37.مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)
== كَانَتْ صَلَاتُهُ الْفَرِيضَةَ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ وَغَيْرَهُمَا : كَانَتْ صَلَاتُهُ مُعْتَدِلَةً فَإِنْ فَضَّلَ مُفَضِّلٌ إطَالَةَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ تَقْلِيلِ الرَّكَعَاتِ وَتَخْفِيفِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ : فَهَذَانِ مُتَقَارِبَانِ . وَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ فِي حَالٍ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا صَلَّى الضُّحَى يَوْمَ الْفَتْحِ صَلَّى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ يُخَفِّفُهُنَّ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ . وَكَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ لَمَّا شَقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ إطَالَةُ الْقِيَامِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقُنُوتَ يَكُونُ عِنْدَ النَّوَازِلِ وَأَنَّ الدُّعَاءَ فِي الْقُنُوتِ لَيْسَ شَيْئًا مُعَيَّنًا وَلَا يَدْعُو بِمَا خَطَرَ لَهُ بَلْ يَدْعُو مِنْ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ بِمَا يُنَاسِبُ سَبَبَ الْقُنُوتِ كَمَا أَنَّهُ إذَا دَعَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ دَعَا بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقْصُودَ فَكَذَلِكَ إذَا دَعَا فِي الِاسْتِنْصَارِ دَعَا بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقْصُودَ كَمَا لَوْ دَعَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لِذَلِكَ السَّبَبِ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقْصُودَ فَهَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ مِنْ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ الَّتِي يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ فَإِنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ يُسَنُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَنَحْوِهِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِسُنَّةِ رَاتِبَةٍ وَلَا يَسْجُدُ لَهُ لَكِنْ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا فِي ذَلِكَ لَهُ تَأْوِيلُهُ كَسَائِرِ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ . وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَتْبَعَ إمَامَهُ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ
فَإِذَا
قَنَتَ قَنَتَ مَعَهُ وَإِنْ تَرَكَ الْقُنُوتَ لَمْ يَقْنُتْ فَإِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ
لِيُؤْتَمَّ بِهِ } وَقَالَ : { لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى أَئِمَّتِكُمْ } .
وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ
أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } . أَلَا
تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ قَرَأَ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِسُورَةِ مَعَ
الْفَاتِحَةِ وَطَوَّلَهُمَا عَلَى الْأُولَيَيْنِ : لَوَجَبَتْ مُتَابَعَتُهُ فِي
ذَلِكَ . فَأَمَّا مُسَابَقَةُ الْإِمَامِ فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ . فَإِذَا
قَنَتَ لَمْ يَكُنْ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُسَابِقَهُ : فَلَا بُدَّ مِنْ
مُتَابَعَتِهِ وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَدْ أَنْكَرَ عَلَى
عُثْمَانَ التَّرْبِيعَ بِمِنَى ثُمَّ إنَّهُ صَلَّى خَلْفَهُ أَرْبَعًا . فَقِيلَ
لَهُ : فِي ذَلِكَ فَقَالَ : الْخِلَافُ شَرٌّ . وَكَذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
لَمَّا سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ وَقْتِ الرَّمْيِ فَأَخْبَرَهُ ثُمَّ قَالَ : افْعَلْ
كَمَا يَفْعَلُ إمَامُك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ لِرَجُلِ يَؤُمُّ
قَوْمًا فَيَخُصُّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَهُمْ فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ
خَانَهُمْ } . فَهَلْ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنَّهُ كُلَّمَا دَعَا اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَشْرَكَ الْمَأْمُومِينَ ؟ وَهَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَخُصُّ نَفْسَهُ بِدُعَائِهِ
فِي صَلَاتِهِ دُونَهُمْ ؟
فَكَيْفَ
الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ . أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ . مَا تَقُولُ ؟ قَالَ :
أَقُولُ : اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ . كَمَا بَاعَدْت
بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى
الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ
بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ } فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي
أَنَّهُ دَعَا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً وَكَانَ إمَامًا . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ
فِي الِاسْتِفْتَاحِ الَّذِي أَوَّلُهُ { وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ - فِيهِ - فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي
لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا فَإِنَّهُ لَا يَصْرِفُ
عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ } . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ
كَانَ يَقُولُ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ الرُّكُوعِ بَعْدَ قَوْلِهِ : { لَا
مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت } { اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي
مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ
الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ } . وَجَمِيعُ
هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ فِي دُعَائِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ مِنْ
فِعْلِهِ وَمِنْ أَمْرِهِ لَمْ يُنْقَلْ فِيهَا إلَّا لَفْظُ الْإِفْرَادِ .
كَقَوْلِهِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ
عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ
الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } . وَكَذَا دُعَاؤُهُ بَيْنَ
السَّجْدَتَيْنِ وَهُوَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكِلَاهُمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ إمَامًا أَحَدُهُمَا بِحُذَيْفَةَ وَالْآخَرُ بِابْنِ عَبَّاسٍ . وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ { رَبِّ اغْفِرْ لِي رَبِّ اغْفِرْ لِي } وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ { اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي } وَنَحْوُ هَذَا فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَدْعُو فِي هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ . وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَيْثُ يَرَوْنَ أَنَّهُ يَشْرَعُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ . وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ إنْ صَحَّ فَالْمُرَادُ بِهِ الدُّعَاءُ الَّذِي يُؤَمِّنُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ : كَدُعَاءِ الْقُنُوتِ فَإِنَّ الْمَأْمُومَ إذَا أَمَّنَ كَانَ دَاعِيًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ : { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَدْعُو وَالْآخَرُ يُؤَمِّنُ . وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ مُؤَمِّنًا عَلَى دُعَاءِ الْإِمَامِ فَيَدْعُو بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَمَا فِي دُعَاءِ الْفَاتِحَةِ فِي قَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } فَإِنَّ الْمَأْمُومَ إنَّمَا أَمَّنَ لِاعْتِقَادِهِ . أَنَّ الْإِمَامَ يَدْعُو لَهُمَا جَمِيعًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ خَانَ الْإِمَامُ الْمَأْمُومَ . فَأَمَّا الْمَوَاضِعُ الَّتِي يَدْعُو فِيهَا كُلُّ إنْسَانٍ لِنَفْسِهِ كَالِاسْتِفْتَاحِ وَمَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَمَا أَنَّ الْمَأْمُومَ يَدْعُو لِنَفْسِهِ فَالْإِمَامُ يَدْعُو لِنَفْسِهِ . كَمَا يُسَبِّحُ الْمَأْمُومُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إذَا سَبَّحَ الْإِمَامُ فِي
الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ وَكَمَا يَتَشَهَّدُ إذَا تَشَهَّدَ وَيُكَبِّرُ إذَا كَبَّرَ فَإِنْ
لَمْ يَفْعَلْ الْمَأْمُومُ ذَلِكَ فَهُوَ الْمُفَرِّطُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ
كَانَ صَحِيحًا صَرِيحًا مُعَارِضًا لِلْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ
الْمُتَوَاتِرَةِ وَلِعَمَلِ الْأُمَّةِ وَالْأَئِمَّةِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ
فَكَيْفَ وَلَيْسَ مِنْ الصَّحِيحِ وَلَكِنْ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ حَسَنٌ وَلَوْ
كَانَ فِيهِ دَلَالَةٌ لَكَانَ عَامًّا وَتِلْكَ خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ يَقْضِي
عَلَى الْعَامِّ . ثُمَّ لَفْظُهُ { فَيَخُصُّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةِ دُونَهُمْ }
يُرَادُ بِمِثْلِ هَذَا إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ دُعَاءٌ وَهَذَا لَا يَكُونُ
مَعَ تَأْمِينِهِمْ . وَأَمَّا مَعَ كَوْنِهِمْ مُؤَمِّنِينَ عَلَى الدُّعَاءِ
كُلَّمَا دَعَا فَيَحْصُلُ لَهُمْ كَمَا حَصَلَ لَهُ بِفِعْلِهِمْ وَلِهَذَا جَاءَ
دُعَاءُ الْقُنُوتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ : { اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك
وَنَسْتَهْدِيك } إلَى آخِرِهِ . فَفِي مِثْلِ هَذَا يَأْتِي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ
وَيَتَّبِعُ السُّنَّةَ عَلَى وَجْهِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ : هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَمْ
بِدْعَةٌ ؟ وَذَكَرُوا أَنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ صَلَّاهَا بَعْدَ
الْمَغْرِبِ وَتَمَّمَهَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، السُّنَّةُ فِي التَّرَاوِيحِ أَنْ
تُصَلَّى بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ
وَالْأَئِمَّةُ . وَالنَّقْلُ الْمَذْكُورُ عَنْ
الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَاطِلٌ فَمَا كَانَ الْأَئِمَّةُ يُصَلُّونَهَا إلَّا بَعْدَ الْعِشَاءِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَعَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ تَعَمَّدَ صَلَاتَهَا قَبْلَ الْعِشَاءِ فَإِنَّ هَذِهِ تُسَمَّى قِيَامَ رَمَضَانَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَ رَمَضَانَ وَسَنَنْت لَكُمْ قِيَامَهُ فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } . وَقِيَامُ اللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْعِشَاءِ . وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي السُّنَنِ { أَنَّهُ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ قِيَامَ رَمَضَانَ صَلَّى بَعْدَ الْعِشَاءِ } . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامَهُ بِاللَّيْلِ هُوَ وِتْرَهُ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِ رَمَضَانَ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً لَكِنْ كَانَ يُصَلِّيهَا طِوَالًا . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ قَامَ بِهِمْ أبي بْنُ كَعْبٍ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِشْرِينَ رَكْعَةً يُوتِرُ بَعْدَهَا وَيُخَفِّفُ فِيهَا الْقِيَامَ فَكَانَ تَضْعِيفُ الْعَدَدِ عِوَضًا عَنْ طُولِ الْقِيَامِ . وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُومُ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً فَيَكُونُ قِيَامُهَا أَخَفَّ وَيُوتِرُ بَعْدَهَا بِثَلَاثِ . وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُومُ بِسِتِّ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً يُوتِرُ بَعْدَهَا وَقِيَامُهُمْ الْمَعْرُوفُ عَنْهُمْ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ . وَلَكِنْ الرَّافِضَةُ تَكْرَهُ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ . فَإِذَا صَلَّوْهَا قَبْلَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ لَا تَكُونُ هِيَ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ كَمَا أَنَّهُمْ إذَا تَوَضَّئُوا يَغْسِلُونَ
أَرْجُلَهُمْ
أَوَّلَ الْوُضُوءِ وَيَمْسَحُونَهَا فِي آخِرِهِ ، فَمَنْ صَلَّاهَا قَبْلَ
الْعِشَاءِ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْمُبْتَدِعَةِ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا يَصْنَعُهُ أَئِمَّةُ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ
الْأَنْعَامِ فِي رَمَضَانَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ هَلْ
هِيَ بِدْعَةٌ أَمْ لَا ؟.
فَأَجَابَ :
نَعَمْ بِدْعَةٌ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا
غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُمْ تَحَرَّوْا ذَلِكَ وَإِنَّمَا عُمْدَةُ
مَنْ يَفْعَلُهُ مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ سُورَةَ
الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ جُمْلَةً . مُشَيَّعَةً بِسَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ
فَاقْرَءُوهَا جُمْلَةً لِأَنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ
ضَعِيفٌ وَفِي قِرَاءَتِهَا جُمْلَةً مِنْ الْوُجُوهِ الْمَكْرُوهَةِ أُمُورٌ .
مِنْهَا : أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُطَوِّلُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ
الصَّلَاةِ عَلَى الْأُولَى تَطْوِيلًا فَاحِشًا . وَالسُّنَّةُ تَطْوِيلُ
الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ كَمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا تَطْوِيلُ آخِرِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَى أَوَّلِهِ
وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ فَإِنَّهُ كَانَ يُطَوِّلُ أَوَائِلَ مَا كَانَ
يُصَلِّيهِ مِنْ الرَّكَعَاتِ عَلَى أَوَاخِرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ قَوْمٍ يُصَلُّونَ بَعْدَ التَّرَاوِيحِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْجَمَاعَةِ ثُمَّ
فِي آخِرِ اللَّيْلِ يُصَلُّونَ تَمَامَ مِائَةِ رَكْعَةٍ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ
صَلَاةَ الْقَدْرِ . وَقَدْ امْتَنَعَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مِنْ فِعْلِهَا .
فَهَلْ الصَّوَابُ مَعَ مَنْ يَفْعَلُهَا ؟ أَوْ مَعَ مَنْ يَتْرُكُهَا ؟ وَهَلْ
هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَوْ مَكْرُوهَةٌ ؟ وَهَلْ
يَنْبَغِي فِعْلُهَا وَالْأَمْرُ بِهَا أَوْ تَرْكُهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ اللَّه ، بَلْ الْمُصِيبُ هَذَا الْمُمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِهَا
وَاَلَّذِي تَرَكَهَا . فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ
مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ هِيَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ وَلَا فَعَلَ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا
يَسْتَحِبُّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ
تُتْرَكَ وَيُنْهَى عَنْهَا . وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي التَّرَاوِيحِ
فَمُسْتَحَبٌّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ مِنْ أَجْلِ مَقْصُودِ
التَّرَاوِيحِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِيهَا لِيَسْمَعَ الْمُسْلِمُونَ كَلَامَ
اللَّهِ . فَإِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ فِيهِ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَفِيهِ { كَانَ
جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ
حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ } .
وَسُئِلَ :
عَنْ سُنَّةِ الْعَصْرِ : هَلْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيهَا حَدِيثٌ ؟ وَالْخِلَافُ الَّذِي فِيهَا مَا الصَّحِيحُ مِنْهُ ؟.
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ أَمَّا الَّذِي صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ : { حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ : رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ
وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ
بَعْدَ الْعِشَاءِ . وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ } . وَفِي الصَّحِيحِ
أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا بَنَى
اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } وَجَاءَ فِي السُّنَنِ تَفْسِيرُهُ : {
أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ
الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ }
. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ
صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثُمَّ
قَالَ فِي الثَّالِثَةِ : لِمَنْ شَاءَ } كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ
سُنَّةً . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُصَلِّي
قَبْلَ
الْعَصْرِ وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ الْعِشَاءِ . وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ
أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يُصَلُّونَ
بَيْنَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَإِقَامَتِهَا رَكْعَتَيْنِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَاهُمْ فَلَا يَنْهَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ
ذَلِكَ } . فَمِثْلُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ حَسَنَةٌ لَيْسَتْ سُنَّةً فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ أَنْ تُتَّخَذَ سُنَّةً .
وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَبْلَ
الْعَصْرِ وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ الْعِشَاءِ فَلَا تُتَّخَذُ سُنَّةً
وَلَا يَكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى فِيهَا ؛ بِخِلَافِ مَا فَعَلَهُ وَرَغَّبَ فِيهِ
فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْكَدُ مِنْ هَذَا . وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي
قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا } وَهُوَ ضَعِيفٌ . وَرُوِيَ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ } . وَالْمُرَادُ بِهِ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الظُّهْرِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ لِلْعَصْرِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ أَمْ لَا أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ الْمَكْتُوبَاتِ عَشْرَ
رَكَعَاتٍ أَوْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَوْ
أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ
الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ } وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي
الصَّحِيح أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } وَرُوِيَتْ فِي السُّنَنِ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحِ سِوَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ . وَأَمَّا قَبْلَ الْعَصْرِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ إلَّا وَفِيهِ ضَعْفٌ بَلْ خَطَأٌ كَحَدِيثِ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ سِتَّةَ عَشَرَ رَكْعَةً مِنْهَا قَبْلَ الْعَصْرِ وَهُوَ مَطْعُونٌ فِيهِ فَإِنَّ الَّذِينَ اعْتَنَوْا بِنَقْلِ تَطَوُّعَاتِهِ كَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ بَيَّنُوا مَا كَانَ يُصَلِّيهِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ الْعِشَاءِ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّيهَا لَكِنْ كَانَ أَصْحَابُهُ يُصَلُّونَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَهُوَ يَرَاهُمْ فَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ } كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ حَسَنَةٌ وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الْعَصْرِ كَمَا يُصَلِّي قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَحَسَنٌ وَأَمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ كَانَ يُصَلِّيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ فَهَذَا خَطَأٌ . وَالصَّلَاةُ مَعَ الْمَكْتُوبَةِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ إحْدَاهَا سُنَّةُ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ فَهَاتَانِ أَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِمَا وَهُمَا سُنَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَكَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَلَمْ يَجْعَلْ
مَالِكٌ سُنَّةً رَاتِبَةً غَيْرَهُمَا وَالثَّانِيَةُ مَا كَانَ يُصَلِّيهِ مَعَ
الْمَكْتُوبَةِ فِي الْحَضَرِ وَهُوَ عَشْرُ رَكَعَاتٍ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ
رَكْعَةً وَقَدْ أَثْبَتَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد مَعَ
الْمَكْتُوبَاتِ سُنَّةً مُقَدَّرَةً بِخِلَافِ مَالِكٍ وَالثَّالِثَةُ
التَّطَوُّعُ الْجَائِزُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَ سُنَّةً
لِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ
وَلَا قَدَّرَ فِيهِ عَدَدًا وَالصَّلَاةُ قَبْلَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاءِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَقَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ صَلَاةُ الضُّحَى
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ سُنَّةُ الْعَصْرِ مُسْتَحَبَّةٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَبْلَ
الْعَصْرِ شَيْئًا وَإِنَّمَا كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ : إمَّا
رَكْعَتَيْنِ وَإِمَّا أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا . وَكَانَ يُصَلِّي بَعْدَ
الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ
رَكْعَتَيْنِ . وَأَمَّا قَبْلَ الْعَصْرِ وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ
الْعِشَاءِ فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي ؛ لَكِنْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ
قَالَ : { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ
شَاءَ } كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ
تَطَوُّعًا قَبْلَ الْعَصْرِ فَهُوَ حَسَنٌ . لَكِنْ لَا يَتَّخِذُ ذَلِكَ سُنَّةً
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ تُقْضَى السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا فَاتَتْ السُّنَّةُ الرَّاتِبَةُ . مِثْلَ سُنَّةِ الظُّهْرِ . فَهَلْ
تُقْضَى بَعْدَ الْعَصْرِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد :
أَحَدُهُمَا : لَا تُقْضَى وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ .
وَالثَّانِي : تُقْضَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَقْوَى . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ لَا يُوَاظِبُ عَلَى السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ ؟ .
فَأَجَابَ :
مَنْ أَصَرَّ عَلَى تَرْكِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى قِلَّةِ دِينِهِ وَرُدَّتْ
شَهَادَتُهُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ : هَلْ لَهَا سُنَّةٌ ؟ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ
الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ رَحْمَةً مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ فَمَا حُجَّةُ مَنْ
يَدَّعِي السُّنَّةَ ؟ وَقَدْ أَنْكَرَ عُمَرُ عَلَى مَنْ سَبَّحَ بَعْدَ
الْفَرِيضَةِ . فَهَلْ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ تَأَكُّدُ السُّنَّةِ فِي
السَّفَرِ كَأَبِي حَنِيفَةَ ؟ وَهَلْ نُقِلَ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَمْ لَا
؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الَّذِي ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ مِنْ التَّطَوُّعِ فَهُوَ رَكْعَتَا الْفَجْرِ
حَتَّى إنَّهُ لَمَّا نَامَ عَنْهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ مُنْصَرَفَهُ مِنْ
خَيْبَرَ قَضَاهُمَا مَعَ الْفَرِيضَةِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَكَذَلِكَ قِيَامُ
اللَّيْلِ وَالْوِتْرِ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ
كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ وَيُوتِرُ
عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ } . وَأَمَّا
الصَّلَاةُ قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا : فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ
ذَلِكَ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يُصَلِّ مَعَهَا شَيْئًا وَكَذَلِكَ كَانَ يُصَلِّي
بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ صَلَّى
مَعَهَا شَيْئًا .
وَابْنُ
عُمَرَ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالسُّنَّةِ وَأَتْبَعَهُمْ لَهَا وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ
فَقَدْ تَنَازَعُوا فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ الصَّلَاةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
كَانَ بِلَالٌ كَمَا أَمَرَهُ . النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَفْصِلُ بَيْنَ أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ حَتَّى يَتَّسِعَ لِرَكْعَتَيْنِ فَكَانَ
مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ يُصَلِّي بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَالنَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَاهُمْ وَيُقِرُّهُمْ وَقَالَ : { بَيْنَ
كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ
أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ } مَخَافَةَ أَنْ
تُتَّخَذَ سُنَّةً . فَإِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ
مِقْدَارَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الصَّلَاةُ حَسَنَةٌ وَأَمَّا إنْ كَانَ يَصِلُ
الْأَذَانَ بِالْإِقَامَةِ فَالِاشْتِغَالُ بِإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ هُوَ
السُّنَّةُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا
سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ } . وَلَا يَنْبَغِي
لِأَحَدِ أَنْ يَدَعَ إجَابَةَ الْمُؤَذِّنِ وَيُصَلِّي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ
فَإِنَّ { السُّنَّةَ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ : مِثْلَ مَا
يَقُولُ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى
النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ
الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ } إلَى آخِرِهِ ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ لَهَا وِرْدٌ بِاللَّيْلِ تُصَلِّيهِ فَتَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ
فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ . فَقِيلَ لَهَا : إنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ عَلَى
النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ فَهَلْ هُوَ صَحِيحٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ } . لَكِنْ
إذَا كَانَ عَادَتُهُ أَنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا وَإِنَّمَا قَعَدَ لِعَجْزِهِ
فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِيهِ أَجْرَ الْقَائِمِ . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ
الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } فَلَوْ عَجَزَ عَنْ
الصَّلَاةِ كُلِّهَا لِمَرَضِ كَانَ اللَّهُ يَكْتُبُ لَهُ أَجْرَهَا كُلَّهُ ؛
لِأَجْلِ نِيَّتِهِ وَفِعْلِهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا عَجَزَ عَنْ
أَفْعَالِهَا .
وَسُئِلَ
:
عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا
تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا } .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا لَفْظُ الْحَدِيثِ { اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ }
وَإِذَا لَمْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا كُنْتُمْ كَالْمَيِّتِ وَكَانَتْ
كَالْقُبُورِ ؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَاَلَّذِي لَا
يَذْكُرُ رَبَّهُ كَمَثَلِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ } وَفِي لَفْظٍ { مَثَلُ
الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَاَلَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ
مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ } .
وَسُئِلَ :
عَنْ صَلَاةِ نِصْفِ شَعْبَانَ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ لَيْلَةَ النِّصْفِ وَحْدَهُ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ
خَاصَّةٍ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ فَهُوَ أَحْسَنُ .
وَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ فِي الْمَسَاجِدِ عَلَى صَلَاةٍ مُقَدَّرَةٍ .
كَالِاجْتِمَاعِ عَلَى مِائَةِ رَكْعَةٍ بِقِرَاءَةِ أَلْفٍ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ } دَائِمًا . فَهَذَا بِدْعَةٌ لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ
الْأَئِمَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّغَائِبِ فَلَا أَصْلَ لَهَا . بَلْ هِيَ مُحْدَثَةٌ . فَلَا
تُسْتَحَبُّ لَا جَمَاعَةً وَلَا فُرَادَى . فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُخَصَّ لَيْلَةُ
الْجُمُعَةِ بِقِيَامِ . أَوْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِصِيَامِ } . وَالْأَثَرُ
الَّذِي ذُكِرَ فِيهَا كَذِبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَلَمْ
يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَصْلًا . وَأَمَّا لَيْلَةُ
النِّصْفِ فَقَدْ رُوِيَ فِي فَضْلِهَا أَحَادِيثُ وَآثَارٌ وَنُقِلَ عَنْ
طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا فَصَلَاةُ
الرَّجُلِ فِيهَا وَحْدَهُ قَدْ تَقَدَّمَهُ فِيهِ سَلَفٌ وَلَهُ فِيهِ حُجَّةٌ
فَلَا يُنْكَرُ مِثْلُ هَذَا . وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيهَا جَمَاعَةً فَهَذَا
مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّاعَاتِ
وَالْعِبَادَاتِ فَإِنَّهُ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ إمَّا وَاجِبٌ
وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ .
وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالتَّرَاوِيحِ فَهَذَا سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ
يَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَالْمُدَاوَمَةُ . وَالثَّانِي مَا لَيْسَ
بِسُنَّةِ رَاتِبَةٍ مِثْلَ الِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ تَطَوُّعٍ مِثْلَ قِيَامِ
اللَّيْلِ أَوْ عَلَى قِرَاءَةِ قُرْآنٍ أَوْ ذِكْرِ اللَّهِ أَوْ دُعَاءٍ .
فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يُتَّخَذْ عَادَةً رَاتِبَةً . فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَّى التَّطَوُّعَ فِي جَمَاعَةٍ أَحْيَانًا وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ إلَّا مَا ذُكِرَ وَكَانَ أَصْحَابُهُ إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ وَالْبَاقِي يَسْتَمِعُونَ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى ذَكَرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ وَمِنْهُمْ وَاحِدٌ يَقْرَأُ فَجَلَسَ مَعَهُمْ } وَقَدْ رُوِيَ فِي الْمَلَائِكَةِ السَّيَّارِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ . فَلَوْ أَنَّ قُومَا اجْتَمَعُوا بَعْضَ اللَّيَالِي عَلَى صَلَاةِ تَطَوُّعٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَّخِذُوا ذَلِكَ عَادَةً رَاتِبَةً تُشْبِهُ السُّنَّةَ الرَّاتِبَةَ لَمْ يُكْرَهْ . لَكِنَّ اتِّخَاذَهُ عَادَةً دَائِرَةً بِدَوَرَانِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ الشَّرِيعَةِ وَتَشْبِيهِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ بِالْمَشْرُوعِ . وَلَوْ سَاغَ ذَلِكَ لَسَاغَ أَنْ يَعْمَلَ صَلَاةً أُخْرَى وَقْتَ الضُّحَى أَوْ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَوْ تَرَاوِيحَ فِي شَعْبَانَ أَوْ أَذَانًا فِي الْعِيدَيْنِ أَوْ حَجًّا إلَى الصَّخْرَةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَذَا تَغْيِيرٌ لِدِينِ اللَّهِ وَتَبْدِيلٌ لَهُ . وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي لَيْلَةِ الْمَوْلِدِ وَغَيْرِهَا . وَالْبِدَعُ الْمَكْرُوهَةُ مَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَبَّةً فِي الشَّرِيعَةِ وَهِيَ أَنْ يُشَرِّعَ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فَمَنْ جَعَلَ شَيْئًا دِينًا وَقُرْبَةً بِلَا شَرْعٍ مِنْ اللَّهِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } فَالْبِدْعَةُ ضِدُّ الشِّرْعَةِ وَالشِّرْعَةُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ وَإِنْ لَمْ يُفْعَلْ عَلَى عَهْدِهِ كَالِاجْتِمَاعِ فِي التَّرَاوِيحِ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ وَجَمْعِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ . وَقَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ : مِثْلَ تَخْصِيصِ
مَكَانٍ
أَوْ زَمَانٍ بِاجْتِمَاعِ عَلَى عِبَادَةٍ فِيهِ كَمَا خَصَّ الشَّارِعُ
أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ وَأَيَّامَ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ . وَكَمَا خَصَّ
مَكَّةَ بِشَرَفِهَا وَالْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ وَسَائِرَ الْمَسَاجِدِ بِمَا
شَرَعَهُ فِيهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ وَأَنْوَاعَ الْعِبَادَاتِ كُلٌّ بِحَسْبِهِ ؛
وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ مِنْ
النُّصُوصِ والإجماعات فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْبِدْعَةِ ضِدُّ الشِّرْعَةِ وَهُوَ
مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الدِّينِ فَمَتَى ثَبَتَ بِنَصِّ أَوْ إجْمَاعٍ فِي فِعْلٍ
أَنَّهُ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ
بِدْعَةً وَقَدْ قَرَّرْت ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي قَاعِدَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ
الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ ؟ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
" صَلَاةُ الرَّغَائِبِ " بِدْعَةٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ لَمْ
يَسُنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ
خُلَفَائِهِ وَلَا اسْتَحَبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ : كَمَالِكِ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي
وَاللَّيْثِ وَغَيْرِهِمْ . وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِيهَا كَذِبٌ بِإِجْمَاعِ
أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ الَّتِي تُذْكَرُ
أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَفِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ وَأَلْفِيَّةِ
نِصْفِ شَعْبَانَ وَالصَّلَاةِ يَوْمَ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَغَيْرِ هَذَا
مِنْ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ
الْمُصَنِّفِينَ فِي الرَّقَائِقِ فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ
بِالْحَدِيثِ أَنَّ أَحَادِيثَهُ كُلَّهَا مَوْضُوعَةٌ وَلَمْ يَسْتَحِبَّهَا
أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامِ وَلَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ
بِصِيَامِ } . وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي تُذْكَرُ فِي صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
وَلَيْلَةِ الْعِيدَيْنِ كَذِبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ هَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الصَّلَاةُ لَمْ يُصَلِّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا أَئِمَّةُ
الْمُسْلِمِينَ وَلَا رَغَّبَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَلَا الْأَئِمَّةُ وَلَا ذَكَرُوا
لِهَذِهِ اللَّيْلَةِ فَضِيلَةً تَخُصُّهَا . وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي
ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ
بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ . وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ :
أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ : فِي " سُجُودِ الْقُرْآنِ "
وَهُوَ نَوْعَانِ : خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ السُّجُودِ وَمَدْحٌ لَهُمْ أَوْ أَمْرٌ
بِهِ وَذَمٌّ عَلَى تَرْكِهِ . فَالْأَوَّلُ سَجْدَةُ الْأَعْرَافِ { إنَّ
الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ
وَلَهُ يَسْجُدُونَ } وَهَذَا ذَكَرَهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ
وَالذِّكْرِ . وَفِي الرَّعْدِ { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } وَفِي
النَّحْلِ { أَوَلَمْ يَرَوْا إلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ
ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } {
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ
وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ }
{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وَفِي سُبْحَانَ : { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ سُجُودٍ مَعَ مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ فَسَجَدَ . وَكَذَلِكَ فِي مَرْيَمَ { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } فَهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ سَجَدُوا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ وَأُولَئِكَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ يَسْجُدُونَ . وَظَاهِرُ هَذَا سُجُودٌ مُطْلَقٌ كَسُجُودِ السَّحَرَةِ وَكَقَوْلِهِ { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ } وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الرُّكُوعَ . فَالسُّجُودُ هُوَ خُضُوعٌ لَهُ وَذُلٌّ لَهُ ؛ وَلِهَذَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْخُضُوعِ . كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : تَرَى الْأَكَمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ . قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ : السُّجُودُ التَّوَاضُعُ وَالْخُضُوعُ وَأَنْشَدُوا :
سَاجِدُ
الْمَنْخِرِ مَا يَرْفَعُهُ * * * خَاشِعُ الطَّرْفِ أَصَمُّ الْمَسْمَعِ
قِيلَ لِسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : أَيَسْجُدُ الْقَلْبُ ؟ قَالَ : نَعَمْ
سَجْدَةً لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْهَا أَبَدًا . وَفِي " سُورَةِ الْحَجِّ
" الْأُولَى خَبَرُ : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ
وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إنَّ اللَّهَ
يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } وَالثَّانِيَةُ أَمْرٌ مَقْرُونٌ بِالرُّكُوعِ وَلِهَذَا
صَارَ فِيهَا نِزَاعٌ . وَسَجْدَةُ الْفُرْقَانِ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا
وَزَادَهُمْ نُفُورًا } خَبَرٌ مَقْرُونٌ بِذَمِّ مَنْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَلَمْ
يَسْجُدْ لَيْسَ هُوَ مَدْحًا . وَكَذَلِكَ سَجْدَةُ " النَّمْلِ " : {
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا
يَهْتَدُونَ } { أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } {
اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ
ذَمَّ مَنْ يَسْجُدُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَمْ يَسْجُدْ لِلَّهِ . وَمَنْ قَرَأَ
أَلَا يَا اُسْجُدُوا . كَانَتْ أَمْرًا . وَفِي " الم تَنْزِيل السَّجْدَة
" { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا
بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْأَمْرِ وَالتَّخْصِيصِ ؛ فَإِنَّهُ نَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَمْ يَسْجُدْ إذَا ذُكِّرَ بِهَا . وَفِي " ص " خَبَرٌ عَنْ سَجْدَةِ دَاوُد وَسَمَّاهَا رُكُوعًا . وَ " حم تَنْزِيل " أَمْرٌ صَرِيحٌ : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } . وَ " النَّجْم " أَمْرٌ صَرِيحٌ : { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } وَ " الِانْشِقَاق " أَمْرٌ صَرِيحٌ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } . وَ " { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } " أَمْرٌ مُطْلَقٌ : { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } فَالسِّتَّةُ الْأُوَلُ إلَى الْأُولَى مِنْ الْحَجِّ خَبَرٌ وَمَدْحٌ . وَالتِّسْعُ الْبَوَاقِي مِنْ الثَّانِيَةِ مِنْ الْحَجِّ أَمْرٌ وَذَمٌّ لِمَنْ لَمْ يَسْجُدْ إلَّا " ص " فَنَقُولُ : قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ . قِيلَ : يَجِبُ " وَقِيل لَا يَجِبُ " وَقِيلَ يَجِبُ إذَا قُرِئَتْ السَّجْدَةُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد وَاَلَّذِي يَتَبَيَّنُ لِي أَنَّهُ وَاجِبٌ : فَإِنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا مَدْحٌ لَا تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى الْوُجُوبِ لَكِنَّ آيَاتِ الْأَمْرِ وَالذَّمِّ وَالْمُطْلَقَ مِنْهَا قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ كَالثَّانِيَةِ مِنْ الْحَجِّ وَالْفُرْقَانِ وَاقْرَأْ وَهَذَا ضَعِيفٌ فَكَيْفَ وَفِيهَا مَقْرُونٌ بِالتِّلَاوَةِ كَقَوْلِهِ
{ إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } فَهَذَا نَفْيٌ لِلْإِيمَانِ بِالْآيَاتِ عَمَّنْ لَا يَخِرُّ سَاجِدًا إذَا ذُكِّرَ بِهَا . وَإِذَا كَانَ سَامِعًا لَهَا فَقَدْ ذُكِّرَ بِهَا . وَكَذَلِكَ " سُورَةُ الِانْشِقَاقِ " { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } وَهَذَا ذَمٌّ لِمَنْ لَا يَسْجُدُ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَقَوْلِهِ : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } { وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ } { فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } . وَكَذَلِكَ " سُورَةُ النَّجْمِ " قَوْلُهُ : { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } { وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ } { وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ } { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } أَمْرٌ بَالِغًا عَقِبَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ يَقْتَضِي أَنَّ سَمَاعَهُ سَبَبُ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ لَكِنَّ السُّجُودَ الْمَأْمُورَ بِهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِسُجُودِ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِسُجُودِ التِّلَاوَةِ فَمَنْ ظَنَّ هَذَا أَوْ هَذَا فَقَدَ غَلِطَ بَلْ هُوَ مُتَنَاوِلٌ لَهُمَا جَمِيعًا كَمَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ . فَالسُّجُودُ عِنْدَ سَمَاعِ آيَةِ السَّجْدَةِ هُوَ سُجُودٌ مُجَرَّدٌ عِنْدَ سَمَاعِ آيَةِ السَّجْدَةِ سَوَاءٌ تُلِيَتْ مَعَ سَائِرِ الْقُرْآنِ أَوْ وَحْدَهَا لَيْسَ هُوَ سُجُودًا عِنْدَ تِلَاوَةِ مُطْلَقِ الْقُرْآنِ فَهُوَ سُجُودٌ عِنْدَ جِنْسِ الْقُرْآنِ . وَعِنْدَ خُصُوصِ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ فَالْأَمْرُ يَتَنَاوَلُهُ . وَهُوَ أَيْضًا مُتَنَاوِلٌ لِسُجُودِ الْقُرْآنِ أَيْضًا وَهُوَ أَبْلَغُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
قَالَ : { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } فَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِهِ إلَّا مَنْ إذَا ذُكِّرَ بِهَا خَرَّ سَاجِدًا وَسَبَّحَ بِحَمْدِ رَبِّهِ وَهُوَ لَا يَسْتَكْبِرُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ : { بِآيَاتِنَا } لَيْسَ يَعْنِي بِهَا آيَاتِ السُّجُودِ فَقَطْ بَلْ جَمِيعَ الْقُرْآنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إذَا ذُكِّرَ بِجَمِيعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ يَخِرُّ سَاجِدًا وَهَذَا حَالُ الْمُصَلِّي فَإِنَّهُ يَذَّكَّرُ بِآيَاتِ اللَّهِ بِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَالْإِمَامُ يَذَّكَّرُ بِقِرَاءَةِ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ حَتَّى يَخِرُّوا سُجَّدًا وَهُوَ سُجُودُهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ سُجُودٌ مُرَتَّبٌ يَنْتَقِلُونَ أَوَّلًا إلَى الرُّكُوعِ ثُمَّ إلَى السُّجُودِ وَالسُّجُودُ مَثْنَى كَمَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ لِيَجْتَمِعَ فِيهِ خَرُورَانِ : خُرُورٌ مِنْ قِيَامٍ وَهُوَ السَّجْدَةُ الْأُولَى وَخُرُورٌ مِنْ قُعُودٍ وَهُوَ السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ . وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ قَعْدَةِ الْفَصْلِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا كَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ ؛ فَإِنَّ الْخُرُورَ سَاجِدًا لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ قُعُودٍ أَوْ قِيَامٍ . وَإِذَا فَصَلَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ كَحَدِّ السَّيْفِ أَوْ كَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ لَمْ يَكُنْ هَذَا خُرُورًا . وَلَكِنَّ الَّذِي جَوَّزَهُ ظَنَّ أَنَّ السُّجُودَ يَحْصُلُ بِوَضْعِ الرَّأْسِ عَلَى الْأَرْضِ كَيْفَ مَا كَانَ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ . بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ كَمَا قَالَ : { إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا } وَلَمْ يَقُلْ : سَجَدُوا . فَالْخُرُورُ مَأْمُورٌ
بِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَفْسُ الْخُرُورِ عَلَى الذَّقَنِ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ كَمَا أَنَّ وَضْعَ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } فَمَدَحَ هَؤُلَاءِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِخَرُورِهِمْ لِلْأَذْقَانِ أَيْ عَلَى الْأَذْقَانِ سُجَّدًا . وَالثَّانِي بِخَرُورِهِمْ لِلْأَذْقَانِ : أَيْ عَلَيْهَا يَبْكُونَ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ نَفْسَ الْخُرُورِ عَلَى الذَّقَنِ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْخُرُورِ إلْصَاقَ الذَّقَنِ بِالْأَرْضِ كَمَا تُلْصَقُ الْجَبْهَةُ وَالْخُرُورُ عَلَى الذَّقَنِ هُوَ مَبْدَأُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودُ مُنْتَهَاهُ فَإِنَّ السَّاجِدَ يَسْجُدُ عَلَى جَبْهَتِهِ لَا عَلَى ذَقَنِهِ لَكِنَّهُ يَخِرُّ عَلَى ذَقَنِهِ وَالذَّقَنُ آخِرُ حَدِّ الْوَجْهِ وَهُوَ أَسْفَلُ شَيْءٍ مِنْهُ وَأَقْرَبُهُ إلَى الْأَرْضِ . فَاَلَّذِي يَخِرُّ عَلَى ذَقَنِهِ يَخِرُّ وَجْهُهُ وَرَأْسُهُ خُضُوعًا لِلَّهِ . وَمِنْ حِينَئِذٍ قَدْ شُرِعَ فِي السُّجُودِ فَكَمَا أَنَّ وَضْعَ الْجَبْهَةِ هُوَ آخِرُ السُّجُودِ فَالْخُرُورُ عَلَى الذَّقَنِ أَوَّلُ السُّجُودِ وَتَمَامُ الْخُرُورِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ } أَيْ لِلْوُجُوهِ . قَالَ الزَّجَّاجُ : الَّذِي يَخِرُّ وَهُوَ قَائِمٌ إنَّمَا يَخِرُّ لِوَجْهِهِ وَالذَّقَنُ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ وَهُوَ غُضْرُوفُ أَعْضَاءِ الْوَجْهِ . فَإِذَا ابْتَدَأَ يَخِرُّ فَأَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ مِنْ وَجْهِهِ إلَى الْأَرْضِ الذَّقَنُ .
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : أَوَّلُ مَا يَلْقَى الْأَرْضَ مِنْ الَّذِي يَخِرُّ قَبْلَ أَنْ يُصَوِّبَ جَبْهَتَهُ ذَقَنُهُ فَلِذَلِكَ قَالَ : { لِلْأَذْقَانِ } وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَخِرُّونَ لِلْوُجُوهِ فَاكْتَفَى بِالذَّقَنِ مِنْ الْوَجْهِ . كَمَا يَكْتَفِي بِالْبَعْضِ مِنْ الْكُلِّ . وَبِالنَّوْعِ مِنْ الْجِنْسِ . قُلْت : وَاَلَّذِي يَخِرُّ عَلَى الذَّقَنِ لَا يَسْجُدُ عَلَى الذَّقَنِ فَلَيْسَ الذَّقَنُ مِنْ أَعْضَاءِ السُّجُودِ بَلْ أَعْضَاءُ السُّجُودِ سَبْعَةٌ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ : الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى الْأَنْفِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ } وَلَوْ سَجَدَ عَلَى ذَقَنِهِ ارْتَفَعَتْ جَبْهَتُهُ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَعَذَّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ ؛ لِأَنَّ الْأَنْفَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ نَاتِئٌ يَمْنَعُ إلْصَاقَهُمَا مَعًا بِالْأَرْضِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَالسَّاجِدُ يَخِرُّ عَلَى ذَقَنِهِ وَيَسْجُدُ عَلَى جَبْهَتِهِ . فَهَذَا خُرُورُ السُّجُودِ . ثُمَّ قَالَ : { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ } فَهَذَا خُرُورُ الْبُكَاءِ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ سُجُودٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ . فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ : { إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } فَهَذَا خُرُورٌ وَسُجُودٌ وَبُكَاءٌ . وَالثَّانِي : كَقَوْلِهِ : { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ } فَقَدْ يَبْكِي الْبَاكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ مَعَ خُضُوعِهِ بِخُرُورِهِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى حَدِّ السُّجُودِ
وَهَذَا عِبَادَةٌ أَيْضًا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُرُورِ لِلَّهِ وَالْبُكَاءِ لَهُ . وَكِلَاهُمَا عِبَادَةٌ لِلَّهِ فَإِنَّ بُكَاءَ الْبَاكِي لِلَّهِ كَاَلَّذِي يَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ . مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ . وَقَدْ رُوِيَ { عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ : عَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَيْنٌ يَخْرُجُ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ : إمَامٌ عَادِلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةِ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ حَسَبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } . فَذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ إذْ كُلٌّ مِنْهُمْ كَمَّلَ الْعِبَادَةَ الَّتِي قَامَ بِهَا وَقَدْ صَنَّفَ مُصَنِّفٌ فِي نَعْتِهِمْ سَمَّاهُ ( اللُّمْعَةَ فِي أَوْصَافِ السَّبْعَةِ . فَالْإِمَامُ الْعَادِلُ : كَمَّلَ مَا يَجِبُ مِنْ الْإِمَارَةِ وَالشَّابُّ النَّاشِئُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ كَمَّلَ مَا يَجِبُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَاَلَّذِي قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ كَمَّلَ عِمَارَةَ الْمَسَاجِدِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِقَوْلِهِ : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } . وَالْعَفِيفُ : كَمَّلَ الْخَوْفَ مِنْ اللَّهِ وَالْمُتَصَدِّقُ كَمَّلَ الصَّدَقَةَ لِلَّهِ ؛ وَالْبَاكِي : كَمَّلَ الْإِخْلَاصَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَنْ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } لَا رَيْبَ أَنَّهُ سَجَدَ . كَمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ سَجَدَ لِلَّهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مَدَحَهُ بِكَوْنِهِ خَرَّ رَاكِعًا وَهَذَا أَوَّلُ السُّجُودِ وَهُوَ خُرُورُهُ . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَوَّلَ فِعْلِهِ وَهُوَ خُرُورُهُ رَاكِعًا لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْخُرُورُ كَانَ لِيَسْجُدَ . كَمَا أَثْنَى عَلَى النَّبِيِّينَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا { إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } { الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ } أَنَّهُمْ { إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ } وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخُرُورَ هُوَ أَوَّلُ الْخُضُوعِ الْمُنَافِي لِلْكِبْرِ فَإِنَّ الْمُتَكَبِّرَ يَكْرَهُ أَنْ يَخِرَّ وَيُحِبَّ أَنْ لَا يَزَالَ مُنْتَصِبًا مُرْتَفِعًا إذَا كَانَ الْخُرُورُ فِيهِ ذُلٌّ وَتَوَاضُعٌ وَخُشُوعٌ ؛ وَلِهَذَا يَأْنَفُ مِنْهُ أَهْلُ الْكِبْرِ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِ الْعَرَبِ . فَكَانَ أَحَدُهُمْ إذَا سَقَطَ مِنْهُ الشَّيْءُ لَا يَتَنَاوَلُهُ لِئَلَّا يَخِرُّ وَيَنْحَنِي . فَإِنَّ الْخُرُورَ انْخِفَاضُ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَهُوَ أَعْلَى مَا فِي الْإِنْسَانِ وَأَفْضَلُهُ وَهُوَ قَدْ خُلِقَ رَفِيعًا مُنْتَصِبًا فَإِذَا خَفَضَهُ لَا سِيَّمَا بِالسُّجُودِ كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ ذُلِّهِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصْلُحْ السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ فَمَنْ سَجَدَ لِغَيْرِهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ فَهُوَ مُسْتَكْبِرٌ عَنْ عِبَادَتِهِ وَكِلَاهُمَا كَافِرٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ . قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وَقَالَ
تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } وَقَالَ فِي قِصَّةِ بلقيس : { وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ } { أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } وَالشَّمْسُ أَعْظَمُ مَا يُرَى فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَأَعَمُّهُ نَفْعًا وَتَأْثِيرًا . فَالنَّهْيُ عَنْ السُّجُودِ لَهَا نَهْيٌ عَمَّا هُوَ دُونَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى مِنْ الْكَوَاكِبِ وَالْأَشْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ : { وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ } دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لِلْخَالِقِ لَا لِلْمَخْلُوقِ وَإِنْ عَظُمَ قَدْرُهُ ؛ بَلْ لِمَنْ خَلَقَهُ . وَهَذَا لِمَنْ يَقْصِدُ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ . كَمَا قَالَ : { إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَسْجُدَ لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ فِي بَنِي آدَمَ مَنْ يَسْتَكْبِرُ عَنْ السُّجُودِ لَهُ فَقَالَ : الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ " بَلْ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ سَآمَةٌ وَلَا مَلَالَةٌ . بِخِلَافِ الْآدَمِيِّينَ فَوَصَفَهُمْ هُنَا بِالتَّسْبِيحِ لَهُ وَوَصَفَهُمْ بِالتَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ جَمِيعًا فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ }
وَهُمْ
يَصُفُّونَ لَهُ صُفُوفًا كَمَا قَالُوا : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } {
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَّا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ
الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ
عِنْدَ رَبِّهَا قَالَ : يَسُدُّونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي
الصَّفِّ } .
فَصْلٌ :
فَآيَاتُهُ سُبْحَانَهُ تُوجِبُ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فَهْمُهَا
وَتَدَبُّرُهَا لِيَعْلَمَ مَا تَضَمَّنَتْهُ . وَالثَّانِي : عِبَادَتُهُ
وَالْخُضُوعُ لَهُ إذَا سُمِعَتْ فَتِلَاوَتُهُ إيَّاهَا وَسَمَاعُهَا يُوجِبُ
هَذَا وَهَذَا فَلَوْ سَمِعَهَا السَّامِعُ وَلَمْ يَفْهَمْهَا كَانَ مَذْمُومًا
وَلَوْ فَهِمَهَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهَا كَانَ مَذْمُومًا بَلْ لَا بُدَّ
لِكُلِّ أَحَدٍ عِنْدَ سَمَاعِهَا مِنْ فَهْمِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا . كَمَا
أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ اسْتِمَاعِهَا فَالْمُعْرِضُ عَنْ
اسْتِمَاعِهَا كَافِرٌ وَاَلَّذِي لَا يَفْهَمُ مَا أُمِرَ بِهِ فِيهَا كَافِرٌ .
