَبَّهُ السَّلَفُ عِنْدَ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَأَمَّا " الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ " فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ وَالذَّرِيعَةِ إلَيْهِ كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ : " { لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا } وَقَالَ : " { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَقَالَ : " { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءُ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } وَقَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } فَإِذَا كَانَ قَدْ لَعَنَ مَنْ يَتَّخِذُ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ تَحَرِّيهَا لِلدُّعَاءِ مُسْتَحَبًّا لِأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ الدُّعَاءُ يُسْتَحَبُّ فِيهِ الصَّلَاةُ لِأَنَّ الدُّعَاءَ عَقِبَ الصَّلَاةِ أجوب . وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَكَانٌ يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ مَعَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَهُ . وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مُعَلَّلٌ

بِخَوْفِ الْفِتْنَةِ بِالْقَبْرِ لَا بِمُجَرَّدِ نَجَاسَتِهِ كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَأْمُرُونَ بِتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ وَتَعْفِيَةِ مَا يُفْتَتَنُ بِهِ مِنْهَا كَمَا أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِتَعْفِيَةِ قَبْرِ دَانْيَالَ لَمَّا ظَهَرَ بتستر فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى يَذْكُرُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قَبْرُ دَانْيَالَ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَسْقُونَ بِهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْفِرَ بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا ثُمَّ يَدْفِنُهُ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَيُعْفِيهِ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهِ النَّاسُ . وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْد السَّلَفِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الموصلي فِي " مُسْنَدِهِ " وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ المقدسي فِي " مُخْتَارِهِ " عَنْ { عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمَعْرُوفِ بِزَيْنِ الْعَابِدِينَ - أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجِيءُ إلَى فُرْجَةٍ كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُ فَيَدْعُو فِيهَا فَنَهَاهُ فَقَالَ : أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا ؛ فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَيْنَمَا كُنْتُمْ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ } وَفِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنِي سُهَيْلُ بْنُ أَبِي سُهَيْلٍ قَالَ : رَآنِي الْحَسَنُ بْنُ

الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الْقَبْرِ فَنَادَانِي وَهُوَ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ يَتَعَشَّى فَقَالَ : هَلُمَّ إلَى الْعَشَاءِ فَقُلْت : لَا أُرِيدُهُ فَقَالَ : مَالِي رَأَيْتُك عِنْدَ الْقَبْرِ فَقُلْت : سَلَّمْت عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : إذَا دَخَلْت الْمَسْجِدَ فَسَلِّمْ ثُمَّ قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { لَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ ؛ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ مَا أَنْتُمْ وَمَنْ بِالْأَنْدَلُسِ إلَّا سَوَاءٌ } . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوعَ فِي قَبْرِ سَيِّدِ وَلَدٍ آدَمَ وَخَيْرِ الْخَلْقِ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَى اللَّهِ فَكَيْفَ يُقَالُ فِي قَبْرِ غَيْرِهِ وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا نَزَلَتْ بِهِمْ الشَّدَائِدُ - كَحَالِهِمْ فِي الْجَدْبِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَعِنْدَ الْقِتَالِ وَالِاسْتِنْصَارِ - يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَغِيثُونَهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ . فَتَوَسَّلُوا بِالْعَبَّاسِ كَمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَهَكَذَا تَوَسَّلُوا بِدُعَاءِ الْعَبَّاسِ وَشَفَاعَتِهِ وَلَمْ يَقْصِدُوا الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَقْسَمُوا عَلَى اللَّهِ بِشَيْءِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بَلْ تَوَسَّلُوا إلَيْهِ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الْوَسَائِلِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَدُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَتَوَسَّلُ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ بِالْإِيمَانِ بِنَبِيِّهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ وَكَمَا يَتَوَسَّلُونَ فِي حَيَاتِهِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ كَذَلِكَ يَتَوَسَّلُ الْخَلْقُ فِي الْآخِرَةِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ . وَيَتَوَسَّلُ بِدُعَاءِ الصَّالِحِينَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ : بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ } . وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ الْقُبُورِ لَوْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ غَيْرِهَا وَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وأجوب : لَكَانَ السَّلَفُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِنْ الْخَلَفِ " وَكَانُوا أَسْرَعَ إلَيْهِ . فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَأَسْبَقَ إلَى طَاعَتِهِ وَرِضَاهُ وَلَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُرَغِّبُ فِيهِ ؛ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ وَمَا تَرَكَ شَيْئًا يُقَرِّبُ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثَ أُمَّتَهُ بِهِ وَلَا شَيْئًا يُبْعِدُ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَذَّرَ أُمَّتَهُ مِنْهُ وَقَدْ تَرَكَ أُمَّتَهُ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَنْزَوِي عَنْهَا بَعْدَهُ إلَّا هَالِكٌ . فَكَيْفَ وَقَدْ نَهَى عَنْ هَذَا الْجِنْسِ وَحَسَمَ مَادَّتَهُ بِلَعْنِهِ وَنَهْيِهِ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ ؟ فَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ لِلَّهِ مُسْتَقْبِلًا لَهَا وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي لَا يَعْبُدُ الْمَوْتَى وَلَا يَدْعُوهُمْ كَمَا نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ ؛ لِأَنَّهَا

وَقْتُ سُجُودِ الْمُشْرِكِينَ لِلشَّمْسِ وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي لَا يَسْجُدُ إلَّا لِلَّهِ ؛ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . فَكَيْفَ إذَا تَحَقَّقَتْ الْمَفْسَدَةُ بِأَنْ صَارَ الْعَبْدُ يَدْعُو الْمَيِّتَ وَيَدْعُو بِهِ كَمَا إذَا تَحَقَّقَتْ الْمَفْسَدَةُ بِالسُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ . وَقَدْ كَانَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ تَعْظِيمِ الْقُبُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } قَالَ السَّلَفُ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : كَانَ هَؤُلَاءِ قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ عَبَدُوهُمْ . ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ بِمَقَابِرَ " بَابِ الصَّغِيرِ " مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ الْأَرْبَعَةِ فَكَيْفَ يُعَيَّنُ هَؤُلَاءِ لِلدُّعَاءِ عِنْدَ قُبُورِهِمْ دُونَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ ثُمَّ إنَّ لِكُلِّ شَيْخٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَنَحْوِهِمْ مَنْ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ الشَّيْخِ الْآخَرِ فَهَلْ أَمَرَ اللَّهُ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُشْرِكُونَ بِهِمْ ؟ الَّذِينَ ضَاهَوْا الَّذِينَ { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مِنْ قَوْلِهِ : إذَا نَزَلَ بِك حَادِثٌ أَوْ أَمْرٌ تَخَافُهُ فَاسْتَوْحِنِي فَيُكْشَفُ مَا بِك مِنْ الشِّدَّةِ حَيًّا كُنْت أَوْ مَيِّتًا . فَهَذَا الْكَلَامُ وَنَحْوُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا مِنْ النَّاقِلِ أَوْ خَطَأً مِنْ الْقَائِلِ ؛ فَإِنَّهُ نَقْلٌ لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ عَنْ قَائِلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ وَمَنْ تَرَكَ النَّقْلَ الْمُصَدَّقَ عَنْ الْقَائِلِ الْمَعْصُومِ وَاتَّبَعَ نَقْلًا غَيْرَ مُصَدَّقٍ عَنْ قَائِلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِمِثْلِ هَذَا " وَلَا رُسُلُهُ أَمَرُوا بِذَلِكَ ؛ بَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } وَلَمْ يَقُلْ : ارْغَبْ إلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْعُزَيْرَ وَالْمَسِيحَ وَالْمَلَائِكَةَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ لِأَحَدِ مِنْ أَصْحَابِهِ : إذَا

نَزَلَ بِك حَادِثٌ فَاسْتَوْحِنِي ؛ بَلْ قَالَ لِابْنِ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يُوصِيهِ : " { احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْك احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَك تَعَرَّفَ إلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْك فِي الشِّدَّةِ إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ } . وَمَا يَرْوِيهِ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْ أَنَّهُ قَالَ : " { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي ؛ فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } . فَهُوَ حَدِيثٌ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَمَدَةِ فِي الدِّينِ ؛ فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ فَضِيلَةٌ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِكُلِّ فَضِيلَةٍ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ . وَإِنْ كَانَ مَنْفَعَةٌ لِلْحَيِّ بِالْمَيِّتِ فَأَصْحَابُهُ أَحَقُّ النَّاسِ انْتِفَاعًا بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا مِنْ الضَّلَالِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا . وَلَيْسَ هُوَ بِنَبِيِّ يَجِبُ اتِّبَاعُ قَوْلِهِ وَلَا مَعْصُومٍ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : مَنْ قَرَأَ " آيَةَ الْكُرْسِيِّ " وَاسْتَقْبَلَ جِهَةَ الشَّيْخِ

عَبْدِ الْقَادِرِ الجيلاني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَخَطَا سَبْعَ خُطُوَاتٍ يَخْطُو مَعَ كُلِّ تَسْلِيمَةٍ خَطْوَةً إلَى قَبْرِهِ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ أَوْ كَانَ فِي سَمَاعٍ فَإِنَّهُ يَطِيبُ وَيَكْثُرُ تَوَاجُدُهُ . فَهَذَا أَمْرٌ الْقُرْبَةُ فِيهِ شِرْكٌ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَادِرِ لَمْ يَقُلْ هَذَا وَلَا أَمَرَ بِهِ وَمَنْ يَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْهُ فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُحْدِثُ مِثْلَ هَذِهِ الْبِدَعِ أَهْلُ الْغُلُوِّ وَالشِّرْكِ : الْمُشْبِهُونَ لِلنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الرَّافِضَةِ الْغَالِيَةِ فِي الْأَئِمَّةِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ الْغُلَاةِ فِي الْمَشَايِخِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا } فَإِذَا نَهَى عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقَبْرِ فِي الصَّلَاةِ لِلَّهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ وَالدُّعَاءُ لِغَيْرِ اللَّهِ مَعَ بُعْدِ الدَّارِ وَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يَفْعَلُهُ النَّصَارَى بِعِيسَى وَأُمِّهِ وَأَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فِي اتِّخَاذِهِمْ إيَّاهُمْ أَرْبَابًا وَآلِهَةً يَدْعُونَهُمْ وَيَسْتَغِيثُونَهُم فِي مَطَالِبِهِمْ وَيَسْأَلُونَهُمْ وَيَسْأَلُونَ بِهِمْ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ : مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ إلَى الْفُقَرَاءِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ : عِنْدَ الْأَكْلِ وَالْمُنَاصَحَةِ وَالسَّمَاعِ . فَهَذَا الْقَوْلُ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ قَالَ : إنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ عِنْدَ الْأَكْلِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بِإِيثَارِ

وَعِنْدَ الْمُجَارَاةِ فِي الْعِلْمِ . لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْمُنَاصَحَةَ وَعِنْدَ السَّمَاعِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ لِلَّهِ . أَوْ كَلَامًا يُشْبِهُ هَذَا . وَالْأَصْلُ الْجَامِعُ فِي هَذَا أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ - وَهُوَ مَا كَانَ لِلَّهِ بِإِذْنِ اللَّهِ - فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ وَيَنْظُرُ إلَيْهِ فِيهِ نَظَرَ مَحَبَّةٍ . وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْخَالِصُ الصَّوَابُ . فَالْخَالِصُ مَا كَانَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ مَا كَانَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَاكَلَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ وَالِاسْتِمَاعِ مِنْهَا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يَشْتَمِلُ عَلَى خَيْرٍ وَشَرٍّ وَحَقٍّ وَبَاطِلٍ وَمَصْلَحَةٍ وَمَفْسَدَةٍ وَحُكْمُ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِهِ .
فَصْلٌ :
وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ تَحَرِّي الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَ مَا يُقَالُ : إنَّهُ قَبْرُ نَبِيٍّ أَوْ قَبْرُ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْقَرَابَةِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ إلْصَاقُ بَدَنِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ بِالْقَبْرِ أَوْ بِمَا يُجَاوِرُ الْقَبْرَ مِنْ عُودٍ وَغَيْرِهِ . كَمَنْ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ فِي قِبْلِيِّ شَرْقِيِّ جَامِعِ دِمَشْقَ عِنْدَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ قَبْرُ هُودٍ - وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ قَبْرُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ - أَوْ عِنْدَ الْمِثَالِ الْخَشَبِ الَّذِي يُقَالُ تَحْتَهُ رَأْسُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهُوَ مُخْطِئٌ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ

الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ بِهَذِهِ الْأَمْكِنَةِ لَيْسَ مَزِيَّةً عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَلَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ؛ بَلْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ كَمَا نَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ وَدَوَاعِيهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدُوا دُعَاءَ الْقَبْرِ وَالدُّعَاءَ بِهِ فَكَيْفَ إذَا قَصَدُوا ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ : هَلْ لِلدُّعَاءِ خُصُوصِيَّةُ قَبُولٍ أَوْ سُرْعَةُ إجَابَةٍ : بِوَقْتِ مُعَيَّنٍ أَوْ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ : عِنْدَ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ ؟ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الدُّعَاءَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ أجوب مِنْهُ فِي بَعْضٍ . فَالدُّعَاءُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ أجوب الْأَوْقَاتِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرُ وَفِي رِوَايَةٍ نِصْفُ اللَّيْلِ - فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : " { أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ } وَالدُّعَاءِ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَعِنْدَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ وَعِنْدَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَفِي حَالِ السُّجُودِ وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ

الْأَحَادِيثُ الْمَعْرُوفَةُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالدُّعَاءُ بِالْمَشَاعِرِ كَعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَالْمُلْتَزَمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَشَاعِرَ مَكَّةَ وَالدُّعَاءُ بِالْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا . وَكُلَّمَا فُضِّلَ الْمَسْجِدُ كَالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ كَانَتْ الصَّلَاةُ وَالدُّعَاءُ فِيهِ أَفْضَلَ . وَأَمَّا الدُّعَاءُ لِأَجْلِ كَوْنِ الْمَكَانِ فِيهِ قَبْرُ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا : إنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَكِنَّ هَذَا مِمَّا ابْتَدَعَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . فَأَصْلُهُ مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ ؛ لَا مِنْ دِينِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ ؛ كَاِتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَلَكِنْ ابْتَدَعَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ؛ مُضَاهَاةً لِمَنْ لَعَنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَغِيثَ إلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ بِنَبِيِّ مُرْسَلٍ أَوْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ أَوْ بِكَلَامِهِ تَعَالَى أَوْ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِالدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ بِاحْتِيَاطِ قَافٍ أَوْ بِدُعَاءِ أُمِّ دَاوُد أَوْ الْخَضِرِ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى اللَّهِ فِي السُّؤَالِ بِحَقِّ فُلَانٍ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ بِجَاهِ الْمُقَرَّبِينَ

بِأَقْرَبِ الْخَلْقِ أَوْ يُقْسِمَ بِأَعْمَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ ؟ فَيُقَالُ : هَذَا السُّؤَالُ فِيهِ فُصُولٌ مُتَعَدِّدَةٌ . فَأَمَّا الْأَدْعِيَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ فَفِيهَا سُؤَالُ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَالِاسْتِعَاذَةُ بِكَلَامِهِ كَمَا فِي الْأَدْعِيَةِ الَّتِي فِي السُّنَنِ : مِثْلُ قَوْلِهِ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ اللَّهُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّك أَنْتَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدُ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وَمِثْلُ الدُّعَاءِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مَنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك } . وَأَمَّا الْأَدْعِيَةُ الَّتِي يَدْعُو بِهَا بَعْضُ الْعَامَّةِ وَيَكْتُبُهَا بَاعَةُ الحروز مِنْ الطرقية الَّتِي فِيهَا : أَسْأَلُك بِاحْتِيَاطِ قَاف وَهُوَ يُوفِ الْمُخَافِ وَالطُّورِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَزَمْزَمَ وَالْمَقَامِ وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ . وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ . فَلَا يُؤْثَرُ مِنْهَا شَيْءٌ ؛ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُقْسِمَ بِهَذِهِ بِحَالِ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } وَقَالَ " { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُقْسِمَ بِالْمَخْلُوقَاتِ أَلْبَتَّةَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

{ إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ لَمَّا قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ : أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الربيع ؟ لَا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الربيع } وَكَمَا قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ : أَقْسَمْت عَلَيْك أَيْ رَبِّ ؛ إلَّا فَعَلْت كَذَا وَكَذَا " وَكِلَاهُمَا كَانَ مِمَّنْ يَبَرُّ اللَّهُ قَسَمَهُ . وَالْعَبْدُ يَسْأَلُ رَبَّهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِي مَطْلُوبَهُ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي وَعَدَ الثَّوَابَ عَلَيْهَا . وَدُعَاءُ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وَعَدَ إجَابَتَهُمْ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَوَسَّلُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَبِيِّهِ ثُمَّ بِعَمِّهِ وَغَيْرِ عَمِّهِ مِنْ صَالِحِيهِمْ : يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ . فَتَوَسَّلُوا بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْعَبَّاسِ كَمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ وَهُوَ تَوَسُّلُهُمْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ : " { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ بَصَرِي فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِيَقْضِيَهَا اللَّهُمَّ : فَشَفِّعْهُ فِيَّ } فَهَذَا طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْبَلَ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ لَهُ فِي تَوَجُّهِهِ بِنَبِيِّهِ إلَى اللَّهِ هُوَ كَتَوَسُّلِ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ بِهِ إلَى اللَّهِ فَإِنَّ

هَذَا التَّوَجُّهَ وَالتَّوَسُّلَ هُوَ تَوَجُّهٌ وَتَوَسُّلٌ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : أَسْأَلُك أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْك بِحَقِّ مَلَائِكَتِك أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِك أَوْ بِنَبِيِّك فُلَانٍ أَوْ بِرَسُولِك فُلَانٍ أَوْ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ أَوْ بِزَمْزَمَ وَالْمَقَامِ أَوْ بِالطُّورِ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الدُّعَاءِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَصْحَابِهِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ بَلْ قَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ - كَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ - عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ بِمَخْلُوقِ وَلَا يَصِحُّ الْقَسَمُ بِغَيْرِ اللَّهِ وَإِنْ سَأَلَهُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ وَوَسِيلَةٌ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ . أَمَّا إذَا سَأَلَ اللَّهَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَبِدُعَاءِ نَبِيِّهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ فَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ سَبَبٌ لِلْإِثَابَةِ وَالدُّعَاءُ سَبَبٌ لِلْإِجَابَةِ فَسُؤَالُهُ بِذَلِكَ سُؤَالٌ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى فِي دُعَاءِ الْخُرُوجِ إلَى الصَّلَاةِ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا } وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْغَارِ الَّذِينَ دَعَوْا اللَّهَ بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ . فَالتَّوَسُّلُ إلَى اللَّهِ بِالنَّبِيِّينَ هُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِمْ وَبِطَاعَتِهِمْ كَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ أَوْ بِدُعَائِهِمْ وَشَفَاعَتِهِمْ . وَأَمَّا نَفْسُ ذَوَاتِهِمْ فَلَيْسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي حُصُولَ مَطْلُوبِ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ الْجَاهُ الْعَظِيمُ وَالْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ بِسَبَبِ إكْرَامِ اللَّهِ لَهُمْ وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ

فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي إجَابَةَ دُعَاءِ غَيْرِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ مِنْهُ إلَيْهِمْ كَالْإِيمَانِ بِهِمْ وَالطَّاعَةِ لَهُمْ أَوْ بِسَبَبِ مِنْهُمْ إلَيْهِ : كَدُعَائِهِمْ لَهُ وَشَفَاعَتِهِمْ فِيهِ . فَهَذَانِ الشَّيْئَانِ يُتَوَسَّلُ بِهِمَا . وَأَمَّا الْإِقْسَامُ بِالْمَخْلُوقِ فَلَا . وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْ قَوْلِهِ : " { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } حَدِيثٌ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : هَلْ يَجُوزُ تَعْظِيمُ مَكَانٍ فِيهِ خَلُوقٌ وَزَعْفَرَانٌ ؛ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُئِيَ عِنْدَهُ . فَيُقَالُ : بَلْ تَعْظِيمُ مِثْلِ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ وَاِتِّخَاذُهَا مَسَاجِدَ وَمَزَارَاتٍ لِأَجْلِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِيهَا . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ فِي السَّفَرِ فَرَأَى قَوْمًا يَبْتَدِرُونَ مَكَانًا فَقَالَ : مَا هَذَا فَقَالُوا : مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : وَمَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ مَنْ أَدْرَكَتْهُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ وَهَذَا قَالَهُ عُمَرُ بِمَحْضَرِ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي أَسْفَارِهِ

فِي مَوَاضِعَ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَهُ فِي الْمَنَامِ فِي مَوَاضِعَ وَمَا اتَّخَذَ السَّلَفُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَسْجِدًا وَلَا مَزَارًا . وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَكْثَرُهَا مَسَاجِدَ وَمَزَارَاتٍ ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ يَرَوْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَقَدْ جَاءَ إلَى بُيُوتِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ مِرَارًا كَثِيرَةً وَتَخْلِيقُ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ بِالزَّعْفَرَانِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ . وَأَمَّا مَا يَزِيدُهُ الْكَذَّابُونَ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُرَى فِي الْمَكَانِ أَثَرُ قَدَمٍ فَيُقَالُ : هَذَا قَدَمُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ : فَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ وَالْأَقْدَامُ الْحِجَارَةُ الَّتِي يَنْقُلُهَا مَنْ يَنْقُلُهَا وَيَقُولُ : إنَّهَا مَوْضِعُ قَدَمِهِ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ وَلَوْ كَانَتْ حَقًّا لَسُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا ذَلِكَ مَسْجِدًا وَمَزَارًا بَلْ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ أَنْ يُتَّخَذَ مَقَامُ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مُصَلًّى إلَّا مَقَامَ إبْرَاهِيمَ بِقَوْلِهِ : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِالِاسْتِلَامِ وَالتَّقْبِيلِ لِحَجَرِ مِنْ الْحِجَارَةِ إلَّا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَلَا بِالصَّلَاةِ إلَى بَيْتٍ إلَّا الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ غَيْرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ لِلنَّاسِ حَجًّا إلَى غَيْرِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَوْ صِيَامَ شَهْرٍ مَفْرُوضٍ غَيْرَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَصَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا يُسَنُّ اسْتِلَامُهَا وَلَا تَقْبِيلُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ لَيْسَ لِلصَّلَاةِ عِنْدَهَا وَالدُّعَاءِ خُصُوصِيَّةٌ عَلَى سَائِرَ بِقَاعِ الْمَسْجِدِ . وَالصَّلَاةُ وَالدُّعَاءُ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَنَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْمُسْلِمِينَ

أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَهَا وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا فَتَحَ الْبَلَدَ قَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ : أَيْنَ تَرَى أَنْ أَبْنِي مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ : ابْنِهِ خَلْفَ الصَّخْرَةِ . قَالَ خَالَطَتْك يَهُودِيَّةٌ يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ بَلْ أَبْنِيهِ أَمَامَهَا ؛ فَإِنَّ لَنَا صُدُورُ الْمَسَاجِدِ . فَبَنَى هَذَا الْمُصَلَّى الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ " الْأَقْصَى " . وَلَمْ يَتَمَسَّحْ بِالصَّخْرَةِ وَلَا قَبَّلَهَا وَلَا صَلَّى عِنْدَهَا كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمَّا قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ قَالَ . وَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُك لَمَا قَبَّلْتُك . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا أَتَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى يُصَلِّي فِيهِ وَلَا يَأْتِي الصَّخْرَةَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ . وَكَذَلِكَ حُجْرَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُجْرَةُ الْخَلِيلِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمَدَافِنِ الَّتِي فِيهَا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ صَالِحٌ : لَا يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُهَا وَلَا التَّمَسُّحُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا السُّجُودُ لِذَلِكَ فَكُفْرٌ وَكَذَلِكَ خِطَابُهُ بِمِثْلِ مَا يُخَاطَبُ بِهِ الرَّبُّ : مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ : اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي أَوْ اُنْصُرْنِي عَلَى عَدُوِّي وَنَحْوَ ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْأَشْجَارُ وَالْأَحْجَارُ وَالْعُيُونُ وَنَحْوُهَا مِمَّا يَنْذِرُ لَهَا بَعْضُ الْعَامَّةِ

أَوْ يُعَلِّقُونَ بِهَا خِرَقًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ أَوْ يَأْخُذُونَ وَرَقَهَا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ أَوْ يُصَلُّونَ عِنْدَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ وَهُوَ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ { كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ شَجَرَةٌ يُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُسَمُّونَهَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ قُلْتُمْ : كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى { اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } إنَّهَا السُّنَنُ لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ : شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي الطَّرِيقِ لَفَعَلْتُمُوهُ } . وَقَدْ بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ قَوْمًا يَقْصِدُونَ الصَّلَاةَ عِنْدَ " الشَّجَرَةِ " الَّتِي كَانَتْ تَحْتَهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ الَّتِي بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ تَحْتَهَا فَأَمَرَ بِتِلْكَ الشَّجَرَةِ فَقُطِعَتْ . وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الدِّينِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ عِبَادَةً فِي بُقْعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْبِقَاعِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَذْرًا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ وَلَا مَزِيَّةَ لِلْعِبَادَةِ فِيهَا .
فَصْلٌ :
وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بُقْعَةٌ تُقْصَدُ لِعِبَادَةِ

اللَّهِ فِيهَا بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ وَمَشَاعِرُ الْحَجِّ . وَأَمَّا الْمَشَاهِدُ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ مَسَاجِدَ أَوْ لَمْ تُجْعَلْ أَوْ الْمَقَامَاتُ الَّتِي تُضَافُ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ الصَّالِحِينَ أَوْ الْمَغَارَاتُ وَالْكُهُوفُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ : مِثْلُ " الطُّورِ " الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى وَمِثْلُ " غَارِ حِرَاءَ " الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَنَّثُ فِيهِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ و " الْغَارِ " الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ } وَالْغَارِ الَّذِي بِجَبَلِ قاسيون بِدِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ " مَغَارَةُ الدَّمِ " وَالْمَقَامَانِ اللَّذَانِ بِجَانِبَيْهِ الشَّرْقِيِّ وَالْغَرْبِيِّ : يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا : " مَقَامُ إبْرَاهِيمَ " وَيُقَالُ لِلْآخَرِ : " مَقَامُ عِيسَى " وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْبِقَاعَ وَالْمَشَاهِدَ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا : فَهَذِهِ لَا يُشْرَعُ السَّفَرُ إلَيْهَا لِزِيَارَتِهَا وَلَوْ نَذَرَ نَاذِرٌ السَّفَرَ إلَيْهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ - وَهُوَ يُرْوَى عَنْ غَيْرِهِمَا - أَنَّهُ قَالَ " { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } . وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحُوا هَذِهِ الْبِلَادَ بِلَادَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَخُرَاسَانَ وَالْمَغْرِبِ وَغَيْرِهَا لَا يَقْصِدُونَ هَذِهِ الْبِقَاعَ وَلَا يَزُورُونَهَا وَلَا يَقْصِدُونَ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ فِيهَا . بَلْ كَانُوا

مُسْتَمْسِكِينَ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّهِمْ : يَعْمُرُونَ الْمَسَاجِدَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } وَقَالَ : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } . وَأَمْثَالَ هَذِهِ النُّصُوصِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لَا يُنْهِزُهُ إلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ : كَانَتْ خُطْوَتَاهُ إحْدَاهُمَا تَرْفَعُ دَرَجَةً وَالْأُخْرَى تَحُطُّ خَطِيئَةً . فَإِذَا جَلَسَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ كَانَ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَإِذَا قَضَى الصَّلَاةَ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِهِمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ : تَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ } . وَقَدْ تَنَازَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيمَنْ سَافَرَ لِزِيَارَةِ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَاهِدِ . وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ قَالُوا : إنَّ هَذَا سَفَرُ مَعْصِيَةٍ وَلَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِيهِ كَمَا لَا يَقْصُرُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ : أَنَّ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ فِي الْإِسْلَامِ . بَلْ نَفْسُ قَصْدِ هَذِهِ الْبِقَاعِ لِلصَّلَاةِ فِيهَا وَالدُّعَاءِ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي شَرِيعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ - رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ هَذِهِ الْبِقَاعَ لِلدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ ؛ بَلْ لَا يَقْصِدُونَ إلَّا مَسَاجِدَ اللَّهِ بَلْ الْمَسَاجِدُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لَا يَقْصِدُونَهَا أَيْضًا كَمَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } . بَلْ الْمَسَاجِدُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا وَبِنَاؤُهَا مُحَرَّمٌ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ ؛ لِمَا اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَقَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : " { لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ } وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَكَانَتْ " حُجْرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خَارِجَةً عَنْ مَسْجِدِهِ فَلَمَّا كَانَ فِي إمْرَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ

عَامِلِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ - أَنْ يَزِيدَ فِي الْمَسْجِدِ . فَاشْتَرَى حُجَرَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ شَرْقِيِّ الْمَسْجِدِ وَقِبْلَتَهُ فَزَادَهَا فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَتْ الْحُجْرَةُ إذْ ذَاكَ فِي الْمَسْجِدِ وَبَنَوْهَا مُسَنَّمَةً عَنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ لِئَلَّا يُصَلِّيَ أَحَدٌ إلَيْهَا . وَكَذَلِكَ " قَبْرُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ " لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ كَانَ عَلَيْهِ السُّورُ السُّلَيْمَانِيُّ وَلَا يَدْخُلُ إلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عِنْدَهُ بَلْ كَانَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ بِقَرْيَةِ الْخَلِيلِ بِمَسْجِدِ هُنَاكَ وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى أَنْ نُقِبَ ذَلِكَ السُّورُ ثُمَّ جُعِلَ فِيهِ بَابٌ . وَيُقَالُ : إنَّ النَّصَارَى هُمْ نَقَبُوهُ وَجَعَلُوهُ كَنِيسَةً ثُمَّ لَمَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ الْبِلَادَ جُعِلَ ذَلِكَ مَسْجِدًا ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ الصَّالِحُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُصَلُّونَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ . هَذَا إذَا كَانَ الْقَبْرُ صَحِيحًا فَكَيْفَ وَعَامَّةُ الْقُبُورِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى الْأَنْبِيَاءِ كَذِبٌ مِثْلُ الْقَبْرِ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ " قَبْرُ نُوحٍ " فَإِنَّهُ كَذِبٌ لَا رَيْبَ فِيهِ وَإِنَّمَا أَظْهَرَهُ الْجُهَّالُ مِنْ مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ وَكَذَلِكَ قَبْرُ غَيْرِهِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " عَسْقَلَانُ " فَإِنَّهَا كَانَتْ ثَغْرًا مِنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ صَالِحُو

الْمُسْلِمِينَ يُقِيمُونَ بِهَا لِأَجْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهَكَذَا سَائِرُ الْبِقَاعِ الَّتِي مِثْلُ هَذَا الْجِنْسِ مِثْلُ " جَبَلِ لُبْنَانَ " و " الإسكندرية " وَمِثْلُ " عبادان " وَنَحْوِهَا بِأَرْضِ الْعِرَاقِ وَمِثْلُ " قَزْوِينَ " وَنَحْوِهَا مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي كَانَتْ ثُغُورًا . فَهَذِهِ كَانَ الصَّالِحُونَ يَقْصِدُونَهَا ؛ لِأَجْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ مُجَاهِدًا وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ } وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ . وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّ الرِّبَاطَ بِالثُّغُورِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ بِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَطَةَ مَنْ جِنْسِ الْجِهَادِ وَالْمُجَاوَرَةَ مَنْ جِنْسِ الْحَجِّ . وَجِنْسُ الْجِهَادِ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ

وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَعْظِيمِ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ . ثُمَّ مِنْ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ مَا سَكَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ . وَمِنْهَا مَا خَرَبَ وَصَارَ ثَغْرًا غَيْرَ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ . وَالْبِقَاعُ تَتَغَيَّرُ أَحْكَامُهَا بِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ أَهْلِهَا . فَقَدْ تَكُونُ الْبُقْعَةُ دَارَ كُفْرٍ إذَا كَانَ أَهْلُهَا كُفَّارًا ثُمَّ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ إذَا أَسْلَمَ أَهْلُهَا كَمَا كَانَتْ مَكَّةُ - شَرَّفَهَا اللَّهُ - فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ وَقَالَ اللَّهُ فِيهَا : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } ثُمَّ لَمَّا فَتَحَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ وَهِيَ فِي نَفْسِهَا أُمُّ الْقُرَى وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إلَى اللَّهِ . وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ كَانَ فِيهَا الْجَبَّارُونَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } { قَالُوا يَا مُوسَى إنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } الْآيَاتُ وَقَالَ تَعَالَى لَمَّا أَنْجَى مُوسَى وَقَوْمَهُ مِنْ الْغَرَقِ : { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } وَكَانَتْ تِلْكَ الدِّيَارُ دِيَارَ

الْفَاسِقِينَ لَمَّا كَانَ يَسْكُنُهَا إذْ ذَاكَ الْفَاسِقُونَ ثُمَّ لَمَّا سَكَنَهَا الصَّالِحُونَ صَارَتْ دَارَ الصَّالِحِينَ . وَهَذَا أَصْلٌ يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ . فَإِنَّ الْبَلَدَ قَدْ تُحْمَدُ أَوْ تُذَمُّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِحَالِ أَهْلِهِ ثُمَّ يَتَغَيَّرُ حَالُ أَهْلِهِ فَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِيهِمْ ؛ إذْ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَوْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إلَّا بِالتَّقْوَى . النَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ } . وَكَتَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا لَمَّا آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِالشَّامِ وَسَلْمَانُ بِالْعِرَاقِ نَائِبًا لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ - أَنْ هَلُمَّ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ . فَكَتَبَ إلَيْهِ سَلْمَانُ : إنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الرَّجُلَ عَمَلُهُ .

فَصْلٌ :
وَقَدْ تَبَيَّنَ الْجَوَابُ فِي سَائِرِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّ قَصْدَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَمَا يُقَالُ إنَّهُ قَدَمُ نَبِيٍّ أَوْ أَثَرُ نَبِيٍّ أَوْ قَبْرُ نَبِيٍّ أَوْ قَبْرُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَوْ بَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ الْأَبْرَاجِ أَوْ الْغِيرَان : مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ الْمُنْكَرَةِ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَشْرَعْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا كَانَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ يَفْعَلُونَهُ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ وَذَرَائِعِ الْإِفْكِ . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إذَا عَثَرَ يَا جَاهَ مُحَمَّدٍ يَا لَلسِّتِّ نفيسة أَوْ يَا سَيِّدِي الشَّيْخُ فُلَانٌ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ اسْتِغَاثَتُهُ وَسُؤَالُهُ : فَهُوَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ ؛ فَإِنَّ الْمَيِّتَ سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ لَا يُدْعَى وَلَا يُسْأَلُ وَلَا يُسْتَغَاثُ بِهِ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا مَعَ الْبُعْدِ مَنْ قَبْرِهِ بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ دِينِ النَّصَارَى الَّذِينَ { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَمِنْ جِنْسِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ :

{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ النَّذْرُ لِلْقُبُورِ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ : كَالنَّذْرِ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ أَوْ لِلشَّيْخِ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِهِمْ : نَذْرُ مَعْصِيَةٍ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ ؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } فَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَبْنِي عَلَى الْقُبُورِ الْمَسَاجِدَ وَيُسْرِجُ فِيهَا السُّرُجَ :

كَالْقَنَادِيلِ وَالشَّمْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ هَذَا مَلْعُونًا فَاَلَّذِي يَضَعُ فِيهَا قَنَادِيلَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَشَمْعُدَانَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَيَضَعُهَا عِنْدَ الْقُبُورِ أَوْلَى بِاللَّعْنَةِ . فَمَنْ نَذَرَ زَيْتًا أَوْ شَمْعًا أَوْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ سِتْرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِيُجْعَلَ عِنْدَ قَبْرِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ الْقَرَابَةِ أَوْ الْمَشَايِخِ : فَهُوَ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ وَهَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَا نَذَرَهُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ الصَّالِحِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَنْفَعَ لَهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا عَمَلٌ صَالِحٌ يُثِيبُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ وَلَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . وَالْمُتَصَدِّقُ يَتَصَدَّقُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَلَا يَطْلُبُ أَجْرَهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ بَلْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } { إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } الْآيَةُ وَقَالَ عَنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ : { إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } . وَلِهَذَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ بِغَيْرِ اللَّهِ : مِثْلُ الَّذِي يَقُولُ : كَرَامَةً لِأَبِي بَكْرٍ وَلِعَلِيِّ أَوْ لِلشَّيْخِ فُلَانٍ ؛ أَوْ الشَّيْخِ فُلَانٍ ؛ بَلْ لَا يُعْطِي إلَّا مَنْ سَأَلَ

لِلَّهِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ إخْلَاصَ الدِّينِ لِلَّهِ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ : كَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ فَلَا يَصْلُحُ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا الصِّيَامُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا الْحَجُّ إلَّا إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَا الدُّعَاءُ إلَّا لِلَّهِ : قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } . وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَعْبُدَهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا . وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ . هَذَا كُلُّهُ لِأَنَّ دِينَ اللَّهِ بَلَّغَهُ عَنْهُ رَسُولُهُ . فَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ شَرَعُوا

فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فَحَرَّمُوا أَشْيَاءَ لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ : كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ والحام . وَشَرَعُوا دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ وَعِبَادَتِهِ والرهبانية الَّتِي ابْتَدَعَهَا النَّصَارَى . وَالْإِسْلَامُ دِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَكُلُّهُمْ بُعِثُوا بِالْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ } { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } { إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ } فَدِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ دِينٌ وَاحِدٌ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَشَرَعَهُ

كَمَا قَالَ : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ } وَإِنَّمَا يَتَنَوَّعُ فِي هَذَا الدِّينِ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ كَمَا قَالَ : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } كَمَا تَتَنَوَّعُ شَرِيعَةُ الرَّسُولِ الْوَاحِدِ . فَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ أَمَرَهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَهَذَا فِي وَقْتِهِ كَانَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ فِي وَقْتِهَا كَانَتْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَشَرِيعَةُ الْإِنْجِيلِ فِي وَقْتِهِ كَانَتْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ آمَنَ بِالتَّوْرَاةِ ثُمَّ كَذَّبَ بِالْإِنْجِيلِ خَرَجَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ كَافِرًا وَكَذَلِكَ مَنْ آمَنَ بِالْكِتَابَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَكَذَّبَ بِالْقُرْآنِ كَانَ كَافِرًا خَارِجًا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَجَمِيعِ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } الْآيَةُ .

مَا قَوْلُ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ :
فِي مَنْ يَنْزِلُ بِهِ حَاجَةٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا أَوْ الْآخِرَةِ ثُمَّ يَأْتِي قَبْرَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الصُّلَحَاءِ ثُمَّ يَدْعُو عِنْدَهُ فِي كَشْفِ كُرْبَتِهِ . فَهَلْ ذَلِكَ سُنَّةٌ أَمْ بِدْعَةٌ ؟ وَهَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ فَقَدْ تُقْضَى حَوَائِجُهُمْ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ فَهَلْ يَسُوغُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ ؟ وَمَا الْعِلَّةُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ ؟ أَفْتُونَا .
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَيْسَ ذَلِكَ سُنَّةً ؛ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ الَّذِينَ يَقْتَدِي بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ وَلَا أَمَرَ بِذَلِكَ وَلَا اسْتَحَبَّهُ : لَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا أَئِمَّةُ الدِّينِ ؛ بَلْ لَا يُعْرَفُ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ : مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ لَا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَلَا مِنْ الْيَمَنِ وَلَا الشَّامِ وَلَا الْعِرَاقِ وَلَا مِصْرَ وَلَا الْمَغْرِبِ وَلَا خُرَاسَانَ ؛ وَإِنَّمَا أُحْدِثَ بَعْدَ ذَلِكَ .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَسُنَّهُ وَلَا اسْتَحَبَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقْتَدِي بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ فِي مِثْلِ هَذَا إنَّهُ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ ؛ إذَا الْبِدْعَةُ الْحَسَنَةُ - عِنْدَ مَنْ يُقَسِّمُ الْبِدَعَ إلَى حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ - لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ وَيَقُومُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا وَكَذَلِكَ مَنْ يَقُولُ : الْبِدْعَةُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا مَذْمُومَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَيَقُولُ قَوْلُ عُمَرَ فِي التَّرَاوِيحِ : " نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ " إنَّمَا أَسْمَاهَا بِدْعَةً : بِاعْتِبَارِ وَضْعِ اللُّغَةِ . فَالْبِدْعَةُ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ . وَمَآلُ الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ ؛ إذْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُسْتَحَبَّ أَوْ يَجِبُ مِنْ الشَّرْعِ فَلَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ ؛ فَمَنْ اتَّخَذَ عَمَلًا مِنْ الْأَعْمَالِ عِبَادَةً وَدِينًا وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا فَهُوَ ضَالٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَصْدُ الْقُبُورِ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ عِنْدَهَا رَجَاءَ الْإِجَابَةِ : هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الشَّرِيعَةِ : لَا وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا ؛ فَلَا يَكُونُ دِينًا وَلَا حَسَنًا وَلَا طَاعَةً لِلَّهِ وَلَا مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَلَا يَكُونُ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا قُرْبَةً وَمَنْ جَعَلَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَهُوَ ضَالٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .

وَلِهَذَا : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَزَلَتْ بِهِمْ الشَّدَائِدُ وَأَرَادُوا دُعَاءَ اللَّهِ لِكَشْفِ الضُّرِّ أَوْ طَلَبِ الرَّحْمَةِ : لَا يَقْصِدُونَ شَيْئًا مِنْ الْقُبُورِ لَا قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ أَبِي طَالِبٍ : وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ * * * ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
وَفِيهِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : رُبَّمَا ذَكَرْت قَوْلَ الشَّاعِرِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي فِيمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ لَهُ مِيزَابٌ : وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ وَكَذَلِكَ مُعَاوِيَةُ بِالشَّامِ اسْتَسْقَوْا بيزيد بْنِ الْأَسْوَدِ الجرشي . وَكَانُوا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَأْتُونَ إلَيْهِ وَيَطْلُبُونَ

مِنْهُ الدُّعَاءَ يَتَوَسَّلُونَ بِهِ وَيَسْتَشْفِعُونَ بِهِ إلَى اللَّهِ ؛ كَمَا أَنَّ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتُونَ إلَيْهِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ إلَى اللَّهِ ثُمَّ لَمَّا مَاتَ وَأَصَابَهُمْ الْجَدْبُ عَامَ الرَّمَادَةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَكَانَتْ شِدَّةٌ عَظِيمَةٌ أَخَذُوا الْعَبَّاسَ فَتَوَسَّلُوا بِهِ وَاسْتَسْقَوْا بِهِ بَدَلًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْتُوا إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَ عِنْدَهُ وَلَا اسْتَسْقَوْا بِهِ وَلَا تَوَسَّلُوا بِهِ . وَكَذَلِكَ فِي الشَّامِ لَمْ يَذْهَبُوا إلَى مَا فِيهَا مِنْ الْقُبُورِ ؛ بَلْ اسْتَسْقَوْا بِمَنْ فِيهِمْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الدُّعَاءُ عِنْدَ الْقُبُورِ وَالتَّوَسُّلُ بِالْأَمْوَاتِ مِمَّا يُسْتَحَبُّ لَهُمْ لَكَانَ التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ مِنْ التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ كَانُوا يَسْتَسْقُونَ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ " تَارَةً : يَدْعُونَ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ . وَتَارَةً : يَخْرُجُونَ إلَى الْمُصَلَّى فَيَدْعُونَ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ وَتَارَةً يُصَلُّونَ وَيَدْعُونَ . وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ مَشْرُوعَانِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَلَمْ يَعْرِفْهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَدْ أُمِرُوا فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِأَنْ يَسْتَسْقُوا بِأَهْلِ الصَّلَاحِ ؛ لَا سِيَّمَا بِأَقَارِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ . وَأُمِرُوا بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ . وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالِاسْتِسْقَاءِ عِنْدَ شَيْءٍ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا الِاسْتِعَانَةِ

بِمَيِّتِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ دِينًا وَقُرْبَةً . وَهَذَا فِيهِ دِلَالَةٌ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ مُحْدَثَاتٌ لَمْ تَكُنْ عِنْدَ الصَّحَابَةِ مِنْ الْمَعْرُوفِ بَلْ مِنْ الْمُنْكَرِ .
فَصْلٌ :
وَهَذَا كَافٍ لَوْ لَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ النَّهْيِ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ ؛ كَيْفَ وَسُنَّتُهُ الْمُتَوَاتِرَةُ تَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ . مِثْلَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَلَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ ؛ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ - أَوْ خُشِيَ - أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَهَذَا بَعْضُ أَلْفَاظِ الْبُخَارِيِّ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { لَمَّا كَانَ مَرَضُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ . يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ وَذَكَرْنَ مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ وَقَالَ : إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ } .

وَهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَفِيضٌ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ - أَوْ قَالَ - قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَفِيهِ : { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ } وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ وَفِيهِ : { لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ ؛ إلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ } . بَيْنَ هَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ تَوَاتَرَا عَنْهُ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ : مِنْ ذِكْرِ فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ وَمِنْ نَهْيِهِ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ فَبِهِمَا حَسْمُ مَادَّةِ الشِّرْكِ الَّتِي أُفْسِدَ بِهَا الدِّينُ وَظَهَرَ بِهَا دِينُ الْمُشْرِكِينَ . فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا } . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : صَارَتْ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ تُعْبَدُ ؛ أَمَّا ( وَدٌّ : فَكَانَتْ لِكَلْبِ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَمَّا ( سُوَاعٌ : فَكَانَتْ لهذيل وَأَمَّا ( يَغُوثُ : فَكَانَتْ لِمُرَادِ ثُمَّ لِبَنِي غطيف بِالْجَرْفِ عِنْدَ سَبَأٍ وَأَمَّا ( يَعُوقُ : فَكَانَتْ لهمدان وَأَمَّا ( نَسْرٌ : فَكَانَتْ لَحِمْيَرَ لِآلِ ذِي

الْكَلَامِ ؛ وَكَانَتْ أَسْمَاءَ رِجَالٍ صَالِحِينَ مَنَّ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا : أَوْحَى الشَّيْطَانُ إلَى قَوْمِهِمْ : أَنْ انْصِبُوا إلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا وَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ . وَقَدْ ذَكَرَ قَرِيبًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى طَوَائِفُ مَنْ السَّلَفِ فِي " كُتُبِ التَّفْسِيرِ " . و " قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ " وَغَيْرِهَا : أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْكُفُونَ عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَصْحَبُونَ تَمَاثِيلَهُمْ مَعَهُمْ فِي السَّفَرِ يَدْعُونَ عِنْدَهَا وَلَا يَعْبُدُونَهَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ : عُبِدَتْ الْأَوْثَانُ . وَلِهَذَا : جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْقُبُورِ وَالصُّوَرِ ؛ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { أَبِي الهياج الأسدي قَالَ : قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : أَلَا أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَمَرَنِي أَنْ لَا أَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْته وَلَا تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْته } . فَأَمَرَهُ بِمَحْوِ الصُّوَرِ وَتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ : { إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخُلُقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَالْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ

الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَالصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ : كَثِيرَةٌ جِدًّا مِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَمَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَأَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ . وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَأَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ . وَرَوَى أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ مَنْ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الغنوي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُصَلُّوا إلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا } . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ : الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ } رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَى أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُصَلَّى بَيْنَ الْقُبُورِ } وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

{ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ } رَوَاهُ أَحْمَد وَأَهْلُ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : فِيهِ اضْطِرَابٌ ؛ لِأَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ أَرْسَلَهُ ؛ لَكِنَّ غَيْرَ التِّرْمِذِيِّ جَزَمَ بِصِحَّتِهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الثِّقَاتِ أَسْنَدُوهُ وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ أَيْضًا . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد { عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : إنَّ خَلِيلِي نَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْمَقْبَرَةِ وَنَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي أَرْضِ بَابِلَ } . وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا .
وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ نُهِيَ عَنْهَا مِنْ أَجْلِ النَّجَاسَةِ ؛ لِاخْتِلَاطِ تُرْبَتِهَا بِصَدِيدِ الْمَوْتَى وَلُحُومِهِمْ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَقْبَرَةِ الْجَدِيدَةِ . وَالْقَدِيمَةُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَائِلٌ أَوْ لَا يَكُونَ . وَالتَّعْلِيلُ بِهَذَا لَيْسَ مَذْكُورًا فِي الْحَدِيثِ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا وَإِنَّمَا هِيَ عِلَّةٌ ظَنُّوهَا وَالْعِلَّةُ الصَّحِيحَةُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي زَمَنِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : إنَّمَا هُوَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَنْ تَصِيرَ ذَرِيعَةً إلَى الشِّرْكِ ؛ وَلِهَذَا نَهَى عَنْ اتِّخَاذِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ . وَقَالَ : { إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ } . وَقَالَ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّهْيَ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ . فَمَقَابِرُ الْأَنْبِيَاءِ لَا تُنْتِنُ بَلْ الْأَنْبِيَاءُ لَا يَبْلُونَ وَتُرَابُ قُبُورِهِمْ طَاهِرٌ وَالنَّجَاسَةُ أَمَامَ الْمُصَلِّي لَا تُبْطِلُ صَلَاتَهُ وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ كَانُوا يَفْرِشُونَ عِنْدَ الْقُبُورِ الْمَفَارِشَ الطَّاهِرَةَ فَلَا يُلَاقُونَ النَّجَاسَةَ وَمَعَ أَنَّ الَّذِينَ يُعَلِّلُونَ بِالنَّجَاسَةِ لَا يَنْفُونَ هَذِهِ الْعِلَّةَ ؛ بَلْ قَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ النَّهْيَ عَنْ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِخَشْيَةِ التَّشَبُّهِ بِذَلِكَ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ ؛ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمِنْ فُقَهَاءَ الْكُوفَةِ أَيْضًا وَصَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ بَعْدَ لَعْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُبَالَغَتِهِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ . وَاِتِّخَاذُهَا مَسَاجِدُ يَتَنَاوَلُ شَيْئَيْنِ : أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا مَسْجِدًا أَوْ يُصَلِّيَ عِنْدَهَا مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ وَهُوَ الَّذِي خَافَهُ هُوَ وَخَافَتْهُ الصَّحَابَةُ إذَا دَفَنُوهُ بَارِزًا : خَافُوا أَنْ يُصَلَّى عِنْدَهُ فَيُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا . وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } رُوِيَ ذَلِكَ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا . وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } . وَمَا يَرْوِيهِ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِمَسْجِدِ الْخَلِيلِ أَوْ صَلَّى عِنْدَ قَبْرِ الْخَلِيلِ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ ثَابِتٍ عِنْدَ

أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ تُوصَفُ بِالصَّلَاحِ ؛ بَلْ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ } . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الدُّعَاءُ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ غَيْرِهَا لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَحَبَّ الصَّلَاةُ فِي تِلْكَ الْبِقَاعِ وَاِتِّخَاذُهَا مَسَاجِدَ ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَقْرُونَةٌ بِالدُّعَاءِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَقُولُ مُسْلِمٌ إنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ كَأَعْطَانِ الْإِبِلِ أَوْ الْمَقْبَرَةِ وَالْمَوَاضِعِ النَّجِسَةِ يَكُونُ الدُّعَاءُ فِيهِ أَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ فِي غَيْرِهِ ؛ بَلْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ : فَقَدْ رَاغَمَ الرَّسُولَ وَجَعَلَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الشِّرْكِ وَأَسْبَابِ الشِّرْكِ مُمَاثِلًا أَوْ مُفَضَّلًا عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ . وَمِنْ هُنَا أَدْخَلَ أَهْلُ النِّفَاقِ فِي الْإِسْلَامِ مَا أَدْخَلُوهُ فَإِنَّ الَّذِي ابْتَدَعَ دِينَ الرَّافِضَةِ كَانَ زِنْدِيقًا يَهُودِيًّا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ الْكُفْرَ لِيَحْتَالَ فِي إفْسَادِ دِينِ الْمُسْلِمِينَ - كَمَا احْتَالَ بُولِصَ " فِي إفْسَادِ دِينِ النَّصَارَى - سَعَى فِي الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قُتِلَ عُثْمَانُ وَفِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَسْتَجِيبُ لِلْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا تَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ ابْتَدَعَ مَا ادَّعَاهُ فِي الْإِمَامَةِ مِنْ النَّصِّ وَالْعِصْمَةِ وَأَظْهَرَ التَّكَلُّمَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . وَصَادَفَ ذَلِكَ قُلُوبًا فِيهَا جَهْلٌ وَظُلْمٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَافِرَةً ؛ فَظَهَرَتْ بِدْعَةُ التَّشَيُّعِ الَّتِي هِيَ مِفْتَاحُ بَابِ الشِّرْكِ

ثُمَّ لَمَّا تَمَكَّنَتْ الزَّنَادِقَةُ أَمَرُوا بِبِنَاءِ الْمَشَاهِدِ وَتَعْطِيلِ الْمَسَاجِدِ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّهُ لَا تُصَلَّى الْجُمْعَةُ وَالْجَمَاعَةُ إلَّا خَلْفَ الْمَعْصُومِ . وَرَوَوْا فِي إنَارَةِ الْمَشَاهِدِ وَتَعْظِيمِهَا وَالدُّعَاءِ عِنْدَهَا مِنْ الْأَكَاذِيبِ مَا لَمْ أَجِدْ مِثْلَهُ فِيمَا وَقَفْت عَلَيْهِ مِنْ أَكَاذِيبِ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ حَتَّى صَنَّفَ كَبِيرُهُمْ ابْنُ النُّعْمَانِ كِتَابًا فِي " مَنَاسِكَ حَجِّ الْمَشَاهِدِ " وَكَذَبُوا فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَكَاذِيبَ بَدَّلُوا بِهَا دِينَهُ وَغَيَّرُوا مِلَّتَهُ . وَابْتَدَعُوا الشِّرْكَ الْمُنَافِيَ لِلتَّوْحِيدِ فَصَارُوا جَامِعِينَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكَذِبِ كَمَا قَرَنَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } { حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } { وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } } . وَهَذَا الْحَقُّ لِلَّهِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ؟ قَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : حَقُّهُ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا

حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ؟ قَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ إنْ أَنْتُمْ إلَّا مُفْتَرُونَ } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ مُتَعَدِّدٌ : يَصِفُ أَهْلَ الشِّرْكِ بِالْفِرْيَةِ ؟ وَلِهَذَا طَالَبَهُمْ بِالْبُرْهَانِ وَالسُّلْطَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } وَفِي قَوْلِهِ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَقَالَ : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إلَيْهِ ثُمَّ إذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } { لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } { أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } . وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } لِأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْأَوَّلِينَ والآخرين كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ

لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تناصحوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ } . وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ لَمَّا كَانَ فِيهِمْ مِنْ الشِّرْكِ مَا فِيهِمْ قَدْ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا . فَتَجِدُ كُلَّ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ مَتْبُوعَهُمْ أَوْ نَبِيَّهُمْ وَيَقُولُونَ : الدُّعَاءُ عِنْدَ قَبْرِهِ يُسْتَجَابُ وَقُلُوبُهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ كَمَا أَنَّ عُبَّادَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ كُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ فَهُوَ يَعْبُدُ مَا يَأْلَهُهُ ؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ . ثُمَّ إنَّهُمْ يُسَمُّونَ ذَلِكَ " زِيَارَةً " وَهُوَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ وَضَعُوهُ عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ " الزِّيَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ " الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ : تَتَضَمَّنُ السَّلَامَ عَلَى الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءَ لَهُ ؛ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ فَالْمُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ قَصْدُهُ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ الْمَيِّتَ بِدُعَائِهِ وَيُثِيبُهُ هُوَ عَلَى صَلَاتِهِ كَذَلِكَ الَّذِي يَزُورُ الْقُبُورَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ يُرْحَمُونَ بِدُعَائِهِ

