الأربعاء، 20 أبريل 2022

ج 27- و28 - مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

 

27- مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

 

=== بَلْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَتَصَوَّرُ هَذَا تَصَوُّرًا تَامًّا . بَلْ مَتَى تَصَوَّرَ الْحَادِثَ قَدَّرَ فِي ذِهْنِهِ مَبْدَأً ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فِي ذِهْنِهِ شَيْءٌ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ شَيْءٌ قَبْلَ ذَلِكَ لَكِنْ إلَى غَايَاتٍ مَحْدُودَةٍ بِحَسَبِ تَقْدِيرِ ذِهْنِهِ ؛ كَمَا يُقَدِّرُ الذِّهْنُ عَدَدًا بَعْدَ عَدَدٍ . وَلَكِنْ كُلُّ مَا يُقَدِّرُهُ الذِّهْنُ فَهُوَ مُنْتَهٍ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ إذَا قِيلَ لَهُ " الْأَزَلُ " أَوْ " كَانَ هَذَا مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ " تَصَوَّرَ ذَلِكَ . وَهَذَا غَلَطٌ بَلْ " الْأَزَلُ " مَا لَيْسَ لَهُ أَوَّلٌ كَمَا أَنَّ " الْأَبَدَ " لَيْسَ لَهُ آخِرٌ وَكُلُّ مَا يُومِئُ إلَيْهِ الذِّهْنُ مِنْ غَايَةٍ ف " الْأَزَلُ " وَرَاءَهَا وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا : مَعْرِفَةُ الرَّبِّ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالنَّظَرِ ثُمَّ قَالُوا : لَا تَحْصُلُ إلَّا بِهَذَا النَّظَرِ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْجَهْمِيَّة الْقَدَرِيَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ . وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى خَطَأِ هَؤُلَاءِ فِي إيجَابِهِمْ هَذَا النَّظَرَ الْمُعَيَّنَ وَفِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ . إذْ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ هَذَا عَلَى الْأُمَّةِ وَلَا أَمَرَهُمْ بِهِ بَلْ وَلَا سَلَكَهُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ . ثُمَّ هَذَا النَّظَرُ هَذَا الدَّلِيلُ لِلنَّاسِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

قِيلَ : إنَّهُ وَاجِبٌ وَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ كَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ . وَقِيلَ : بَلْ يُمْكِنُ حُصُولُ الْمَعْرِفَةِ بِدُونِهِ لَكِنَّهُ طَرِيقٌ آخَرُ إلَى الْمَعْرِفَةِ . وَهَذَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَقُولُ بِصِحَّةِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَكِنْ لَا يُوجِبُهَا كالخطابي وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي جَعْفَرٍ السمناني قَاضِي الْمَوْصِلِ شَيْخِ أَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَكَانَ يَقُولُ : إيجَابُ النَّظَرِ بَقِيَّةٌ بَقِيَتْ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ الِاعْتِزَالِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُوجِبُونَ هَذَا النَّظَرَ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوجِبُ النَّظَرَ مُطْلَقًا كالسمناني وَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُ فِي الْجُمْلَةِ كالخطابي وَأَبِي الْفَرَجِ المقدسي . وَالْقَاضِي أَبُو يُعْلَى يَقُولُ بِهَذَا تَارَةً وَبِهَذَا تَارَةً بَلْ وَيَقُولُ تَارَةً بِإِيجَابِ النَّظَرِ الْمُعَيَّنِ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ . ثُمَّ مِنْ الْمُوجِبِينَ لِلنَّظَرِ مَنْ يَقُولُ : هُوَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ الْمَعْرِفَةُ الْوَاجِبَةُ بِهِ وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ . كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ : أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ الْقَصْدُ إلَى النَّظَرِ كَعِبَارَةِ أَبِي الْمَعَالِي . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : بَلْ الشَّكُّ الْمُتَقَدِّمُ كَمَا قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَغَيْرِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .

وَبَيَّنَ أَنَّهَا كُلَّهَا غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بَلْ وَبَاطِلَةٌ فِي الْعَقْلِ أَيْضًا . وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ . فَإِنَّ أَوَّلَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ هُوَ مَا أَمَرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : الْمَعْرِفَةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالنَّظَرِ قَالُوا : لَوْ حَصَلَتْ بِغَيْرِهِ لَسَقَطَ التَّكْلِيفُ بِهَا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ . فَيُقَالُ لَهُمْ : وَلَيْسَ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ أَنَّ مِنْهُمْ أَحَدًا أَوْجَبَهَا بَلْ هِيَ حَاصِلَةٌ عِنْدَ الْأُمَمِ جَمِيعِهِمْ .
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الرُّسُلِ افْتَتَحُوا دَعْوَتَهُمْ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ . وَقَوْمُهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْخَالِقِ لَكِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِنْ الْكُفَّار مَنْ أَظْهَرَ جَحُودَ الْخَالِقِ كَفِرْعَوْنَ حَيْثُ قَالَ { يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ

الْكَاذِبِينَ } وَقَالَ { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وَقَالَ لِمُوسَى { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } وَقَالَ { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ } { أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } . وَمَعَ هَذَا فَمُوسَى أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ } { قَالَ رَبِّ إنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ } { وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إلَى هَارُونَ } { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } { قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسْرَائِيلَ } { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا } { وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } { قَالَ فَعَلْتُهَا إذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } { فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } . قال فِرْعَوْنُ إنْكَارًا وَجَحْدًا { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } قَالَ مُوسَى { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ } { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } { قَالَ إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } { قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا } الْآيَاتِ .

وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ سُؤَالَ فِرْعَوْنَ { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } هُوَ سُؤَالٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الرَّبِّ كَاَلَّذِي يَسْأَلُ عَنْ حُدُودِ الْأَشْيَاءِ فَيَقُولُ " مَا الْإِنْسَانُ ؟ مَا الْمَلَكُ ؟ مَا الْجِنِّيُّ ؟ " وَنَحْوُ ذَلِكَ . قَالُوا : وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْمَسْئُولِ عَنْهُ مَاهِيَّةٌ عَدَلَ مُوسَى عَنْ الْجَوَابِ إلَى بَيَانِ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَهَذَا قَوْلٌ قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ بَاطِلٌ . فَإِنَّ فِرْعَوْنَ إنَّمَا اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ إنْكَارٍ وَجَحْدٍ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ مَاهِيَّةِ رَبٍّ أَقَرَّ بِثُبُوتِهِ بَلْ كَانَ مُنْكِرًا لَهُ جَاحِدًا . وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ الْكَلَامِ { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } وَقَالَ { وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } . فَاسْتِفْهَامُهُ كَانَ إنْكَارًا وَجَحْدًا يَقُولُ : لَيْسَ لِلْعَالِمِينَ رَبٌّ يُرْسِلُك فَمَنْ هُوَ هَذَا ؟ إنْكَارًا لَهُ . فَبَيَّنَ مُوسَى أَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ الْحَاضِرِينَ وَأَنَّ آيَاتِهِ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ لَا يُمْكِنُ مَعَهَا جَحْدُهُ . وَأَنَّكُمْ إنَّمَا تَجْحَدُونَ بِأَلْسِنَتِكُمْ مَا تَعْرِفُونَهُ بِقُلُوبِكُمْ كَمَا قَالَ مُوسَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لِفِرْعَوْنَ { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }

وَلَمْ يَقُلْ فِرْعَوْنُ " وَمَنْ رَبُّ الْعَالَمِينَ " فَإِنَّ " مَنْ " سُؤَالٌ عَنْ عَيْنِهِ يَسْأَلُ بِهَا مَنْ عَرَفَ جِنْسَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ شَكَّ فِي عَيْنِهِ كَمَا يُقَالُ لِرَسُولِ عَرَفَ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ إنْسَانٍ " مَنْ أَرْسَلَك ؟ " . وَأَمَّا " مَا ؟ " فَهِيَ سُؤَالٌ عَنْ الْوَصْفِ . يَقُولُ : أَيُّ شَيْءٍ هُوَ هَذَا ؟ وَمَا هُوَ هَذَا الَّذِي سَمَّيْته " رَبَّ الْعَالَمِينَ " ؟ قَالَ ذَلِكَ مُنْكِرًا لَهُ جَاحِدًا . فَلَمَّا سَأَلَ جَحْدًا أَجَابَهُ مُوسَى بِأَنَّهُ أَعْرَفُ مِنْ أَنْ يُنْكَرَ وَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُشَكَّ فِيهِ وَيُرْتَابَ . فَقَالَ { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } . وَلِمَ يَقُلْ " مُوقِنِينَ بِكَذَا وَكَذَا " بَلْ أَطْلَقَ فَأَيُّ يَقِينٍ كَانَ لَكُمْ بِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَأَوَّلُ الْيَقِينِ الْيَقِينُ بِهَذَا الرَّبِّ كَمَا قَالَتْ الرُّسُلُ لِقَوْمِهِمْ { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ } . وَإِنْ قُلْتُمْ : لَا يَقِينَ لَنَا بِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ بَلْ سُلِبْنَا كُلَّ عِلْمٍ فَهَذِهِ دَعْوَى السَّفْسَطَةِ الْعَامَّةِ وَمُدَّعِيهَا كَاذِبٌ ظَاهِرُ الْكَذِبِ . فَإِنَّ الْعُلُومَ مِنْ لَوَازِمَ كُلِّ إنْسَانٍ فَكُلُّ إنْسَانٍ عَاقِلٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلْمٍ . وَلِهَذَا

قِيلَ فِي حَدِّ " الْعَقْلِ " : إنَّهُ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ وَهِيَ الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا عَاقِلٌ . فَلَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ { إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } وَهَذَا مِنْ افْتِرَاءِ الْمُكَذِّبِينَ عَلَى الرَّسُولِ لَمَّا خَرَجُوا عَنْ عَادَاتِهِمْ الَّتِي هِيَ مَحْمُودَةٌ عِنْدَهُمْ نَسَبُوهُمْ إلَى الْجُنُونِ . وَلَمَّا كَانُوا مُظْهِرِينَ لِلْجَحْدِ بِالْخَالِقِ أَوْ لِلِاسْتِرَابَةِ وَالشَّكِّ فِيهِ هَذِهِ حَالُ عَامَّتِهِمْ وَدِينِهِمْ وَهَذَا عِنْدَهُمْ دِينٌ حَسَنٌ وَإِنَّمَا إلَهُهُمْ الَّذِي يُطِيعُونَهُ فِرْعَوْنُ قَالَ { إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } . فَبَيَّنَ لَهُ مُوسَى أَنَّكُمْ الَّذِينَ سُلِبْتُمْ الْعَقْلَ النَّافِعَ وَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَذَا الْوَصْفِ فَقَالَ { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } . فَإِنَّ الْعَقْلَ مُسْتَلْزِمٌ لِعُلُومِ ضَرُورِيَّةٍ يَقِينِيَّةٍ وَأَعْظَمُهَا فِي الْفِطْرَةِ الْإِقْرَارُ بِالْخَالِقِ . فَلَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ بِشَيْءِ فَهُوَ مُوقِنٌ بِهِ وَالْيَقِينُ بِشَيْءِ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْعَقْلِ بَيَّنَ ثَانِيًا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِهِ مِنْ لَوَازِمِ الْعَقْلِ . وَلَكِنَّ الْمَحْمُودَ هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ صَاحِبُهُ فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ صَاحِبُهُ قِيلَ : إنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ . وَيُقَالُ أَيْضًا لِمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ مَا أَيْقَنَ بِهِ :

إنَّهُ لَيْسَ لَهُ يَقِينٌ . فَإِنَّ الْيَقِينَ أَيْضًا يُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الْقَلْبِ وَيُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ بِهَذَا الْعِلْمِ . فَلَا يُطْلَقُ " الْمُوقِنُ " إلَّا عَلَى مَنْ اسْتَقَرَّ فِي قَلْبِهِ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ . وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ اتِّبَاعٌ لِمَا عَرَفُوهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا يَقِينٌ . وَكَلَامُ مُوسَى يَقْتَضِي الْأَمْرَيْنِ : إنْ كَانَ لَك يَقِينٌ فَقَدْ عَرَفْته وَإِنْ كَانَ لَك عَقْلٌ فَقَدْ عَرَفْته . وَإِنْ ادَّعَيْت أَنَّهُ لَا يَقِينَ لَك وَلَا عَقْلَ لَك فَكَذَلِكَ قَوْمُك فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْكُمْ بِسَلْبِكُمْ خَاصِّيَّةِ الْإِنْسَانِ . وَمَنْ يَكُونُ هَكَذَا لَا يَصْلُحُ لَهُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ . مَعَ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ مِنْكُمْ فَإِنَّكُمْ مُوقِنُونَ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } . وَلَكُمْ عَقْلٌ تَعْرِفُونَهُ بِهِ وَلَكِنَّ هَوَاكُمْ يَصُدُّكُمْ عَنْ اتِّبَاعِ مُوجَبِ الْعَقْلِ وَهُوَ إرَادَةُ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ . فَأَنْتُمْ لَا عَقْلَ لَكُمْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا قَالَ أَصْحَابُ النَّارِ { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْكُفَّارِ { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } . قَالَ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا

فَاسِقِينَ } وَالْخَفِيفُ هُوَ السَّفِيهُ الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ بَلْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرُّسُلِ مَنْ قَالَ أَوَّلَ مَا دَعَا قَوْمَهُ : إنَّكُمْ مَأْمُورُونَ بِطَلَبِ مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ فَانْظُرُوا وَاسْتَدِلُّوا حَتَّى تَعْرِفُوهُ . فَلَمْ يُكَلَّفُوا أَوَّلًا بِنَفْسِ الْمَعْرِفَةِ وَلَا بِالْأَدِلَّةِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الْمَعْرِفَةِ إذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ تَعْرِفُهُ وَتُقِرُّ بِهِ وَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ لَكِنْ عَرَضَ لِلْفِطْرَةِ مَا غَيَّرَهَا وَالْإِنْسَانُ إذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ مَا فِي فِطْرَتِهِ . وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ فِي خِطَابِهِ لِمُوسَى { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } مَا فِي فِطْرَتِهِ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي بِهِ يَعْرِفُ رَبَّهُ وَيَعْرِفُ إنْعَامَهُ عَلَيْهِ وَإِحْسَانَهُ إلَيْهِ وَافْتِقَارَهُ إلَيْهِ فَذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِيمَانِ { أَوْ يَخْشَى } مَا يُنْذِرُهُ بِهِ مِنْ الْعَذَابِ فَذَلِكَ أَيْضًا يَدْعُوهُ إلَى الْإِيمَانِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } . فَالْحِكْمَةُ تَعْرِيفُ الْحَقِّ فَيَقْبَلُهَا مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ بِلَا مُنَازَعَةً . وَمَنْ نَازَعَهُ هَوَاهُ وُعِظَ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ . فَالْعِلْمُ بِالْحَقِّ يَدْعُو صَاحِبَهُ إلَى اتِّبَاعِهِ . فَإِنَّ الْحَقَّ مَحْبُوبٌ فِي الْفِطْرَةِ . وَهُوَ أَحَبُّ إلَيْهَا . وَأَجَلُّ فِيهَا وَأَلَذُّ عِنْدِهَا مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَإِنَّ الْفِطْرَةَ لَا تُحِبُّ ذَاكَ .

فَإِنْ لَمْ يَدْعُهُ الْحَقُّ وَالْعِلْمُ بِهِ خُوِّفَ عَاقِبَةَ الْجُحُودِ وَالْعِصْيَانِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْعَذَابِ فَالنَّفْسُ تَخَافُ الْعَذَابَ بِالضَّرُورَةِ . فَكُلُّ حَيٍّ يَهْرُبُ مِمَّا يُؤْذِيهِ بِخِلَافِ النَّافِعِ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فَيَتَّبِعُ الْأَدْنَى دُونَ الْأَعْلَى . كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ بِمَا خُوِّفَ بِهِ أَوْ يَتَغَافَلُ عَنْهُ حَتَّى يَفْعَلَ مَا يَهْوَاهُ . فَإِنَّهُ إذَا صَدَّقَ بِهِ وَاسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَبْعَثْ نَفْسُهُ إلَى هَوَاهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ نَوْعٍ مِنْ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْلِ حَتَّى يَتَّبِعَهُ . وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ عَاصٍ لِلَّهِ جَاهِلًا كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ . إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ وَأَنَّ الْفِطْرَةَ مُقِرَّةٌ بِهِ . وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ قَوْلُهُ { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ } الْآيَةَ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الرُّسُلِ { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ } هُوَ نَفْيٌ أَيْ لَيْسَ فِي اللَّهِ شَكٌّ . وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ يَتَضَمَّنُ تَقْرِيرَ الْأُمَمِ عَلَى مَا هُمْ مُقِرُّونَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ .

فَإِنَّ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ إذَا دَخَلَ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ كَانَ تَقْرِيرًا كَقَوْلِهِ : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ } { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ . بِخِلَافِ اسْتِفْهَامِ فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ لَا تَقْرِيرَ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ إلَّا أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ فَقَطْ وَدَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُ إنْكَارٌ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ وَالْإِقْرَارُ بِهِ ثَابِتًا فِي كُلِّ فِطْرَةٍ فَكَيْفَ يُنْكِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ ؟ فَيُقَالُ أَوَّلًا : أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ فِي الْإِسْلَامِ بِإِنْكَارِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ هُمْ أَهْلُ الْكَلَامِ الَّذِي اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى ذَمِّهِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ . وَهُمْ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ أَضَلِّ الطَّوَائِفِ وَأَجْهَلِهِمْ . وَلَكِنْ انْتَشَرَ كَثِيرٌ مِنْ أُصُولِهِمْ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ يُوَافِقُونَ السَّلَفَ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّا خَالَفَهُمْ فِيهِ سَلَفُهُمْ الْجَهْمِيَّة . فَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ صَدَرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إنَّمَا صَدَرَ أَوَّلًا عَمَّنْ ذَمَّهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ .
الثَّانِي : أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقُومُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ قِيَامَ الصِّفَةِ بِالنَّفْسِ غَيْرُ

شُعُورِ صَاحِبِهَا بِأَنَّهَا قَامَتْ بِهِ . فَوُجُودُ الشَّيْءِ فِي الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ غَيْرُ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِهِ . وَهَذَا كَصِفَاتِ بَدَنِهِ فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَا يَرَاهُ كَوَجْهِهِ وَقَفَاهُ . وَمِنْهَا مَا يَرَاهُ إذَا تَعَمَّدَ النَّظَرَ إلَيْهِ كَبَطْنِهِ وَفَخِذِهِ وَعَضُدَيْهِ . وَقَدْ يَكُونُ بِهِمَا آثَارٌ مِنْ خِيلَانٍ وَغَيْرِ خِيلَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ وَهُوَ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ لَكِنَّ لَوْ تَعَمَّدَ رُؤْيَتَهُ لَرَآهُ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ رُؤْيَةَ ذَلِكَ لِعَارِضِ عَرَضَ لِبَصَرِهِ مِنْ العشى أَوْ الْعَمَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . كَذَلِكَ صِفَاتُ نَفْسِهِ قَدْ يَعْرِفُ بَعْضَهَا وَبَعْضُهَا لَا يَعْرِفُهُ . لَكِنَّ لَوْ تَعَمَّدَ تَأَمُّلَ حَالِ نَفْسِهِ لَعَرَفَهُ . وَمِنْهَا مَا لَا يَعْرِفُهُ وَلَوْ تَأَمَّلَ لِفَسَادِ بَصِيرَتِهِ وَمَا عَرَضَ لَهَا . وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا بِإِرَادَةِ تَقُومُ بِنَفْسِ الْإِنْسَانِ . وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا وَهُوَ يَعْرِفُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَهُ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَلْبَسُ وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَهُ . فَالْفِعْلُ الِاخْتِيَارِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إرَادَةٍ . وَإِذَا تَصَوَّرَ الْفِعْلَ الَّذِي يَفْعَلُهُ وَقَدْ فَعَلَهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لَهُ وَقَدْ تَصَوَّرَهُ . وَإِذَا كَانَ مُرِيدًا لَهُ وَقَدْ تَصَوَّرَهُ امْتَنَعَ أَنْ لَا يُرِيدَ مَا تَصَوَّرَهُ وَفَعَلَهُ .

فَالْإِنْسَانُ إذَا قَامَ إلَى صَلَاةٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا الظُّهْرُ فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَهُوَ يَعْلَمُ هَذَا لَمْ يَنْسَهُ وَلَا يُرِيدُ صَلَاةَ الظُّهْرِ . وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ إذَا تَصَوَّرَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ مُرِيدٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَنْوِيَ صَوْمَهُ . وَكَذَلِكَ إذَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُهِلٌّ بِهِ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَكُونَ مُرِيدًا لِلْحَجِّ . وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَكُونَ مُرِيدًا لِلْوُضُوءِ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ نَجِدُ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ دَعْ الْعَامِّيَّةَ يَسْتَدْعُونَ النِّيَّةَ بِأَلْفَاظِ يَقُولُونَهَا وَيَتَكَلَّفُونَ أَلْفَاظًا وَيَشُكُّونَ فِي وُجُودِهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَيَخْرُجُونَ إلَى ضَرْبٍ مِنْ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي يُشْبِهُ أَصْحَابُهَا الْمَجَانِينَ . وَالنِّيَّةُ هِيَ الْإِرَادَةُ . وَهِيَ الْقَصْدُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي نُفُوسِهِمْ لِوُجُودِهَا فِي نَفْسِ كُلِّ مَنْ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَالْجَامِعِ وَمَنْ تَوَضَّأَ فِي تِلْكَ الْمَطْهَرَةِ . أُولَئِكَ يَعْلَمُونَ هَذَا مِنْ نُفُوسِهِمْ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ وَسْوَاسٌ وَهَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ يَطْلُبُونَ حُصُولَهَا مِنْ قُلُوبِهِمْ .

وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ التَّلَفُّظَ بِهَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَإِنَّمَا الْفَرْضُ وُجُودُ الْإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ . وَهِيَ مَوْجُودَةٌ وَمَعَ هَذَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْجُودَةً . وَإِذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ " النِّيَّةُ حَاصِلَةٌ فِي قَلْبِك " لَمْ يَقْبَلْ لِمَا قَامَ بِهِ مِنْ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ الْمُنَاقِضِ لِفِطْرَتِهِ . وَكَذَلِكَ حَبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَوْجُودٌ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِهِ إذَا كَانَ مُؤْمِنًا . وَتَظْهَرُ عَلَامَاتُ حُبِّهِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ إذَا أَخَذَ أَحَدٌ يَسُبُّ الرَّسُولَ وَيَطْعَنُ عَلَيْهِ أَوْ يَسُبُّ اللَّهَ وَيَذْكُرُهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ . فَالْمُؤْمِنُ يَغْضَبُ لِذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا يَغْضَبُ لَوْ سُبَّ أَبُوهُ وَأُمُّهُ . وَمَعَ هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ أَنْكَرُوا مَحَبَّةَ اللَّهِ وَقَالُوا : يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا أَوْ مَحْبُوبًا وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَقَالُوا : خِلَافًا لِلْحُلُولِيَّةِ كَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إلَّا الْحُلُولِيَّةَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا دِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَهْلِ الْإِيمَانِ أَجْمَعِينَ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ . فَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَوْجُودَةٌ فِي قُلُوبِ أَكْثَرِ الْمُنْكِرِينَ لَهَا بَلْ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَإِنْ أَنْكَرَهَا لِشُبْهَةِ عَرَضَتْ لَهُ .

وَهَكَذَا الْمَعْرِفَةُ مَوْجُودَةٌ فِي قُلُوبٍ هَؤُلَاءِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا مَحَبَّتَهُ هُمْ الَّذِينَ قَالُوا : مَعْرِفَتُهُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالنَّظَرِ فَأَنْكَرُوا مَا فِي فِطَرِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْإِنْكَارُ سَبَبًا إلَى امْتِنَاعِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ وَقَدْ يَزُولُ عَنْ قَلْبِ أَحَدِهِمْ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ فَإِنَّ الْفِطْرَةَ قَدْ تَفْسُدُ فَقَدْ تَزُولُ وَقَدْ تَكُونُ مَوْجُودَةً وَلَا تُرَى { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ } . ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ : اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } . وَالْفِطْرَةُ تَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ وَتَخْصِيصَهُ بِأَنَّهُ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ

إلَى الْعَبْدِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا : { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ } وَرُوِيَ { عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } . فأخبر أَنَّهُ خَلَقَهُمْ حُنَفَاءَ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ مَعْرِفَةَ الرَّبِّ وَمَحَبَّتَهُ وَتَوْحِيدَهُ . فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَضَمَّنَتْهَا الْحَنِيفِيَّةُ وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " . فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي هِيَ { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } فِيهَا إثْبَاتُ مَعْرِفَتِهِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ . وَفِيهَا إثْبَاتُ مَحَبَّتِهِ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَأْلُوهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَأْلُوهًا ؛ وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَحَبَّةِ . وَفِيهَا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ . فَفِيهَا الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالتَّوْحِيدُ . وَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ الَّتِي خَلَقَهُمْ عَلَيْهَا . وَلَكِنَّ أَبَوَاهُ يُفْسِدَانِ ذَلِكَ فَيُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ وَيُشْرِكَانِهِ .

كَذَلِكَ يُجَهِّمَانِهِ فَيَجْعَلَانِهِ مُنْكِرًا لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ وَمَحَبَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ . ثُمَّ الْمَعْرِفَةُ يَطْلُبُهَا بِالدَّلِيلِ وَالْمَحَبَّةُ يُنْكِرُهَا بِالْكُلِّيَّةِ . وَالتَّوْحِيدُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْمَحَبَّةِ يُنْكِرُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ وَإِنَّمَا ثَبَتَ تَوْحِيدُ الْخَلْقِ وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِهَذَا التَّوْحِيدِ وَهَذَا الشِّرْكُ . فَهُمَا يُشْرِكَانِهِ وَيُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَأَقْوَالُ النَّاسِ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَيْضًا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَحْوَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَشْعُرُ بِهَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ حُبُّ الرِّيَاسَةِ كَامِنٌ لَا يَشْعُرُ بِهِ بَلْ إنَّهُ مُخْلِصٌ فِي عِبَادَتِهِ وَقَدْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ عُيُوبُهُ . وَكَلَامُ النَّاسِ فِي هَذَا كَثِيرٌ مَشْهُورٌ . وَلِهَذَا سُمِّيَتْ هَذِهِ " الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ " . قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ : يَا بَقَايَا الْعَرَبِ إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّيَاءُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ . قِيلَ لِأَبِي دَاوُد السجستاني : مَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ ؟ قَالَ : حُبُّ الرِّيَاسَةِ . فَهِيَ خَفِيَّةٌ تَخْفَى عَلَى النَّاسِ وَكَثِيرًا مَا تَخْفَى عَلَى صَاحِبِهَا . بَلْ كَذَلِكَ حُبُّ الْمَالِ وَالصُّورَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُحِبُّ ذَلِكَ وَلَا يَدْرِي . بَلْ نَفْسُهُ سَاكِنَةٌ مَا دَامَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فَإِذَا فَقَدَهُ ظَهَرَ مِنْ

جَزَعِ نَفْسِهِ وَتَلَفِهَا مَا دَلَّ عَلَى الْمَحَبَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ . وَالْحُبُّ مُسْتَلْزِمٌ لِلشُّعُورِ فَهَذَا شُعُورٌ مِنْ النَّفْسِ بِأُمُورِ وَجَبَ لَهَا . وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ لَا سِيَّمَا وَالشَّيْطَانُ يُغَطِّي عَلَى الْإِنْسَانِ أُمُورًا . وَذُنُوبُهُ أَيْضًا تَبْقَى رَيْنًا عَلَى قَلْبِهِ قَالَ تَعَالَى { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } { كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } . وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ . فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ زَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ . فَذَلِكَ الران الَّذِي قَالَ اللَّهُ { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ } . وَقَالَ { إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } . فَالْمُتَّقُونَ إذَا أَصَابَهُمْ هَذَا الطَّيْفُ الَّذِي يَطِيفُ بِقُلُوبِهِمْ يَتَذَكَّرُونَ مَا عَلِمُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَزُولُ الطَّيْفُ وَيُبْصِرُونَ الْحَقَّ الَّذِي كَانَ مَعْلُومًا وَلَكِنَّ الطَّيْفَ يَمْنَعُهُمْ عَنْ رُؤْيَتِهِ . قَالَ تَعَالَى { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } . فَإِخْوَانُ

الشَّيَاطِينِ تَمُدُّهُمْ الشَّيَاطِينُ فِي غَيِّهِمْ " { ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } لَا تَقْصُرُ الشَّيَاطِينُ عَنْ الْمَدَدِ وَالْإِمْدَادِ وَلَا الْإِنْسُ عَنْ الْغَيِّ . فَلَا يُبْصِرُونَ مَعَ ذَلِكَ الْغَيِّ مَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُمْ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِهِمْ لَكِنَّهُمْ يَنْسَوْنَهُ . وَلِهَذَا كَانَتْ الرُّسُلُ إنَّمَا تَأْتِي بِتَذْكِيرِ الْفِطْرَةِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهَا وَتَقْوِيَتِهِ وَإِمْدَادِهِ وَنَفْيِ الْمُغَيِّرِ لِلْفِطْرَةِ . فَالرُّسُلُ بُعِثُوا بِتَقْرِيرِ الْفِطْرَةِ وَتَكْمِيلِهَا لَا بِتَغْيِيرِ الْفِطْرَةِ وَتَحْوِيلِهَا . وَالْكَمَالُ يَحْصُلُ بِالْفِطْرَةِ الْمُكَمَّلَةِ بِالشِّرْعَةِ الْمُنَزَّلَةِ .
فَصْلٌ :
وَهَذَا النِّسْيَانُ نِسْيَانُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَلِمَا فِي نَفْسِهِ حَصَلَ بِنِسْيَانِهِ لِرَبِّهِ وَلِمَا أَنْزَلَهُ . قَالَ تَعَالَى { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } . وَقَالَ { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } . وَقَوْلُهُ { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } يَقْتَضِي أَنَّ نِسْيَانَ اللَّهِ كَانَ سَبَبًا لِنِسْيَانِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَمَّا نَسُوا اللَّهَ عَاقَبَهُمْ بِأَنْ أَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ .

وَنِسْيَانُهُمْ أَنْفُسَهُمْ يَتَضَمَّنُ إعْرَاضَهُمْ وَغَفْلَتَهُمْ وَعَدَمَ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَا كَانُوا عَارِفِينَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ حَالِ أَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنَّهُ يَقْتَضِي تَرْكَهُمْ لِمَصَالِحَ أَنْفُسِهِمْ . فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ أَنْفُسَهُمْ ذِكْرًا يَنْفَعُهَا وَيُصْلِحُهَا وَأَنَّهُمْ لَوْ ذَكَرُوا اللَّهَ لَذَكَرُوا أَنْفُسَهُمْ . وَهَذَا عَكْسُ مَا يُقَالُ " مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ " . وَبَعْضُ النَّاسِ يَرْوِي هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ إسْنَادٌ . وَلَكِنْ يُرْوَى فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ إنْ صَحَّ " يَا إنْسَانُ اعْرَفْ نَفْسَك تَعْرِفْ رَبَّك " . وَهَذَا الْكَلَامُ سَوَاءٌ كَانَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِلَفْظِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ قَائِلٍ مَعْصُومٍ . لَكِنْ إنْ فُسِّرَ بِمَعْنَى صَحِيحٍ عُرِفَ صِحَّةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى سَوَاءٌ دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظُ أَوْ لَمْ يَدُلَّ . وَإِنَّمَا الْقَوْلُ الثَّابِتُ مَا فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } . فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِسْيَانَ الرَّبِّ مُوجِبٌ لِنِسْيَانِ النَّفْسِ . وَحِينَئِذٍ فَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ وَلَمْ يَنْسَهُ يَكُونُ ذَاكِرًا لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَوْ

كَانَ نَاسِيًا لَهَا سَوَاءٌ ذَكَرَ اللَّهَ أَوْ نَسِيَهُ لَمْ يَكُنْ نِسْيَانُهَا مُسَبَّبًا عَنْ نِسْيَانِ الرَّبِّ . فَلَمَّا دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ نِسْيَانَ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ مُسَبَّبٌ عَنْ نِسْيَانِهِ لِرَبِّهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الذَّاكِرَ لِرَبِّهِ لَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا النِّسْيَانُ لِنَفْسِهِ . وَالذِّكْرُ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ مَا قَدْ عَلِمَهُ . فَمَنْ ذَكَرَ مَا يَعْلَمُهُ مِنْ رَبِّهِ ذَكَرَ مَا يَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِهِ . وَهُوَ قَدْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي تَقْتَضِي أَنَّهُ يَعْرِفُ رَبَّهُ وَيُحِبُّهُ وَيُوَحِّدُهُ . فَإِذَا لَمْ يُنْسَ رَبَّهُ الَّذِي عَرَفَهُ بَلْ ذَكَرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِي مَحَبَّتَهُ وَمَعْرِفَتَهُ وَتَوْحِيدَهُ ذَكَرَ نَفْسَهُ فَأَبْصَرَ مَا كَانَ فِيهَا قَبْلُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ . وَأَهْلُ الْبِدَعِ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوُهُمْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الذِّكْرَ الْمَشْرُوعَ الَّذِي كَانَ فِي الْفِطْرَةِ وَجَاءَتْ بِهِ الشِّرْعَةُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ مَعْرِفَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَتَوْحِيدَهُ نَسُوا اللَّهَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَنَسُوا مَا كَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْعِلْم الْفِطْرِيِّ وَالْمَحَبَّةِ الْفِطْرِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ الْفِطْرِيِّ . وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : { نَسُوا اللَّهَ } أَيْ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ { فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } أَيْ حُظُوظَ أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ لَمْ يُقَدِّمُوا لَهَا خَيْرًا هَذَا لَفْظُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ البغوي . وَلَفْظُ آخَرِينَ مِنْهُمْ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : حِينَ لَمْ يَعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ . وَكِلَاهُمَا قَالَ : { نَسُوا اللَّهَ } أَيْ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ .

وَمِثْلُ هَذَا التَّفْسِيرِ يَقَعُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ مَنْ يَأْتِي بِمُجْمَلِ مِنْ الْقَوْلِ يُبَيِّنُ مَعْنًى دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَلَا يُفَسِّرُهَا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ التَّفْسِيرِ . فَإِنَّ قَوْلَهُمْ " تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ " . هُوَ تَرْكُهُمْ لِلْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ فَصَارَ الْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } . فَهُنَا شَيْئَانِ : نِسْيَانُهُمْ لِلَّهِ ثُمَّ نِسْيَانُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ الَّذِي عُوقِبُوا بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ لَكِنَّهُ تَفْصِيلٌ مُجْمَلٌ كَقَوْلِهِ { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } وَهَذَا هُوَ هَذَا ؛ قِيلَ : هُوَ لَمْ يَقُلْ " نَسُوا اللَّهَ فَنَسُوا حَظَّ أَنْفُسِهِمْ " حَتَّى يُقَالَ : هَذَا هُوَ هَذَا بَلْ قَالَ { نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } فَثَمَّ إنْسَاءٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْأَوَّلُ لَكَانَ قَدْ ذَكَرَ مَا يَعْذُرُهُمْ بِهِ لَا مَا يُعَاقِبُهُمْ بِهِ . فَلَوْ كَانَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ لَكَانَ : { نَسُوا اللَّهَ } أَيْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِطَاعَتِهِ فَهُوَ الَّذِي أَنْسَاهُمْ ذَلِكَ . وَمَعْلُومٌ فَسَادُ هَذَا الْكَلَامِ لَفْظًا وَمَعْنًى . وَلَوْ قِيلَ : { نَسُوا اللَّهَ } أَيْ نَسُوا أَمْرَهُ { فَأَنْسَاهُمْ } الْعَمَلَ بِطَاعَتِهِ أَيْ تَذَكُّرَهَا لَكَانَ أَقْرَبَ وَيَكُونُ النِّسْيَانُ الْأَوَّلُ عَلَى بَابِهِ . فَإِنَّ مَنْ نَسِيَ نَفْسَ أَمْرِ اللَّهِ لَمْ يُطِعْهُ .

وَلَكِنَّ هُمْ فَسَّرُوا نِسْيَانَ اللَّهِ بِتَرْكِ أَمْرِهِ . وَأَمْرُهُ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ لَيْسَ مَقْدُورًا لَهُمْ حَتَّى يَتْرُكُوهُ إنَّمَا يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِهِ فَالْأَمْرُ بِمَعْنَى الْمَأْمُورِ بِهِ . إلَّا أَنْ يُقَالَ : مُرَادُهُمْ بِتَرْكِ أَمْرِهِ هُوَ تَرْكُ الْإِيمَانِ بِهِ . فَلَمَّا تَرَكُوا الْإِيمَانَ أَعْقَبَهُمْ بِتَرْكِ الْعَمَلِ . وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي تَرَكُوهُ إنْ كَانَ هُوَ تَرْكُ التَّصْدِيقِ فَقَطْ فَكَفَى بِهَذَا كُفْرًا وَذَنْبًا . فَلَا تُجْعَلُ الْعُقُوبَةُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ بَلْ هَذَا أَشَدُّ . وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ تَرْكَ الْإِيمَانِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا فَهَذَا هُوَ تَرْكُ الطَّاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَهَؤُلَاءِ أَتَوْا مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا أَنْ يُفَسِّرُوا نِسْيَانَ الْعَبْدِ بِمَا قِيلَ فِي نِسْيَانِ الرَّبِّ وَذَاكَ قَدْ فُسِّرَ بِالتَّرْكِ . فَفَسَّرُوا هَذَا بِالتَّرْكِ . وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدِ فَإِنَّ النِّسْيَانَ الْمُنَاقِضَ لِلذِّكْرِ جَائِزٌ عَلَى الْعَبْدِ بِلَا رَيْبٍ . وَالْإِنْسَانُ يُعْرِضُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ حَتَّى يَنْسَاهُ فَلَا يَذْكُرُهُ . فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَجْعَلَ نِسْيَانَهُ تَرْكًا مَعَ اسْتِحْضَارٍ وَعِلْمٍ . وَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يُنَاقِضُ صِفَاتِ كَمَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَفِي تَفْسِيرِ نِسْيَانِهِ الْكُفَّارَ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ نَظَرٌ . ثُمَّ هَذَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا }

أَيْ تَرَكْت الْعَمَلَ بِهَا . وَهُنَا قَالَ { نَسُوا اللَّهَ } وَلَا يُقَالُ فِي حَقِّ اللَّهِ " تَرَكُوهُ " .
فَصْلٌ :
قَوْلُهُ { الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } بَيَانٌ لِتَعْرِيفِهِ بِمَا قَدْ عُرِفَ مِنْ الْخَلْقِ عُمُومًا وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ خُصُوصًا وَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَعْرِفُ بِهِ الْفِطْرَةُ كَمَا تَقَدَّمَ . ثُمَّ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ الْخَالِقُ فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْخَالِقَ لَا يَكُونُ إلَّا قَادِرًا . بَلْ كُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ فَاعِلٌ لَا يَكُونُ إلَّا بِقُوَّةِ وَقُدْرَةٍ حَتَّى أَفْعَالُ الْجَمَادَاتِ . كَهُبُوطِ الْحَجَرِ وَالْمَاءِ وَحَرَكَةِ النَّارِ هُوَ بِقُوَّةِ فِيهَا . وَكَذَلِكَ حَرَكَةُ النَّبَاتِ هِيَ بِقُوَّةِ فِيهِ . وَكَذَلِكَ فِعْلُ كُلِّ حَيٍّ مِنْ الدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا هُوَ بِقُوَّةِ فِيهَا . وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ وَغَيْرُهُ . وَالْخَلْقُ أَعْظَمُ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ . فَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ قُدْرَةٍ وَلَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ مِنْ قَدْرِ الْمَخْلُوقِينَ . وَأَيْضًا فَالتَّعْلِيمُ بِالْقَلَمِ يَسْتَلْزِمُ الْقُدْرَةَ . فَكُلٌّ مِنْ الْخَلْقِ وَالتَّعْلِيمِ يَسْتَلْزِمُ الْقُدْرَةَ .

وَكَذَلِكَ كَلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ . فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ لِغَيْرِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ عَالِمًا بِمَا عَلَّمَهُ إيَّاهُ وَإِلَّا فَمِنْ الْمُمْتَنِعُ أَنْ يُعَلِّمَ غَيْرَهُ مَا لَا يَعْلَمُهُ هُوَ . فَمَنْ عَلَّمَ كُلَّ شَيْءٍ الْإِنْسَانَ وَغَيْرَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا عَلَّمَهُ . وَالْخُلُق أَيْضًا يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } . وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَلْقَ يَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ . فَإِنَّ فِعْلَ الشَّيْءِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ دُونَ مَا هُوَ خِلَافُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِرَادَةِ تُخَصِّصُ هَذَا عَنْ ذَاكَ . وَالْإِرَادَةُ تَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ . فَلَا يُرِيدُ الْمُرِيدُ إلَّا مَا شَعَرَ بِهِ وَتَصَوَّرَ فِي نَفْسِهِ وَالْإِرَادَةُ بِدُونِ الشُّعُورِ مُمْتَنِعَةٌ . وَأَيْضًا فَنَفْسُ الْخَلْقِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ هُوَ فِعْلٌ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَجَائِبِ الْمَخْلُوقَاتِ . وَفِيهِ مِنْ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ مَا قَدْ بَهَرَ الْعُقُولَ . وَالْفِعْلُ الْمُحْكَمُ الْمُتْقَنُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ عَالِمٍ بِمَا فَعَلَ . وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ . فَالْخَلْقُ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَقَدْ قَالَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } . وَهُوَ بَيَانُ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ لُطْفِ الْحِكْمَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ إيصَالَ الْأُمُورِ إلَى غَايَاتِهَا بِأَلْطَفِ الْوُجُوهِ كَمَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا

يَشَاءُ } . وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِالْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ وَالْعِلْمَ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ . وَكَذَلِكَ الْخِبْرَةُ . وَبَسْطُ هَذَا يَطُولُ إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِي الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ . ثُمَّ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَالِمٌ فَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ حَيًّا . وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ تَسْتَلْزِمُ الْحَيَاةَ . وَالْحَيُّ إذَا لَمْ يَكُنْ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا كَانَ مُتَّصِفًا بِضِدِّ ذَلِكَ مِنْ الْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْخَرَسِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ الرَّبِّ تَعَالَى . فَيَجِبُ أَنْ يَتَّصِفَ بِكَوْنِهِ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا . وَالْإِرَادَةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ لِغَايَةِ حَكِيمَةٍ أَوْ لَا . فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِغَايَةِ حَكِيمَةٍ كَانَتْ سَفَهًا وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا . وَهُوَ إمَّا أَنْ يَقْصِدَ نَفْعَ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانَ إلَيْهِمْ أَوْ يَقْصِدَ مُجَرَّدَ ضَرَرِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ أَوْ لَا يَقْصِدَ وَاحِدًا مِنْهُمَا بَلْ يُرِيدُ مَا يُرِيدُ سَوَاءٌ كَانَ كَذَا وَكَذَا . وَالثَّانِي شِرِّيرٌ ظَالِمٌ يَتَنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْهُ وَالثَّالِثُ سَفِيهٌ عَابِثٌ . فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى رَحِيمٌ كَمَا أَنَّهُ حَكِيمٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ .

فَصْلٌ :
إثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ طُرُقٌ . أَحَدُهَا مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْقُدْرَةِ وَلِغَيْرِهَا . فَمِنْ النُّظَّارِ مَنْ يُثْبِتُ أَوَّلًا الْقُدْرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ أَوَّلًا الْعِلْمَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ أَوَّلًا الْإِرَادَةَ . وَهَذِهِ طُرُقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ . وَهَذِهِ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِجِنْسِ الْفِعْلِ وَهِيَ طَرِيقَةُ مَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَفْعُولٍ وَمَفْعُولٍ كَجَهْمِ بْنِ صَفْوَان وَمَنْ اتَّبَعَهُ . وَهَؤُلَاءِ لَا يُثْبِتُونَ حِكْمَةً وَلَا رَحْمَةً إذْ كَانَ جِنْسُ الْفِعْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ . لَكِنْ هُمْ أَثْبَتُوا بِالْفِعْلِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ الْعِلْمَ . وَكَذَلِكَ تَثْبُتُ بِالْفِعْلِ النَّافِعِ الرَّحْمَةُ وَبِالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ الْحِكْمَةُ . وَلَكِنَّ هُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ عَلَى الْعِلْمِ إذْ كَانَ ذَلِكَ إنَّمَا يَدُلُّ إذَا كَانَ فَاعِلًا لِغَايَةِ يَقْصِدُهَا . وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةِ ثُمَّ يَسْتَدِلُّونَ بِالْإِحْكَامِ عَلَى الْعِلْمِ وَهُوَ تَنَاقُضٌ . كَمَا تَنَاقَضُوا فِي الْمُعْجِزَاتِ حَيْثُ جَعَلُوهَا دَالَّةً عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ إمَّا

لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِذَلِكَ ؛ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَوْ لَمْ تَدُلَّ لَزِمَ الْعَجْزُ . وَهِيَ إنَّمَا تَدُلُّ إذَا كَانَ الْفَاعِلُ يَقْصِدُ إظْهَارَهَا لِيَدُلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ . فَإِذَا قَالُوا إنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لِشَيْءِ تَنَاقَضُوا .
وَأَمَّا الطَّرِيقُ الْأُخْرَى فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَهِيَ : الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ الْكَامِلَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ . وَالثَّالِثَةُ طَرِيقَةُ قِيَاسِ الْأَوْلَى وَهِيَ التَّرْجِيحُ وَالتَّفْضِيلُ وَهُوَ أَنَّ الْكَمَالَ إذَا ثَبَتَ لِلْمُحْدِثِ الْمُمْكِنِ الْمَخْلُوقِ فَهُوَ لِلْوَاجِبِ الْقَدِيمِ الْخَالِقِ أَوْلَى . وَالْقُرْآنُ يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ وَهَذِهِ وَهَذِهِ . فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ أَكْمَلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً . } وَهَكَذَا كُلُّ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَقْوَى وَأَشَدُّ وَمَا فِيهَا مِنْ عِلْمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ وَمَا فِيهَا مِنْ عِلْمٍ وَحَيَاةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْلَى بِالْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ .

وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ يُقِرُّ بِهَا عَامَّةُ الْعُقَلَاءِ حَتَّى الْفَلَاسِفَةُ يَقُولُونَ : كُلُّ كَمَالٍ فِي الْمَعْلُولِ فَهُوَ مِنْ الْعِلَّةِ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَكَقَوْلِهِ { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } وَمِثْلِ قَوْلِهِ : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ يَثْبُتُ لِلْمُحْدِثِ الْمَخْلُوقِ الْمُمْكِنِ فَهُوَ لِلْقَدِيمِ الْوَاجِبِ الْخَالِقِ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ . وَذَاكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ هُوَ جَعَلَهُ كَامِلًا وَأَعْطَاهُ تِلْكَ الصِّفَاتِ .
وَاسْمُهُ " الْعَلِيُّ " يُفَسَّرُ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ يُفَسَّرُ بِأَنَّهُ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ قَدْرًا فَهُوَ أَحَقُّ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ ؛ وَيُفَسَّرُ بِأَنَّهُ الْعَالِي عَلَيْهِمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَيَعُودُ إلَى أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ الْمَقْدُورُونَ . وَهَذَا يَتَضَمَّنُ كَوْنَهُ خَالِقًا لَهُمْ وَرَبًّا لَهُمْ . وَكِلَاهُمَا يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ نَفْسَهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا شَيْءَ فَوْقَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ . وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ }

فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وَلَا فَوْقَهُ وَلَا دُونَهُ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَثْنَى بِهِ عَلَى رَبِّهِ . وَإِلَّا فَلَوْ قَدَّرَ أَنَّهُ تَحْتَ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا وَكَانَ ذَلِكَ أَعْلَى مِنْهُ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ كَانَ ذَلِكَ تَعْطِيلًا لَهُ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا . وَهَذَا هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى مَعَ أَنَّ لَفْظَ " الْعَلِيِّ " و " الْعُلُوِّ " لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا فِي هَذَا وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِذَيْنِك لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي مُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ وَلَا فِي مُجَرَّدِ الْفَضِيلَةِ . وَلَفْظُ " الْعُلُوِّ " يَتَضَمَّنُ الِاسْتِعْلَاءَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ إذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ دَلَّ عَلَى الْعُلُوِّ كَقَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّهِ عَلَى الْعَرْشِ . وَالسَّلَفُ فَسَّرُوا " الِاسْتِوَاءَ " بِمَا يَتَضَمَّنُ الِارْتِفَاعَ فَوْقَ الْعَرْشِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى } قَالَ : ارْتَفَعَ . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدِهِمْ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ آدَمَ بْنِ أَبِي إيَاسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ : { ثُمَّ اسْتَوَى } قَالَ : ارْتَفَعَ .

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } عَلَا عَلَى الْعَرْشِ . وَلَكِنْ يُقَالُ : " عَلَا عَلَى كَذَا " و " عَلَا عَنْ كَذَا " وَهَذَا الثَّانِي جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ لَكِنْ بِلَفْظِ " تَعَالَى " كَقَوْلِهِ { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } { عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ وَأَنَّهُ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ يَدُلُّ عَلَى هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ كَمَا دَلَّنَا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى طَرِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْفِعْلِ . فَإِنَّ قَوْلَهُ { الْأَكْرَمُ } يَقْتَضِي أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْكَرَمِ وَالْكَرَمُ اسْمٌ جَامِعٌ لِجَمِيعِ الْمَحَاسِنِ . فَيَقْتَضِي أَنَّهُ أَحَقُّ بِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ وَالْمَحَامِدِ هِيَ صِفَاتُ الْكَمَالِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ وَالرَّحْمَةِ وَأَحَقُّ بِالْحِكْمَةِ وَأَحَقُّ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { خَلَقَ } . فَإِنَّ الْخَالِقَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ قَيُّومٌ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَحَقُّ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ الْمَخْلُوقِ الْمُحْدِثُ الْمُمْكِنُ . فَهَذَا مِنْ جِهَةِ قِيَاسِ الْأَوْلَى . وَمِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ فَإِنَّ الْخَالِقَ لِغَيْرِهِ

الَّذِي جَعَلَهُ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا سَمِيعًا بَصِيرًا هُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ حَيًّا عَالِمًا قَدِيرًا سَمِيعًا بَصِيرًا . و { الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . فَجَعَلَهُ عَلِيمًا وَالْعَلِيمُ لَا يَكُونُ إلَّا حَيًّا . وَكَرَّمَهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَدِيرًا سَمِيعًا بَصِيرًا . وَالْأَكْرَمُ الَّذِي جَعَلَ غَيْرَهُ عَلِيمًا هُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَلِيمًا . وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْمَحَامِدِ . فَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْمَخْلُوقِ الْخَاصِّ وَالْأَوَّلُ اسْتِدْلَالٌ بِجِنْسِ الْخَلْقِ . وَلِهَذَا دَلَّ هَذَا عَلَى ثُبُوتِ الصِّفَاتِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَكَذَلِكَ طَرِيقَةُ التَّفْضِيلِ وَالْأَوْلَى وَأَنْ يَكُونَ الرَّبُّ أَوْلَى بِالْكَمَالِ مِنْ الْمَخْلُوقِ . وَهَذِهِ الطُّرُقُ لِظُهُورِهَا يَسْلُكُهَا غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ كَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا أَنَّ اللَّهَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ لَكِنْ سَمَّوْهُ " جَوْهَرًا " وَضَلُّوا فِي جَعَلَ الصِّفَاتِ ثَلَاثَةً وَهِيَ الْأَقَانِيمُ . فَقَالُوا : وَجَدْنَا الْأَشْيَاءَ تَنْقَسِمُ إلَى جَوْهَرٍ وَغَيْرِ جَوْهَرٍ وَالْجَوْهَرُ أَعْلَى النَّوْعَيْنِ فَقُلْنَا : هُوَ جَوْهَرٌ . ثُمَّ وَجَدْنَا الْجَوْهَرَ يَنْقَسِمُ إلَى حَيٍّ وَغَيْرِ حَيٍّ وَوَجَدْنَا الْحَيَّ أَكْمَلَ فَقُلْنَا : هُوَ حَيٌّ . وَوَجَدْنَا الْحَيَّ يَنْقَسِمُ إلَى نَاطِقٍ وَغَيْرِ نَاطِقٍ فَقُلْنَا : هُوَ نَاطِقٌ .

وَكَذَلِكَ يُقَالُ لَهُمْ فِي سَائِرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ : إنَّ الْأَشْيَاءَ تَنْقَسِمُ إلَى قَادِرٍ وَغَيْرِ قَادِرٍ وَالْقَادِرُ أَكْمَلُ . وَقَدْ بُسِطَ مَا فِي كَلَامِهِمْ مِنْ صَوَابٍ وَخَطَأٍ فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ " الْجَوَابُ الصَّحِيحُ لِمَنْ بَدَّلَ دِينَ الْمَسِيحِ " . وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ .
وَقَوْلُهُ { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى تَعْلِيمِ الْإِنْسَانِ مَا قَدْ عَلَّمَهُ مَعَ كَوْنِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنْ النَّقْصِ . فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيمِ فَقُدْرَتُهُ عَلَى تَعْلِيمِ الْأَنْبِيَاءِ مَا عَلَّمَهُمْ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ النَّاسِ . فَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى جَمِيعِ الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّ إمْكَانَ النُّبُوَّاتِ هُوَ آخِرُ مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ . وَأَمَّا وُجُودُ الْأَنْبِيَاءِ وَآيَاتِهِمْ فَيُعْلَمُ بِالسَّمْعِ الْمُتَوَاتِرِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } يَدْخُلُ فِيهِ إثْبَاتُ تَعْلِيمِهِ لِلْأَنْبِيَاءِ مَا عَلَّمَهُمْ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْإِمْكَانِ وَالْوُقُوعِ .

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَوَاضِعَ أَنَّ تَنْزِيهَهُ يَرْجِعُ إلَى أَصْلَيْنِ . تَنْزِيهُهُ عَنْ النَّقْصِ الْمُنَاقِضِ لِكَمَالِهِ . فَمَا دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْكَمَالِ لَهُ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى تَنَزُّهِهِ عَنْ النَّقْصِ الْمُنَاقِضِ لِكَمَالِهِ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ تَنَزُّهَهُ عَنْ النَّقْصِ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ بِخِلَافِ مَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالسَّمْعِ . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الطُّرُقَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي سَلَكُوهَا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِعْرَاضِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ لَا تَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِهِ وَلَا عَلَى إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَا عَلَى تَنَزُّهِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ النَّقَائِصِ . فَلَيْسَ عِنْدَ الْقَوْمِ مَا يُحِيلُونَ بِهِ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ النَّقَائِصِ . وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْأَفْعَالَ يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ بِخِلَافِ الصِّفَاتِ . لَكِنَّ طَرِيقَهُمْ فِي الصِّفَاتِ فَاسِدٌ مُتَنَاقِضٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ . وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِإِثْبَاتِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ بِإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ التَّمْثِيلِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .

فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ { بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } وَقَوْلُهُ { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ . فَالْخَلْقُ فِعْلُهُ وَالتَّعْلِيمُ يَتَنَاوَلُ تَعْلِيمَ مَا أَنْزَلَهُ كَمَا قَالَ { الرَّحْمَنِ } { عَلَّمَ الْقُرْآنَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ } { عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } وَقَوْلُهُ { بِالْقَلَمِ } يَتَنَاوَلُ تَعْلِيمَ كَلَامِهِ الَّذِي يُكْتَبُ بِالْقَلَمِ . وَنُزُولُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الَّتِي أَنْزَلَ فِيهَا كَلَامَهُ وَعَلَّمَ نَبِيَّهُ كَلَامَهُ الَّذِي يُكْتَبُ بِالْقَلَمِ دَلِيلٌ عَلَى شُمُولِ الْآيَةِ لِذَلِكَ فَإِنَّ سَبَبَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنْدَرِجًا فِيهِ . وَإِذَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ وَتَكَلَّمَ . وَقَدْ قَالَ { خَلَقَ الْإِنْسَانَ } . وَمَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ وَبِالْخِطَابِ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمَخْلُوقَ غَيْرُ خَلْقِ الرَّبِّ لَهُ وَكَذَلِكَ خَلْقُهُ لِغَيْرِهِ . وَاَلَّذِينَ نَازَعُوا فِي ذَلِكَ إنَّمَا نَازَعُوا لِشُبْهَةِ عَرَضَتْ لَهُمْ كَمَا قَدْ ذُكِرَ بَعْدَ هَذَا وَفِي مَوَاضِعَ . وَإِلَّا فَهُمْ لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّ " خَلَقَ " فِعْلٌ لَهُ مَصْدَرٌ يُقَالُ : خَلَقَ يَخْلُقُ خَلْقًا . وَالْإِنْسَانُ مَفْعُولُ الْمَصْدَرِ " الْمَخْلُوقُ " لَيْسَ هُوَ الْمَصْدَرُ .

وَلَكِنْ قَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ كَمَا يُقَالُ " دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ " . وَمِنْهُ قَوْلُهُ { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ } وَالْمُرَادُ هُنَاكَ : هَذَا مَخْلُوقُ اللَّهِ . وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي لَفْظِ " خَلْقُ " الْمُرَادُ بِهِ " الْمَخْلُوقُ " بَلْ فِي لَفْظِ " الْخَلْقِ " الْمُرَادِ بِهِ " الْفِعْلَ " الَّذِي يُسَمَّى الْمَصْدَرُ كَمَا يُقَالُ : خَلَقَ يَخْلُقُ خَلْقًا وَكَقَوْلِهِ { مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وَقَوْلِهِ { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } وَقَوْلِهِ { مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } وَإِذَا كَانَ الْخَلْقُ فِعْلَهُ فَهُوَ بِمَشِيئَتِهِ إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ بِغَيْرِ مَشِيئَةٍ . وَمَا كَانَ بِالْمَشِيئَةِ امْتَنَعَ قِدَمُ عَيْنِهِ بَلْ يَجُوزُ قِدَمُ نَوْعِهِ . وَإِذَا كَانَ الْخَلْقُ لِلْحَادِثِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ تَامٍّ أَوْجَبَ حُدُوثَهُ لَزِمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لَكِنْ إنْ يَثْبُتْ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ هَذَا الْمَخْلُوقِ مَخْلُوقٌ آخَرُ ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِخَلْقِ بَعْدَ خَلْقٍ . وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ . وَيَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَكَلِّمًا ثُمَّ يَصِيرُ مُتَكَلِّمًا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَلْبٌ لِكَمَالِهِ وَالْكَلَامُ صِفَةُ كَمَالٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَمْتَنِعُ حُدُوثُ ذَلِكَ . فَإِنَّ مَنْ لَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا يَمْتَنِعُ

أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مُتَكَلِّمًا وَمَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ عَالِمًا وَمَنْ لَا يَكُونُ حَيًّا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ حَيَّا . فَهَذِهِ الصِّفَاتُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَكُونُ خَالِقًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ خَالِقًا . فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ فَجَعْلُهُ نَفْسَهُ خَالِقَةً أَعْظَمُ ؛ فَيَكُونُ هَذَا مُمْتَنِعًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّ جَعْلَ نَفْسِهِ خَالِقَةً يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى جَعْلِ الْإِنْسَانِ فَاعِلًا كَانَ هُوَ الْخَالِقُ لِمَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ . فَلَوْ جَعَلَ نَفْسَهُ خَالِقَةً كَانَ هُوَ الْخَالِقُ لِمَا جَعَلَهَا تَخْلُقُهُ . فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا فِي الْأَزَلِ امْتَنَعَ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ خَالِقَةً بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ . وَيُلْزَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِامْتِنَاعِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فِي الْأَزَلِ امْتِنَاعُهُ دَائِمًا . وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ . فَعُلِمَ أَنَّهُ مَا زَالَ قَادِرًا عَلَى الْخَلْقِ مَا زَالَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخْلَقَ وَمَا زَالَ الْخَلْقُ مُمْكِنًا مَقْدُورًا . وَهَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ الْجَهْمِيَّة . بَلْ وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ فَالْمُوجِبُ لَهُ لَيْسَ شَيْئًا بَائِنًا مِنْ خَارِجٍ بَلْ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ . فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مُرِيدَةً بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فَيَلْزَمُ أَنَّهُ مَا زَالَ مُرِيدًا قَادِرًا . وَإِذَا حَصَلَتْ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَجَبَ وُجُودُ الْمَقْدُورِ .

وَأَهْلُ الْكَلَامِ الَّذِينَ يُنَازِعُونَ فِي هَذَا يَقُولُونَ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى مَا سَيَكُونُ . فَيُقَالُ لَهُمْ : الْقُدْرَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ إمْكَانِ الْمَقْدُورِ إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ دَائِمَةً ؛ فَهَلْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ الْمَقْدُورَ دَائِمًا ؟ وَهُمْ يَقُولُونَ : لَا بَلْ الْإِمْكَانُ إمْكَانُ الْفِعْلِ حَادِثٌ . وَهَذَا يُنَاقِضُ إثْبَاتَ الْقُدْرَةِ وَإِنْ قَالُوا : بَلْ الْإِمْكَانُ حَاصِلٌ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ الْفِعْلُ مُمْكِنًا فَثَبَتَ إمْكَانُ وُجُودِ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ مَقْدُورِ الرَّبِّ . وَحِينَئِذٍ ؛ فَإِذَا كَانَ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا وَالْفِعْلُ مُمْكِنًا وَهَذَا الْمُمْكِنُ قَدْ وُجِدَ فَمَا لَا يَزَالُ فَالْمُوجِبُ لِوُجُودِ جِنْسِ الْمَقْدُورِ كَالْإِرَادَةِ مَثَلًا إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا فِي الْأَزَلِ مُمْتَنِعًا فَيَلْزَمُ امْتِنَاعُ الْفِعْلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مُمْكِنٌ . وَأَيْضًا إذَا كَانَ وُجُودُهَا مُمْتَنِعًا لَمْ يَزَلْ مُمْتَنِعًا لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ هُنَاكَ يَجْعَلُهَا مُمْكِنَةً فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً . وَمَعْلُومٌ أَنَّ وُجُودَهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِبٍ . وَإِذَا كَانَ وُجُودُهَا فِي الْأَزَلِ مُمْكِنًا فَوُجُودُ هَذَا الْمُمْكِنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِ ذَاتِهِ وَذَاتُهُ كَافِيَةٌ فِي حُصُولِهِ . فَيَلْزَمُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا . وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَتَى ثَبَتَ إمْكَانُهَا فِي الْأَزَلِ لَزِمَ

وُجُودُهَا فِي الْأَزَلِ . فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تُوجَدْ لَكَانَتْ مُمْتَنِعَةً إذْ لَيْسَ فِي الْأَزَلِ شَيْءٌ سِوَى نَفْسِهِ يُوجِبُ وُجُودَهَا . فَإِذَا كَانَتْ مُمْكِنَةً وَالْمُقْتَضِي التَّامُّ لَهَا نَفْسُهُ لَزِمَ وُجُوبُهَا فِي الْأَزَلِ . وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا فَاعِلًا إذْ لَا مُقْتَضِي لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَّا ذَاتُهُ وَذَاتُهُ وَحْدُهَا كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ . فَيَلْزَمُ قِدَمُ النَّوْعِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ لَكِنَّ أَفْرَادَ النَّوْعِ تَحْصُلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالْحِكْمَةِ . وَلِهَذَا قَدْ بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُمْكِنٌ يَسْتَوِي طَرَفَا وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ بَلْ إمَّا أَنْ يَحْصُلَ الْمُقْتَضَيْ لِوُجُودِهِ فَيَجِبُ أَوْ لَا يَحْصُلُ فَيَمْتَنِعُ . فَمَا اتَّصَفَ بِهِ الرَّبُّ فَاتِّصَافُهُ بِهِ وَاجِبٌ وَمَا لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ فَاتِّصَافُهُ بِهِ مُمْتَنِعٌ . وَمَا شَاءَ كَانَ وَوَجَبَ وُجُودُهُ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَامْتَنَعَ وُجُودُهُ . فَالْمُمْكِنُ مَعَ مُرَجِّحِهِ التَّامِّ وَاجِبٌ وَبِدُونِهِ مُمْتَنِعٌ . فَفِي قَوْله تَعَالَى { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } وَفِي قَوْلِهِ { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } دَلَالَةٌ عَلَى ثُبُوتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِهَا . وَأَقْوَالُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . وَبِهَذَا فَسَّرُوا قَوْلَهُ { وَكَانَ اللَّهُ

عَزِيزًا حَكِيمًا } وَنَحْوَهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ لَمَّا قِيلَ لَهُ : قَوْلُهُ { وَكَانَ اللَّهُ } كَأَنَّهُ كَانَ شَيْءٌ ثُمَّ مَضَى ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ . هَذَا لَفْظُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَذَلِكَ كَانَ وَلَمْ يَزَلْ . وَمِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ : أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ { وَكَانَ اللَّهُ } كَأَنَّهُ شَيْءٌ كَانَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَمَّا قَوْلُهُ { كَانَ } فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ و { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . وَمِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مغرا عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَمِّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ قَالَ يَهُودِيٌّ : إنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا فَكَيْفَ هُوَ الْيَوْمَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّهُ كَانَ فِي نَفْسِهِ . عَزِيزًا حَكِيمًا . وَهَذِهِ أَقْوَالُ ابْنِ عَبَّاسٍ تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِخَبَرِ " كَانَ " وَلَا

يَزَالُ كَذَلِكَ وَأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ . فَلَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا فِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ وَلِهَذَا لَا يَزَالُ لِأَنَّهُ مِنْ نَفْسِهِ . وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا غَفُورًا . وَقَالَ أَيْضًا : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ.
فَصْلٌ :
وَكَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنْ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَأَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَكِنْ مَبْسُوطًا دَلَالَةً أَتَمَّ مِنْ هَذَا . وَهِيَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأبي بْنِ كَعْبٍ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَعَك أَعْظَمُ ؟ فَقَالَ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } فَقَالَ : ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } . وَهُنَا افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ { اللَّهِ } وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِهِ { وَرَبِّكَ } وَلِهَذَا افْتَتَحَ بِهِ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .

وَقَالَ { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } إذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ اتَّخَذُوا إلَهَا غَيْرَهُ وَإِنْ قَالُوا بِأَنَّهُ الْخَالِقُ . فَفِي قَوْلِهِ { خَلَقَ } لَمْ يَذْكُرْ نَفْيَ خَالِقٍ آخَرَ إذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا . فَلَمْ يُثْبِتْ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ خَالِقًا آخَرَ مُطْلَقًا خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ وَغَيْرَهُ بِخِلَافِ الْإِلَهِيَّةِ . قَالَ تَعَالَى { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } وَقَالَ تَعَالَى { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ } وَقَالَ تَعَالَى { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } . فَابْتَغَوْا مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى وَلَمْ يُثْبِتُوا مَعَهُ خَالِقًا آخَرَ . فَقَالَ فِي أَعْظَمِ الْآيَاتِ { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } . ذَكَرَهُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ كُلُّ مَوْضِعٍ فِيهِ أَحَدُ أُصُولِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالرُّسُلُ وَالْآخِرَةُ . هَذِهِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ وَأَخْبَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِهَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } .

فَقَالَ هُنَا { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قَرَنَهَا بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ . وَزَادَ فِي آلِ عِمْرَانَ { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } { مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } وَهَذَا إيمَانٌ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ . وَقَالَ فِي طَه : { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا } .
فَصْلٌ :
وَمِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ مَعْرِفَةُ الْإِنْسَانِ بِمَا نَعَتَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْهُ الصِّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ { الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } و " الْخَلْقُ " مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَفْعَالِ . وَهُوَ نَوْعَانِ . فِعْلٌ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولٍ بِهِ مِثْلُ " خَلَقَ " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي مَخْلُوقًا وَكَذَلِكَ " رَزَقَ " كَقَوْلِهِ { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ

هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ } . وَكَذَلِكَ الْهُدَى وَالْإِضْلَالُ وَالتَّعْلِيمُ وَالْبَعْثُ وَالْإِرْسَالُ وَالتَّكْلِيمُ . وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } وَقَوْلِهِ { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } وَقَوْلِهِ { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ } وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا . وَالْأَفْعَالُ اللَّازِمَةُ كَقَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } وَقَوْلِهِ { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } . فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى إضَافَتِهِ إلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ لَيْسَ ذَلِكَ صِفَةً لِشَيْءِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ . لَكِنْ هَلْ قَامَ بِهِ فِعْلٌ هُوَ الْخَلْقُ أَوْ الْفِعْلُ هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ ؟ وَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِمَنْ يَثْبُتُ اتِّصَافُهُ بِالصِّفَاتِ . فَأَمَّا

مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ فَهُمْ يَنْفُونَ قِيَامَ الْفِعْلِ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْخَلْقَ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ وَيَجْعَلُ الْخَلْقَ إمَّا مَعْنًى قَامَ بِالْمَخْلُوقِ أَوْ الْمَعَانِي الْمُتَسَلْسِلَةِ كَمَا يَقُولُهُ مَعْمَرُ بْنُ عَبَّادٍ ؛ أَوْ يَجْعَلُ الْخَلْقَ قَائِمًا لَا فِي مَحَلٍّ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : إنَّهُ قَوْلُ " كُنْ " لَا فِي مَحَلٍّ وَقَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ : إنَّهُ إرَادَةٌ لَا فِي مَحَلٍّ . وَهَذَا فِرَارٌ مِنْهُمْ عَنْ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ مَعَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ كَمَا الْتَزَمَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ وَغَيْرُهُ . وَالْجُمْهُورُ الْمُثْبِتُونَ لِلصِّفَاتِ هُمْ فِي الْأَفْعَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ . مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ وَإِنَّمَا الْفِعْلُ هُوَ الْمَفْعُولُ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِ أَصْحَابِهِ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . وَهَؤُلَاءِ يُقَسِّمُونَ الصِّفَاتِ إلَى ذَاتِيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ . وَهَذَا تَقْسِيمٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ . فَإِنَّ الْأَفْعَالَ عِنْدَهُمْ لَا تَقُومُ بِهِ فَلَا يَتَّصِفُ بِهَا . لَكِنْ يُخْبِرُ عَنْهُ بِهَا . وَهَذَا التَّقْسِيمُ يُنَاسِبُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : الصِّفَاتُ هِيَ الْأَخْبَارُ الَّتِي

يُخْبِرُ بِهَا عَنْهُ لَا مَعَانِيَ تَقُومُ بِهِ كَمَا تَقُولُ ذَلِكَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ . فَهَؤُلَاءِ إذَا قَالُوا : الصِّفَاتُ تَنْقَسِمُ إلَى ذَاتِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ أَرَادُوا بِذَلِكَ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ مِنْ الْكَلَامِ تَارَةً يَكُونُ خَبَرًا عَنْ ذَاتِهِ وَتَارَةً عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ صِفَاتٌ تَقُومُ بِهِ . فَمَنْ فَسَّرَ الصِّفَاتِ بِهَذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ذَاتِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً وَفِعْلِيَّةً . وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُرَادُهُ بِالصِّفَاتِ مَا يَقُومُ بِهِ فَهَذَا التَّقْسِيمُ لَا يَصْلُحُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَلَكِنْ أَخَذُوا التَّقْسِيمَ عَنْ أُولَئِكَ وَهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُمْ فِي الْمُرَادِ بِالصِّفَاتِ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ أَبِي الْحَسَنِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي والباجي وَغَيْرِهِمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ . وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ . ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " أَنَّ هَذَا إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ خَالِقٌ وَخَلْقٌ وَمَخْلُوقٌ . وَذَكَرَهُ البغوي قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَذَكَرَهُ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الكلاباذي فِي كِتَابِ " التَّعَرُّفُ بِمَذَاهِبِ التَّصَوُّفِ " أَنَّهُ قَوْلُ الصُّوفِيَّةِ . وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ يُسَمُّونَهُ

" التَّكْوِينُ " وَهُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة والهشامية وَنَحْوِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . ثُمَّ إذَا قِيلَ : الْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ وَإِنَّهُ قَائِمٌ بِالرَّبِّ فَهَلْ هُوَ خَلْقٌ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِ الرَّبِّ مَعَ حُدُوثِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ ؟ أَوْ هُوَ خَلْقٌ حَادِثٌ بِذَاتِهِ حَدَثَ لَمَّا حَدَثَ جِنْسُ الْمَخْلُوقَاتِ ؟ أَمْ خَلْقٌ بَعْدَ خَلْقٍ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَهَذَا أَوْ هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَجُمْهُورُهُمْ . وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الكَرَّامِيَة والهشامية وَغَيْرِهِمْ . فَمَنْ قَالَ " إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ كَلَامًا يَقُومُ بِذَاتِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ فِعْلًا يَقُومُ بِذَاتِهِ " . وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِيَامِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ مِنْهُمْ مَنْ يُصَحِّحُ دَلِيلَ الْأَعْرَاضِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ كالكَرَّامِيَة وَمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصَحِّحُهُ كَأَئِمَّةِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ . وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُعَبَّرُ عَنْهَا بـ " مَسْأَلَةِ التَّأْثِيرِ " هَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ التَّأْثِيرُ زَائِدٌ عَلَى الْمُؤَثِّرِ وَالْأَثَرِ أَمْ لَا ؟ وَكَلَامُ الرَّازِي فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ . وَعُمْدَةُ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالتَّأْثِيرَ هُوَ وُجُودُ الْأَثَرِ لَمْ يُثْبِتُوا زَائِدًا أَنْ قَالُوا : لَوْ كَانَ الْخَلْقُ وَالتَّأْثِيرُ زَائِدًا عَلَى ذَاتِ الْمَخْلُوقِ وَالْأَثَرِ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَقُومَ بِمَحَلِّ أَوْ لَا وَالثَّانِي بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا . وَهَذَا رَدٌّ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا : يَقُومُ بِنَفْسِهِ . قَالُوا : وَإِذَا قَامَ بِمَحَلِّ فَإِمَّا أَنْ يَقُومَ بِالْخَالِقِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ قَامَ بِغَيْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْخَالِقَ لَا هُوَ . وَهَذَا رَدٌّ عَلَى طَائِفَةٍ ثَانِيَةٍ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَقُومُ بِالْمَخْلُوقِ . وَإِذَا قَامَ بِالْخَالِقِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا وَلَوْ كَانَ قَدِيمًا لَلَزِمَ قِدَمُ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالْمَخْلُوقَ مُتَلَازِمَانِ . فَوُجُودُ خَلْقٍ بِلَا مَخْلُوقٍ مُمْتَنِعٌ وَكَذَلِكَ وُجُودُ تَأْثِيرٍ بِلَا أَثَرٍ . وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهُوَ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَلْزَمُ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ . وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ الْخَلْقَ الْحَادِثَ يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَمَعْمَرُ بْنُ عَبَّادٍ الْتَزَمَ التَّسَلْسُلَ وَجَعَلَ لِلْخَلْقِ خَلْقًا وَلِلْخَلْقِ خَلْقًا

لَكِنْ لَا فِي ذَاتِ اللَّهِ وَجَعَلَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ . فَهَذِهِ عُمْدَةُ هَؤُلَاءِ . وَكُلُّ طَائِفَةٍ تُخَالِفُهُمْ مَنَعَتْ مُقَدِّمَةً مِنْ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِهِمْ . فَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَقُومَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْمَخْلُوقِ مَنَعَ تينك الْمُقْدِمَتَيْنِ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَكُلٌّ أَجَابَ بِحَسَبِ قَوْلِهِ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ قَدِيمٌ كَمَا أَنَّ الْإِرَادَةَ عِنْدَكُمْ قَدِيمَةً . وَمَعَ الْقَوْلِ بِقِدَمِهَا لَمْ يَلْزَمْ تَقَدُّمَ الْمُرَادِ كَذَلِكَ الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ قَدِيمٌ وَلَا يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الْمَخْلُوقِ . وَهَذَا لَازِمٌ للكلابية مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ . لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ قِدَمِ إرَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ نَفْيُ قِدَمِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ . أَوْ يَقُولُ بِقِدَمِ نَوْعِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُهُ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَغَيْرِهِمْ . لَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يُقَالُ لَهُ : التَّكْوِينُ الْقَدِيمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ بِمَشِيئَتِهِ . فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَ الْخَلْقَ بِلَا مَشِيئَتِهِ . وَإِنْ كَانَ بِمَشِيئَتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ مُرَادًا وَهَذَا بَاطِلٌ . وَلَوْ صَحَّ لَأَمْكَنَ كَوْنُ الْعَالَمِ قَدِيمًا مَعَ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا

بِخَلْقِ قَدِيمٍ بِإِرَادَةِ قَدِيمَةٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ . وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ قَالَ " الْقُرْآنُ قَدِيمٌ " يَقُولُونَ : تَكَلَّمَ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . فَالْمَفْعُولُ الْمُرَادُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ الْمُرَادُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا . وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الْمُنَازِعُونَ لَهُمْ يَقُولُونَ : الْإِرَادَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمُرَادِ وَالْخَلْقُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَخْلُوقِ . وَمَا ذُكِرَ حُجَّةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ . فَإِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْخَلْقَ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ وَثُبُوتُ إرَادَةٍ بِلَا مُرَادٍ وَخَلْقٌ بِلَا مَخْلُوقٍ مُمْتَنِعٌ . لَكِنَّ الْمُنَازِعَ يَقُولُ : تُوجَدُ الْإِرَادَةُ وَالْخَلْقُ وَيَتَأَخَّرُ الْمُرَادُ الْمَخْلُوقُ فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ تَقُولُونَ : تُوجَدُ الْإِرَادَةُ أَوْ الْخَلْقُ مَعَ الْإِرَادَةِ وَلَا يُوجَدُ لَا الْمُرَادُ وَلَا الْمَخْلُوقُ . ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ تَقْدِيرِ الْأَوْقَاتِ يُوجَدُ الْمُرَادُ الْمَخْلُوقُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ . وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ فِي بِدَايَةِ الْعُقُولِ . فَإِنَّ الْإِرَادَةَ أَوْ الْخَلْقَ كَانَ مَوْجُودًا مَعَ الْقُدْرَةِ . فَإِنْ كَانَ هَذَا مُؤَثِّرًا تَامًّا اسْتَلْزَمَ وُجُودَ الْأَثَرِ وَلَزِمَ وُجُودُ الْأَثَرِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ . فَإِنَّ الْأَثَرَ " مُمْكِنٌ " وَالْمُمْكِنُ يَجِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ

التَّامِّ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ جَائِزًا بَعْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَحِينَئِذٍ فَيَفْتَقِرُ إلَى مُرَجِّحٍ . وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلَ . وَلَا يَنْقَطِعُ التَّسَلْسُلُ إلَّا إذَا وُجِدَ الْمُرَجِّحُ التَّامُّ الْمُوجِبُ .
وَهُنَا تَنَازَعَ النَّاسُ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْصَمِ الكرامي وَمَحْمُودٍ الْخَوَارِزْمِيّ يَكُونُ الْمُمْكِنُ أَوْلَى بِالْوُقُوعِ لَكِنْ لَا يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْوُجُوبِ . وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ : بَلْ لَا يَصِيرُ أَوْلَى وَلَكِنَّ الْقَادِرَ أَوْ الْقَادِرَ الْمُرِيدَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ . وَآخَرُونَ عَرَفُوا أَنَّ هَذَا لَازِمٌ فَاعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ يَجِبُ وُجُودُ الْأَثَرِ وَعِنْدَ الدَّاعِي التَّامِّ مَعَ الْقُدْرَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَالرَّازِي والطوسي وَغَيْرُهُمْ . وَكَثِيرٌ مِنْ قُدَمَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ بِالْإِرَادَةِ الْمُوجِبَةِ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ . والمتفلسفة أَوْرَدُوا هَذَا عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ لَكِنْ بِأَنَّ الْأَثَرَ يُقَارِنُ وُجُودَ التَّأْثِيرِ فَيَكُونُ مَعَهُ بِالزَّمَنِ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ إلَّا هَذَا الْقَوْلَ وَذَاكَ الْقَوْلُ

كالرَّازِي وَغَيْرِهِ فَيَبْقَوْنَ حَيَارَى فِي هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْكَلَامِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَبَيَّنَّا أَنَّ قَوْلًا ثَالِثًا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ . وَهُوَ أَنَّ التَّأْثِيرَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْأَثَرِ عَقِبَهُ لَا مَعَهُ فِي الزَّمَانِ وَلَا مُتَرَاخِيًا عَنْهُ . فَمَنْ قَالَ بِالتَّرَاخِي مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَقَدْ غَلِطَ وَمَنْ قَالَ بِالِاقْتِرَانِ كالمتفلسفة فَهُمْ أَعْظَمُ غَلَطًا . وَيَلْزَمُ قَوْلُهُمْ مِنْ الْمُحَالَاتِ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ . وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ فَعَلَيْهِ يَدُلُّ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَالْعُقَلَاءُ يَقُولُونَ " قَطَّعْته فَانْقَطَعَ وَكَسَّرْته فَانْكَسَرَ " و " طَلَّقَ الْمَرْأَةَ فَطَلَقَتْ وَأَعْتَقَ الْعَبْدَ فَعَتَقَ " . فَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ يَقَعَانِ عَقِبَ الْإِعْتَاقِ وَالتَّطْلِيقِ لَا يَتَرَاخَى الْأَثَرُ وَلَا يُقَارَنُ . وَكَذَلِكَ الِانْكِسَارُ وَالِانْقِطَاعُ مَعَ الْقَطْعِ وَالْكَسْرِ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الْخَلْقُ لَزِمَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ عَقِبَهُ كَمَا يُقَالُ : كَوْنُ اللَّهِ الشَّيْءَ فَتَكُونُ . فَتَكُونُهُ عَقِبَ تَكْوِينِ اللَّهِ لَا مَعَ التَّكْوِينِ وَلَا مُتَرَاخِيًا .

وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ التَّامَّةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ الْمَقْدُورِ . فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ فَيُوجَدُ الْخَلْقُ بِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . ثُمَّ الْخَلْقُ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ حَادِثًا بِسَبَبِ آخَرَ يَكُونُ هَذَا عَقِبَهُ . فَإِنَّمَا فِي ذَلِكَ وُجُودُ الْأَثَرِ عَقِبَ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ وَالتَّسَلْسُلِ فِي الْآثَارِ . وَكِلَاهُمَا حَقٌّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ فَلَا يَكُونُ إلَّا بَائِنًا عَنْهُ لَا يَقُومُ بِهِ مَخْلُوقٌ . بَلْ نَفْسُ الْإِرَادَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ تَقْتَضِي وُجُودَ الْخَلْقِ كَمَا تَقْتَضِي وُجُودَ الْكَلَامِ . وَلَا يَفْتَقِرُ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى مَا بِهِ يَحْصُلُ وَهُوَ الْإِرَادَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ . وَإِذَا خَلَقَ شَيْئًا أَرَادَ خَلْقَ شَيْءٍ آخَرَ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْخَلْقَ حَادِثٌ كالهشامية والكَرَّامِيَة قَالَ : نَحْنُ نَقُولُ بِقِيَامِ الْحَوَادِثِ . وَلَا دَلِيلَ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ . بَلْ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ .

وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ يُدَبِّرُ هَذَا الْعَالَمَ إلَّا بِذَلِكَ كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَقْرَبُ الْفَلَاسِفَةِ إلَى الْحَقِّ كَأَبِي الْبَرَكَاتِ صَاحِبِ " الْمُعْتَبَرِ " وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : يَلْزَمُ أَنَّ لِلْخَلْقِ خَلْقًا آخَرَ فَقَدْ أَجَابَهُمْ مَنْ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ كالكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ بِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ : إنَّ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُنْفَصِلَةَ تَحْدُثُ بِلَا حُدُوثِ سَبَبٍ أَصْلًا . وَحِينَئِذٍ فَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ الْخَلْقِ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ بِلَا حُدُوثِ سَبَبٍ أَقْرَبُ إلَى الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ . وَهَذَا جَوَابٌ لَازِم عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَقْدِيرِ قِيَامِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ . والكَرَّامِيَة يُسَمُّونَ مَا قَامَ بِهِ " حَادِثًا " وَلَا يُسَمُّونَهُ " مُحْدَثًا " كَالْكَلَامِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ الْقُرْآنُ أَوْ غَيْرُهُ يَقُولُونَ : هُوَ حَادِثٌ وَيَمْنَعُونَ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُحْدَثٌ لِأَنَّ " الْحَادِثَ " يَحْدُثُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ك " الْفِعْلِ " . وَأَمَّا " الْمُحْدَثُ " فَيَفْتَقِرُ إلَى إحْدَاثٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَقُومَ بِذَاتِهِ إحْدَاثُ غَيْرِ الْمُحْدَثِ وَذَلِكَ الْإِحْدَاثُ يَفْتَقِرُ إلَى إحْدَاثٍ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ . وَأَمَّا غَيْرُ الكَرَّامِيَة مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْكَلَامِ فَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " مُحْدَثًا " كَمَا قَالَ { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ }

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ . { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } . وَاَلَّذِي أَحْدَثَهُ هُوَ النَّهْيُ عَنْ تَكَلُّمِهِمْ فِي الصَّلَاةِ . وَقَوْلُهُمْ " إنَّ الْمُحْدَثَ يَفْتَقِرُ إلَى إحْدَاثٍ وَهَلُمَّ جَرًّا " هَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلَ فِي الْآثَارِ مِثْلُ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ وَكَلِمَاتُ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ . وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ . وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُ فَإِنَّ الْفِعْلَ وَالْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ . فَإِنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَمَنْ يَخْلُقُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَخْلُقُ . قَالَ تَعَالَى { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } . وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مَا زَالَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْإِكْرَامِ وَالْجَلَالِ . وَبِهَذَا تَزُولُ أَنْوَاعُ الْإِشْكَالِ وَيُعْلَمُ أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ مِنْ أَصْدَقِ الْأَقْوَالِ وَأَنَّ دَلَائِلَ الْعُقُولِ لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى مَا يُوَافِقُ أَخْبَارَ الرَّسُولِ . وَلَكِنْ نَشَأَ الْغَلَطُ مِنْ جَهْلِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ

وَسُلُوكِهِمْ أَدِلَّةً بِرَأْيِهِمْ ظَنُّوهَا عَقْلِيَّةً وَهِيَ جهلية . فَغَلِطُوا فِي الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَاخْتَلَفُوا { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالْأَفْعَالِ وَذُكِرَ مَا تَيَسَّرَ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَآخِذَ الْأَقْوَالِ . وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا بَيَّنَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَتَكَلَّمَ فِي " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة " عَلَى قَوْلِهِ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } . وَبَيَّنَ أَنْ " الْجَعْلَ " مِنْ اللَّهِ قَدْ يَكُونُ " خَلْقًا " كَقَوْلِهِ { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } وَقَدْ يَكُونُ " فِعْلًا لَيْسَ بِخَلْقِ " وَقَوْلِهِ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْخَلْقَ وَنَحْوَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَيْسَتْ خَلْقًا مِثْلُ تَكَلُّمِهِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَتَكَلُّمِهِ لِمُوسَى وَغَيْرِهِ وَمِثْلُ النُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ إنَّمَا تَكُونُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَبِأَفْعَالِ أُخَرٍ تَقُومُ بِذَاتِهِ لَيْسَتْ خَلْقًا . وَبِهَذَا يُجِيبُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ للكرامية إذَا قَالُوا : " الْمُحْدَثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إحْدَاثٍ ؟ " فَيَقُولُ : " نَعَمْ وَذَلِكَ الْإِحْدَاثُ

فِعْلٌ لَيْسَ بِخَلْقِ " و " التَّسَلْسُلُ " نَلْتَزِمُهُ . فَإِنَّ التَّسَلْسُلَ الْمُمْتَنِعَ هُوَ وُجُودُ الْمُتَسَلْسِلَاتِ فِي آنٍ وَاحِدٍ ؛ كَوُجُودِ خَالِقٍ لِلْخَالِقِ وَخَالِقٍ لِلْخَالِقِ أَوْ لِلْخَلْقِ خَلْقٌ وَلِلْخَلْقِ خَلْقٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ . وَهَذَا مُمْتَنِعٌ مِنْ وُجُوهٍ . مِنْهَا وُجُودُ مَا لَا يَتَنَاهَى فِي آنٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ مُطْلَقًا . وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ يَكُونُ " مُحْدَثًا " لَا " مُمْكِنًا " وَلَيْسَ فِيهَا مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ يَنْقَطِعُ بِهِ التَّسَلْسُلُ وَإِذَا كَانَ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ . بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ " كَانَ قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ كَلَامٌ وَقَبْلَ هَذَا الْفِعْلِ فِعْلٌ " جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةِ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ . فَإِذَا قِيلَ " هَذَا الْكَلَامُ الْمُحْدَثُ أَحْدَثَهُ فِي نَفْسِهِ " كَانَ هَذَا مَعْقُولًا . وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِنَا " تَكَلَّمَ بِهِ " . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } أَيْ تَكَلَّمْنَا بِهِ عَرَبِيًّا وَأَنْزَلْنَاهُ عَرَبِيًّا . وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ السَّلَفُ كَإِسْحَاقِ بْنِ رَاهَوَيْه وَذَكَرَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : { جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } قُلْنَاهُ عَرَبِيًّا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه قَالَ : ذُكِرَ لَنَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } إنَّا قُلْنَاهُ وَوَصَفْنَاهُ . وَذَكَرَهُ

عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ الأشجعي عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي قَوْلِهِ { جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } بَيَّنَّاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا . وَالْإِنْسَانُ يُفَرِّقُ بَيْنَ تَكَلُّمِهِ وَتَحَرُّكِهِ فِي نَفْسِهِ وَبَيْنَ تَحْرِيكِهِ لِغَيْرِهِ . وَقَدْ احْتَجَّ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بـ " كُنْ " . فَلَوْ كَانَتْ " كُنْ " مَخْلُوقَةً لَزِمَ أَنْ يَكُونَ خَلَقَ مَخْلُوقًا بِمَخْلُوقِ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ الْبَاطِلُ . وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَخْلُقُ إلَّا بـ " كُنْ " فَلَوْ كَانَتْ " كُنْ " مَخْلُوقَةً لَزِمَ أَنْ لَا يَخْلُقَ شَيْئًا . وَهُوَ الدَّوْرُ الْمُمْتَنِعُ . فَإِنَّهُ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا حَتَّى يَقُولَ " كُنْ " وَلَا يَقُولُ " كُنْ " حَتَّى يَخْلُقَهَا فَلَا يَخْلُقُ شَيْئًا . وَهَذَا تَسَلْسُلٌ فِي أَصْلِ التَّأْثِيرِ وَالْفِعْلِ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ : لَا يَفْعَلُ حَتَّى يَفْعَلَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَفْعَلَ ؛ وَلَا يَخْلُقُ حَتَّى يَخْلُقَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَخْلُقَ . وَأَمَّا إذَا قِيلَ : قَالَ " كُنْ " وَقَبْلَ " كُنْ " " كُنْ " وَقَبْلَ " كُنْ " " كُنْ " فَهَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعِ . فَإِنَّ هَذَا تَسَلْسُلٌ فِي آحَادِ التَّأْثِيرِ لَا فِي جِنْسِهِ . كَمَا أَنَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَقُولُ " كُنْ " بَعْدَ " كُنْ " وَيَخْلُقُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ . فَالْمَخْلُوقَاتُ التَّامَّةُ يَخْلُقُهَا بِخَلْقِهِ وَخَلْقُهُ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ .

وَإِذَا قِيلَ : هَذَا الْفِعْلُ الْقَائِمُ بِهِ يَفْتَقِرُ إلَى فِعْلٍ آخَرَ يَكُونُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي وُجُودِهِ غَيْرُ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُجَرَّدُ ذَلِكَ كَافِيًا كَفَى فِي وُجُودِ الْمَخْلُوقِ فَلَمَّا كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ فَهَذَا الْخَلْقُ أَمْرٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ فِعْلٌ قَائِمٌ بِهِ . فَالْمُؤَثِّرُ التَّامُّ فِيهِ يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لَهُ مُسْتَعْقِبًا لَهُ كَالْمُؤَثِّرِ التَّامِّ فِي وُجُودِ الْكَلَامِ الْحَادِثِ بِذَاتِهِ . وَالْمُتَكَلِّمُ مِنْ النَّاسِ إذَا تَكَلَّمَ فَوُجُودُ الْكَلَامِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ مَسْبُوقٌ بِفِعْلِ آخَرَ . فَلَا بُدَّ مِنْ حَرَكَةٍ تَسْتَعْقِبُ وُجُودَ الْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ الْكَلَامُ . فَتِلْكَ الْحَرَكَةُ هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ الْكَلَامَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا وَهُوَ فِعْلٌ يَقُومُ بِالْفَاعِلِ . وَذَلِكَ الْجَعْلُ الْحَادِثُ حَدَثَ بِمُؤَثِّرِ تَامٍّ قَبْلَهُ أَيْضًا . وَذَاتُ الرَّبِّ هِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِذَلِكَ كُلِّهِ . فَهِيَ تَقْتَضِي الثَّانِي بِشَرْطِ انْقِضَاءِ الْأَوَّلِ لَا مَعَهُ . وَاقْتِضَاؤُهَا لِلثَّانِي فِعْلٌ يَقُومُ بِهَا بَعْدَ الْأَوَّلِ . وَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِهَذَا التَّأْثِيرِ وَهَذَا التَّأْثِيرِ . ثُمَّ هَذَا التَّأْثِيرِ وَكُلُّ تَأْثِيرٍ هُوَ مُسَبَّبٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَشَرْطٌ لِمَا بَعْدَهُ . وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَإِنْ كَانَتْ " حَادِثَةً " . وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَنَا أُسَمِّي هَذَا " خَلْقًا " كَانَ نِزَاعُهُ لَفْظِيًّا وَقِيلَ لَهُ : الَّذِينَ قَالُوا " الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ " لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُمْ هَذَا وَلَا رَدَّ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ هَذَا . إنَّمَا رَدُّوا قَوْلَ مَنْ جَعَلَهُ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ

الْإِمَامُ أَحْمَد : كَلَامُ اللَّه مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بَائِنًا عَنْهُ . وَقَالُوا : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ . قَالَ أَحْمَد : مِنْهُ بَدَأَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يَبْدَأْ مِنْ مَخْلُوقٍ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَخْلُوقٌ . قَالَ تَعَالَى { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } . وَلِهَذَا لَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّهُ خَلَقَ نُزُولَهُ وَاسْتِوَاءَهُ وَمَجِيئَهُ . وَكَذَلِكَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى وَنِدَاؤُهُ لَهُ نَادَاهُ وَكَلَّمَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَالتَّكْلِيمُ فِعْلٌ قَامَ بِذَاتِهِ وَلَيْسَ هُوَ الْخَلْقُ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَكَلَّمَ فَقَدْ فَعَلَ كَلَامًا وَأَحْدَثَ كَلَامًا وَلَكِنْ فِي نَفْسِهِ لَا مُبَايِنًا لَهُ . وَلِهَذَا كَانَ الْكَلَامُ صِفَةَ فِعْلٍ وَهُوَ صِفَةُ ذَاتٍ أَيْضًا عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ يَقُولُ : إنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ وَيُجْعَلُ الْفِعْلُ بَائِنًا عَنْهُ وَالْكَلَامُ بَائِنًا عَنْهُ . وَمَنْ قَالَ صِفَةَ ذَاتٍ يَقُولُ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِلَا مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَمَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامُهُ قَائِمٌ بِهِ . فَهُوَ صِفَةُ

ذَاتٍ وَصْفَةُ فِعْلٍ . وَلَكِنَّ الْفِعْلَ هُنَا لَيْسَ هُوَ الْخَلْقُ بَلْ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : الْجَعْلُ جعلان جَعْلٌ هُوَ خَلْقٌ وَجَعْلٌ لَيْسَ بِخَلْقِ . وَهَذَا كُلُّهُ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْأَفْعَالِ بِذَاتِهِ وَأَنَّهَا تَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ أَفْعَالٌ مُتَعَدِّيَةٌ كَالْخَلْقِ وَأَفْعَالٌ لَازِمَةٌ كَالتَّكَلُّمِ وَالنُّزُولِ . وَالسَّلَفُ يُثْبِتُونَ النَّوْعَيْنِ هَذَا وَغَيْرَهُ . وَأَمَّا جَعْلُ الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي صِنَاعَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ نَصَبَ مَفْعُولًا فَفِي " الْكَلَامِ " الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ " التَّكَلُّمُ " مُتَّصِلًا بِالْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ " الْكَلَامُ " كِلَاهُمَا قَائِمٌ بِالْمُتَكَلِّمِ . وَلِهَذَا قَدْ يُرَادُ بِالْمَفْعُولِ الْمَصْدَرُ . إذَا قُلْت " قَالَ قَوْلًا حَسَنًا " فَقَدْ يُرَادُ بـ " الْقَوْلِ " الْمَصْدَرُ فَقَطْ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ " الْكَلَامُ " فَقَطْ فَيَكُونُ الْمَفْعُولَ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَجْمُوعُ فَيَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ وَمَصْدَرًا . وَكَذَلِكَ " الْقُرْآنُ " هُوَ فِي الْأَصْلِ " قَرَأَ قُرْآنًا " وَهُوَ الْفِعْلُ وَالْحَرَكَةُ ثُمَّ سُمِّيَ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ " قُرْآنًا " . قَالَ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } وَقَالَ فِي الثَّانِي { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ } .
وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ التِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ فِي

الْأَصْلِ مَصْدَرُ " تَلَا تِلَاوَةً وَقَرَأَ قِرَاءَةً كَالْقُرْآنِ " لَكِنْ يُسَمَّى بِهِ الْكَلَامُ كَمَا يُسَمَّى بِالْقُرْآنِ . وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءَ وَالتِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوَّ . وَقَدْ يُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ فَلَا تَكُونُ الْقِرَاءَةُ وَالتِّلَاوَةُ هِيَ الْمَقْرُوءَ الْمَتْلُوَّ بَلْ تَكُونُ مُسْتَلْزِمَةً لَهُ . وَقَدْ يُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ فَلَا تَكُونُ هِيَ الْمَتْلُوَّ لِأَنَّ فِيهَا الْفِعْلَ وَلَا تَكُونُ مُبَايِنَةً مُغَايِرَةً لِلْمَتْلُوِّ لِأَنَّ الْمَتْلُوَّ جُزْؤُهَا . هَذَا إذَا أُرِيدَ بِالْقِرَاءَةِ وَالْمَقْرُوءِ شَيْءٌ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ مِثْلُ قِرَاءَةِ الرَّبِّ وَمَقْرُوئِهِ أَوْ قِرَاءَةِ الْعَبْدِ وَمَقْرُوئِهِ . وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْقِرَاءَةِ قِرَاءَةُ الْعَبْدِ وَهِيَ حَرَكَتُهُ وَبِالْمَقْرُوءِ صِفَةُ الرَّبِّ فَلَا رَيْبَ أَنَّ حَرَكَةَ الْعَبْدِ لَيْسَتْ صِفَةَ الرَّبِّ . وَلَكِنْ هَذَا تَكَلُّفٌ . بَلْ قِرَاءَةُ الْعَبْدِ مَقْرُوءُهُ كَمَقْرُوئِهِ . وَقِرَاءَتُهُ لِلْقُرْآنِ إذَا عَنَى بِهَا نَفْسَ الْقُرْآنِ فَهِيَ مَقْرُوءُهُ . وَإِنْ عَنَى بِهَا حَرَكَتَهُ فَلَيْسَتْ مَقْرُوءَهُ . وَإِنْ عَنَى بِهَا الْأَمْرَانِ فَلَا يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُ : الْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْقِرَاءَةُ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُطْلِقُ وَاحِدًا

مِنْهُمَا وَلِكُلِّ قَوْلٍ وَجْهٌ مِنْ الصَّوَابِ عِنْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ وَالْإِنْصَافِ . وَلَيْسَ فِيهَا قَوْلٌ يُحِيطُ بِالصَّوَابِ بَلْ كُلُّ قَوْلٍ فِيهِ صَوَابٌ مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . وَالْبُخَارِيُّ إنَّمَا يُثْبِتُ خَلْقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ حَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ . وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ . وَأَمَّا الْكَلَامُ نَفْسُهُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ . وَلَمْ يَقُلْ الْبُخَارِيُّ إنَّ لَفْظَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرَ مَخْلُوقٍ كَمَا نَهَى أَحْمَد عَنْ هَذَا وَهَذَا . وَاَلَّذِي قَالَ الْبُخَارِيُّ إنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ لَمْ يَقُلْ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنْ سَكَتُوا عَنْهُ لِظُهُورِ أَمْرِهِ وَلِكَوْنِهِمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ الرَّدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّة . وَاَلَّذِي قَالَ أَحْمَد إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا صِفَةُ الْعِبَادِ لَمْ يَقُلْ الْبُخَارِيُّ إنَّهُ مَخْلُوقٌ . وَلَكِنَّ أَحْمَد كَانَ مَقْصُودُهُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقًا إذَا بُلِّغَ عَنْ اللَّهِ وَالْبُخَارِيَّ كَانَ مَقْصُودُهُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَقُولُ : أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتُهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . وَكِلَا الْقَصْدِينَ صَحِيحٌ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا . وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي

مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ وَلَكِنَّ الْمُنْحَرِفُونَ إلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ يُنْكِرُونَ عَلَى الْآخَرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْأَفْعَالُ اللَّازِمَةُ كَالِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ فَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي نَفْسِ إثْبَاتِهَا . لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَ فِيهَا مَفْعُولٌ مَوْجُودٌ يَعْلَمُونَهُ حَتَّى يَسْتَدِلُّوا بِثُبُوتِ الْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَلْقِ وَإِنَّمَا عُرِفَتْ بِالْخَبَرِ . فَالْأَصْلُ فِيهَا الْخَبَرُ لَا الْعَقْلُ . وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ يَنْفُونَهَا مِمَّنْ يَقُولُ " الْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ " . وَمِمَّنْ يَقُولُ " الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ " وَمَنْ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يُثْبِتُهَا .
وَاَلَّذِينَ أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ لَهُمْ فِي هَذِهِ قَوْلَانِ :
مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا مِنْ جِنْسِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي بِجَعْلِهَا أُمُورًا حَادِثَةً فِي غَيْرِهَا . وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابِنّ الزَّاغُونِي وَابْنِ عَقِيلٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَقْوَالِهِ . فَالْأَشْعَرِيُّ يَقُولُ : الِاسْتِوَاءُ فِعْلٌ فَعَلَهُ فِي الْعَرْشِ فَصَارَ بِهِ

مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ . وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي الْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ . وَيَقُولُ : هَذِهِ الْأَفْعَالُ لَيْسَتْ مِنْ خَصَائِصِ الْأَجْسَامِ بَلْ تُوصَفُ بِهَا الْأَجْسَامُ وَالْأَعْرَاضُ فَيُقَالُ " جَاءَتْ الْحُمَّى وَجَاءَ الْبَرْدُ وَجَاءَ الْحُرُّ " وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمَا . وَحَمَلُوا مَا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ كالأوزاعي وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي النُّزُولِ : يَفْعَلُ اللَّه فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَكَمَا حَكَوْهُ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ . وَلَكِنْ عِنْدَهُمْ هَذَا مِنْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ . وَهَذَا قَوْلُ البيهقي وَطَائِفَةٍ وَهُوَ أَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . وَكُلُّ مَنْ قَالَ إنَّ الرَّبَّ لَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ الِاخْتِيَارِيَّةُ فَإِنَّهُ يَنْفِي أَنْ يَقُومَ بِهِ فِعْلٌ شَاءَهُ سَوَاءٌ كَانَ لَازِمًا أَوْ مُتَعَدِّيًا . لَكِنْ مَنْ أَثْبَتَ مِنْ هَؤُلَاءِ فِعْلًا قَدِيمًا كَمَنْ يَقُولُ بِالتَّكْوِينِ وَبِهَذَا فَإِنَّهُ يَقُولُ : ذَلِكَ الْقَدِيمُ قَامَ بِهِ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ كَمَا يَقُولُونَ فِي إرَادَتِهِ الْقَدِيمَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهَا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَفْعَالٌ تَقُومُ بِذَاتِهِ بِمَشِيئَتِهِ

وَاخْتِيَارِهِ كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ . وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ . وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْنَافِ أَهْلِ الْكَلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي نِزَاعُهُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } وَقَوْلِهِ { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } وَقَوْلِهِ : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمَنْ نَفَى هَذِهِ الْأَفْعَالَ يَتَأَوَّلُ إتْيَانَهُ بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ أَوْ بَأْسِهِ وَالِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ بِجَعْلِهِ الْقُدْرَةَ وَالِاسْتِيلَاءَ أَوْ بِجَعْلِهِ عُلُوَّ الْقَدْرِ . فَإِنَّ الِاسْتِوَاءَ لِلنَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ هَلْ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ أَوْ الذَّاتِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ صِفَةُ ذَاتٍ يَتَأَوَّلُونَهُ بِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْعَرْشِ . وَهُوَ مَا زَالَ قَادِرًا وَمَا زَالَ عَالِيَ الْقَدْرِ ؛ فَلِهَذَا ظَهَرَ ضَعْفُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وُجُوهٍ . مِنْهَا قَوْلُهُ { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَوَى بِحَرْفِ " ثُمَّ " .