وَاَلَّذِي يَعْلَمُ مَا أُمِرَ بِهِ فَلَا يُقِرُّ بِوُجُوبِهِ وَيَفْعَلُهُ
كَافِرٌ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَذُمُّ الْكُفَّارَ بِهَذَا وَهَذَا . وَهَذَا
كَقَوْلِهِ : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } { كَأَنَّهُمْ
حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ } { فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } وَقَوْلِهِ : { وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وَقَوْلِهِ : { كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } { بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَقَالَ فِيمَنْ لَمْ يَفْهَمْهَا وَيَتَدَبَّرْهَا : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } فَذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ وَلَوْ فَهِمُوا لَمْ يَعْمَلُوا بِعِلْمِهِمْ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } { إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : لَمْ يَتَغَافَلُوا عَنْهَا فَكَأَنَّهُمْ صُمٌّ لَمْ يَسْمَعُوهَا عَمَّنْ لَمْ يَرَوْهَا . وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ : لَمْ يَبْقَوْا عَلَى حَالِهِمْ الْأُولَى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يَرَوْا وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا خَرُّوا حَقِيقَةً . تَقُولُ الْعَرَبُ شَتَمْت فُلَانًا فَقَامَ يَبْكِي وَقَعَدَ يَنْدُبُ وَأَقْبَلَ يَعْتَذِرُ وَظَلَّ يَفْتَخِرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَامَ وَلَا قَعَدَ . قُلْت : فِي ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ لَفْظُ الْخُرُورِ دُونَ غَيْرِهِ حِكْمَةٌ فَإِنَّهُمْ لَوْ خَرُّوا وَكَانُوا صُمًّا وَعُمْيَانًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَمْدُوحًا بَلْ مَعِيبًا . فَكَيْفَ إذَا كَانُوا صُمًّا وَعُمْيَانًا بِلَا خُرُورٍ . فَلَا بُدَّ مِنْ شَيْئَيْنِ : مِنْ الْخُرُورِ وَالسُّجُودِ . وَلَا بُدَّ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ لِمَا فِي آيَاتِهِ مِنْ النُّورِ وَالْهُدَى
وَالْبَيَانِ . وَكَذَلِكَ لَمَّا شُرِعَتْ الصَّلَاةُ شُرِعَ فِيهَا الْقِرَاءَةُ فِي الْقِيَامِ ثُمَّ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . فَأَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } فَافْتَتَحَهَا بِالْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَخَتَمَهَا بِالْأَمْرِ بِالسُّجُودِ فَقَالَ : { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّذْكِيرَ بِهَا كَقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ مُوجِبٌ لِلسُّجُودِ وَالتَّسْبِيحِ وَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ إذَا ذُكِّرَ بِهَا يَخِرُّ سَاجِدًا وَيُسَبِّحُ بِحَمْدِ رَبِّهِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَهَذَا مُتَنَاوِلٌ الْآيَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا سُجُودٌ وَهِيَ جُمْهُورُ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَفِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ آلَافِ آيَةٍ وَأَمَّا آيَاتُ السَّجْدَةِ فَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً . وَقَوْلُهُ : { ذُكِّرُوا بِهَا } يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْآيَاتِ فَالتَّذْكِيرُ بِهَا جَمِيعُهَا مُوجِبٌ لِلتَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ التَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ . وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ عَامَّةُ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ جِنْسِ التَّسْبِيحِ فَمَنْ لَمْ يُسَبِّحْ فِي السُّجُودِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَإِذَا أَتَى بِنَوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّسْبِيحِ الْمَشْرُوعِ أَجْزَأَهُ . وَلِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . قِيلَ : لَا يَجِبُ ذِكْرٌ بِحَالِ
وَقِيلَ : يَجِبُ وَيَتَعَيَّنُ قَوْلُهُ : " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ . وَقِيلَ : يَجِبُ جِنْسُ التَّسْبِيحِ وَإِنْ كَانَ هَذَا النَّوْعُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِهِ أَنْ يُجْعَلَ فِي السُّجُودِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنْوَاعٌ أُخَرُ . وَقَوْلُهُ : { اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ } فِيهِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ إذْ قَدْ يُقَالُ الْمُسَبِّحُ لِرَبِّهِ : بِأَيِّ اسْمٍ سَبَّحَهُ فَقَدْ سَبَّحَ اسْمَ رَبِّهِ الْأَعْلَى . كَمَا أَنَّهُ بِأَيِّ اسْمٍ دَعَاهُ فَقَدْ دَعَا رَبَّهُ الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى . كَمَا قَالَ : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَقَالَ : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } فَإِذَا كَانَ يُدْعَى بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَبِأَيِّ اسْمٍ دَعَاهُ فَقَدْ دَعَا الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَهُوَ يُسَبِّحُ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَبِأَيِّ اسْمٍ سَبَّحَ فَقَدْ سَبَّحَ الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَسْمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ تَابِعٌ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ . وَفِي قَوْله تَعَالَى { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } فَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مَنْ قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالسُّجُودِ وَالْمُصَلِّي قَدْ قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِالسُّجُودِ فَلِهَذَا يَسْمَعُ الْقُرْآنَ وَيَسْجُدُ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ نَفْسِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ الْقُرْآنَ . وَقَدْ
يُقَالُ : لَا يُصَلُّونَ ؛ لَكِنْ قَوْلَهُ : { خَرُّوا سُجَّدًا } صَرِيحٌ فِي السُّجُودِ الْمَعْرُوفِ لِاقْتِرَانِهِ بِلَفْظِ الْخُرُورِ . وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَفِيهَا نِزَاعٌ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُصَلُّونَ قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ . وَالثَّانِي : لَا يَخْضَعُونَ لَهُ وَلَا يَسْتَكِينُونَ لَهُ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى . قَالَ : وَاحْتَجَّ بِهَا قَوْمٌ عَلَى وُجُوبِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ . وَإِنَّمَا الْمَعْنَى لَا يَخْشَعُونَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَضَافَ السُّجُودَ إلَى جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَالسُّجُودُ يَخْتَصُّ بِمَوَاضِعَ مِنْهُ . قُلْت : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَذْكُرُونَ غَيْرَهُ : كَالثَّعْلَبِيِّ والبغوي وَحَكَوْهُ عَنْ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي : فَمَا عَلِمْت أَحَدًا نَقَلَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَاَلَّذِينَ قَالُوهُ إنَّمَا قَالُوهُ لَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ أَنْ يَسْجُدَ فَأَرَادُوا أَنْ يُفَسِّرُوا الْآيَةَ بِمَعْنَى يَجِبُ فِي كُلِّ حَالٍ . فَقَالُوا : يَخْضَعُونَ وَيَسْتَكِينُونَ . فَإِنَّ هَذَا يُؤْمَرُ
بِهِ كُلُّ مَنْ قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ . وَلَفْظُ السُّجُودِ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ . كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ لَكِنْ يُقَالُ لَهُمْ : الْخُضُوعُ مَأْمُورٌ بِهِ وَخُضُوعُ الْإِنْسَانِ وَخُشُوعُهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالسُّجُودِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ السُّجُودِ الْمُضَافِ إلَى بَنِي آدَمَ : حَيْثُ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ ؛ إذْ هُوَ خُضُوعُ الْآدَمِيِّ لِلرَّبِّ وَالرَّبُّ لَا يَرْضَى مِنْ النَّاسِ بِدُونِ هَذَا الْخُضُوعِ إذْ هُوَ غَايَةُ خُضُوعِ الْعَبْدِ وَلِكُلِّ مَخْلُوقٍ خُضُوعٌ بِحَسْبِهِ هُوَ سُجُودُهُ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سُجُودُ الْإِنْسَانِ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا خُضُوعٌ لَيْسَ فِيهِ سُجُودُ الْوَجْهِ : فَهَذَا لَا يُعْرَفُ بَلْ يُقَالُ : هُمْ مَأْمُورُونَ : إذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ بِالسُّجُودِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السُّجُودُ التَّامُّ عَقِبَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ فَقَدْ أَتَوْا بِالسُّجُودِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِمْ حَصَلَ لَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ بِاعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالْعَزْمِ عَلَى الِامْتِثَالِ . فَإِذَا اعْتَقَدُوا وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَعَزَمُوا عَلَى الِامْتِثَالِ فَهَذَا مَبْدَأُ السُّجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ ثُمَّ إذَا صَلَّوْا فَهَذَا تَمَامُهُ . كَمَا قَالَ فِي الْمُشْرِكِينَ : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } فَهُمْ إذَا تَابُوا وَالْتَزَمُوا الصَّلَاةَ كُفَّ عَنْ قِتَالِهِمْ . فَهَذَا مَبْدَأُ إقَامَتِهَا ثُمَّ إذَا فَعَلُوهَا فَقَدْ أَتَمُّوا إقَامَتَهَا . وَأَمَّا إذَا الْتَزَمُوهَا
بِالْكَلَامِ وَلَمْ يَفْعَلُوا فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَجَدَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ صَلَّيْت مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ . فَقَرَأَ { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } فَسَجَدَ فَقُلْت : مَا هَذِهِ ؟ قَالَ : سَجَدْت بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ وَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ } وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّتِهِ . وَأَمَّا سُجُودُهُ فِيهَا فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ دُونَ الْبُخَارِيِّ . وَالسُّجُودُ فِيهَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ لَفْظَ السُّجُودِ فِيهَا لَمْ يُرِدْ بِهِ إلَّا مُطْلَقَ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَأَمَّا السُّجُودُ الْمَعْرُوفُ فَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ السُّجُودُ الْخَاصُّ مَشْرُوعًا إذَا تُلِيَتْ لَا سِيَّمَا فِي الصَّلَاةِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ جَوَابُ مَنْ أَجَابَ مَنْ احْتَجَّ بِهَا عَلَى وُجُوبِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ : بِأَنَّ الْمُرَادَ الْخُضُوعُ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا فُسِّرَ السُّجُودُ بِالصَّلَاةِ كَمَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ لَمْ يَجِبْ سُجُودُ التِّلَاوَةِ . قِيلَ الصَّلَاةُ مُرَادَةٌ مِنْ جِنْسِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ . كَمَا تَقَدَّمَ . وَهَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ عَلَى مَنْ قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنْ يَسْجُدَ
فَإِنْ قُرِئَ عَلَيْهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ قَرِيبًا إذَا حَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ سَاعَةٍ يُقْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا الْقُرْآنُ إلَّا هُوَ وَقْتُ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا ؛ إذْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ فَإِذَا لَمْ يُصَلِّ فَهُوَ مِمَّنْ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُ فَإِنْ قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ سَجْدَةً يَخِرُّ فِيهَا مِنْ قِيَامٍ وَسَجْدَةٍ يَخِرُّ فِيهَا مِنْ قُعُودٍ وَكُلٌّ مِنْهُمَا بَعْدَ رُكُوعٍ كَمَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا السُّجُودُ عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ : فَهُوَ السُّجُودُ الْخَاصُّ وَهُوَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ وَهَذَا سُجُودٌ مُبَادَرٌ إلَيْهِ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهَا أَمَرَتْهُ أَنْ يَسْجُدَ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَمِنْ تَمَامِ الْمُبَادَرَةِ أَنْ يَسْجُدَ عِنْدَ سَمَاعِهَا سُجُودَ التِّلَاوَةِ . ثُمَّ يَسْجُدَ عِنْدَ تِلَاوَةِ غَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَأْمُرُ بِالسُّجُودِ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ هِيَ أَوْ غَيْرُهَا فَهِيَ الْآمِرَةُ بِالسُّجُودِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ دُونَ سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي لَا يَسْجُدُ عِنْدَهَا فَكَانَ لَهَا حَضٌّ مِنْ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ مَعَ عُمُومِ كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَتُخَصُّ بِالسُّجُودِ لَهَا وَيَسْجُدُ فِي الصَّلَاةِ إذَا قُرِئَتْ كَمَا يَسْجُدُ إذَا قُرِئَ غَيْرُهَا . وَبِهَذَا فَسَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّهُ سَجَدَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ وَفَعَلَهُ إذَا خَرَجَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ أَوْ تَفْسِيرًا لِمُجْمَلِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ فَدَلَّ
ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ السُّجُودِ الَّذِي سَجَدَهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ لَا سِيَّمَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ . وَالصَّلَاةُ مَفْرُوضَةٌ وَإِتْمَامُهَا مَفْرُوضٌ فَلَا تُقْطَعُ إلَّا بِعَمَلِ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ إتْمَامِهَا فَعُلِمَ أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ إتْمَامِهَا بِلَا سُجُودٍ وَلَوْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ فِعْلًا مِنْ جِنْسِهَا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ . وَهُنَا سُجُودُ التِّلَاوَةِ مَشْرُوعٌ فِيهَا . وَعَنْ أَحْمَد فِي وُجُوبِ هَذَا السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ رِوَايَتَانِ : وَالْأَظْهَرُ الْوُجُوبُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ لِوُجُوهِ مُتَعَدِّدَةٍ : مِنْهَا أَنَّ نَفْسَ الْأَئِمَّةِ يُؤْمَرُونَ أَنْ يُصَلُّوا كَمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ هَكَذَا صَلَّى . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ : { لَا يَسْجُدُونَ } وَلَمْ يَقُلْ لَا يُصَلُّونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ السُّجُودَ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ فَيَتَنَاوَلُ أَيْضًا الْخُضُوعَ وَالْخُشُوعَ كَمَا مُثِّلَ . فَالْقُرْآنُ مُوجِبٌ لِمُسَمَّى السُّجُودِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ فَمَا مِنْ سُجُودٍ إلَّا وَالْقُرْآنُ مُوجِبٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا فَهُوَ كَافِرٌ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ كُلُّ سُجُودٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ بَلْ هُوَ بِحَسَبِ مَا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى تَكْرَارِ السُّجُودِ عِنْدَ تَكْرَارِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ
وَهَذَا وَاجِبٌ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِ الصَّلَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ بِالسُّجُودِ : فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَإِنَّهَا فَرْضٌ بِالِاتِّفَاقِ وَيَتَنَاوَلُ سُجُودَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ السُّجُودَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا تُلِيَ سَبَبًا لَهُ وَإِلَّا كَانَ أَجْنَبِيًّا . وَالْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا السُّجُودَ مِنْ السُّجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَخْرُجُ السُّجُودُ الْمَقْرُونُ بِالْأَمْرِ عَنْ الْأَمْرِ وَهَذَا كَسُجُودِ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ لَمَّا أُمِرُوا . وَهَكَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي . يَقُولُ : يَا وَيْلَهُ . أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْت بِالسُّجُودِ فَأَبَيْت فَلِي النَّارُ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ هَذَا تَرْغِيبًا فِي هَذَا السُّجُودِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا السُّجُودَ مَأْمُورٌ بِهِ كَمَا كَانَ السُّجُودُ لِآدَمَ ؛ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا أَمْرٌ وَقَدْ سُنَّ السُّجُودُ عَقِبَهُ فَمَنْ سَجَدَ كَانَ مُتَشَبِّهًا بِالْمَلَائِكَةِ وَمَنْ أَبَى تَشَبَّهَ بإبليس ؛ بَلْ هَذَا سُجُودٌ لِلَّهِ فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ السُّجُودِ لِآدَمَ . وَهَذَا الْحَدِيثُ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْوُجُوبِ وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ أَيْضًا .
وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ { وَالنَّجْمِ } سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ . كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّهُمْ سَجَدُوا إلَّا رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصَى وَقَالَ يَكْفِينِي هَذَا . قَالَ فَلَقَدْ رَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهَذَا السُّجُودِ وَأَنَّ تَارِكَهُ كَانَ مَذْمُومًا وَلَيْسَ هُوَ سُجُودَ الصَّلَاةِ ؛ بَلْ كَانَ خُضُوعًا لِلَّهِ وَفِيهِمْ كُفَّارٌ وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَضِّئًا لَكِنْ سُجُودُ الْخُضُوعِ إذَا تُلِيَ كَلَامُهُ . كَمَا أَثْنَى عَلَى مَنْ إذَا سَمِعَهُ سَجَدَ فَقَالَ : { إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } وَهَذَا وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ مُتَنَاوِلٌ سُجُودَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ رَكَعُوا وَسَجَدُوا فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مُتَنَاوِلٌ سُجُودَ الْقُرْآنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ السُّجُودَ بَعْضُ الصَّلَاةِ وَهُنَا ذَكَرَ سُجُودًا مُجَرَّدًا عَلَى الْأَذْقَانِ فَمَا بَقِيَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الرُّكُوعِ ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يَكُونُ عَلَى الْأَذْقَانِ . وَقَوْلُهُ : { لِلْأَذْقَانِ } أَيْ عَلَى الْأَذْقَانِ . كَمَا قَالَ : { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أَيْ عَلَى الْجَبِينِ . وَقَوْلُهُ : { لِلْأَذْقَانِ } يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ السُّجُودِ
وَأَنَّهُمْ سَجَدُوا عَلَى الْأَنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ حَتَّى الْتَصَقَتْ الْأَذْقَانُ بِالْأَرْضِ لَيْسُوا كَمَنْ سَجَدَ عَلَى الْجَبْهَةِ فَقَطْ وَالسَّاجِدُ عَلَى الْأَنْفِ قَدْ لَا يُلْصِقُ الذَّقَنَ بِالْأَرْضِ إلَّا إذَا زَادَ انْخِفَاضُهُ . وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْجُدْ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ زَيْدٌ النَّجْمَ وَيَقُولُ عُمَرُ : " لَمَّا قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ سُورَةَ النَّحْلِ حَتَّى جَاءَ السَّجْدَةَ فَنَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ حَتَّى إذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَهَا حَتَّى جَاءَ السَّجْدَةُ . قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ تَشَرَّفُوا فَقَالَ : إنَّا نَمُرُّ بِالسَّجْدَةِ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا وَلَكِنْ قَدْ تَشَوَّفْتُمْ ثُمَّ نَزَلَ فَسَجَدَ " . فَيُقَالُ : تِلْكَ قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ وَلَعَلَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْجُدُ زَيْدٌ لَمْ يَسْجُدْ هُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : أَنْتَ إمَامُنَا فَإِنْ سَجَدْت سَجَدْنَا . وَقَالَ عُثْمَانُ : إنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ جَلَسَ إلَيْهَا وَاسْتَمَعَ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَمِعِ وَلَا تَجِبُ عَلَى السَّامِعِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ إذَا لَمْ يَسْجُدْ الْقَارِئُ . وَقَدْ يُقَالُ : كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُذْرٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : أَنَّ السُّجُودَ فِيهَا مَشْرُوعٌ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : يُمْكِنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى
طَهَارَةٍ لَكِنْ قَدْ يُرَجَّحُ جَوَازُ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ السُّجُودَ فِي النَّجْمِ وَحْدَهَا مَنْسُوخٌ ؛ بِخِلَافِ اقْرَأْ وَالِانْشِقَاقِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَجَدَ فِيهِمَا وَسَجَدَ مَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ } وَهُوَ أَسْلَمَ بَعْدَ خَيْبَرَ . وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ لَمْ يَسْجُدْ فِي الْمُفَصَّلِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَأَمَّا سُوَرُ النَّجْمِ : . بَلْ حَدِيثُ زَيْدٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ فِيهَا قَالَ هَؤُلَاءِ فَيَكُونُ النَّسْخُ فِيهَا خَاصَّةً لَا فِي غَيْرِهَا لَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ أَلْقَاهُ حِينَ ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ وَافَقَهُمْ تَرْكَ السُّجُودِ فِيهَا بِالْكُلِّيَّةِ سَدًّا لِهَذِهِ الذَّرِيعَةِ . وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ تَأْتِي فِي آخِرِ الْقِيَامِ وَسَجْدَةُ الصَّلَاةِ تُغْنِي عَنْهَا فَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ : فَلَوْ كَانَ صَرِيحًا لَكَانَ قَوْلُهُ وَإِقْرَارُ مَنْ حَضَرَ وَلَيْسُوا كُلَّ الْمُسْلِمِينَ . وَقَوْلُ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ . ثُمَّ يُقَالُ : قَدْ يَكُونُ مُرَادُ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا السُّجُودُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَهُوَ إذَا قَرَأَهَا الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ السُّجُودَ فِي هَذِهِ الْحَالِ
لَيْسَ كَالسُّجُودِ الْمُطْلَقِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ فِيهِ الْإِمَامُ الْخُطْبَةَ وَيَعْمَلُ عَمَلًا كَثِيرًا . وَالسُّنَّةُ فِي الْخُطْبَةِ الْمُوَالَاةُ فَلَمَّا تَعَارَضَ هَذَا وَهَذَا صَارَ السُّجُودُ غَيْرَ وَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ الْقَارِئَ يَشْتَغِلُ بِعِبَادَةِ أَفْضَلَ مِنْهُ وَهُوَ خُطْبَةُ النَّاسِ وَإِنْ سَجَدَ جَازَ . وَلِهَذَا يَقُولُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : إنَّ هَذَا السُّجُودَ لَا يُسْتَحَبُّ قَالَ : وَلَيْسَ الْعَمَلُ عِنْدَنَا عَلَى أَنْ يَسْجُدَ الْإِمَامُ إذَا قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُسْتَحَبُّ السُّجُودُ فِي الصَّلَاةِ لَا السِّرِّ وَلَا الْجَهْرِ . وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا يَقُولُونَ : لَا يُسْتَحَبُّ فِي صَلَاةِ السِّرِّ مَعَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُوجِبُ السُّجُودَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يُوجِبُهُ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ لَمْ يَسْتَحِبُّوهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ ؛ بَلْ اتِّصَالُ الصَّلَاةِ عِنْدَهُمْ أَفْضَلُ فَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُرَادَ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يُكْتَبْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ كَمَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ لَا يُسْتَحَبُّ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْحَالِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ الدُّعَاءَ بِعَرَفَةَ لَمَّا كَانَتْ سُنَّتُهُ الِاتِّصَالَ لَمْ يَقْطَعْ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ بَلْ صُلِّيَتْ قَبْلَهُ فَكَذَلِكَ الْخَاطِبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَقْصُودُهُ خِطَابُهُمْ وَأَمْرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ ثُمَّ الصَّلَاةُ عَقِبَ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَشْتَغِلُوا عَنْ هَذَا الْمَقْصُودِ مَعَ أَنَّ عَقِبَهُ يَحْصُلُ السُّجُودُ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ يَسْقُطُ لِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ . أَلَا
تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ قَرَأَ لِنَفْسِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؟ قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يَسْجُدَ دُونَ النَّاسِ كَمَا لَا يَشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَسْجُدَ لِسَهْوِهِ ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ السُّجُودِ وَهُوَ مَعَ الْبُعْدِ وَإِنْ قُلْنَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فَهُوَ كَمَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ إمَامِهِ . وَلَوْ قَرَأَ بِالسَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ بِهَا دُونَ الْإِمَامِ . وَمَا أَعْلَمُ فِي هَذَا نِزَاعًا . فَهُنَا مُحَافَظَتُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فِي الْفِعْلِ الظَّاهِرِ أَفْضَلُ مِنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَمِنْ سُجُودِ السَّهْوِ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ إنَّمَا سَجَدَ النَّاسُ لَمَّا سَجَدَ عُمَرُ وَلَوْ لَمْ يَسْجُدْ لَمْ يَسْجُدُوا حِينَئِذٍ . فَإِذَا كَانَ حَدِيثُ عُمَرَ قَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ حُجَّةٌ وَلَوْ كَانَ مَرْفُوعًا . وَأَيْضًا فَسُجُودُ الْقُرْآنِ هُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ إذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فِي الْجَامِعِ سَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَفِي تَرْكِ ذَلِكَ إخْلَالٌ بِذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا رَجَّحْنَا أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ لَا تَجِبُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَالنَّاسُ يَجْتَمِعُونَ لَهَا أَعْظَمَ مِنْ الْجُمُعَةِ وَقَدْ شُرِعَ فِيهَا التَّكْبِيرُ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا يَنْضَبِطُ فَإِنَّهُ لَوْ حَضَرَهَا فِي
الْمِصْرِ
الْعَظِيمِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ
بِحُضُورِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ .
وَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ فَالْأَظْهَرُ وُجُوبُهَا أَيْضًا فَإِنَّهَا مِنْ
أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ النُّسُكُ الْعَامُّ فِي جَمِيعِ
الْأَمْصَارِ وَالنُّسُكُ مَقْرُونٌ بِالصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ صَلَاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } فَأَمَرَ بِالنَّحْرِ كَمَا أَمَرَ
بِالصَّلَاةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا
لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ
فَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } وَقَالَ
: { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا
فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا
لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا
دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } وَهِيَ
مِنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ الَّذِي أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ وَبِهَا
يُذْكَرُ قِصَّةُ الذَّبِيحِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ
يَتْرُكُونَ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَتَرْكُ الْمُسْلِمِينَ
كُلِّهِمْ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ تَرْكِ الْحَجِّ فِي بَعْضِ السِّنِينَ . وَقَدْ
قَالُوا إنَّ الْحَجَّ كُلَّ عَامٍ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ
شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَالضَّحَايَا فِي عِيدِ النَّحْرِ كَذَلِكَ بَلْ هَذِهِ
تُفْعَلُ فِي كُلِّ بَلَدٍ
هِيَ وَالصَّلَاةُ فَيَظْهَرُ بِهَا عِبَادَةُ اللَّهِ وَذِكْرُهُ وَالذَّبْحُ لَهُ وَالنُّسُكُ لَهُ مَا لَا يَظْهَرُ بِالْحَجِّ كَمَا يَظْهَرُ ذِكْرُ اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ فِي الْأَعْيَادِ . وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِالْأَمْرِ بِهَا . وَقَدْ خَرَجَ وُجُوبُهَا قَوْلًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَوْ ظَاهِرِ مَذْهَبِ مَالِكٍ . ونفاة الْوُجُوبِ لَيْسَ مَعَهُمْ نَصٌّ فَإِنَّ عُمْدَتَهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ وَدَخَلَ الْعَشْرُ فَلَا يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ } . قَالُوا : وَالْوَاجِبُ لَا يُعَلَّقُ بِالْإِرَادَةِ . وَهَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ فَإِنَّ الْوَاجِبَ لَا يُوكِلُ إلَى إرَادَةِ الْعَبْدِ . فَيُقَالُ : إنْ شِئْت فَافْعَلْهُ ؛ بَلْ قَدْ يُعَلَّقُ الْوَاجِبُ بِالشَّرْطِ لِبَيَانِ حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ . كَقَوْلِهِ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } وَقَدْ قَدَّرُوا فِيهِ : إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ وَقَدَّرُوا : إذَا أَرَدْت الْقِرَاءَةَ فَاسْتَعِذْ وَالطَّهَارَةُ وَاجِبَةٌ وَالْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ وَقَدْ قَالَ : { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } وَمَشِيئَةُ الِاسْتِقَامَةِ وَاجِبَةٌ . وَأَيْضًا فَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْقَادِرِ فَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ . كَمَا قَالَ : { مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ فَإِنَّهُ قَدْ تَضِلُّ الضَّالَّةُ وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ } وَالْحَجُّ فَرْضٌ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ . فَقَوْلُهُ : { مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ } كَقَوْلِهِ : { مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ
فَلْيَتَعَجَّلْ } وَوُجُوبُهَا حِينَئِذٍ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهَا فَاضِلًا عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ . كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ . وَيَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِالشَّاةِ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ - صَاحِبُ الْمَنْزِلِ - وَنِسَائِهِ وَأَوْلَادِهِ وَمِنْ مَعَهُمْ . كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ . وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُضَحِّ بَلْ اشْتَرَى لَحْمًا . فَقَدْ تَكُونُ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ . كَمَا تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَقَدْ يَكُونُ مَنْ لَمْ يُضَحِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِعَةٌ فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَوْبِيخَ أَهْلِ الْمُبَاهَاةِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَهَا لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِتَرْكِهَا ذَلِكَ الْعَامِ تَوْبِيخَهُمْ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامُ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالِ مَعَهُمْ حُزَمُ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ } فَكَانَ يَدَعُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ الْوَاجِبَةَ لِأَجْلِ عُقُوبَةِ الْمُتَخَلِّفِينَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْجِهَادِ الَّذِي قَدْ يَضِيقُ وَقْتُهُ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَلَوْ أَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ كَالْمُحْتَسِبِ وَغَيْرِهِ تَخَلَّفَ بَعْضَ الْأَيَّامِ عَنْ الْجُمُعَةِ لِيَنْظُرَ مَنْ لَا يُصَلِّيهَا فَيُعَاقِبَهُ جَازَ ذَلِكَ . وَكَانَ هَذَا مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِتَرْكِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ عُقُوبَةَ أُولَئِكَ وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَوْلَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ
لَحَرَّقَ
الْبُيُوتَ عَلَى مَنْ فِيهَا لَكِنْ فِيهَا مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ جُمُعَةٌ
وَلَا جَمَاعَةٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَلَا تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ .
كَمَا لَا تُرْجَمُ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا ؛ لِأَنَّ قَتْلَ
الْجَنِينِ لَا يَجُوزُ . كَمَا فِي حَدِيثِ الغامدية .