وَيُثَابُ هُوَ عَلَى إحْسَانِهِ إلَيْهِمْ وَأَيْنَ قَصْدُ النَّفْعِ لِلْمَيِّتِ مَنْ قَصْدِ الشِّرْكِ بِهِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بريدة قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ إذَا خَرَجُوا لِلْمَقَابِرِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ أَنْتُمْ لَنَا فَرْطٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَة } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْ عَائِشَةَ : قُلْت كَيْفَ أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : قُولِي : السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِين وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } .
وَتَجُوزُ : زِيَارَةُ قَبْرِ الْكَافِرِ لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ ؛ دُونَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى . وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ وَقَالَ : اسْتَأْذَنْت رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْته فِي أَنْ أَزُورَهَا فَأَذِنَ لِي . فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا } .
وَأَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ عِنْدَهَا أَوْ التَّوَسُّلِ بِهَا أَوْ الِاسْتِشْفَاعِ بِهَا ؛ فَهَذَا لَمْ تَأْتِ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَصْلًا ؛ وَكُلُّ مَا يُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ قَبْرَ أَبِي فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } وَ { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } و { مَنْ

زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } . فَهِيَ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ ؛ بَلْ مَوْضُوعَةٌ لَمْ يَرْوِ أَهْلُ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْهَا شَيْئًا . وَغَايَةُ مَا يُعْزَى مِثْلُ ذَلِكَ إلَى كِتَابِ الدارقطني وَهُوَ قَصَدَ بِهِ غَرَائِبَ السُّنَنِ ؛ وَلِهَذَا يَرْوِي فِيهِ مِنْ الضَّعِيفِ وَالْمَوْضُوعِ مَا لَا يَرْوِيهِ غَيْرُهُ وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْعَزْوِ إلَيْهِ لَا يُبِيحُ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ وَمَنْ كَتَبَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ فِيمَا يُرْوَى فِي ذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ . بَلْ قَدْ كَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يُقَالَ : زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَالِكٌ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذَا الْبَابِ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَعْلَمُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ بِذَلِكَ وَمَالِكٌ إمَامُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . فَلَوْ كَانَ فِي هَذَا سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا لَفْظُ " زِيَارَةِ قَبْرِهِ " لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ عَلَى عُلَمَاءِ أَهْلِ مَدِينَتِهِ وَجِيرَانِ قَبْرِهِ - بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي . وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّةُ عِنْد الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إذَا سَلَّمَ الْعَبْدُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَصَاحِبَيْهِ : أَنْ يَدْعُوَ اللَّهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَلَا يَدْعُوَ مُسْتَقْبِلَ الْحُجْرَةِ وَالْحِكَايَةُ الَّتِي تُرْوَى فِي خِلَافِ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ مَعَ الْمَنْصُورِ بَاطِلَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا . وَلَمْ أَعْلَمْ الْأَئِمَّةَ تَنَازَعُوا فِي أَنَّ السُّنَّةَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَقْتَ الدُّعَاءِ ؛ لَا اسْتِقْبَالُ الْقَبْرِ النَّبَوِيِّ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا وَقْتَ السَّلَامِ عَلَيْهِ . فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلَ

الْقَبْرِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مُسْتَدْبِرَ الْقَبْرِ . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ . فَإِذَا كَانَ الدُّعَاء فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْأَئِمَّةُ فِيهِ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ كَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَة وَكَرِهُوا اسْتِقْبَالَ الْقَبْرِ فَمَا الظَّنُّ بِقَبْرِ غَيْرِهِ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ قَصْدَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقُبُورِ : لَيْسَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ ذَكَرَ شَيْئًا يُخَالِفُ هَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْمَنَاسِكِ أَوْ غَيْرِهَا فَلَا حُجَّةَ مَعَهُ بِذَلِكَ وَلَا مَعَهُ نَقْلٌ عَنْ إمَامٍ مَتْبُوعٍ . وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَخَذَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ ؛ لِأَحَادِيثَ ظَنُّوهَا صَحِيحَةً وَهِيَ بَاطِلَةٌ أَوْ لِعَادَاتِ مُبْتَدَعَةٍ ظَنُّوهَا سُنَّةً بِلَا أَصْلٍ شَرْعِيٍّ . وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعُصُورِ الْمُفَضَّلَةِ " مَشَاهِدُ " عَلَى الْقُبُورِ وَإِنَّمَا ظَهَرَ ذَلِكَ وَكَثُرَ فِي دَوْلَةِ بَنِي بويه ؛ لَمَّا ظَهَرَتْ الْقَرَامِطَةُ بِأَرْضِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَانَ بِهَا زَنَادِقَةٌ كُفَّارٌ مَقْصُودُهُمْ تَبْدِيلُ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ فِي بَنِي بويه مِنْ الْمُوَافِقَةِ لَهُمْ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ وَمِنْ بِدَعِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فَبَنَوْا الْمَشَاهِدَ الْمَكْذُوبَةَ " كَمَشْهَدِ عَلِيٍّ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَمْثَالِهِ . وَصَنَّفَ أَهْلُ الْفِرْيَةِ الْأَحَادِيثَ فِي زِيَارَةِ الْمَشَاهِدِ وَالصَّلَاةِ عِنْدَهَا وَالدُّعَاءِ عِنْدَهَا وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ . فَصَارَ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ الْمُتَّبِعُونَ لَهُمْ يُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدَ وَيُهِينُونَ الْمَسَاجِدَ

وَذَلِكَ : ضِدُّ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَيَسْتَتِرُونَ بِالتَّشَيُّعِ . فَفِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ مِنْ تَعْظِيمِ الصِّدِّيقِ وَمِنْ النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ مَا فِيهِ رَدٌّ لِهَاتَيْنِ الْبِدْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا أَصْلُ الشِّرْكِ وَتَبْدِيلِ الْإِسْلَامِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ " الْمَشَاهِدَ " وَلَا أَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِيهَا وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْمَسَاجِدِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } وَلَمْ يَقُلْ : مَشَاهِدَ اللَّهِ ؛ بَلْ قَدْ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا أَنْ لَا يَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّاهُ وَلَا تِمْثَالًا إلَّا طَمَسَهُ } . وَنَهَى عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَلَعَنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهَذَا أَمْرٌ بِتَخْرِيبِ الْمَشَاهِدِ لَا بِعِمَارَتِهَا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ الْعِمَارَةُ الصُّورِيَّةُ أَوْ الْمَعْنَوِيَّةُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَلَمْ يَقُلْ فِي الْمَشَاهِدِ وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وَلَمْ يَقُلْ عِنْدَ كُلِّ مَشْهَدٍ . وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ } وَلَمْ يَقُلْ مَشَاهِدَ اللَّهِ ؛ إذْ عُمَّارُ الْمَشَاهِدِ هُمْ مُشْرِكُونَ أَوْ مُتَشَبِّهُونَ بِالْمُشْرِكِينَ . إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ } وَلَمْ يَقُلْ إنَّمَا يَعْمُرُ مَشَاهِدَ اللَّهِ . بَلْ عُمَّارُ الْمَشَاهِدِ يَخْشَوْنَ غَيْرَ اللَّهِ ؛ فَيَخْشَوْنَ الْمَوْتَى وَلَا يَخْشَوْنَ

اللَّهَ ؛ إذْ عَبَدُوهُ عِبَادَةً لَمْ يُنَزِّلْ بِهَا سُلْطَانًا وَلَا جَاءَ بِهَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُنَاظَرَتِهِ لِلْمُشْرِكِينَ لَمَّا حَاجُّوهُ وَخَوَّفُوهُ آلِهَتَهُمْ : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } } ؟ قَالَ تَعَالَى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُ . بِالْعِلْمِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَلَمْ يَقُلْ وَأَنَّ الْمَشَاهِدَ لِلَّهِ بَلْ أَهْلُ الْمَشَاهِدِ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ . وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ الَّتِي تُسَمَّى " الْمَشَاهِدَ " وَتَعْظِيمُهَا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ ؛ لَمْ يَحْفَظْ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَنَا : أَنْ يَحْفَظَ الذِّكْرَ الَّذِي أَنْزَلَهُ كَمَا قَالَ : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } فَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْكِتَابِ

وَالْحِكْمَةِ مَحْفُوظٌ وَأَمَّا أَمْرُ الْمَشَاهِدِ فَغَيْرُ مَحْفُوظٍ بَلْ عَامَّةُ الْقُبُورِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدُ إمَّا مَشْكُوكٌ فِيهَا وَإِمَّا مُتَيَقَّنٌ كَذِبُهَا مِثْلُ الْقَبْرِ الَّذِي بِكْرك الَّذِي يُقَالُ : إنَّ بِهِ نُوحٌ وَاَلَّذِي بِظَاهِرِ دِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ قَبْرُ أبي بْنِ كَعْبٍ وَاَلَّذِي مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى الَّذِي يُقَالُ : إنَّهُ قَبْرُ أُوَيْسٍ القرني وَالْقُبُورُ الَّتِي هُنَاكَ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا قَبْرُ عَائِشَةَ أَوْ أُمِّ سَلَمَةَ - زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أُمِّ حَبِيبَةَ أَوْ قَبْرُ عَلِيٍّ الَّذِي بِبَاطِنَةِ النَّجَفِ أَوْ الْمَشْهَدُ الَّذِي يُقَالُ : إنَّهُ عَلَى الْحُسَيْنِ بِالْقَاهِرَةِ وَالْمَشْهَدُ الَّذِي بِحَلَبِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ ؛ فَهَذِهِ كُلُّهَا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَأَمَّا الْقَبْرُ الَّذِي يُقَالُ : إنَّهُ " قَبْرُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ " بحمص وَاَلَّذِي يُقَالُ : إنَّهُ قَبْرُ أَبِي مُسْلِمٍ الخولاني بداريا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ : فَهَذِهِ مَشْكُوكٌ فِيهَا وَقَدْ نَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمَيِّتَ : قَدْ تُوُفِّيَ بِأَرْضِ وَلَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ مَكَانُ قَبْرِهِ : كَقَبْرِ بِلَالٍ وَنَحْوِهِ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ وَكَقَبْرِ فَاطِمَةَ بِالْمَدِينَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَعَامَّةُ مَنْ يُصَدِّقُ بِذَلِكَ يَكُونُ عَلِمَ بِهِ : إمَّا مَنَامًا وَإِمَّا نَقْلًا لَا يُوثَقُ بِهِ وَإِمَّا غَيْرَ ذَلِكَ . وَمِنْ هَذِهِ الْقُبُورِ مَا قَدْ يُتَيَقَّنُ ؛ لَكِنْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُبْتَدَعَةِ . وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَسِدُّونَ هَذَا الْبَابَ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا فَتَحُوا تُسْتَرَ وَجَدُوا هُنَاكَ سَرِيرَ مَيِّتٍ بَاقٍ . ذَكَرُوا أَنَّهُ " دَانْيَالَ "

وَوَجَدُوا عِنْدَهُ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُ الْحَوَادِثِ وَكَانَ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ يَسْتَسْقُونَ بِهِ . فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إلَى عُمَرَ . فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنْ يُحْفَرَ بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا ثُمَّ يُدْفَنَ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَيُعْفَى قَبْرُهُ ؛ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ النَّاسُ بِهِ . وَهَذَا كَمَا نَقَلُوا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ بَلَغَهُ : أَنَّ أَقْوَامًا يَزُورُونَ الشَّجَرَةَ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَيُصَلُّونَ هُنَاكَ فَأَمَرَ بِقَطْعِ الشَّجَرَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى قَوْمًا يَنْتَابُونَ بُقْعَةً يُصَلُّونَ فِيهَا فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : هَذَا مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : وَمَكَانٌ صَلَّى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ إنَّمَا هَلَكَ بَنُو إسْرَائِيلَ بِهَذَا . مَنْ أَدْرَكَتْهُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ . وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مَا يُعَارِضُ بِهِ ذَلِكَ ؛ إلَّا حِكَايَةٌ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَتْ لَكُمْ إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ ؛ فَادْعُوهُ عِنْدَ قَبْرِي أَوْ قَالَ : قَبْرُ فُلَانٍ هُوَ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ صِدْقًا وَقَدْ تَكُونُ كَذِبًا وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا : فَإِنَّ قَائِلَهَا غَيْرُ مَعْصُومٍ . وَمَا يُعَارِضُ النَّقْلَ الثَّابِتَ عَنْ الْمَعْصُومِ بِنَقْلِ غَيْرِ ثَابِتٍ عَنْ غَيْرِ مَعْصُومٍ إلَّا مَنْ يَكُونُ مِنْ الضَّالِّينَ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ . وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ وَتَغْيِيرِ الدِّينِ .

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْحَوَائِجَ تُقْضَى لَهُمْ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ فَهَلْ يُسَوِّغُ ذَلِكَ لَهُمْ قَصْدَهَا ؟ فَيُقَالُ : لَيْسَ ذَلِكَ مُسَوِّغُ قَصْدِهَا لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ يُقْضَى كَثِيرٌ مِنْ حَوَائِجِهِمْ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ الْأَصْنَامِ وَعِنْدَ تَمَاثِيلِ الْقِدِّيسِينَ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي يُعَظِّمُونَهَا ؛ وَتَعْظِيمُهَا حَرَامٌ فِي زَمَنِ الْإِسْلَامِ . فَهَلْ يَقُولُ مُسْلِمٌ : إنَّ مِثْلَ ذَلِكَ سَوَّغَ لَهُمْ هَذَا الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا تَجِدُ عِنْدَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ مِنْ الْأَسْبَابِ - الَّتِي بِهَا ابْتَدَعُوا مَا ابْتَدَعُوهُ - إلَّا تَجِدُ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جِنْسِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ مَا أَوْقَعَهُمْ فِي كُفْرِهِمْ وَأَشَدُّ وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا : وَجَدَهُ فِي عَامَّةِ الْأُمُورِ فَإِنَّ الْبِدَعَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكُفْرِ وَكَمَالُ الْإِيمَانِ : هُوَ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ فَإِذَا تَرَكَ بَعْضَ الْمَأْمُورِ وَعَوَّضَ عَنْهُ بِبَعْضِ الْمَحْظُورِ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ نَقْصِ الْإِيمَانِ بِقَدْرِ ذَلِكَ . وَالْبِدْعَةُ لَا تَكُونُ حَقًّا مَحْضًا ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكَانَتْ مَشْرُوعَةً وَلَا تَكُونُ مَصْلَحَتُهَا رَاجِحَةً عَلَى مَفْسَدَتِهَا ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكَانَتْ مَشْرُوعَةً وَلَا تَكُونُ بَاطِلًا مَحْضًا لَا حَقَّ فِيهِ ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا اشْتَبَهَتْ عَلَى أَحَدٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِيهَا بَعْضُ الْحَقِّ وَبَعْضُ الْبَاطِلِ . وَكَذَلِكَ دِينُ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كُلَّ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ كَذِبًا وَكُلُّ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ فَسَادًا ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي خَبَرِهِمْ صِدْقٌ

وَفِي أَمْرِهِمْ نَوْعٌ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَمَعَ هَذَا فَهُمْ كُفَّارٌ بِمَا تَرَكُوهُ مِنْ الْحَقِّ وَأَتَوْهُ مِنْ الْبَاطِلِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْبَابَ يَكْثُرُ فِيهِ الْكَذِبُ جِدًّا ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكَذِبُ مَقْرُونًا بِالشِّرْكِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَالصِّدْقُ مَقْرُونًا بِالْإِخْلَاصِ فَالْمُؤْمِنُونَ أَهْلُ صِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ وَالْكُفَّارُ أَهْلُ كَذِبٍ وَشِرْكٍ وَكَانَ فِي هَذِهِ الْمَشَاهِدِ مِنْ الشِّرْكِ مَا فِيهَا : اقْتَرَنَ بِهَا الْكَذِبُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ . مِنْهَا : دَعْوَى أَنَّ هَذَا قَبْرُ فُلَانٍ الْمُعَظَّمِ أَوْ رَأْسُهُ ؛ فَفِي ذَلِكَ كَذِبٌ كَثِيرٌ . وَالثَّانِي : الْإِخْبَارُ عَنْ أَحْوَالِهِ بِأُمُورِ يَكْثُرُ فِيهَا الْكَذِبُ . وَالثَّالِثُ : الْإِخْبَارُ بِمَا يُقْضَى عِنْدَهُ مِنْ الْحَاجَاتِ فَمَا أَكْثَرَ مَا يَحْتَالُ الْمُعَظِّمُونَ لِلْقَبْرِ بِحِيَلِ يُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ حَصَلَ بِهِ خَرْقُ عَادَةٍ أَوْ قَضَاءُ حَاجَةٍ وَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُخْبِرُ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ ذَلِكَ أُمُورًا كَثِيرَةً جِدًّا . الرَّابِعُ : الْإِخْبَارُ بِنِسَبِ الْمُتَّصِلِينَ بِهِ مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ يَدَّعِي الِانْتِسَابَ إلَى قَبْرِ ذَلِكَ الْمَيِّتِ إمَّا بِبُنُوَّةِ . وَإِمَّا بِغَيْرِ بُنُوَّةٍ حَتَّى رَأَيْت مَنْ يَدَّعِي

أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ مَعَ كَذِبِهِ فِي ذَلِكَ ؛ لِيَكُونَ سَادِنَ قَبْرِهِ وَأَمَّا الْكَذِبُ عَلَى الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ . فَبَنُو عُبَيْدٍ - الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ القداح - الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إنَّهُمْ فَاطِمِيُّونَ وَبَنُو الْقَاهِرَةِ وَبَقُوا مُلُوكًا : يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَوِيُّونَ : نَحْوَ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَغَلَبُوا عَلَى نِصْفِ مَمْلَكَةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى غَلَبُوا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى بَغْدَادَ وَكَانُوا كَمَا قَالَ فِيهِمْ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ : ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ . وَقَدْ صَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ كِتَابَهُ الَّذِي سَمَّاهُ " كَشْفُ الْأَسْرَارِ وَهَتْكُ الْأَسْتَارِ " فِي كَشْفِ أَحْوَالِهِمْ . وَكَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشَّهْرَستَانِي . وَأَهْلُ الْعِلْمِ كُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ ؛ بَلْ كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ الْمَجُوسِ وَقِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ يَهُودِيٍّ وَكَانُوا مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُنَّتِهِ وَدِينِهِ : بَاطِنُ دِينِهِمْ مُرَكَّبٌ مِنْ دِينِ الْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ . وَمَا يُظْهِرُونَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ : هُوَ دِينُ الرَّافِضَةِ . فَخِيَارُ الْمُتَدَيِّنِينَ مِنْهُمْ هُمْ الرَّافِضَةُ . وَهُمْ جُهَّالُهُمْ وَعَوَامُّهُمْ وَكُلُّ مَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ . وَأَمَّا خَوَاصُّهُمْ : مِنْ مُلُوكِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ خَارِجُونَ مِنْ دِينِ الْمِلَلِ كُلُّهُمْ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَقْرَبُ النَّاسِ

إلَيْهِمْ الْفَلَاسِفَةُ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَيْضًا عَلَى قَاعِدَةِ فَيْلَسُوفٍ مُعَيَّنٍ . وَلِهَذَا انْتَسَبَ إلَيْهِمْ طَوَائِفُ الْمُتَفَلْسِفَةِ فَابْنُ سِينَا وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ وَابْنُ الْهَيْثَمِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ وَمُبَشِّرُ بْنُ فَاتِكٍ وَنَحْوُهُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ وَأَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " صَنَّفُوا الرَّسَائِلَ عَلَى نَحْوٍ مَنْ طَرِيقَتِهِمْ وَمِنْهُمْ . الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَأَهْلُ دَارِ الدَّعْوَةِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ . وَوَصْفُ حَالِهِمْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَإِنَّمَا الْقَصْدُ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَكْذَبِ النَّاسِ وَأَعْظَمِهِمْ شِرْكًا وَأَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ فِي النَّسَبِ وَغَيْرِ النَّسَبِ ؛ وَلِذَلِكَ تَجِدُ أَكْثَرَ المشهدية الَّذِينَ يَدَّعُونَ النَّسَبَ الْعَلَوِيَّ كَذَّابِينَ ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ مَوْلًى لِبَنِي هَاشِمٍ أَوْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لَا نَسَبٌ وَلَا وَلَاءٌ وَلَكِنْ يَقُولُ أَنَا عَلَوِيٌّ وَيَنْوِي عَلَوِيَّ الْمَذْهَبِ وَيَجْعَلُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ - كَانَ دِينُهُ دِينَ الرَّافِضَةِ فَلَا يَكْفِيهِ هَذَا الطَّعْنُ فِي عَلِيٍّ حَتَّى يَظْهَرَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَيْضًا فَالْكَذِبُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُبُورِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ سَطْرُهُ فِي هَذِهِ الْفَتْوَى . الْخَامِسُ : أَنَّ الرَّافِضَةَ أَكْذَبُ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُمْ أَعْظَمُ الطَّوَائِفِ الْمُدَّعِيَةِ لِلْإِسْلَامِ غُلُوًّا وَشِرْكًا وَمِنْهُمْ كَانَ أَوَّلُ مَنْ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ فِي الْقُرَّاءِ وَادَّعَى نُبُوَّةَ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

كَمَنْ ادَّعَى نُبُوَّةَ عَلِيٍّ وَكَالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَلِيهِمْ الْجُهَّالُ كَغُلَاةِ ضُلَّالِ الْعُبَّادِ وَأَتْبَاعِ الْمَشَايِخِ ؛ فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلْقُبُورِ بَعْدَ الرَّافِضَةِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ غُلُوًّا بَعْدَهُمْ وَأَكْثَرُ الطَّوَائِفِ كَذِبًا وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فِيهَا شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى . وَكَذِبُ النَّصَارَى وَشِرْكُهُمْ وَغُلُوُّهُمْ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَعِنْدَ هَذِهِ الطَّوَائِفِ مِنْ الشِّرْكِ وَالْكَذِبِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إذَا قُضِيَتْ حَاجَةُ مُسْلِمٍ وَكَانَ قَدْ دَعَا دَعْوَةً عِنْدَ قَبْرِهِ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ لِذَلِكَ الْقَبْرِ تَأْثِيرًا فِي تِلْكَ الْحَاجَةِ ؟ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا يَنْذِرُونَهُ عِنْدَ الْقُبُورِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ النُّذُورِ : إذَا قُضِيَتْ حَاجَاتُهُمْ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ : نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } . وَفِي لَفْظٍ { إنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ بِشَيْءِ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَهُ ؛ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إلَى الْقَدَرِ قَدَّرْته } فَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : أَنَّ النَّذْرَ لَيْسَ سَبَبًا فِي دَفْعِ مَا عَلِقَ بِهِ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ مَعَ أَنَّ النَّذْرَ جَزَاءُ تِلْكَ الْحَاجَةِ وَيَعْلَقُ بِهَا وَمَعَ كَثْرَةِ مَنْ تُقْضَى حَوَائِجُهُمْ الَّتِي عَلَّقُوا بِهَا النُّذُورَ ؛ كَانَتْ الْقُبُورُ أَبْعَدَ عَنْ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا فِي ذَلِكَ . ثُمَّ تِلْكَ الْحَاجَةُ : إمَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ قُضِيَتْ بِغَيْرِ دُعَائِهِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قُضِيَتْ بِدُعَائِهِ . فَإِنْ كَانَ : الْأَوَّلَ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ

كَانَ الثَّانِيَ : فَيَكُونُ قَدْ اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ اجْتِهَادًا لَوْ اجتهده فِي غَيْرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ أَوْ عِنْدَ الصَّلِيبِ لَقُضِيَتْ حَاجَتُهُ ؛ فَالسَّبَبُ هُوَ اجْتِهَادُهُ فِي الدُّعَاءِ ؛ لَا خُصُوصُ الْقَبْرِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ لِلْقُبُورِ نَوْعَ تَأْثِيرٍ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ بِهَا كَمَا يَذْكُرُهُ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الرُّوحَ الْمُفَارِقَةَ : تَتَّصِلُ بِرُوحِ الدَّاعِي فَيَقْوَى بِذَلِكَ كَمَا يَزْعُمُهُ ابْنُ سِينَا وَأَبُو حَامِدٍ وَأَمْثَالُهُمَا فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَوْ كَانَ بِسَبَبِ آخَرَ . فَيُقَالُ : لَيْسَ كُلُّ سَبَبٍ نَالَ بِهِ الْإِنْسَانُ حَاجَتَهُ يَكُونُ مَشْرُوعًا بَلْ وَلَا مُبَاحًا وَإِنَّمَا يَكُونُ مَشْرُوعًا إذَا غَلَبَتْ مَصْلَحَتُهُ عَلَى مَفْسَدَتِهِ . أَمَّا إذَا غَلَبَتْ مَفْسَدَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا ؛ بَلْ مَحْظُورًا وَإِنْ حَصَلَ بِهِ بَعْضُ الْفَائِدَةِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَحْرِيمُ السِّحْرِ مَعَ مَا لَهُ مِنْ التَّأْثِيرِ وَقَضَاءِ بَعْضِ الْحَاجَاتِ وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَدُعَائِهَا وَاسْتِحْضَارِ الْجِنِّ . وَكَذَلِكَ الْكِهَانَةُ وَالِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ ؛ وَأَنْوَاعُ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ فِي الشَّرِيعَةِ مَعَ تَضَمُّنِهَا أَحْيَانًا نَوْعَ كَشْفٍ أَوْ نَوْعَ تَأْثِيرٍ . وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُقْضَى بِهَا حَوَائِجُهُمْ . وَأَمَّا

تَفْصِيلُ ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ طَوِيلٍ كَمَا يَحْتَاجُ تَفْصِيلُ أَنْوَاعِ السِّحْرِ وَسَبَبُ تَأْثِيرِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ السِّيمَيَا وَتَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ وَمَا دَعَا الْمُشْرِكِينَ إلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ؛ فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَعْلَمُ أَنَّ أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ لَمْ تُجْمِعْ عَلَى أَمْرٍ بِلَا سَبَبٍ وَالْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } { رَبِّ إنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } وَمَنْ ظَنَّ فِي عُبَّادِ الْأَصْنَامِ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تَخْلُقُ الْعَالَمَ أَوْ أَنَّهَا تُنَزِّلُ الْمَطَرَ أَوْ تُنْبِتُ النَّبَاتَ أَوْ تَخْلُقُ الْحَيَوَانَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ فَهُوَ جَاهِلٌ بِهِمْ ؛ بَلْ كَانَ قَصْدُ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ لِأَوْثَانِهِمْ مِنْ جِنْسِ قَصْدِ الْمُشْرِكِينَ بِالْقُبُورِ لِلْقُبُورِ الْمُعَظَّمَةِ عِنْدَهُمْ وَقَصْدِ النَّصَارَى لِقُبُورِ الْقِدِّيسِينَ يَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ وَوَسَائِلَ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ أَنَّ مِنْ مساجدي الْقُبُورِ مَنْ يَفْعَلُ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ . وَيَكْفِي الْمُسْلِمَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إلَّا وَمَفْسَدَتُهُ مَحْضَةٌ أَوْ غَالِبَةٌ . وَأَمَّا مَا كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ مَحْضَةً أَوْ رَاجِحَةً : فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ ؛ إذْ الرُّسُلُ بُعِثَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا . وَالشِّرْكُ كَمَا قُرِنَ بِالْكَذِبِ قُرِنَ بِالسِّحْرِ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } { أُولَئِكَ

الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } وَالْجِبْتُ السِّحْرُ وَالطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ وَالْوَثَنُ . وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمِلَّةِ يُعَظِّمُونَ السِّحْرَ وَالشِّرْكَ وَيُرَجِّحُونَ الْكُفَّارَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالشَّرِيعَةِ . وَالْوَرَقَةُ لَا تَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقَبْرِ مِثْلُ الصَّالِحِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ . هَلْ هُوَ جَائِزٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ مُسْتَجَابٌ أَكْثَرَ مِنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ أَمْ لَا ؟ وَأَيُّ أَمَاكِنَ الدُّعَاءُ فِيهَا أَفْضَلُ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ الدُّعَاءُ عِنْدَ الْقُبُورِ بِأَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمَاكِنِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ : إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ أَنْ يَقْصِدَ الْقُبُورَ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ عِنْدَهَا ؛ لَا قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ - عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَسْتَسْقِي إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ . فَاسْتَسْقَوْا بِالْعَبَّاسِ كَمَا كَانُوا يَسْتَسْقُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَا كَانُوا يَسْتَسْقُونَ عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا يَدْعُونَ عِنْدَهُ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا وَقَالَ قَبْلَ أَنْ

يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ؛ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجِ } . فَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّمَ اتِّخَاذَهَا مَسَاجِدَ وَالْإِيقَادُ عَلَيْهَا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهَا مَحَلًّا لِلْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالدُّعَاءِ . وَإِنَّمَا سَنَّ لِمَنْ زَارَ الْقُبُورَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمَيِّتِ وَيَدْعُوَ لَهُ كَمَا سَنَّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ قَبْلَ دَفْنِهِ وَيَدْعُوَ لَهُ . فَالْمَقْصُودُ بِمَا سَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ لَا دُعَاؤُهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْهَادِي : (*)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا بَعْدُ فَهَذِهِ فُتْيَا أَفْتَى بِهَا الشِّيحُ الْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ نَحْوَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً أَنْكَرَهَا بَعْضُ النَّاسِ وَشَنَّعَ بِهَا جَمَاعَةٌ عِنْدَ بَعْضِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَذُكِرَتْ بِعِبَارَاتِ شَنِيعَةٍ : فَفَهِمَ مِنْهَا جَمَاعَةٌ غَيْرَ مَا هِيَ عَلَيْهِ وَانْضَمَّ إلَى الْإِنْكَارِ وَالشَّنَاعَةِ وَتَغَيُّرِ الْأَلْفَاظِ أُمُورٌ أَوْجَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُكَاتَبَةَ السُّلْطَانِ - سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ بِمِصْرِ - أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَجَمَعَ قُضَاةَ بَلَدِهِ ثُمَّ اقْتَضَى الرَّأْيُ حَبْسَهُ فَحُبِسَ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ بِكِتَابِ وَرَدَ سَابِعَ شَعْبَانَ الْمُبَارَكِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ . وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَحْضُرْ الشَّيْخُ الْمَذْكُورُ بِمَجْلِسِ حُكْمٍ وَلَا وَقَفَ عَلَى خَطِّهِ الَّذِي أَنْكَرَ وَلَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِشَيْءِ . فَكَتَبَ بَعْضُ الْغُرَبَاءِ مِنْ بَلَدِهِ هَذِهِ الْفُتْيَا وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا بَعْضَ عُلَمَاءِ بَغْدَادَ فَكَتَبُوا عَلَيْهَا بَعْدَ تَأَمُّلِهَا وَقِرَاءَةِ أَلْفَاظِهَا .