وَمِنْهَا أَنَّهُ عَطَفَ فِعْلًا عَلَى فِعْلٍ فَقَالَ : خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى . وَمِنْهَا أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْعَرْشِ وَغَيْرِهِ . وَإِذَا قِيلَ إنَّ الْعَرْشَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ فَهَذَا لَا يَنْفِي ثُبُوتَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } . لَمَّا ذَكَرَ رُبُوبِيَّتَهُ لِلْعَرْشِ لِعَظْمَتِهِ وَالرُّبُوبِيَّةُ عَامَّةٌ جَازَ أَنْ يُقَالَ " رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ " وَيُقَالُ { رَبِّ الْعَالَمِينَ } { رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } وَالِاسْتِوَاءُ مُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَوْلٍ مُقْتَدِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا . فَلَوْ كَانَ اسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ هُوَ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يُقَالَ : عَلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا . وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ طَوَائِفُ مِنْهُمْ الْأَشْعَرِيُّ . قَالَ : فِي إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَا زَالَ مُقْتَدِرًا عَلَيْهِ مِنْ حِينِ خَلَقَهُ . وَمِنْهَا كَوْنُ لَفْظِ " الِاسْتِوَاءِ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُقَالُ عَلَى الْقُدْرَةِ أَوْ عُلُوِّ الْقَدْرِ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُمْ . وَالِاسْتِعْمَالُ الْمَوْجُودُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ يَمْنَعُ هَذَا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَتَكَلَّمَ عَلَى الْبَيْتِ الَّذِي يَحْتَجُّونَ بِهِ :

ثُمَّ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ * * * مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ
وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ . فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا : اسْتَوَى عُمَرُ عَلَى الْعِرَاقِ لَمَّا فَتَحَهَا وَلَا اسْتَوَى عُثْمَانُ عَلَى خُرَاسَانَ وَلَا اسْتَوَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَمَنِ . وَإِنَّمَا قِيلَ هَذَا الْبَيْتُ إنْ صَحَّ فِي بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ لَمَّا دَخَلَ الْعِرَاقَ وَاسْتَوَى عَلَى كُرْسِيِّ مَلِكِهَا . فَقِيلَ هَذَا كَمَا يُقَالُ : جَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ أَوْ تَحْتَ الْمُلْكِ وَيُقَالُ : قَعَدَ عَلَى الْمُلْكِ وَالْمُرَادُ هَذَا . وَأَيْضًا فَالْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ وَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : الِاسْتِوَاءُ صِفَةُ فِعْلٍ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ قَوْلَانِ هُنَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ هَلْ هُوَ فِعْلٌ بَائِنٌ عَنْهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَمْ فِعْلٌ قَائِمٌ بِهِ يَحْصُلُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . الْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ كِلَابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ . وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِمْ .

وَالثَّانِي قَوْلُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَكَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِ الْكَلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَلِهَذَا صَارَ لِلنَّاسِ فِيمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ . طَائِفَةٌ يَقُولُونَ : تَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهَا وَيَجْعَلُونَ إتْيَانَهُ مِنْ جِنْسِ إتْيَانِ الْمَخْلُوقِ وَنُزُولَهُ مِنْ جِنْسِ نُزُولِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ الْمُشَبِّهَةُ الْمُمَثِّلَةُ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : إذَا نَزَلَ خَلَا مِنْهُ الْعَرْشُ فَلَمْ يَبْقَ فَوْقَ الْعَرْشِ . وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ : بَلْ النُّصُوصُ عَلَى ظَاهِرِهَا اللَّائِقِ بِهِ كَمَا فِي سَائِرِ مَا وُصِفَ بِهِ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ . وَيَقُولُونَ : نَزَلَ نُزُولًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكَذَلِكَ يَأْتِي إتْيَانًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ . وَهُوَ عِنْدُهُمْ يَنْزِلُ وَيَأْتِي وَلَمْ يَزَلْ عَالِيًا وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ كَمَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ . وَقَالَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه : يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ . وَتَفْسِيرُ النُّزُولِ بِفِعْلِ يَقُومُ بِذَاتِهِ هُوَ قَوْلُ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ .

وَالْأَوَّلُ نَفْيُ قِيَامِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ هُوَ قَوْلُ التَّمِيمِيِّ مُوَافَقَةً مِنْهُ لِابْنِ كِلَابٍ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ . وَطَائِفَتَانِ يَقُولَانِ : بَلْ لَا يَنْزِلُ وَلَا يَأْتِي كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَوِّضُ مَعْنَاهُ . وَطَائِفَتَانِ وَاقِفَتَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : مَا نَدْرِي مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَزِيدُ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ . وَعَامَّةُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَأَتْبَاعُ السَّلَفِ يُبْطِلُونَ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِمَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَوِي الْآتِي لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرُدُّ التَّأْوِيلَ الْبَاطِلَ وَيَقُولُ : مَا أَعِرْفُ مُرَادَ اللَّهِ بِهَذَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هَذَا مِمَّا نُهِيَ عَنْ تَفْسِيرِهِ أَوْ مِمَّا يُكْتَمُ تَفْسِيرُهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَرِّرُهُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالْآثَارُ الْكَثِيرَةُ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ البغوي الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْفَرَّاءُ الْمُلَقَّبُ بـ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي تَفْسِيرِهِ : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ : أَيْ ارْتَفَعَ إلَى السَّمَاءِ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ كيسان

وَجَمَاعَةٌ مِنْ النَّحْوِيِّينَ : أَيْ أَقْبَلَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ . وَقِيلَ : قَصَدَ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ . قَالَ : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } أَيْ عَمَدَ إلَى خَلْقِهَا . وَكَذَلِكَ هُوَ يُرَجِّحُ قَوْلَ مَنْ يُفَسِّرُ الْإِتْيَانَ بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ وَقَوْلَ مَنْ يَتَأَوَّلُ الِاسْتِوَاءَ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كُتُبٍ أُخْرَى وَوَافَقَ بَعْضَ أَقْوَالِ ابْنِ عَقِيلٍ . قَالَ : ابْنُ عَقِيلٍ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ وَتَصَانِيفُ يَخْتَلِفُ فِيهَا رَأْيُهُ وَاجْتِهَادُهُ . وَقَالَ البغوي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } : قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ : اسْتَقَرَّ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : صَعِدَ . وَأَوَّلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ . وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ : الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ صِفَةٌ لِلَّهِ بِلَا كَيْفٍ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الْإِيمَانُ بِهِ وَيَكِلُ الْعِلْمَ فِيهِ إلَى اللَّهِ . وَسَأَلَ رَجُلٌ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ قَوْلِهِ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كَيْفَ اسْتَوَى ؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ رَأْسَهُ مَلِيًّا وَعَلَاهُ الرُّحَضَاءُ ثُمَّ قَالَ . الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَمَا أُرَاك إلَّا ضَالًّا . ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ .

قَالَ : رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَسُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَة وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الصِّفَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ : أَمَرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ . وَقَالَ فِي قَوْلِهِ { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } الْأَوْلَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِيمَا شَاكَلَهَا أَنْ يُؤْمِنَ الْإِنْسَانُ بِظَاهِرِهَا وَيَكِلَ عِلْمَهَا إلَى اللَّهِ وَيَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ . عَلَى ذَلِكَ مَضَتْ أَئِمَّةُ السَّلَفِ وَعُلَمَاءُ السُّنَّةِ . قَالَ الْكَلْبِيُّ : هَذَا مِنْ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ . ( قُلْت : وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى } اسْتَقَرَّ . فَفَسَّرَ ذَاكَ وَجَعَلَ هَذَا مِنْ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ . لِأَنَّ ذَاكَ فِيهِ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهَذَا فِيهِ إتْيَانُهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ . قَالَ البغوي : وَكَانَ مَكْحُولٌ وَالزَّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِي وَمَالِكٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقُ يَقُولُونَ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ : أَمَرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ . قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة : كُلُّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ فَتَفْسِيرُهُ قِرَاءَتُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ ؛ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُفَسِّرَهُ إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ .

وَهَذِهِ الْآيَةُ أغمض مِنْ آيَةِ الِاسْتِوَاءِ . وَلِهَذَا كَانَ أَبُو الْفَرَجِ يَمِيلُ إلَى تَأْوِيلِ هَذَا وَيُنْكِرُ قَوْلَ مَنْ تَأَوَّلَ الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ . قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَد : " الْعَرْشُ " السَّرِيرُ وَكُلُّ سَرِيرٍ لِلْمُلْكِ يُسَمَّى " عَرْشًا " وَقَلَّمَا يُجْمَعُ الْعَرْشُ إلَّا فِي الِاضْطِرَارِ . قُلْت : وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : يُسَمَّى " عَرْشًا " لِارْتِفَاعِهِ . قُلْت : وَالِاشْتِقَاقُ يَشْهَدُ لِهَذَا كَقَوْلِهِ { وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } وَقَوْلِهِ { مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } . وَقَوْلُ سَعْدٍ : وَهَذَا كَافِرٌ بِالْعَرْشِ . وَمَقْعَدُ الْمَلِكِ يَكُونُ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ . فَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ عَالٍ عَلَيْهِ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فَوْقَهُ هُوَ دُونَهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرٍ . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ الْعَرْشِ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ . قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ :
مَجِّدُوا اللَّهَ فَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ * * * رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرًا

بِالْبِنَاءِ الْأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّا * * * س وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرًا
شَرْجَعًا لَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْـ * * * نِ تَرَى دُونَهُ الْمَلَائِكُ صُوَرًا
قُلْت : يُرِيدُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . فَإِنَّ أُمِّيَّةَ وَنَحْوَهُ إنَّمَا أَخَذَ هَذَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِلَّا فَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ هَذَا . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَالَ كَعْبٌ : إنَّ السَّمَوَاتِ فِي الْعَرْشِ كَقِنْدِيلِ مُعَلَّقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ . قَالَ : وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنْ لَا يَزِيدُوا عَلَى قِرَاءَةِ الْآيَةِ . وَقَدْ شَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا : الْعَرْشُ بِمَعْنَى الْمُلْكِ وَهُوَ عُدُولٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى التَّجَوُّزِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَثَرِ . أَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَهُ { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } أَفَتُرَاهُ كَانَ الْمُلْكُ عَلَى الْمَاءِ ؟ . قَالَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَيَسْتَدِلُّ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ :
حَتَّى اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ * * * مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ
وَقَالَ الشَّاعِرُ أَيْضًا :

قَدْ قَلَّمَا اسْتَوَيَا بِفَضْلِهِمَا جَمِيعًا * * * عَلَى عَرْشِ الْمُلُوكِ بِغَيْرِ زُورِ
قَالَ : وَهُوَ مُنْكَرٌ عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ . قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ : إنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْلَمُ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ أَعْظَمَ . قَالَ : وَإِنَّمَا يُقَالُ " اسْتَوْلَى فُلَانٌ عَلَى كَذَا " إذَا كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ ثُمَّ تَمَكَّنَ مِنْهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُسْتَوْلِيًا عَلَى الْأَشْيَاءِ . وَالْبَيْتَانِ لَا يُعْرَفُ قَائِلَهُمَا كَذَا قَالَ ابْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ . وَلَوْ صَحَّا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِيهِمَا لِمَا بَيَّنَّا مِنْ اسْتِيلَاءِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْلِيًا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ تَعْطِيلِ الْمُلْحِدَةِ وَتَشْبِيهِ الْمُجَسِّمَةِ . قُلْت : فَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } . وَأَنْكَرَ تَأْوِيلَ { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } . وَهُوَ فِي لَفْظِ " الْإِتْيَانِ " قَدْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ : قَوْلُهُ { أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ } كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ يُمْسِكُونَ عَنْ مِثْلِ هَذَا . وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ : الْمُرَادُ بِهِ قُدْرَتُهُ وَأَمْرُهُ . قَالَ : وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } . قُلْت : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَنَّ حَنْبَلًا نَقَلَهُ عَنْ

أَحْمَد فِي كِتَابِ " الْمِحْنَةِ " أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمُنَاظَرَةِ لَهُمْ يَوْمَ الْمِحْنَةِ لَمَّا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ " تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ " قَالُوا : وَالْمَجِيءُ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَخْلُوقِ . فَعَارَضَهُمْ أَحْمَد بِقَوْلِهِ { وَجَاءَ رَبُّكَ } { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } وَقَالَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ " : ثَوَابُهُمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ { وَجَاءَ رَبُّكَ } أَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَد فِيمَا نَقَلَهُ حَنْبَلٌ . فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ خِلَافُ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ أَحْمَد فِي مَنْعِهِ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا وَتَأْوِيلِ النُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ . وَلَهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . قِيلَ : إنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنْ حَنْبَلٍ انْفَرَدَ بِهِ دُونَ الَّذِينَ ذَكَرُوا عَنْهُ الْمُنَاظَرَةَ مِثْلَ صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ والمروذي وَغَيْرِهِمْ . فَإِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا هَذَا وَحَنْبَلٌ يَنْفَرِدُ بِرِوَايَاتِ يُغَلِّطُهُ فِيهَا طَائِفَةٌ كَالْخَلَّالِ وَصَاحِبِهِ . قَالَ أَبُو إسْحَاقَ ابْنُ شاقلا : هَذَا غَلَطٌ مِنْ حَنْبَلٍ لَا شَكَّ فِيهِ . وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ تَأَوَّلَ " يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا " أَنَّهُ يَنْزِلُ أَمْرُهُ . لَكِنَّ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ حَبِيبٍ كَاتِبِهِ وَهُوَ كَذَّابٌ بِاتِّفَاقِهِمْ . وَقَدْ رُوِيَتْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَكِنَّ الْإِسْنَادَ مَجْهُولٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : هَذَا قَالَهُ إلْزَامًا لِلْخَصْمِ

عَلَى مَذْهَبِهِ لِأَنَّهُمْ فِي يَوْمِ الْمِحْنَةِ لَمَّا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ " تَأْتِي الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ " أَجَابَهُمْ بِأَنَّ مَعْنَاهُ : يَأْتِي ثَوَابُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ كَقَوْلِهِ { أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ } أَيْ أَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ عَلَى تَأْوِيلِهِمْ لَا أَنَّهُ يَقُولُ بِذَلِكَ . فَإِنَّ مَذْهَبَهُ تَرْكُ التَّأْوِيلِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد وَقَدْ يَخْتَلِفُ كَلَامُ الْأَئِمَّةِ فِي مَسَائِلَ مِثْلِ هَذِهِ لَكِنَّ الصَّحِيحَ الْمَشْهُورَ عَنْهُ رِدُّ التَّأْوِيلِ . وَقَدْ ذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ ابْنُ الزَّاغُونِي وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ أَنَّ تَرْكَ التَّأْوِيلِ هِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَعْمُولُ عَلَيْهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ مِنْ أَصْحَابِنَا . وَرِوَايَةُ التَّأْوِيلِ فَسَّرَ ذَلِكَ بِالْعَمْدِ وَالْقَصْدِ لَمْ يُفَسِّرْهُ بِالْأَمْرِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا فَسَّرُوا { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } . فَعَلَى هَذَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ إذَا قِيلَ بِهِ وَجْهَانِ . وَابْنُ الزَّاغُونِي وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَنَحْوُهُمَا وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِإِمْرَارِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ ابْنِ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ . فَإِنَّهُ أَيْضًا يَمْنَعُ تَأْوِيلَ النُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَيَجْعَلُهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَيَقُولُ : إنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْأَجْسَامَ بَلْ يُوصَفُ بِهَا غَيْرُ الْأَجْسَامِ . وَكَلَامُ ابْنِ الزَّاغُونِي فِي هَذَا

النَّوْعِ وَفِي اسْتِوَاءِ الرَّبِّ عَلَى الْعَرْشِ هُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ نَفْسِهِ . هَذَا قَوْلُهُمْ فِي الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ .
وَأَمَّا عُلُوُّ الرَّبِّ نَفْسِهِ فَوْقَ الْعَالَمِ فَعِنْدَ ابْنِ كِلَابٍ أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ كَقَوْلِ أَكْثَرِ الْمُثْبِتَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الخطابي وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الزَّاغُونِي وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَكَانَ الْقَاضِي أَوَّلًا يَقُولُ بِقَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ : إنَّهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ . وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْبَيْهَقِي وَنَحْوِهِمَا .
وَأَمَّا أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَتْبَاعُهُ فَهَؤُلَاءِ خَالَفُوا الْأَشْعَرِيَّ وَقُدَمَاءَ أَصْحَابِهِ فِي الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ فَلَمْ يُثْبِتُوهَا . لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ نَفَاهَا فَتَأَوَّلَ الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ وَهَذَا أَوَّلُ قَوْلَيْ أَبِي الْمَعَالِي ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي إثْبَاتِهَا وَنَفْيِهَا كالرَّازِي والآمدي . وَآخِرُ قَوْلَيْ أَبِي الْمَعَالِي الْمَنْعُ مِنْ تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا إجْمَاعُ السَّلَفِ وَأَنَّ التَّأْوِيلَ لَوْ كَانَ مُسَوَّغًا أَوْ مَحْتُومًا لَكَانَ اهْتِمَامُهُمْ بِهِ أَعْظَمَ مِنْ اهْتِمَامِهِمْ بِغَيْرِهِ . فَاسْتَدَلَّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّأْوِيلُ وَجَعَلَ الْوَقْفَ التَّامَّ عَلَى

قَوْلِهِ { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } . ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " النِّظَامِيَّةِ فِي الْأَرْكَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ " . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ عَامَّةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ يَرَوْنَ التَّأْوِيلَ مُخَالِفًا لِطَرِيقَةِ السَّلَفِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرَ لَفْظَ " التَّأْوِيلِ " وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِجْمَالِ وَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } وَأَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ . فَمَنْ قَالَ : لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ فَأَرَادَ بِهِ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ فَالْمُرَادُ بِهِ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ الَّذِي بَيَّنَهُ الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ . وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي لَفْظِ " التَّأْوِيلِ " عَلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ وَأَنَّهُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ دُونَ الرَّاجِحِ دَلِيلٌ يَقْتَرِنُ بِهِ . فَهَذَا اصْطِلَاحُ مُتَأَخِّرٌ وَهُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ تَأْوِيلَاتُ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَحْمَد فِي " رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة " : الَّذِينَ تَأَوَّلُوا الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ . وَقَدْ تَكَلَّمَ أَحْمَد عَلَى مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَفَسَّرَهُ كُلَّهُ .

وَمِنْهُ تَفْسِيرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ السَّلَفِ وَمِنْهُ تَفْسِيرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . وَقَدْ ذَكَرَ الْجَدُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرَهُ البغوي لَا مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَقَالَ : أَمَّا الْإِتْيَانُ الْمَنْسُوبُ إلَى اللَّهِ فَلَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ كَمَكْحُولِ وَالزُّهْرِيِّ . وَالْأَوْزَاعِي وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَمَالِك بْنِ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَتْبَاعِهِمْ أَنَّهُ يَمُرُّ كَمَا جَاءَ . وَكَذَلِكَ مَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ كَأَحَادِيثِ النُّزُولِ وَنَحْوِهَا . وَهِيَ طَرِيقَةُ السَّلَامَةِ وَمَنْهَجُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِظَاهِرِهَا وَيَكِلُونَ عِلْمَهَا إلَى اللَّهِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ . عَلَى ذَلِكَ مَضَتْ الْأَئِمَّةُ خَلَفًا بَعْدَ سَلَفٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } . وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ فِي قَوْلِهِ { أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } : هَذَا مِنْ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ وَذَكَرَ مَا يُشْبِهُ كَلَامَ الخطابي فِي هَذَا . فَإِنْ قِيلَ " كَيْفَ يَقَعُ الْإِيمَانُ بِمَا لَا يُحِيطُ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِهِ عِلْمًا بِحَقِيقَتِهِ ؟ " فَالْجَوَابُ : كَمَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ

وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالنَّارِ وَالْجَنَّةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَا نُحِيطُ عِلْمًا بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّفْصِيلِ وَإِنَّمَا كُلِّفْنَا الْإِيمَانَ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّا لَا نَعْرِفُ عِدَّةً مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَكَثِيرًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا نُحِيطُ بِصِفَاتِهِمْ ثُمَّ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي إيمَانِنَا بِهِمْ ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَعْدَدْت لَعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } . ( قُلْت : لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ الشَّخْصُ لَمْ يَفْقَهْ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا قَالَ وَلَا فَهِمَ مِنْ الْكَلَامِ شَيْئًا فَضْلًا عَنْ الْعَرَبِ . فَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ الْعِلْمُ بِمَعْنَى كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ ؛ هَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ . فَكُلُّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهَا وَأَنْ يَكِلَ عِلْمَهَا إلَى اللَّهِ فَيَقُولُ " اللَّهُ أَعْلَمُ " . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . فَمَا زَالَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَمُرُّ بِآيَةِ وَلَفْظٍ لَا يَفْهَمُهُ فَيُؤْمِنُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ . لَكِنْ هَلْ يَكُونُ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ . بَلْ وَلَا الرَّسُولُ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ التَّأْوِيلَ هُوَ " مَعْنَى الْآيَةِ " وَيَقُولُ : إنَّهُ لَا

يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ ؟ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ كَلَامٌ لَا يَفْهَمُهُ لَا الرَّسُولُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ بَلْ وَلَا جِبْرِيلُ . هَذَا هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ . وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ . وَالْجَنَّةِ . فَإِنَّا قَدْ فَهِمْنَا الْكَلَامَ الَّذِي خُوطِبْنَا بِهِ وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ نَعِيمًا لَا نَعْلَمُهُ . وَهَذَا خِطَابٌ مَفْهُومٌ وَفِيهِ إخْبَارُنَا أَنَّ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَا لَا نَعْلَمُهُ . وَهَذَا حَقٌّ كَقَوْلِهِ { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ } وَقَوْلِهِ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا } . فَهَذَا فِيهِ إخْبَارُنَا بِأَنَّ لِلَّهِ مَخْلُوقَاتٍ لَا نَعْلَمُهَا أَوْ نَعْلَمُ جِنْسَهُمْ وَلَا نَعْلَمُ قَدْرَهُمْ أَوْ نَعْلَمُ بَعْضَ صِفَاتِهِمْ دُونَ بَعْضٍ . وَكُلُّ هَذَا حَقٌّ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْخِطَابَ الْمُنَزَّلَ الَّذِي أُمِرْنَا بِتَدَبُّرِهِ لَا يَفْقَهُ وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ لَا الرَّسُولُ وَلَا الْمُؤْمِنُونَ . فَهَذَا هُوَ الْمُنْكَرُ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْعُلَمَاءُ . فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وَقَالَ { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } وَقَالَ { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } وَقَالَ { حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } . وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ أَوْ أَخْبَرَنَا بِبَعْضِ صِفَاتِهِ دُونَ بَعْضٍ فَمَا

لَمْ يُخْبِرْ بِهِ لَا يَضُرُّنَا أَنْ لَا نَعْلَمَهُ وَبَيَّنَ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي جَعَلَ هُدًى وَشِفَاءً لِلنَّاسِ . وَقَالَ الْحَسَنُ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ فِيمَا أُنْزِلَتْ وَمَا عَنَى بِهَا . فَكَيْفَ يَكُونُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ مَا لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ قَطُّ ؟ . وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ " الرَّبُّ هُوَ الَّذِي يَأْتِي إتْيَانًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ " أَوْ يُقَالُ " مَا نَدْرِي هَلْ هُوَ الَّذِي يَأْتِي أَوْ أَمْرُهُ " . فَكَثِيرٌ مَنْ لَا يَجْزِمُ بِأَحَدِهِمَا بَلْ يَقُولُ : اُسْكُتْ فَالسُّكُوتُ أَسْلَمُ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَالسُّكُوتُ لَهُ أَسْلَمُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ } . لَكِنَّ هُوَ يَقُولُ : إنَّ الرَّسُولَ وَجَمِيعَ الْأُمَّةِ كَانُوا كَذَلِكَ لَا يَدْرُونَ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ هَذَا أَوْ هَذَا وَلَا الرَّسُولُ كَانَ يَعْرِفُ ذَلِكَ . فَقَائِلُ هَذَا مُبْطِلٌ مُتَكَلِّمٌ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ . وَكَانَ يَسَعُهُ أَنْ يَسْكُتَ عَنْ هَذَا لَا يَجْزِمُ بِأَنَّ الرَّسُولَ وَالْأَئِمَّةَ كُلَّهُمْ جُهَّالٌ يَجِبُ عَلَيْهِمْ السُّكُوتُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ . ثُمَّ إنَّ هَذَا خِلَافُ الْوَاقِعِ . فَأَحَادِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرُهَا كَثِيرٌ مَشْهُورٌ . لَكِنْ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ . أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؟ " . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : " مَا مِنْ

رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ " . وَإِذَا قَالَ : بَلْ كَانَ مِنْ السَّلَفِ مَنْ يَجْزِمُ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ إتْيَانُهُ نَفْسُهُ فَهَذَا جَزْمٌ بِأَنَّهُمْ عَرَفُوا مَعْنَاهَا وَبُطْلَانَ الْقَوْلِ الْآخَرِ لَمْ يَكُونُوا سَاكِتِينَ حَيَارَى . وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَقْدُورَهُ وَمَأْمُورَهُ مِمَّا يَأْتِي أَيْضًا وَلَكِنْ هُوَ يَأْتِي كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ إتْيَانًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ . فَإِذَا قِيلَ : لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ كَانَ هَذَا صَحِيحًا . وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ وَالْكَلَامُ مِمَّا لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ لَا الرَّسُولُ وَلَا جِبْرِيلُ وَلَا الْمُؤْمِنُونَ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُتَدَبَّرُ وَيُعْقَلُ . بَلْ مِثْلُ هَذَا عَبَثٌ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ الْعَبَثِ . ثُمَّ هَذَا يَلْزَمُهُمْ فِي الْأَحَادِيثِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ } . أَفَكَانَ الرَّسُولُ يَقُولُ هَذَا الْحَدِيثَ وَنَحْوَهُ وَهُوَ لَا يَفْقَهُ مَا يَقُولُ وَلَا يَفْهَمُ لَهُ مَعْنًى ؟ سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ وَقَدْحٌ فِي الرَّسُولِ وَتَسْلِيطٌ لِلْمُلْحِدِينَ . إذَا قِيلَ إنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ قَدْ كَانَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ قَالُوا : فَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَفْهَمَ مَعْنَاهُ . وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ فَإِذَا قِيلَ إنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ

صِفَاتِ الرَّبِّ لَمْ يَكُنْ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ يَفْهَمُهُ وَهُوَ كَلَامُ أُمِّيٍّ عَرَبِيٍّ يَنْزِلُ عَلَيْهِ قِيلَ : فَالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةُ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ يَفْهَمُهَا . وَحِينَئِذٍ فَهَذَا الْبَابُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي رِسَالَتِهِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ . قَالَتْ الْمَلَاحِدَةُ : فَيُؤْخَذُ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ . فَإِذَا قَالَ لَهُمْ هَؤُلَاءِ : هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَحَدِ مَنَعُوا ذَلِكَ وَقَالُوا : إنَّمَا فِي الْقُرْآنِ أَنَّ ذَلِكَ الْخِطَابَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ . لَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ الْأُمُورَ الْإِلَهِيَّةَ لَا تُعْلَمُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَقْصُرُ عَنْهَا الْبَيَانُ بِمُجَرَّدِ الْخِطَابِ وَالْخَبَرِ ؟ وَالْمَلَاحِدَةُ يَقُولُونَ : إنَّ الرُّسُلَ خَاطَبَتْ بِالتَّخْيِيلِ وَأَهْلُ الْكَلَامِ يَقُولُونَ : بِالتَّأْوِيلِ وَهَؤُلَاءِ الظَّاهِرِيَّةُ يَقُولُونَ : بِالتَّجْهِيلِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى خَطَأِ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ وَبُيِّنَ أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ أَتَى بِغَايَةِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَحَدًا مِنْ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتِيَ بِأَكْمَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . فَأَكْمَلُ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا . وَقَوْلُ ابْنِ السَّائِبِ : إنَّ هَذَا مِنْ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ تَفْسِيرًا يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَيَكْتُمُونَهُ .

وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ . إمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ يُكْتَمُ شَيْءٌ مِمَّا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ فَهَذَا مِنْ الْكِتْمَانِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَعَابَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ . وَقَالَ { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ } . وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كِتْمَانِ مَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ الْأَلْفَاظِ يَتَأَوَّلُهَا بَعْضُهُمْ وَيَجْعَلُهَا بَعْضُهُمْ مُتَشَابِهًا . وَهِيَ دَلَائِلُ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنَّ أَلْفَاظَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَهِيَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ كِتَابًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُمْكِنُهُمْ جَحْدُ أَلْفَاظِهَا لَكِنْ يُحَرِّفُونَهَا بِالتَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ وَيَكْتُمُونَ مَعَانِيَهَا الصَّحِيحَةَ عَنْ عَامَّتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ } . فمن جَعَلَ أَهْلَ الْقُرْآنِ كَذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا فِيهِ أُمِّيِّينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا تِلَاوَةً فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِنَظِيرِ مَا ذَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْكِتَابِ . وَصَبِيغُ بْنُ عسيل التَّمِيمِيُّ إنَّمَا ضَرَبَهُ عُمَرُ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَابَهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ لِأَنَّهُمْ

جَمَعُوا شَيْئَيْنِ سُوءَ الْقَصْدِ وَالْجَهْلِ . فَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ لِيُوقِعُوا بِذَلِكَ الشُّبْهَةَ وَالشَّكَّ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ } . فَهَذَا فِعْلُ مَنْ يُعَارِضُ النُّصُوصَ بَعْضَهَا بِبَعْضِ لِيُوقِعَ الْفِتْنَةَ وَهِيَ الشَّكُّ وَالرَّيْبُ فِي الْقُلُوبِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ { خَرَجَ عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ يَتَجَادَلُونَ فِي الْقَدَرِ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا ؟ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا ؟ فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ ثُمَّ قَالَ : أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ ؟ اُنْظُرُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَافْعَلُوهُ } . فَكُلُّ مَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ مَذْمُومٌ . وَهُوَ حَالُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُشَكِّكَ النَّاسَ فِيمَا عَلِمُوهُ لِكَوْنِهِ وَإِيَّاهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مَا تَوَهَّمُوا أَنَّهُ يُعَارِضُهُ . هَذَا أَصْلُ الْفِتْنَةِ أَنْ يُتْرَكَ الْمَعْلُومُ لِغَيْرِ مَعْلُومٍ كَالسَّفْسَطَةِ الَّتِي تُورِثُ شُبَهًا يَقْدَحُ بِهَا فِيمَا عُلِمَ وَتُيُقِّنَ . فَهَذِهِ حَالُ مَنْ يُفْسِدُ قُلُوبَ النَّاسِ وَعُقُولَهُمْ بِإِفْسَادِ مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ أَصْلَ الْهُدَى فَإِذَا شَكَّكَهُمْ فِيمَا عَلِمُوهُ بَقُوا حَيَارَى.
وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَتَى بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى

صِدْقِهِ وَالْقُرْآنُ فِيهِ الْآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ اللَّاتِي هِيَ أُمُّ الْكِتَابِ قَدْ عَلِمَ مَعْنَاهَا وَعَلِمَ أَنَّهَا حَقٌّ وَبِذَلِكَ يَهْتَدِي الْخَلْقُ وَيَنْتَفِعُونَ . فَمَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ ابْتَغَى الْفِتْنَةَ وَابْتَغَى تَأْوِيلَهُ وَالْأَوَّلُ قَصْدُهُمْ فِيهِ فَاسِدٌ وَالثَّانِي لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ بَلْ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَأْوِيلِهِ بِمَا يُفْسِدُ مَعْنَاهُ إذْ كَانُوا لَيْسُوا مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ . وَإِنَّمَا الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي رَسَخَ فِي الْعِلْمِ بِمَعْنَى الْمُحْكَمِ وَصَارَ ثَابِتًا فِيهِ لَا يَشُكُّ وَلَا يَرْتَابُ فِيهِ بِمَا يُعَارِضُهُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ بَلْ هُوَ مُؤْمِنٌ بِهِ قَدْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرْسَخْ فِي ذَلِكَ بَلْ إذَا عَارَضَهُ الْمُتَشَابِهُ شَكَّ فِيهِ فَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُتَشَابِهِ مَا يُنَاقِضُ الْمُحْكَمَ فَلَا يَعْلَمُ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ إذْ لَمْ يَرْسَخْ فِي الْعِلْمِ بِالْمُحْكَمِ . وَهُوَ يَبْتَغِي الْفِتْنَةَ فِي هَذَا وَهَذَا . فَهَذَا يُعَاقَبُ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِصَبِيغِ . وَأَمَّا مَنْ قَصْدُهُ الْهُدَى وَالْحَقُّ فَلَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ . وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَسْأَلُ وَيُسْأَلُ عَنْ مَعَانِي الْآيَاتِ الدَّقِيقَةِ وَقَدْ سَأَلَ أَصْحَابَهُ عَنْ قَوْلِهِ { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فَذَكَرُوا ظَاهِرَ لَفْظِهَا . وَلَمَّا فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهَا إعْلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْبِ وَفَاتِهِ قَالَ : مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا تَعْلَمُ .

وَهَذَا بَاطِنُ الْآيَةِ الْمُوَافِقُ لِظَاهِرِهَا . فَإِنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِالِاسْتِغْفَارِ عِنْدَ ظُهُورِ الدِّينِ وَالِاسْتِغْفَارُ يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ خِتَامِ الْأَعْمَالِ وَبِظُهُورِ الدِّينِ حَصَلَ مَقْصُودُ الرِّسَالَةِ عَلِمُوا أَنَّهُ إعْلَامٌ بِقُرْبِ الْأَجَلِ مَعَ أُمُورٍ أُخَرٍ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ . وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الشَّيْءِ بِمَلْزُومَاتِهِ . وَالشَّيْءُ قَدْ يَكُونُ لَهُ لَازِمٌ وَلِلَازِمِهِ لَازِمٌ وَهَلُمَّ جَرَّا . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ أَفْطَنَ بِمَعْرِفَةِ اللَّوَازِمِ مِنْ غَيْرِهِ يَسْتَدِلُّ بِالْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَتَصَوَّرُ اللَّازِمَ وَلَوْ تَصَوَّرَهُ لَمْ يَعْرِفْ الْمَلْزُومَ بَلْ يَقُولُ : يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ وَيَجُوزَ أَنْ لَا يَلْزَمَ ؛ وَيُحْتَمَلُ وَيُحْتَمَلُ . وَتَرَدُّدُ الِاحْتِمَالِ هُوَ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ وَإِلَّا فَالْوَاقِعُ هُوَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ . فَحَيْثُ كَانَ احْتِمَالٌ بِلَا تَرْجِيحٍ كَانَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْوَاقِعِ وَخَفَاءِ دَلِيلِهِ وَغَيْرِهِ قَدْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيَعْلَمُ دَلِيلَهُ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ هُوَ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ كَانَ مِنْ جَهْلِهِ . فَلَا يَنْفِي عَنْ النَّاسِ إلَّا مَا عَلِمَ انْتِفَاؤُهُ عَنْهُمْ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أَعْلَمُ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَهَذَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . ثُمَّ إنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ هُوَ السُّكُوتُ عَنْ الْخَوْضِ فِي

تَأْوِيلِ ذَلِكَ وَالْمَصِيرُ إلَى الْإِيمَانِ بِظَاهِرِهِ وَالْوُقُوفُ عَنْ تَفْسِيرِهِ لِأَنَّا قَدْ نُهِينَا أَنْ نَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِنَا وَلَمْ يُنَبِّهْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَى ذَلِكَ . فَيُقَالُ : أَمَّا كَوْنُ الرَّجُلِ يَسْكُتُ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَهَذَا مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ . لَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا مَعْنَى الْآيَةِ وَتَفْسِيرَهَا وَتَأْوِيلَهَا . وَإِذَا كَانَ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ فَمَضْمُونُهُ عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ وَهُوَ كَلَامُ شَاكٍّ لَا يَعْلَمُ مَا أُرِيدَ بِالْآيَةِ . ثُمَّ إذَا ذَكَرَ لَهُمْ بَعْضَ التَّأْوِيلَاتِ كَتَأْوِيلِ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ وَقُدْرَتِهِ أَبْطَلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا يُسْقِطُ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ . وَهَذَا نَفْيٌ لِلتَّأْوِيلِ وَإِبْطَالٌ لَهُ . فَإِذَا قَالُوا مَعَ ذَلِكَ : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } أَثْبَتُوا تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَهُمْ يَنْفُونَ جِنْسَ التَّأْوِيلِ . وَنَقُولُ مَا الْحَامِلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ ؟ وَقَدْ أَمْكَنَ بِدُونِهِ أَنْ نُثْبِتَ إتْيَانًا وَمَجِيئًا لَا يُعْقَلُ كَمَا يَلِيقُ بِهِ كَمَا أَثْبَتْنَا ذَاتًا لَهَا حَقِيقَةً لَا تُعْقَلُ وَصِفَاتٍ مِنْ سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تُعْقَلُ . وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ تَأْوِيلُ هَذَا وَأَنْ نُقَدِّرَ مُضْمَرًا مَحْذُوفًا مِنْ قُدْرَةٍ أَوْ عَذَابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمَا مَنَعَكُمْ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ " تَرَوْنَ رَبَّكُمْ " كَذَلِكَ ؟ .

وَهَذَا كَلَامٌ فِي إبْطَالِ التَّأْوِيلِ وَحَمْلٌ لِلَّفْظِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ . فَإِذَا قِيلَ مَعَ هَذَا : إنَّ لَهُ تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَأُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ هَذَا الْجِنْسُ كَانَ تَنَاقُضًا . كَيْفَ يَنْفِي جِنْسَ التَّأْوِيلِ وَيُثْبِتُ لَهُ تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . فَعُلِمَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ لَا يُنَاقِضُ حَمْلَهُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بَلْ هُوَ أَمْرٌ آخَرُ يُحَقِّقُ هَذَا وَيُوَافِقُهُ لَا يُنَاقِضُهُ وَيُخَالِفُهُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مَا يُوَافِقُ الْقُرْآنَ لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَفْسِيرِهَا . وَهُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ كَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَجِيءُ اللَّهِ قَطْعًا لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا دَلَّ عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ . وَيَعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى يَأْتِي إتْيَانًا تَكُونُ الْمَخْلُوقَاتُ مُحِيطَةً بِهِ وَهُوَ تَحْتُهَا . فَإِنَّ هَذَا مُنَاقِضٌ لِكَوْنِهِ الْعَلِيَّ الْأَعْلَى . وَالْجَدُّ الْأَعْلَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ جَرَى فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ الطَّرِيقَةِ . وَهَذِهِ عَادَتُهُ وَعَادَاتُ غَيْرِهِ .

وَذَكَرَ كَلَامَ ابْنِ الزَّاغُونِي فَقَالَ قَالَ الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الزَّاغُونِي : وَقَدْ اخْتَلَفَ كَلَامُ إمَامِنَا أَحْمَد فِي هَذَا الْمَجِيءِ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهَلْ يَدْخُلُ التَّأْوِيلُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ مَجِيءِ ذَاتِهِ . فَعَلَى هَذَا يَقُولُ : لَا يَدْخُلُ التَّأْوِيلُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَجِيئُهُ بِذَاتِهِ إلَّا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ إثْبَاتُ مَجِيءٍ هُوَ زَوَالٌ وَانْتِقَالٌ يُوجِبُ فَرَاغَ مَكَانٍ وَشَغْلَ آخَرَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا يُعْرَفُ بِالْجِنْسِ فِي حَقِّ الْمُحْدِثِ الَّذِي يَقْصُرُ عَنْ اسْتِيعَابِ الْمَوَاضِعِ وَالْمَوَاطِنِ لِأَنَّهَا أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَعْظَمُ يَفْتَقِرُ مَجِيئُهُ إلَيْهَا إلَى الِانْتِقَالِ عَمَّا قَرُبَ إلَى مَا بَعُدَ . وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ الْبَارِي تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَعْظَمَ مِنْهُ وَلَا يَحْتَاجُ فِي مَجِيئِهِ إلَى انْتِقَالٍ وَزَوَالٍ لِأَنَّ دَاعِيَ ذَلِكَ وَمُوجِبَهُ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّهِ . فَأَثْبَتْنَا الْمَجِيءَ صِفَةً لَهُ وَمَنَعْنَا مَا يُتَوَهَّمُ فِي حَقِّهِ مَا يَلْزَمُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } . وَمِثْلُهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ الَّذِي رَوَاهُ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ

اللَّيْلِ الْآخِرِ فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ } . فَنَحْنُ نُثْبِتُ وَصْفَهُ بِالنُّزُولِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا بِالْحَدِيثِ وَلَا نَتَأَوَّلُ مَا ذَكَرُوهُ وَلَا نُلْحِقُهُ بِنُزُولِ الْآدَمِيِّينَ الَّذِي هُوَ زَوَالٌ وَانْتِقَالٌ مِنْ عُلُوٍّ إلَى أَسْفَلَ بَلْ نُسَلِّمُ لِلنَّقْلِ كَمَا وَرَدَ وَنَدْفَعُ التَّشْبِيهَ لِعَدَمِ مُوجِبِهِ . وَنَمْنَعُ مِنْ التَّأْوِيلِ لِارْتِفَاعِ نِسْبَتِهِ . قَالَ : وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَشْهُورَةُ وَالْمَعْمُولُ عَلَيْهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ مِنْ أَصْحَابِنَا . ( قُلْت : أَمَّا كَوْنُ إتْيَانِهِ وَمَجِيئِهِ وَنُزُولِهِ لَيْسَ مِثْلَ إتْيَانِ الْمَخْلُوقِ وَمَجِيئِهِ وَنُزُولِهِ فَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ . فَإِنَّ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالَ تَتْبَعُ الذَّاتَ الْمُتَّصِفَةَ الْفَاعِلَةَ . فَإِذَا كَانَتْ ذَاتُهُ مُبَايِنَةً لِسَائِرِ الذَّوَاتِ لَيْسَتْ مِثْلَهَا لَزِمَ ضَرُورَةُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ مُبَايِنَةً لِسَائِرِ الصِّفَاتِ لَيْسَتْ مِثْلَهَا . وَنِسْبَةُ صِفَاتِهِ إلَى ذَاتِهِ كَنِسْبَةِ صِفَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ إلَى ذَاتِهِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى الْعَظِيمُ فَهُوَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ . فَلَا يَكُونُ نُزُولُهُ وَإِتْيَانُهُ بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَخْلُوقَاتُ تُحِيطُ بِهِ أَوْ تَكُونُ أَعْظَمَ مِنْهُ وَأَكْبَرَ هَذَا مُمْتَنِعٌ . وَأَمَّا لَفْظُ " الزَّوَالِ " و " الِانْتِقَالِ " فَهَذَا اللَّفْظُ مُجْمَلٌ وَلِهَذَا كَانَ

أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ . فَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرُهُ أَنْكَرُوا عَلَى الْجَهْمِيَّة قَوْلَهُمْ : إنَّهُ لَا يَتَحَرَّكُ وَذَكَرُوا أَثَرًا أَنَّهُ لَا يَزُولُ وَفَسَّرُوا الزَّوَالَ بِالْحَرَكَةِ . فَبَيَّنَّ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ ذَلِكَ الْأَثَرَ إنْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَهُمْ لِأَنَّهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ { الْحَيُّ الْقَيُّومُ } ذَكَرُوا عَنْ ثَابِتٍ : دَائِمٌ بَاقٍ لَا يَزُولُ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ . لَا يَزُولُ عَنْ مَكَانَتِهِ . قُلْت : وَالْكَلْبِيُّ بِنَفَسِهِ الَّذِي رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ هُوَ يَقُولُ : { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } اسْتَقَرَّ وَيَقُولُ : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } صَعِدَ إلَى السَّمَاءِ . وَأَمَّا " الِانْتِقَالُ " فَابْنُ حَامِدٍ وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ : يَنْزِلُ بِحَرَكَةِ وَانْتِقَالٍ . وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالتَّمِيمِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد أَنْكَرُوا هَذَا وَقَالُوا : بَلْ يَنْزِلُ بِلَا حَرَكَةٍ وَانْتِقَالٍ . وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ كَابْنِ بَطَّةَ وَغَيْرِهِ يَقِفُونَ فِي هَذَا . وَقَدْ ذَكَرَ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ وَنَفْيِ اللَّفْظِ بِمُجْمَلِهِ " . وَالْأَحْسَنُ فِي هَذَا الْبَابِ مُرَاعَاةُ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ فَيُثْبِتُ مَا

أَثْبَتَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي أَثْبَتَهُ وَيَنْفِي مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا نَفَاهُ . وَهُوَ أَنْ يُثْبِتَ النُّزُولَ وَالْإِتْيَانَ وَالْمَجِيءَ ؛ وَيَنْفِيَ الْمِثْلَ وَالسَّمِيَّ وَالْكُفُؤَ وَالنِّدَّ . وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى نَفْيِ الْمِثْلِ . يُقَالُ : يَنْزِلُ نُزُولًا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ نَزَلَ نُزُولًا لَا يُمَاثِلُ نُزُولَ الْمَخْلُوقِينَ نُزُولًا يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا أَنَّهُ فِي ذَلِكَ وَفِي سَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ . وَهُوَ مُنَزَّهٌ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُ كَنُزُولِ الْمَخْلُوقِينَ وَحَرَكَتِهِمْ وَانْتِقَالِهِمْ وَزَوَالِهِمْ مُطْلَقًا لَا نُزُولَ الْآدَمِيِّينَ وَلَا غَيْرِهِمْ . فَالْمَخْلُوقُ إذَا نَزَلَ مِنْ عُلْوٍ إلَى سُفْلٍ زَالَ وَصْفُهُ بِالْعُلُوِّ وَتَبَدَّلَ إلَى وَصْفِهِ بِالسُّفُولِ وَصَارَ غَيْرُهُ أَعْلَى مِنْهُ . وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَكُونُ شَيْءٌ أَعْلَى مِنْهُ قَطُّ بَلْ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى وَلَا يَزَالُ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى مَعَ أَنَّهُ يَقْرُبُ إلَى عِبَادِهِ وَيَدْنُو مِنْهُمْ وَيَنْزِلُ إلَى حَيْثُ شَاءَ وَيَأْتِي كَمَا شَاءَ . وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي عَلِيٌّ فِي دُنُوِّهِ قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ . فَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ غَيْرُهُ فَلِعَجْزِ الْمَخْلُوقِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . كَمَا يَعْجِزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ .

وَلِهَذَا قِيلَ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ بِمَ عَرَفْت اللَّهَ ؟ قَالَ : " بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ " . وَأَرَادَ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ لَهُ مَا يَتَنَاقَضُ فِي حَقِّ الْخَلْقِ كَمَا اجْتَمَعَ لَهُ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْخُبْثِ وَأَنَّهُ عَدْلٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ . وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ مَنْ مَكَّنَهُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ الْمَعَاصِي مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَنْعِهِمْ وَهُوَ فِي ذَلِكَ حَكِيمٌ عَادِلٌ . فَإِنَّهُ أَعْلَمُ الْأَعْلَمِينَ وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَخَيْرُ الْفَاتِحِينَ ؛ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ . فَأَنْ لَا يُحِيطُوا عِلْمًا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَقَدْ سَأَلُوا عَنْ الرُّوحِ فَقِيلَ لَهُمْ { الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ الْخَضِرَ قَالَ لِمُوسَى لَمَّا نَقَرَ عُصْفُورٌ فِي الْبَحْرِ : مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمك مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ } . فَاَلَّذِي يُنْفَى عَنْهُ وَيُنَزَّهُ عَنْهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنَاقِضًا لَمَّا عُلِمَ مِنْ صِفَاتِهِ الْكَامِلَةِ فَهَذَا يُنْفَى عَنْهُ جِنْسُهُ كَمَا قَالَ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } وَقَالَ { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } . فَجِنْسُ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ وَالْمَوْتِ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا " إنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ كَمَا يَلِيقُ بِشَأْنِهِ " لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ يُوجِبُ نَقْصًا فِي كَمَالِهِ .

وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هُوَ يَكُونُ فِي السُّفْلِ لَا فِي الْعُلْوِ وَهُوَ سُفُولٌ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى لَا يَكُونُ قَطُّ إلَّا عَالِيًا وَالسُّفُولُ نَقْصٌ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ . وَقَوْلُهُ " وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ " لَا يَقْتَضِي السُّفُولَ إلَّا عِنْدَ جَاهِلٍ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْعُلُوِّ وَالسُّفُولِ فَيَظُنُّ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَمَا فِيهَا قَدْ تَكُونُ تَحْتَ الْأَرْضِ إمَّا بِاللَّيْلِ وَإِمَّا بِالنَّهَارِ . وَهَذَا غَلَطٌ كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَا فِي السَّمَاءِ مِنْ الْمَشْرِقِ يَكُونُ تَحْتَ مَا فِيهَا مِمَّا فِي الْمَغْرِبِ . فَهَذَا أَيْضًا غَلَطٌ . بَلْ السَّمَاءُ لَا تَكُونُ قَطُّ إلَّا عَالِيَةً عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ الْفُلْكُ مُسْتَدِيرًا مُحِيطًا بِالْأَرْضِ فَهُوَ الْعَالِي عَلَى الْأَرْضِ عُلُوًّا حَقِيقِيًّا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي الْإِثْبَاتِ تُثْبِتُ وَاَلَّتِي جَاءَتْ بِالنَّفْيِ تَنْفِي . وَالْأَلْفَاظُ الْمُجْمَلَةُ كَلَفْظِ " الْحَرَكَةِ " و " النُّزُولِ " و " الِانْتِقَالِ " يَجِبُ أَنْ يُقَالَ فِيهَا : إنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يُمَاثِلُ الْمَخْلُوقَ لَا فِي نُزُولٍ وَلَا فِي حَرَكَةٍ وَلَا انْتِقَالٍ وَلَا زَوَالٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَأَمَّا إثْبَاتُ هَذَا الْجِنْسِ كَلَفْظِ " النُّزُولِ " أَوْ نَفْيُهُ

مُطْلَقًا كَلَفْظِ " النَّوْمِ " و " الْمَوْتِ " فَقَدْ يَسْلُكُ كِلَاهُمَا طَائِفَةٌ تَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ . وَالْمُثْبِتَة يَقُولُونَ : نُثْبِتُ حَرَكَةً أَوْ حَرَكَةً وَانْتِقَالًا أَوْ حَرَكَةً وَزَوَالًا تَلِيقُ بِهِ كَالنُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ اللَّائِقِ بِهِ . والْنُّفَاةِ يَقُولُونَ : بَلْ هَذَا الْجِنْسُ يَجِبُ نَفْيُهُ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي جِنْسَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُتَجَدِّدَةِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْكُلَّابِيَة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَنْفِي فِي ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَلَا يَنْفِي هَذَا الْجِنْسَ مُطْلَقًا بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ لِمَا قَدْ عُلِمَ بِالْآيَاتِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَقْلِ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ يُحِبُّ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ إذَا اتَّبَعَ رَسُولَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . بَلْ يَنْفِي مَا نَاقَضَ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَيَنْفِي مُمَاثَلَةَ مَخْلُوقٍ لَهُ . فَهَذَانِ هُمَا اللَّذَانِ يَجِبُ نَفْيُهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْقَائِلُ : اللَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ أَوْ

عَلَامَاتِ الْحَدَثِ أَوْ كُلِّ مَا أَوْجَبَ نَقْصًا وَحُدُوثًا فَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فَهَذَا كَلَامٌ حَقٌّ مَعْلُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . لَكِنَّ الشَّأْنَ فِيمَا تَقُولُ النَّافِيَةُ . إنَّهُ مِنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ وَآخَرُونَ يُنَازِعُونَهُمْ . لَا سِيَّمَا وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ قَالَتْ الْجَهْمِيَّة : إنَّ قِيَامَ الصِّفَاتِ بِهِ . أَوْ قِيَامَ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ هُوَ مِنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ . وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ بَلْ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ بَلْ مَا ذَكَرُوهُ يَقْتَضِي حُدُوثَ كُلِّ شَيْءٍ . فَإِنَّهُ مَا مِنْ مَوْجُودٍ إلَّا وَلَهُ صِفَاتٌ تَقُومُ بِهِ وَتَقُومُ بِهِ أَحْوَالٌ تَحْصُلُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ . فَإِنْ كَانَ هَذَا مُسْتَلْزِمًا لِلْحُدُوثِ لَزِمَ حُدُوثُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنْ لَا يَكُونَ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ قَدِيمٌ . وَهَذَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ أَيْضًا . وَسِمَاتُ الْحَدَثِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ الْحُدُوثَ مِثْلُ افْتِقَارٍ إلَى الْغَيْرِ . فَكُلُّ مَا افْتَقَرَ إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ . وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْ الْحَاجَةِ إلَى مَا سِوَاهُ بِكُلِّ وَجْهٍ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الْعَرْشِ أَوْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ . بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَهُوَ الصَّمَدُ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ يَصْمُدُ إلَيْهِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }

وَمِنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ النَّقَائِصُ كَالْجَهْلِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْبَكَمِ فَإِنَّ كُلَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُحْدَثًا لِأَنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ مُتَّصِفٌ بِنَقِيضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَصِفَاتُ الْكَمَالِ لَازِمَةٌ لَهُ . وَاللَّازِمُ يَمْتَنِعُ زَوَالُهُ إلَّا بِزَوَالِ الْمَلْزُومِ . وَالذَّاتُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَاجِبَةٌ بِنَفْسِهَا غَنِيَّةٌ عَمَّا سِوَاهَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهَا الْعَدَمُ وَالْفَنَاءُ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ . فَيَسْتَحِيلُ عَدَمُ لَوَازِمِهَا فَيَسْتَحِيلُ اتِّصَافُهَا بِنَقِيضِ تِلْكَ اللَّوَازِمِ . فَلَا يُوصَفُ بِنَقِيضِهَا إلَّا الْمُحْدِثُ فَهِيَ مِنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِحُدُوثِ مَا اتَّصَفَ بِهَا . وَهَذَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ " كُلُّ مَا اسْتَلْزَمَ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا فَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْهُ " . وَالنَّقْصُ الْمُنَاقِضُ لِصِفَاتِ كَمَالِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُدُوثِ الْمُتَّصِفِ بِهِ وَالْحُدُوثُ مُسْتَلْزِمٌ لِلنَّقْصِ اللَّازِمِ لِلْمَخْلُوقِ . فَإِنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ يَفْتَقِرُ إلَى غَيْرِهِ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَعْلَمُ إلَّا مَا عَلِمَ وَلَا يَقْدِرُ إلَّا مَا أَقْدَرَ وَهُوَ مُحَاطٌ بِهِ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ . فَهَذِهِ النَّقَائِصُ اللَّازِمَةُ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ هِيَ مَلْزُومَةٌ لِلْحُدُوثِ حَيْثُ كَانَ حُدُوثٌ كَانَتْ . وَالْحُدُوثُ أَيْضًا مَلْزُومٌ لَهَا فَحَيْثُ كَانَ مُحْدِثٌ كَانَتْ هَذِهِ النَّقَائِصُ . فَقَوْلُنَا " مَا اسْتَلْزَمَ نَقْصًا أَوْ حُدُوثًا فَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْهُ " حَقٌّ .

وَالْحُدُوثُ وَالنَّقْصُ اللَّازِمُ لِلْمَخْلُوقِ مُتَلَازِمَانِ . وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ جِهَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ امْتِنَاعِهِ فِي نَفْسِهِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي نَفْسِهِ . فَكُلٌّ مِنْهُمَا دَلِيلٌ وَمَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارَيْنِ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ مُنَزَّهٌ عَنْهُ وَعَنْ مَدْلُولِهِ الَّذِي هُوَ لَازِمُهُ . وَالْحَاجَةُ إلَى الْغَيْرِ وَالْفَقْرُ إلَيْهِ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ الْحُدُوثَ وَالنَّقْصَ اللَّازِمَ لِلْمَخْلُوقِ . وَقَوْلِي " اللَّازِمَ " لِيَعُمَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ وَإِلَّا فَمِنْ النَّقَائِصِ مَا يَتَّصِفُ بِهَا بَعْضُ الْمَخْلُوقِينَ دُونَ بَعْضٍ . فَتِلْكَ لَيْسَتْ لَازِمَةً لِكُلِّ مَخْلُوقٍ . وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْهَا أَيْضًا لَكِنْ إذَا نُزِّهَ عَنْ النَّقْصِ اللَّازِمِ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ فَعَنْ مَا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ الْمَخْلُوقِينَ أَوْلَى وَأَحْرَى . فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مَخْلُوقٌ يُنَزَّهُ عَنْ نَقْصٍ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْهُ . وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ " الْأَوْلَى " كَمَا دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي جَوَابِ " الْمَسَائِلِ التدمرية " الْمُلَقَّبِ بـ " تَحْقِيقِ الْإِثْبَاتِ لِلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَبَيَانِ حَقِيقَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَدَرِ وَالشَّرْعِ " أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ فِيمَا يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْهُ عَلَى عَدَمِ وُرُودِ السَّمْعِ وَالْخَبَرِ بِهِ فَيُقَالُ : كُلُّ مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ أَثْبَتْنَاهُ وَمَا لَمْ يُرِدْ بِهِ لَمْ نُثْبِتْهُ بَلْ نَنْفِيهِ وَتَكُونُ عُمْدَتُنَا فِي النَّفْيِ عَلَى عَدَمِ الْخَبَرِ .

بَلْ هَذَا غَلَطٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَدَمَ الْخَبَرِ هُوَ عَدَمُ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ وَالدَّلِيلُ لَا يَنْعَكِسُ فَلَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ يُخْبِرْ هُوَ بِالشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَلِلَّهِ أَسْمَاءٌ سَمَّى بِهَا نَفْسَهُ وَاسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ . فَكَمَا لَا يَجُوزُ الْإِثْبَاتُ إلَّا بِدَلِيلِ لَا يَجُوزُ النَّفْيُ إلَّا بِدَلِيلِ . وَلَكِنْ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ وَلَمْ يَعْلَمْ ثُبُوتَهُ يَسْكُتُ عَنْهُ فَلَا يَتَكَلَّمُ فِي اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ . الثَّانِي : أَنَّ أَشْيَاءَ لَمْ يُرِدْ الْخَبَرَ بِتَنْزِيهِهِ عَنْهَا وَلَا بِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهَا لَكِنْ دَلَّ الْخَبَرُ عَلَى اتِّصَافِهِ بِنَقَائِضِهَا فَعُلِمَ انْتِفَاؤُهَا . فَالْأَصْلُ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ مَا يُنَاقِضُ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَهَذَا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ . وَمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ الْخَبَرُ إنْ عُلِمَ انْتِفَاؤُهُ نَفَيْنَاهُ وَإِلَّا سَكَتْنَا عَنْهُ . فَلَا نُثْبِتُ إلَّا بِعِلْمِ وَلَا نَنْفِي إلَّا بِعِلْمِ . وَنَفْيُ الشَّيْءِ مِنْ الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا كَنَفْيِ دَلِيلِهِ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْخَبَرِ . وَهِيَ غَلَطٌ إلَّا إذَا كَانَ الدَّلِيلُ لَازِمًا لَهُ . فَإِذَا عُدِمَ اللَّازِمُ عُدِمَ الْمَلْزُومُ . وَأَمَّا جِنْسُ الدَّلِيلِ فَيَجِبُ فِيهِ الطَّرْدُ لَا الْعَكْسُ . فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الدَّلِيلِ وُجُودُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَلَا يَنْعَكِسُ .

فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ . مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ أُثْبِتَ وَمَا عُلِمَ انْتِفَاؤُهُ نُفِيَ وَمَا لَمْ يُعْلَمْ نَفْيُهُ وَلَا إثْبَاتُهُ سَكَتَ عَنْهُ . هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ . وَالسُّكُوتُ عَنْ الشَّيْءِ غَيْرِ الْجَزْمِ بِنَفْيِهِ أَوْ ثُبُوتِهِ . وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ مَا أَثْبَتَهُ إلَّا بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا وَإِذَا تَكَلَّمَ بِغَيْرِهَا اسْتَفْسَرَ وَاسْتَفْصَلَ فَإِنْ وَافَقَ الْمَعْنَى الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ أَثْبَتَهُ بِاللَّفْظِ الشَّرْعِيِّ فَقَدْ اعْتَصَمَ بِالشَّرْعِ لَفْظًا وَمَعْنًى . وَهَذِهِ سَبِيلُ مَنْ اعْتَصَمَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى .
لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تُعْرَفَ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ إسْنَادًا وَمَتْنًا . فَالْقُرْآنُ مَعْلُومٌ ثُبُوتَ أَلْفَاظِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ وُجُوهُ دَلَالَتِهِ . وَالسُّنَّةُ يَنْبَغِي مَعْرِفَةُ مَا ثَبَتَ مِنْهَا وَمَا عُلِمَ أَنَّهُ كَذِبٌ . فَإِنَّ طَائِفَةً مِمَّنْ انْتَسَبَ إلَى السُّنَّةِ وَعَظَّمَ السُّنَّةَ وَالشَّرْعَ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ اعْتَصَمُوا فِي هَذَا الْبَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَمَعُوا أَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِي الصِّفَاتِ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ مَعْلُومٌ أَنَّهُ كَذِبٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ إلَى الْكَذِبِ أَقْرَبُ وَمِنْهَا مَا هُوَ إلَى الصِّحَّةِ أَقْرَبُ وَمِنْهَا مُتَرَدَّدٌ . وَجَعَلُوا تِلْكَ الْأَحَادِيثَ عَقَائِدَ وَصَنَّفُوا مُصَنَّفَاتٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ يُخَالِفُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَحَادِيثُ . وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِجِنْسِ الْحَدِيثِ وَمَنْ يَقُولُ عَنْ أَخْبَارِ

الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهَا : هَذِهِ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ . وَأَبْلَغُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : دَلَالَةُ الْقُرْآنِ لَفْظِيَّةٌ سَمْعِيَّةٌ وَالدَّلَالَةُ السَّمْعِيَّةُ اللَّفْظِيَّةُ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ . وَيَجْعَلُونَ الْعُمْدَةَ عَلَى مَا يَدْعُونَهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ وَهِيَ بَاطِلَةٌ فَاسِدَةٌ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ وَكَذِبُهُ . وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا قَدْ يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ أُولَئِكَ . وَكِلَا الطَّرِيقَيْنِ بَاطِلٌ وَلَوْ لَمْ يُكَفِّرْ مُخَالِفَهُ . فَإِذَا كَفَّرَ مُخَالِفَهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا كَمَا فَعَلَتْ الْخَوَارِجُ وَغَيْرُهُمْ . وَقَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الَّتِي تُوجِبُ الْعِلْمَ لَا تُنَاقَضُ قَطُّ . وَلَا يُنَاقِضُ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ لِلدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ قَطُّ كَمَا قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " دَرْءِ تَعَارُضِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ " . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَدْ ذَكَرَ بَعْضَهَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ " إبْطَالِ التَّأْوِيلِ " مِثْلُ مَا ذَكَرَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ حَدِيثًا طَوِيلًا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ { أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ } . وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ لِمَا

ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ كَمَا فَعَلَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ شُكْرٍ فَإِنَّهُ سَرِيعٌ إلَى تَكْفِيرِ مَنْ يُخَالِفُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ السُّنَّةِ وَقَدْ يَكُونُ مُخْطِئًا فِيهِ . إمَّا لِاحْتِجَاجِهِ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ أَوْ بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ لَكِنْ لَا تَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِهِ . وَمَا أَصَابَ فِيهِ مِنْ السُّنَّةِ لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ كُلِّ مَنْ خَالَفَ فِيهِ . فَلَيْسَ كُلُّ مُخْطِئٍ كَافِرًا لَا سِيَّمَا فِي الْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي كَثُرَ فِيهَا نِزَاعُ الْأَمَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ . وَكَذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ لَهُ مُصَنَّفٌ فِي الصِّفَاتِ قَدْ جَمَعَ فِيهِ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ . وَكَذَلِكَ مَا يَجْمَعُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ منده مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ حَدِيثًا لَكِنْ يَرْوِي شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ . وَرُبَّمَا جَمَعَ بَابًا وَكُلُّ أَحَادِيثِهِ ضَعِيفَةٌ كَأَحَادِيثِ أَكْلِ الطِّينِ وَغَيْرِهَا . وَهُوَ يَرْوِي عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ . وَقَدْ وَقَعَ مَا رَوَاهُ مِنْ الْغَرَائِبِ الْمَوْضُوعَةِ إلَى حَسَنِ بْنِ عَدِيٍّ فَبَنَى عَلَى ذَلِكَ عَقَائِدَ بَاطِلَةً وَادَّعَى أَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الدُّنْيَا عِيَانًا . ثُمَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِهَذَا مِنْ أَتْبَاعِهِ يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ . وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا فَعَلَتْ الْخَوَارِجُ . وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ الْمَشْهُورُ الَّذِي يَرْوِي عَنْ

عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ المقدسي فِي " مُخْتَارِهِ " . وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَرُدُّهُ لِاضْطِرَابِهِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ . لَكِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَبِلُوهُ . وَفِيهِ قَالَ : { إنَّ عَرْشَهُ أَوْ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّهُ يَجْلِسُ عَلَيْهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ أَوْ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ إلَّا قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ } . وَلَفْظُ " الْأَطِيطِ " قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ . وَابْنُ عَسَاكِر عَمِلَ فِيهِ جُزْءًا وَجَعَلَ عُمْدَةَ الطَّعْنِ فِي ابْنِ إسْحَاقَ . وَالْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ كَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمَا وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا مَا لَهُ شَاهِدٌ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى . وَلَفْظُ " الْأَطِيطِ " قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِهِ . وَحَدِيثُ ابْنِ خَلِيفَةَ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مُخْتَصَرًا وَذَكَرَ أَنَّهُ حَدَّثَ بِهِ وَكِيعٌ . لَكِنْ كَثِيرٌ مِمَّنْ رَوَاهُ رَوَوْهُ بِقَوْلِهِ { إنَّهُ مَا يَفْضُلُ مِنْهُ إلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ } فَجَعَلَ الْعَرْشَ يَفْضُلُ مِنْهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ . وَاعْتَقَدَ الْقَاضِي وَابْنُ

الزَّاغُونِي وَنَحْوُهُمَا صِحَّةَ هَذَا اللَّفْظَ فَأَمَرُّوهُ وَتَكَلَّمُوا عَلَى مَعْنَاهُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يَحْصُلُ عَلَيْهِ الِاسْتِوَاءُ . وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ العايذ أَنَّهُ قَالَ : هُوَ مَوْضِعُ جُلُوسِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطبري فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُ وَلَفْظُهُ : { وَإِنَّهُ لَيَجْلِسُ عَلَيْهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ قَدْرُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ } بِالنَّفْيِ . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَدِيثِ إلَّا اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ هَذِهِ تَنْفِي مَا أَثْبَتَتْ هَذِهِ . وَلَا يُمْكِنُ مَعَ ذَلِكَ الْجَزْمِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الْإِثْبَاتَ وَأَنَّهُ يَفْضُلُ مِنْ الْعَرْشِ أَرْبَعُ أَصَابِعَ لَا يَسْتَوِي عَلَيْهَا الرَّبُّ . وَهَذَا مَعْنًى غَرِيبٌ لَيْسَ لَهُ قَطُّ شَاهِدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ . بَلْ هُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ أَعْظَمَ مِنْ الرَّبِّ وَأَكْبَرَ . وَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِلْعَقْلِ . وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّهُ إنَّمَا عَرَفَ عَظَمَةَ الرَّبِّ بِتَعْظِيمِ الْعَرْشِ الْمَخْلُوقِ وَقَدْ جَعَلَ الْعَرْشَ أَعْظَمَ مِنْهُ . فَمَا عَظُمَ الرَّبُّ إلَّا بِالْمُقَايَسَةِ بِمَخْلُوقِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ الرَّبِّ . وَهَذَا مَعْنًى فَاسِدٌ مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَقْلِ . فَإِنَّ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ عَظَمَةَ الرَّبِّ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا يَعْلَمُ عَظَمَتَهُ . فَيَذْكُرُ عَظَمَةَ الْمَخْلُوقَاتِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الرَّبَّ أَعْظَمُ مِنْهَا .

كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا حَدِيثِ الْأَطِيطِ لَمَّا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : { إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَنَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ : وَيْحَك أَتَدْرِي مَا تَقُولُ ؟ أَتَدْرِي مَا اللَّهُ ؟ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ . إنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ هَكَذَا وَقَالَ بِيَدِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ } . فَبَيَّنَ عَظَمَةَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ مِثْلَ الْقُبَّةِ . ثُمَّ بَيَّنَ تَصَاغُرَهُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ وَأَنَّهُ يَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ . فَهَذَا فِيهِ تَعْظِيمُ الْعَرْشِ وَفِيهِ أَنَّ الرَّبَّ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَغَيْرُ مِنِّي } . وَقَالَ : { لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ . مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَهَذَا وَغَيْرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِي رِوَايَتِهِ النَّفْيُ وَأَنَّهُ ذَكَرَ عَظَمَةَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَ هَذِهِ الْعَظَمَةِ فَالرَّبُّ مُسْتَوٍ عَلَيْهِ كُلِّهِ لَا يَفْضُلُ مِنْهُ قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ . وَهَذِهِ غَايَةُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ فِي الْمِسَاحَةِ مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ كَمَا يُقَدَّرُ فِي الْمِيزَانِ قَدْرُهُ فَيُقَالُ : مَا فِي السَّمَاءِ قَدْرُ كَفٍّ سَحَابًا . فَإِنَّ النَّاسَ يُقَدِّرُونَ الْمَمْسُوحَ بِالْبَاعِ وَالذِّرَاعِ وَأَصْغَرُ مَا عِنْدَهُمْ

الْكَفُّ . فَإِذَا أَرَادُوا نَفْيَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ قَدَّرُوا بِهِ فَقَالُوا : مَا فِي السَّمَاءِ قَدْرُ كَفٍّ سَحَابًا كَمَا يَقُولُونَ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ { إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } وَ { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَبَيَّنَ الرَّسُولُ أَنَّهُ لَا يَفْضُلُ مِنْ الْعَرْشِ شَيْءٌ وَلَا هَذَا الْقَدْرُ الْيَسِيرُ الَّذِي هُوَ أَيْسَرُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ وَهُوَ أَرْبَعُ أَصَابِعَ . وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِلُغَةِ الْعَرَبِ وَمُوَافِقٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مُوَافِقٌ لِطَرِيقَةِ بَيَانِ الرَّسُولِ لَهُ شَوَاهِدُ . فَهُوَ الَّذِي يُجْزَمُ بِأَنَّهُ فِي الْحَدِيثِ . وَمَنْ قَالَ " مَا يَفْضُلُ إلَّا مِقْدَارَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ " فَمَا فَهِمُوا هَذَا الْمَعْنَى فَظَنُّوا أَنَّهُ اسْتَثْنَى فَاسْتَثْنَوْا فَغَلِطُوا . وَإِنَّمَا هُوَ تَوْكِيدٌ لِلنَّفْيِ وَتَحْقِيقٌ لِلنَّفْيِ الْعَامِّ . وَإِلَّا فَأَيُّ حِكْمَةٍ فِي كَوْنِ الْعَرْشِ يَبْقَى مِنْهُ قَدْرُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ خَالِيَةٍ وَتِلْكَ الْأَصَابِعُ أَصَابِعُ مِنْ النَّاسِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا أَصَابِعُ الْإِنْسَانِ . فَمَا بَالُ هَذَا الْقَدْرُ الْيَسِيرُ لَمْ يَسْتَوِ الرَّبُّ عَلَيْهِ ؟ وَالْعَرْشُ صَغِيرٌ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَدْ جَاءَ حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } لِمَعْنَاهُ شَوَاهِدُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا . فَيَنْبَغِي أَنْ نَعْتَبِرَ الْحَدِيثَ فَنُطَابِقَ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ أَنْبَأَ بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنْ عَطِيَّةَ العوفي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } قَالَ : { لَوْ أَنَّ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ وَالْمَلَائِكَةَ مُنْذُ خُلِقُوا إلَى أَنْ فَنُوا صُفُّوا صَفًّا وَاحِدًا مَا أَحَاطُوا بِاَللَّهِ أَبَدًا } . وَهَذَا لَهُ شَوَاهِدُ مِثْلُ مَا فِي الصِّحَاحِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إلَّا كَخَرْدَلَةِ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَرْشَ لَا يَبْلُغُ هَذَا فَإِنَّ لَهُ حَمَلَةً وَلَهُ حَوْلٌ . قَالَ تَعَالَى { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } . وَهَذَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِحَاطَةِ " وَغَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الْأُصُولَ الْمُوَصِّلَةَ إلَى الْحَقِّ

أَحْسَنَ بَيَانٍ وَبَيَّنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَوَحْدَانِيِّتِهِ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَنَحْوِهِمْ فَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا الْحَقَّ بَلْ أَصَّلُوا أُصُولًا تُنَاقِضُ الْحَقَّ . فَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا وَلَمْ يَدُلُّوا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى أَصَّلُوا أُصُولًا تُنَاقِضُ الْحَقَّ وَرَأَوْا أَنَّهَا تُنَاقِضُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدَّمُوهَا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . ثُمَّ تَارَةً يَقُولُونَ : الرَّسُولُ جَاءَ بِالتَّخْيِيلِ وَتَارَةً يَقُولُونَ : جَاءَ بِالتَّأْوِيلِ وَتَارَةً يَقُولُونَ : جَاءَ بِالتَّجْهِيلِ . فَالْفَلَاسِفَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَحْيَانًا يَقُولُونَ : خَاطَبَ الْجُمْهُورَ بِالتَّخْيِيلِ لَمْ يَقْصِدْ إخْبَارَهُمْ بِالْأَمْرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ بَلْ أَخْبَرَهُمْ بِخِلَافِ مَا الْأَمْرُ عَلَيْهِ لِيَتَخَيَّلُوا مَا يَنْفَعُهُمْ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَعْرِفُ بِأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْحَقَّ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ وَيَقُولُونَ : الَّذِي فَعَلَهُ مِنْ التَّخْيِيلِ غَايَةُ مَا يُمْكِنُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَمْ يَعْرِفْ الْحَقَّ بَلْ تَخَيَّلَ وَخَيَّلَ كَمَا يَقُولُهُ الْفَارَابِيُّ وَأَمْثَالُهُ . وَيَجْعَلُونَ الْفَيْلَسُوفَ أَفْضَلَ مِنْ النَّبِيِّ وَيَجْعَلُونَ النُّبُوَّةَ مِنْ جِنْسِ الْمَنَامَاتِ .

وَأَمَّا أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيَقُولُونَ : بَلْ لَمْ يَقْصِدْ أَنْ يُخْبِرَ إلَّا بِالْحَقِّ لَكِنْ بِعِبَارَاتِ لَا تَدُلُّ وَحْدَهَا عَلَيْهِ بَلْ تَحْتَاجُ إلَى التَّأْوِيلِ لِيَبْعَثَ الْهِمَمَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِالنَّظَرِ وَالْعَقْلِ وَيَبْعَثَهَا عَلَى تَأْوِيلِ كَلَامِهِ لِيُعَظِّمَ أَجْرَهَا . وَالْمَلَاحِدَةُ يَسْلُكُونَ مَسْلَكَ التَّأْوِيلِ وَيَفْتَحُونَ بَابَ الْقَرْمَطَةِ . وَهَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ التَّأْوِيلَ مَعَ الْخَاصَّةِ . وَأَمَّا أَهْلُ التَّخْيِيلِ فَيَقُولُونَ : الْخَاصَّةُ قَدْ عَرَفُوا أَنَّ مُرَادَهُ التَّخْيِيلُ لِلْعَامَّةِ فَالتَّأْوِيلُ مُمْتَنِعٌ . وَالْفَرِيقَانِ يَسْلُكُونَ مَسْلَكَ إلْجَامِ الْعَوَامِّ عَنْ التَّأْوِيلِ لَكِنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ : لَهَا تَأْوِيلٌ يَفْهَمُهُ الْخَاصَّةُ . وَهِيَ طَرِيقَةُ الْغَزَالِيِّ فِي " الْإِلْجَامِ " . اسْتَقْبَحَ أَنْ يُقَالَ : كَذَّبُوا لِلْمَصْلَحَةِ . وَهُوَ أَيْضًا لَا يَرَى تَأْوِيلَ الْأَعْمَالِ كَالْقَرَامِطَةِ بَلْ تَأْوِيلَ الْخَبَرِ عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ . وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ تَرَى التَّأْوِيلَ فِي ذَلِكَ . وَهَذَا مُخَالِفٌ لِطَرِيقَةِ أَهْلِ التَّخْيِيلِ . وَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ هَذَا عَنْهُمْ فِي " الْإِحْيَاءِ " لَمَّا ذَكَرَ إسْرَافَهُمْ فِي التَّأْوِيلِ وَذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ كَمَا حَكَى كَلَامَهُ فِي " السَّبْعِينِيَّةِ " وَغَيْرِهَا .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : هَذَا لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ أَوْ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . فَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الرَّسُولَ وَغَيْرَهُ غَيْرَ عَالِمِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ . فَلَا يُسَوِّغُونَ التَّأْوِيلَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُرَادِ عِنْدَهُمْ مُمْتَنِعٌ . وَلَا يستجيزون الْقَوْلَ بِطَرِيقَةِ التَّخْيِيلِ لِمَا فِيهَا مِنْ التَّصْرِيحِ بِكَذِبِ الرَّسُولِ . بَلْ يَقُولُونَ : خُوطِبُوا بِمَا لَا يَفْهَمُونَهُ لِيُثَابُوا عَلَى تِلَاوَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِأَلْفَاظِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمُوا مَعْنَاهُ . يَجْعَلُونَ ذَلِكَ تَعَبُّدًا مَحْضًا عَلَى رَأْيِ الْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ التَّعَبُّدَ بِمَا لَا نَفْعَ فِيهِ لِلْعَامِلِ بَلْ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ . وَالْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَفَسَادِ قَوْلِهِمْ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الَّذِي دَعَاهُمْ إلَى ذَلِكَ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْمَعْقُولَ يُنَاقِضُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ ظَاهِرُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى رَدِّ هَذَا فِي مَوَاضِعَ وَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُنَاقِضُ السَّمْعَ وَأَنَّ مَا نَاقَضَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ . وَبَيَّنَ بَعْدِ هَذَا أَنَّ الْعَقْلَ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ شَاهِدٌ لَهُ وَمُصَدِّقٌ لَهُ . لَا يُقَالُ : إنَّهُ غَيْرُ مُعَارِضٍ فَقَطْ بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ مُصَدِّقٌ فَأُولَئِكَ كَانُوا يَقُولُونَ : هُوَ مُكَذِّبٌ مُنَاقِضٌ . بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا يُكَذِّبُ وَلَا يُنَاقِضُ ثُمَّ بَيَّنَ ثَانِيًا أَنَّهُ مُصَدِّقٌ مُوَافِقٌ .

وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَيُبَيَّنُ أَنَّ كَلَامَهُمْ الَّذِي يُعَارِضُونَ بِهِ الرَّسُولَ بَاطِلٌ لَا تَعَارُضَ فِيهِ . وَلَا يَكْفِي كَوْنُهُ بَاطِلًا لَا يُعَارَضُ بَلْ هُوَ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ . فَهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّ الْعَقْلَ يُنَاقِضُ النَّقْلَ . فَيُبَيِّنُ أَرْبَعَ مَقَامَاتٍ : أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُنَاقِضُهُ . ثُمَّ يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَقْلَ يُوَافِقُهُ . وَيُبَيِّنُ أَنَّ عَقْلِيَّاتِهِمْ الَّتِي عَارَضُوا بِهَا النَّقْلَ بَاطِلَةٌ . وَيُبَيِّنُ أَيْضًا أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ يُخَالِفُهُمْ . ثُمَّ لَا يَكْفِي أَنَّ الْعَقْلَ يُبْطِلُ مَا عَارَضُوا بِهِ الرَّسُولَ بَلْ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا جَعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ . فَهُمْ أَقَامُوا حُجَّةً تَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الصَّانِعِ وَإِنْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ بِهَا الصَّانِعَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا بِهِ الصَّانِعَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الصَّانِعِ وَتَعْطِيلِهِ . فَلَا يَكْفِي فِيهِ أَنَّهُ بَاطِلٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْحَقِّ ؛ بَلْ دَلَّ عَلَى الْبَاطِلِ الَّذِي يَعْلَمُونَ هُمْ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ أَنَّهُ بَاطِلٌ . وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ فِي أُصُولِهِمْ " تَرْتِيبُ الْأُصُولِ فِي تَكْذِيبِ الرَّسُولِ " وَيُقَالُ أَيْضًا هِيَ " تَرْتِيبُ الْأُصُولِ فِي مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ وَالْمَعْقُولِ " . جَعَلُوهَا أُصُولًا لِلْعِلْمِ بِالْخَالِقِ وَهِيَ أُصُولٌ تُنَاقِضُ الْعِلْمَ بِهِ . فَلَا يَتِمُّ الْعِلْمُ بِالْخَالِقِ إلَّا مَعَ اعْتِقَادِ نَقِيضهَا . وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالدَّلِيلِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْعِلْمِ بِالرَّبِّ وَبَيْنَ الْمُنَاقِضِ الْمُعَارِضِ لِلْعِلْمِ بِالرَّبِّ .

فالمتفلسفة يَقُولُونَ إنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَاجِبَ الْوُجُودِ . وَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهُ بَلْ كَلَامُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ . وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْقَدِيمَ الْمُحْدِثَ لِلْحَوَادِثِ وَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهُ بَلْ كَلَامُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا ثَمَّ قَدِيمٌ أَصْلًا . وَكَذَلِكَ الْأَشْعَرِيَّةُ والكَرَّامِيَة وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّهُ أَثْبَتَ الْعِلْمَ بِالْخَالِقِ فَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهُ لَكِنَّ كَلَامَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا ثَمَّ خَالِقٌ . وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي يُظْهِرُهَا هَؤُلَاءِ وَاجِبُ الْوُجُودِ وَالْقَدِيمُ وَالصَّانِعُ أَوْ الْخَالِقُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . ثُمَّ إنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْوُجُودِ مِنْ مَوْجُودٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ مُحْدِثٍ لِلْحَوَادِثِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا بِالْفِطْرَةِ وَالضَّرُورَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ وَكَانَتْ أُصُولُهُمْ الَّتِي عَارَضُوا بِهَا الرَّسُولَ تُنَاقِضُ هَذَا دَلَّ عَلَى فَسَادِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَوَاضِعَ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالصَّانِعِ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ مَعَ كَثْرَةِ دَلَائِلِهِ وَبَرَاهِينِهِ . وَنَقُولُ هُنَا : لَا رَيْبَ أَنَّا نَشْهَدُ الْحَوَادِثَ كَحُدُوثِ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَالزَّرْعِ وَالشَّجَرِ وَالشَّمْسِ وَحُدُوثِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ

وَحُدُوثِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَمَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَسَلْسُلُ الْمُحْدَثَاتِ بِأَنْ يَكُونَ لِلْمُحْدَثِ مُحْدِثٌ وَلِلْمُحْدَثِ مُحْدِثٌ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ . وَهَذَا يُسَمَّى تَسَلْسُلَ الْمُؤَثِّرَاتِ وَالْعِلَلِ وَالْفَاعِلِيَّةِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ وَذُكِرَ مَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِشْكَالَاتِ . حَتَّى ذُكِرَ كَلَامُ الآمدي والأبهري مَعَ كَلَامِ الرَّازِي وَغَيْرِهِمْ . مَعَ أَنَّ هَذَا بَدِيهِيٌّ ضَرُورِيٌّ فِي الْعُقُولِ وَتِلْكَ الْخَوَاطِرُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ . وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَبْدَ إذَا خَطَرَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَيَنْتَهِيَ عَنْهُ . فَقَالَ : { يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ : مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ فَيَقُولُ : اللَّهُ . فَيَقُولُ : فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ ؟ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحْدِثَ الْوَاحِدَ لَا يُحْدِثُ إلَّا بِمُحْدِثِ . فَإِذَا كَثُرَتْ الْحَوَادِثُ وَتَسَلْسَلَتْ كَانَ احْتِيَاجُهَا إلَى الْمُحْدِثِ أَوْلَى . وَكُلُّهَا مُحْدَثَاتٌ فَكُلُّهَا مُحْتَاجَةٌ إلَى مُحْدِثٍ . وَذَلِكَ لَا يَزُولُ إلَّا بِمُحْدِثِ لَا يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ بَلْ هُوَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ بِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْمَوْجُودَ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ وَالْمُحْدَثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ فَيَلْزَمُ وُجُودُ الْقَدِيمِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ كَانَ بُرْهَانًا صَحِيحًا .

وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : إمَّا مُمْكِنٌ وَإِمَّا وَاجِبٌ وَبُيِّنَ الْمُمْكِنُ بِأَنَّهُ الْمُحْدِثُ كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . وَأَمَّا إذَا فُسِّرَ الْمُمْكِنُ بِمَا يَتَنَاوَلُ الْقَدِيمَ كَمَا فَعَلَ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ كالرَّازِي كَانَ هَذَا بَاطِلًا . فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمُمْكِنِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً وَالدَّلِيلُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِإِثْبَاتِ هَذَا ابْتِدَاءً . وَإِنَّمَا يَمْكَنُ ذَلِكَ فِي أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ . فَإِنَّ هَذَا تُشْهَدُ أَفْرَادُهُ وَتُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كُلِّيَّاتُهُ . وَأَمَّا إثْبَاتُ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ مُمْكِنٍ فَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى امْتِنَاعِهِ . وَابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ وَافَقُوا عَلَى امْتِنَاعِهِ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ تَبَعًا لِسَلَفِهِمْ ؛ لَكِنْ تَنَاقَضُوا أَوَّلًا . فَسَلَفُهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ : الْمُمْكِنُ الْعَامِّيُّ وَالْخَاصِّيُّ الَّذِي يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا لَا يَكُونُ ضَرُورِيًّا وَكُلُّ مَا كَانَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا فَهُوَ ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُمْ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْمَوْجُودُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مَخْلُوقًا وَالْمَخْلُوقُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَوْجُودٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ فَثَبَتَ وُجُودُ الْمَوْجُودِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْمَوْجُودُ إمَّا غَنِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ وَإِمَّا فَقِيرٌ إلَى غَيْرِهِ وَالْفَقِيرُ الْمُحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ لَا تَزُولُ حَاجَتُهُ وَفَقْرُهُ إلَّا بِغِنَى عَنْ غَيْرِهِ

فَيَلْزَمُ وُجُودُ الْغِنَى عَنْ غَيْرِهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْحَيُّ إمَّا حَيٌّ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا حَيٌّ حَيَاتُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَمَا كَانَتْ حَيَاتُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرُ أَوْلَى بِالْحَيَاةِ فَيَكُونُ حَيًّا بِنَفْسِهِ فَثَبَتَ وُجُودُ الْحَيِّ بِنَفْسِهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْعَالِمُ إمَّا عَالِمٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا عَالِمٌ عَلَّمَهُ غَيْرُهُ وَمَنْ عَلَّمَ غَيْرَهُ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ عَالِمًا بِنَفْسِهِ فَثَبَتَ وُجُودُ الْعَالِمِ بِنَفْسِهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْحَاصِرَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ سِوَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ وَالْقِسْمَيْنِ . فَإِذَا كَانَ لَا يُمْكِنُ إلَّا أَحَدُهُمَا وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ الْعَالِمُ بِنَفْسِهِ مَوْجُودٌ وَالْحَيُّ بِنَفْسِهِ مَوْجُودٌ وَالْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ مَوْجُودٌ وَالْقَدِيمُ الْوَاجِبُ بِنَفْسِهِ مَوْجُودٌ لَزِمَ وُجُودُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَامْتِنَاعُ عَدَمِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْقَادِرُ إمَّا قَادِرٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا قَادِرٌ قَدَّرَهُ غَيْرُهُ وَمَنْ أَقْدَرَ غَيْرَهُ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ قَادِرًا . وَإِذَا لَمْ تَكُنْ قُدْرَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَانَتْ قُدْرَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ فَثَبَتَ وُجُودُ الْقَادِرِ بِنَفَسِهِ الَّذِي قُدْرَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ وَعِلْمُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ وَحَيَاتُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ .

وَكَذَلِكَ الْحَكِيمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حِكْمَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ . وَمَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ حَكِيمًا فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا فَيَلْزَمُ وُجُودُ الْحَكِيمِ بِنَفْسِهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الرَّحِيمُ إمَّا أَنْ تَكُونَ رَحْمَتُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَعَلَهُ رَحِيمًا . وَمَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ رَحِيمًا فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ رَحِيمًا وَتَكُونَ رَحْمَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ فَثَبَتَ وُجُودُ الرَّحِيمِ بِنَفَسِهِ الَّذِي رَحْمَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْكَرِيمُ الْمُحْسِنُ إمَّا أَنْ يَكُونَ كَرَمُهُ وَإِحْسَانُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ . وَمَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ كَرِيمًا مُحْسِنًا فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كِرِيمًا مُحْسِنًا وَذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ رَأَى امْرَأَةً مِنْ السَّبْيِ إذَا رَأَتْ طِفْلًا أَرْضَعْته رَحْمَةً لَهُ فَقَالَ : أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ قَالُوا : لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا } . فَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أَرْحَمِ الْوَالِدَاتِ بِوَلَدِهَا . فَإِنَّهُ مَنْ جَعَلَهَا رَحِيمَةً أَرْحَمُ مِنْهَا . وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ { وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } وَقَوْلُنَا " اللَّهُ أَكْبَرُ "

فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . وَخَيْرُ الْغَافِرِينَ وَخَيْرُ الْفَاتِحِينَ وَخَيْرُ النَّاصِرِينَ وَأَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَهُوَ نِعْمَ الْوَكِيلِ وَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرِ . وَهَذَا يَقْتَضِي حَمْدًا مُطْلَقًا عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّهُ كَافِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَتَوَلَّى عَبْدَهُ تَوَلِّيًا حَسَنًا وَيَنْصُرُهُ نَصْرًا عَزِيزًا . وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُنَا " اللَّهُ أَكْبَرُ " . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْمُتَكَلِّمُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَعَلَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا . وَمَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا وَإِلَّا كَانَ الْمَفْعُولُ أَكْمَلَ مِنْ الْفَاعِلِ فَإِنَّ هَذِهِ صِفَاتُ كَمَالٍ . وَكَذَلِكَ يُقَالُ : الْعَادِلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِلًا بِنَفْسِهِ وَالصَّادِقُ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَعَلَهُ صَادِقًا عَادِلًا . وَمَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ صَادِقًا عَادِلًا فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ صَادِقًا عَادِلًا . فَهَذِهِ كُلُّهَا طُرُقٌ صَحِيحَةٌ بَيِّنَةٌ . فَإِنْ قِيلَ : يُعَارَضُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ : مَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ ظَالِمًا أَوْ كَاذِبًا فَهُوَ أَيْضًا ظَالِمٌ كَاذِبٌ وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ إنَّهُ جَعَلَ غَيْرَهُ كَذَلِكَ

وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ سُبْحَانَهُ قِيلَ : هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ عَلَى صِفَةٍ أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ كَانَ مُتَّصِفًا بِهَا بَلْ مَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَهُوَ أَوْلَى بِاتِّصَافِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ مِنْ مَفْعُولِهِ . وَأَمَّا صِفَاتُ النَّقْصِ فَلَا يَلْزَمُ إذَا جَعَلَ الْجَاعِلُ غَيْرَهُ نَاقِصًا أَنْ يَكُونَ هُوَ نَاقِصًا . فَالْقَادِرُ يَقْدِرُ أَنْ يَعْجِزَ غَيْرَهُ وَلَا يَكُونُ عَاجِزًا . وَالْحَيُّ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْتُلَ غَيْرَهُ وَيُمِيتَهُ وَلَا يَكُونُ مَيِّتًا . وَالْعَالِمُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُجْهِلَ غَيْرَهُ وَلَا يَكُونُ جَاهِلًا . وَالسَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ وَالنَّاطِقُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعْمِيَ غَيْرَهُ وَيُصِمَّهُ وَيُخْرِسَهُ وَلَا يَكُونُ هُوَ كَذَلِكَ . فَلَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنَّ مَنْ جَعَلَ غَيْرَهُ ظَالِمًا وَكَاذِبًا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا وَظَالِمًا لِأَنَّ هَذِهِ صِفَةُ نَقْصٍ . فَإِنْ قِيلَ : الْكَاذِبُ وَالظَّالِمُ قَدْ يُلْزِمُ غَيْرَهُ بِالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ أَحْيَانًا قِيلَ : هُوَ لَمْ يَجْعَلْهُ صَادِقًا وَعَالِمًا وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ . وَلَمْ نَقُلْ : كُلُّ مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِشَيْءِ كَانَ مُتَّصِفًا بِمَا أَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ . الثَّانِي : أَنَّ الظُّلْمَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إضَافِيٌّ فَمَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يَقْتُلَ شَخْصًا

فَقَتَلَهُ هَذَا الْقَاتِلُ مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ يَعْلَمُهُ كَانَ ظَالِمًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْآمِرُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِهِ لِكَوْنِهِ قَدْ قَتَلَ أَبَاهُ وَالْمَأْمُورُ لَمْ يَفْعَلْهُ لِذَلِكَ . فَلَوْ فَعَلَهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا . فَإِنْ كَانَ لَهُ مَعَهُ غَرَضٌ فَقَتَلَهُ ظُلْمًا وَلَكِنَّ الْآمِرَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِقَتْلِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِمَا هُوَ كَذِبٌ مِنْ الْمَأْمُورِ كَأَمْرِ يُوسُفَ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَقُولَ { أَيَّتُهَا الْعِيرُ إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَدَ . إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ يُوسُفَ مِنْ أَبِيهِ وَهُوَ صَادِقٌ فِي هَذَا . وَالْمَأْمُورُ قَصَدَ : إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ الصُّوَاعَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ كَذِبًا . وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا تُقَاسُ أَفْعَالُهُ بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ . فَهُوَ يَخْلُقُ جَمِيعَ مَا يَخْلُقُهُ لِحِكْمَةِ وَمَصْلَحَةٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَا خَلَقَهُ فِيهِ قُبْحٌ كَمَا يَخْلُقُ الْأَعْيَانَ الْخَبِيثَةَ كَالنَّجَاسَاتِ وَكَالشَّيَاطِينِ لِحِكْمَةِ رَاجِحَةٍ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ دَلَائِلَ إثْبَاتِ الرَّبِّ كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَعْقُولَ يُعَارِضُ خَبَرَ الرَّسُولِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَاجِبَ الْوُجُودِ أَوْ الْقَدِيمَ أَوْ الصَّانِعَ هُمْ لَمْ يُثْبِتُوهُ بَلْ حُجَجُهُمْ تَقْتَضِي نَفْيَهُ وَتَعْطِيلَهُ فَهُمْ نَافُونَ لَهُ . لَا مُثْبِتُونَ لَهُ . وَحُجَجُهُمْ بَاطِلَةٌ

فِي الْعَقْلِ لَا صَحِيحَةٌ فِي الْعَقْلِ . وَالْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى أُصُولِهِمْ . بَلْ تَمَامُ الْمَعْرِفَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِفَسَادِ أُصُولِهِمْ وَإِنْ سَمَّوْهَا " أُصُولَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ " فَهِيَ " أُصُولُ الْجَهْلِ وَأُصُولُ دِينِ الشَّيْطَانِ لَا دِينِ الرَّحْمَنِ " . وَحَقِيقَةُ كَلَامِهِمْ " تَرْتِيبُ الْأُصُولِ فِي مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ وَالْمَعْقُولِ " كَمَا قَالَ أَصْحَابُ النَّارِ { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } . فَمَنْ خَالَفَ الرَّسُولَ فَقَدْ خَالَفَ السَّمْعَ وَالْعَقْلَ خَالَفَ الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ . أَمَّا الْقَائِلُونَ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ . وَأَنَّ الرَّازِيَّ لَمَّا تَبِعَ ابْنَ سِينَا لَمْ يَكُنْ فِي كُتُبِهِ إثْبَاتُ وَاجِبِ الْوُجُودِ . فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا وُجُودَهُ مَوْقُوفًا عَلَى إثْبَاتِ " الْمُمْكِنِ " الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْقَدِيمُ . فَمَا بَقِيَ يُمْكِنُ إثْبَاتُ وَاجِبِ الْوُجُودِ عَلَى طَرِيقِهِمْ إلَّا بِإِثْبَاتِ مُمْكِنٍ قَدِيمٍ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ . فَكَانَ طَرِيقُهُمْ مَوْقُوفًا عَلَى مُقَدِّمَةٍ بَاطِلَةٍ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى بُطْلَانِهَا فَبَطَلَ دَلِيلُهُمْ . وَلِهَذَا كَانَ كَلَامُهُمْ فِي " الْمُمْكِنِ " مُضْطَرِبًا غَايَةَ الِاضْطِرَابِ . وَلَكِنْ أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ وَهُوَ