فَصْلٌ :
وَسُجُودُ الْقُرْآنِ لَا يُشْرَعُ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَلَا تَحْلِيلٌ : هَذَا هُوَ
السُّنَّةُ الْمَعْرُوفَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْأَئِمَّةِ
الْمَشْهُورِينَ . وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَتْ صَلَاةً فَلَا تُشْتَرَطُ لَهَا
شُرُوطُ الصَّلَاةِ بَلْ تَجُوزُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ . كَمَا كَانَ ابْنُ
عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ ؛ لَكِنْ هِيَ بِشُرُوطِ الصَّلَاةِ
أَفْضَلُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخِلَّ بِذَلِكَ إلَّا لِعُذْرِ . فَالسُّجُودُ
بِلَا طَهَارَةٍ خَيْرٌ مِنْ الْإِخْلَالِ بِهِ ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ
لَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِ وَلَا عَلَى
مَنْ لَمْ يَسْجُدْ قَارِئُهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ السُّجُودُ جَائِزًا عِنْدَ
جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْتَمِّ فِي الصَّلَاةِ
تَبَعًا لِإِمَامِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ قَالُوا . لَا يَجِبُ فِي غَيْرِ
هَذِهِ الْحَالِ وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ زَيْدٍ عَلَى أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا وَكَمَا لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَإِنْ جَازَ لَهُ فِعْلُهَا لَا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يُجَوِّزُونَ فِعْلَهَا إلَّا مَعَ الطَّهَارَةِ وَلَكِنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهَا لِلْحَدِيثِ . وَالْمَرْوِيُّ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ عِبَادَةٍ إلَى عِبَادَةٍ . وَعَلَى هَذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ : ( بَابُ سَجْدَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكُ نَجِسٌ لَيْسَ لَهُ وُضُوءٌ ) . قَالَ : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَذَكَرَ { سُجُودَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّجْمِ لَمَّا سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَهَذَا فَعَلُوهُ تَبَعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ قَوْلَهُ : { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا . } وَمَعْلُومٌ أَنَّ جِنْسَ الْعِبَادَةِ لَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ بَلْ إنَّمَا تُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ . فَكَذَلِكَ جِنْسُ السُّجُودِ يُشْتَرَطُ لِبَعْضِهِ وَهُوَ السُّجُودُ الَّذِي لِلَّهِ كَسُجُودِ الصَّلَاةِ وَسَجْدَتَيْ السَّهْوِ بِخِلَافِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَسُجُودِ الشُّكْرِ وَسُجُودِ الْآيَاتِ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ سُجُودِ السَّحَرَةِ لَمَّا آمَنُوا بِمُوسَى عَلَى وَجْهِ الرِّضَا بِذَلِكَ السُّجُودِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَوَضِّئِينَ وَلَا يَعْرِفُونَ الْوُضُوءَ . فَعُلِمَ أَنَّ السُّجُودَ الْمُجَرَّدَ لِلَّهِ مِمَّا يُحِبُّهُ
اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ مُتَوَضِّئًا وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِخِلَافِهِ وَهَذَا سُجُودُ إيمَانٍ وَنَظِيرُهُ { الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَاعْتَصَمُوا بِالسُّجُودِ وَلَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ خَالِدٌ فَقَتَلَهُمْ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا فَوَدَاهُمْ بِنِصْفِ دِيَةٍ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ السُّجُودَ } وَلَمْ يَكُونُوا بَعْدُ قَدْ أَسْلَمُوا وَلَا عَرَفُوا الْوُضُوءَ بَلْ سَجَدُوا لِلَّهِ سُجُودَ الْإِسْلَامِ كَمَا سَجَدَ السَّحَرَةُ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَيَقُولُوا : حِطَّةٌ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِوُضُوءِ وَلَا كَانَ الْوُضُوءُ مَشْرُوعًا لَهُمْ ؛ بَلْ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وَسَوَاءٌ أُرِيدَ السُّجُودُ بِالْأَرْضِ أَوْ الرُّكُوعُ . فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ الرُّكُوعُ فَهُوَ عِبَادَةٌ مُفْرَدَةٌ : يَتَضَمَّنُ الْخُضُوعَ لِلَّهِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ السُّجُودِ . لَكِنَّ شَرْعَنَا شُرِعَ فِيهِ سُجُودٌ مُفْرَدٌ وَأَمَّا رُكُوعٌ مُفْرَدٌ فَفِيهِ نِزَاعٌ جَوَّزَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَدَلًا عَنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ . وَأَيْضًا فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ بِالسُّجُودِ الْمُجَرَّدِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وَلَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالْوُضُوءِ فَإِنَّ الْوُضُوءَ مِنْ خَصَائِصِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ كَمَا جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ { أَنَّهُمْ
يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ وَأَنَّ الرَّسُولَ يَعْرِفُهُمْ بِهَذِهِ السِّيمَاءِ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْرَكُهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَغَيْرُهُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ : { هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي } . حَدِيثٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهِ وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ خَبَرٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَيَمُّمٌ إذَا عَدِمُوا الْمَاءَ وَهَذِهِ الْأُمَّةُ مِمَّا فُضِّلَتْ بِهِ التَّيَمُّمُ مَعَ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ . وَالْوُضُوءِ . فَإِنْ قِيلَ : أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءُ إنَّمَا سَجَدُوا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ تَجُوزُ لَهُمْ بِغَيْرِ وُضُوءٍ . قِيلَ : لَمْ يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَنَحْنُ إنَّمَا نَتَّبِعُ مِنْ شَرْعِ الْأَنْبِيَاءِ مَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا وَمَا أَخْبَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَصَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا لِنَعْتَبِرَ بِهِ . وَقَالَ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } وَكَذَلِكَ ذُكِرَ عَنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ : أَنَّهُمْ { إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا }
وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّهَارَةَ لِلصَّلَاةِ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَكَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ } وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ . يَبْقَى الْكَلَامُ فِي مُسَمَّى " الصَّلَاةِ " فَإِنَّ الَّذِينَ أَوْجَبُوا الطَّهَارَةَ لِلسُّجُودِ الْمُجَرَّدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ . فَقَالُوا : يُسَلِّمُ مِنْهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُكَبِّرُ تَكْبِيرَتَيْنِ : تَكْبِيرَةٌ لِلِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَةٌ لِلسُّجُودِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَتَشَهَّدُ فِيهِ وَلَيْسَ مَعَهُمْ لِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَثَرٌ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ بَلْ هُوَ مِمَّا قَالُوهُ بِرَأْيِهِمْ لَمَّا ظَنُّوهُ صَلَاةً . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تَكُونُ الصَّلَاةُ إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَمَا دُونُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ صَلَاةً إلَّا رَكْعَةَ الْوِتْرِ . وَاحْتَجَّ بِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى } وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ . وَلَمْ يَشْتَرِطْ الطَّهَارَةَ لِمَا دُونَ ذَلِكَ لَا لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَلَا لِغَيْرِهَا . وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ . فَإِنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصِّحَاحِ الَّذِي رَوَاهُ الثقاة قَوْلُهُ : { صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى } وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَ " النَّهَارِ " فَزِيَادَةٌ انْفَرَدَ بِهَا البارقي وَقَدْ ضَعَّفَهَا أَحْمَد
وَغَيْرُهُ وَالْمَرْجِعُ فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ إلَى الرَّسُولِ . وَفِي السُّنَنِ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } . وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ : فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ " الصَّلَاةَ " الَّتِي مِفْتَاحُهَا الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا تَحْرِيمُهُ التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهُ التَّسْلِيمُ : كَالصَّلَاةِ الَّتِي فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ سَوَاءٌ كانت مَثْنَى أَوْ وَاحِدَةً أَوْ كَانَتْ ثَلَاثًا مُتَّصِلَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَهُوَ يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ فَإِنَّ تَحْرِيمَهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلَهَا التَّسْلِيمُ . وَالصَّحَابَةُ أُمِرُوا بِالطِّهَارَةِ لِمَا فَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ . فَقَالَ فِي ( بَابِ سُنَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ } وَقَالَ : { صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ } وَقَالَ : { صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ } سَمَّاهَا صَلَاةً وَلَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُصَلِّي إلَّا طَاهِرًا وَلَا يُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبِهَا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } وَفِيهَا صُفُوفٌ وَإِمَامٌ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي ذَكَرَهَا كُلَّهَا مُنْتَفِيَةٌ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ
وَسُجُودِ الْآيَاتِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُسَمِّ ذَلِكَ صَلَاةً وَلَمْ يُشْرَعْ لَهَا الِاصْطِفَافُ وَتَقَدُّمُ الْإِمَامِ كَمَا يُشْرَعُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَتَيْ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ . وَلَا سَنَّ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَامًا لَمْ يُرْوَ ذَلِكَ عَنْهُ لَا بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ وَلَا جَعَلَ لَهَا تَكْبِيرَ افْتِتَاحٍ وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَبَّرَ فِيهَا إمَّا لِلرَّفْعِ وَإِمَّا لِلْخَفْضِ . وَالْحَدِيثُ فِي السُّنَنِ . وَابْنُ عَبَّاسٍ جَوَّزَ التَّيَمُّمَ لِلْجِنَازَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ تُشْتَرَطُ لَهَا عِنْدَهُ وَكَذَلِكَ هَذِهِ الصِّفَاتُ مُنْتَفِيَةٌ فِي الطَّوَافِ فَلَيْسَ فِيهِ تَسْلِيمٌ وَالْكَلَامُ جَائِزٌ فِيهِ وَلَيْسَ فِيهِ اصْطِفَافٌ وَإِمَامٌ وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ بَيْنَ الطَّائِفِ وَالْمُصَلِّي وَلَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ لَكِنَّهُ كَانَ يَطُوفُ مُتَطَهِّرًا هُوَ وَالصَّحَابَةُ وَكَانُوا يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَ الطَّوَافِ وَلَا يُصَلِّي إلَّا مُتَطَهِّرًا وَالنَّهْيُ إنَّمَا جَاءَ فِي طَوَافِ الْحَائِضِ فَقَالَ : { الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ } وَقَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ وَقِيلَ : لِأَجْلِ الطَّوَافِ وَقِيلَ : لَهُمَا . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَطْهِيرَهُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ .
وَأَيْضًا فَإِبْرَاهِيمُ وَالنَّبِيُّونَ بَعْدَهُ كَانُوا يَطُوفُونَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ كَمَا كَانُوا يُصَلُّونَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَشَرْعُهُمْ شَرْعُنَا إلَّا فِيمَا نُسِخَ فَالصَّلَاةُ قَدْ أُمِرْنَا بِالْوُضُوءِ لَهَا وَلَمْ يُفْرَضُ عَلَيْنَا الْوُضُوءُ لِغَيْرِهَا كَمَا جُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَحَيْثُ مَا أَدْرَكَتْ الْمُسْلِمَ الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا تَيَمَّمَ وَصَلَّى وَمَنْ قَبْلَنَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ بَلْ كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَنَابَةِ حَتَّى يَغْتَسِلُوا كَمَا يُمْنَعُ الْجُنُبُ مِنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ وَمِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ . وَيَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مُعْتَكِفًا وَغَيْرِ مُعْتَكِفٍ . وَيَجُوزُ لَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالْمَرْوِيُّ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنْ عِبَادَةٍ إلَى عِبَادَةٍ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ إذَا كَانَ يَتْلُو الْكِتَابَ الْعَزِيزَ بَيْنَ جَمَاعَةٍ
فَقَرَأَ سَجْدَةً فَقَامَ عَلَى قَدَمَيْهِ وَسَجَدَ . فَهَلْ قِيَامُهُ أَفْضَلُ
مِنْ سُجُودِهِ . وَهُوَ قَاعِدٌ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ فِعْلُهُ ذَلِكَ رِيَاءٌ
وَنِفَاقٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
بَلْ سُجُودُ التِّلَاوَةِ قَائِمًا أَفْضَلُ مِنْهُ قَاعِدًا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ
مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
وَغَيْرِهِمَا وَكَمَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ بَلْ وَكَذَلِكَ سُجُودُ الشُّكْرِ
كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ سُجُودِهِ لِلشُّكْرِ قَائِمًا وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الِاعْتِبَارِ
فَإِنَّ صَلَاةَ الْقَائِمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ . وَقَدْ ثَبَتَ {
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ أَحْيَانًا
يُصَلِّي قَاعِدًا فَإِذَا قَرُبَ مِنْ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ
وَهُوَ قَائِمٌ وَأَحْيَانًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَهُوَ قَاعِدٌ } فَهَذَا قَدْ
يَكُونُ لِلْعُذْرِ أَوْ لِلْجَوَازِ وَلَكِنْ تَحَرِّيهِ مَعَ قُعُودِهِ أَنْ
يَقُومَ لِيَرْكَعَ وَيَسْجُدَ وَهُوَ قَائِمٌ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ .
إذْ هُوَ أَكْمَلُ وَأَعْظَمُ خُشُوعًا لِمَا فِيهِ مِنْ هُبُوطِ رَأْسِهِ
وَأَعْضَائِهِ السَّاجِدَةِ لِلَّهِ مِنْ الْقِيَامِ .
وَمَنْ
كَانَ لَهُ وِرْدٌ مَشْرُوعٌ مِنْ صَلَاةِ الضُّحَى أَوْ قِيَامِ لَيْلٍ أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهِ حَيْثُ كَانَ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَدَعَ وِرْدَهُ الْمَشْرُوعَ لِأَجْلِ كَوْنِهِ بَيْنَ النَّاسِ إذَا عَلِمَ
اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ سِرًّا لِلَّهِ مَعَ اجْتِهَادِهِ فِي
سَلَامَتِهِ مِنْ الرِّيَاءِ وَمُفْسِدَاتِ الْإِخْلَاصِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ
الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ : تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ
وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ . وَفِعْلُهُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي تَكُونُ
فِيهِ مَعِيشَتُهُ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ
مِنْ أَنْ يَفْعَلَهُ حَيْثُ تَتَعَطَّلُ مَعِيشَتُهُ وَيَشْتَغِلُ قَلْبُهُ
بِسَبَبِ ذَلِكَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَجْمَعَ لِلْقَلْبِ
وَأَبْعَدَ مِنْ الْوَسْوَاسِ كَانَتْ أَكْمَلَ . وَمَنْ نَهَى عَنْ أَمْرٍ
مَشْرُوعٍ بِمُجَرَّدِ زَعْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ رِيَاءٌ فَنَهْيُهُ مَرْدُودٌ
عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ لَا يُنْهَى عَنْهَا خَوْفًا مِنْ
الرِّيَاءِ بَلْ يُؤْمَرُ بِهَا وَبِالْإِخْلَاصِ فِيهَا وَنَحْنُ إذَا رَأَيْنَا
مَنْ يَفْعَلُهَا أَقْرَرْنَاهُ وَإِنْ جَزَمْنَا أَنَّهُ يَفْعَلُهَا رِيَاءً
فَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا
كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا }
فَهَؤُلَاءِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ
يُقِرُّونَهُمْ عَلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ الدِّينِ وَإِنْ كَانُوا مُرَائِينَ
وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي تَرْكِ إظْهَارِ
الْمَشْرُوعِ
أَعْظَمُ مِنْ الْفَسَادِ فِي إظْهَارِهِ رِيَاءً كَمَا أَنَّ فَسَادَ تَرْكِ
إظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَوَاتِ أَعْظَمُ مِنْ الْفَسَادِ فِي إظْهَارِ
ذَلِكَ رِيَاءً ؛ وَلِأَنَّ الْإِنْكَارَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْفَسَادِ فِي
إظْهَارِ ذَلِكَ رِئَاءَ النَّاسِ .
الثَّانِي : لِأَنَّ الْإِنْكَارَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَا أَنْكَرَتْهُ
الشَّرِيعَةُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَنْ أَشُقَّ
بُطُونَهُمْ ؟ } وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : مَنْ أَظْهَرَ لَنَا
خَيْرًا أَحْبَبْنَاهُ وَوَالَيْنَاهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ
بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا شَرًّا أَبْغَضْنَاهُ عَلَيْهِ وَإِنْ
زَعَمَ أَنَّ سَرِيرَتَهُ صَالِحَةٌ . الثَّالِثُ : أَنَّ تَسْوِيغَ مِثْلِ هَذَا يُفْضِي
إلَى أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ
وَالدِّينِ إذَا رَأَوْا مَنْ يُظْهِرُ أَمْرًا مَشْرُوعًا مَسْنُونًا قَالُوا :
هَذَا مِرَاءٌ فَيَتْرُكُ أَهْلُ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ إظْهَارَ الْأُمُورِ
الْمَشْرُوعَةِ حَذَرًا مِنْ لَمْزِهِمْ وَذَمِّهِمْ فَيَتَعَطَّلُ الْخَيْرُ
وَيَبْقَى لِأَهْلِ الشِّرْكِ شَوْكَةٌ يُظْهِرُونَ الشَّرَّ وَلَا أَحَدَ
يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ شَعَائِرِ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ يَطْعَنُ
عَلَى مَنْ يُظْهِرُ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ
وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ
سَخِرَ
اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَضَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَامَ تَبُوكَ جَاءَ بَعْضُ
الصَّحَابَةِ بِصُرَّةِ كَادَتْ يَدُهُ تَعْجِزُ مِنْ حَمْلِهَا فَقَالُوا : هَذَا
مِرَاءٌ وَجَاءَ بَعْضُهُمْ بِصَاعِ فَقَالُوا : لَقَدْ كَانَ اللَّهُ غَنِيًّا
عَنْ صَاعِ فُلَانٍ فَلَمَزُوا هَذَا وَهَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ وَصَارَ
عِبْرَةً فِيمَنْ يَلْمِزُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُئِلَ :
عَنْ الرَّجُلِ إذَا تُلِيَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِيهِ سَجْدَةٌ سَجَدَ عَلَى
غَيْرِ وُضُوءٍ فَهَلْ يَأْثَمُ ؟ أَوْ يَكْفُرُ ؛ أَوْ تُطْلَقُ عَلَيْهِ
زَوْجَتُهُ ؟.
فَأَجَابَ :
لَا يَكْفُرُ وَلَا تُطْلَقُ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ وَلَكِنْ يَأْثَمُ عِنْدَ
أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ
مَنْ صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ فِيمَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ بِالْإِجْمَاعِ .
كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَإِذَا كَفَرَ كَانَ
مُرْتَدًّا . وَالْمُرْتَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ
وَلَكِنَّ تَكْفِيرَ هَذَا لَيْسَ مَنْقُولًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ وَلَا
عَنْ صَاحِبَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ أَتْبَاعِهِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
عَلَى أَنَّهُ يُعَزَّرُ وَلَا يَكْفُرُ إلَّا إذَا اسْتَحَلَّ ذَلِكَ
وَاسْتَهْزَأَ بِالصَّلَاةِ . وَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ : فَمِنْ
الْعُلَمَاءِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهَا تَجُوزُ بِغَيْرِ
طَهَارَةٍ
وَمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ لَا يَكْفُرُ فَاعِلُهُ
بِالِاتِّفَاقِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا تَبِينُ
مِنْهُ زَوْجَتُهُ إلَّا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى
الْإِسْلَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ هَلْ يَدْعُو بِهِ فِي الصَّلَاةِ ؟ أَمْ بَعْدَ
السَّلَامِ ؟ .
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ الدُّعَاءُ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ وَغَيْرِهَا : قَبْلَ السَّلَامِ
وَبَعْدَهُ وَالدُّعَاءُ قَبْلَ السَّلَامِ أَفْضَلُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ
وَالْمُصَلِّي قَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يَنْصَرِفْ فَهَذَا أَحْسَنُ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَالنِّزَاعِ فِي ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ وَغَيْرِهَا ،
فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ اضْطِرَابًا كَثِيرًا .
فَنَقُولُ : قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ
عَامًّا لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ
رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ وَفِي لَفْظٍ
فَلْيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى وَفِي لَفْظٍ فَيُتِمُّ صَلَاتَهُ وَفِي لَفْظٍ
سَجْدَةً } وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ وَكَذَلِكَ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً
مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ وَفِي لَفْظٍ : فَلْيُتِمَّ
صَلَاتَهُ وَفِي لَفْظٍ فَلْيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى وَفِي لَفْظٍ : سَجْدَةً }
وَفِي هَذَا أَمْرُهُ بِالرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْفَجْرِ عِنْدَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ . وَفِيهِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ عِنْدَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ صَحَّتْ
تِلْكَ الرَّكْعَةُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَصِلَ إلَيْهَا أُخْرَى . وَهَذَا الثَّانِي مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعَلَى هَذَا مَجْمُوعُ الصَّحَابَةِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ : كَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ فَقَالَ : لَوْ طَلَعَتْ لَمْ تَجِدْنَا غَافِلِينَ . فَهَذَا خِطَابُ الصِّدِّيقِ لِلصَّحَابَةِ يُبَيِّنُ أَنَّهَا لَوْ طَلَعَتْ لَمْ يَضُرَّهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ تَجِدْهُمْ غَافِلِينَ بَلْ وَجَدْتهمْ ذَاكِرِينَ اللَّهَ مُمْتَثِلِينَ لِقَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ } وَهَذَا الْقَوْلُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : يَقْضِي مَا نَامَ عَنْهُ أَوْ نَسِيَهُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ يَقُولُونَ : تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهَا صَارَتْ فَائِتَةً وَالْفَوَاتُ عِنْدَهُمْ لَا يُقْضَى فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ بِخِلَافِ عَصْرِ يَوْمِهِ فَإِنَّهَا حَاضِرَةٌ مَفْعُولَةٌ فِي وَقْتِهَا . وَاحْتَجُّوا بِتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ يَوْمَ نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْهَا حَتَّى طَلَعَتْ
الشَّمْسُ . وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِوُجُوهِ . أَحَدُهَا : أَنَّ التَّأْخِيرَ كَانَ لِأَجْلِ الْمَكَانِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هَذَا وَادٍ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ } . الثَّانِي : أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ . الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ فِيمَنْ ابْتَدَأَ قَضَاءَ الْفَائِتَةِ . أَمَّا مَنْ صَلَّى رَكْعَةً قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْوَقْتَ . كَمَا قَالَ : { فَقَدْ أَدْرَكَ } وَالثَّانِيَةُ تُفْعَلُ تَبَعًا كَمَا يَفْعَلُهُ الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً . قَالُوا : وَهَذَا أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ ؛ لِأَنَّ الْغُرُوبَ مَشْهُودٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَهُ . وَأَمَّا الطُّلُوعُ فَهُوَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ لَا يَعْلَمُ مَتَى تَطْلُعُ . فَإِذَا صَلَّى صَلَّى فِي الْوَقْتِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَأْثَمُ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهَا قَبْلَ الطُّلُوعِ كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْمَوَاقِيتِ " أَنَّهُ سَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالْقَائِلُ يَقُولُ : قَدْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ " . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { وَقْتُ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ } وَقَالَ : { وَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ } وَفِي لَفْظٍ : { مَا لَمْ تُضَيَّفْ لِلْغُرُوبِ } فَمَنْ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ جَمِيعَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ صَلَّى الْعَصْرَ وَقْتَ الْغُرُوبِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ آثِمٌ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ ؛ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى
إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } . لَكِنْ جَعَلَهُ الرَّسُولُ مُدْرِكًا لِلْوَقْتِ وَهُوَ وَقْتُ الضَّرُورَةِ فِي مِثْلِ النَّائِمِ إذَا اسْتَيْقَظَ وَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ وَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا أَفَاقَا فَأَمَّا مَنْ أَمْكَنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ بِالتَّأْخِيرِ إلَيْهِ وَهُوَ مِنْ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ وَلَكِنْ فِعْلُهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَيْرٌ مِنْ تَفْوِيتِهَا ؛ فَإِنَّ تَفْوِيتَهَا مِنْ الْكَبَائِرِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ : صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } وَأَمَّا الْمُصَلِّي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ مَنْ صَلَّى رَكْعَةً بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَمَنْ صَلَّى رَكْعَةً قَبْلَ طُلُوعِهَا أَوْ قَدْ صَلَّاهَا قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ شَيْءٌ مِنْهَا فَهُوَ وَقَوْلُهُمْ : إنَّ ذَلِكَ يُصَلِّي الثَّانِيَةَ فِي وَقْتِ جَوَازٍ بَعْدَ الْغُرُوبِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ . فَإِنَّهُ يُصَلِّي الثَّانِيَةَ وَقْتَ نَهْيٍ . يُقَالُ : الْكَلَامُ فِي الْأَمْرَيْنِ لِمَ جَوَّزْتُمْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ وَقْتَ النَّهْيِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إنَّمَا جَعَلَ وَقْتَ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَغْرُبْ الشَّمْسُ أَوْ تُضَيَّفْ لِلْغُرُوبِ وَلَمْ تُجَوِّزُوا فِعْلَ الْفَجْرِ وَقْتَ النَّهْيِ ؟ الثَّانِي : أَنَّ مُصَلِّيَ الْعَصْرِ وَإِنْ صَلَّى الثَّانِيَةَ فِي غَيْرِ وَقْتِ نَهْيٍ فَمُصَلِّي الْفَجْرِ صَلَّى الْأُولَى فِي غَيْرِ وَقْتِ نَهْيٍ ثُمَّ إنَّهُ تَرَجَّحَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ صَلَّى الْأُولَى فِي وَقْتِهَا بِلَا ذَمٍّ وَلَا نَهْيٍ ؛ بِخِلَافِ مُصَلِّي الْعَصْرِ فَإِنَّهُ إنَّمَا صَلَّى الْأُولَى مَعَ الذَّمِّ وَالنَّهْيِ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ وَاتِّفَاقُهُمْ : عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ كُلِّ صَلَاةٍ ؛ بَلْ عَصْرُ يَوْمِهِ تُفْعَلُ وَقْتَ النَّهْيِ بِالنَّصِّ وَاتِّفَاقِهِمْ . وَكَذَلِكَ الثَّانِيَةُ مِنْ الْفَجْرِ تُفْعَلُ بِالنَّصِّ مَعَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ . فَإِنْ قِيلَ فَهُوَ مَذْمُومٌ عَلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقْتَ النَّهْيِ فَكَيْفَ يَقُولُونَ : لَمْ يَنْهَ قَبْلَ الذَّمِّ ؟ إنَّمَا هُوَ لِتَأْخِيرِهَا إلَى هَذَا الْوَقْتِ ثُمَّ إذَا عَصَى بِالتَّأْخِيرِ أُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلَا يُفَوِّتُهَا فَإِنَّ التَّفْوِيتَ أَعْظَمُ إثْمًا ؛ وَلَا يَجُوزُ بِحَالِ مِنْ الْأَحْوَالِ وَكَانَ أَنْ يُصَلِّيَهَا مَعَ نَوْعٍ مِنْ الْإِثْمِ خَيْرًا مِنْ أَنْ يُفَوِّتَهَا فَيَلْزَمُهُ مِنْ الْإِثْمِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ . وَالشَّارِعُ دَائِمًا يُرَجِّحُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا ؛ وَيَدْفَعُ شَرَّ الشَّرَّيْنِ بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا وَهَذَا كَمَنْ مَعَهُ مَاءٌ فِي السَّفَرِ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِطَهَارَتِهِ يُؤْمَرُ بِأَنْ يَتَطَهَّرَ بِهِ فَإِنْ أَرَاقَهُ عَصَى وَأُمِرَ بِالتَّيَمُّمِ وَكَانَتْ صَلَاتُهُ
بِالتَّيَمُّمِ خَيْرًا مِنْ تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ ؛ لَكِنْ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَمُفَوِّتُ الْوَقْتِ لَا تُمْكِنُهُ الْإِعَادَةُ . كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَقَدْ دَلَّ النَّصُّ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ شَامِلًا لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقَدْ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى قَضَاءِ الْفَوَائِتِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ } وَفِي حَدِيثِ أَبِي قتادة الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمِ : { لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ : عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الْأُخْرَى فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا } فَقَدْ أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ حِينَ يَنْتَبِهُ وَحِينَ يَذْكُرُ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَقْتٍ . وَهَذَا الْعُمُومُ أَوْلَى مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ ذَاكَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْفَرْضَ ؛ لَا أَدَاءً وَلَا قَضَاءً لَمْ يَتَنَاوَلْ عَصْرَ يَوْمِهِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الْفَجْرِ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا اسْتَيْقَظَ أَوْ ذَكَرَ فَهُوَ وَقْتُ تِلْكَ الصَّلَاةِ فَكَانَ فِعْلُهَا فِي وَقْتِهَا كَفِعْلِ عَصْرِ يَوْمِهِ فِي وَقْتِهَا مَعَ أَنَّ هَذَا مَعْذُورٌ وَذَاكَ غَيْرُ مَعْذُورٍ لَكِنْ يُقَالُ : هَذَا الْمُفَوِّتُ لَوْ أَخَّرَهَا حَتَّى يَزُولَ وَقْتُ النَّهْيِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ تَفْوِيتٌ ثَانٍ بِخِلَافِ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُصَلِّهَا لَفَاتَتْ وَكَذَلِكَ الثَّانِيَةُ مِنْ الْفَجْرِ .