وَسُئِلَ بَعْضُ مَالِكِيَّةِ دِمَشْقَ عَنْهَا فَكَتَبُوا كَذَلِكَ . وَبَلَغَنَا أَنَّ بِمِصْرِ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا فَوَافَقَ . وَنَبْدَأُ الْآنَ بِذِكْرِ السُّؤَالِ الَّذِي كَتَبَ عَلَيْهِ أَهْلُ بَغْدَادَ وَبِذِكْرِ الْفُتْيَا وَجَوَابِ الشَّيْخِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهَا وَجَوَابِ الْفُقَهَاءِ بَعْدَهُ . وَهَذِهِ صُورَةُ السُّؤَالِ وَالْأَجْوِبَةِ . الْمَسْئُولُ مِنْ إنْعَامِ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْهُدَاةِ الْفُضَلَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَهُدَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَفَّقَهُمْ اللَّهُ لِمَرْضَاتِهِ وَأَدَامَ بِهِمْ الْهِدَايَةَ : أَنْ يَنْعَمُوا وَيَتَأَمَّلُوا الْفَتْوَى وَجَوَابَهَا الْمُتَّصِلَ بِهَذَا السُّؤَالِ الْمَنْسُوخِ عَقِبَهُ وَصُورَةُ ذَلِكَ : مَا يَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ نَفَعَ اللَّهُ بِهِمْ الْمُسْلِمِينَ : فِي رَجُلٍ نَوَى السَّفَرَ إلَى " زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ " مِثْلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ فِي سَفَرِهِ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الزِّيَارَةُ شَرْعِيَّةٌ أَمْ لَا ؟ ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } { وَمَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي }

وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } . أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ رَحِمَكُمْ اللَّهُ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا مَنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَصْرُ الصَّلَاةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ مُتَقَدِّمِي الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ الْقَصْرَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ وَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ وَطَوَائِفَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي مِثْلِ هَذَا السَّفَرِ لِأَنَّهُ سَفَرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : أَنَّ السَّفَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ لَا يُقْصَرُ فِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُقْصَرُ وَهَذَا يَقُولُهُ مَنْ يُجَوِّزُ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ كَأَبِي حَنِيفَةَ . وَيَقُولُهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ

وَأَحْمَد مِمَّنْ يُجَوِّزُ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ عبدوس الْحَرَّانِي وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ قدامة المقدسي . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ . لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زُورُوا الْقُبُورَ } . وَقَدْ يَحْتَجُّ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . كَقَوْلِهِ { مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } رَوَاهُ الدارقطني وَابْنُ مَاجَه . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ : { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } فَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ : { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي إبْرَاهِيمَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } . فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ وَلَمْ يَحْتَجَّ بِهِ أَحَدٌ وَإِنَّمَا يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ الدارقطني وَنَحْوِهِ . وَقَدْ احْتَجَّ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي عَلَى جَوَازِ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزُورُ مَسْجِدَ قُبَاء . وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْبَابِ .

وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ . فَلَوْ نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يَشُدَّ الرَّحْلَ لِيُصَلِّيَ بِمَسْجِدِ أَوْ مَشْهَدٍ أَوْ يَعْتَكِفَ فِيهِ أَوْ يُسَافِرَ إلَيْهِ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ . لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ وَيَأْتِيَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ . وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى لِصَلَاةِ أَوْ اعْتِكَافٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ عِنْد مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَد ؛ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عِنْدَهُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ جِنْسُهُ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ . أَمَّا الْجُمْهُورُ فَيُوجِبُونَ الْوَفَاءَ بِكُلِّ طَاعَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ . وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . وَالسَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ طَاعَةٌ فَلِهَذَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ.

وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى بُقْعَةٍ غَيْرَ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ السَّفَرَ إلَيْهِ إذَا نَذَرَهُ حَتَّى نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَافِرُ إلَى مَسْجِدِ قُبَاء ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّ مَسْجِدَ قُبَاء يُسْتَحَبُّ زِيَارَتُهُ لِمَنْ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَدِّ رَحْلٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاء لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ كَانَ كَعُمْرَةِ } . قَالُوا : وَلِأَنَّ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ عِبَادَةً وَفَعَلَهُ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ . وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي " الْإِبَانَةِ الصُّغْرَى " مِنْ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ بُطْلَانُ حُجَّةِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي ؛ لِأَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَسْجِدِ قُبَاء لَمْ تَكُنْ بِشَدِّ رَحْلٍ وَهُوَ يُسَلِّمُ لَهُمْ أَنَّ السَّفَرَ إلَيْهِ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ . وَقَوْلُهُ : بِأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي مَضْمُونُهُ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْبَابِ . يُجَابُ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا تَسْلِيمٌ مِنْهُ أَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِعَمَلِ صَالِحٍ وَلَا قُرْبَةٍ وَلَا طَاعَةٍ وَلَا هُوَ مِنْ الْحَسَنَاتِ . فَإِذًا مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قُرْبَةٌ وَعِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ . وَإِذَا سَافَرَ لِاعْتِقَادِ أَنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . فَصَارَ التَّحْرِيمُ مِنْ جِهَةِ اتِّخَاذِهِ قُرْبَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَا يُسَافِرُ إلَيْهَا إلَّا لِذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يُسَافِرَ إلَيْهَا لِغَرَضِ مُبَاحٍ فَكَذَا جَائِزٌ وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَقْتَضِي النَّهْيَ وَالنَّهْيَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَحَادِيثَ ؛ بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ الْمُعْتَمَدَةِ شَيْئًا مِنْهَا وَلَمْ يَحْتَجَّ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِشَيْءِ مِنْهَا بَلْ مَالِكٌ - إمَامُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - كَرِهَ أَنْ يَقُولُ الرَّجُلُ : زُرْت قَبْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ أَوْ مَشْرُوعًا أَوْ مَأْثُورًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْرَهْهُ عَالِمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَالْإِمَامُ أَحْمَد أَعْلَمُ النَّاسِ فِي زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ : لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ

يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ إلَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ . وَكَذَلِكَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ } . وَفِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَأَى رَجُلًا يَخْتَلِفُ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو عِنْدَهُ فَقَالَ : يَا هَذَا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا . وَصَلُّوا عَلَيَّ . فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ حَيْثُمَا كُنْتُمْ تَبْلُغُنِي } فَمَا أَنْتَ وَرَجُلٌ بِالْأَنْدَلُسِ مِنْهُ إلَّا سَوَاءٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا . وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كَرِهَ

أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَهُمْ دَفَنُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خِلَافَ مَا اعْتَادُوهُ مِنْ الدَّفْنِ فِي الصَّحْرَاءِ ؛ لِئَلَّا يُصَلِّيَ أَحَدٌ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَيُتَّخَذَ قَبْرُهُ وَثَنًا . وَكَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ - لَمَّا كَانَتْ الْحُجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ مُنْفَصِلَةً عَنْ الْمَسْجِدِ إلَى زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ - لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ إلَيْهِ لَا لِصَلَاةِ هُنَاكَ وَلَا تَمَسُّحٍ بِالْقَبْرِ وَلَا دُعَاءٍ هُنَاكَ . بَلْ هَذَا جَمِيعُهُ إنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ . وَكَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذَا سَلَّمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادُوا الدُّعَاءَ دَعَوْا مُسْتَقْبَلِي الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَسْتَقْبِلُوا الْقَبْرَ .
وَأَمَّا الْوُقُوفُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ أَيْضًا وَلَا يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ . وَقَالَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ : بَلْ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ عِنْدَ السَّلَامِ خَاصَّةً وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ عِنْدَ الدُّعَاءِ . وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا حِكَايَةٌ مَكْذُوبَةٌ تُرْوَى عَنْ مَالِكٍ وَمَذْهَبُهُ بِخِلَافِهَا .

وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَمَسَّحُ بِقَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُقَبِّلُهُ . وَهَذَا كُلُّهُ مُحَافَظَةً عَلَى التَّوْحِيدِ . فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ : اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ كَمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } قَالُوا : " هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا عَلَى صُوَرِهِمْ تَمَاثِيلَ ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَعَبَدُوهَا " وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرُهُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ وَذَكَرَهُ وَثِيمَةُ " وَغَيْرُهُ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ . وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى أُصُولِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِي السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْمَشَاهِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ : أَهْلُ الْبِدَعِ مَنَّ الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يُعَطِّلُونَ الْمَسَاجِدَ وَيُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدَ يَدْعُونَ بُيُوتَ اللَّهِ الَّتِي أَمَرَ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَيُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدَ الَّتِي يُشْرَكُ فِيهَا وَيُكَذَّبُ وَيُبْتَدَعُ فِيهَا دِينٌ لَمْ يُنَزِّلْ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إنَّمَا فِيهِمَا ذِكْرُ الْمَسَاجِدِ ؛ دُونَ الْمَشَاهِدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا

وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
هَذَا آخِرُ مَا أَجَابَ بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . وَلَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْجَوَابِ . وَلَمَّا ظَفَرُوا فِي دِمَشْقَ بِهَذَا الْجَوَابِ كَتَبُوهُ وَبَعَثُوا بِهِ إلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَكَتَبَ عَلَيْهِ قَاضِي الشَّافِعِيَّةِ : قَابَلْت الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الْمَكْتُوبِ عَلَى خَطِّ ابْنِ تَيْمِيَّة . فَصَحَّ - إلَى أَنْ قَالَ : وَإِنَّمَا الْمُحَرَّفُ جَعْلُهُ : زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ مَعْصِيَةً بِالْإِجْمَاعِ مَقْطُوعٌ بِهَا هَذَا كَلَامُهُ . فَانْظُرْ إلَى هَذَا التَّحْرِيفِ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْجَوَابُ لَيْسَ فِيهِ الْمَنْعُ مِنْ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَيْنِ : فِي شَدِّ الرَّحْلِ وَالسَّفَرِ إلَى مُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ .

وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ مِنْ غَيْرِ شَدِّ رَحْلٍ إلَيْهَا مَسْأَلَةٌ . وَشَدُّ الرَّحْلِ لِمُجَرَّدِ الزِّيَارَةِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى . وَالشَّيْخُ لَا يَمْنَعُ الزِّيَارَةَ الْخَالِيَةَ عَنْ شَدِّ رَحْلٍ بَلْ يَسْتَحِبُّهَا وَيَنْدُبُ إلَيْهَا . وَكُتُبُهُ وَمَنَاسِكُهُ تَشْهَدُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الشَّيْخُ إلَى هَذِهِ الزِّيَارَةِ فِي الْفُتْيَا وَلَا قَالَ : إنَّهَا مَعْصِيَةٌ وَلَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهَا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ . وَلَمَّا وَصَلَ خَطُّ الْقَاضِي الْمَذْكُورُ إلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ كَثُرَ الْكَلَامُ وَعَظُمَتْ الْفِتْنَةُ وَطَلَبَ الْقُضَاةُ بِهَا فَاجْتَمَعُوا وَتَكَلَّمُوا وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِحَبْسِ الشَّيْخِ . فَرَسَمَ السُّلْطَانُ بِهِ . وَجَرَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ثُمَّ جَرَى بَعْدَ ذَلِكَ أُمُورٌ عَلَى الْقَائِمَيْنِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَدْ وَصَلَ مَا أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى عُلَمَاءِ بَغْدَادَ فَقَامُوا فِي الِانْتِصَارِ لَهُ وَكَتَبُوا بِمُوَافَقَتِهِ وَرَأَيْت خُطُوطَهُمْ بِذَلِكَ . وَهَذَا صُورَةُ مَا كَتَبُوا :

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَقُولُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى : - بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ السَّابِغَةِ نِعَمُهُ السَّابِقَةِ مِنَنُهُ . وَالصَّلَاةُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ : مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ . إنَّهُ حَيْثُ قَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ وَتَفَضَّلَ بِرَحْمَتِهِ عَلَى بِلَادِهِ بِأَنْ وَسَّدَ أُمُورَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَأَسْنَدَ أَزِمَّةَ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ إلَى مَنْ خَصَّصَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَفْضَلِ الكمالات النَّفْسَانِيَّةِ وَخَصَّصَهُ بِأَكْمَلِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ مُحْيِي سُنَنِ الْعَدْلِ وَمُبْدِي سُنَنِ الْفَضْلِ الْمُعْتَصِمِ بِحَبْلِ اللَّهِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ الْمُكْتَفِي بِنِعَمِ اللَّهِ الْقَائِمِ بِأَوَامِرِ اللَّهِ الْمُسْتَظْهِرِ بِقُوَّةِ اللَّهِ الْمُسْتَضِيءِ بِنُورِ اللَّهِ أَعَزَّ اللَّهُ سُلْطَانَهُ وَأَعْلَى عَلَى سَائِرِ الْمُلُوكِ شَانَهُ وَلَا زَالَتْ رِقَابُ الْأُمَمِ خَاضِعَةً لِأَوَامِرِهِ وَأَعْنَاقُ الْعِبَادِ طَائِعَةً لِمَرَاسِمِهِ وَلَا زَالَ مُوَالِي دَوْلَتِهِ بِطَاعَتِهِ مَجْبُورًا وَمُعَادِي صَوْلَتِهِ بِخِزْيِهِ مَذْمُومًا مَدْحُورًا . فَالْمَرْجُوُّ مِنْ أَلْطَافِ الْحَضْرَةِ الْمُقَدَّسَةِ - زَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى عُلُوًّا وَشَرَفًا - أَنْ يَكُونَ لِلْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَصَفْوَةُ الْأَصْفِيَاءِ

وَعِمَادُ الدِّينِ وَمَدَارُ أَهْلِ الْيَقِينِ : حَظٌّ مِنْ الْعِنَايَةِ السُّلْطَانِيَّةِ وَافِرٌ وَنَصِيبٌ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ فَإِنَّهَا مَنْقَبَةٌ لَا يُعَادِلُهَا فَضِيلَةٌ وَحَسَنَةٌ لَا يُحِيطُهَا سَيِّئَةٌ لِأَنَّهَا حَقِيقَةُ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَخُلَاصَةُ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَمْلُوكَ وَقَفَ عَلَى مَا سُئِلَ عَنْهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ وَحِيدُ دَهْرِهِ وَفَرِيدُ عَصْرِهِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة وَمَا أَجَابَ بِهِ . فَوَجَدْته خُلَاصَةَ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ حَسْبَ مَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ : مِنْ نَقْلِهِ الصَّحِيحِ وَمَا أَدَّى إلَيْهِ الْبَحْثُ مِنْ الْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ لَا يُدَاخِلُهُ تَحَامُلٌ وَلَا يَعْتَرِيهِ تَجَاهُلٌ . وَلَيْسَ فِيهِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - مَا يَقْتَضِي الْإِزْرَاءَ وَالتَّنْقِيصَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْعُلَمَاءِ أَنْ تَحْمِلَهُمْ الْعَصَبِيَّةُ : أَنْ يَتَفَوَّهُوا بِالْإِزْرَاءِ وَالتَّنْقِيصِ فِي حَقِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَصَوَّرَ مُتَصَوِّرٌ : أَنَّ زِيَارَةَ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزِيدُ فِي قَدْرِهِ وَهَلْ تَرْكُهَا مِمَّا يُنْقِصُ مِنْ تَعْظِيمِهِ ؟ حَاشَا لِلرَّسُولِ مِنْ ذَلِكَ . نَعَمْ لَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ ذَاكِرٌ ابْتِدَاءً وَكَانَ هُنَاكَ قَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى الْإِزْرَاءِ وَالتَّنْقِيصِ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ . مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ كِنَايَةً لَا صَرِيحًا

فَكَيْفَ وَقَدْ قَالَهُ فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَطَرِيقِ الْبَحْثِ وَالْجَدَلِ ؟ . مَعَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَأَنْظَارِ الْعُقَلَاءِ : أَنَّ الزِّيَارَةَ لَيْسَتْ عِبَادَةً وَطَاعَةً لِمُجَرَّدِهَا حَتَّى لَوْ حَلَفَ : أَنَّهُ يَأْتِي بِعِبَادَةِ أَوْ طَاعَةٍ لَمْ يَبَرَّ بِهَا ؛ لَكِنَّ الْقَاضِيَ ابْنَ كَجٍّ - مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا - ذَكَرَ أَنَّ نَذْرَ هَذِهِ الزِّيَارَةِ عِنْدَهُ قُرْبَةٌ تَلْزَمُ نَاذِرَهَا . وَهُوَ مُنْفَرِدٌ بِهِ لَا يُسَاعِدُهُ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ صَرِيحٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ . وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ الْخَبَرِ النَّبَوِيِّ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } - إلَى آخِرِهِ " أَنَّهُ لَا يَجُوزُ شَدُّ الرِّحَالِ إلَى غَيْرِ مَا ذَكَرَ أَوْ وُجُوبُهُ أَوْ ندبيته . فَإِنْ فَعَلَهُ كَانَ مُخَالِفًا لِصَرِيحِ النَّهْيِ وَمُخَالَفَةُ النَّهْيِ مَعْصِيَةٌ - إمَّا كُفْرٌ أَوْ غَيْرُهُ - عَلَى قَدْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَوُجُوبِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَصِفَةِ النَّهْيِ وَالزِّيَارَةُ أَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ . فَالزِّيَارَةُ بِغَيْرِ شَدٍّ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهَا وَمَعَ الشَّدِّ مَنْهِيٌّ عَنْهَا . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ عِقَابًا وَلَا يُوجِبْ عِتَابًا . وَالْمَرَاحِمُ السُّلْطَانِيَّةُ أَحْرَى بِالتَّوْسِعَةِ وَالنَّظَرِ بِعَيْنِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ إلَيْهِ وَلِلْآرَاءِ الْمَلَكِيَّةِ عُلُوُّ الْمَزِيدِ . حَرَّرَهُ ابْنُ الْكُتُبِيِّ الشَّافِعِيُّ . حَامِدًا لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ . ا هـ

جَوَابٌ آخَرُ :
اللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
مَا أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ الْأَجَلُّ الْأَوْحَدُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ وَقُدْوَةُ الْخَلَفِ رَئِيسُ الْمُحَقِّقِينَ وَخُلَاصَةُ الْمُدَقِّقِينَ ؛ تَقِيُّ الْمِلَّةِ وَالْحَقِّ وَالدِّينِ : مِنْ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : صَحِيحٌ مَنْقُولٌ فِي غَيْرِ مَا كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ ثَلْبٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَضٌّ مِنْ قَدْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ نَصَّ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي فِي كُتُبِهِ عَلَى تَحْرِيمِ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ . وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي الْإِمَامِ عِيَاضِ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضٍ فِي إكْمَالِهِ . وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا . وَمِنْ الْمُدَوِّنَةِ : وَمَنْ قَالَ : عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَلَا يَأْتِيهِمَا أَصْلًا إلَّا أَنْ يُرِيدَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدَيْهِمَا فَلْيَأْتِهِمَا . فَلَمْ يَجْعَلْ نَذْرَ زِيَارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاعَةً يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا ؛ إذْ مِنْ أَصْلِنَا : أَنَّ مَنْ نَذَرَ طَاعَةً لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهَا

كَانَ مَنْ جِنْسِهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ لَمْ يَكُنْ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو إسْحَاقَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ عقيب هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : وَلَوْلَا الصَّلَاةُ فِيهِمَا لَمَا لَزِمَهُ إتْيَانُهُمَا وَلَوْ كَانَ نَذَرَ زِيَارَةَ طَاعَةٍ لَمَا لَزِمَهُ ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَيْرَوَانِيُّ فِي تَقْرِيبِهِ وَالشَّيْخُ ابْنُ سِيرِين فِي تَنْبِيهِهِ . وَفِي الْمَبْسُوطِ : قَالَ مَالِكٌ : وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ لِيُصَلِّيَ فِيهِ . قَالَ : فَإِنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ لَهُ . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَسْجِدِي هَذَا } . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ فِي الموازية : إلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَدِّ رَحْلٍ . وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ " التَّمْهِيدُ " : يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ . وَحَيْثُ تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ مَنْ أَجَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّهُ سَفَرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إلَى الْكُفْرِ فَمَنْ كَفَّرَهُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ فَإِنْ كَانَ مُسْتَبِيحًا ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ ؛ وَإِلَّا فَهُوَ فَاسِقٌ . قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ المازري فِي كِتَابِ " الْمُعَلِّمِ " :

مَنْ كَفَّرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَبِيحًا ذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ وَإِلَّا فَهُوَ فَاسِقٌ . يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إذَا رُفِعَ أَمْرُهُ إلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّبَهُ وَيُعَزِّرَهُ بِمَا يَكُونُ رَادِعًا لِأَمْثَالِهِ فَإِنْ تُرِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَهُوَ آثِمٌ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ . كَتَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَغْدَادِيُّ الْخَادِمُ لِلطَّائِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَدْرَسَةِ الشَّرِيفَةِ المستنصرية . رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُنْشِئِهَا .
وَأَجَابَ غَيْرُهُ فَقَالَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ . وَعَلَى آلِهِ الطَّاهِرِينَ . مَا ذَكَرَهُ مَوْلَانَا الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ جَامِعُ الْفَضَائِلِ وَالْفَوَائِدِ بَحْرُ الْعُلُومِ وَمَنْشَأُ الْفَضْلِ جَمَالُ الدِّينِ كَاتِبُ خَطِّهِ إمَامُ خَطِّي هَذَا جَمَّلَ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَأَسْبَغَ عَلَيْهِ سَوَابِغَ الْإِنْعَامِ أَتَى فِيهِ بِالْحَقِّ الْجَلِيِّ الْوَاضِحِ وَأَعْرَضَ فِيهِ عَنْ إغْضَاءِ الْمَشَايِخِ إذْ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ اللَّذَانِ تَقَدَّمَاهُ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَة وَعَقْلٍ أَنَّهُ أَتَى فِي الْجَوَابِ الْمُطَابِقِ لِلسُّؤَالِ بِحِكَايَةِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوهُ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَعْتَرِضَهُ مُعْتَرِضٌ فِي نَقْلِهِ فَيُبْرِزَهُ

لَهُ مِنْ كُتُبِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ حَكَى أَقْوَالَهُمْ . وَالْمُعْتَرِضُ لَهُ بِالتَّشْنِيعِ إمَّا جَاهِلٌ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ أَوْ مُتَجَاهِلٌ يَحْمِلُهُ حَسَدُهُ وَحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى رَدِّ مَا هُوَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَقْبُولٌ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَوَائِلِ الْحَسَدِ وَعَصَمَنَا مِنْ مخائل النَّكَدِ بِمُحَمَّدِ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ ؛ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . كَتَبَهُ الْفَقِيرُ إلَى عَفْوِ رَبِّهِ وَرِضْوَانِهِ . عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ الْخَطِيبُ . غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ .
وَأَجَابَ غَيْرُهُ فَقَالَ :
بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ فَاتِحُ كُلِّ كَلَامٍ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ خَيْرِ الْأَنَامِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْبَرَرَةِ الْكِرَامِ أَعْلَامِ الْهُدَى وَمَصَابِيحِ الظَّلَامِ . يَقُولُ أَفْقَرُ عِبَادِ اللَّهِ وَأَحْوَجُهُمْ إلَى عَفْوِهِ : مَا حَكَاهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْبَارِعُ الْهُمَامُ افْتِخَارُ الْأَنَامِ جَمَالُ الْإِسْلَامِ رُكْنُ الشَّرِيعَةِ نَاصِرُ السُّنَّةِ قَامِعُ الْبِدْعَةِ جَامِعُ أَشْتَاتِ الْفَضَائِلِ قُدْوَةُ الْعُلَمَاءِ الْأَمَاثِلِ فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ النُّبَلَاءِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ

أَجْمَعِينَ - بَيِّنٌ لَا يُدْفَعُ . وَمَكْشُوفٌ لَا يَتَقَنَّعُ . بَلْ أَوْضَحُ مِنْ النَّيِّرَيْنِ وَأَظْهَرُ مِنْ فَرَقِ الصُّبْحِ لِذِي عَيْنَيْنِ . وَالْعُمْدَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ . وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ احْتِمَالَيْ صِيغَتِهِ . وَذَلِكَ : أَنَّ صِيغَةَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } ذَاتُ وَجْهَيْنِ نَفْيٍ وَنَهْيٍ . لِاحْتِمَالِهِمَا . فَإِنْ لُحِظَ مَعْنَى النَّفْيِ فَمُقْتَضَاهُ : نَفْيُ فَضِيلَةِ وَاسْتِحْبَابِ شَدِّ الرِّحَالِ وَإِعْمَالِ الْمَطِيِّ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ؛ إذْ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُهُمَا لَامْتَنَعَ رَفْعُهُمَا . فَتَعَيَّنَ تَوَجُّهُ النَّفْيِ إلَى فَضِيلَتِهِمَا واستحبابهما دُونَ ذَاتِهِمَا وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُعْتَقَدُ أَنَّ إعْمَالَ الْمَطِيِّ وَشَدَّ الرِّحَالِ إلَيْهِ قُرْبَةٌ وَفَضِيلَةٌ : مِنْ الْمَسَاجِدِ وَزِيَارَةُ قُبُورِ الصَّالِحِينَ وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى بَلْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ . وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ ذَلِكَ الْمَنْفِيِّ الْمُقَدَّرِ فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ لِمَا بَعْدَ " إلَّا " . وَإِلَّا لَمَا افْتَرَقَ الْحُكْمُ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا وَهُوَ مُفْتَرِقٌ حِينَئِذٍ : لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْفَضِيلَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ نَفْيُ الْإِبَاحَةِ . فَهَذَا وَجْهُ مُتَمَسَّكِ مَنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ هَذَا السَّفَرِ بِالنَّظَرِ إلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ نَفْيٌ وَبُنِيَ عَلَى ذَلِكَ جَوَازُ الْقَصْرِ . وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ مَلْحُوظًا . فَالْمَعْنَى نَهْيُهُ عَنْ إعْمَالِ الْمَطِيِّ وَشَدِّ الرِّحَالِ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ؛ إذْ الْمُقَرَّرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ قَاضٍ بِتَحْرِيمِهِ أَوْ كَرَاهَتِهِ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ .

فَهَذَا وَجْهُ مُتَمَسَّكِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ جَوَازِ الْقَصْرِ فِي هَذَا السَّفَرِ لِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ . وَمِمَّنْ قَالَ بِحُرْمَتِهِ : الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالشَّيْخُ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى اخْتِيَارِهِ . وَمَا جَاءَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَدُّ رَحْلٍ وَإِعْمَالُ مَطِيٍّ جَمْعًا بَيْنَهُمَا . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ حَدِيثِ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } مُعَارِضًا لَهُ لِعَدَمِ مُسَاوَاتِهِ إيَّاهُ فِي الدَّرَجَةِ . لِكَوْنِهِ مِنْ أَعْلَى أَقْسَامِ الصَّحِيحِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ رَزِئَ وَضَيَّقَ عَلَى الْمُجِيبِ . وَهَذَا أَمْرٌ يَحَارُ فِيهِ اللَّبِيبُ وَيَتَعَجَّبُ مِنْهُ الْأَرِيبُ ؛ وَيَقَعُ بِهِ فِي شَكٍّ مُرِيبٍ . فَإِنَّ جَوَابَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَاضٍ بِذِكْرِ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ . وَلَيْسَ حَاكِمًا بِالْغَضِّ مِنْ الصَّالِحِينَ وَالْأَنْبِيَاءَ . فَإِنَّ الْأَخْذَ بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّةِ رَفْعِهِ إلَيْهِ : هُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي تَتَبُّعِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَالْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ مَحْذُورٌ وَذَلِكَ مِمَّا لَا مِرْيَةَ فِيهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيُّ حَرَجٍ عَلَى مَنْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَذَكَرَ فِيهَا

خِلَافَ الْفُقَهَاءِ وَمَالَ فِيهَا إلَى بَعْضِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ ؟ فَإِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ وَتَعَاقُبِ الدُّهُورِ . وَهَلْ ذَلِكَ مَحْمُولٌ مِنْ الْقَادِحِ إلَّا عَلَى امْتِطَاءِ نِضْوِ الْهَوَى الْمُفْضِي بِصَاحِبِهِ إلَى التَّوَى فَإِنَّ مَنْ يَقْتَبِسُ مِنْ فَوَائِدِهِ وَيَلْتَقِطُ مِنْ فَرَائِدِهِ لَحَقِيقٌ بِالتَّعْظِيمِ وَخَلِيقٌ بِالتَّكْرِيمِ : مِمَّنْ لَهُ الْفَهْمُ السَّلِيمُ وَالذِّهْنُ الْمُسْتَقِيمُ . وَهَلْ حُكْمُ الْمُظَاهِرِ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ إلَّا كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ السَّائِرِ : الشَّعِيرُ يُؤْكَلُ وَيُذَمُّ . وَقَوْلِ الشَّاعِرِ :
جَزَى بَنُوهُ أَبَا الْغَيْلَانِ عَنْ كِبَرٍ * * * وَحُسْنِ فِعْلٍ كَمَا يُجْزَى سِنِمَّارُ
وَقَوْلِ غَيْرِهِ : وَحَدِيثٌ أَلَذُّهُ وَهُوَ مِمَّا * * * يُنْعِتُ النَّاعِتُونَ يُوزَنُ وَزْنًا
مَنْطِقٌ رَائِعٌ وَيُلْحِنُ أَحْيَانًا * * * وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنًا
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

وَقَالَ تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } . وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْمَلَالَةِ لَمَا نَكَبْت عَنْ الْإِطَالَةِ . نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ أَنْ يَسْلُكَ بِنَا وَبِكُمْ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ وَأَنْ يُجَنِّبَنَا وَإِيَّاكُمْ مَسْلَكَ الْغَوَايَةِ . إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ . وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَنِعْمَ النَّصِيرُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ الْمُنْتَخَبِينَ . هَذَا جَوَابُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ جَمَالِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمَحْمُودِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ الْبَتِّيِّ الْحَنْبَلِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى . قَالَ الْمُؤَلِّفُ : وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْت .

جَوَابٌ آخَرُ :
لِبَعْضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الشَّامِ الْمَالِكِيَّةِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهُوَ حَسْبِي .
السَّفَرُ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ . وَأَمَّا مَنْ سَافَرَ إلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ فِيهِ وَيُسَلِّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَمَشْرُوعٌ كَمَا ذُكِرَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا لَوْ قَصَدَ إعْمَالَ الْمَطِيِّ لِزِيَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقْصِدْ الصَّلَاةَ فَهَذَا السَّفَرُ إذَا ذَكَرَ رَجُلٌ فِيهِ خِلَافًا لِلْعُلَمَاءِ : وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ : وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُبَاحٌ . وَأَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ بِطَاعَةِ وَلَا قُرْبَةٍ فَمَنْ جَعَلَهُ طَاعَةً وَقُرْبَةً عَلَى مُقْتَضَى هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ كَانَ حَرَامًا بِالْإِجْمَاعِ وَذَكَرَ حُجَّةَ كُلِّ قَوْلٍ مِنْهُمَا أَوْ رَجَّحَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ . لَمْ يَلْزَمْهُ مَا يَلْزَمُ مَنْ تَنَقَّصَ إذْ لَا تَنَقُّصَ وَلَا إزْرَاءَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِسَائِلِ سَأَلَهُ : أَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : إنْ كَانَ أَرَادَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَأْتِهِ وَلْيُصَلِّ فِيهِ . وَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْقَبْرَ فَلَا يَفْعَلْ لِلْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ { لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كَتَبَهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ الْمَالِكِيُّ .
كَذَلِكَ يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ الْمَالِكِيُّ .
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ نَقَلْت هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ كُلَّهَا مِنْ خَطِّ الْمُفْتِينَ بِهَا .
قَالَ : وَوَقَفْت عَلَى كِتَابٍ وَرَدَ مَعَ أَجْوِبَةِ أَهْلِ بَغْدَادَ وَصُورَتُهُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَاصِرِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمُعِزِّ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِدَوَامِ أَيَّامِ الدَّوْلَةِ الْمُبَارَكَةِ السُّلْطَانِيَّةِ . الْمَالِكِيَّةِ النَّاصِرِيَّةِ ؛ أَلْبَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِبَاسَ الْعِزِّ الْمَقْرُونِ بِالدَّوَامِ وَحَلَّاهَا بِحِلْيَةِ النَّصْرِ الْمُسْتَمِرِّ بِمُرُورِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ إلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الْبَرَرَةِ الْكِرَامِ .

اللَّهُمَّ إنَّ بَابَك لَمْ يَزَلْ مَفْتُوحًا لِلسَّائِلِينَ وَرِفْدَك مَا بَرِحَ مَبْذُولًا لِلْوَافِدِينَ مَنْ عَوَّدْته مَسْأَلَتَك وَحْدَك لَمْ يَسْأَلْ أَحَدًا سِوَاك وَمَنْ مَنَحْته منائح رِفْدِك لَمْ يَفِدْ عَلَى غَيْرِك وَلَمْ يَحْتَمِ إلَّا بِحِمَاك . أَنْتَ الرَّبُّ الْعَظِيمُ الْكَرِيمُ الْأَكْرَمُ قَصْدُ بَابِ غَيْرِك عَلَى عِبَادِك مُحَرَّمٌ . أَنْتَ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُك وَلَا مَعْبُودَ سِوَاك عَزَّ جَارُك وَجَلَّ ثَنَاؤُك وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُك وَعَظُمَ بَلَاؤُك وَلَا إلَهَ غَيْرُك . وَلَمْ تَزَلْ سُنَّتُك فِي خَلْقِك جَارِيَةً بِامْتِحَانِ أَوْلِيَائِك وَأَحْبَابِك تَفَضُّلًا مِنْك عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانًا مِنْ لَدُنْك إلَيْهِمْ . لِيَزْدَادُوا لَك فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ ذِكْرًا وَلِإِنْعَامِك فِي جَمِيعِ التَّقَلُّبَاتِ شُكْرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْعَالِمُونَ } . اللَّهُمَّ وَأَنْتَ الْعَالِمُ الَّذِي لَا تُعْلَمُ وَأَنْتَ الْكَرِيمُ الَّذِي لَا تَبْخَلُ قَدْ عَلِمْت يَا عَالِمَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ أَنَّ قُلُوبَنَا لَمْ تَزَلْ تَرْفَعُ إخْلَاصَ الدُّعَاءِ صَادِقَةً وَأَلْسِنَتَنَا فِي حَالَتَيْ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ نَاطِقَةٌ . أَنْ تُسْعِفَنَا بِإِمْدَادِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ الْمُبَارَكَةِ الْمَيْمُونَةِ السُّلْطَانِيَّةِ النَّاصِرِيَّةِ . بِمَزِيدِ الْعُلَا وَالرِّفْعَةِ وَالتَّمْكِينِ وَأَنْ تُحَقِّقَ آمَالَنَا فِيهَا بِإِعْلَاءِ الْكَلِمَةِ فِي ذَلِكَ بِرَفْعِ قَوَاعِدِ دَعَائِمِ الدِّينِ وَقَمْعِ مَكَايِدِ الْمُلْحِدِينَ . لِأَنَّهَا الدَّوْلَةُ الَّتِي بَرِئَتْ مِنْ غَشَيَانِ الْجَنَفِ وَالْحَيْفِ وَسَلِمَتْ مِنْ طُغْيَانِ الْقَلَمِ وَالسَّيْفِ . وَاَلَّذِي يَنْطَوِي عَلَيْهِ ضَمَائِرُ الْمُسْلِمِينَ وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ سَرَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ :

أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ النَّاصِرَ لِلدِّينِ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَإِلَهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ : الَّذِي بِتَمْكِينِهِ فِي أَرْضِهِ حَصَلَ التَّمْكِينُ لِمُلُوكِ الْأَرْضِ وَعُظَمَاءِ السَّلَاطِينِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الَّذِي يُتْلَى فَمَنْ شَاءَ فَلْيَتَدَبَّرْ : { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } وَهُوَ مِمَّنْ مَكَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ تَمْكِينًا يَقِينًا لَا ظَنًّا وَهُوَ مِمَّنْ يُعْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } . وَاَلَّذِي عَهِدَهُ الْمُسْلِمُونَ وَتَعَوَّدَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الْمَرَاحِمِ الْكَرِيمَةِ وَالْعَوَاطِفِ الرَّحِيمَةِ : إكْرَامُ أَهْلِ الدِّينِ وَإِعْظَامُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَلَّذِي حَمَلَ عَلَى رَفْعِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ الصَّرِيحَةِ إلَى الْحَضْرَةِ الشَّرِيفَةِ - وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَزَلْ مَرْفُوعَةً إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالنِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ - قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الدِّينُ النَّصِيحَةُ قِيلَ : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ مَشْهُورَانِ بِالصِّحَّةِ وَمُسْتَفِيضَانِ فِي الْأُمَّةِ .

ثُمَّ إنَّ هَذَا الشَّيْخَ الْمُعَظَّمَ الْجَلِيلَ وَالْإِمَامَ الْمُكَرَّمَ النَّبِيلَ : أَوْحَدُ الدَّهْرِ وَفَرِيدُ الْعَصْرِ ؛ طِرَازُ الْمَمْلَكَةِ الْمَلَكِيَّةِ وَعَلَمُ الدَّوْلَةِ السُّلْطَانِيَّةِ لَوْ أَقْسَمَ مُقْسِمٌ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ الْقَدِيرِ : أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ الْكَبِيرَ لَيْسَ لَهُ فِي عَصْرِهِ مُمَاثِلَ وَلَا نَظِيرٌ لَكَانَتْ يَمِينُهُ بَرَّةً غَنِيَّةً عَنْ التَّكْفِيرِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ وُجُودِ مِثْلِهِ السَّبْعُ الْأَقَالِيمُ إلَّا هَذَا الْإِقْلِيمَ يُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ كُلُّ مُنْصِفٍ جُبِلَ عَلَى الطَّبْعِ السَّلِيمِ . وَلَسْت بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ أُطْرِيهِ بَلْ لَوْ أَطْنَبَ مُطْنِبٌ فِي مَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لَمَا أَتَى عَلَى بَعْضِ الْفَضَائِلِ الَّتِي هِيَ فِيهِ : أَحْمَد ابْن تَيْمِيَّة دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ يُتَنَافَسُ فِيهَا تُشْتَرَى وَلَا تُبَاعُ لَيْسَ فِي خَزَائِنِ الْمُلُوكِ دُرَّةٌ تُمَاثِلُهَا وَتُؤَاخِيهَا انْقَطَعَتْ عَنْ وُجُودِ مِثْلِهِ الْأَطْمَاعُ . وَلَقَدْ أَصَمَّ الْأَسْمَاعَ وَأَوْهَى قُوَى الْمَتْبُوعِينَ وَالْأَتْبَاعِ : سَمَّاعُ رَفْعِ أَبِي الْعَبَّاسِ - أَحْمَد ابْنِ تَيْمِيَّة - إلَى الْقِلَاعِ . وَلَيْسَ يَقَعُ مِنْ مِثْلِهِ أَمْرٌ يُنْقَمُ مِنْهُ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا قَدْ لُبِّسَ عَلَيْهِ وَنُسِبَ إلَى مَا يُنْسَبُ مِثْلُهُ إلَيْهِ . وَالتَّطْوِيلُ عَلَى الْحَضْرَةِ الْعَالِيَةِ لَا يَلِيقُ إنْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا قُطْبٌ فَهُوَ الْقُطْبُ عَلَى التَّحْقِيقِ قَدْ نَصَّبَ اللَّهُ السُّلْطَانَ أَعْلَى اللَّهُ شَأْنَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْصِبَ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ لَمَّا صَرَفَ اللَّهُ وُجُوهَ أَهْلِ الْبِلَادِ إلَيْهِ حِينَ أَمْحَلَتْ الْبِلَادُ وَاحْتَاجَ أَهْلُهَا إلَى الْقُوتِ الْمُدَّخَرِ لَدَيْهِ . وَالْحَاجَةُ بِالنَّاسِ الْآنَ إلَى قُوتِ الْأَرْوَاحِ الْمُشَارِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إلَيْهَا لَا خَفَاءَ

الزَّمَانِ إلَيْهَا لَا خَفَاءَ أَنَّهَا لِلْعُلُومِ الشَّرِيفَةِ وَالْمَعَانِي اللَّطِيفَةِ . وَقَدْ كَانَتْ فِي بِلَادِ الْمَمْلَكَةِ السُّلْطَانِيَّةِ - حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى - تُكَالُ إلَيْنَا جُزَافًا بِغَيْرِ أَثْمَانٍ مِنْحَةً عَظِيمَةً مِنْ اللَّهِ لِلسُّلْطَانِ وَنِعْمَةً جَسِيمَةً إذْ خَصَّ بِلَادَ مَمْلَكَتِهِ وَإِقْلِيمَ دَوْلَتِهِ بِمَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ وَكَانَ قَدْ وَفَدَ الْوَافِدُونَ مِنْ سَائِر الْأَمْصَارِ إلَى تِلْكَ الدِّيَارِ ؛ فَوَجَدُوا صَاحِبَ صُوَاعِ الْمَلِكِ قَدْ رُفِعَ إلَى الْقِلَاعِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمِيزَةِ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْبِلَادِ لِتُشْتَرَى أَوْ تُبَاعَ فَصَادَفَ ذَلِكَ جَدْبُ الْأَرْضِ وَنَوَاحِيهَا جَدْبًا أَعْطَبَ أَهَالِيهَا حَتَّى صَارُوا مِنْ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إلَى الْأَقْوَاتِ كَالْأَمْوَاتِ وَاَلَّذِي عَرَضَ لِلْمَلِكِ بِالتَّضْيِيقِ عَلَى صَاحِبِ صُوَاعِهِ مَعَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى غِذَاءِ الْأَرْوَاحِ لَعَلَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ مِنْ أَكَابِرِ الْأَوْلِيَاءِ وَأَعْيَانِ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَهَذِهِ نَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا } . وَأَمَّا إزْرَاءُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ فِي فَتْوَاهُ وَجَوَابِهِ عَنْ مَسْأَلَةِ شَدِّ الرِّحَالِ إلَى الْقُبُورِ . فَقَدْ حَمَلَ جَوَابَ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْبِلَادِ إلَى نُظَرَائِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَقُرَنَائِهِمْ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَكُلُّهُمْ أَفْتَى : أَنَّ الصَّوَابَ فِي الَّذِي بِهِ أَجَابَ .

وَالظَّاهِرُ بَيْنَ الْأَنَامِ أَنَّ إكْرَامَ هَذَا الْإِمَامِ وَمُعَامَلَتَهُ بِالتَّبْجِيلِ وَالِاحْتِرَامِ فِيهِ قِوَامُ الْمُلْكِ وَنِظَامُ الدَّوْلَةِ وَإِعْزَازُ الْمِلَّةِ ؛ وَاسْتِجْلَابُ الدُّعَاءِ وَكَبْتُ الْأَعْدَاءِ وَإِذْلَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ ؛ وَإِحْيَاءُ الْأُمَّةِ وَكَشْفُ الْغُمَّةِ وَوُفُورُ الْأَجْرِ وَعُلُوُّ الذِّكْرِ وَرَفْعُ الْبَأْسِ وَنَفْعُ النَّاسِ وَلِسَانُ حَالِ الْمُسْلِمِينَ تَالٍ قَوْلَ الْكَبِيرِ المتعال : { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } . وَالْبِضَاعَةُ الْمُزْجَاةُ : هِيَ هَذِهِ الْأَوْرَاقُ الْمَرْقُومَةُ بِالْأَقْلَامِ وَالْمِيزَةُ الْمَطْلُوبَةُ : هِيَ الْإِفْرَاجُ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَاَلَّذِي حَمَلَ عَلَى هَذَا الْإِقْدَامِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الدِّينُ النَّصِيحَةُ } وَالسَّلَامُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الْكِرَامِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . هَذَا آخِرُ هَذَا الْكِتَابِ .
قَالَ الْمُؤَلِّفُ : وَوَقَفْت عَلَى " كِتَابٍ آخَرَ " مِنْ بَغْدَادَ أَيْضًا . صُورَتُهُ :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ

وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ . اللَّهُمَّ فَكَمَا أَيَّدْت مُلُوكَ الْإِسْلَامِ وَوُلَاةَ الْأُمُورِ بِالْقُوَّةِ وَالْأَيْدِ وَشَيَّدْت لَهُمْ ذِكْرًا وَجَعَلْتهمْ لِلْمَقْهُورِ اللَّائِذِ بِجَنَابِهِمْ ذُخْرًا وَلِلْمَكْسُورِ الْعَائِذِ بِأَكْنَافِ بَابِهِمْ جَبْرًا فَاشْدُدْ اللَّهُمَّ مِنْهُمْ بِحُسْنِ مَعُونَتِك لَهُمْ أَزْرًا وَأَعْلِ لَهُمْ جَدًّا وَارْفَعْ قَدْرًا وَزِدْهُمْ عِزًّا وَزَوِّدْهُمْ عَلَى أَعْدَائِك نَصْرًا وَامْنَحْهُمْ تَوْفِيقًا مُسَدَّدًا وَتَمْكِينًا مُسْتَمِرًّا . وَبَعْدُ فَإِنَّهُ لَمَّا قَرَعَ أَسْمَاعَ أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَشْرِقِيَّةِ وَالنَّوَاحِي الْعِرَاقِيَّةِ . التَّضْيِيقُ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ تَقِيِّ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ " أَحْمَد ابْنِ تَيْمِيَّة " سَلَّمَهُ اللَّهُ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَشَقَّ عَلَى ذَوِي الدِّينِ وَارْتَفَعَتْ رُءُوسُ الْمُلْحِدِينَ وَطَابَتْ نُفُوسُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْمُبْتَدِعِينَ وَلَمَّا رَأَى عُلَمَاءُ أَهْلِ هَذِهِ النَّاحِيَةِ عِظَمَ هَذِهِ النَّازِلَةِ مِنْ شَمَاتَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ بِأَكَابِرِ الْأَفَاضِلِ وَأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ : أَنْهَوْا حَالَ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ وَالْأَمْرِ الشَّنِيعِ إلَى الْحَضْرَةِ الشَّرِيفَةِ السُّلْطَانِيَّةِ زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا وَكَتَبُوا أَجْوِبَتَهُمْ فِي تَصْوِيبِ مَا أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ . سَلَّمَهُ اللَّهُ فِي فَتَاوَاهُ وَذَكَرُوا مَنْ عِلْمِهِ وَفَضَائِلِهِ بَعْضَ مَا هُوَ فِيهِ وَحَمَلُوا ذَلِكَ إلَى بَيْنَ يَدَيْ مَوْلَانَا مَلِكِ الْأُمَرَاءِ . أَعَزَّ اللَّهُ أَنْصَارَهُ وَضَاعَفَ اقْتِدَاءَهُ غَيْرَةً مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الدِّينِ وَنَصِيحَةً لِلْإِسْلَامِ وَأُمَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ .

وَالْآرَاءُ الْمَوْلَوِيَّةِ الْعَالِيَةِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ لِأَنَّهَا مَمْنُوحَةٌ بِالْهِدَايَةِ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَشْرَفُ التَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحِبَهُ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
مُخْتَصَرٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِي هَذَا الْمُصَنَّفِ مِنْ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ مَعَ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الِاخْتِصَارِ .
وَقَبْلَ ذَلِكَ نَذْكُرُ " لَفْظَ الْجَوَابِ " لِيَتَبَيَّنَ مَا فِي مُعَارَضَتِهِ مَا الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ وَلَفْظُ الْجَوَابِ بَعْدَ لَفْظِ السُّؤَالِ.
وَالسُّؤَالُ سُؤَالُ مُسْتَرْشِدٍ : يَسْأَلُ عَنْ السَّفَرِ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ . وَقَدْ سَمِعَ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ وَالْأَحَادِيثَ الْمُتَعَارِضَةَ وَلَمْ يَعْرِفْ صَحِيحَهَا مِنْ ضَعِيفِهَا . فَقَالَ : مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءَ : فِي رَجُلٍ نَوَى " زِيَارَةَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ " مِثْلِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ فِي

سَفَرِهِ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الزِّيَارَةُ شَرْعِيَّةٌ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } و { مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } .
وَلَفْظُ الْجَوَابِ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا مَنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَصْرُ الصَّلَاةِ . عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ . أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ مُتَقَدِّمِي الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ الْقَصْرَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ وَيَقُولُونَ : إنَّ هَذَا سَفَرُ مَعْصِيَةٍ ؛ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ وَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ . وَطَوَائِفَ كَثِيرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي مِثْلِ هَذَا السَّفَرِ ؛ لِأَنَّهُ سَفَرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّ السَّفَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ لَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فِيهِ . وَهَذَا يَقُولُهُ مَنْ يُجَوِّزُ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ كَأَبِي حَنِيفَةَ . وَيَقُولُهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد مِمَّنْ يُجَوِّزُ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ عبدوس

الْحَرَّانِي . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : { فَزُورُوا الْقُبُورَ } . وَقَدْ يَحْتَجُّ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ : { مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } رَوَاهُ الدارقطني . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ : { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } فَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ : { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحْمَد وَلَمْ يَحْتَجَّ بِهِ أَحَدٌ ؛ وَإِنَّمَا يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ الدارقطني - وَقَدْ زَادَ فِيهَا الْمُجِيبُ حَاشِيَةً بَعْدَ ذَلِكَ - وَلَكِنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي " كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ " لَا مُحْتَجًّا وَلَا مُعْتَضِدًا بِهِ وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو أَحْمَد بْنُ عَدِيٍّ فِي " كِتَابِ الضُّعَفَاءِ " لِيُبَيِّنَ ضَعْفَ رِوَايَتِهِ . فَذَكَرَهُ بِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ شِبْلٍ الْبَاهِلِيِّ الْمِصْرِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : لَمْ يَرْوِهِ عَنْ مَالِكٍ غَيْرُ هَذَا . يَعْنِي وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْآفَةَ مِنْ جِهَتِهِ . قَالَ يُونُسُ بْنُ هَارُونَ : كَانَ النُّعْمَانُ هَذَا مُتَّهَمًا . وَقَالَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ : يَأْتِي

مِنْ الثِّقَاتِ بِالطَّامَّاتِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْمَوْضُوعَاتِ - وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَدِّي عَنْ مَالِكٍ . ثُمَّ قَالَ : أَبُو الْفَرَجِ : قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : النُّعْمَانُ يَأْتِي عَنْ الثِّقَاتِ بِالطَّامَّاتِ . وَقَالَ الدارقطني الطَّعْنُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ ؛ لَا مِنْ نُعْمَانَ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ : { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } فَهَذَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ لَا بِإِسْنَادِ مَوْضُوعٍ وَلَا غَيْرِ مَوْضُوعٍ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ هَذَا لَمْ يُسْمَعْ فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فِي زَمَنِ صَلَاحِ الدِّينِ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا لَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِضَادِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِمَادِ ؛ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ وَرَوَوْهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ الغاضري صَاحِبِ عَاصِمٍ - عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَجَّ فَزَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي } . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى الطَّعْنِ فِي حَدِيثِ حَفْصٍ هَذَا دُونَ قِرَاءَتِهِ . قَالَ البيهقي فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " رَوَى حَفْصُ بْنُ أَبِي دَاوُد - وَهُوَ ضَعِيفٌ - عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ

ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَجَّ فَزَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي } . قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ حَفْصٍ : هَذَا لَيْسَ بِثِقَةِ وَهُوَ أَصَحُّ قِرَاءَةً مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَأَبُو بَكْرٍ أَوْثَقُ مِنْهُ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : كَانَ حَفْصٌ أَقْرَأَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ صَدُوقًا وَكَانَ حَفْصٌ كَذَّابًا . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : تَرَكُوهُ . وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ : مَتْرُوكٌ . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ : ضَعِيفُ الْحَدِيثِ تَرَكْته عَلَى عَمْدٍ . وَقَالَ النَّسَائِي : لَيْسَ بِثِقَةِ وَلَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَقَالَ مَرَّةً : مَتْرُوكٌ وَقَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ : لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَأَحَادِيثُهُ كُلُّهَا مَنَاكِيرُ . وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ : ضَعِيفُ الْحَدِيثِ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي : لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ لَا يُصَدَّقُ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خِرَاشٍ : هُوَ كَذَّابٌ مَتْرُوكٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ . وَقَالَ الْحَاكِمُ : أَبُو أَحْمَد ذَاهِبُ الْحَدِيثِ . وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : عَامَّةُ أَحَادِيثِهِ عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ . وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ آخَرُ رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالدَّارَقُطْنِي وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ هِلَالٍ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي } قَالَ البيهقي : وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ قِيلَ عَنْ مُوسَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ . قَالَ : وَسَوَاءٌ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ عُبَيْدُ اللَّهِ

فَهُوَ مُنْكَرٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ؛ لَمْ يَأْتِ بِهِ غَيْرُهُ . وَقَالَ العقيلي فِي مُوسَى بْنِ هِلَالٍ : هَذَا لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي : هُوَ مَجْهُولٌ . وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النواوي فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي إسْحَاقَ : وَتُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي } . قَالَ النواوي : أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِي وَالدَّارَقُطْنِي وَالْبَيْهَقِي بِإِسْنَادَيْنِ ضَعِيفَيْنِ جِدًّا . قَالَ الْمُجِيبُ فِي تَمَامِ الْجَوَابِ : وَقَدْ احْتَجَّ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي عَلَى جَوَازِ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالْمَسَاجِدِ بِأَنَّهُ كَانَ يَزُورُ قُبَاء وَأَنَّهُ كَانَ يَزُورُ الْقُبُورَ وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْي الِاسْتِحْبَابِ . وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } وَهَذَا الْحَدِيثُ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ . فَلَوْ نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَسْجِدِ أَوْ بِمَشْهَدِ أَوْ يَعْتَكِفَ فِيهِ أَوْ يُسَافِرَ إلَيْهِ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ أَوْ يَأْتِيَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى لِصَلَاةِ أَوْ اعْتِكَافٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَد ؛ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عِنْدَهُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيُوجِبُونَ الْوَفَاءَ بِكُلِّ طَاعَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } وَالسَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ طَاعَةٌ ؛ فَلِهَذَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ . وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى بُقْعَةٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ السَّفَرَ إلَيْهَا إذَا نَذَرَهُ . حَتَّى نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَافَرُ إلَى مَسْجِدِ قُبَاء ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّ مَسْجِدَ قُبَاء تُسْتَحَبُّ زِيَارَتُهُ لِمَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَدِّ رَحْلٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاء لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ كَانَ كَعُمْرَةِ } - وَفِي الْحَاشِيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ كالنَّسَائِي وَابْنِ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ . قَالَ : وَقَالُوا : وَلِأَنَّ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةَ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . فَمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ عِبَادَةً وَفَعَلَهَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ . وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي " الْإِبَانَةِ الصُّغْرَى " مِنْ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ .

وَبِهَذَا يَظْهَرُ ضَعْفُ حُجَّةِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي ؛ لِأَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَسْجِدِ قُبَاء لَمْ تَكُنْ بِشَدِّ رَحْلٍ وَالسَّفَرَ إلَيْهِ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ . وَقَوْلُهُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْبَابِ عَنْهُ جَوَابَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا تَسْلِيمٌ مِنْهُ أَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِعَمَلِ صَالِحٍ وَلَا قُرْبَةٍ وَلَا طَاعَةٍ وَلَا هُوَ مِنْ الْحَسَنَاتِ . فَإِذًا مَنْ اعْتَقَدَ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَعِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَإِذَا سَافَرَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا طَاعَةٌ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَصَارَ التَّحْرِيمُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَا يُسَافِرُ إلَيْهَا إلَّا لِذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ الرَّجُلَ سَافَرَ إلَيْهَا لِغَرَضِ مُبَاحٍ فَهَذَا جَائِزٌ وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَقْتَضِي النَّهْيَ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ . وَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ . لَمْ يُخَرِّجْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ الْمُعْتَمَدَةِ شَيْئًا مِنْهَا وَلَمْ يَحْتَجَّ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِشَيْءِ مِنْهَا بَلْ مَالِكٌ إمَامُ أَهِلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَلَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ أَوْ مَشْرُوعًا أَوْ مَأْثُورًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْرَهْهُ عَالِمُ الْمَدِينَةِ . وَالْإِمَامُ أَحْمَد أَعْلَمُ النَّاسِ فِي زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ : لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ إلَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ . وَكَذَلِكَ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } وَفِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ رَأَى رَجُلًا يَخْتَلِفُ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } مَا أَنْتُمْ وَمَنْ بِالْأَنْدَلُسِ مِنْهُ إلَّا سَوَاءٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا . قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ ؛ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا وَهُمْ دَفَنُوهُ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ خِلَافَ مَا

اعْتَادُوهُ مِنْ الدَّفْنِ فِي الصَّحْرَاءِ ؛ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيَتَّخِذُهُ مَسْجِدًا فَيُتَّخَذَ قَبْرُهُ وَثَنًا . وَكَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَمَّا كَانَتْ " الْحُجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ " مُنْفَصِلَةً عَنْ الْمَسْجِدِ إلَى زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَا يَدْخُلُ عِنْدَهُ أَحَدٌ لَا لِصَلَاةِ هُنَاكَ وَلَا لِتَمَسُّحِ بِالْقَبْرِ وَلَا دُعَاءٍ هُنَاكَ بَلْ هَذَا جَمِيعُهُ إنَّمَا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذَا سَلَّمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادُوا الدُّعَاءَ دَعَوْا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ لَمْ يَسْتَقْبِلُوا الْقَبْرَ .
وَأَمَّا وُقُوفُ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ أَيْضًا لَا يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ . وَقَالَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ : بَلْ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ عِنْدَ السَّلَامِ عَلَيْهِ خَاصَّةً . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ عِنْدَ الدُّعَاءِ - أَيْ الدُّعَاءِ الَّذِي يَقْصِدُهُ لِنَفْسِهِ - إلَّا فِي حِكَايَةٍ مَكْذُوبَةٍ تُرْوَى عَنْ مَالِكٍ وَمَذْهَبُهُ بِخِلَافِهَا . وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمَسُّ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُقَبِّلُهُ . وَهَذَا كُلُّهُ مُحَافَظَةً عَلَى التَّوْحِيدِ . فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ اتِّخَاذَ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ كَمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } قَالُوا : هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ

فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَعَبَدُوهُمْ . وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ هَذَا الْمَعْنَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ كَمَا ذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ هَذِهِ الْأَوْثَانَ صَارَتْ إلَى الْعَرَبِ وَذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرُهُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ فِي " قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ " مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ . وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِي السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْمَشَاهِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ - مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ - الَّذِينَ يُعَطِّلُونَ الْمَسَاجِدَ وَيُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدَ : الَّتِي يُشْرَكُ فِيهَا وَيُكَذَّبُ فِيهَا " وَيُبْتَدَعُ فِيهَا دِينٌ لَمْ يُنَزِّلْ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ الْمَسَاجِدِ دُونَ الْمَشَاهِدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَقَالَ : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَّا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ

فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
فَهَذِهِ أَلْفَاظُ الْمُجِيبِ .
فَلْيَتَدَبَّرْ الْإِنْسَانُ مَا تَضَمَّنَتْهُ وَمَا عَارَضَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُعَارِضُونَ مِمَّا نَقَلُوهُ عَنْ الْجَوَابِ وَمَا ادَّعَوْا أَنَّهُ بَاطِلٌ : هَلْ هُمْ صَادِقُونَ مُصِيبُونَ فِي هَذَا ؟ أَوْ هَذَا ؟ أَوْ هُمْ بِالْعَكْسِ ؟ وَالْمُجِيبُ أَجَابَ بِهَذَا مِنْ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً : بِحَسَبِ حَالِ هَذَا السَّائِلِ وَاسْتِرْشَادِهِ وَلَمْ يَبْسُطْ الْقَوْلَ فِيهَا وَلَا سَمَّى كُلَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِحَسَبِ مَا تَيَسَّرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ . وَإِلَّا فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَوْجُودَانِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَفِي شُرُوحِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ - وَإِنْ كَانَ قَبْرَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَد . الْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ مَعْنَاهُ بِتَحْرِيمِ السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : قَبْرُ نَبِيِّنَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ . ثُمَّ لِهَذَا الْقَوْلِ مَأْخَذَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ السَّفَرَ إلَيْهِ سَفَرٌ إلَى مَسْجِدِهِ . وَهَذَا الْمَأْخَذُ هُوَ الصَّحِيحُ . وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ . وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي : أَنَّ نَبِيَّنَا لَا يُشَبَّهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ

طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : أَنَّهُ يُحْلَفُ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ : حُكْمُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ كَحُكْمِهِ : قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْحَلِفِ بِهِمْ وَقَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي زِيَارَةِ قُبُورِهِمْ . وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ . وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد قَالُوا : الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَنَفْيُ الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ ؛ لَا نَفْيُ الْجَوَازِ . وَهَذَا قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي الْمَعَالِي وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَمَنْ وَافَقَهُمَا مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . فَهَذَانِ هُمَا الْقَوْلَانِ الْمَوْجُودَانِ فِي كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ : ذَكَرَهُمَا الْمُجِيبُ وَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدًا مَعْرُوفًا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْكُتُبِ قَالَ : إنَّهُ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلًا ثَالِثًا لَحَكَاهُ ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ وَإِلَى الْآنَ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ أَحَدًا قَالَ ذَلِكَ وَلَكِنْ أَطْلَقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ الْقَوْلَ بِاسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ . وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْمُجِيبُ نِزَاعًا فِي الْجَوَابِ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . فَالْمُسَافِرُ إلَى قَبْرِهِ لَا بُدَّ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالشَّرِيعَةِ أَنْ يَقْصِدَ السَّفَرَ إلَى

مَسْجِدِهِ فَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ ؛ فَإِنَّ الْجَوَابَ إنَّمَا كَانَ عَمَّنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِهِمْ وَالْعَالِمُ بِالشَّرِيعَةِ لَا يَقَعُ فِي هَذَا فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ اسْتَحَبَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ وَهُوَ يُسَافِرُ إلَى مَسْجِدِهِ . فَكَيْفَ لَا يَقْصِدُ السَّفَرَ إلَيْهِ فَكُلُّ مَنْ عَلِمَ مَا يَفْعَلُهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَهُ وَإِنَّمَا يَنْتَفِي الْقَصْدُ مَعَ الْجَهْلِ . إمَّا مَعَ الْجَهْلِ بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ مُسْتَحَبٌّ كَوْنُهُ مَسْجِدَهُ لَا لِأَجْلِ الْقَبْرِ وَإِمَّا مَعَ الْجَهْلِ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ إنَّمَا يَصِلُ إلَى مَسْجِدِهِ . فَأَمَّا مَعَ الْعِلْمِ بِالْأَمْرَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ . وَلِهَذَا كَانَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ حُكْمٌ لَيْسَ لِسَائِرِ الْقُبُورِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَأَهْلُ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ يَجْعَلُونَ السَّفَرَ إلَى زِيَارَتِهِ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ لَهُمْ مِنْ السَّفَرِ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ . يُسَافِرُونَ إلَيْهِ لِيَدْعُوهُ وَيَدْعُوا عِنْدَهُ وَيَدْخُلُوا إلَى قَبْرِهِ وَيَقْعُدُوا عِنْدَهُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَهُ مَسْجِدٌ بُنِيَ لِأَجْلِ الْقَبْرِ فَيُصَلُّونَ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ تَعْظِيمًا لِصَاحِبِ الْقَبْرِ وَهَذَا مِمَّا لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى فِعْلِهِ وَنَهَى أُمَّتَهُ عَنْ فِعْلِهِ فَقَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ

عَنْ ذَلِكَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَمْ يَعْرِفْ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ . وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِي هَذَا الْمُصَنَّفِ الَّذِي صَنَّفَهُ هَذَا الْمُعْتَرِضُ عَلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ وَبَيَانُ مَا فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالِافْتِرَاءِ . فَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَوَابِ : إنَّهُ ظَهَرَ لِي مِنْ صَرِيحِ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَفَحْوَاهُ وَمَقْصِدِهِ إلَيَّ وَمَغْزَاهُ : وَهُوَ تَحْرِيمُ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَائِرِ الْقُبُورِ وَالسَّفَرِ إلَيْهَا وَدَعْوَاهُ أَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا . فَيُقَالُ : مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ رَأَى الْجَوَابَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ ؛ لَا قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ بِسَفَرِ ؛ وَلَا فِيهِ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ السَّفَرِ ؛ بَلْ قَدْ صَرَّحَ بِالْخِلَافِ فِي ذَلِكَ . فَكَيْفَ يُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ يَقُولُ : إنَّ نَفْسَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ مُطْلَقًا مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا فَهَذَا افْتِرَاءٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْجَوَابِ ؛ ثُمَّ إنَّهُ تَنَاقَضَ فِي ذَلِكَ فَحَكَى بَعْدَ هَذَا عَنْ الْمُجِيبِ أَنَّهُ حَكَى الْخِلَافَ فِي جَوَازِ السَّفَرِ . ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ : إنَّ مَا ادَّعَاهُ مُجْمَعٌ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ وَأَنَّهُ يُنَاقِضُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي يُنَاقِضُ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ . وَأَمَّا الْمُجِيبُ

فَحَكَى قَوْلَهُمْ فِي جَوَازِ السَّفَرِ وَأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةِ وَلَا طَاعَةٍ . فَمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَإِذَا فَعَلَهُ لِاعْتِقَادِ أَنَّهُ طَاعَةٌ كَانَ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ فَصَارَ التَّحْرِيمُ مِنْ جِهَةِ اتِّخَاذِهِ قُرْبَةً . هَذَا لَفْظُ الْجَوَابِ .
وَمَعْلُومٌ فِي كُلِّ عَمَلٍ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ أَوْ مُبَاحٌ لَيْسَ بِقُرْبَةِ أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ قُرْبَةً فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَإِذَا فَعَلَهُ مُتَقَرِّبًا بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا بِالْإِجْمَاعِ كَمَا لَوْ تَقَرَّبَ بِلَعِبِ النَّرْدِ وَالشَّطْرَنْجِ وَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَإِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْحُشُوشِ وَاسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ وَالْمَعَازِفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لِلنَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهَا قُرْبَةٌ . فَاَلَّذِي يَجْعَلُهُ عِبَادَةً يَتَقَرَّبُ بِهِ كَمَا يَتَقَرَّبُ بِالْعِبَادَاتِ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ . وَهَذَا يُشْبِهُ التَّقَرُّبَ بِالْمَلَاهِي وَالْمَعَازِفِ ؛ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَبَعْضُهُمْ أَبَاحَهَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهَا قُرْبَةٌ . فَقَائِلُ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ ؛ وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ زِنْدِيقٌ : مِثْلُ مَا حَكَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي عَنْ ابْنِ الراوندي أَنَّهُ قَالَ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْغِنَاءِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ حَلَالٌ وَأَنَا أَقُولُ إنَّهُ وَاجِبٌ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَلَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ بِسَمَاعِ الْقَصَائِدِ وَالتَّغْبِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُمْ مُخْطِئُونَ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَئِمَّةِ ؛ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْغِنَاءَ قُرْبَةٌ

مُطْلَقًا وَلَكِنْ يَقُولُهُ فِي صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِبَعْضِ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِينَ يُحَرِّكُونَ قُلُوبَهُمْ بِهَذَا السَّمَاعِ إلَى الطَّاعَاتِ فَيُحَرِّكُونَ بِهِ وَجْدَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَاتِ وَوَجْدَ الْحُزْنِ وَالْخَوْفِ وَالتَّرْهِيبِ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ إنَّهُ قُرْبَةٌ مَعَ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ لَوْ جُعِلَ هَذَا قُرْبَةً ؛ لِكَوْنِهِ بِدْعَةً لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةَ وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَفَاسِدَ رَاجِحَةٍ عَلَى مَا ظَنُّوهُ مِنْ الْمَصَالِحِ كَمَا فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا مَنَافِعُ لِلنَّاسِ فَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا . وَالشَّرِيعَةُ تَأْمُرُ بِالْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ وَالْجِهَادُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَتْلُ النُّفُوسِ فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ . وَفِتْنَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الْقَتْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } وَنَهَى عَنْ الْمَفَاسِدِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَمَا نَهَى عَنْ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَعَنْ : " الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُبِيحُهَا قَطُّ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَلَا فِي شِرْعَةٍ مِنْ الشَّرَائِعِ . وَتَحْرِيمُ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ . وَهَذَا الضَّرْبُ تُبِيحُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ فَوَاتِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الِاغْتِذَاءِ بِهِ . وَالْفُقَهَاءُ إنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْخَمْرِ هَلْ تُشْرَبُ لِلْعَطَشِ . لِتَنَازُعِهِمْ فِي

كَوْنِهَا تُذْهِبُ الْعَطَشَ وَالنَّاهِي قَالَ : لَا تَزِيدُ الشَّارِبَ إلَّا عَطَشًا فَلَا يَحْصُلُ بِهِ بَقَاءُ الْمُهْجَةِ . وَالْمُبِيحُ يَقُولُ بَلْ قَدْ تُرَطِّبُ رُطُوبَةً تَبْقَى مَعَهَا الْمُهْجَةُ وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ الْمَأْخَذَيْنِ كَانَ هُوَ الْوَاقِعَ كَانَ قَوْلُ صَاحِبِهِ أَصْوَبَ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مُبَاحٌ كَانَ مَنْ جَعَلَهُ قُرْبَةً مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِهِمْ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ فَمَنْ أَحْدَثَ قَوْلًا ثَالِثًا فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَهُمْ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اسْتِمَاعَ الْغِنَاءِ قُرْبَةٌ مُطْلَقًا وَإِنْ قَالَ إنَّ سَمَاعَ الْقَوْلِ الَّذِي شُرِطَ لَهُ الْمَكَانُ وَالْإِمْكَانُ وَالْإِخْوَانُ - وَهُوَ تَرْغِيبٌ فِي الطَّاعَاتِ وَتَرْهِيبٌ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ - قُرْبَةٌ فَلَا يَقُولُ قَطُّ إنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ الْمَلَاهِيَ فَهُوَ مُتَقَرِّبٌ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : إنَّ السَّفَرَ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قُرْبَةٌ وَإِنَّهُ إذَا نَذَرَ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَنَّهُ يَفِي بِهَذَا النَّذْرِ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْبَةٌ أَوْ قَالُوا هُوَ قُرْبَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا : فَهَذَا حَقٌّ إذَا عُرِفَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُمَا : فَمُرَادُهُمْ السَّفَرُ الْمَشْرُوعُ إلَى مَسْجِدِهِ وَمَا يُفْعَلُ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي تُسَمَّى زِيَارَةً لِقَبْرِهِ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُ يَكْرَهُونَ أَنْ تُسَمَّى زِيَارَةً لِقَبْرِهِ . فَهَذَا الْإِجْمَاعُ

عَلَى هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ . وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا إجْمَاعًا عَلَى مَا صَرَّحُوا بِالنَّهْيِ عَنْهُ أَوْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةِ وَلَا طَاعَةٍ . وَالسَّفَرُ لِغَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ قَدْ صَرَّحَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : كَالْقَاضِي إسْمَاعِيلَ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ وَغَيْرِهِمَا : أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ؛ لَا يَفْعَلُهُ لَا نَاذِرٌ وَلَا مُتَطَوِّعٌ وَصَرَّحُوا بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَإِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدَيْنِ هُوَ مِنْ السَّفَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَإِنْ نَذَرَهُ سَوَاءٌ سَافَرَ لِزِيَارَةِ أَيِّ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ قَبْرٍ مِنْ قُبُورِهِمْ أَوْ قُبُورِ غَيْرِهِمْ أَوْ مَسْجِدٍ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ : فَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَهُمْ مِنْ السَّفَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ؛ فَكَيْفَ يَقُولُونَ : إنَّهُ قُرْبَةٌ ؛ وَلَكِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّخَاذِهِ قُرْبَةً لَا يُنَاقِضُ النِّزَاعَ فِي الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ . وَهَذَا الْإِجْمَاعُ الْمَحْكِيُّ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَا يَقْدَحُ فِيهِ خِلَافُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إنْ وُجِدَ ؛ وَلَكِنْ إنْ وُجِدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصُّلَحَاءِ الْمَعْرُوفِينَ مِنْ السَّلَفِ قَالَ : إنَّهُ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَوْ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَانَ هَذَا قَادِحًا فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ وَيَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ؛ وَلَكِنَّ الَّذِي يَحْكِي الْإِجْمَاعَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ كَثِيرًا لِكَثِيرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَعَ هَذَا فَهَذَا الْقَوْلُ يُرَدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ إلْزَامُ النَّاسِ بِهِ بِلَا حُجَّةٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .

فَصْلٌ :
وَمِنْهَا ظَنُّهُ أَنَّ زِيَارَةَ قَبْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِنْسِ الزِّيَارَةِ الْمَعْهُودَةِ فِي قَبْرِ غَيْرِهِ حَتَّى يَحْتَجَّ عَلَيْهَا بِزِيَارَةِ الْبَقِيعِ وَشُهَدَاءِ أُحُدٍ وَزِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ . وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَ مَنْ حَرَّمَ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ وَسَائِرِ الْقُبُورِ مُجَاهِرًا بِالْعَدَاوَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ مُظْهِرًا لَهُمْ الْعِنَادَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ : كَمَالِكِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ والجُوَيْنِي أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِ أَحْمَد . فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ إمَامُهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ مُجَاهِرِينَ لِلْأَنْبِيَاءِ بِالْعَدَاوَةِ مُعَانِدِينَ لَهُمْ : وَهَذَا لَوْ قَالَهُ فِيمَا أَخْطَئُوا فِيهِ لَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ ؛ فَكَيْفَ إذَا قَالَهُ فِيمَا اتَّبَعُوا فِيهِ الرَّسُولَ وَاتَّبَعُوا فِيهِ سُنَّتَهُ الصَّحِيحَةَ فَحَرَّمُوا مَا حَرَّمَ . فَقَدْ جَعَلَ الْمُطِيعَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي رَضِيَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ عَمَلَهُ مُجَاهِرًا لَهُمْ بِالْعَدَاوَةِ مُعَانِدًا لَهُمْ . فِي كُفْرِ مَنْ حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِإِيمَانِهِ . وَمِثْلُ هَذَا يُبَيِّنُ لَهُ الصَّوَابَ وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ

الرَّسُولُ وَكَانَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَلَيْهِ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ثُمَّ أَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ بِكُفْرِ بَلْ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ سَائِغٌ وَقَائِلُهُ مُجْتَهِدٌ مَأْجُورٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ سَوَاءٌ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ فَإِذَا أَصَرَّ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ تَبَيَّنَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ : فَأَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَمَنْ جَعَلَ اعْتِقَادَ أَنَّ الْمَسِيحَ عَبْدُ اللَّهِ مُعَادَاةً لِلْمَسِيحِ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ مَنْ قَالَ : لَا تَحْلِفْ بِالْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ عَادَاهُمْ وَكَفَرَ ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا يُسْتَتَابُ . وَمِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدْ نَصَّ عَلَيْهَا مَالِكٌ إمَامُهُ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ فِي كُتُبِهِمْ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَهُوَ لَمْ يُعْرَفْ مِمَّا قَالُوا بَلْ يَكْفُرُ وَيُلْعَنُ وَيُشْتَمُ مَنْ قَالَ بِنَفْسِ الْقَوْلِ الَّذِي قَالُوهُ فَيَلْزَمُهُ تَكْفِيرُهُمْ وَسَبُّهُمْ وَاسْتِحْلَالُ دِمَائِهِمْ . وَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ : وَرَدَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَغَيْرُهَا مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الصَّحِيحِ ؛ لَكِنَّهَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ

الشَّرْعِيَّةِ . وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَا مَا قَالَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الرافضي الَّذِي يَقُولُ : قَدْ رُوِيَ فِي النَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ الْإِمَامُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَأُخَرُ دُونَهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ زِيَارَةِ قَبْرِهِ لَمْ يُخَرِّجْ شَيْئًا مِنْهَا أَهْلُ الصَّحِيحِ وَلَا السُّنَنِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا : كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ ؛ وَلَا الْمَسَانِيدِ الَّتِي هِيَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ : كَمُسْنَدِ أَحْمَد . وَلَا اسْتَدَلَّ بِشَيْءِ مِنْهَا إمَامٌ ؛ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا حَدِيثًا وَاحِدًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْزُوَهُ إلَى كِتَابٍ . وَقَوْلُهُ : إنَّ مَا لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الصَّحِيحِ مِنْهَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا . إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ حَسَنَةً عِنْدَ مَنْ قَسَّمَ الْحَدِيثَ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ وَهَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِحُسْنِهَا وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ لَمْ يَحْكُمُوا بِذَلِكَ وَهُوَ وَأَمْثَالُهُ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ . فَالْقَوْلُ بِذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ فِي الدِّينِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ : بِأَنْ يُدْخِلَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا بِالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ جَمِيعُ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا ضَعَّفَهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ ؛ بَلْ حَكَمُوا بِأَنَّهُ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ " الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ " الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهَا وَمَقْصُودُهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ ؛ كَالصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ

وَبَيْنَ مَا ابْتَدَعَهُ الضَّالُّونَ مِنْ الْإِشْرَاكِ بِالْمَيِّتِ وَالْحَجِّ إلَى قَبْرِهِ وَدُعَائِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَقْصُودُهُ بِزِيَارَتِهِ وَالسَّفَرِ إلَيْهِ أَنَّهُ يَدْعُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؛ لَا أَنَّهُ يَدْعُو لَهُ . وَهَذِهِ الزِّيَارَةُ لَمْ يَفْعَلْهَا الرَّسُولُ وَلَا أَذِنَ فِيهَا قَطُّ ؛ فَكَيْفَ بِالسَّفَرِ إلَيْهَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ إلَى الطَّوَاغِيتِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَ زِيَارَةَ الْمَيِّتِ كَزِيَارَتِهِ حَيًّا وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ { الَّذِي زَارَ أَخًا لَهُ فِي الْحَيَاةِ } عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ الْمَيِّتِ وَهَذِهِ التَّسْوِيَةُ وَالْقِيَاسُ مَا عُرِفَتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ سَافَرُوا إلَى الرَّسُولِ فَسَاعَدُوهُ وَسَمِعُوا كَلَامَهُ وَخَاطَبُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَجَابَهُمْ وَعَلَّمَهُمْ وَأَدَّبَهُمْ وَحَمَّلَهُمْ رَسَائِلَ إلَى قَوْمِهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ : لَا يَكُونُ مِثْلَهُمْ أَحَدٌ بِالْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ : كَالْجِهَادِ وَالْحَجِّ . فَكَيْفَ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ ظَاهِرِ حُجْرَتِهِ مِثْلَهُمْ أَوْ تُقَاسُ هَذِهِ الزِّيَارَةُ بِهَذِهِ الزِّيَارَةِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا يُفْعَلُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ حُجْرَتِهِ مِنْ صَلَاةٍ عَلَيْهِ وَسَلَامٍ وَثَنَاءٍ وَإِكْرَامٍ وَذِكْرِ مَحَاسِنَ وَفَضَائِلَ : مُمْكِنٌ فِعْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَمَاكِنِ وَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ مِنْ الْأَجْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ كَمَا قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ } . وَلَوْ كَانَ لِلْأَعْمَالِ عِنْدَ الْقَبْرِ فَضِيلَةٌ لَفَتَحَ لِلْمُسْلِمِينَ بَابَ الْحُجْرَةِ ؛ فَلَمَّا مُنِعُوا مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْقَبْرِ

وَأُمِرُوا بِالْعِبَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ : عُلِمَ أَنَّ فَضِيلَةَ الْعَمَلِ فِيهِ لِكَوْنِهِ فِي مَسْجِدِهِ كَمَا أَنَّ صَلَاةً فِي مَسْجِدِهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ وَلَمْ يَأْمُرْ قَطُّ بِأَنْ يُقْصَدَ بِعَمَلِ صَالِحٍ أَنْ يُفْعَلَ عِنْدَ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِنْهَا افْتِرَاؤُهُ عَلَى الْمُجِيبِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ افْتِرَاءً ظَاهِرًا وَسَبَبُ افْتِرَائِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَرَجَّحَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ لِكَوْنِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ تُوَافِقُهُمْ وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ مُعَادَاةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ إذْ كُلُّ مَنْ عَادَى سُنَّتَهُ وَشَرِيعَتَهُ وَدِينَهُ فَقَدْ عَادَاهُ وَمَنْ عَادَى شَخْصًا لِأَجْلِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا عَادَى الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ . فَكَيْفَ يَجُوزُ الْكَذِبُ وَالِافْتِرَاءُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَهُوَ كَذِبٌ ظَاهِرٌ . وَلَوْ كَانَ الْمُجِيبُ مُخْطِئًا لَمَا جَازَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ وَالِافْتِرَاءَ حَرَامٌ مُطْلَقًا . وَاَللَّهُ أَوْجَبَ الصِّدْقَ وَالْعَدْلَ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ مِنْ الْأَقْوَالِ هِيَ أَقْوَالُ الْمُتَّبِعِينَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُعْتَرِضُ الْقَادِحُ فِيهِمْ وَفِيمَا قَالُوهُ الشَّاتِمُ الْمُكَفِّرُ لِمَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ وَأَطَاعَهُ وَاتَّبَعَهُ عَلَى نَفْسِ مَا هُوَ مُتَابَعَةٌ لِلرَّسُولِ وَإِيمَانٌ بِهِ : قَوْلُهُ هَذَا الْمُتَضَمِّنُ عَدَاوَةَ الرَّسُولِ وَعَدَاوَةَ مَا جَاءَ بِهِ وَعَدَاوَةَ مَنْ اتَّبَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ . فَقَوْلُهُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ مِنْ جِنْسِ أَقْوَالِ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمُوَالِينَ لِأَهْلِ