وَاجِبُ الْوُجُودِ . وَلَكِنْ قَدْ أَثْبَتُوا قَدِيمًا لَيْسَ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ . فَصَارَ مَا أَثْبَتُوهُ مِنْ الْقَدِيمِ يُنَاقِضُ أَنْ يَكُونَ هُوَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إذْ أَثْبَتُوا قَدِيمًا يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَإِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ . وَأَيْضًا فَالْوَاجِبُ الَّذِي أَثْبَتُوهُ قَالُوا : إنَّهُ يَمْتَنِعُ اتِّصَافُهُ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ . وَهَذَا مُمْتَنِعُ الْوُجُوبِ لَا مُمْكِنُ الْوُجُوبِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ وَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي يَدَّعُونَهُ يَقُولُونَ إنَّهُ لَا يَكُونُ لَا صِفَةً وَلَا مَوْصُوفًا أَلْبَتَّةَ . وَهَذَا إنَّمَا يَتَخَيَّلُ فِي الْأَذْهَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْأَعْيَانِ . وَالْوَاجِبُ إذَا فُسِّرَ بِمُبْدِعِ الْمُمَكَّنَاتِ فَهُوَ حَقٌّ وَهُوَ اسْمٌ لِلَّذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَاتِهَا . وَإِذَا فُسِّرَ بِالْمَوْجُودِ بِنَفَسِهِ الَّذِي لَا فَاعِلَ لَهُ فَالذَّاتُ وَاجِبَةٌ وَالصِّفَاتُ وَاجِبَةٌ . وَإِذَا فُسِّرَ بِمَا لَا فَاعِلَ لَهُ وَلَا مُحْدِثَ فَالذَّاتُ وَاجِبَةٌ وَالصِّفَاتُ لَيْسَتْ وَاجِبَةً . وَإِذَا فُسِّرَ بِمَا لَيْسَ صِفَةً وَلَا مَوْصُوفًا فَهَذَا بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ . بَلْ هُوَ مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ لَا مُمْكِنَ الْوُجُودِ وَلَا وَاجِبَ الْوُجُودِ . وَكُلَّمَا أَمْعَنُوا فِي تَجْرِيدِهِ عَنْ الصِّفَاتِ كَانُوا أَشَدَّ إيغَالًا فِي التَّعْطِيلِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْقَدِيمَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ والكَرَّامِيَة الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ

وَلُزُومِهَا لِلْأَجْسَامِ وَامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ فَهَؤُلَاءِ لَمْ يُثْبِتُوا الصَّانِعَ لِمَا عُرِفَ مِنْ فَسَادِ هَذَا الدَّلِيلِ حَيْثُ ادَّعَوْا امْتِنَاعَ كَوْنِ الرَّبِّ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ أَوْ فَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ . بَلْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ امْتِنَاعُ كَوْنِهِ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا . وَأَدِلَّتُهُمْ عَلَى هَذَا الِامْتِنَاعِ قَدْ ذُكِرَتْ مُسْتَوْفَاةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذُكِرَ كَلَامُهُمْ هُمْ فِي بَيَانِ بُطْلَانِهَا . وَأَمَّا كَوْنُهُمْ عَطَّلُوا الْخَالِقَ فَلِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ مُحْدِثٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ مُحْدِثًا لَا قَدِيمًا . بَلْ حَقِيقَةُ أَصْلِهِمْ أَنَّ مَا قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ وَالْأَفْعَالُ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَكُلُّ مَوْجُودٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَوْجُودٍ مُحْدِثًا . وَلِهَذَا صَرَّحَ أَئِمَّةُ هَذَا الطَّرِيقِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ بِنَفْيِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَبِنَفْيِ قِيَامِ الْأَفْعَالِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ إذْ هَذَا مُوجَبُ دَلِيلِهِمْ . وَهَذِهِ الصِّفَاتُ لَازِمَةٌ لَهُ وَنَفْيُ اللَّازِمِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمَلْزُومِ . فَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ نَفْيَ الرَّبِّ وَتَعْطِيلَهُ . وَهُمْ يُسَمُّونَ الصِّفَاتِ أَعْرَاضًا وَالْأَفْعَالَ وَنَحْوَهَا حَوَادِثَ . فَقَالُوا الرَّبُّ يُنَزَّهُ عَنْ أَنْ تَقُومَ بِهِ الْأَعْرَاضُ وَالْحَوَادِثُ . فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا . قَالُوا : وَقَدْ أَقَمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى حُدُوثِ كُلِّ جِسْمٍ . فَإِنَّ

الْجِسْمَ لَا يَنْفَكُّ مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمُحْدَثَةِ وَلَا يَسْبِقُهَا وَمَا لَمْ يَنْفَكَّ عَنْ الْحَوَادِثِ وَلَمْ يَسْبِقْهَا فَهُوَ حَادِثٌ . وَقَدْ قَامَتْ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَأَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ الْحَوَادِثَ وَلَمْ يَنْفَكَّ عَنْهَا . وَيَجِبُ عَلَى قَوْلِهِمْ كَوْنُهُ حَادِثًا . فَالْأَصْلُ الَّذِي أَثْبَتُوا بِهِ الْقَدِيمَ هُوَ نَفْسُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ بِقَدِيمِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ قَدِيمٌ . كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ أَصْلُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ بِذَاتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ وَاجِبٌ بِذَاتِهِ . وَالطَّرِيقُ الَّتِي قَالُوا بِهَا يَثْبُتُ الصَّانِعُ مُنَاقِضَةٌ لِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ . وَإِذَا قَالُوا : لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِالصَّانِعِ إلَّا بِهَا كَانَ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ : بَلْ لَا يُمْكِنُ تَمَامُ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِفَسَادِهَا . وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ أَقَرَّ بِصِحَّتِهَا قَدْ كَذَّبَ بَعْضَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِمَّا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الرَّبِّ وَنَفْيُ اللَّازِمِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمَلْزُومِ . وَاَلَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ مِنْ جِنْسِ مَا زَعَمَ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى إمْكَانِ الْأَجْسَامِ . وَكُلٌّ مِنْهُمَا بَاطِلٌ .

وَمُقْتَضَاهُ حُدُوثُ كُلِّ مَوْجُودٍ وَإِمْكَانُ كُلِّ مَوْجُودٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ قَدِيمٌ وَلَا وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ . فَأُصُولُهُمْ تُنَاقِضُ مَطْلُوبَهُمْ . وَهِيَ طَرِيقَةٌ مُضِلَّةٌ لَا هَادِيَةٌ . لَكِنَّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } .
وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ : نُثْبِتُ الصَّانِعَ وَالْخَالِقَ وَيَقُولُونَ : إنَّا نَسْلُك غَيْرَ هَذِهِ الطَّرِيقِ كَالِاسْتِدْلَالِ بِحُدُوثِ الصِّفَاتِ عَلَى الرَّبِّ . فَإِنَّ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى مَا الْتَزَمَهُ أُولَئِكَ . وَالرَّازِي قَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الطَّرِيقَ . وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ نَفْسُهُ فَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِهَا . بَلْ " فِي اللُّمَعِ " و " رِسَالَتِهِ " إلَى الثَّغْرِ اسْتَدَلَّ بِالْحَوَادِثِ عَلَى حُدُوثِ مَا قَامَتْ بِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي النُّطْفَةِ بِنَاءً عَلَى امْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . ثُمَّ جَعَلَ حُدُوثَ تِلْكَ الْجَوَاهِرِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ دَلَّ عَلَى حُدُوثِهَا هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الصَّانِعِ . وَهَذِهِ الطَّرِيقُ بَاطِلَةٌ كَمَا قَدْ بُيِّنَ . وَأَمَّا تِلْكَ فَهِيَ صَحِيحَةٌ لَكِنْ أَفْسَدُوهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِمْ جَعَلُوا

الْحَوَادِثَ الْمَشْهُودَ لَهُمْ حُدُوثُهَا هِيَ الْأَعْرَاضُ فَقَطْ كَمَا قَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوَاضِعَ . ثُمَّ يُقَالُ : هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ خَالِقًا لَا خَلْقَ لَهُ . وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي بِدَايَةِ الْعُقُولِ ؟ فَلَمْ يُثْبِتُوا خَالِقًا . وَالكَرَّامِيَة وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ : الْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ فَهُمْ يَقُولُونَ بِحُدُوثِ الْخَلْقِ بِلَا سَبَبٍ يُوجِبُ حُدُوثَهُ . وَهَذَا أَيْضًا مُمْتَنِعٌ . فَمَا أَثْبَتُوا خَالِقًا . وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : الْمُوجِبُ لِلتَّخْصِيصِ بِحُدُوثِ مَا حَدَثَ دُونَ غَيْرِهِ هُوَ إرَادَةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ . فالكَرَّامِيَة يَقُولُونَ : هِيَ الْمُخَصَّصُ لِمَا قَامَ بِهِ وَمَا خَلَقَهُ . وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَمْ يَقُمْ بِهِ شَيْءٌ يَكُونُ مُرَادًا بَلْ يَقُولُونَ : هِيَ الْمُخَصَّصُ لِمَا حَدَثَ . وَالطَّائِفَتَانِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَقُولُونَ : تِلْكَ الْإِرَادَةُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ عَلَى نَعْتٍ وَاحِدٍ ثُمَّ وُجِدَتْ الْحَوَادِثُ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا . وَيَقُولُونَ : مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُخَصِّصَ مِثْلًا عَلَى مِثْلٍ وَمِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَى الْمُرَادِ تَقَدُّمًا لَا أَوَّلَ لَهُ . فَوَصَفُوا الْإِرَادَةَ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ بَاطِلَةٍ يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَكُونُ هَكَذَا وَهِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْخَلْقِ وَالْحُدُوثِ فَإِذَا أُثْبِتَتْ فَلَا خَلْقَ وَلَا حُدُوثَ .

وَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ الَّتِي أَثْبَتُوهَا وَصَفُوهَا بِمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قُدْرَةً . وَهِيَ شَرْطٌ فِي الْخَلْقِ . فَإِذَا نَفَوْا شَرْطَ الْخَلْقِ انْتَفَى الْخَلْقُ فَلَمْ يَبْقَ خَالِقًا . فَاَلَّذِي وَصَفُوا بِهِ الْخَالِقَ يُنَاقِضُ كَوْنَهُ خَالِقًا لَيْسَ بِلَازِمِ لِكَوْنِهِ خَالِقًا . وَهُمْ جَعَلُوهُ لَازِمًا لَا مُنَاقِضًا . أَمَّا الْإِرَادَةُ فَذَكَرُوا لَهَا ثَلَاثَةَ لَوَازِمَ وَالثَّلَاثَةُ تُنَاقِضُ الْإِرَادَةَ . قَالُوا إنَّهَا تَكُونُ وَلَا مُرَادَ لَهَا بَلْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ ثُمَّ حَدَثَ مُرَادُهَا مِنْ غَيْرِ تَحَوُّلِ حَالِهَا . وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ . فَإِنَّ الْفَاعِلَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ فَالْمُتَقَدِّمُ كَانَ عَزْمًا عَلَى الْفِعْلِ وَقَصْدًا لَهُ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يَكُنْ إرَادَةً لِلْفِعْلِ فِي الْحَالِ . بَلْ إذَا فَعَلَ فَلَا بُدَّ مِنْ إرَادَةِ الْفِعْلِ فِي الْحَالِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : الْمَاضِي عَزْمٌ وَالْمُقَارَنُ قَصْدٌ . فَوُجُودُ الْفِعْلِ بِمُجَرَّدِ عَزْمٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَجَدَّدَ قَصْدٌ مِنْ الْفَاعِلِ مُمْتَنِعٌ . فَكَانَ حُصُولُ الْمَخْلُوقَاتِ بِهَذِهِ الْإِرَادَةِ مُمْتَنِعًا لَوْ قَدَّرَ إمْكَانَ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ بِلَا سَبَبٍ فَكَيْفَ وَذَاكَ أَيْضًا مُمْتَنِعٌ فِي نَفْسِهِ ؟ فَصَارَ الِامْتِنَاعُ مِنْ جِهَةٍ الْإِرَادَةَ وَمِنْ جِهَةٍ تَعَيَّنَتْ بِمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ فِي نَفْسِهِ . الثَّانِي قَوْلُهُمْ إنَّ الْإِرَادَةَ تُرَجِّحُ مِثْلًا عَلَى مِثْلٍ : فَهَذَا مُكَابَرَةٌ بَلْ لَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ إلَّا لِمَا تَرَجَّحَ وُجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ عِنْدَ الْفَاعِلِ . إمَّا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ أَوْ لِكَوْنِ مَحَبَّتِهِ لَهُ أَقْوَى . وَهُوَ إنَّمَا يَتَرَجَّحُ فِي الْعِلْمِ لِكَوْنِ

عَاقِبَتِهِ أَفْضَلَ . فَلَا يَفْعَلُ أَحَدٌ شَيْئًا بِإِرَادَتِهِ إلَّا لِكَوْنِهِ يُحِبُّ الْمُرَادَ أَوْ يُحِبُّ مَا يَئُولُ إلَيْهِ الْمُرَادُ بِحَيْثُ يَكُونُ وُجُودُ ذَلِكَ الْمُرَادِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ عَدَمِهِ لَا يَكُونُ وُجُودُهُ وَعَدِمُهُ عِنْدَهُ سَوَاءً . الثَّالِثُ أَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا مُرَادُهَا مَعَ الْقُدْرَةِ : فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ . بَلْ مَتَى حَصَلَتْ الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ وَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ وَجَبَ وُجُودُ الْمَقْدُورِ وَحَيْثُ لَا يَجِبُ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَقْصِ الْقُدْرَةِ أَوْ لِعَدَمِ الْإِرَادَةِ التَّامَّةِ . وَالرَّبُّ تَعَالَى مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَهُوَ يُخْبِرُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَ أُمُورًا لَمْ يَفْعَلْهَا كَمَا قَالَ { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } . فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ ذَلِكَ لَكَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ . لَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَشَأْهُ إذْ كَانَ عَدَمُ مَشِيئَتِهِ أَرْجَحَ فِي الْحِكْمَةِ مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَيْهِ لَوْ شَاءَهُ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يَذْكُرُونَهُ فِي الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ هُمْ وَغَيْرُهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : إنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى الْأُمُورِ الْمُبَايَنَةِ لَهُ دُونَ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَعَلَى مَا هُوَ باين عَنْهُ كَمَا يُحْكَى عَنْ الكَرَّامِيَة .

وَالصَّوَابُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْعَقْلُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى هَذَا وَهَذَا قَالَ تَعَالَى { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } وَقَالَ { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } وَقَالَ { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } وَقَالَ { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ النَّوْعِ الْآخَرِ . فَإِنَّ مَا قَالَهُ الكَرَّامِيَة والهشامية أَقْرَبُ إلَى الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ مِمَّا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيمَا حَكَوْهُ عَنْهُمْ خَطَأٌ مِنْ جِهَةِ نَفْيِهِمْ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأُمُورِ الْمُبَايَنَةِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي مَسْعُودٍ لَمَّا رَآهُ يَضْرِبُ غُلَامَهُ : لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْك مِنْك عَلَى هَذَا } . وَفِي الْقُرْآنِ { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ } { أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ } . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوَاضِعُ أُخَرُ . فَجَمِيعُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ لَازِمٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَكُلُّ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ فَهُوَ لَازِمٌ . وَإِذَا قَدَّرَ عَدَمَهُ لَزِمَ عَدَمُ الْمَلْزُومِ . فَنَفْيُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّعْطِيلِ . لَكِنْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَظْهَرُ بِالْعَقْلِ مَعَ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْعَقْلِ وَمِنْهُ

مَا يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ خَبَرِ الرَّسُولِ . فَإِنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ حَقٌّ . وَكُلُّ مَا أَثْبَتَ لِلرَّبِّ فَهُوَ لَازِمُ الثُّبُوتِ وَمَا انْتَفَى عَنْهُ فَهُوَ لَازِمُ الِانْتِفَاءِ فَإِذَا قَدَّرَ عَدَمَ اللَّازِمِ لَزِمَ عَدَمُ الْمَلْزُومِ . لَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَازِمُ الْمَذْهَبِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ . وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ يَقُولُونَ أَقْوَالًا وَلَا يَلْتَزِمُونَ لَوَازِمَهَا . فَلَا يَلْزَمُ إذَا قَالَ الْقَائِلُ مَا يَسْتَلْزِمُ التَّعْطِيلَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَقِدًا لِلتَّعْطِيلِ . بَلْ يَكُونُ مُعْتَقِدًا لِلْإِثْبَاتِ وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ اللُّزُومُ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ أُصُولُهُمْ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا إثْبَاتَ الصَّانِعِ بَاطِلَةً لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونُوا هُمْ غَيْرَ مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَإِنْ كَانَ هَذَا لَازِمًا مِنْ قَوْلِهِمْ . إذَا قَالُوا : إنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقِ وَقَدْ ظَهَرَ فَسَادُهُ لَزِمَ أَنْ لَا يُعْرَفَ . لَكِنَّ هَذَا اللُّزُومَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا النَّفْيِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونُوا هُمْ مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ لِمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالصَّانِعِ وَمَعْرِفَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَتَوْحِيدَهُ فِطْرِيٌّ يَكُونُ ثَابِتًا فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ . وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ هَؤُلَاءِ مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ مُعْتَرِفِينَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْلُكُوا هَذِهِ الطَّرِيقَ النَّظَرِيَّةَ سَوَاءٌ كَانَتْ صَحِيحَةً أَوْ بَاطِلَةً . وَهَذَا

أَمْرٌ يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ سُلُوكِ هَذِهِ الطَّرِيقِ عَدَمُ الْمَعْرِفَةِ . وَقَدْ اعْتَرَفَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الطَّرِيقَ النَّظَرِيَّةَ الَّتِي يَسْلُكُهَا زَادَتْهُ بَصِيرَةً وَعِلْمًا . كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ . وَهُوَ سَلَكَ طَرِيقَةَ الْأَعْرَاضِ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ لَمْ تُفِدْهُمْ إلَّا شَكًّا وَرَيْبًا وَفِطْرَةُ هَؤُلَاءِ أَصَحُّ فَإِنَّهَا طُرُقٌ فَاسِدَةٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَمْ يَحْصُلْ لِي بِهَا شَيْءٌ لَا عِلْمَ وَلَا شَكَّ . وَذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تُحَصِّلْ لَهُ عِلْمًا وَلَا سَلَّمَهَا فَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ صِحَّتُهَا وَلَا فَسَادُهَا . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْهَمُ مُرَادَهُمْ بِهَا . وَأَكْثَرُ أَتْبَاعِهِمْ لَا يَفْهَمُونَهَا بَلْ يَتَّبِعُونَهُمْ تَقْلِيدًا وَإِحْسَانًا لِلظَّنِّ بِهِمْ .
فَصْلٌ :
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّا لَا نَقُولُ إنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِإِثْبَاتِ جَمِيعِ لَوَازِمِهِ . هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ بَلْ قَدْ تُعْرَفُ عَامَّةُ الْأَشْيَاءِ وَكَثِيرٌ

مِنْ لَوَازِمِهَا لَا تُعْرَفُ وَقَدْ يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الرَّبَّ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَثِيرًا مِنْ لَوَازِمِ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ . لَكِنَّ أَهْلَ الِاسْتِقَامَةِ كَمَا لَا يَعْرِفُونَ اللَّوَازِمَ فَلَا يَنْفُونَهَا فَإِنَّ نَفْيَهَا خَطَأٌ . وَأَمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ بِهَا كُلِّهَا فَهَذَا لَازِمٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَسُبْحَانَ مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا . وَمَا سِوَاهُ { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } وَهُوَ سُبْحَانَهُ { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ فِي كَلِمَةٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِمْ مِنْ الْخَطَأِ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ وَالسَّمْعِيَّةَ الْمَنْقُولَةَ عَنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ تُوَافِقُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُنَاقِضُ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ الْمُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَإِذَا قَالُوا : إنَّ الْعَقْلَ يُخَالِفُ النَّقْلَ أَخْطَئُوا فِي خَمْسَةِ أُصُولٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ لَا يُنَاقِضُهُ . الثَّانِي : أَنَّهُ يُوَافِقُهُ الثَّالِثُ : أَنَّ مَا يَدْعُونَهُ مِنْ الْعَقْلِ الْمُعَارِضِ لَيْسَ بِصَحِيحِ . الرَّابِعُ : أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْقُولِ الْمُعَارِضِ هُوَ الْمُعَارِضُ لِلْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ . الْخَامِسُ : أَنَّ مَا أَثْبَتُوا بِهِ الْأُصُولَ كَمَعْرِفَةِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ لَا يُثْبِتُهَا بَلْ يُنَاقِضُ إثْبَاتَهَا .

فَصْلٌ :
وَذَلِكَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ . فَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللَّهِ فَاَللَّهُ أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُخْبِرُ بِعِلْمِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يُخْبِرَ بِنَقِيضِ عِلْمِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ فَهُوَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . قَالَ تَعَالَى { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } وَقَالَ تَعَالَى { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَوْلُهُ { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } . قَالَ الزَّجَّاجُ : أَنْزَلَهُ وَفِيهِ عِلْمُهُ . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ : أَنْزَلَهُ مِنْ عِلْمِهِ . وَهَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُهُمَا . وَهَذَا الْمَعْنَى مَأْثُورٌ عَنْ السَّلَفِ كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ : أَقْرَأَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرْآنَ . وَكَانَ إذَا أَقْرَأَ أَحَدَنَا الْقُرْآنَ قَالَ : قَدْ أَخَذْت عِلْمَ اللَّهِ فَلَيْسَ أَحَدٌ الْيَوْمَ أَفْضَلَ مِنْك إلَّا بِعَمَلِ ثُمَّ يَقْرَأُ { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } . وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى { فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ } قَالُوا : أَنْزَلَهُ وَفِيهِ عِلْمُهُ .

قُلْت : الْبَاءُ قَدْ يَكُونُ لِلْمُصَاحَبَةِ كَمَا تَقُولُ : جَاءَ بِأَسْيَادِهِ وَأَوْلَادِهِ . فَقَدْ أَنْزَلَهُ مُتَضَمِّنًا لِعِلْمِهِ مُسْتَصْحِبًا لِعِلْمِهِ . فَمَا فِيهِ مِنْ الْخَبَرِ هُوَ خَبَرٌ بِعِلْمِ اللَّهِ . وَمَا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ فَهُوَ أَمْرٌ بِعِلْمِ اللَّهِ بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ . فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ كَذِبًا وَظُلْمًا كَقُرْآنِ مُسَيْلِمَةَ وَقَدْ يَكُونُ صِدْقًا لَكِنَّ إنَّمَا فِيهِ عِلْمُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي قَالَهُ فَقَطْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى عِلْمِ اللَّه تَعَالَى إلَّا مِنْ جِهَةِ اللُّزُومِ . وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ يَعْلَمُهُ اللَّهُ . وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِعِلْمِ اللَّهِ ابْتِدَاءً : فَإِنَّمَا أَنْزَلَ بِعِلْمِهِ لَا بِعِلْمِ غَيْرِهِ وَلَا هُوَ كَلَامٌ بِلَا عِلْمٍ . وَإِذَا كَانَ قَدْ أَنْزَلَ بِعِلْمِهِ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ اللَّهِ وَيَقْتَضِي أَنَّ الرَّسُولَ رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ عِلْمَهُ . قَالَ الزَّجَّاجُ : " الشَّاهِدُ " الْمُبَيِّنُ لِمَا شَهِدَ بِهِ وَاَللَّهُ يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيَعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ حَقٌّ . ( قُلْت : قَوْلُهُ { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ } شَهَادَتُهُ هُوَ بَيَانُهُ وَإِظْهَارُهُ دَلَالَتُهُ وَإِخْبَارُهُ . فَالْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ الَّتِي بَيَّنَ بِهَا صِدْقَ الرَّسُولِ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَمِنْهَا الْقُرْآنُ هُوَ شَهَادَةٌ بِالْقَوْلِ . وَهُوَ فِي نَفْسِهِ آيَةٌ وَمُعْجِزَةٌ تَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ كَمَا تَدُلُّ سَائِرُ الْآيَاتِ وَالْآيَاتُ كُلُّهَا شَهَادَةٌ مِنْ اللَّهِ كَشَهَادَةِ بِالْقَوْلِ وَقَدْ تَكُونُ أَبْلَغَ . وَلِهَذَا ذَكَرَ هَذَا فِي سُورَةِ هُودٍ لَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِالْمِثْلِ فَقَالَ

{ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . فَإِنَّ عَجْزَ . أُولَئِكَ عَنْ الْمُعَارَضَةِ دَلَّ عَلَى عَجْزِ غَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَتَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَأَنَّهُ آيَةٌ بَيِّنَةٌ تَدُلُّ عَلَى الرِّسَالَةِ وَعَلَى التَّوْحِيدِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ } . بَعْد قَوْلِهِ { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ } إلَى قَوْلِهِ { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ قَالَ : لَا نَشْهَدُ لِمُحَمَّدِ بِالرِّسَالَةِ فَقَالَ تَعَالَى { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ } وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } نَفَى حُجَّةَ الْخَلْقِ عَلَى الْخَالِقِ فَقَالَ : لَكِنْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ قَائِمَةٌ بِشَهَادَتِهِ بِالرِّسَالَةِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْك أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ فَمَا لِلْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَلْ لَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ . وَهُوَ الَّذِي هَدَى عِبَادَهُ بِمَا أَنْزَلَهُ . وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ فَقَوْلُهُ { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } أَيْ فِيهِ عِلْمُهُ بِمَا كَانَ وَسَيَكُونُ وَمَا أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ . فَإِنَّهُ إذَا أَخْبَرَ بِالْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُ بِهِ

كَقَوْلِهِ { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا } { إلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } الْآيَةَ وَقَدْ قِيلَ : أَنْزَلَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ وَبِك . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطبري فِي آيَةِ النِّسَاءِ : أَنْزَلَهُ إلَيْك بِعِلْمِ مِنْهُ أَنَّك خِيرَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ . وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي آيَةِ هُودٍ قَوْلَيْنِ أَحَدِهِمَا : أَنْزَلَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِإِنْزَالِهِ وَعَالِمٌ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِمَا أَخْبَرَ فِيهِ مِنْ الْغُيُوبِ وَدَلَّ عَلَى مَا سَيَكُونُ وَمَا سَلَفَ . ( قُلْت : هَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي تُقَدَّمُ . وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ . فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِهِ وَبِمَنْ أَنْزَلَ إلَيْهِ وَعَالِمٌ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَأَنَّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ أَهْلٌ لِمَا اصْطَفَاهُ اللَّهُ لَهُ وَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } وَقَوْلِ مَنْ قَالَ { إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } أَيْ عَلَى عِلْمٍ مِنْ اللَّهِ بِاسْتِحْقَاقِي . ( قُلْت وَهَذَا الْوَجْهُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إذَا نَزَلَ الْكَلَامُ بِعِلْمِ الرَّبِّ تَضَمَّنَ أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ فَهُوَ مِنْ عِلْمِهِ وَفِيهِ الْإِخْبَارُ بِحَالِهِ وَحَالِ الرَّسُولِ . وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الصَّوَابُ . وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ .

وَالْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا فَهُوَ جُزْءٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَأَمَّا كَوْنُ الثَّانِي هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ فَغَلَطٌ لِأَنَّ كَوْنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ الشَّيْءَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُودٌ وَلَا مَذْمُومٌ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّهُ أَنْزَلَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ . لَكِنْ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ أَنْزَلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ أَيْ وَلَيْسَ فِيهِ عِلْمُهُ وَأَنَّهُ مِنْ تَنْزِيلِ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } وَالشَّيَاطِينُ هُوَ يُرْسِلُهُمْ وَيُنْزِلُهُمْ لَكِنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَأْتُونَ بِهِ لَيْسَ مُنَزَّلًا مِنْهُ ؛ وَلَا هُوَ مُنَزَّلٌ بِعِلْمِ اللَّهِ بَلْ مُنَزَّلٌ بِمَا تَقُولهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ كَذِبٍ وَغَيْرِهِ . وَلِهَذَا هُوَ سُبْحَانَهُ إذَا ذَكَرَ نُزُولَ الْقُرْآنِ قَيَّدَهُ بِأَنَّ نُزُولَهُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ } { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ خَلَقَهُ فِي مَحَلٍّ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ مُنَزَّلًا مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا مِنْ اللَّهِ . وَقَالَ إنَّهُ نَزَلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَإِنَّهُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَعِلْمُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ .

وَقَالَ أَحْمَد : كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ شَيْئًا مِنْهُ . وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . فَقَالُوا : مِنْهُ بَدَأَ لَمْ يَبْدَأْ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا تَقُولهُ الْجَهْمِيَّة . يَقُولُونَ : بَدَأَ مِنْ الْمَحَلِّ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهِ عِلْمُهُ فَهُوَ حَقٌّ وَالْكَلَامُ الَّذِي يُعَارِضُهُ بِهِ خِلَافُ عِلْمِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ كَالشِّرْكِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
فَصْلٌ :
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ فِي أُصُولِ الدِّينِ إلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ كَمَا بَيَّنَتْهُ مِنْ أَنَّ الْكِتَابَ بَيَّنَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي بِهَا تُعْرَفُ الْمَطَالِبُ الْإِلَهِيَّةُ وَبَيَّنَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ هُوَ يُظْهِرُ الْحَقَّ بِأَدِلَّتِهِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ . وَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ " الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ " قَدْ صَارَ لَفْظًا مُجْمَلًا . فَكُلُّ مَنْ

وَضَعَ شَيْئًا بِرَأْيِهِ سَمَّاهُ " عَقْلِيَّاتٍ " وَالْآخَرُ يُبَيِّنُ خَطَأَهُ فِيمَا قَالَهُ وَيَدَّعِي الْعَقْلَ أَيْضًا وَيَذْكُرُ أَشْيَاءَ أُخَرَ تَكُونُ أَيْضًا خَطَأً كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ يَحْتَجُّ فِي السَّمْعِ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ أَوْ مَوْضُوعَةٍ أَوْ نُصُوصٍ ثَابِتَةٍ لَكِنْ لَا تَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِهِ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَجْعَلُ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ الْمُجَرَّدِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ . فَلِهَذَا يَضْطَرُّونَ إلَى أَنْ يَجْعَلُوا الْعُلُومَ الْعَقْلِيَّةَ أَصْلًا كَمَا يَفْعَلُ أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو حَامِد وَالرَّازِي وَغَيْرهمْ . وَأَئِمَّة الْمُتَكَلِّمِينَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيّ وَغَيْره وَعَبْد الْجَبَّار بْن أَحْمَد وَغَيْره مِنْ الْمُعْتَزِلَة . ثُمَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يَذْكُرُونَ أَدِلَّةً يَجْعَلُونَهَا أَدِلَّة الْقُرْآنِ وَلَا تَكُونُ هِيَ إيَّاهَا كَمَا فَعَلَ الْأَشْعَرِيّ فِي " اللُّمَعِ " وَغَيْرِهِ حَيْثُ احْتَجَّ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَذَكَرَ قَوْلِهِ { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ } { أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } . لَكِنْ هُوَ يَظُنُّ أَنَّ النُّطْفَةَ فِيهَا جَوَاهِرُ بَاقِيَةٌ وَأَنَّ نَقْلَهَا فِي

الْأَعْرَاضِ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا . فَاسْتَدَلَّ عَلَى حُدُوثِ جَوَاهِرِ النُّطْفَةِ . وَلَيْسَتْ هَذِهِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ وَلَا جُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ . بَلْ يَعْرِفُونَ أَنَّ النُّطْفَةَ حَادِثَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحِيلَةً عَنْ دَمِ الْإِنْسَانِ ؛ وَهِيَ مُسْتَحِيلَةٌ إلَى الْمُضْغَةِ وَأَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ هَذَا الْجَوْهَرَ الثَّانِيَ مِنْ الْمَادَّةِ الْأُولَى بِالِاسْتِحَالَةِ وَيَعْدَمُ الْمَادَّةَ الْأُولَى لَا تَبْقَى جَوَاهِرُهَا بِأَعْيَانِهَا دَائِمًا كَمَا تَقَدَّمَ . فَالنُّظَّارُ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ . مِنْهُمْ مَنْ يُعْرِضُ عَنْ دَلَائِلِهِ الْعَقْلِيَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِهَا لَكِنْ يَغْلَطُ فِي فَهْمِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُهَا عَلَى وَجْهِهَا كَمَا أَنَّهُمْ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ فِي دَلَالَتِهِ الْخَبَرِيَّةِ . مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى غَيْرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ . وَالْأَشْعَرِيُّ وَأَمْثَالُهُ بَرْزَخٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْجَهْمِيَّة . أَخَذُوا مِنْ هَؤُلَاءِ كَلَامًا صَحِيحًا وَمِنْ هَؤُلَاءِ أُصُولًا عَقْلِيَّةً ظَنُّوهَا صَحِيحَةً وَهِيَ فَاسِدَةٌ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ مَالَ إلَيْهِ مِنْ الْجِهَةِ السَّلَفِيَّةِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ مَالَ إلَيْهِ مِنْ الْجِهَةِ الْبِدْعِيَّةِ الْجَهْمِيَّة كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ كَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ .
إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ جَعْلَ الْقُرْآنِ إمَامًا يُؤْتَمُّ بِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ

وَفُرُوعِهِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ . وَهُوَ طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . فَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ يَقْبَلُونَ مِنْ أَحَدٍ قَطُّ أَنْ يُعَارِضَ الْقُرْآنَ بِمَعْقُولِ أَوْ رَأْيٍ يُقَدِّمُهُ عَلَى الْقُرْآنِ . وَلَكِنْ إذَا عَرَضَ لِلْإِنْسَانِ إشْكَالٌ سَأَلَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ . وَلِهَذَا صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد كِتَابًا فِي " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ " . وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ يَرْجِعُونَ فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ إلَى الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ لَا إلَى رَأْيِ أَحَدٍ وَلَا مَعْقُولِهِ وَلَا قِيَاسِهِ . قَالَ الأوزاعي : كُنَّا وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ نَقُولُ : إنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : لَا يُوصَفُ اللَّهُ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ لَا يَتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي خُطْبَةِ " الرِّسَالَةِ " : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ " وَفَوْقَ مَا يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ . وَقَالَ مَالِكٌ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ

وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ . وَكَانَ يَكْرَهُ مَا أَحْدَثَ مِنْ الْكَلَامِ . وَرُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَيُطَافُ بِهِمْ فِي الْأَسْوَاقِ وَيُقَالُ : هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ . وَقَالَ : لَقَدْ اطَّلَعْت مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ عَلَى شَيْءٍ مَا كُنْت أَظُنُّهُ وَلَأَنْ يُبْتَلَى الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاَللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكَلَامِ . وَقَدْ بُسِطَ تَفْسِيرُ كَلَامِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ فِي مَوَاضِعَ وَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْكَلَامِ هُوَ كَلَامُ الْجَهْمِيَّة الَّذِي نَفَوْا بِهِ الصِّفَاتِ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ بِهِ حُدُوثَ الْعَالَمِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْأَعْرَاضِ . وَقَالَ أَحْمَد أَيْضًا : عُلَمَاءُ الْكَلَامِ زَنَادِقَةٌ وَمَا ارْتَدَى أَحَدٌ بِالْكَلَامِ فَأَفْلَحَ . وَكَلَامُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الماجشون مَبْسُوطٌ فِي هَذَا . وَذَكَرَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَنْطِقَ فِي اللَّهِ بِشَيْءِ مِنْ رَأْيِهِ وَلَكِنَّهُ يَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَتَانَا مِنْ خُرَاسَانَ ضَيْفَانِ كِلَاهُمَا ضَالَّانِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُشَبِّهَةُ .

وَعَنْ أَبِي عِصْمَةَ قَالَ : سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ : مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ ؟ قَالَ . مَنْ فَضَّلَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمْرَ وَأَحَبَّ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَلَمْ يُحَرِّمْ نَبِيذَ الْجَرِّ وَلَمْ يُكَفِّرْ أَحَدًا بِذَنْبِ وَرَأَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنْ اللَّهِ وَلَمْ يَنْطِقْ فِي اللَّهِ بِشَيْءِ . وَرَوَى خَالِدُ بْنُ صَبِيحٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : الْجَمَاعَةُ سَبْعَةُ أَشْيَاءَ : أَنْ يُفَضِّلَ أَبَا بَكْر وَعُمَرَ وَأَنْ يُحِبَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَأَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَنْ . مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ وَأَنْ لَا يَنْطِقَ فِي اللَّهِ شَيْئًا . قُلْت : قَوْلُهُ فِي هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ " لَا يَنْطِقُ فِي اللَّهِ شَيْئًا " قَدْ بَيَّنَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ " أَنْ لَا يَنْطِقَ فِي اللَّهِ بِشَيْءِ مِنْ رَأْيِهِ وَلَكِنَّهُ يَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ " . فَهَذَا ذَمٌّ مِنْ الْأَئِمَّةِ لِكُلِّ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ بِغَيْرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ . فَكَيْفَ بالذين يَجْعَلُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَا يُفِيدُ عِلْمًا وَيُقَدِّمُونَ رَأْيَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَعَ فَسَادِهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَرَوَى هُشَامٌ عَنْ مُحَمَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ قَالُوا : السُّنَّةُ الَّتِي عَلَيْهَا أَمْرُ النَّاسِ أَنْ لَا يُكَفَّرَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ وَيَخْرُجَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَلَا يَشُكَّ فِي الدِّينِ يَقُولُ الرَّجُل : لَا أَدْرِي أَمُؤْمِنٌ أَنَا أَوْ كَافِرٌ وَلَا يَقُولُ بِالْقَدَرِ وَلَا يَخْرُجُ

عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالسَّيْفِ وَيُقَدِّمُ مَنْ يُقَدَّمُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُفَضِّلُ مَنْ فُضِّلَ . وَذَكَرُوا عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : مَذْهَبُ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ عِنْدَنَا وَمَا أَدْرَكْنَا عَلَيْهِ جَمَاعَةَ أَهْلِ الْفِقْهِ مِمَّنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ أَنْ لَا يَشْتُمَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَلَا يَذْكُرَ فِيهِمْ عَيْبًا وَلَا يَذْكُرَ مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ فَيُحَرِّفَ الْقُلُوبَ عَنْهُمْ وَأَنْ لَا يَشُكَّ بِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَأَنْ لَا يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِمَّنْ يُقِرُّ بِالْإِسْلَامِ وَيُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَعْصِيَةِ إنْ كَانَتْ فِيهِ ؛ وَلَا يَقُولُ بِقَوْلِ أَهْلِ الْقَدَرِ وَلَا يُخَاصِمُ فِي الدِّينِ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ . فَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ فِي هَذَا كَيْفَ وَلِمَ ؟ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَ السَّائِلَ عَنْ هَذَا إلَّا بِالنَّهْيِ لَهُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَتَرْكِ الْمُجَالَسَةِ وَالْمَشْيِ مَعَهُ إنْ عَادَ . وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنْ يُخَالِطَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ حَتَّى يُصَاحِبَهُ وَيَكُونَ خَاصَّتَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَسْتَزِلَّهُ أَوْ يَسْتَزِلَّ غَيْرَهُ بِصُحْبَةِ هَذَا . قَالَ : وَالْخُصُومَةُ فِي الدِّينِ بِدْعَةٌ وَمَا يَنْقُضُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ . لَوْ كَانَتْ فَضْلًا لَسَبَقَ إلَيْهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعُهُمْ فَهُمْ كَانُوا عَلَيْهَا أَقْوَى وَلَهَا أَبْصَرُ . وَقَالَ

اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْجِدَالِ . وَلَوْ شَاءَ لَأَنْزَلَ حُجَجًا وَقَالَ لَهُ : قُلْ كَذَا وَكَذَا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : دَعُوا قَوْلَ أَصْحَابِ الْخُصُومَاتِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ فِي الْأَهْوَاءِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَالشِّيعَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة . قَالُوا : وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ : أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ أَفْضَلُ مِنْ عَلِيٍّ . قُلْت مَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي أَمْرِ الْجِدَالِ هُوَ يُشْبِهُ كَلَامَ كَثِيرٍ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ يُشْبِهُ كَلَامَ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَفِيهِ بَسْطٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَلِهَذَا كَانَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ صَاحِبُ أَبِي يُوسُفَ يُحِبُّ أَحْمَد وَيَمِيلُ إلَيْهِ . فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ كَانَ أَمْيَلَ إلَى الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
السُّورُ الْقِصَارُ فِي أَوَاخِرِ الْمُصْحَفِ مُتَنَاسِبَةٌ . فَسُورَةُ ( اقْرَأْ هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ ؛ وَلِهَذَا اُفْتُتِحَتْ بِالْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَخُتِمَتْ بِالْأَمْرِ بِالسُّجُودِ وَوُسِّطَتْ بِالصَّلَاةِ الَّتِي أَفْضَلُ أَقْوَالِهَا وَأَوَّلُهَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ هُوَ الْقِرَاءَةُ وَأَفْضَلُ أَفْعَالِهَا وَآخِرُهَا قَبْلَ التَّحْلِيلِ هُوَ السُّجُودُ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا أُمِرَ بِأَنْ يَقْرَأَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بَعْدَهَا الْمُدَّثِّرُ لِأَجْلِ التَّبْلِيغِ فَقِيلَ لَهُ : { قُمْ فَأَنْذِرْ } فَبِالْأُولَى صَارَ نَبِيًّا وَبِالثَّانِيَةِ صَارَ رَسُولًا ؛ وَلِهَذَا خُوطِبَ بِالْمُتَدَثِّرِ وَهُوَ الْمُتَدَفِّئُ مِنْ بَرْدِ الرُّعْبِ وَالْفَزَعِ الْحَاصِلُ بِعَظَمَةِ مَا دَهَمَهُ لَمَّا رَجَعَ إلَى خَدِيجَةَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ وَقَالَ دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي فَكَأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الِاسْتِدْفَاءِ وَأَمْرٌ بِالْقِيَامِ لِلْإِنْذَارِ كَمَا خُوطِبَ فِي ( الْمُزَّمِّلِ ) وَهُوَ الْمُتَلَفِّفُ لِلنَّوْمِ لَمَّا أُمِرَ بِالْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ فَلَمَّا أُمِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالْقِرَاءَةِ ذَكَرَ فِي الَّتِي تَلِيهَا نُزُولَ الْقُرْآنِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَذَكَرَ فِيهَا تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ وَفِي ( الْمَعَارِجِ ) عُرُوجَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ وَفِي ( النَّبَأِ ) قِيَامَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ . فَذَكَرَ الصُّعُودَ وَالنُّزُولَ وَالْقِيَامَ ثُمَّ

فِي الَّتِي تَلِيهَا تِلَاوَتَهُ عَلَى الْمُنْذَرِينَ حَيْثُ قَالَ : { يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } . فهذه السُّوَرُ الثَّلَاثُ مُنْتَظِمَةٌ لِلْقُرْآنِ أَمْرًا بِهِ وَذِكْرًا لِنُزُولِهِ وَلِتِلَاوَةِ الرَّسُولِ لَهُ عَلَى الْمُنْذَرِينَ ثُمَّ سُورَةُ ( الزَّلْزَلَةِ ) و ( الْعَادِيَّاتِ ) و ( الْقَارِعَةِ ) و ( التَّكَاثُرِ ) مُتَضَمِّنَةٌ لِذِكْرِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قِيلَ هُوَ النَّبَأُ الْعَظِيمُ . ثُمَّ سُورَةُ ( الْعَصْرِ ) و ( الْهُمَزَةِ ) و ( الْفِيلِ ) و ( لِإِيلَافِ ) و ( أَرَأَيْت ) و ( الْكَوْثَرِ ) و ( الْكَافِرُونَ ) و ( النَّصْرِ ) و ( تَبَّتْ ) مُتَضَمِّنَةٌ لِذِكْرِ الْأَعْمَالِ حَسَنِهَا وَسَيِّئِهَا وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ سُورَةٍ خَاصَّةٌ . وَأَمَّا سُورَةُ ( الْإِخْلَاصِ و ( الْمُعَوِّذَتَانِ فَفِي الْإِخْلَاصِ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ وَفِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ دُعَاءُ الْعَبْدِ رَبَّهُ لِيُعِيذَهُ وَالثَّنَاءُ مَقْرُونٌ بِالدُّعَاءِ كَمَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي أُمِّ الْقُرْآنِ الْمَقْسُومَةِ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ : نِصْفُهَا ثَنَاءٌ لِلرَّبِّ وَنِصْفُهَا دُعَاءٌ لِلْعَبْدِ وَالْمُنَاسَبَةُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الرِّسَالَةِ وَهُوَ الْقُرْآنُ ثُمَّ الْإِيمَانُ بِمَقْصُودِ ذَلِكَ وَغَايَتُهُ وَهُوَ مَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ إلَيْهِ مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ : وَهُوَ الْجَزَاءُ ثُمَّ مَعْرِفَةُ طَرِيقِ الْمَقْصُودِ وَسَبَبُهُ وَهُوَ الْأَعْمَالُ : خَيْرُهَا لِيَفْعَلَ وَشَرُّهَا لِيَتْرُكَ .

ثُمَّ خَتَمَ الْمُصْحَفَ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ كَمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ أُمُّ الْقُرْآنِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ الْمَعْنَوِيَّةَ هُوَ الْمَنْطِقُ وَالْمَنْطِقُ قِسْمَانِ : خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ وَأَفْضَلُ الْخَبَرِ وَأَنْفَعُهُ وَأَوْجَبُهُ مَا كَانَ خَبَرًا عَنْ اللَّهِ كَنِصْفِ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَأَفْضَلُ الْإِنْشَاءِ الَّذِي هُوَ الطَّلَبُ وَأَنْفَعُهُ وَأَوْجَبُهُ مَا كَانَ طَلَبًا مِنْ اللَّهِ كَالنِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْن .

سُورَةُ الْبَيِّنَةِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي قَوْله تَعَالَى . { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } . فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ سُورَةٌ جَلِيلَةُ الْقَدْرِ وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا فَضَائِلُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقْرَأَهَا عَلَى أبي بْنِ كَعْبٍ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ { رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأبي : إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك الْقُرْآنَ . قَالَ : آللَّهُ سَمَّانِي لَك ؟ قَالَ : اللَّهُ سَمَّاك لِي قَالَ : فَجَعَلَ أبي يَبْكِي } . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : { إنَّ اللَّه أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك . { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } . قَالَ : سَمَّانِي لَك ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَبَكَى } . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ : { وَذُكِرْت عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ . } قَالَ قتادة : أُنْبِئْت

أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } . وَتَخْصِيصُ هَذِهِ السُّورَةِ بِقِرَاءَتِهَا عَلَى أبي يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهَا وَامْتِيَازَهَا بِمَا اقْتَضَى ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ : { أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك } أَيْ قِرَاءَةَ تَبْلِيغٍ وَإِسْمَاعٍ وَتَلْقِينٍ لَيْسَ هِيَ قِرَاءَةَ تَلْقِينٍ فِي تَصْحِيحٍ كَمَا يَقْرَأُ الْمُتَعَلِّمُ عَلَى الْمُعَلِّمِ . فَإِنَّ هَذَا قَدْ ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ . وَجَعَلَ أَبُو حَامِدٍ هَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَوَاضُعِ الْمُتَعَلِّمِ وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءِ . فَإِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ كَانَ يَقْرَؤُهَا عَلَى جِبْرِيلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍّ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ . وَأَمَّا النَّاسُ فَمِنْهُ تَعَلَّمُوهُ فَكَيْفَ يُصَحِّحُ قِرَاءَتَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ يَقْرَأُ كَمَا يَقْرَأُ الْمُتَعَلِّمُ ؟ وَلَكِنَّ قِرَاءَتَهُ عَلَى أبي بْنِ كَعْبٍ كَمَا كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . فَقَدْ قَرَأَ عَلَى الْجِنِّ الْقُرْآنَ . وَكَانَ إذَا خَرَجَ إلَى النَّاسِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ . وَيَقْرَؤُهُ عَلَى النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ . قَالَ تَعَالَى : { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا

سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } . وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . فَهُوَ يَتْلُو عَلَى الْمُؤْمِنِينَ آيَاتِ اللَّهِ . وأبي بْنُ كَعْبٍ أَمَرَ بِتَخْصِيصِهِ بِالتِّلَاوَةِ عَلَيْهِ لِفَضِيلَةِ أبي وَاخْتِصَاصِهِ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : أبي أَقْرَؤُنَا وَعَلِيٌّ أَقْضَانَا . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ : اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ . قَالَ : أَقْرَأُ عَلَيْك وَعَلَيْك أُنْزِلَ ؟ قَالَ : إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي } . فَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِإِسْمَاعِهِ إيَّاهُ لَا لِأَجْلِ التَّصْحِيحِ وَالتَّلْقِينِ . وَفِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُنْفَكِّينَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . هَلْ الْمُرَادُ لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ الْكُفْرِ . أَوْ هَلْ لَمْ يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدِ حَتَّى بُعِثَ فَلَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَالتَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِهِ حَتَّى بُعِثَ . أَوْ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ حَتَّى يُرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولٌ ؟

وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا أَبُو الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ . قَالَ : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَهْم عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ { مُنْفَكِّينَ } أَيْ مُنْفَصِلِينَ وَزَائِلِينَ . يُقَالُ : فَكَكْت الشَّيْءَ فَانْفَكَّ أَيْ انْفَصَلَ . وَالْمَعْنَى : لَمْ يَكُونُوا زَائِلِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ حَتَّى أَتَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . لَفْظُهُ لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي . وَالْبَيِّنَةُ الرَّسُولُ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لَهُمْ ضَلَالَهُمْ وَجَهْلَهُمْ . وَهَذَا بَيَانٌ عَنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى مَنْ آمَنُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إذْ أَنْقَذَهُمْ بِهِ . وَلَفْظُ البغوي نَحْوُ هَذَا . قَالَ : لَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَقَالَ : أَهْلُ اللُّغَةِ : " مُنْفَكِّينَ " مُنْفَصِلِينَ زَائِلِينَ يُقَالُ : فَكَكْت الشَّيْءَ فَانْفَكَّ أَيْ انْفَصَلَ . { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } لَفْظُهُ مُسْتَقْبَلٌ وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي أَيْ حَتَّى أَتَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ يَعْنِي مُحَمَّدًا أَتَاهُمْ بِالْقُرْآنِ فَبَيَّنَ لَهُمْ ضَلَالَتَهُمْ وَجَهَالَتَهُمْ وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ . فَأَنْقَذَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ . وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَذَا . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ نَبِيًّا حَتَّى بَعَثَ فَافْتَرَقُوا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ حُجَجِ اللَّهِ حَتَّى أُقِيمَتْ عَلَيْهِمْ الْبَيِّنَةُ .

قَالَ : وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ . وَذَكَرَ الثَّلَاثَةُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ عَطِيَّةَ لَكِنَّ الثَّالِثَ وَجَّهَهُ وَقَوَّاهُ وَلَمْ يَحْكِهِ عَنْ غَيْرِهِ . فَقَالَ : قَوْلُهُ : { مُنْفَكِّينَ } أَيْ مُنْفَصِلِينَ مُتَفَرِّقِينَ . تَقُولُ : انْفَكَّ الشَّيْءُ عَنْ الشَّيْءِ إذَا انْفَصَلَ عَنْهُ . قَالَ : و " مَا انْفَكَّ " الَّتِي هِيَ مِنْ أَخَوَاتِ " كَانَ " لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ أَنْ يَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ مُنْفَكَّةً . قَالَ : وَاخْتَلَفَ النَّاسُ عَنْ مَاذَا ؟ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ وَأَوْقَعَ الْمُسْتَقْبَلَ مَوْقِعَ الْمَاضِي فِي { تَأْتِيهِمْ } لِأَنَّ بَأْسَ الشَّرِيعَةِ وَعِظَمَهَا لَمْ يَجِئْ بَعْدُ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ مَعْرِفَةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوَكُّدُ لِأَمْرِهِ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ فَتَفَرَّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ : وَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إلَى أَنَّ هَذَا الْمَنْفِيَّ الْمُتَقَدِّمَ مَعَ " مُنْفَكِّينَ " بِجَعْلِهِمْ تِلْكَ هِيَ مَعَ " كَانَ " وَيُرْوَى التَّقْدِيرُ فِي خَبَرِهَا " عَارِفِينَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ " أَوْ نَحْوَ هَذَا . قَالَ : وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ بَارِعُ الْمَعْنَى . وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : لَمْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ مُنْفَكِّينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَنَظَرِهِ لَهُمْ حَتَّى

يَبْعَثُ إلَيْهِمْ رَسُولًا مُنْذِرًا تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ وَتَتِمُّ عَلَى مَنْ آمَنَ النِّعْمَةَ فَكَأَنَّهُ قَالَ : مَا كَانُوا [ ل ] (1) يُتْرَكُوا سُدًى . قَالَ : وَلِهَذَا الْمَعْنَى نَظَائِرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ . وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ . لَكِنَّ الثَّالِثَ حَكَاهُ عَمَّنْ جَعَلَ مَقْصُودَهُ إهْلَاكَهُمْ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَجَعَلَ " مُنْفَكِّينَ " بِمَعْنَى هَالِكِينَ . فَقَالَ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ مُنْتَهِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ . وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : زَائِلِينَ . تَقُولُ الْعَرَبُ : مَا انْفَكَّ فُلَانٌ يَفْعَلُ كَذَا أَيْ مَا زَالَ . وَأَصْلُ الْفَكِّ : الْفَتْحُ وَمِنْهُ فَكُّ الْكِتَابِ وَفَكُّ الْخَلْخَالِ . { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَهُوَ مُحَمَّدٌ أَتَاهُمْ بِالْقُرْآنِ فَبَيَّنَ ضَلَالَتَهُمْ وَجَهَالَتَهُمْ . وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ . قَالَ وَقَالَ ابْنُ كيسان : مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ تَارِكِينَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِمْ حَتَّى بُعِثَ فَلَمَّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا فِيهِ . وَقَالَ : قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إلَى قَوْلِهِ : { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } حُكْمُهَا فِيمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ . { وَمَا تَفَرَّقَ } حُكْمُهُ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ .

قَالَ وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ : قَوْلُهُ { مُنْفَكِّينَ } أَيْ هَالِكِينَ . مِنْ قَوْلِهِمْ : انْفَكَّ صَلَا الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَهُوَ أَنْ يَنْفَصِلَ وَلَا يَلْتَئِمَ فَتَهْلِكَ . وَمَعْنَى الْآيَةِ : لَمْ يَكُونُوا هَالِكِينَ مُكَذِّبِينَ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ . وَقَدْ ذَكَرَ البغوي هَذَا وَالْأَوَّلَ . قَالَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ . ( قُلْت : الْقَوْلُ الثَّانِي الَّذِي حَكَاهُ عَنْ ابْنِ كيسان هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ . وَقَدْ قَدَّمَهُ المهدوي عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ : { مُنْفَكِّينَ } مِنْ " انْفَكَّ الشَّيْءُ مِنْ الشَّيْءِ " إذَا فَارَقَهُ . وَالْمَعْنَى لَمْ يَكُونُوا مُتَفَرِّقِينَ إلَّا إذَا جَاءَهُمْ الرَّسُولُ لِمُفَارَقَتِهِمْ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ خَبَرِهِ وَصِفَتِهِ . وَكُفْرِهِمْ بَعْدَ الْبَيِّنَاتِ . قَالَ : وَلَا يَحْتَاجُ { مُنْفَكِّينَ } عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إلَى خَبَرٍ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } . قَالَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ : الْمَعْنَى لَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ . وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا : لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ . قَالَ وَقَالَ الْفَرَّاءُ : لَمْ يَكُونُوا تَارِكِينَ ذِكْرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذِكْرِ النَّبِيِّ حَتَّى ظَهَرَ . فَلَمَّا ظَهَرَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا .

قُلْت : هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ . لَكِنَّ الْفَرَّاءَ وَابْنَ كيسان جَعَلَ الِانْفِكَاكَ مُفَارَقَتَهُمْ وَتَرْكَهُمْ لِذِكْرِهِ وَخَبَرِهِ وَالْبِشَارَةِ بِهِ . أَيْ لَمْ يَكُونُوا مُفَارِقِينَ تَارِكِينَ لِمَا عَلِمُوهُ مِنْ خَبَرِهِ حَتَّى ظَهَرَ . فَانْفَكُّوا حِينَئِذٍ . وَذَاكَ يَقُولُ : لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ أَيْ مُتَفَرِّقِينَ إلَّا إذَا جَاءَ الرَّسُولُ لِمُفَارَقَتِهِمْ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ خَبَرِهِ . وَهُوَ مَعْنَى مَا حَكَاهُ أَبُو الْفَرَجِ : لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ نَبِيًّا حَتَّى بُعِثَ فَافْتَرَقُوا . فَالِانْفِكَاكُ انْفِكَاكُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ أَوْ انْفِكَاكُهُمْ عَمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِهِ وَخَبَرِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لَمْ يَرِدْ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَطْعًا . فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ أَهْلَ الْكِتَابِ بَلْ ذَكَرَ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ وَيَجِدُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ كَمَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَلَا كَانُوا قَبْلَ مَبْعَثِهِ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ مُتَّفِقِينَ عَلَيْهِ . فَلَمَّا جَاءَ تَفَرَّقُوا . فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ : لَمْ يَكُنْ الْمُشْرِكُونَ تَارِكِينَ لِمَعْرِفَةِ مُحَمَّدٍ وَذِكْرِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ . وَلَمْ يَكُونُوا مُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ وَلَا مُتَفَرِّقِينَ فِيهِ حَتَّى بُعِثَ . فَهَذَا مَعْنًى بَاطِلٌ فِي الْمُشْرِكِينَ . وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا أَيْضًا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ . فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا ذَكَرَ الْكُفَّارَ مِنْهُمْ فَقَالَ : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

وَالْمُشْرِكِينَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ نُبُوَّتَهُ وَيُقِرُّونَ بِهِ وَيَذْكُرُونَهُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ لَمْ يَكُونُوا كُلَّهُمْ كُفَّارًا . بَلْ كَانَ الْإِيمَانُ أَغْلَبَ عَلَيْهِمْ . يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ تَفَرُّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ فَإِنَّهُ يَعُمُّهُمْ فَيَقُولُ : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } . وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ : كَانَ الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . وَأَيْضًا فَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الِانْفِكَاكِ " فِي هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ لَهُ شَاهِدٌ . فَتَسْمِيَةُ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ " انْفِكَاكًا " غَيْرُ مَعْرُوفٍ . وَأَيْضًا فَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ ل { مُنْفَكِّينَ } خَبَرًا كَمَا يُقَالُ : مَا انْفَكُّوا يَذْكُرُونَ مُحَمَّدًا وَمَا زَالُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَهَذِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَخَوَاتِ " كَانَ " لَا يُقَالُ فِيهَا " مَا كُنْت مُنْفَكًّا " بَلْ يُقَالُ " مَا انْفَكَكْت أَفْعَلُ كَذَا " فَهُوَ يَلِي حَرْفَ " مَا " . وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِانْفِكَاكَ عَنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً . وَأَيْضًا فَهَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا

الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } . فَلَوْ أُرِيدَ بِهَذِهِ لَكَانَ تَكْرِيرًا مَحْضًا . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ : أَشْهَرُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ غَيْرَهُ كالبغوي وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ كَمَا فِي التَّفْسِيرِ الْمَعْرُوفِ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ : { مُنْفَكِّينَ } قَالَ : مُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : لَمْ يَزَالُوا مُقِيمِينَ عَلَى الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ وَالرُّسُلُ . وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَضَمَّنُ مَدْحَهُمْ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَةِ وَلِهَذَا احْتَاجَ مَنْ قَالَهُ إلَى أَنْ يَقُولَ : هَذَا فِيمَنْ آمَنُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَنَّهُ بَيَانٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وَجَعَلُوا قَوْلَهُ : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وهذا أَيْضًا ضَعِيفٌ . فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا قَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ إلَيْهِمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } { وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إلَّا مِنْ

بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . وَقَالَ : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } ثُمَّ قَالَ { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ هَدَى الْمُؤْمِنِينَ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ . فَكَانَ الِاخْتِلَافُ قَبْلَ وُجُودِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ

الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُوَ حِينَ يُبْعَثُ مُحَمَّدٌ وَلِيُّهُمْ وَأَنَّهُ أَنْزَلَ إلَيْهِمْ الْكِتَابَ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } { وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . فَهَذَا بَيَّنَ أَنَّهُمْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ أُمَّتَهُ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ عَنْ الْيَهُودِ : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ } . وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ فِي السُّنَنِ وَالْمَسْنَدِ مِنْ وُجُوهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَفَرَّقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً } . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ كَابْنِ حَزْمٍ يُضَعِّفُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبِلُوهَا وَصَدَّقُوهَا .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ . فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { نَحْنُ الآخرون السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ . فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ . النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ غَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَد لِلنَّصَارَى } . وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ اخْتَلَفُوا وَتَفَرَّقُوا قَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . بَلْ الْيَهُودُ افْتَرَقُوا قَبْلَ مَجِيءِ الْمَسِيحِ ثُمَّ لَمَّا جَاءَ الْمَسِيحُ اخْتَلَفُوا فِيهِ . ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّصَارَى اخْتِلَافًا آخَرَ . فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ قَوْلَهُ { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } هُوَ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدِ مِنْهُمْ ؟ . وَأَيْضًا فَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدِ كُفَّارٌ وَهُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } .

الْبَيِّنَةُ } . وَهُمْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ قَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ . وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بَلْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ نَظَرَ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ إلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَإِنَّ رَبِّي قَالَ لِي : قُمْ فِي قُرَيْشٍ فَأَنْذِرْهُمْ . فَقُلْت : أَيْ رَبِّ إذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي حَتَّى يَدَعُوهُ خُبْزَةً . فَقَالَ : إنِّي مُبْتَلِيك وَمُبْتَلٍ بِك وَمُنْزِلٌ عَلَيْك كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَأهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَا . فَابْعَثْ جُنْدًا نَبْعَثُ مِثْلَيْهِمْ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَك مَنْ عَصَاك } وَالْحَدِيثُ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى الْآيَةِ فَنَقُولُ : الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ لَفْظًا وَمَعْنًى . أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَدَلَالَتِهِ وَبَيَانِهِ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا يَلْزَمُ بِهِ الْإِنْسَانُ يَعْنِي اخْتِيَارَهُ وَيَقْهَرُ عَلَيْهِ إذَا تَخَلَّصَ مِنْهُ . يُقَالُ : انْفَكَّ مِنْهُ كَالْأَسِيرِ وَالرَّقِيقِ الْمَقْهُورِ بِالرِّقِّ وَالْأَسْرِ . يُقَالُ : فَكَكْت الْأَسِيرَ فَانْفَكَّ وَفَكَكْت الرَّقَبَةَ . قَالَ تَعَالَى { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ } { فَكُّ رَقَبَةٍ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ : { عُودُوا الْمَرِيضَ وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ : وَفُكُّوا الْعَانِي } . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا سُئِلَ عَمَّا فِي الصَّحِيفَةِ فَقَالَ : فِيهَا الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ . فَفَكُّهُ : فَصْلُهُ عَمَّنْ يَقْهَرُهُ وَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا . وَيُقَالُ : فُلَانٌ مَا يَفُكُّ فُلَانًا حَتَّى يُوقِعَهُ فِي كَذَا وَكَذَا وَالْمُتَوَلِّي لَا يَفُكُّ هَذَا حَتَّى يَفْعَلَ كَذَا يُقَالُ لِمَنْ لَزِمَ غَيْرَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ إمَّا بِقُدْرَةِ وَقَهْرٍ وَإِمَّا بِتَحْسِينِ وَتَزْيِينٍ وَأَسْبَابٍ حَتَّى يَصِيرَ بِهَا مُطِيعًا لَهُ .

وَيُقَالُ لِلْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ : هُوَ مَا يَنْفَكُّ مِنْ هَذَا كَمَا لَا يَنْفَكُّ الْأَسِيرُ وَالرَّقِيقُ مِنْ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ . فَقَوْلُهُ { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ } أَيْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ بِاخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ يَفْعَلُونَ مَا يَهْوَوْنَهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِمْ كَمَا أَنَّ الْمُنْفَكَّ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ . وَهُوَ لَمْ يَقُلْ " مَفْكُوكِينَ " بَلْ قَالَ { مُنْفَكِّينَ } . وَهَذَا أَحْسَنُ فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِفِعْلِهِمْ . وَلَوْ قَالَ " مَفْكُوكِينَ " كَانَ التَّقْدِيرُ : لَمْ يَكُونُوا مُسَيِّبِينَ مُخِلِّينَ فَهُوَ نَفْيٌ لِفِعْلِ غَيْرِهِمْ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ وَلَا تُرْسَلُ إلَيْهِمْ رُسُلٌ بَلْ يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا مِمَّا تَهْوَاهُ الْأَنْفُسُ . وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مَا يُخَلِّيهِمْ وَلَا يَتْرُكُهُمْ . فَهُوَ لَا يَفُكُّهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولًا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى . أَيْ أَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَكُونُ ؟ هَذَا مَا لَا يَكُونُ أَلْبَتَّةَ ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْمَرَ وَيُنْهَى . وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } { أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ } . وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ أَيْ لِأَجْلِ إسْرَافِكُمْ نَتْرُكُ إنْزَالَ الذِّكْرِ وَنُعْرِضُ عَنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ . وَمَنْ كَرِهَ إرْسَالَهُمْ ؟

فَإِنَّ الْأَوَّلَ تَكْذِيبٌ بِوُجُودِهِمْ وَالثَّانِي يَتَضَمَّنُ بُغْضَهُمْ وَكَرَاهَةَ مَا جَاءُوا بِهِ . قَالَ تَعَالَى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَالَ عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ } وَأَمَّا مَنْ كَذَّبَ بِهِمْ بَعْدَ الْإِرْسَالِ فَكُفْرُهُ ظَاهِرٌ . وَلَكِنْ مَنْ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ إلَيْهِ رَسُولًا وَأَنَّهُ يُتْرَكُ سُدًى مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا ذَمَّهُ اللَّهُ إذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ كَمَا أَنَّهُ أَيْضًا لَا بُدَّ مِنْ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَقِيَامِ الْقِيَامَةِ . وَلِهَذَا يُنْكِرُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فَقَالَ تَعَالَى { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } { إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } وَقَالَ { وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }

وَقَالَ عَنْ أُولِي الْأَلْبَابِ : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وَنَحْوُهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَالْمَعَادَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ . وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَوْ حَسِبَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ . وَهُوَ يَقْتَضِي وُجُوبَ وُقُوعِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَقَعُ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُصَدِّقِينَ لِلرُّسُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ جِهَةِ تَصْدِيقِ الْخَبَرِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ . فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ مُخْبِرِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ بِحُكْمِ وَعْدِهِ وَخَبَرِهِ . فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ . فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ مَا عَلِمَهُ وَأَخْبَرَ بِهِ وَكَتَبَهُ وَقَدَّرَهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ شَاءَ ذَلِكَ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ كُلُّ مَا شَاءَهُ .