فَيُقَالُ
: هَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ تَأْخِيرِهَا لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ كَمَا أَخَّرَهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : { هَذَا وَادٍ حَضَرَنَا
فِيهِ الشَّيْطَانُ } وَمِثْلُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا حَتَّى يَتَطَهَّرَ غَيْرُهُ
وَيُصَلُّوهَا جَمَاعَةً كَمَا صَلَّوْا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْفَجْرِ لَمَّا نَامُوا عَنْهَا بِخِلَافِ الْفَجْرِ
وَالْعَصْرِ الْحَاضِرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْوِيتُهَا بِحَالِ مِنْ
الْأَحْوَالِ . وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَّاهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا عُمُومَ
لِوَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتِ غُرُوبِهَا فَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمَوَاقِيتِ
أَوْلَى وَأَحْرَى .
فَصْلٌ :
وَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ
بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ }
رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَاحْتَجَّ بِهِ
الْأَئِمَّةُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ وَأَخَذُوا
بِهِ وَجَوَّزُوا الطَّوَافَ وَالصَّلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ كَمَا
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ . وَأَمَّا فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فَعَنْ أَحْمَد فِيهِ
رِوَايَتَانِ . وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ
وَغَيْرِهِمَا لَا يَرَوْنَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِي
وَقْتِ النَّهْيِ وَالْحُجَّةُ مَعَ أُولَئِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ قَوْلَهُ : { لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ } عُمُومٌ مَقْصُودٌ فِي الْوَقْتِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ الْمَوَاقِيتُ الْخَمْسَةُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ لَمْ يَخُصَّ مِنْهُ صُورَةً لَا بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ وَحَدِيثُ النَّهْيِ مَخْصُوصٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْعُمُومُ الْمَحْفُوظُ رَاجِحٌ عَلَى الْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْبَيْتَ مَا زَالَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيُصَلُّونَ عِنْدَهُ مِنْ حِينِ بَنَاهُ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ يَطُوفُونَ بِهِ وَيُصَلُّونَ عِنْدَهُ وَكَذَلِكَ لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ كَثُرَ طَوَافُ الْمُسْلِمِينَ بِهِ وَصَلَاتُهُمْ عِنْدَهُ . وَلَوْ كَانَتْ رَكْعَتَا الطَّوَافِ مَنْهِيًّا عَنْهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ نَهْيًا عَامًّا لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَى ذَلِكَ وَلَكَانَ ذَلِكَ يُنْقَلُ وَلَمْ يَنْقُلْ مُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الطَّوَافَ طَرَفَيْ النَّهَارِ أَكْثَرُ وَأَسْهَلُ . الرَّابِعُ : أَنَّ فِي النَّهْيِ تَعْطِيلًا لِمَصَالِحِ ذَلِكَ مِنْ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ .
الْخَامِسُ
: أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ وَمَا كَانَ لِسَدِّ
الذَّرِيعَةِ فَإِنَّهُ يُفْعَلُ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَذَلِكَ أَنَّ
الصَّلَاةَ فِي نَفْسِهَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَقِيمُوا وَلَنْ
تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } فَلَيْسَ فِيهَا
نَفْسِهَا مَفْسَدَةٌ تَقْتَضِي النَّهْيَ وَلَكِنْ وَقْتُ الطُّلُوعَ
وَالْغُرُوبِ الشَّيْطَانُ يُقَارِنُ الشَّمْسَ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا
الْكُفَّارُ فَالْمُصَلِّي حِينَئِذٍ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ فِي جِنْسِ الصَّلَاةِ .
فَالسُّجُودُ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ مَعْبُودَهُمْ وَلَا يَقْصِدُونَ
مَقْصُودَهُمْ لَكِنْ يُشَبِّهُهُمْ فِي الصُّورَةِ فَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي
هَاتَيْنِ الْوَقْتَيْنِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ حَتَّى يَنْقَطِعَ التَّشَبُّهُ
بِالْكُفَّارِ وَلَا يَتَشَبَّهَ بِهِمْ الْمُسْلِمُ فِي شِرْكِهِمْ كَمَا نَهَى
عَنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالسَّفَرِ مَعَهَا وَالنَّظَرِ إلَيْهَا
لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ الْفَسَادِ وَنَهَاهَا أَنْ تُسَافِرَ إلَّا مَعَ
زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ وَكَمَا نَهَى عَنْ سَبِّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ ؛
لِئَلَّا يَسُبُّوا اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَكَمَا نَهَى عَنْ أَكْلِ
الْخَبَائِثِ لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ التَّغْذِيَةُ الَّذِي يَقْتَضِي
الْأَعْمَالَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا وَأَمْثَالِ ذَلِكَ .
ثُمَّ إنَّ مَا نَهَى عَنْهُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْمَصْلَحَةِ
الرَّاجِحَةِ كَمَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى الْمَخْطُوبَةِ وَالسَّفَرُ بِهَا إذَا
خِيفَ ضَيَاعُهَا كَسَفَرِهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مِثْلَ سَفَرِ أُمِّ كُلْثُومٍ
وَكَسَفَرِ عَائِشَةَ لَمَّا تَخَلَّفَتْ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ
الْمُعَطِّلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ إلَّا لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْمَفْسَدَةِ فَإِذَا كَانَ مُقْتَضِيًا لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ لَمْ يَكُنْ مُفْضِيًا إلَى الْمَفْسَدَةِ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْمَفْسَدَةِ وَلَيْسَ النَّاسُ مُحْتَاجِينَ إلَيْهِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ لِسِعَةِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُبَاحُ فِيهَا الصَّلَاةُ بَلْ فِي النَّهْيِ عَنْهُ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ مَصَالِحُ أُخَرُ مِنْ إجْمَامِ النُّفُوسِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ مَنْ ثِقَلِ الْعِبَادَةِ كَمَا يُجَمُّ بِالنَّوْمِ وَغَيْرِهِ . وَلِهَذَا قَالَ مُعَاذٌ : إنِّي لَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي . وَمِنْ تَشْوِيقِهَا وَتَحْبِيبِ الصَّلَاةِ إلَيْهَا إذَا مُنِعَتْ مِنْهَا وَقْتًا فَإِنَّهُ يَكُونُ أَنْشَطَ وَأَرْغَبَ فِيهَا فَإِنَّ الْعِبَادَةَ إذَا خُصَّتْ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ نَشِطَتْ النُّفُوسُ لَهَا أَعْظَمَ مِمَّا تَنْشَطُ لِلشَّيْءِ الدَّائِمِ . وَمِنْهَا : أَنَّ الشَّيْءَ الدَّائِمَ تَسْأَمُ مِنْهُ وَتَمَلُّ وَتَضْجَرُ فَإِذَا نَهَى عَنْهُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ زَالَ ذَلِكَ الْمَلَلُ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ مِنْ الْمَصَالِحِ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ فَفِي النَّهْيِ دَفْعٌ لِمَفَاسِدَ وَجَلْبٌ لِمَصَالِحَ مِنْ غَيْرِ تَفْوِيتِ مَصْلَحَةٍ . وَأَمَّا مَا كَانَ لَهُ سَبَبٌ فَمِنْهَا مَا إذَا نَهَى عَنْهُ فَاتَتْ الْمَصْلَحَةُ وَتَعَطَّلَ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ وَتَحْصِيلِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَالْمَصْلَحَةِ الْعَظِيمَةِ فِي دِينِهِمْ مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ كَالْمُعَادَةِ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ وَكَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا
مَا تَنْقُصُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ لَا سِيَّمَا
لِلْقَادِمِينَ وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْتَنِمُوا الطَّوَافَ فِي تِلْكَ
الْأَيَّامِ وَالطَّوَافُ لَهُمْ وَلِأَهْلِ الْبَلَدِ طَرَفَيْ النَّهَارِ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنْ يُقَالَ : ذَوَاتُ الْأَسْبَابِ إنَّمَا دَعَا
إلَيْهَا دَاعٍ ؛ لَمْ تُفْعَلْ لِأَجْلِ الْوَقْتِ ؛ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ
الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا سَبَبَ لَهُ وَحِينَئِذٍ فَمَفْسَدَةُ النَّهْيِ إنَّمَا
تَنْشَأُ مِمَّا لَا سَبَبَ لَهُ دُونَ مَا لَهُ السَّبَبُ وَلِهَذَا قَالَ فِي
حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { لَا تَتَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا
غُرُوبَهَا } وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى
قَضَاءِ الْفَوَائِتِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ .
فَصْلٌ :
وَالْمُعَادَةُ : إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ تُعَادُ فِي
وَقْتِ النَّهْيِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمْ . وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ جَعَلُوهَا مِمَّا
نُهِيَ عَنْهُ وَاحْتَجَّ الْأَكْثَرُونَ بِثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ :
أَحَدُهَا : حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّتَهُ فَصَلَّيْت مَعَهُ صَلَاةَ الْفَجْرِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ . إذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي آخِرِ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ فَقَالَ : عَلَيَّ بِهِمَا فَأُتِيَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا فَقَالَ : مَا مَنْعُكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا ؟ قَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا . قَالَ : لَا تَفْعَلَا إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ . كَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرِهِمَا وَأَحْمَد وَالْأَثْرَمِ . وَالثَّانِي : مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ بِشْرِ بْنِ مِحْجَنٍ عَنْ أَبِيهِ : { أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُذِّنَ لِلصَّلَاةِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى ثُمَّ رَجَعَ وَمِحْجَنٌ فِي مَجْلِسِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَنَعَك أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ ؟ أَلَسْت بِرَجُلِ مُسْلِمٍ ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ قَدْ صَلَّيْت فِي أَهْلِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جِئْت فَصَلِّ مَعَ النَّاسِ وَإِنْ كُنْت قَدْ صَلَّيْت } وَهَذَا يَدُلُّ بِعُمُومِهِ وَالْأَوَّلُ صَرِيحٌ فِي الْإِعَادَةِ بَعْدَ الْفَجْرِ . الثَّالِثُ : مَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَتْ عَلَيْك أُمَرَاءُ
يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ؟ قَالَ : قُلْت فَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْتهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةٌ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَرَبَ فَخِذِي : كَيْفَ أَنْتَ إذَا بَقِيت فِي قَوْمٍ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ؟ قَالَ : فَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اذْهَبْ لِحَاجَتِك فَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَأَنْتَ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلِّ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ أَيْضًا { صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْت الصَّلَاةَ فَصَلِّ وَلَا تَقُلْ إنِّي قَدْ صَلَّيْت فَلَا أُصَلِّي } وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَطْعًا فَإِنَّهُمَا هُمَا اللَّتَانِ كَانَ الْأُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَهُمَا ؛ بِخِلَافِ الْفَجْرِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ لَمْ يَكُونُوا يُؤَخِّرُونَهَا وَلَكِنْ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الْعَصْرَ أَحْيَانًا إلَى شُرُوعِ الْغُرُوبِ . وَحِينَئِذٍ فَقَدَ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ يُصَلِّيَهَا مَعَهُمْ بَعْدَ أَنْ صَلَّاهَا وَيَجْعَلَهَا نَافِلَةً وَهُوَ فِي وَقْتِ نَهْيٍ لِأَنَّهُ قَدْ صَلَّى الْعَصْرَ ؛ وَلِأَنَّهُمْ قَدْ يُؤَخِّرُونَ الْعَصْرَ إلَى الِاصْفِرَارِ فَهَذَا صَرِيحٌ بِالْإِعَادَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ .
فَصْلٌ
:
وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى
الْجِنَازَةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ وَتِلْكَ الْأَنْوَاعُ
الثَّلَاثَةُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا قَوْلُ أَحْمَد أَنَّهَا تُفْعَلُ فِي
أَوْقَاتِ النَّهْيِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَحَادِيثُ خَاصَّةٌ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا
فِي وَقْتِ النَّهْيِ فَلِهَذَا اسْتَثْنَاهَا وَاسْتَثْنَى الْجِنَازَةَ فِي
الْوَقْتَيْنِ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
وَأَمَّا سَائِرُ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ : مِثْلَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَسُجُودِ
التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَمِثْلَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِي
الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ وَمِثْلَ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي
الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ . فَاخْتَلَفَ كَلَامُهُ فِيهَا . وَالْمَشْهُورُ
عَنْهُ النَّهْيُ وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ : كالخرقي
وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . لَكِنْ
أَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ السُّجُودَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ لَا وَاجِبَ
عِنْدَهُ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : جَوَازُ جَمِيعِ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ
وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ
الرَّاجِحُ فِي هَذَا الْبَابِ لِوُجُوهِ :
مِنْهَا : أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ قَدْ ثَبَتَ الْأَمْرُ بِهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي قتادة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ . قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ } وَعَنْهُ قَالَ : { دَخَلْت الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ بَيْنَ ظهراني النَّاسِ قَالَ : فَجَلَسْت فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَنَعَك أَنْ تَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ ؟ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُك جَالِسًا وَالنَّاسُ جُلُوسٌ قَالَ : فَإِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ } فَهَذَا فِيهِ الْأَمْرُ بِرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ وَالنَّهْيُ عَنْ أَنْ يَجْلِسَ حَتَّى يَرْكَعَهُمَا وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ وَقْتٍ عُمُومًا مَحْفُوظًا لَمْ يَخُصَّ مِنْهُ صُورَةً بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ . وَحَدِيثُ النَّهْيِ قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامِّ وَالْعَامُّ الْمَحْفُوظُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ فَإِنَّ هَذَا قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامِّ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُقْتَضِيَ لِعُمُومِهِ قَائِمٌ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ . الْوَجْهُ الثَّانِي : مَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقَالَ : صَلَّيْت يَا فُلَانُ ؟ قَالَ : لَا قَالَ : قُمْ فَارْكَعْ وَفِي رِوَايَةٍ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ } وَلِمُسْلِمِ قَالَ : ثُمَّ قَالَ : { إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا } وَأَحْمَد أَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ هُوَ وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ . كَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ
وَابْنِ الْمُنْذِرِ كَمَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مِثْلَ الْحَسَنِ وَمَكْحُولٍ وَغَيْرِهِمَا . وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَعْرِفُوا هَذَا الْحَدِيثَ فَنُهُوا عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ نَهْيٍ كَمَا نُقِلَ عَنْ شريح والنَّخَعِي وَابْنِ سِيرِين وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاللَّيْثِ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ . وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَقْتَ النَّهْيِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالْخَطِيبَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَشَدُّ نَهْيًا ؛ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ وَإِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا فَإِذَا كَانَ قَدْ أُمِرَ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فِي وَقْتِ الْخُطْبَةِ فَهُوَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ أَوْلَى بِالْأَمْرِ . وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي غَيْرِ وَقْتِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ يُسَنُّ لَهُ الرُّكُوعُ لِقَوْلِهِ : { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } وَقَالُوا تَنْقَطِعُ الصَّلَاةُ بِجُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ غَيْرُ الدَّاخِلِ يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَيُوجِزُ وَهَذَا تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ بَلْ إذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالتَّحِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهُوَ وَقْتُ نَهْيٍ عَنْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَشْغَلُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ ؛ فَأَوْقَاتُ النَّهْيِ الْبَاقِيَةِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يُصَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ؛ وَلَا يُطَافُ
بِالْبَيْتِ وَلَا يُصَلِّي رَكْعَتَا الطَّوَافَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ هُنَا أَوْكَدُ وَأَضْيَقُ مِنْهُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فَإِذَا أَمَرَ هُنَا بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَالْأَمْرُ بِهَا هُنَاكَ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : قَدْ ثَبَتَ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ مِنْ النَّهْيِ : كَالْعَصْرِ الْحَاضِرَةِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْفَائِتَةِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ . وَالْمُعَادَةُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ ثَبَتَ انْقِسَامُ الصَّلَاةِ أَوْقَاتَ النَّهْيِ إلَى مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَمَشْرُوعٍ غَيْرِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ الشَّارِعُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَيَجْعَلُ هَذَا مَأْمُورًا وَهَذَا مَحْظُورًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَأْذُونُ فِيهِ لَهُ سَبَبٌ فَالْمُصَلِّي صَلَاةَ السَّبَبِ صَلَّاهَا لِأَجْلِ السَّبَبِ لَمْ يَتَطَوَّعْ تَطَوُّعًا مُطْلَقًا وَلَوْ لَمْ يُصَلِّهَا لَفَاتَهُ مَصْلَحَةُ الصَّلَاةِ كَمَا يَفُوتُهُ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ مَا فِي صَلَاةِ التَّحِيَّةِ مِنْ الْأَجْرِ وَكَذَلِكَ يَفُوتُهُ مَا فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ كَذَلِكَ يَفُوتُهُ مَا فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَسَائِرِ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ شَيْئًا آخَرَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ : حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ وَغَيْرِهَا . وَإِنْ كَانَ الثَّانِي قِيلَ لَهُمْ : فَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْفَرْقَ بَلْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَعْضٍ وَرَخَّصَ فِي بَعْضٍ وَلَا تَعْلَمُونَ الْفَرْقَ فَلَا يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَتَكَلَّمُوا فِي سَائِرِ مَوَارِدِ
النِّزَاعِ لَا بِنَهْيٍ وَلَا بِإِذْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ الَّذِي فَرَّقَ بِهِ الشَّارِعُ فِي صُورَةِ النَّصِّ فَأَبَاحَ بَعْضًا وَحَرَّمَ بَعْضًا مُتَنَاوَلًا لِمَوَارِدِ النِّزَاعِ إمَّا نَهْيًا عَنْهُ وَإِمَّا إذْنًا فِيهِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَاحِدًا مِنْ النَّوْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَنْهَوْا إلَّا عَمَّا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ ؛ لِانْتِفَاءِ الْوَصْفِ الْمُبِيحِ عَنْهُ وَلَا تَأْذَنُوا إلَّا فِيمَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ أَذِنَ فِيهِ ؛ لِشُمُولِ الْوَصْفِ الْمُبِيحِ لَهُ . وَأَمَّا التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ بِغَيْرِ أَصْلٍ مُفَرَّقٍ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَلَا يَجُوزُ . فَإِنْ قِيلَ : أَحَادِيثُ النَّهْيِ عَامَّةٌ فَنَحْنُ نَحْمِلُهَا عَلَى عُمُومِهَا إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ فَمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ لِمَجِيءِ نَصٍّ خَاصٍّ فِيهِ خَصَّصْنَاهَا بِهِ وَإِلَّا أَبْقَيْنَاهَا عَلَى الْعُمُومِ . قِيلَ : هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ كَانَ هَذَا الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ لَمْ يُعَارِضْهُ عمومات مَحْفُوظَةٌ أَقْوَى مِنْهُ وَأَنَّهُ لَمَّا خُصَّ مِنْهُ صُوَرٌ عُلِمَ اخْتِصَاصُهَا بِمَا يُوجِبُ الْفَرْقَ فَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ صُوَرٌ لِمَعْنَى مُنْتَفٍ مِنْ غَيْرِهَا بَقِيَ مَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ فَكَيْفَ وَعُمُومُهُ مُنْتَفٍ وَقَدْ عَارَضَهُ أَحَادِيثُ خَاصَّةٌ وَعَامَّةٌ عُمُومًا مَحْفُوظًا وَمَا خُصَّ مِنْهُ لَمْ يَخْتَصَّ بِوَصْفِ يُوجِبُ اسْتِثْنَاءَهُ دُونَ غَيْرِهِ بَلْ غَيْرُهُ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِتَخْصِيصِهِ أَوْ أَوْلَى مِنْهُ بِالتَّخْصِيصِ .
وَحَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةُ إلَى تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ مِنْهَا إلَى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَأْخِيرُ الطَّوَافِ بِخِلَافِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّهَا لَا تُمْكِنُ ؛ ثُمَّ الرَّجُلُ إذَا دَخَلَ وَقْتُ نَهْيٍ إنْ جَلَسَ وَلَمْ يُصَلِّ كَانَ مُخَالِفًا لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَوِّتًا هَذِهِ الْمَصْلَحَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ آثِمًا بِالْمَعْصِيَةِ وَإِنْ بَقِيَ قَائِمًا أَوْ امْتَنَعَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فَهَذَا شَرٌّ عَظِيمٌ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُصَلِّي سُنَّةَ الْفَجْرِ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ يَأْتِي إلَى الْمَسْجِدِ فَاَلَّذِينَ يَكْرَهُونَ التَّحِيَّةَ : مِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ حَتَّى يُقِيمَ فَيَدْخُلُ يُصَلِّي مَعَهُمْ وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ دُخُولَ بَيْتِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الشَّرِيفِ وَذِكْرَ اللَّهِ فِيهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ وَيَجْلِسُ وَلَا يُصَلِّي فَيُخَالِفُ الْأَمْرَ وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَأْمُورُونَ بِالتَّحِيَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَلَوْ كَانُوا مَنْهِيِّينَ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ حِينَئِذٍ لَكَانَ هَذَا مِمَّا يَظْهَرُ نَهْيُ الرَّسُولِ عَنْهُ فَكَيْفَ وَهُوَ قَدْ أَمَرَهُمْ إذَا دَخَلَ أَحَدُهُمْ الْمَسْجِدَ وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَا يَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أَلَيْسَ فِي أَمْرِهِمْ بِهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْقَاتِ ؟ الْوَجْهُ الرَّابِعُ : مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنْ النَّهْيَ كَانَ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الشِّرْكِ وَذَوَاتِ الْأَسْبَابِ فِيهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ وَالْفَاعِلُ يَفْعَلُهَا لِأَجْلِ السَّبَبِ لَا يَفْعَلُهَا مُطْلَقًا فَتَمْتَنِعُ فِيهِ الْمُشَابَهَةُ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَضَى رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ } وَهُوَ قَضَاءُ النَّافِلَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ مَعَ إمْكَانِ قَضَائِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَالنَّوَافِلُ الَّتِي إذَا لَمْ تُفْعَلْ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ تَفُوتُ هِيَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ قَضَاءِ نَافِلَةٍ فِي هَذَا الْوَقْتِ مَعَ إمْكَانِ فِعْلِهَا فِي غَيْرِهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ مِمَّا أُمِرَ بِهِ : كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَقَدْ اخْتَارَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي أَنَّ السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ تُقْضَى بَعْدَ الْعَصْرِ وَلَا تُقْضَى فِي سَائِرِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ . كَالْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ . وَذَكَرَ أَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَد : أَنْ قَضَاءَ سُنَّةِ الْفَجْرِ جَائِزٌ بَعْدَهَا إلَّا أَنَّ أَحْمَد اخْتَارَ أَنْ يَقْضِيَهَا مِنْ الضُّحَى . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : إنْ صَلَّاهُمَا بَعْدَ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ ؛ وَأَمَّا أَنَا فَأَخْتَارُ ذَلِكَ وَذَكَرَ فِي قَضَاءِ الْوِتْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ يَفْعَلُهُ . قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ : أَيُوتِرُ الرَّجُلُ بَعْدَ مَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وعبادة بْنِ الصَّامِتِ وفضالة بْنِ عُبَيْدٍ وَعَائِشَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ . وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . وَأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَوْتَرَ بَعْدَ الْمُؤَذِّنِ لَأَوْتَرَ لَهُ وَسَأَلُوا عَلِيًّا . قَالَ : أَعْرِفُ : يُوتِرُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَأَنْكَرَ
ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ نِزَاعًا إلَّا عَنْ أَبِي مُوسَى مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي بَعْدَ الْفَجْرِ . قَالَ : وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ الصَّحِيحَةُ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي النَّهْيِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَإِنَّمَا فِيهِ حَدِيثُ أبي وَقَدْ احْتَجَّ أَحْمَد بِحَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ الْغِفَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ : الْوِتْرَ } وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ . قَالَ مَالِكٌ : مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ قَالَ : وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى [ الخرقي ] (*) فِي " الْإِرْشَادِ " مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ قِيَاسًا عَلَى الْوِتْرِ . قُلْت : وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ لَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرَهُ الخرقي وَغَيْرُهُ مِنْ قُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ إبَاحَةَ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ : قَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَلَكِنْ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ الْكُسُوفِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ فِي بَابِهِمَا . فَلَمْ يَنْهَ عَنْ قَضَاءِ السُّنَنِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ . فَاخْتَارَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : أَنَّ السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ تُقْضَى بَعْدَ الْعَصْرِ وَلَا تُقْضَى فِي سَائِرِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَلَا يُفْعَلُ غَيْرُهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ كَالتَّحِيَّةِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَصَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ
وَصَلَاةِ التَّوْبَةِ وَسُنَّةِ الْوُضُوءِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ لَا فِي هَذَا الْوَقْتِ ؛ وَلَا فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا الْقَضَاءَ فِيهَا قَدْ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ قَالُوا : وَالنَّهْيُ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهِ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِيهِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ سَائِرُ الْأَوْقَاتِ وَالرَّوَاتِبُ لَهَا مَزِيَّةٌ وَهَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَأَمْرَهُ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ أَقْوَى مِنْ قَضَاءِ سُنَّةِ فَائِتَةٍ فَإِذَا جَازَ هَذَا فَذَاكَ أجوز فَإِنَّ قَضَاءَ السُّنَنِ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَلَا أَمْرٌ بِنَفْسِ السُّنَّةِ : سُنَّةِ الظُّهْرِ لَكِنَّهُ فَعَلَهَا وَدَاوَمَ عَلَيْهَا وَقَضَاهَا لَمَّا فَاتَتْهُ . وَمَا أَمَرَ بِهِ أُمَّتَهُ لَا سِيَّمَا وَكَانَ هُوَ أَيْضًا يَفْعَلُهُ فَهُوَ أَوْكَدُ مِمَّا فَعَلَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ . فَإِذَا جَازَ لَهُمْ فِعْلُ هَذَا فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ فَفِعْلُ ذَاكَ أَوْلَى وَإِذَا جَازَ قَضَاءُ سُنَّةِ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَضَاءُ سُنَّةِ الْفَجْرِ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْلَى فَإِنَّ ذَاكَ وَقْتَهَا وَإِذَا أَمْكَنَ تَأْخِيرُهَا إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ أَمْكَنَ تَأْخِيرُ تِلْكَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقَدْ كَانُوا يُصَلُّونَ بَيْنَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَإِقَامَتِهَا وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَاهُمْ وَيُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ : وَقَالَ : { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ } كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً " .
فَصْلٌ
:
وَالنَّهْيُ فِي الْعَصْرِ مُعَلَّقٌ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ : فَإِذَا صَلَّاهَا
لَمْ يُصَلِّ بَعْدَهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ لَمْ يُصَلِّ وَمَا لَمْ يُصَلِّهَا
فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَهَذَا ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالِاتِّفَاقِ ؛ فَإِنَّ
النَّهْيَ مُعَلَّقٌ بِالْفِعْلِ .