الْإِفْكِ وَالشِّرْكِ الْمُضَاهِينَ لِلنَّصَارَى وَأَمْثَالِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ قَوْلَهُمْ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ ؛ لِقِلَّةِ الْعِلْمِ وَسُوءِ الْفَهْمِ وَالْبُعْدِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَعْرِفَةِ مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ . بَلْ هُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ يَتَكَلَّمُونَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْكَلَامِ صَاحِبُهَا إلَى الِاسْتِتَابَةِ وَالتَّعْزِيرِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّفْهِيمِ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ وَالْمُنَاظَرَةِ لَهُ كَمَا يُوجَدُ فِي جُهَّالِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُسَارِعُ إلَى تَكْفِيرِ مَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ مَنْ السَّلَفِ ؛ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ وَسُوءِ فَهْمِهِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . فَهُمْ مُبْتَدِعُونَ بِدْعَةً بِجَهْلِهِمْ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيَتَّبِعُونَ سُنَّةَ الرَّسُولِ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ وَيَعْدِلُونَ فِيهِمْ وَيَعْذُرُونَ مَنْ اجْتَهَدَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ ؛ إنَّمَا يَذُمُّونَ مَنْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْمُفَرِّطُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ وَالْمُعْتَدِي الْمُتَّبِعُ لِهَوَاهُ بِلَا عِلْمٍ لِفِعْلِهِ الْمُحَرَّمَ . فَيَذُمُّونَ مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ أَوْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ ؛ وَلَا يُعَاقِبُونَهُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } لَا سِيَّمَا فِي مَسَائِلَ تَنَازَعَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ وَخَفِيَ الْعِلْمُ فِيهَا عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ وَمَنْ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ بِطَرِيقَةِ أَهْلِ

الْعِلْمِ بَلْ جَازَفَ فِي الْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ . فَصَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَصْلُحُ لِلْمُنَاظَرَةِ ؛ إلَّا كَمَا يُنَاظَرُ جُهَّالُ الْعَوَامِّ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُضَاهِينَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَنْ قَالَ الْحَقَّ فِي الْمَخْلُوقِ سَابًّا لَهُ شَاتِمًا وَهُمْ يَسُبُّونَ اللَّهَ وَيَشْتُمُونَهُ وَيُؤْذُونَهُ وَلَا يَخَافُونَ مَنْ سَبِّ الْخَالِقِ وَشَتْمِهِ وَالشِّرْكِ بِهِ مَا يَخَافُونَهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ لَهُمْ : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ : { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ } فَلَا يَغْضَبُونَ مَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ بِالْبَاطِلِ كَمَا يَغْضَبُونَ مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ بِالْحَقِّ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ . } وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ : { أَنَّ النَّصَارَى - نَصَارَى نَجْرَانَ -

لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : يَا مُحَمَّدُ لَمْ تَذْكُرْ صَاحِبَنَا ؟ قَالَ : وَمَنْ صَاحِبُكُمْ ؟ قَالُوا : عِيسَى قَالَ : وَأَيُّ شَيْءٍ أَقُولُ لَهُ ؟ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ . قَالُوا : بَلْ هُوَ اللَّهُ فَقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِعَارِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ . فَقَالُوا : بَلَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنْ اللَّهِ ؛ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ : شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ وَكَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ . فَأَمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ إنِّي اتَّخَذْت وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ . وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ : لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَن عَلَيَّ مِنْ إعَادَتِهِ } وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ عَنْ النَّصَارَى : لَا تَرْحَمُوهُمْ فَلَقَدْ سَبُّوا اللَّهَ مسبة مَا سَبَّهُ إيَّاهَا أَحَدٌ مِنْ الْبَشَرِ . فَهَؤُلَاءِ يَنْتَقِصُونَ الْخَالِقَ وَيَأْنَفُونَ أَنْ يُذْكَرَ الْمَخْلُوقُ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ تَنْقِيصًا لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ إعْطَاؤُهُ حَقَّهُ وَخَفْضٌ لَهُ عَنْ دَرَجَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّهَا إلَّا اللَّهُ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . وَمِنْهَا ظَنُّهُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ قُرْبَةً جَازَ التَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ

وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْخَطَأِ .
وَمِنْهَا ظَنُّهُ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَحْرِيمِ السَّفَرِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ بَلْ إنَّمَا نَقَلَهُ الْمُجِيبُ إنْ صَحَّ نَقْلُهُ عَمَّنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ . وَهُوَ نَصُّ مَالِكٍ الصَّرِيحِ فِي خُصُوصِ قَبْرِ الرَّسُولِ وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ . وَمِنْهَا زَعْمُهُ أَنَّ الَّذِينَ حَكَى الْمُجِيبُ قَوْلَهُمْ - وَهُمْ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ عبدوس وَأَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي - لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مَنْ سِوَاهُمْ وَلَا يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ لِمَنْ عَدَاهُمْ ؛ وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يُقَالُ فِي أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ ؛ إلَّا صَاحِبَ الشَّرْعِ فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ النَّبِيَّ يَسْمَعُ مِنْ الْقُرْبِ وَيُبَلَّغُ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ مِنْ الْبُعْدِ : لَمْ يَذْكُرْ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْحِسَانِ الَّتِي فِي السُّنَنِ ؛ بَلْ إنَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ { مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْته وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا بُلِّغْته } وَهَذَا إنَّمَا يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ السدي عَنْ الْأَعْمَشِ . وَهُوَ كَذَّابٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْأَعْمَشِ بِإِجْمَاعِهِمْ . ثُمَّ قَدْ غَيَّرَ لَفْظَهُ . فَفِي النُّسْخَةِ الَّتِي رَأَيْتهَا مُصَحَّحًا : { وَمَنْ

صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا سَمِعْته } وَإِنَّمَا لَفْظُهُ { بُلِّغْته } وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ مُسْنَدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَهُوَ نَقْلٌ مِنْهُ . وَمَنْ يَحْتَجُّ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ وَيُعْرِضُ عَنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ السُّنَنِ الْحِسَانِ فَهُوَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ . وَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّفَ لَفْظَهُ فَهُوَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْمَلَاحِدَةِ فِي قَوْلِهِ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ } الْحَدِيثُ فَهُوَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ . وَمَعَ هَذَا فَحَرَّفُوا لَفْظَهُ فَقَالُوا : أَوَّلُ بِالضَّمِّ وَلَفْظُهُ { أَوَّلَ مَا خَلَقَ } بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ كَمَا رُوِيَ " لَمَّا خَلَقَ " . وَمِنْهَا أَنَّهُ احْتَجَّ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى زِيَارَةِ قَبْرِهِ ؛ وَظَنَّ أَنَّ الْجَوَابَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْجَوَابِ بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ طَاعَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَهُ مِمَّا يُسَمَّى بِزِيَارَةِ لِقَبْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُسْتَحَبَّةِ : مِثْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ بِالْوَسِيلَةِ وَغَيْرِهَا وَالشَّهَادَةِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَتَعْزِيرِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الزِّيَارَةِ : فَهَذَا كُلُّهُ مُسْتَحَبٌّ . وَالْمُجِيبُ يُصَرِّحُ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُسَمَّى هَذَا زِيَارَةً ؟ وَذَكَرَ تَنَازُعَ الْعُلَمَاءِ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَإِجْمَاعَهُمْ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ . فَذَكَرَ جَوَازَ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ وَزِيَارَةِ قَبْرِهِ وَذَكَرَ بَعْضَ مَا

تُنُوزِعَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ . وَهَذَا ظَنَّ أَنَّ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ نَبِيِّنَا كَالسَّفَرِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ مَسْجِدَهُ عِنْدَ قَبْرِهِ وَالسَّفَرَ إلَيْهِ مَشْرُوعٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ زِيَارَتَهُ كَمَا يُزَارُ غَيْرُهُ مُمْتَنِعَةٌ وَإِنَّمَا يَصِلُ الْإِنْسَانُ إلَى مَسْجِدِهِ وَفِيهِ يَفْعَلُ مَا شُرِعَ لَهُ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْرُ نَبِيِّنَا يُزَارُ كَمَا تُزَارُ الْقُبُورُ لَكَانَ أَهْلُ مَدِينَتِهِ أَحَقَّ النَّاسِ بِذَلِكَ كَمَا أَنَّ أَهْلَ كُلِّ مَدِينَةٍ أَحَقُّ بِزِيَارَةِ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا اتَّفَقَ السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ مَدِينَتِهِ لَا يَزُورُونَ قَبْرَهُ بَلْ وَلَا يَقِفُونَ عِنْدَهُ لِلسَّلَامِ إذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَخَرَجُوا . وَإِنْ لَمْ يُسَمَّى هَذَا زِيَارَةً بَلْ يُكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ السَّفَرِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَفْعَلُونَهُ : عُلِمَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ زِيَارَةَ قَبْرِهِ مَشْرُوعَةً كَزِيَارَةِ قَبْرِ غَيْرِهِ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ نَهَى أَنْ يُتَّخَذَ قَبْرُهُ عِيدًا وَأَمَرَ الْأُمَّةَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَتُسَلِّمَ حَيْثُ مَا كَانَتْ وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ يَبْلُغُهُ . فَلَمْ يَكُنْ تَخْصِيصُ الْبُقْعَةِ بِالدُّعَاءِ لَهُ مَشْرُوعًا ؛ بَلْ يُدْعَى لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ وَعِنْدَ كُلِّ

أَذَانٍ وَفِي كُلِّ صَلَاةٍ وَعِنْدَ دُخُولِ كُلِّ مَسْجِدٍ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ . وَهَذَا لِعُلُوِّ قَدْرِهِ وَارْتِفَاعِ دَرَجَتِهِ . فَقَدْ خَصَّهُ اللَّهُ مِنْ الْفَضِيلَةِ . بِمَا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ ؛ لِئَلَّا يُجْعَلَ قَبْرُهُ مِثْلَ سَائِرِ الْقُبُورِ ؛ بَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَيُبَيَّنُ فَضْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى أُمَّتِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَلْزَمْ مِنْ دَعْوَاهُ بِأَنَّ ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَنْ يَكُونَ السَّادَةُ الصَّحَابَةُ مَعَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ لِلْإِجْمَاعِ خَارِقِينَ مُصِرِّينَ عَلَى تَقْرِيرِ الْحَرَامِ مُرْتَكِبِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَفَتَاوِيهِمْ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْإِقْدَامُ مُجْمِعِينَ عَلَى الضَّلَالَةِ سَالِكِينَ طَرِيقَ العماية وَالْجَهَالَةِ . وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْلِ بِالشَّرِيعَةِ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ - الَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ - وَبَيْنَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ - الَّتِي أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ : مِمَّا يُبَيِّنُ اشْتِمَالَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ مُخَالَفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ كَانَ صَاحِبُهُ مِمَّنْ يَفْهَمُ مَا قَالَ وَلَوَازِمَهُ لَكَانَ مُرْتَدًّا يَجِبُ قَتْلُهُ لَكِنَّهُ جَاهِلٌ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَتَصَوَّرُهُ وَيَتَصَوَّرُ لَوَازِمَهُ . فَيُقَالُ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ - مِمَّنْ ظَنَّ أَنَّ فِي الْجَوَابِ مَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ -

الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ سَلَفًا وَخَلَفًا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ هُوَ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ فِيهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالْقِيَامِ بِحَقِّ رَسُولِهِ : مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ كَشَهَادَتِنَا لَهُ وَثَنَائِنَا عَلَيْهِ . وَصَلَاتِنَا وَسَلَامِنَا عَلَيْهِ مِنْ أَفْضَلِ مَا عَبَدْنَا اللَّهَ بِهِ وَهَذَا وَنَحْوُهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي مَسْجِدِهِ سَوَاءٌ سُمِّيَ زِيَارَةً لِقَبْرِهِ أَوْ لَمْ يُسَمَّ . فَإِنَّ لَفْظَ الزِّيَارَةِ لِقَبْرِهِ وَاسْتِحْبَابَ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمَنْ وَافَقَهُ السَّلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ وَالصَّلَاةُ . وَهُمْ لَا يُسَمُّونَ هَذَا زِيَارَةً لِقَبْرِهِ . فَكَيْفَ بالذين لَمْ يَكُونُوا يَقِفُونَ عِنْدَ الْقَبْرِ بِحَالِ وَهُمْ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ . وَأَمَّا مَا ابْتَدَعَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ وَسَمَّى ذَلِكَ " زِيَارَةً لِقَبْرِهِ " فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ الَّتِي تُفْعَلُ عِنْدَ قَبْرِ غَيْرِهِ لَيْسَ هُوَ مِنْ الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَأَمَّا مَا يَدْخُلُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ فَهَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ بِسُنَّتِهِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ وَبِإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ . ثُمَّ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ مَنْ لَا يُسَمِّي هَذَا " زِيَارَةً لِقَبْرِهِ " بَلْ يَكْرَهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ : إنَّ ذَلِكَ سَفَرٌ إلَى قَبْرِهِ . وَقَدْ صَرَّحَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِثْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ إلَى هُنَاكَ إذَا

كَانَ مَقْصُودُهُ الْقَبْرَ أَنَّهُ سَفَرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } وَأَنَّ السَّفَرَ الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ أَنْ يُقْصَدَ السَّفَرُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ إلَى الْمَدِينَةِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ : لِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ . فَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ مَعْرُوفًا فِي الْكُتُبِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ فَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ السَّفَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ . وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ الْعُلَمَاءِ يُسَمُّونَ هَذَا زِيَارَةً لِقَبْرِهِ . وَيَقُولُونَ : تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قَبْرِهِ أَوْ السَّفَرُ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ وَمَقْصُودُهُمْ بِالزِّيَارَةِ هُوَ مَقْصُودُ الْأَوَّلِينَ وَهُوَ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ وَأَنْ يُفْعَلَ فِي مَسْجِدِهِ مَا يُشْرَعُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَهَذَا عِنْدَهُمْ يُسَمَّى زِيَارَةً لِقَبْرِهِ مَعَ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَزُورُ قَبْرَهُ الزِّيَارَةَ الْمَعْرُوفَةَ فِي سَائِر الْقُبُورِ فَإِنَّ تِلْكَ قُبُورٌ بَارِزَةٌ يُوصَلُ إلَيْهَا وَيُقْعَدُ عِنْدَهَا . أَوْ يُقَامُ عِنْدَهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُفْعَلَ عِنْدَهَا مَا يُشْرَعُ : كَالدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَمَا يُنْهَى عَنْهُ : كَدُعَائِهِ وَالشِّرْكِ بِهِ وَالنِّيَاحَةِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَالنَّدْبِ . فَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ " زِيَارَةِ الْقُبُورِ " . وَالرَّسُولُ دُفِنَ فِي بَيْتِهِ فِي حُجْرَتِهِ وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْ الدُّخُولِ إلَى هُنَاكَ وَالْوُصُولِ إلَى قَبْرِهِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَزُورَ قَبْرَهُ كَمَا يَزُورُ قَبْرَ غَيْرِهِ ؛ لَا زِيَارَةً شَرْعِيَّةً وَلَا بِدْعِيَّةً ؛ بَلْ إنَّمَا يَصِلُ جَمِيعُ الْخَلْقِ

إلَى مَسْجِدِهِ وَفِيهِ يَفْعَلُونَ مَا يُشْرَعُ لَهُمْ أَوْ مَا يُكْرَهُ لَهُمْ . وَالسَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ - لَمَّا شُرِعَ - سَفَرُ طَاعَةٍ وَقُرْبَةٍ بِالْإِجْمَاعِ ؛ وَهُوَ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ . وَالْمُجِيبُ قَدْ ذَكَرَ اسْتِحْبَابَ هَذَا السَّفَرِ وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْجَوَابِ وَبَيَّنَ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ وَزِيَارَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيَّنَ مَا لَمْ يُشْرَعْ مِنْ السَّفَرِ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ غَيْرِهِ مِمَّا فِي قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ فَإِنَّ السَّفَرَ إلَى هُنَاكَ لَيْسَ هُوَ سَفَرٌ إلَى مَسْجِدٍ شُرِعَ السَّفَرُ إلَيْهِ بَلْ الْمَسَاجِدُ الَّتِي هُنَاكَ إنْ كَانَتْ مِمَّا يُشْرَعُ بِنَاؤُهُ وَالصَّلَاةُ فِيهِ - كَجَوَامِعِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي فِي الْأَمْصَارِ - فَهَذِهِ لَيْسَ السَّفَرُ إلَيْهَا قُرْبَةً وَلَا طَاعَةً ؛ لَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا عَامَّةِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَالسَّفَرُ إلَيْهَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . فَإِنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفْرَغٌ . وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يُقَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } إلَى مَسْجِدٍ { إلَّا الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ } فَيَكُونُ نَهْيًا عَنْهَا بِاللَّفْظِ وَنَهْيًا عَنْ سَائِرِ الْبِقَاعِ الَّتِي يُعْتَقَدُ فَضِيلَتُهَا بِالتَّنْبِيهِ وَالْفَحْوَى وَطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ وَالْعِبَادَةَ فِيهَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْعِبَادَةِ فِي تِلْكَ الْبِقَاعِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَإِذَا كَانَ السَّفَرُ إلَى الْبِقَاعِ الْفَاضِلَةِ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ فَالسَّفَرُ إلَى المفضولة

أَوْلَى وَأَحْرَى . وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ : لَا يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَّا إلَى الثَّلَاثَةِ . إنْ جَعَلَ مَعْنَاهُ لَا يَجِبُ إلَّا إلَى الثَّلَاثَةِ وَأَرَادَ بِهِ الْوُجُوبَ بِالنَّذْرِ - كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ - فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : مَا سِوَى الثَّلَاثَةِ لَا يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ وَلَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ . وَمَنْ حَمَلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْبَابِ أَوْ نَفْيِ الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ فَقَوْلُهُمَا وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى فَإِذَا لَمْ يَجِبْ بِالنَّذْرِ إلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فَقَدْ وَجَبَ بِالنَّذْرِ السَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ وَلَيْسَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ . فَعُلِمَ أَنَّ وُجُوبَهُ لِكَوْنِهِ مُسْتَحَبًّا بِالشَّرْعِ . فَإِذَا لَمْ يَجِبْ إلَّا هَذَانِ مِمَّا لَيْسَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا إلَّا هَذَانِ . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : التَّقْدِيرُ لَا تُسَافِرُوا إلَى بُقْعَةٍ وَمَكَانٍ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ . أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى لَا يُسْتَحَبُّ إلَى مَكَانٍ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ مَعْنَى كُلِّ مَنْ قَالَ : لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ إلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ . أَيْ لَا تُسَافِرُوا لِقَصْدِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالْبُقْعَةِ بِعَيْنِهِ ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَقْصُودُ وَالْعِبَادَةُ فِي نَفْسِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ كَالسَّفَرِ إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ؛ بِخِلَافِ السَّفَرِ إلَى الثُّغُورِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ السَّفَرُ إلَى مَكَانِ الرِّبَاطِ . و " الثَّغْرُ " قَدْ يَكُونُ مَكَانًا ثُمَّ يَفْتَحُ الْمُسْلِمُونَ مَا جَاوَرَهُمْ فَيَنْتَقِلُ

الثَّغْرُ إلَى حَدِّ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِهَذَا يَكُونُ الْمَكَانُ تَارَةً ثَغْرًا وَتَارَةً لَيْسَ بِثَغْرِ ؛ كَمَا يَكُونُ تَارَةً دَارَ إسْلَامٍ وَبِرٍّ وَتَارَةً دَارَ كُفْرٍ وَفِسْقٍ ؛ كَمَا كَانَتْ مَكَّةُ دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ وَكَانَتْ الْمَدِينَةُ دَارَ إيمَانٍ وَهِجْرَةٍ وَمَكَانًا لِلرِّبَاطِ فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ وَلَمْ تَبْقَ الْمَدِينَةُ دَارَ هِجْرَةٍ وَرِبَاطٍ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ؛ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا } وَصَارَتْ الثُّغُورُ أَطْرَافُ أَرْضِ الْحِجَازِ الْمُجَاوِرَةِ لِأَرْضِ الْحَرْبِ : أَرْضَ الشَّامِ وَأَرْضَ الْعِرَاقِ . ثُمَّ لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الشَّامَ وَالْعِرَاقَ صَارَتْ الثُّغُورُ بِالشَّامِ سَوَاحِلَ الْبَحْرِ ؛ كَعَسْقَلَانَ وَعَكَّةَ وَمَا جَاوَرَ ذَلِكَ . وَبِالْعِرَاقِ عبادان وَنَحْوُهَا ؛ وَلِهَذَا يَكْثُرُ ذِكْرُ " عَسْقَلَانَ " و " عبادان " فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ ؛ لِكَوْنِهِمَا كَانَا ثَغْرَيْنِ وَكَانَتْ أَيْضًا " طرطوش " ثَغْرًا لَمَّا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَمَّا أَخَذَهَا الْكُفَّارُ صَارَ الثَّغْرُ مَا يُجَاوِرُ أَرْضَ الْعَدُوِّ مِنْ الْبِلَادِ الْحَلَبِيَّةِ . فَالْمُسَافِرُ إلَى الثُّغُورِ أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَوْ التِّجَارَةِ أَوْ زِيَارَةِ قَرِيبِهِ لَيْسَ مَقْصُودُهُ مَكَانًا مُعَيَّنًا إلَّا بِالْعَرْضِ إذَا عَرَفَ أَنَّ مَقْصُودَهُ فِيهِ وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ فِي غَيْرِهِ لَذَهَبَ إلَيْهِ . فَالسَّفَرُ إلَى مِثْلِ هَذَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْحَدِيثِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا دَخَلَ فِيهِ مَنْ يُسَافِرُ لِمَكَانِ مُعَيَّنٍ لِفَضِيلَةِ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ كَاَلَّذِي يُسَافِرُ إلَى الْمَسَاجِدِ وَآثَارِ الْأَنْبِيَاءِ : كَالطُّورِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ

مُوسَى وَغَارِ حِرَاءَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْوَحْيُ ابْتِدَاءً عَلَى الرَّسُولِ وَغَارِ ثَوْرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ : { إذْ هُمَا فِي الْغَارِ } وَمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْمَغَارَاتِ وَالْجِبَالِ : كَالسَّفَرِ إلَى جَبَلِ لُبْنَانَ وَمَغَارَةِ الدَّمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُسَافِرُ إلَى مَا يَعْتَقِدُ فَضْلَهُ مِنْ الْجِبَالِ وَالْغِيرَانِ . فَإِذَا كَانَ الطُّورُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى وَسَمَّاهُ الْبُقْعَةَ الْمُبَارَكَةَ وَالْوَادِيَ الْمُقَدَّسَ لَا يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ فَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْجِبَالِ أَوْلَى أَنْ لَا يُسَافَرَ إلَيْهِ . وَقَوْلِي بِالْإِجْمَاعِ . أَعْنِي بِهِ إجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي بَصْرَةَ وَغَيْرِهِمْ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } أَنَّ الطُّورَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى وَسَمَّاهُ بالواد الْمُقَدَّسِ وَالْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ وَنَهَوْا النَّاسَ عَنْ السَّفَرِ إلَيْهِ وَلَمْ يَخُصُّوا النَّهْيَ بِالْمَسَاجِدِ . وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ ذَلِكَ بِالنَّذْرِ وَمَا عَلِمْت فِي هَذَا نِزَاعًا قَدِيمًا وَلَا رَأَيْت أَحَدًا صَرَّحَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ؛ إلَّا ابْنَ حَزْمٍ الظَّاهِرِيَّ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ إذَا نَذَرَهُ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَإِذَا نَذَرَ السَّفَرَ إلَى أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَتَنْبِيهِهِ وَهَذَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ دَاوُد فَلَا يَجْعَلُ قَوْلَهُ : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } دَلِيلًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ السَّبِّ وَالشَّتْمِ

وَالضَّرْبِ وَلَا نَهْيَهُ عَنْ أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يُغْتَسَلَ فِيهِ نَهْيًا عَنْ صَبِّ الْبَوْلِ ثُمَّ الِاغْتِسَالُ فِيهِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ نَقْصِ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَأَنَّهُ مِنْ " بَابِ السَّفْسَطَةِ " فِي جَحْدِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
وَإِذَا كَانَ غَارُ حِرَاءَ الَّذِي كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَصْعَدُونَ إلَيْهِ لِلتَّعَبُّدِ فِيهِ وَيُقَالُ : إنَّ عَبْدَ الْمُطَلِّبِ سَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ يَتَحَنَّثُ فِيهِ وَفِيهِ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَوَّلًا ؛ لَكِنْ مِنْ حِينِ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ مَا صَعِدَ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا قَرِبَهُ ؛ لَا هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ وَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَزُرْهُ وَلَمْ يَصْعَدْ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ بِمَكَّةَ . وَبَعْدَ الْهِجْرَةِ أَتَى مَكَّةَ مِرَارًا فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَعَامِ الْفَتْحِ وَأَقَامَ بِهَا قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا وَفِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ وَلَمْ يَأْتِ غَارَ حِرَاءَ وَلَا زَارَهُ . فَإِذَا كَانَ هَذَا الْغَارُ لَا يُسَافَرُ إلَيْهِ وَلَا يُزَارُ فَغَيْرُهُ مِنْ الْمَغَارَاتِ كَمَغَارَةِ الدَّمِ وَنَحْوِهَا أَوْلَى أَنْ لَا تُزَارَ . فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ مَبْعَثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ مَشْرُوعَةٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ جُعِلَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا لَهُ وَلِأُمَّتِهِ مَسْجِدًا وَطَهُورًا " .
وَالْأَمَاكِنُ الْمُفَضَّلَةُ هِيَ الْمَسَاجِدُ وَهِيَ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ ؛ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِيهَا الِاعْتِكَافُ

فَلَا يَكُونُ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي الْمَسَاجِدِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } لَا يَكُونُ الِاعْتِكَافُ لَا بِخَلْوَةِ وَلَا غَيْرِ خَلْوَةٍ ؛ لَا فِي غَارٍ وَلَا عِنْدَ قَبْرٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْصِدُ الضَّالُّونَ السَّفَرَ إلَيْهِ وَالْعُكُوفَ عِنْدَهُ كَعُكُوفِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَوْثَانِهِمْ . قَالَ الْخَلِيلُ : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } { إنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَقَدْ صَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ إيليا فَاعْتَكَفَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَجْزَأَ عَنْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَاعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَجْزَأَ عَنْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ لِيَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ . وَهَذَا الَّذِي نَهَى عَنْهُ سَعِيدٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُسَمِّي ذَلِكَ اعْتِكَافًا فَمَنْ فَعَلَ مَا يَفْعَلُ الْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ السَّفَرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ مِنْ قَبْرِ وَأَثَرِ

نَبِيٍّ وَمَسْجِدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ : لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالسَّفَرُ إلَى مَسْجِدِ نَبِيِّنَا مُسْتَحَبٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَهُوَ مُرَادُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ قَالُوا : تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قَبْرِهِ بِالْإِجْمَاعِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ . وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . وَالْمُجِيبُ قَدْ ذَكَرَ اسْتِحْبَابَ هَذَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَكَلَامُ الْمُجِيبِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَنَّهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْ تَقْرِيرِ الْحَرَامِ أَوْ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ مُنَزَّهُونَ أَنْ يُجْمَعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ أَوْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ العماية وَالْجَهَالَةِ . وَهَذَا الْمُعْتَرِضُ وَأَشْبَاهُهُ مِنْ الْجُهَّالِ سَوَّوْا بَيْنَ هَذَا السَّفَرِ الَّذِي ثَبَتَ اسْتِحْبَابُهُ بِنَصِّ الرَّسُولِ وَإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ وَبَيْنَ السَّفَرِ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا بِنَصِّ الرَّسُولِ وَإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ . وَقَاسَوْا هَذَا بِهَذَا وَالْمُجِيبُ إنَّمَا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ فِي النَّوْعِ الثَّانِي : فِي الَّذِي لَا يُسَافِرُ إلَّا لِقَصْدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَذَكَرَ أَنَّ الَّذِي يُسَافِرُ إلَى مَسْجِدِ الرَّسُولِ وَزِيَارَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . فَحَكَوْا عَنْ الْمُجِيبِ أَنَّهُ يَنْهَى عَنْ زِيَارَةِ قَبْرِ الرَّسُولِ وَالسَّفَرِ إلَيْهِ وَيُحَرِّمُ ذَلِكَ وَيُحَرِّمُ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِيهِ بِحَيْثُ جَعَلُوهُ يَنْهَى عَمَّا يَفْعَلُهُ الْحُجَّاجُ مِنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ وَأَنَّ مَنْ سَافَرَ إلَى هُنَاكَ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ . وَهَذَا كُلُّهُ افْتِرَاءٌ وَبُهْتَانٌ .

وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ عَلَى السَّفَر إلَى سَائِرِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا السَّفَرَ إلَى نَبِيِّنَا . فَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ قَاسُوا عَلَيْهِ السَّفَرَ إلَى سَائِرِ الْقُبُورِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَخَالَفُوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ . وَضَلُّوا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . مِنْهَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ قَبْرُ نَبِيٍّ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ إلَّا قَبْرُ نَبِيِّنَا وَمَا سِوَاهُ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَمِنْهَا : أَنَّ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ نَبِيِّنَا مُرَادُهُمْ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ قَصَدَ الْمُسَافِرُ إلَيْهِ فَهُوَ إنَّمَا يَصِلُ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ مُنْتَهَى سَفَرِهِ ؛ لَا يَصِلُ إلَى الْقَبْرِ ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَصِلُ إلَى الْقَبْرِ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَوَغِّلًا فِي الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ فَيَظُنُّ أَنَّ مَسْجِدَهُ إنَّمَا شُرِعَ السَّفَرُ إلَيْهِ لِأَجْلِ الْقَبْرِ وَأَنَّهُ لِذَلِكَ كَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ وَأَنَّهُ لَوْلَا الْقَبْرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضِيلَةٌ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ يَظُنُّ أَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ أَوْ جُعِلَ تَبَعًا لِلْقَبْرِ كَمَا تُبْنَى الْمَسَاجِدُ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَيَظُنُّ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ تَبَعٌ وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْقَبْرُ كَمَا يَظُنُّ الْمُسَافِرُونَ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ غَيْرَ قَبْرِ نَبِيِّنَا وَكَمَا أَنَّ الَّذِي يَذْهَبُ إلَى الْجُمْعَةِ يُصَلِّي إذَا دَخَلَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ ؛ وَلَكِنْ هُوَ إنَّمَا جَاءَ لِأَجْلِ الْجُمْعَةِ لَا لِأَجْلِ رَكْعَتَيْ التَّحِيَّةِ . فَمَنْ ظَنَّ هَذَا فِي مَسْجِدِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ وَأَجْهَلِهِمْ بِدِينِ

الْإِسْلَامِ وَأَجْهَلِهِمْ بِأَحْوَالِ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ وَسِيرَتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ . وَهَذَا مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا جَهِلَهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يَأْخُذُ بَعْضَ الْإِسْلَامِ وَيَتْرُكُ بَعْضَهُ ؛ فَإِنَّ مَسْجِدَهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ الْهِجْرَةِ وَهُوَ أَفْضَلُ مَسْجِدٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ . وَقِيلَ : هُوَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا . فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ مَسَاجِدَ الْمُسْلِمِينَ - مَسَاجِدُ الْجَوَامِعِ الَّتِي يُصَلَّى فِيهَا الْجُمْعَةُ وَغَيْرُهَا - فَضِيلَتُهَا وَاسْتِحْبَابُ قَصْدِهَا لِلصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ قَبْرٍ عِنْدَهَا . فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ فَكَيْفَ يُقَالُ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا كُلِّهَا وَأَفْضَلُ . و " الْمَسْجِدُ " الْحَرَامُ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ . فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ : إنَّ فَضِيلَتَهُ لِقَبْرِ هُنَاكَ . و " الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى " أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَبِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ . فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ فَضِيلَتَهُ لِأَجْلِ الْقُبُورِ نَعَمْ هَذَا اعْتِقَادُ النَّصَارَى : يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فَضِيلَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِأَجْلِ " الْكَنِيسَةِ " الَّتِي يُقَالُ إنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى قَبْرِ الْمَصْلُوبِ وَيُفَضِّلُونَهَا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ . وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ وَأَجْهَلِهِمْ

وَهَذَا يُضَاهِي مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمَّا كَانَتْ فِيهِ الْأَوْثَانُ وَكَانُوا يَقْصِدُونَهُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْأَوْثَانِ الَّتِي فِيهِ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ فِيهِ ؛ بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } لَكِنْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ نَفْسَ الْبَيْتِ وَيَطُوفُونَ بِهِ كَمَا كَانُوا يَحُجُّونَ كُلَّ عَامٍ مَعَ مَا كَانُوا غَيَّرُوهُ مِنْ شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَأَظْهَرَهَا وَدَعَا إلَيْهَا وَأَقَامَ الْحَجَّ عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَنَفَى الشِّرْكَ عَنْ الْبَيْتِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } . فَبَيَّنَ أَنَّ عُمَّارَ الْمَسَاجِدِ هُمْ الَّذِينَ لَا يَخْشَوْنَ إلَّا اللَّهَ وَمَنْ لَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَلَا يَرْجُو وَيَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ فَإِنَّ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ مُتَلَازِمَانِ . وَاَلَّذِينَ يَحُجُّونَ إلَى الْقُبُورِ يَدْعُونَ أَهْلَهَا وَيَتَضَرَّعُونَ لَهُمْ وَيَعْبُدُونَهُمْ وَيَخْشَوْنَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَرْجُونَ غَيْرَ اللَّهِ كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ آلِهَتَهُمْ وَيَرْجُونَهَا ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالُوا لِهُودِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنْ نَقُولُ إلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا

تُشْرِكُونَ } { مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ } { إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَلَمَّا حَاجُّوا إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ : { أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } وَلَمَّا خَوَّفُوا مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَنْ دُونَ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ } { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ } { إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } .

فَصْلٌ :
و " الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى " صَلَّتْ فِيهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ عَهْدِ الْخَلِيلِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلًا ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْت : كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ سَنَةً ثُمَّ حَيْثُ مَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ وَصَلَّى فِيهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ وَسُلَيْمَانُ بَنَاهُ هَذَا الْبِنَاءَ وَسَأَلَ رَبَّهُ ثَلَاثًا : سَأَلَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ مِنْ بَعْدِهِ وَسَأَلَهُ حُكْمًا يُوَافِقُ حُكْمَهُ وَسَأَلَهُ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إلَّا غَفَرَ لَهُ } . وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْتِي مِنْ الْحِجَازِ فَيَدْخُلُ فَيُصَلِّي فِيهِ ثُمَّ يَخْرُجُ وَلَا يَشْرَبُ فِيهِ مَاءً لِتُصِيبَهُ دَعْوَةُ سُلَيْمَانَ . وَكَانَ الصَّحَابَةُ ثُمَّ التَّابِعُونَ يَأْتُونَ وَلَا يَقْصِدُونَ شَيْئًا مِمَّا حَوْلَهُ مِنْ الْبِقَاعِ وَلَا يُسَافِرُونَ إلَى قَرْيَةِ الْخَلِيلِ وَلَا غَيْرِهَا . وَكَذَلِكَ " مَسْجِدُ نَبِيِّنَا " بَنَاهُ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَمَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ

وَالْأَنْصَارُ وَهُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ أُذِّنَ فِيهِ فِي الْإِسْلَامِ وَفِيهِ كَانَ الرَّسُولُ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ الْجُمْعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَفِيهِ كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ الْمَغَازِي وَغَيْرِ الْمَغَازِي . وَفِيهِ سُنَّتْ السُّنَّةُ وَالْإِسْلَامُ مِنْهُ خَرَجَ وَكَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلِفِ وَالسَّفَرُ إلَيْهِ مَشْرُوعًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ قَبْرٌ ؛ لَا قَبْرُهُ وَلَا قَبْرُ غَيْرِهِ ثُمَّ لَمَّا دُفِنَ الرَّسُولُ دُفِنَ فِي حُجْرَتِهِ وَبَيْتِهِ لَمْ يُدْفَنْ فِي الْمَسْجِدِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ مِمَّا يَعْرِفُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ ؛ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُعْتَكَفُ فِيهِ وَالْبَيْتَ لَا يُعْتَكَفُ فِيهِ وَكَانَ إذَا اعْتَكَفَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَالْمَسْجِدُ لَا يَمْكُثُ فِيهِ جُنُبٌ وَلَا حَائِضٌ وَبَيْتُهُ كَانَتْ عَائِشَةُ تَمْكُثُ فِيهِ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَذَلِكَ كُلُّ بَيْتٍ مَرْسُومٍ تَمْكُثُ فِيهِ الْمَرْأَةُ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَانَتْ تُصِيبُهُ فِيهِ الْجَنَابَةُ فَيَمْكُثُ فِيهِ جُنُبًا حَتَّى يَغْتَسِلَ وَفِيهِ ثِيَابُهُ وَطَعَامُهُ وَسَكَنُهُ وَرَاحَتُهُ ؛ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ الْبُيُوتَ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ " بُيُوتَ النَّبِيِّ " فِي كِتَابِهِ وَأَضَافَهَا تَارَةً إلَى الرَّسُولِ وَتَارَةً إلَى أَزْوَاجِهِ ؛ وَلَيْسَ لِتِلْكَ الْبُيُوتِ حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ وَفَضِيلَتُهُ وَفَضِيلَةُ الصَّلَاةِ فِيهِ وَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَيْهَا وَلَا الصَّلَاةُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بِأَلْفِ صَلَاةٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَالِ

حَيَاتِهِ كَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ . أَفْضَلَ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ وَعِبَادَتُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ عِبَادَةِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ وَهُمْ لَمَّا مَاتُوا لَمْ تَكُنْ قُبُورُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ بُيُوتِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَسْكُنُونَهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَلَا أَبْدَانُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَكْثَرَ عِبَادَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً مِمَّا كَانَتْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا . تَكْفِتُ النَّاسَ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا وَأَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا وَلَيْسَ كَفْتُهُمْ أَمْوَاتًا بِأَفْضَلَ مِنْ كَفْتِهِمْ أَحْيَاءً ؛ وَلِهَذَا تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ أَهْلِ الْبَقِيعِ وَأُحُدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . فَيُدْعَى لَهُمْ وَيُسْتَغْفَرُ لَهُمْ وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ تُقْصَدَ قُبُورُهُمْ لِمَا تُقْصَدُ لَهُ الْمَسَاجِدُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ } فَلَيْسَ فِي الْبِقَاعِ أَفْضَلُ مِنْهَا وَلَيْسَتْ مَسَاكِنُ الْأَنْبِيَاءِ لَا أَحْيَاءً وَلَا أَمْوَاتًا بِأَفْضَلَ مِنْ الْمَسَاجِدِ . هَذَا هُوَ الثَّابِتُ بِنَصِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَأَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَهَا أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ حَتَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ . فَقَوْلٌ يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعْلَمُ إجْمَاعُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى بُطْلَانِهِ إجْمَاعًا ضَرُورِيًّا كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ مِنْهُ عِنْدَ الْقُبُورِ . وَالْمَقْصُودُ

بِالِاعْتِكَافِ : الْعِبَادَةُ وَالصَّلَاةُ وَالْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَفْضِيلِ قَبْرٍ مِنْ الْقُبُورِ عَلَى الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا . فَقَوْلٌ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ ؛ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَكِنْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَأَخَذَهُ عَنْهُ آخَرُ وَظَنَّهُ إجْمَاعًا ؛ لِكَوْنِ أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْفُسِهَا أَفْضَلَ مِنْ الْمَسَاجِدِ . فَقَوْلُهُمْ يَعُمُّ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ فَأَبْدَانُهُمْ أَفْضَلُ مَنْ كُلِّ تُرَابٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَلْزَمُ مَنْ كَوْنِ أَبْدَانِهِمْ أَفْضَلَ أَنْ تَكُونَ مَسَاكِنُهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا أَفْضَلَ ؛ بَلْ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِهِمْ أَنَّ مَسَاجِدَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ . وَقَدْ يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بِمَا رُوِيَ مِنْ : { أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُذَرُّ عَلَيْهِ مِنْ تُرَابِ حُفْرَتِهِ } فَيَكُونُ قَدْ خُلِقَ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ . وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا لَا يَثْبُتُ وَمَا رُوِيَ فِيهِ كُلُّهُ ضَعِيفٌ وَالْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يُذَرَّ عَلَيْهِ تُرَابٌ وَلَكِنَّ آدَمَ نَفْسَهُ هُوَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ خُلِقَتْ ذُرِّيَّتُهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ التُّرَابَ لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ لِشَخْصِ وَبَعْضُهُ لِشَخْصِ آخَرَ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَحَالَ وَصَارَ بَدَنًا حَيًّا لَمَا نُفِخَ فِي آدَمَ الرُّوحُ فَلَمْ يَبْقَ تُرَابًا . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا : التَّنْبِيهُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الإجماعات الَّتِي يَذْكُرُهَا بَعْضُ النَّاسِ وَيَبْنُونَ عَلَيْهَا مَا يُخَالِفُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ : الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَيِّتَ خُلِقَ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ مَنِيِّ أَبَوَيْهِ أَقْرَبُ مَنْ خَلْقِهِ مِنْ التُّرَابِ وَمَعَ هَذَا فَاَللَّهُ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ : يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنْ الْمُؤْمِنِ فَيَخْلُقُ مِنْ الشَّخْصِ الْكَافِرِ مُؤْمِنًا نَبِيًّا وَغَيْرَ نَبِيٍّ كَمَا خَلَقَ الْخَلِيلَ مِنْ آزَرَ وَإِبْرَاهِيمُ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ هُوَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآزَرُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَلْقَى إبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ إبْرَاهِيمُ : أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تَعْصِنِي فَيَقُولُ لَهُ : فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيك . فَيَقُولُ إبْرَاهِيمُ : يَا رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي وَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ فَيُقَالُ لَهُ : الْتَفِتْ فَيَلْتَفِتُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخِ عَظِيمٍ وَالذِّيخُ ذَكَرُ الضِّبَاعِ فَيُمْسَخُ آزَرُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ وَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ أَبُو إبْرَاهِيمَ } . وَكَمَا خُلِقَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبَوَيْهِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّهِ وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ : أَيْنَ أَبِي ؟ قَالَ : إنَّ أَبَاك فِي النَّارِ فَلَمَّا أَدْبَرَ دَعَاهُ فَقَالَ : إنَّ أَبِي وَأَبَاك فِي النَّارِ } وَقَدْ أَخْرَجَ مِنْ نُوحٍ وَهُوَ

رَسُولٌ كَرِيمٌ ابْنَهُ الْكَافِرَ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَأَغْرَقَهُ وَنَهَى نُوحًا عَنْ الشَّفَاعَةِ فِيهِ . وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ مَخْلُوقُونَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ الْكُفَّارِ . فَإِذَا كَانَتْ الْمَادَّةُ الْقَرِيبَةُ الَّتِي يُخْلَقُ مِنْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لِأَبْدَانِهِمْ فِي الْفَضِيلَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ فَأَخْرَجَ الْبَدَنَ الْمُؤْمِنَ مِنْ مَنِيِّ كَافِرٍ فَالْمَادَّةُ الْبَعِيدَةُ وَهِيَ التُّرَابُ أَوْلَى أَنْ لَا تُسَاوِيَ أَبْدَانَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهَذِهِ الْأَبْدَانُ عَبَدَتْ اللَّهَ وَجَاهَدَتْ فِيهِ وَمُسْتَقَرُّهَا الْجَنَّةُ . وَأَمَّا الْمَوَادُّ الَّتِي خُلِقَتْ مِنْهَا هَذِهِ الْأَبْدَانُ فَمَا اسْتَحَالَ مِنْهَا وَصَارَ هُوَ الْبَدَنَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَدَنِ وَأَمَّا مَا فَضَلَ مِنْهَا فَذَاكَ بِمَنْزِلَةِ أَمْثَالِهِ . وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ مَا اسْتَحَالَ مِنْ الْمَوَادِّ فَصَارَ بَدَنًا وَبَيْنَ مَا لَمْ يَسْتَحِلْ ؛ بَلْ بَقِيَ تُرَابًا أَوْ مَيِّتًا . فَتُرَابُ الْقُبُورِ إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْمَيِّتَ خُلِقَ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ فَاسْتَحَالَ مِنْهُ وَصَارَ بَدَنَ الْمَيِّتِ : فَهُوَ بَدَنُهُ وَفَضْلُهُ مَعْلُومٌ . وَأَمَّا مَا بَقِيَ فِي الْقَبْرِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ بَلْ تُرَابٌ كَانَ يُلَاقِي جِبَاهَهُمْ عِنْدَ السُّجُودِ - وَهُوَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ الْمَعْبُودِ - أَفْضَلُ مِنْ تُرَابِ الْقُبُورِ وَاللُّحُودِ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مَسْجِدَ الرَّسُولِ وَغَيْرَهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ فَضِيلَتُهَا بِكَوْنِهَا بُيُوتَ اللَّهِ الَّتِي بُنِيَتْ لِعِبَادَتِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } - إلَى قَوْلِهِ - { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
وَالْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ لَهَا فَضْلٌ عَلَى مَا سِوَاهَا فَإِنَّهَا بَنَاهَا أَنْبِيَاءُ وَدَعَوْا النَّاسَ إلَى السَّفَرِ إلَيْهَا . فَالْخَلِيلُ دَعَا إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسُلَيْمَانُ دَعَا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَنَبِيُّنَا دَعَا إلَى الثَّلَاثَةِ : إلَى مَسْجِدِهِ . وَالْمَسْجِدَيْنِ وَلَكِنْ جَعَلَ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَرْضًا وَالْآخَرَيْنِ تَطَوُّعًا . وَإِبْرَاهِيمُ وَسُلَيْمَانُ لَمْ يُوجِبَا شَيْئًا وَلَا أَوْجَبَ الْخَلِيلُ الْحَجَّ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ بَنُو إسْرَائِيلَ يَحُجُّونَ وَلَكِنْ حَجَّ مُوسَى وَيُونُسُ وَغَيْرُهُمَا : وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ

الْحَجُّ وَاجِبًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ؛ وَإِنَّمَا وَجَبَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } هَذَا هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ : أَنَّهُ يُفِيدُ إيجَابَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فَقِيلَ : إنَّهُ يُفِيدُ إيجَابَهُمَا ابْتِدَاءً وَإِتْمَامَهُمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ . وَقِيلَ : إنَّمَا يُفِيدُ وُجُوبَ إتْمَامِهِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ لَا إيجَابَهُمَا ابْتِدَاءً . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِإِجْمَاعِ النَّاسِ بَعْدَ شُرُوعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ - عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ - لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَأُبِيحُ فِيهَا التَّحَلُّلُ لِلْمُحْصَرِ فَحَلَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ لَمَّا صَدَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ وَرَجَعُوا . وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ يَجِبُ عَلَى الشَّارِعِ فِيهِمَا إتْمَامُهُمَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَتَنَازَعُوا فِي الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِتْمَامُ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَسْجِدَ الرَّسُولِ . فَضِيلَةُ السَّفَرِ إلَيْهِ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ ؛ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْقَبْرِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا مِنْ الْفُرُوقِ بَيْنَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِ وَبَيْنَ قَبْرِهِ وَغَيْرِهِ . فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ مِنْ وُجُوهٍ .

وَهَذَا الْمُعْتَرِضُ وَأَمْثَالُهُ جَعَلُوا السَّفَرَ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ نَوْعًا . ثُمَّ لَمَّا رَأَوْا مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ قَبْرِ نَبِيِّنَا ظَنُّوا أَنَّ سَائِرَ الْقُبُورِ يُسَافَرُ إلَيْهَا كَمَا يُسَافَرُ إلَيْهِ . فَضَلُّوا مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ السَّفَرَ إلَيْهِ إنَّمَا هُوَ سَفَرٌ إلَى مَسْجِدِهِ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا السَّفَرَ هُوَ لِلْمَسْجِدِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ وَبَعْدَ دَفْنِهِ وَقَبْلَ دُخُولِ الْحُجْرَةِ وَبَعْدَ دُخُولِ الْحُجْرَةِ فِيهِ . فَهُوَ سَفَرٌ إلَى الْمَسَاجِدِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَبْرُ هُنَاكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشَبَّهَ بِهِ السَّفَرُ إلَى قَبْرٍ مُجَرَّدٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَكْرَهُ أَنْ يُسَمِّيَ هَذَا زِيَارَةً لِقَبْرِهِ .
وَاَلَّذِينَ لَمْ يَكْرَهُوهُ يُسَلِّمُونَ لِأُولَئِكَ الْحُكْمَ ؛ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الِاسْمِ . وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ زِيَارَةٌ لِقَبْرِهِ بِلَا نِزَاعٍ . فَلِلْمَانِعِ أَنْ يَقُولَ : لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسَافَرَ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَصْلًا وَكُلُّ مَا سُمِّيَ زِيَارَةَ قَبْرٍ فَإِنَّهُ لَا يُسَافَرُ إلَيْهِ وَالسَّفَرُ إلَى مَسْجِدِ نَبِيِّنَا لَيْسَ سَفَرًا إلَى زِيَارَةِ قَبْرِهِ بَلْ هُوَ سَفَرٌ لِعِبَادَةِ فِي مَسْجِدِهِ . الرَّابِعُ : أَنَّ هَذَا السَّفَرَ مُسْتَحَبٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالسَّفَرَ إلَى قُبُورِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا لَا بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ ؛ بَلْ

هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ . الْخَامِسُ : أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي عِنْدَ قَبْرِهِ مَسْجِدُهُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَهُوَ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ وَالْمَسَاجِدُ الَّتِي عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ نُهِيَ عَنْ اتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ وَالصَّلَاةُ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ . فَكَيْفَ عَنْ السَّفَرِ إلَيْهَا . السَّادِسُ : أَنَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ - الَّذِي يُسَمَّى السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ - هُوَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى سَائِرِ الْقُبُورِ فَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ بَلْ وَلَا عَنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ . فَكَيْفَ يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا ؟ وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَهْدِهِ وَإِلَى هَذَا الْوَقْتِ يُسَافِرُونَ إلَى مَسْجِدِهِ ؛ إمَّا مَعَ الْحَجِّ وَإِمَّا بِدُونِ الْحَجِّ . فَعَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُونُوا يَأْتُونَهُ مَعَ الْحَجِّ - كَمَا يُسَافِرُونَ إلَى مَكَّةَ - فَإِنَّ الطُّرُقَاتِ كَانَتْ آمِنَةً وَكَانَ إنْشَاءُ السَّفَرِ إلَيْهِ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِسَفَرِ الْحَجِّ . وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ أَمَرَهُمْ أَنْ يُفْرِدُوا لِلْعُمْرَةِ سَفَرًا وَلِلْحَجِّ سَفَرًا وَهَذَا أَفْضَلُ - بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ - مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ فَضَّلُوا التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ كَمَا فَضَّلَ أَحْمَد التَّمَتُّعَ لِمَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَالْقِرَانَ لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ - فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَصَرَّحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا -

هُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُ : إنَّ إفْرَادَ الْعُمْرَةِ بِسَفَرِ وَالْحَجِّ بِسَفَرِ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - فِيمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - أَنَّ عُمْرَةً كُوفِيَّةً أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالُوا يُسَافِرُونَ إلَى مَسْجِدِهِ وَلَا يُسَافِرُونَ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ : كَقَبْرِ مُوسَى وَقَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَة أَنَّهُ سَافَرَ إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ مَعَ كَثْرَةِ مَجِيئِهِمْ إلَى الشَّامِ وَالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ . فَكَيْفَ يُجْعَلُ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِ الرَّسُولِ الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ زِيَارَةً لِقَبْرِهِ مِثْلَ السَّفَرِ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِعُ : أَنَّ السَّفَرَ الْمَشْرُوعَ إلَى مَسْجِدِهِ يَتَضَمَّنُ أَنْ يُفْعَلَ فِي مَسْجِدِهِ مَا كَانَ يُفْعَلُ فِي حَيَاتِهِ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ : مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَسَائِرِ الْبِقَاعِ . وَإِنْ كَانَ مَسْجِدُهُ أَفْضَلَ . فَالْمَشْرُوعُ فِيهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ مَأْمُورٌ بِهَا وَأَمَّا الَّذِي يَفْعَلُهُ مَنْ سَافَرَ إلَى قَبْرِ غَيْرِهِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ نَوْعِ الشِّرْكِ كَدُعَائِهِمْ وَطَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنْهُمْ وَاِتِّخَاذِ قُبُورِهِمْ مَسَاجِدَ وَأَعْيَادًا وَأَوْثَانًا . وَهَذَا مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ عِنْدَ قَبْرِهِ مِثْلَ هَذَا .

قُلْت لَك : أَمَّا عِنْدُ الْقَبْرِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَجَابَ دَعْوَتَهُ حَيْثُ قَالَ : { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ . } . وَأَمَّا فِي مَسْجِدِهِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ الْجُهَّالِ وَأَمَّا مَنْ يَعْلَمُ شَرْعَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُ مَا شُرِعَ وَهَؤُلَاءِ يَنْهَوْنَ أُولَئِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَلَا يَجْتَمِعُ الزُّوَّارُ عَلَى الضَّلَالِ وَأَمَّا قَبْرُ غَيْرِهِ فَالْمُسَافِرُونَ إلَيْهِ كُلُّهُمْ جُهَّالٌ ضَالُّونَ مُشْرِكُونَ وَيَصِيرُونَ عِنْدَ نَفْسِ الْقَبْرِ ؛ وَلَا أَحَدَ هُنَاكَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ . الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنْ يُقَالَ قَبْرُهُ مَعْلُومٌ مُتَوَاتِرٌ ؛ بِخِلَافِ قَبْرِ غَيْرِهِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَفِظَ عَامَّةَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ بِبَرَكَةِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ النَّاسُ مَعَ ظُهُورِ دِينِهِ أَنْ يَتَّخِذُوا قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ كَمَا أَظْهَرَ مِنْ الْإِيمَانِ بِنُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ : مِنْ إعْلَانِ ذِكْرِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ وَالتَّصْدِيقِ لِأَقْوَالِهِمْ وَالِاتِّبَاعِ لِأَعْمَالِهِمْ : مَا لَمْ يَكُنْ هَذَا لِأُمَّةِ أُخْرَى . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ تَصْدِيقُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا وَطَاعَتُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيمَا فَعَلُوا وَحُبُّ مَا كَانُوا يُحِبُّونَهُ وَبُغْضُ مَا كَانُوا يُبْغِضُونَهُ وَمُوَالَاةُ مَنْ يُوَالُونَهُ وَمُعَادَاةُ مَنْ يُعَادُونَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ أَخْبَارِهِمْ . وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ . وَهَذَا أَمْرٌ ثَابِتٌ فِي الْقُلُوبِ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسِنَةِ ؛ وَأَمَّا نَفْسُ الْقَبْرِ فَلَيْسَ

فِي رُؤْيَتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ بَلْ أَهْلُ الضَّلَالِ يَت