وَأَمَّا الْفَجْرُ : فَفِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَفِيهِ عَنْ أَحْمَد
رِوَايَتَانِ :
قِيلَ : إنَّهُ مُعَلَّقٌ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا يَتَطَوَّعُ بَعْدَهُ
بِغَيْرِ الرَّكْعَتَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَمَذْهَبِ
أَبِي حَنِيفَةَ . قَالَ النَّخَعِي كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّطَوُّعَ بَعْدَ
الْفَجْرِ .
وَقِيلَ : إنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالْفِعْلِ كَالْعَصْرِ . وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ
وَالشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ النَّهْيُ إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ كَمَا
فِي الْعَصْرِ . وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ تُسَوِّي بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ كَمَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ
مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى
تُشْرِقَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ }
وَكَذَلِكَ فِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ : { وَعَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ } وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ } وَلِمُسْلِمِ { لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عبسة قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَخْبِرْنِي عَنْ الصَّلَاةِ قَالَ : { صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَحْضُورَةٌ مَشْهُودَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ثُمَّ اُقْصُرْ عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ ثُمَّ اُقْصُرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ } . وَالْأَحَادِيثُ الْمُخْتَصَّةُ بِوَقْتِ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وَبِالِاسْتِوَاءِ : حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ } هَذَا اللَّفْظُ لِمُسْلِمِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : { ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ . مَوْتَانَا : حِينَ تَطْلُعُ
الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ وَحِينَ تَتَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ } . وَوَقْتُ الزَّوَالِ لَيْسَ فِي عَامَّةِ الْأَحَادِيثِ وَلَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ ؛ لَكِنْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عبسة وَتَابَعَهُمَا الصنابحي . وَعَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ اعْتَمَدَ أَحْمَد وَلَمَّا ذُكِرَ لَهُ الرُّخْصَةُ فِي الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ : فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عبسة وَحَدِيثِ الصنابحي . والخرقي لَمْ يَذْكُرْهُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ بَلْ قَالَ : وَيَقْضِي الْفَوَائِتَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْفَرْضَ وَيَرْكَعُ لِلطَّوَافِ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَقَدْ كَانَ صَلَّى فِي كُلِّ وَقْتِ نَهْيٍ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ وَهُوَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ وَقْتَ نَهْيٍ إلَّا هَذَانِ وَيَقْتَضِي أَنَّ مَا أَبَاحَهُ يُفْعَلُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَيَقْتَضِي أَنَّ النَّهْيَ مُعَلَّقٌ بِالْفِعْلِ فَإِنَّهُ قَالَ : بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَلَمْ يَقُلْ الْفَجْرَ وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَاسْتَثْنَى الرَّكْعَتَيْنِ بَلْ اسْتَثْنَى الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ . وَهَذِهِ أَلْفَاظُ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ كَمَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْوَقْتَ لَاسْتَثْنَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْفَرْضِ كَمَا وَرَدَ اسْتِثْنَاءُ ذَلِكَ فِي مَا نَهَى عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : { لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ إلَّا سَجْدَتَيْنِ } فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ الصَّلَاةِ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ . وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَرْضُهَا وَسُنَّتُهَا وَقْتَ نَهْيٍ وَمَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ سُنَّتُهَا وَفَرْضُهَا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذَا وَقْتُ نَهْيٍ ؟ وَهَلْ يَكُونُ وَقْتَ نَهْيٍ سُنَّ فِيهِ الصَّلَاةُ دَائِمًا بِلَا سَبَبٍ ؟ وَأَمَرَ بِتَحَرِّي الصَّلَاةِ فِيهِ ؟ هَذَا تَنَاقُضٌ مَعَ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ جُعِلَ وَقْتًا لِلصَّلَاةِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ لَيْسَ كَوَقْتِ الْعَصْرِ الَّذِي جُعِلَ آخِرَ الْوَقْتِ فِيهِ إذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ . وَالنَّهْيُ هُوَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَسْجُدُونَ لَهَا وَهَذَا لَا يَكُونُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلِهَذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي النَّهْيِ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لَكِنْ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاتَيْنِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ فَإِنَّ الْمُتَطَوِّعَ قَدْ يُصَلِّي بَعْدَهُمَا حَتَّى يُصَلِّيَ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ . وَالنَّهْيُ فِي هَذَيْنِ أَخَفُّ وَلِهَذَا كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ . فَأَمَّا قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَا وَجْهَ لِلنَّهْيِ لَكِنْ لَا يُسَنُّ ذَلِكَ الْوَقْتُ إلَّا الْفَجْرَ سُنَّتُهَا وَفَرْضُهَا . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَيُوتِرُ ثُمَّ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى الْفَرْضَ وَكَانَ يَضْطَجِعُ أَحْيَانًا
لِيَسْتَرِيحَ إمَّا بَعْدَ الْوِتْرِ وَإِمَّا بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَكَانَ إذَا غَلَبَهُ مِنْ اللَّيْلِ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَدَلَ قِيَامِهِ مِنْ اللَّيْلِ وَلَمْ يَكُنْ يَقْضِي ذَلِكَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَّسِعُ لِذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِيهَا طُولٌ وَكَانَ يُغَلِّسُ بِالْفَجْرِ . وَفِي الصَّحِيحِ { مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ فَقَرَأَهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنْهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ كَانَ أَبْلَغَ لَكِنْ إذَا قَرَأَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ فَإِنَّ هَذَا الْوَقْتَ تَابِعٌ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَلِهَذَا يُقَالُ فِيمَا قَبْلَ الزَّوَالِ : فَعَلْنَاهُ اللَّيْلَةَ . وَيُقَالُ بَعْدَ الزَّوَالِ : فَعَلْنَاهُ الْبَارِحَةَ وَهُوَ وَقْتُ الضُّحَى وَهُوَ خَلْفٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ . وَلِهَذَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَامَ عَنْ قِيَامِهِ قَضَاهُ مِنْ الضُّحَى فَيُصَلِّي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً } . وَقَدْ جَاءَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } . فَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إنَّمَا سَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ السُّنَّةَ الرَّاتِبَةَ وَفَرْضُهَا الْفَجْرُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ لَمْ يُسَنَّ وَلَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ إذَا لَمْ يَتَّخِذْ سُنَّةً كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ } . كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً .
فَهَذَا
فِيهِ إبَاحَةُ الصَّلَاةِ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ كَمَا { كَانَ الصَّحَابَةُ
يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ أَذَانَيْ الْمَغْرِبِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَاهُمْ وَيُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ } فَكَذَلِكَ
الصَّلَاةُ بَيْنَ أَذَانَيْ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ كَذَلِكَ بَيْنَ أَذَانَيْ
الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ لَكِنْ بَيْنَ أَذَانَيْ الْفَجْرِ الرَّكْعَتَانِ سُنَّةٌ
بِلَا رَيْبٍ وَمَا سِوَاهَا يُفْعَلُ وَلَا يُتَّخَذُ سُنَّةً فَلَا يُدَاوِمُ
عَلَيْهِ وَيُؤْمَرُ بِهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ كَمَا هُوَ حَالُ السُّنَّةِ
فَإِنَّ السُّنَّةَ تَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ وَيُدَاوِمُ عَلَيْهَا كَمَا أَنَّهُمْ
كُلُّهُمْ مَسْنُونٌ لَهُمْ رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا .
فَإِذَا قِيلَ : لَا سُنَّةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا رَكْعَتَانِ فَهَذَا
صَحِيحٌ وَأَمَّا النَّهْيُ الْعَامُّ فَلَا . وَالْإِنْسَانُ قَدْ لَا يَقُومُ
مِنْ اللَّيْلِ فَيُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَقَدْ اسْتَحَبَّ
السَّلَفُ لَهُ قَضَاءَ وِتْرِهِ بَلْ وَقِيَامَهُ مِنْ اللَّيْلِ فِي هَذَا
الْوَقْتِ وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى الضُّحَى .
فَصْلٌ :
وَلِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا
أَقْوَالٌ : قِيلَ بِالنَّهْيِ مُطْلَقًا وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد .
وَقِيلَ : الْإِذْنُ مُطْلَقًا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الخرقي وَيُرْوَى عَنْ
مَالِكٍ . وَقِيلَ : بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَبَاحَهُ فِيهَا عَطَاءٌ فِي الشِّتَاءِ دُونَ الصَّيْفِ ؛
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو
بْنِ عبسة " { ثُمَّ بَعْدَ طُلُوعِهَا صَلِّ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ
مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ
الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ثُمَّ اُقْصُرْ عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ } . فَعَلَّلَ النَّهْيَ حِينَئِذٍ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ . وَفِي الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ بِمُقَارَنَةِ الشَّيْطَانِ فَقَالَ : " { ثُمَّ اُقْصُرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ } وَفِي الْغُرُوبِ قَالَ : " { ثُمَّ اُقْصُرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ } . وَأَمَّا مُقَارَنَةُ الشَّيْطَانِ لَهَا حِينَ الِاسْتِوَاءِ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَدِيثِ إلَّا فِي حَدِيثِ الصنابحي . قَالَ : " { إنَّهَا تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ قَارَنَهَا ثُمَّ إذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا فَإِذَا زَالَتْ قَارَنَهَا وَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا فَإِذَا غَرَبَتْ قَارَنَهَا } فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ . لَكِنْ الصنابحي قَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ صُحْبَةٌ فَلَمْ يَسْمَعْ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عبسة فَإِنَّهُ صَحِيحٌ سَمِعَهُ مِنْهُ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ عَامَّةَ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِيهَا إلَّا النَّهْيُ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ أَوْ بَعْدَ الصَّلَاتَيْنِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ نِصْفَ النَّهَارِ نَوْعٌ آخَرُ لَهُ عِلَّةٌ غَيْرُ عِلَّةِ ذَيْنك الْوَقْتَيْنِ . يُوَضِّحُ هَذَا : أَنَّ الْكُفَّارَ يَسْجُدُونَ لَهَا وَقْتَ الطُّلُوعِ وَوَقْتَ
الْغُرُوبِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا سُجُودُهُمْ لَهَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ وَلَمْ يُعَلِّلْ بِهِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ ضَبْطَ هَذَا الْوَقْتِ مُتَعَسِّرٌ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } وَهَذَا حَدِيثٌ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَلَقِّيه بِالْقَبُولِ فَأَخْبَرَ أَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ : " { فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ } وَأَمَرَ بِالْإِبْرَادِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ . فَفِي الصَّيْفِ تُسْجَرُ نِصْفَ النَّهَارِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ فِي الْحَرِّ وَهُوَ يُؤْمَرُ بِأَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ الزَّوَالِ حَتَّى يَبْرُدَ لَكِنْ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فَاءَتْ الْأَفْيَاءُ فَطَالَتْ الأظلة بَعْدَ تَنَاهِي قِصَرِهَا وَهَذَا مَشْرُوعٌ فِي الْإِبْرَادِ فَلِهَذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ جَائِزَةً مِنْ حِينِ الزَّوَالِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عبسة : " { ثُمَّ اُقْصُرْ عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ مِنْ حِينِ يُقْبِلُ الْفَيْءُ فَيَفِيءُ الظِّلُّ : أَيْ يَرْجِعُ مِنْ جِهَةِ الْمَغْرِبِ إلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ وَيَرْجِعُ فِي الزِّيَادَةِ بَعْدَ النُّقْصَانِ . وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ لَفْظَ الْفَيْءِ مُخْتَصٌّ بِمَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ
مَعْنَى الرُّجُوعِ . وَلَفْظُ الظِّلِّ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا فَإِنَّهُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَكُونُ الظِّلُّ مُمْتَدًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا } ثُمَّ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ كَانَتْ عَلَيْهِ دَلِيلًا فَتَمَيَّزَ الظِّلُّ عَنْ الضُّحَى وَنَسَخَتْ الشَّمْسُ الظِّلَّ لَا تَزَالُ تَنْسَخُهُ وَهُوَ يَقْصُرُ إلَى الزَّوَالِ فَإِذَا زَالَتْ فَإِنَّهُ يُعَادُ مُمْتَدًّا إلَى الْمَشْرِقِ حَيْثُ ابْتَدَأَ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَوَّلَ مَا نَسَخَتْهُ عَنْ الْمَشْرِقِ ثُمَّ عَنْ الْمَغْرِبِ ثُمَّ تَفِيءُ إلَى الْمَشْرِقِ ثُمَّ الْمَغْرِبِ وَلَمْ يَزَلْ يَمْتَدُّ وَيَطُولُ إلَى أَنْ تَغْرُبَ فَيَنْسَخُ الظِّلُّ جَمِيعَ الشَّمْسِ . فَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عبسة : " { ثُمَّ اُقْصُرْ عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ } . وَعَلَى هَذَا فَمَنْ رَخَّصَ فِي الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ : إنَّهَا لَا تُسْجَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَمَا قَدْ رُوِيَ وَقَالُوا : إنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الْإِبْرَادُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَلْ يَجُوزُ عَقِبَ الزَّوَالِ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ النَّاسِ وَفِي الْإِبْرَادِ مَشَقَّةٌ لِلْخَلْقِ . وَيَجُوزُ عِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ وَقْتَ الزَّوَالِ كَمَا فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ وَقْتَ نَهْيٍ وَالْجُمُعَةُ جَائِزَةٌ فِيهِ وَالْفَرَائِضُ الْمُؤَدَّاةُ لَا تُشْرَعُ فِي وَقْتِ النَّهْيِ لِغَيْرِ عُذْرٍ كَمَا قُلْنَا فِي الْفَجْرِ فَإِنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ . وَبِالْجُمْلَةِ جَوَازُ الصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى أَصْلِ أَحْمَد أَظْهَرُ مِنْهُ عَلَى أَصْلِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ الْجُمُعَةَ وَقْتَ الزَّوَالِ وَلَا يَجْعَلُ
ذَلِكَ
وَقْتَ نَهْيٍ بَلْ قَدْ قِيلَ فِي مَذْهَبِهِ : أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إلَّا فِي
ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ وَقْتُ نَهْيٍ فِي غَيْرِهَا .
فَعُلِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا وَكَمَا أَنَّ الْإِبْرَادَ
الْمَأْمُورَ بِهِ فِي غَيْرِهَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ فِيهَا بَلْ يُنْهَى عَنْهُ
وَهُوَ مُعَلَّلٌ بِأَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَكَذَلِكَ قَدْ
عَلَّلَ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ . وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ :
" { فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } . وَإِذَا كَانَتْ
مُخْتَصَّةً بِمَا سِوَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ : فَكَذَلِكَ الْأُخْرَى وَعَلَى
مُقْتَضَى هَذِهِ الْعِلَّةِ لَا يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ لَا
فِي الشِّتَاءِ وَلَا يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا فِي السُّنَنِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّهُ نَهَى عَنْ
الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ } وَهُوَ أَرْجَحُ مِمَّا
احْتَجُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْفَجْرِ مُعَلَّقٌ بِالْوَقْتِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا
مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ
:
فِي أَنَّ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ تُفْعَلُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ .
فَقَدْ كَتَبْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الْإسْكَنْدرية وَغَيْرِهَا كَلَامًا
مَبْسُوطًا : فِي أَنَّ هَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ اخْتَارَهَا أَبُو
الْخَطَّابِ . وَكُنَّا قَبْلُ مُتَوَقِّفِينَ لِبَعْضِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي
احْتَجَّ بِهَا الْمَانِعُونَ فَلَمَّا بَحَثْنَا عَنْ حَقِيقَتِهَا وَجَدْنَاهَا
أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً أَوْ غَيْرَ دَالَّةٍ وَذَكَرْنَا أَنَّ الدَّلَائِلَ عَلَى
ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ : مِنْهَا : أَنَّ أَحَادِيثَ الْأَمْرِ بِذَوَاتِ
الْأَسْبَابِ كَقَوْلِهِ : " { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا
يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } عَامٌّ مَحْفُوظٌ لَا خُصُوصَ فِيهِ
وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ عَامٌّ بَلْ كُلُّهَا
مَخْصُوصَةٌ فَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْعَامِّ الَّذِي لَا خُصُوصَ فِيهِ فَإِنَّهُ
حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ وَالْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ ؛
بِخِلَافِ الثَّانِي وَهُوَ أَقْوَى مِنْهُ بِلَا رَيْبٍ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ قَدْ
ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِصَلَاةِ
تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ لِلدَّاخِلِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ هُنَا بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ لِثُبُوتِ النَّصِّ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَشَدُّ بِلَا رَيْبٍ فَإِذَا فُعِلَتْ هُنَاكَ فَهُنَا أَوْلَى . وَمِنْهَا : أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَفْظُهُ : " { لَا تَتَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا } . وَالتَّحَرِّي هُوَ التَّعَمُّدُ وَالْقَصْدُ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ . فَأَمَّا مَا لَهُ سَبَبٌ فَلَمْ يَتَحَرَّهُ ؛ بَلْ فَعَلَهُ لِأَجْلِ السَّبَبِ وَالسَّبَبُ أَلْجَأَهُ إلَيْهِ . وَهَذَا اللَّفْظُ الْمُقَيَّدُ الْمُفَسَّرُ يُفَسِّرُ سَائِرَ الْأَلْفَاظِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ عَنْ التَّحَرِّي وَلَوْ كَانَ عَنْ النَّوْعَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ وَلَكَانَ الْحُكْمُ قَدْ عُلِّقَ بِلَفْظِ عَدِيمِ التَّأْثِيرِ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ جَوَازُ بَعْضِ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ بَعْضُهَا بِالنَّصِّ كَالرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْفَجْرِ وَكَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَكَالْمُعَادَةِ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ وَبَعْضُهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ كَالْعَصْرِ عِنْدَ الْغُرُوبِ وَكَالْجِنَازَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَإِذَا نُظِرَ فِي الْمُقْتَضِي لِلْجَوَازِ لَمْ تُوجَدْ لَهُ عِلَّةٌ صَحِيحَةٌ إلَّا كَوْنَهَا ذَاتَ سَبَبٍ فَيَجِبُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِذَلِكَ وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعَادَةِ وَبَيْنَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَالْأَمْرُ بِهَذِهِ أَصَحُّ وَكَذَلِكَ الْكُسُوفُ قَدْ أَمَرَ بِهَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ نَقُولَ : الصَّلَاةُ فِي وَقْتِ النَّهْيِ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ مَفْسَدَةً مَحْضَةً لَا تُشْرَعُ بِحَالِ : كَالسُّجُودِ لِلشَّمْسِ نَفْسِهَا أَوْ يَكُونُ مِمَّا يُشْرَعُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْعَصْرَ تُصَلَّى وَقْتَ الْغُرُوبِ قَبْلَ سُقُوطِ الْقُرْصِ كُلِّهِ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَوْلُهُ : " { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ } وَالْأَوَّلُ : قَدْ اُتُّفِقَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي : قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَيَقُولُ : إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ بَطَلَتْ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى مَنْهِيًّا عَنْهَا فَائِتَةً وَالْعَصْرُ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ دَخَلَ فِي وَقْتِ الْجَوَازِ لَا فِي وَقْتِ النَّهْيِ وَقَدْ ضَعَّفَ أَحْمَد وَالْجُمْهُورُ هَذَا الْفَرْقَ وَقَالُوا : الْكَلَامُ فِي الْعَصْرِ وَقْتَ الْغُرُوبِ فَإِنَّهُ وَقْتُ نَهْيٍ كَمَا أَنَّ مَا بَعْدَ الطُّلُوعِ وَقْتُ نَهْيٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعَصْرَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ لَكِنْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ كَالْحَائِضِ تَطْهُرُ وَالنَّائِمِ يَسْتَيْقِظُ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ أَخَّرَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهَا فِي وَقْتِ النَّهْيِ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يُصَلِّيَهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ . فَإِذَا قِيلَ : صَلَاتُهَا فِي الْوَقْتِ فَرْضٌ . قِيلَ : وَقَضَاءُ الْفَائِتَةِ عَلَى الْفَوْرِ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ : " { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ } .
وَأَيْضًا : فَإِذَا صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ الطُّلُوعِ فَقَدْ شَرَعَ فِيهَا قَبْلَ وَقْتِ النَّهْيِ فَهُوَ أَخَفُّ مِنْ ابْتِدَائِهَا وَقْتَ النَّهْيِ مَعَ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي أَغْلَظِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَهُوَ وَقْتُ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ لَيْسَ مَفْسَدَةً مَحْضَةً لَا تُشْرَعُ بِحَالِ ؛ بَلْ تُشْرَعُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عُلِمَ أَنَّ وُجُودَ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَا يُوجِبُ مَفْسَدَةَ النَّهْيِ إذْ لَوْ وُجِدَتْ لَمَا جَازَ شَيْءٌ مِنْ الصَّلَوَاتِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَالشَّرْعُ قَدْ اسْتَقَرَّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ بَلْ الْعِبَادَةُ الَّتِي تَفُوتُ إذَا أُخِّرَتْ تُفْعَلُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ كَانَ فِي فِعْلِهَا مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورِ مَا لَا يَسُوغُ عِنْدَ إمْكَانِ فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ مِثْلَ الصَّلَاةِ بِلَا قِرَاءَةٍ وَصَلَاةِ الْعُرْيَانِ وَصَلَاةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَالصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ بِلَا اغْتِسَالٍ وَلَا وُضُوءٍ وَالصَّلَاةِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَا يَحْرُمُ فِعْلُهَا إذَا قَدَرَ أَنْ يَفْعَلَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْوَقْتِ . ثُمَّ إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ مَعَ النَّقْصِ لِئَلَّا يَفُوتُ وَإِنْ أَمْكَنَ فِعْلُهَا بَعْدَ الْوَقْتِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ . فَعُلِمَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ . مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ وَاجِبَاتِهَا وَهَذَا فِي التَّطَوُّعِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَّا عريانا أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَوْ مَعَ سَلَسِ الْبَوْلِ صَلَّى كَمَا
يُصَلِّي الْفَرْضَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ إلَّا مَعَ الْكَمَالِ تَعَذَّرَ فِعْلُهُ فَكَانَ فِعْلُهُ مَعَ النَّقْصِ خَيْرًا مِنْ تَعْطِيلِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذَوَاتُ الْأَسْبَابِ إنْ لَمْ تُفْعَلْ وَقْتَ النَّهْيِ فَاتَتْ وَتَعَطَّلَتْ وَبَطَلَتْ الْمَصْلَحَةُ الْحَاصِلَةُ بِهِ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّ الْأَوْقَاتَ فِيهَا سِعَةٌ فَإِذَا تَرَكَ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ حَصَلَتْ حِكْمَةُ النَّهْيِ وَهُوَ قَطْعٌ لِلتَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ لَا يَحْتَاجُ حُصُولُهَا إلَى الْمَنْعِ مِنْ جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ . بَلْ يَحْصُلُ الْمَنْعُ مِنْ بَعْضِهَا فَيَكْفِي التَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ . وَأَيْضًا فَالنَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا هُوَ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ لِئَلَّا يَتَشَبَّهُ بِالْمُشْرِكِينَ فَيُفْضِي إلَى الشِّرْكِ وَمَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ لَا لِأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ فِي نَفْسِهِ يُشْرَعُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ وَلَا تَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ لِغَيْرِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ . وَالصَّلَاةُ لِلَّهِ فِيهِ لَيْسَ فِيهَا مَفْسَدَةٌ بَلْ هِيَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْمَفْسَدَةِ فَإِذَا تَعَذَّرَتْ الْمَصْلَحَةُ إلَّا بِالذَّرِيعَةِ شُرِعَتْ وَاكْتَفَى مِنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ . وَهُوَ التَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ . فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ مَفْسَدَةٌ وَلَا تَفْوِيتُ مَصْلَحَةٍ لِإِمْكَانِ فِعْلِهِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ . وَهَذَا أَصْلٌ لِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ : فِي أَنَّ مَا كَانَ مِنْ " بَابِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ " إنَّمَا يُنْهَى عَنْهُ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إلَّا بِهِ وَقَدْ يُنْهَى عَنْهُ ؛ وَلِهَذَا يُفَرَّقُ فِي الْعُقُودِ بَيْنَ الْحِيَلِ وَسَدِّ الذَّرَائِعِ : فَالْمُحْتَالُ
يَقْصِدُ الْمُحْرِمَ فَهَذَا يُنْهَى عَنْهُ . وَأَمَّا الذَّرِيعَةُ فَصَاحِبُهَا لَا يَقْصِدُ الْمُحْرِمَ لَكِنْ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهَا نُهِيَ عَنْهَا وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ فَلَا . وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ يُبَالِغُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ حَتَّى يَنْهَى عَنْهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا . وَ " ذَوَاتُ الْأَسْبَابِ " كُلِّهَا تَفُوتُ إذَا أُخِّرَتْ عَنْ وَقْتِ النَّهْيِ : مِثْلَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَمِثْلَ الصَّلَاةِ عَقِبَ الطَّهَارَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ بِلَالٍ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الِاسْتِخَارَةِ : إذَا كَانَ الَّذِي يَسْتَخِيرُ لَهُ يَفُوتُ إذَا أُخِّرَتْ الصَّلَاةُ . وَكَذَلِكَ صَلَاةُ التَّوْبَةِ فَإِذَا أَذْنَبَ فَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَتُوبَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ . وَنَحْوَ قَضَاءِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ كَمَا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ . وَكَمَا أَقَرَّ الرَّجُلُ عَلَى قَضَاءِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بَعْدَ الْفَجْرِ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَأْخِيرُهَا ؛ لَكِنْ تَفُوتُ مَصْلَحَةُ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْقَضَاءِ فَإِنَّ الْقَضَاءَ مَأْمُورٌ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْوَاجِبِ وَاجِبٌ وَفِي الْمُسْتَحَبِّ مُسْتَحَبٌّ . وَالشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ الْقَضَاءَ فِي وَقْتِ النَّهْيِ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ تَعْجِيلَهُ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ وَهِيَ مَعَ هَذَا لَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ
الْوَقْتِ ؛ لَكِنْ يَفُوتُ فَضْلُ تَقْدِيمِهَا وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ كَمَا جَازَ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لِلْعُرْيَانِ وَالْمُتَيَمِّمِ وَإِنْ أَمْكَنَ فِعْلُهَا آخِرَ الْوَقْتِ بِالْوُضُوءِ وَالسُّتْرَةِ ؛ لَكِنْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ فِي الْوَاجِبِ وَمُحْتَاجٌ فِي السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ إلَى تَكْمِيلِ فَرْضِهِ ؛ فَإِنَّ الرَّوَاتِبَ مُكَمِّلَاتٌ لِلْفَرْضِ وَمُحْتَاجٌ إلَى أَنْ لَا يَزِيدَ التَّفْوِيتُ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ فَكُلَّمَا قَرُبَ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْأَمْرِ مِمَّا يَبْعُدُ مِنْهُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَيُقَرِّبُهَا مِنْ الْوَقْتِ مَا اسْتَطَاعَ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي يُجَوِّزُ فِعْلَ الرَّوَاتِبِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ مُوَافَقَةً لِأَبِي الْخَطَّابِ لَكِنْ أَبُو الْخَطَّابِ يُعَمِّمُ كَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ الصَّوَابُ . فَإِنْ قِيلَ : فَالتَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ يَفُوتُ مَنْ قَصْدُهُ عِمَارَةُ الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا بِالصَّلَاةِ ؟ قِيلَ : هَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَا يُمْكِنُ بَشَرًا أَنْ يُصَلِّيَ دَائِمًا جَمِيعَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَقْتِ رَاحَةٍ وَنَوْمٍ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ رِجَالًا قَالَ أَحَدُهُمْ : أَنَا أَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ : وَأَنَا أَقْوَمُ لَا أَنَامُ وَقَالَ الْآخَرُ : لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ الْآخَرُ : لَا آكُلُ اللَّحْمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَكِنْ أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } بَلْ قَدْ قِيلَ : إنَّ مِنْ جُمْلَةِ حِكْمَةِ النَّهْيِ عَنْ التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إجْمَامَ النُّفُوسِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ لِتَنْشَطَ لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَنْبَسِطُ إلَى مَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْهُ وَتَنْشَطُ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ الرَّاحَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ رَأَى رَجُلًا يَتَنَفَّلُ فِي وَقْتِ نَهْيٍ فَقَالَ : نَهَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَذُكِرَ
لَهُ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ . فِي الْكَرَاهَةِ . فَقَالَ هَذَا : لَا أَسْمَعُهُ
وَأُصَلِّي كَيْفَ شِئْت فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا التَّطَوُّعُ الَّذِي لَا سَبَبَ لَهُ : فَهُوَ
مَنْهِيٌّ عَنْهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ
صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَكَانَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ مَنْ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ . فَمَنْ فَعَلَ
ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ اتِّبَاعًا لِمَا سَنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إذْ قَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا
مَا لَهُ سَبَبٌ : كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ فَهَذَا فِيهِ
نِزَاعٌ وَتَأْوِيلٌ : فَإِنْ كَانَ يُصَلِّي صَلَاةً يَسُوغُ فِيهَا
الِاجْتِهَادُ لَمْ يُعَاقَبْ . وَأَمَّا رَدُّهُ الْأَحَادِيثَ بِلَا حُجَّةٍ
وَشَتْمُ النَّاهِي وَقَوْلُهُ لِلنَّاهِي :
أُصَلِّي
كَيْفَ شِئْت فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ إذْ الرَّجُلُ عَلَيْهِ أَنْ
يُصَلِّيَ كَمَا يُشْرَعُ لَهُ لَا كَمَا يَشَاءُ هُوَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي وَقْتِ النَّهْيِ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ
يُصَلِّيَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا
رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ
: أَنَّهُ لَا يُصَلِّيهَا . وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ
يُصَلِّيهَا وَهَذَا أَظْهَرُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : " { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ
حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } . وَهَذَا أَمْرٌ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ
وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ صُورَةٌ مِنْ الصُّوَرِ . وَأَمَّا نَهْيُهُ
عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ غُرُوبِهَا فَقَدْ خُصَّ
مِنْهُ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ . مِنْهَا قَضَاءُ الْفَوَائِتِ . وَمِنْهَا
رَكْعَتَا الطَّوَافِ . وَمِنْهَا الْمُعَادَةُ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ وَغَيْرُ
ذَلِكَ . وَالْعَامُّ الْمَحْفُوظُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ .
وَأَيْضًا
: فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَقْتَ الْخُطْبَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا كَالنَّهْيِ فِي
هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ أَوْ أَوْكَدَ ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إذَا
دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَا يَجْلِسْ
حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } فَإِذَا كَانَ قَدْ أَمَرَ بِالتَّحِيَّةِ فِي
هَذَا الْوَقْتِ وَهُوَ وَقْتُ نَهْيٍ . فَكَذَلِكَ الْوَقْتُ الْآخَرُ بِطَرِيقِ
الْأَوْلَى وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ أَحْمَد فِي هَذَا لِمَجِيءِ السُّنَّةِ
الصَّحِيحَةِ بِهِ بِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فَإِنَّ مَذْهَبَهُمَا فِي
الْمَوْضِعَيْنِ النَّهْيُ فَإِنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُمَا هَذِهِ . السُّنَّةُ
الصَّحِيحَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ " هَلْ تُفْعَلُ " فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ
؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا دَخَلَ
أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } فَإِذَا
دَخَلَ وَقْتُ نَهْيٍ فَهَلْ يُصَلِّي ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنْ
أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ يُصَلِّي فَإِنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ قَدْ
خُصَّ مِنْ صُوَرٍ كَثِيرَةٍ . وَخُصَّ مِنْ نَظِيرِهِ . وَهُوَ وَقْتُ
الْخُطْبَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "
{ إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا
يَجْلِسْ
حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } فَإِذَا أَمَرَ بِالتَّحِيَّةِ وَقْتَ
الْخُطْبَةِ فَفِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ إذَا تَوَضَّأَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَقَدْ
صَلَّى الْفَجْرَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ شُكْرًا لِلْوُضُوءِ ؟.
فَأَجَابَ :
هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُفْعَلَ لِحَدِيثِ بِلَالٍ .
بَابُ
صَلَاة الْجَمَاعَةِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ هَلْ هِيَ فَرْضُ عَيْنٍ أَمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ أَمْ
سُنَّةٌ فَإِنْ كَانَتْ فَرْضَ عَيْنٍ وَصَلَّى وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ .
فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟ وَمَا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ؟
وَمَا حُجَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ ؟ وَمَا الرَّاجِحُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا
مِنْ أَوْكَدِ الْعِبَادَاتِ وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ وَأَعْظَمِ شَعَائِرِ
الْإِسْلَامِ وَعَلَى مَا ثَبَتَ فِي فَضْلِهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : " { تَفْضُلُ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ
عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } هَكَذَا فِي حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ . وَأَبِي سَعِيدٍ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ بِسَبْعِ وَعِشْرِينَ وَالثَّلَاثَةُ فِي الصَّحِيحِ . وَقَدْ جُمِعَ
بَيْنَهُمَا . بِأَنَّ حَدِيثَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ ذُكِرَ فِيهِ الْفَضْلُ
الَّذِي بَيْنَ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ وَالصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفَضْلُ خَمْسُ وَعِشْرُونَ وَحَدِيثُ السَّبْعَةِ وَالْعِشْرِينَ ذُكِرَ فِيهِ صَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا وَصَلَاتُهُ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفَضْلُ بَيْنَهُمَا فَصَارَ الْمَجْمُوعُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ وَمَنْ ظَنَّ مِنْ الْمُتَنَسِّكَةِ أَنَّ صَلَاتَهُ وَحْدَهُ أَفْضَلُ إمَّا فِي خَلْوَتِهِ وَإِمَّا فِي غَيْرِ خَلْوَتِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَأَضَلُّ مِنْهُ مَنْ لَمْ يَرَ الْجَمَاعَةَ إلَّا خَلْفَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ فَعَطَّلَ الْمَسَاجِدَ عَنْ الْجَمِيعِ وَالْجَمَاعَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ وَعَمَّرَ الْمَسَاجِدَ بِالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا وَرَسُولُهُ وَصَارَ مُشَابِهًا لِمَنْ نَهَى عَنْ عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ وَأَمَرَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ . فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَعَ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا فِي الْمَسَاجِدِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَقَالَ تَعَالَى { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }
وَقَالَ
تَعَالَى : { وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } .
وَأَمَّا مَشَاهِدُ الْقُبُورِ وَنَحْوِهَا : فَقَدَ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُخَصَّ بِصَلَاةِ أَوْ
دُعَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ
وَالذِّكْرَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْمَسَاجِدِ فَقَدْ كَفَرَ . بَلْ قَدْ
تَوَاتَرَتْ السُّنَنُ فِي النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِهَا لِذَلِكَ . كَمَا ثَبَتَ
فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا
فَعَلُوا : قَالَتْ عَائِشَةُ : " وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزَ قَبْرَهُ
وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا
أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْحُسْنِ
وَالتَّصَاوِيرِ فَقَالَ : " { أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ
الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ
التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
وَثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ قَالَ :
قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : " { أَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا
يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ
فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :
" { إنَّ مِنْ شَرَارِ الْخَلْقِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ
أَحْيَاءٌ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } وَفِي مُوَطَّأِ
مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا
يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ
أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " { لَا
تَتَّخِذُوا
قَبْرِي
عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ
إقَامَةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسَاجِدِ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ
وَأَجَلِّ الْقُرُبَاتِ وَمَنْ فَضَّلَ تَرْكَهَا عَلَيْهَا إيثَارًا لِلْخَلْوَةِ
وَالِانْفِرَادِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجَمَاعَاتِ أَوْ جَعَلَ
الدُّعَاءَ وَالصَّلَاةَ فِي الْمَشَاهِدِ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ
فَقَدْ انْخَلَعَ مِنْ رِبْقَةِ الدِّينِ وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ . { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } . وَلَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهَا وَاجِبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ أَوْ عَلَى
الْكِفَايَةِ أَوْ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَقِيلَ :
هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَقَطْ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
وَيُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ
وَهَذَا هُوَ الْمُرَجَّحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ
مَالِكٍ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَقِيلَ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى
الْأَعْيَانِ ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ
مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ
تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا صَلَّى مُنْفَرِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ هَلْ تَصِحُّ
صَلَاتُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ؟ أَحَدُهُمَا لَا تَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ
مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَد ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي شَرْحِ
الْمَذْهَبِ عَنْهُمْ وَبَعْضِ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَابْنِ عَقِيلٍ وَهُوَ قَوْلُ
طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ .
وَالثَّانِي تَصِحُّ مَعَ إثْمِهِ بِالتَّرْكِ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ
أَحْمَد وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ .
وَاَلَّذِينَ نَفَوْا الْوُجُوبَ احْتَجُّوا بِتَفْضِيلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ
وَحْدَهُ . قَالُوا : وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ
الْمُنْفَرِدِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَفْضِيلٌ وَحَمَلُوا مَا جَاءَ مَنْ هَمَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحْرِيقِ عَلَى مَنْ تَرَكَ
الْجُمُعَةَ أَوْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ
الْجَمَاعَةِ مَعَ النِّفَاقِ وَإِنَّ تَحْرِيقَهُمْ كَانَ لِأَجْلِ النِّفَاقِ
لَا لِأَجْلِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ .
وَأَمَّا الْمُوجِبُونَ : فَاحْتَجُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } الْآيَةَ . وَفِيهَا
دَلِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا
أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مَعَهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَذَلِكَ
دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا حَالَ الْخَوْفِ وَهُوَ يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى
عَلَى وُجُوبِهَا حَالَ الْأَمْنِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ سَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ جَمَاعَةً وَسَوَّغَ فِيهَا مَا لَا
يَجُوزُ لِغَيْرِ عُذْرٍ . كَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ وَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ
فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عُذْرٍ بِالِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ مُفَارَقَةُ
الْإِمَامِ قَبْلَ السَّلَامِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَكَذَلِكَ التَّخَلُّفُ عَنْ
مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ كَمَا يَتَأَخَّرُ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بَعْدَ رُكُوعِهِ
مَعَ الْإِمَامِ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ أَمَامَهُمْ . قَالُوا : وَهَذِهِ
الْأُمُورُ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ لَوْ فُعِلَتْ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ
الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةً بَلْ مُسْتَحَبَّةً لَكَانَ قَدْ الْتَزَمَ فِعْلَ
مَحْظُورٍ مُبْطِلٍ لِلصَّلَاةِ وَتُرِكَتْ الْمُتَابَعَةُ الْوَاجِبَةُ فِي
الصَّلَاةِ لِأَجْلِ فِعْلٍ مُسْتَحَبٍّ مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ
أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا صَلَاةً تَامَّةً فَعُلِمَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ .
وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُقَارَنَةُ
بِالْفِعْلِ وَهِيَ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً . وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا
يُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } فَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي
لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ : صَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ وَصُومُوا مَعَ
الصَّائِمِينَ { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى
اخْتِصَاصِ الرُّكُوعِ بِذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالصَّلَاةُ كُلُّهَا تُفْعَلُ مَعَ الْجَمَاعَةِ . قِيلَ : خَصَّ الرُّكُوعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ تُدْرَكُ بِهِ الصَّلَاةُ فَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ فَأَمَرَ بِمَا يُدْرَكُ بِهِ الرَّكْعَةُ كَمَا قَالَ لِمَرْيَمَ : { اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ : اُقْنُتِي مَعَ الْقَانِتِينَ لَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ إدْرَاكِ الْقِيَامِ وَلَوْ قِيلَ : اُسْجُدِي لَمْ يَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ إدْرَاكِ الرُّكُوعِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ وَمَا بَعْدَهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . ( وَأَمَّا السُّنَّةُ فَالْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي الْبَابِ : مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ : فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ } فَهَمَّ بِتَحْرِيقِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الصَّلَاةَ وَفِي لَفْظٍ قَالَ : " { أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا وَلَقَدْ هَمَمْت أَنَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ } الْحَدِيثَ . وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ " { لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ لَأَمَرْت أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ } الْحَدِيثَ . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ هَمَّ بِتَحْرِيقِ الْبُيُوتِ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الصَّلَاةَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ فِيهَا مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ شُهُودُ الصَّلَاةِ وَفِي تَحْرِيقِ الْبُيُوتِ قَتْلُ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْحُبْلَى .
وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } . وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ شُهُودِ الْجُمُعَةِ فَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يُبَيِّنُ ضَعْفَ قَوْلِهِ حَيْثُ ذَكَرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِهَمِّهِ بِتَحْرِيقِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الصَّلَاةَ . وَأَمَّا مَنْ حَمَلَ الْعُقُوبَةَ عَلَى النِّفَاقِ لَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لِأَوْجُهِ : أَحَدُهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يُقِيلُ الْمُنَافِقِينَ إلَّا عَلَى الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَإِنَّمَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ مِنْ تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ فَلَوْلَا أَنَّ فِي ذَلِكَ تَرْكَ وَاجِبٍ لَمَا حَرَّقَهُمْ . ( الثَّانِي أَنَّهُ رَتَّبَ الْعُقُوبَةَ عَلَى تَرْكِ شُهُودِ الصَّلَاةِ فَيَجِبُ رَبْطُ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ الَّذِي ذَكَرَهُ . الثَّالِثُ أَنَّهُ سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ حَدِيثُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ حَيْثُ اسْتَأْذَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ أَثْنَى عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَسْتَخْلِفُهُ
عَلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ يُؤَذِّنُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
الرَّابِعُ أَنَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى وُجُوبِهَا أَيْضًا : كَمَا قَدْ ثَبَتَ
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ
قَالَ : " { مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُصَلِّ
هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ
لِنَبِيِّهِ سُنَنَ الْهُدَى وَأَنَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي
الْمَسَاجِدِ الَّتِي يُنَادَى بِهِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَأَنَّكُمْ لَوْ
صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا صَلَّى هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ
لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ
لَضَلَلْتُمْ وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ
مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ
الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ } . فَقَدْ أَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ
مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقْرَارِ وُجُوبِهَا عِنْدَ
الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَوْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مُسْتَحَبَّةً كَقِيَامِ
اللَّيْلِ وَالتَّطَوُّعَاتِ الَّتِي مَعَ الْفَرَائِضِ وَصَلَاةِ الضُّحَى
وَنَحْوِ ذَلِكَ . كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا
يَفْعَلُهَا مَعَ إيمَانِهِ كَمَا { قَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ : وَاَللَّهِ لَا
أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ . فَقَالَ : أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ }
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ كَانَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ إلَّا مُنَافِقٌ
كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ كَخُرُوجِهِمْ إلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ فَإِنَّ
النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدِ فِي التَّخَلُّفِ إلَّا مَنْ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ عُذْرًا فَأَذِنَ لَهُ لِأَجْلِ عُذْرِهِ . ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ كَشَفَ اللَّهُ أَسْرَارَ الْمُنَافِقِينَ وَهَتَكَ أَسْتَارَهُمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ تَخَلَّفُوا لِغَيْرِ عُذْرٍ . وَاَلَّذِينَ تَخَلَّفُوا لِغَيْرِ عُذْرٍ مَعَ الْإِيمَانِ عُوقِبُوا بِالْهَجْرِ حَتَّى هِجْرَانِ نِسَائِهِمْ لَهُمْ حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . ( فَإِنْ قِيلَ فَأَنْتُمْ الْيَوْمَ تَحْكُمُونَ بِنِفَاقِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا وَتُجَوِّزُونَ تَحْرِيقَ الْبُيُوتِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذُرِّيَّةٌ . قِيلَ لَهُ : مِنْ الْأَفْعَالِ مَا يَكُونُ وَاجِبًا وَلَكِنْ تَأْوِيلُ الْمُتَأَوِّلِ يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْهُ وَقَدْ صَارَ الْيَوْمَ كَثِيرٌ مِمَّنْ هُوَ مُؤْمِنٌ لَا يَرَاهَا وَاجِبَةً عَلَيْهِ فَيَتْرُكُهَا مُتَأَوِّلًا وَفِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ تَأْوِيلٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَاشَرَهُمْ بِالْإِيجَابِ . وَأَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ : " { أَنَّ أَعْمَى اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَأَذِنَ لَهُ فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ : هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَأَجِبْ } فَأَمَرَهُ بِالْإِجَابَةِ إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ ؛ وَلِهَذَا أَوْجَبَ أَحْمَد الْجَمَاعَةَ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ . وَفِي لَفْظٍ فِي السُّنَنِ " { أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنِّي رَجُلٌ شَاسِعُ الدَّارِ وَإِنَّ الْمَدِينَةَ كَثِيرَةُ الْهَوَامِّ وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَائِمُنِي فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ
أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي ؟ فَقَالَ : هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : لَا أَجِدُ لَك رُخْصَةً } . وَهَذَا نَصٌّ فِي الْإِيجَابِ لِلْجَمَاعَةِ مَعَ كَوْنِ الرَّجُلِ مُؤْمِنًا . وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِتَفْضِيلِ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ فَعَنْهُ جَوَابَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَمَنْ صَحَّحَ صَلَاتَهُ قَالَ : الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ كَالْوَقْتِ فَإِنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الْعَصْرَ إلَى وَقْتِ الِاصْفِرَارِ كَانَ آثِمًا مَعَ كَوْنِ الصَّلَاةِ صَحِيحَةً بَلْ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَّرَهَا إلَى أَنْ يَبْقَى مِقْدَارَ رَكْعَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ . " { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ } قَالَ : وَالتَّفْضِيلُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْضُولَ جَائِزٌ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ } فَجَعَلَ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ خَيْرًا مِنْ الْبَيْعِ وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ وَالْبَيْعُ حَرَامٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } . وَمَنْ قَالَ : لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ إلَّا لِعُذْرِ احْتَجَّ بِأَدِلَّةِ الْوُجُوبِ قَالَ : وَمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ كَانَ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ .
وَأَمَّا الْوَقْتُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَلَافِيهِ فَإِذَا فَاتَ لَمْ يُمْكِنْ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِيهِ فَنَظِيرُ ذَلِكَ فَوْتُ الْجُمُعَةِ وَفَوْتُ الْجَمَاعَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا فَإِذَا فَوَّتَ الْجُمُعَةَ الْوَاجِبَةَ كَانَ آثِمًا وَعَلَيْهِ الظُّهْرُ إذْ لَا يُمْكِنُ سِوَى ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ مَنْ فَوَّتَ الْجَمَاعَةَ الْوَاجِبَةَ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِ شُهُودُهَا وَلَيْسَ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ أُخْرَى فَإِنَّهُ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ هُنَا لِعَدَمِ إمْكَانِ صَلَاتِهِ جَمَاعَةً كَمَا تَصِحُّ الظُّهْرُ مِمَّنْ تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ . وَلَيْسَ وُجُوبُ الْجَمَاعَةِ بِأَعْظَمَ مِنْ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ مُنْفَرِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ ثُمَّ أُقِيمَتْ الْجَمَاعَةُ فَهَذَا عِنْدَهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ . ثُمَّ لَمْ يُجِبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا صَلَاةَ لَهُ } . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : " { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ . } فَإِنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَقَدْ رَوَاهُ الدارقطني مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوَّى ذَلِكَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ . قَالُوا : وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَرْفُ النَّفْيِ دَخَلَ عَلَى فِعْلٍ شَرْعِيٍّ إلَّا لِتَرْكِ وَاجِبٍ فِيهِ كَقَوْلِهِ : " { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } وَ " { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ } . وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَنْ حَدِيثِ التَّفْضِيلِ . بِأَنْ قَالُوا : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْذُورِ كَالْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ وَصَلَاةُ النَّائِمِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ } وَأَنَّ تَفْضِيلَهُ صَلَاةَ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ . كَتَفْضِيلِهِ صَلَاةَ الْقَائِمِ عَلَى صَلَاةِ الْقَاعِدِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ كَمَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ . وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْعُلَمَاءَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ : هَلْ الْمُرَادُ بِهِمَا الْمَعْذُورُ أَوْ غَيْرُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقَالَتْ طَائِفَةٌ الْمُرَادُ بِهِمَا غَيْرُ الْمَعْذُورِ . قَالُوا لِأَنَّ الْمَعْذُورَ أَجْرُهُ تَامٌّ بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } قَالُوا : فَإِذَا كَانَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ يُكْتَبُ لَهُمَا مَا كَانَا يَعْمَلَانِ فِي الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ . فَكَيْفَ تَكُونُ صَلَاةُ الْمَعْذُورِ قَاعِدًا أَوْ مُنْفَرِدًا دُونَ صَلَاتِهِ فِي الْجَمَاعَةِ قَاعِدًا وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ تَفْضِيلَ صَلَاةِ الْقَائِمِ عَلَى النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِي الْفَرْضِ وَاجِبٌ . وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لَزِمَهُ أَنْ يُجَوِّزَ تَطَوُّعَ الصَّحِيحِ مُضْطَجِعًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ : " { وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ } . وَقَدْ
طَرَدَ هَذَا الدَّلِيلَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَجَوَّزُوا أَنْ يَتَطَوَّعَ الرَّجُلُ مُضْطَجِعًا لِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ لِأَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلِتَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى الْمَرِيضِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَعَدُّوهُ بِدْعَةً وَحَدَثًا فِي الْإِسْلَامِ . وَقَالُوا : لَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا قَطُّ صَلَّى فِي الْإِسْلَامِ عَلَى جَنْبِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَفَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَهُ وَلَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ مَرَّةً لِتَبْيِينِ الْجَوَازِ فَقَدْ كَانَ يَتَطَوَّعُ قَاعِدًا وَيُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ فَلَوْ كَانَ هَذَا سَائِغًا لَفَعَلَهُ وَلَوْ مَرَّةً . أَوْ لَفَعَلَهُ أَصْحَابُهُ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا هَذَا مَعَ ظُهُورِ حُجَّتِهِمْ قَدْ تَنَاقَضَ مَنْ لَمْ يُوجِبْ الْجَمَاعَةَ مِنْهُمْ حَيْثُ حَمَلُوا قَوْلَهُ : " { تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ الْمَعْذُورِ فَيُقَالُ لَهُمْ : لِمَ كَانَ التَّفْضِيلُ هُنَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ وَالتَّفْضِيلُ هُنَاكَ فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ وَهَلْ هَذَا إلَّا تَنَاقُضٌ . وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْجَمَاعَةَ وَحَمَلَ التَّفْضِيلَ عَلَى الْمَعْذُورِ فَطَرَدَ دَلِيلَهُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ .
وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ مُنَازِعُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ : " { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } فَجَوَابُهُمْ عَنْهُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَبُ مِثْلُ الثَّوَابِ الَّذِي كَانَ يُكْتَبُ لَهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ ؛ لِأَجْلِ نِيَّتِهِ لَهُ وَعَجْزِهِ عَنْهُ بِالْعُذْرِ . وَهَذِهِ " قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ " أَنَّ مَنْ كَانَ عَازِمًا عَلَى الْفِعْلِ عَزْمًا جَازِمًا وَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ فَهَذَا الَّذِي كَانَ لَهُ عَمَلٌ فِي صِحَّتِهِ وَإِقَامَتِهِ عَزْمُهُ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ وَقَدْ فَعَلَ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ مَا أَمْكَنَهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ . كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ : فِيمَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ يُدْرِكُ الْجَمَاعَةَ فَوَجَدَهَا قَدْ فَاتَتْ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } الْآيَةَ . فَهَذَا وَمِثْلُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَعْذُورَ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ ثَوَابِ الصَّحِيحِ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَفْعَلَ وَقَدْ عَمِلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَفْسُ عَمَلِهِ مِثْلَ عَمَلِ الصَّحِيحِ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ صَلَاةَ الْمَرِيضِ نَفْسَهَا فِي الْأَجْرِ مِثْلُ صَلَاةِ الصَّحِيحِ وَلَا أَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ الْمَعْذُورِ فِي نَفْسِهَا مِثْلُ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ
وَإِنَّمَا فِيهِ أَنْ يُكْتَبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ كَمَا يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ إذَا فَاتَتْهُ مَعَ قَصْدِهِ لَهَا . وَأَيْضًا فَلَيْسَ كُلُّ مَعْذُورٍ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ عَمَلِ الصَّحِيحِ وَإِنَّمَا يُكْتَبُ لَهُ إذَا كَانَ يَقْصِدُ عَمَلَ الصَّحِيحِ وَلَكِنْ عَجَزَ عَنْهُ . فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ كَانَ عَادَتُهُ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ وَالصَّلَاةَ قَائِمًا ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ لِمَرَضِهِ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ ، وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ وَكَذَلِكَ مَنْ تَطَوَّعَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ وَقَدْ كَانَ يَتَطَوَّعُ فِي الْحَضَرِ قَائِمًا يُكْتَبُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الْإِقَامَةِ . فَأَمَّا مَنْ لَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةِ وَلَا الصَّلَاةَ قَائِمًا إذَا مَرِضَ فَصَلَّى وَحْدَهُ أَوْ صَلَّى قَاعِدًا فَهَذَا لَا يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ صَلَاةِ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ . وَمَنْ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْذُورِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ صَلَاةَ هَذَا قَاعِدًا مِثْلَ صَلَاةِ الْقَائِمِ وَصَلَاتَهُ مُنْفَرِدًا مِثْلَ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ . وَأَيْضًا فَيُقَالُ : تَفْضِيلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ وَلِصَلَاةِ الْقَائِمِ عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَاعِدِ عَلَى الْمُضْطَجَعِ إنَّمَا دَلَّ عَلَى فَضْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ حَيْثُ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ صَحِيحَةً .
أَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الصَّلَاةِ المفضولة تَصِحُّ حَيْثُ تَصِحُّ تِلْكَ أَوْ لَا تَصِحُّ فَالْحَدِيثُ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ وَلَا سِيقَ الْحَدِيثُ لِأَجْلِ بَيَانِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَفَسَادِهَا ؛ بَلْ وُجُوبُ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَسُقُوطِ ذَلِكَ وَوُجُوبِ الْجَمَاعَةِ وَسُقُوطِهَا : يُتَلَقَّى مِنْ أَدِلَّةٍ أُخَرَ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا : كَوْنُ هَذَا الْمَعْذُورِ يُكْتَبُ لَهُ تَمَامُ عَمَلِهِ أَوْ لَا يُكْتَبُ لَهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ بَلْ يُتَلَقَّى مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ وَقَدْ بَيَّنَتْ سَائِرُ النُّصُوصِ أَنَّ تَكْمِيلَ الثَّوَابِ هُوَ لِمَنْ كَانَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الْفَاضِلَ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ لَا لِكُلِّ أَحَدٍ . وَتُثْبِتُ نُصُوصٌ أُخَرُ وُجُوبَ الْقِيَامِ فِي الْفَرْضِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : " { صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } . وَبَيَّنَ جَوَازَ التَّطَوُّعِ قَاعِدًا لَمَّا رَآهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ قُعُودًا فَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ يُصَلِّي قَاعِدًا مَعَ كَوْنِهِ كَانَ يَتَطَوَّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ . كَذَلِكَ تُثْبِتُ نُصُوصٌ أُخَرُ وُجُوبَ الْجَمَاعَةِ فَيُعْطِي كُلَّ حَدِيثٍ حَقَّهُ فَلَيْسَ بَيْنَهَا تَعَارُضٌ وَلَا تَنَافٍ وَإِنَّمَا يَظُنُّ التَّعَارُضَ وَالتَّنَافِي مَنْ حَمَّلَهَا مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعْطِهَا حَقَّهَا بِسُوءِ نَظَرِهِ وَتَأْوِيلِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَسَائِلَ يَكْثُرُ وُقُوعُهَا وَيَحْصُلُ الِابْتِلَاءُ بِهَا وَالضِّيقُ
وَالْحَرَجُ عَلَى رَأْيِ إمَامٍ بِعَيْنِهِ : مِنْهَا " مَسْأَلَةُ
الْجَمَاعَةِ لِلصَّلَاةِ " هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ ؟ أَمْ سُنَّةٌ ؟ وَإِذَا
قُلْنَا : وَاجِبَةٌ هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ . بِدُونِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ
عَلَيْهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا سُنَّةٌ وَقِيلَ : إنَّهَا
وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَقِيلَ : إنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ .
وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ
أَمَرَ بِهَا فِي حَالِ الْخَوْفِ فَفِي حَالِ الْأَمْنِ أَوْلَى وَآكَدُ .
وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى . { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } وَهَذَا
أَمْرٌ بِهَا . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ ابْنَ أُمِّ
مَكْتُومٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَخِّصَ
لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ : هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قَالَ :
نَعَمْ قَالَ : فَأَجِبْ وَفِي رِوَايَةٍ مَا أَجِدُ لَك رُخْصَةً } وَابْنُ أُمِّ
مَكْتُومٍ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى
{ عَبَسَ وَتَوَلَّى } { أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } وَكَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا رُخْصَةَ لِمُؤْمِنِ فِي تَرْكِهَا . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَالَ : " { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالِ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ . } وَفِي رِوَايَةٍ " { لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَحْرِيقِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ الْجَمَاعَةِ مَنْ فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ فَإِنَّ تَعْذِيبَ أُولَئِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا جَمَاعَةَ عَلَيْهِمْ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ أَوْ كَانَ لِأَجْلِ نِفَاقِهِمْ . فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُهُمْ لِأَجْلِ النِّفَاقِ بَلْ لَا يُعَاقِبُهُمْ إلَّا بِذَنْبِ ظَاهِرٍ فَلَوْلَا أَنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ الْجَمَاعَةِ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعِقَابَ لَمَا عَاقَبَهُمْ . وَالْحَدِيثُ قَدْ بَيَّنَ فِيهِ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَأَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجَمَاعَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ يُتْرَكُ لَهَا أَكْثَرُ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَغَيْرِهَا فَلَوْلَا وُجُوبُهَا لَمْ يُؤْمَرْ بِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ لِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ .
فَصْلٌ
:
وَإِذَا تَرَكَ الْجَمَاعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ : فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَحَدُهُمَا : تَصِحُّ صَلَاتُهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { تَفْضُلُ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي
الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً }
وَالثَّانِي : لَا تَصِحُّ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ثُمَّ لَمْ
يُجِبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا صَلَاةَ لَهُ } وَلِقَوْلِهِ : " { لَا
صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } وَقَدْ قَوَّاهُ عَبْدُ
الْحَقِّ الإشبيلي . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ وَاجِبَةً فَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا
فِي الصَّلَاةِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ . وَحَدِيثُ التَّفْضِيلِ مَحْمُولٌ عَلَى
حَالِ الْعُذْرِ . كَمَا فِي قَوْلِهِ : " { صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى
النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ وَصَلَاةُ الْقَائِمِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ
صَلَاةِ
الْقَاعِدِ } . وَهَذَا عَامٌّ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ . وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ قَاعِدًا أَوْ نَائِمًا إلَّا فِي حَالِ الْعُذْرِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ نَائِمًا عِنْدَ جَمَاهِيرَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ إلَّا وَجْهًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّطَوُّعَ بِالصَّلَاةِ مُضْطَجِعًا بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ لِأَجْلِ نِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْمَلُ عَادَتُهُ قَبْلَ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْجَمَاعَةَ لِمَرَضِ أَوْ سَفَرٍ وَكَانَ يَعْتَادُهَا كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْتَادُهَا لَمْ يَكُنْ يُكْتَبْ لَهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالَيْنِ أَنَّ مَا لَهُ بِنَفْسِ الْفِعْلِ صَلَاةُ مُنْفَرِدٍ . وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ إذَا صَلَّى قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِذَا صَلَّى الرَّجُلُ وَحْدَهُ . وَأَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي جَمَاعَةٍ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فِعْلُ الْجَمَاعَةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ كَمَنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ وَصَلَّى ظُهْرًا وَإِنْ قَصَدَ الرَّجُلُ الْجَمَاعَةَ وَوَجَدَهُمْ قَدْ صَلَّوْا كَانَ لَهُ أَجْرُ مَنْ صَلَّى فِي الْجَمَاعَةِ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ
مِنْ رَكْعَةٍ فَلَهُ بِنِيَّتِهِ أَجْرُ الْجَمَاعَةِ وَلَكِنْ هَلْ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ أَوْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ . فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ كَمَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي : يَكُونُ كَمَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا كَقَوْلِ مَالِكٍ وَهَذَا أَصَحُّ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ } وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَمَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ إلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا إذَا أَدْرَكَهُمْ فِي التَّشَهُّدِ . وَمِنْ فَوَائِدِ النِّزَاعِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَلَّى خَلْفَ الْمُقِيمِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً فَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ وَلَا لِلْجَمَاعَةِ إلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ مُتَابَعَةً لِلْإِمَامِ . وَلَوْ بَعْدَ السَّلَامِ كَالْمُنْفَرِدِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
فَأَمَّا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ : فَاتَّبِعْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ مِنْ وُجُوبِهَا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ
وَسُقُوطِهَا بِالْعُذْرِ . وَتَقْدِيمُ الْأَئِمَّةِ بِمَا قَدَّمَ بِهِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : " { يَؤُمُّ
الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ
سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً
فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً } فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ أَوْ
الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ . وَإِنَّمَا يَكُونُ
تَرْجِيحُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ عَلَى بَعْضٍ إذْ اسْتَوَوْا فِي الْمَعْرِفَةِ
بِإِقَامِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَفَعَلَهَا عَلَى السُّنَّةِ
وَفِي دِينِ الْإِمَامِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ الْمَأْمُومُ عَنْ نَقْصِ
الصَّلَاةِ خَلْفَهُ . فَإِذَا اسْتَوَيَا فِي كَمَالِ الصَّلَاةِ مِنْهُمَا
وَخَلْفَهُمَا قُدِّمَ الْأَقْرَأُ ثُمَّ الْأَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ وَإِلَّا
فَفَضْلُ الصَّلَاةِ فِي نَفْسِهَا مُقَدَّمٌ عَلَى صِفَةِ إمَامِهَا وَمَا
يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فِيهَا مُقَدَّمٌ عَلَى مَا
يُسْتَحَبُّ مِنْ ذَلِكَ .
وَغَيْرُهُ . قَدْ يَقُولُ هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ . وَقَدْ يَقُولُ هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . وَلَهُمْ فِي تَقْدِيمِ الْأَئِمَّةِ خِلَافٌ وَيَأْمُرُهُمْ بِإِقَامَةِ الصُّفُوفِ فِيهَا كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سُنَنِهَا الْخَمْسِ : وَهِيَ تَقْوِيمُ الصُّفُوفِ وَرَصُّهَا وَتَقَارُبُهَا وَسَدُّ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ وَتَوْسِيطُ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ وَبِأَمْرِهِ بِالْإِعَادَةِ كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثَيْنِ ثَابِتَيْنِ عَنْهُ فَإِنَّهُ أَمَرَ الْمُنْفَرِدَ خَلْفَ الصَّفِّ بِالْإِعَادَةِ كَمَا أَمَرَ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ بِالْإِعَادَةِ وَكَمَا أَمَرَ الْمُسِيءَ فِي وُضُوئِهِ الَّذِي تَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ مِنْ قَدَمِهِ لَمْ يَمَسَّهُ الْمَاءُ بِالْإِعَادَةِ فَهَذِهِ . الْمَوَاضِعُ دَلَّتْ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ وَالِاصْطِفَافِ فِي الصَّلَاةِ وَالْإِتْيَانِ بِأَرْكَانِهَا . وَاَلَّذِينَ خَالَفُوا حَدِيثَ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ وَالشَّافِعِيُّ رَآهُ مُعَارَضًا بِكَوْنِ الْإِمَامِ يُصَلِّي وَحْدَهُ وَبَكَوْنِ مُلَيْكَةَ جَدَّةَ أَنَسٍ صَلَّتْ خَلْفَهُمْ وَبِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ لَمَّا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ . وَأَمَّا أَحْمَد فَأَصْلُهُ فِي الْأَحَادِيثِ إذَا تَعَارَضَتْ فِي قَضِيَّتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ غَيْرِ مُتَمَاثِلَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلُ كُلَّ حَدِيثٍ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا يَرُدُّ أَحَدَهُمَا
بِالْآخَرِ . فَيَقُولُ فِي مِثْلِ هَذِهِ : الْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ مَعَ النِّسَاءِ . صَلَّتْ بَيْنَهُنَّ وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَعَ الرِّجَالِ لَمْ تُصَلِّ إلَّا خَلْفَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ وَحْدَهَا ؛ لِأَنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنْ مُصَافَّةِ الرِّجَالِ فَانْفِرَادُهَا عَنْ الرِّجَالِ أَوْلَى بِهَا مِنْ مُصَافَّتِهِمْ كَمَا أَنَّهَا إذَا صَلَّتْ بِالنِّسَاءِ صَلَّتْ بَيْنَهُنَّ ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا كَمَا يُصَلِّي إمَامُ الْعُرَاةِ بَيْنَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةُ الرَّجُلِ الْكَاسِي إذَا أَمَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ الصَّفِّ . وَنَقُولُ : إنَّ الْإِمَامَ لَا يُشْبِهُ الْمَأْمُومَ فَإِنَّ سُنَّتَهُ التَّقَدُّمُ لَا الْمُصَافَّةُ وَسُنَّةَ الْمُؤْتَمِّينَ الِاصْطِفَافُ . نَعَمْ يَدُلُّ انْفِرَادُ الْإِمَامِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى جَوَازِ انْفِرَادِ الرَّجُلِ الْمَأْمُومِ لِحَاجَةِ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَكَانٌ يُصَلِّي فِيهِ إلَّا مُنْفَرِدًا فَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ فَلَيْسَ الِاصْطِفَافُ إلَّا بَعْضَ وَاجِبَاتِهَا فَسَقَطَ بِالْعَجْزِ فِي الْجَمَاعَةِ كَمَا يَسْقُطُ غَيْرُهُ فِيهَا وَفِي مَتْنِ الصَّلَاةِ . وَلِهَذَا كَانَ تَحْصِيلُ الْجَمَاعَةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَالْمَرَضِ وَنَحْوِهِمَا مَعَ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ وَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَمُفَارَقَةِ الْإِمَامِ وَمَعَ تَرْكِ الْمَرِيضِ الْقِيَامَ : أَوْلَى مِنْ أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا وَلِهَذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمُؤْتَمِّ عَلَى الْإِمَامِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَحَالِ الزِّحَامِ وَنَحْوِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ صِفَاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ . وَلِهَذَا سَقَطَ عِنْدَهُ . وَعِنْدَ غَيْرِهِ . مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مَا يُعْتَبَرُ لِلْجَمَاعَةِ : مِنْ
عَدْلِ الْإِمَامِ وَحَلِّ الْبَيْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ فَجَوَّزُوا بَلْ أَوْجَبُوا فِعْلَ صَلَوَاتِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْخَوْفِ وَالْمَنَاسِكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ الْفَاجِرِينَ وَفِي الْأَمْكِنَةِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا أَفْضَى تَرْكُ ذَلِكَ إلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْ إلَى فِتْنَةٍ فِي الْأُمَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ " { لَا يُؤْمِنُ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ سُلْطَانٌ يَخَافُ سَيْفَهُ أَوْ سَوْطَهُ } لِأَنَّ غَايَةَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَدْلُ الْإِمَامِ وَاجِبًا فَيَسْقُطُ بِالْعُذْرِ كَمَا سَقَطَ كَثِيرٌ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فِي جَمَاعَةِ الْخَوْفِ بِالْعُذْرِ . وَمَنْ اهْتَدَى لِهَذَا الْأَصْلِ ، وَهُوَ أَنَّ نَفْسَ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ فَكَذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ فِي الْجَمَاعَاتِ وَنَحْوِهَا فَقَدْ هُدِيَ لِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ التَّوَسُّطِ بَيْنَ إهْمَالِ بَعْضِ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ رَأْسًا كَمَا قَدْ يُبْتَلَى بِهِ بَعْضُهُمْ وَبَيْنَ الْإِسْرَافِ فِي ذَلِكَ الْوَاجِبِ حَتَّى يُفْضِيَ إلَى تَرْكِ غَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي هِيَ أَوْكَدُ مِنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْأَوْكَدُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ كَمَا قَدْ يُبْتَلَى بِهِ آخَرُونَ . فَإِنَّ فِعْلَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ دُونَ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ هُوَ الْوَسَطُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَنْبَنِي مَسَائِلُ الْهِجْرَةِ وَالْعَزْمِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ " مَسْأَلَةِ الْإِمَامَةِ " بِحَيْثُ لَا يُفْعَلُ وَلَا تَسَعُ الْقُدْرَةُ وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ : يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لِلْحَاجَةِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ . وَكَمَا لَوْ كَانَ الْمُفْتَرِضُ غَيْرَ قَارِئٍ كَمَا فِي
حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ وَمُعَاذٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ لَا يُجَوِّزُهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَأَمَّا إذَا جَوَّزَهُ مُطْلَقًا فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ لَا يُجَوِّزُهُ بِحَالِ فَصَارَتْ الْأَقْوَالُ فِي مَذْهَبِهِ وَغَيْرِ مَذْهَبِهِ ثَلَاثَةً . وَالْمَنْعُ مُطْلَقًا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ كَمَا أَنَّ الْجَوَازَ مُطْلَقًا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . وَيُشْبِهُ هَذَا مُفَارَقَةُ الْمَأْمُومِ إمَامَهُ قَبْلَ السَّلَامِ فَعَنْهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : أَوْسَطُهَا جَوَازُ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ كَمَا تَفْعَلُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَكَمَا فَعَلَ الَّذِي طَوَّلَ عَلَيْهِ مُعَاذٌ صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ طُولُ الصَّلَاةِ . وَالثَّانِيَةُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّالِثَةُ : الْجَوَازُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَد عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنْ تَؤُمَّ الْمَرْأَةُ الرِّجَالَ لِحَاجَةِ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ قَارِئَةً وَهُمْ غَيْرُ قَارِئِينَ فَتُصَلِّي بِهِمْ التَّرَاوِيحَ كَمَا أَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ وَرَقَةَ أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا وَجَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا وَتَتَأَخَّرُ خَلْفَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مَأْمُومِينَ بِهَا لِلْحَاجَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ يُجَوِّزُ تَقَدُّمَ الْمَأْمُومِ لِحَاجَةِ هَذَا مَعَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ : " { لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ
رَجُلًا } وَإِنَّ الْمَنْعَ مِنْ إمَامَةِ الْمَرْأَةِ بِالرِّجَالِ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ . وَلِهَذَا الْأَصْلِ اسْتَعْمَلَ أَحْمَد مَا اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْإِمَامِ : " { إذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ } وَأَنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُشْبِهُ قِيَامَ الْأَعَاجِمِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ فَسَقَطَ عَنْ الْمَأْمُومِينَ الْقِيَامُ لِمَا فِي الْقِيَامِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِمَامِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ فِي الْقِيَامِ لَهُ . وَكَذَلِكَ عَمَلُ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ لَمَّا اعْتَلُّوا فَصَلَّوْا قُعُودًا وَالنَّاسُ خَلْفَهُمْ قُعُودٌ كأسيد بْنِ الحضير وَلَكِنْ كَرِهَ هَذَا لِغَيْرِ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ إذْ لَا حَاجَةَ إلَى نَقْصِ الصَّلَاةِ فِي الِائْتِمَامِ بِهِ ، وَلِهَذَا كَرِهَهُ أَيْضًا إذَا مَرِضَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ مَرَضًا مُزْمِنًا ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ انْصِرَافُهُ عَنْ الْإِمَامَةِ وَلَمْ يَرَ هَذَا مَنْسُوخًا بِكَوْنِهِ فِي مَرَضِهِ صَلَّى فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ قَاعِدًا وَهُمْ قِيَامٌ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ وَبَيْنَ مَا فَعَلَهُ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ فَعَلُوا مَا أَمَرَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَعَ شُهُودِهِمْ لِفِعْلِهِ . فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْقُعُودِ مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ وَالْقُعُودِ فِي أَثْنَائِهَا إذْ يَجُوزُ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا إذْ لَيْسَ فِي الْفِعْلِ تَحْرِيمٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ بِحَالِ مَعَ مَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ الْكَلَامِ الدَّقِيقِ الَّذِي لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْقُلُوبُ الصَّحِيحَةُ
الَّتِي
دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا أَمَرْتُكُمْ
بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَأَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ جَمْعُ
الْوَاجِبَيْنِ قُدِّمَ أَرْجَحُهُمَا وَسَقَطَ الْآخَرُ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ
وَالتَّنْبِيهُ عَلَى ضَوَابِطَ مِنْ مَآخِذِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ .
وَسُئِلَ :
عَنْ أَقْوَامٍ يَسْمَعُونَ الدَّاعِيَ وَلَمْ يُجِيبُوا ؟ وَفِيهِمْ مَنْ
يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَفِيهِمْ مَنْ لَا تَرَاهُ يُصَلِّي وَيَرَاهُ جَمَاعَةٌ
مِنْ النَّاسِ وَلَا يَرَوْنَهُ بِالصَّلَاةِ وَحَالُهُ لَمْ تُرْضِ اللَّهَ وَلَا
رَسُولَهُ مِنْ جِهَةِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا . فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ يَرَاهُ
فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يُوَلِّيَ عَنْهُ أَوْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ ؟
أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ . وَأَيْضًا : هَلْ يَجُوزُ لِرَجُلِ إذَا كَانَ إمَامًا
فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ لَمْ يُصَلِّ فِيهِ إلَّا نَفَرَانِ أَوْ
ثَلَاثَةٌ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ هُوَ يُصَلِّي فِيهِ احْتِسَابًا ؟ وَأَيْضًا
إنْ كَانَ يُصَلِّي فِيهِ بِأُجْرَةِ لَا مَا يَطْلُبُ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِهِ
إلَّا لِأَجْلِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَفْتُونَا
يَرْحَمْكُمْ اللَّهُ .
فَأَجَابَ :
الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُقَامُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ شَعَائِرِ
الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ وَسُنَّتِهِ الْهَادِيَةِ . كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ
ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : " إنَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي
الْمَسْجِدِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الصَّلَاةُ
مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّكُمْ لَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا صَلَّى هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادِي بَيْنَ الرِّجَالِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ " وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالِ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ الْحَطَبِ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إلَى الْمَسْجِدِ فَسَأَلَهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ : أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : أَجِبْ وَفِي رِوَايَةٍ فِي السُّنَنِ قَالَ : أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : لَا أَجِدُ لَك رُخْصَةً } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ قَالُوا : مَا الْعُذْرُ ؟ قَالَ : خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُؤَكَّدَةِ فِي الدِّينِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَهِيَ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ : كَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَهِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ عِنْدَ طَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ الْمُرَجَّحُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَالْمُصِرُّ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ رَجُلُ سُوءٍ يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُزْجَرُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَإِنْ قِيلَ . إنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفِسْقِ مُضَيِّعًا لِلصَّلَاةِ فَهَذَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } وَتَجِبُ عُقُوبَتُهُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَدْعُوهُ إلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ . وَمَنْ كَانَ إمَامًا رَاتِبًا فِي مَسْجِدٍ فَصَلَاتُهُ فِيهِ إذَا لَمْ تَقُمْ الْجَمَاعَةُ إلَّا بِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ جَمَاعَةٍ . وَمَنْ عُرِفَ مِنْهُ التَّظَاهُرُ بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ أَوْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُهْجَرَ وَلَا يُسَلَّمَ عَلَيْهِ تَعْزِيرًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَتُوبَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ يُقْتَدَى بِهِ فِي تَرْكِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ
فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ ؛ إمَّا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ
وَإِمَّا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . وَالْأَدِلَّةُ مِنْ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا
سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَمْ يُوجِبْهَا فَإِنَّهُ يُذَمُّ مَنْ دَاوَمَ عَلَى
تَرْكِهَا حَتَّى إنَّ مَنْ دَاوَمَ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ الَّتِي هِيَ دُونَ
الْجَمَاعَةِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ عِنْدَهُمْ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ
فَكَيْفَ بِمَنْ يُدَاوِمُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ ؟ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهَا
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَيُلَامُ عَلَى تَرْكِهَا فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ
حُكْمٍ وَلَا شَهَادَةٍ وَلَا فُتْيَا مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ
الرَّاتِبَةِ الَّتِي هِيَ دُونَ الْجَمَاعَةِ فَكَيْفَ بِالْجَمَاعَةِ الَّتِي
هِيَ أَعْظَمُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ جَارٍ لِلْمَسْجِدِ وَلَمْ يَحْضُرْ مَعَ الْجَمَاعَةِ الصَّلَاةَ
وَيَحْتَجُّ بِدُكَّانِهِ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانَ لَا
يُصَلِّي فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَإِذَا ظَهَرَ
مِنْهُ الْإِهْمَالُ لِلصَّلَاةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ : إذَا فَرَغْت صَلَّيْت
بَلْ مَنْ ظَهَرَ كَذِبُهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَيُلْزَمُ بِمَا أَمَرَ
اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ.
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي " صَلَاةِ الْفَذِّ " فَقَالَ
أَحَدُهُمَا : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { صَلَاةُ
الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ } وَقَالَ
الْآخَرُ : " مَتَى كانت الْجَمَاعَةُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ فَهِيَ كَصَلَاةِ
الْفَذِّ " ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَتْ الْجَمَاعَةُ كَصَلَاةِ الْفَذِّ ؛ بَلْ الْجَمَاعَةُ أَفْضَلُ وَلَوْ
كَانَتْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ ؛ لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ صَلَّى
جَمَاعَةً فِي بَيْتِهِ هَلْ
يَسْقُطُ
عَنْهُ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ ؟ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ
الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ ؟ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ
حُضُورَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا لِعُذْرِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ
السُّنَنُ وَالْآثَارُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ أَدْرَكَ آخِرَ جَمَاعَةٍ وَبَعْدَ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ جَمَاعَةٌ
أُخْرَى فَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ مُتَابَعَةُ هَؤُلَاءِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ ؟
أَوْ يَنْتَظِرُ الْجَمَاعَةَ الْأُخْرَى ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ هَلْ
يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ
إدْرَاكِ رَكْعَةٍ ؟ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا
وَطَرَدَ قِيَاسَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ فِي الْجُمُعَةِ : يَكُونُ مُدْرِكًا
لَهَا بِإِدْرَاكِ الْقَعْدَةِ فَيُتِمُّهَا جُمُعَةً . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ :
أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا إلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ وَطَرَدَ الْمَسْأَلَةَ
فِي ذَلِكَ حَتَّى فِيمَنْ أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ الْوَقْتِ ، فَإِنَّ الْمَوَاضِعَ
الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَنْوَاعٌ : أَحَدُهَا : الْجُمُعَةُ
. وَالثَّانِي : فَضْلُ الْجَمَاعَةِ .
وَالثَّالِثُ : إدْرَاكُ الْمُسَافِرِ مِنْ صَلَاةِ الْمُقِيمِ . وَالرَّابِعُ : إدْرَاكُ بَعْضِ الصَّلَاةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ كَإِدْرَاكِ بَعْضِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ . وَالْخَامِسُ : إدْرَاكُ آخِرِ الْوَقْتِ كَالْحَائِضِ تَطْهُرُ وَالْمَجْنُونِ يُفِيقُ وَالْكَافِرِ يُسْلِمُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ . وَالسَّادِسُ : إدْرَاكُ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْوُجُوبَ بِذَلِكَ فَإِنَّ فِي هَذَا الْأَصْلِ السَّادِسِ نِزَاعًا . وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَقَالَا فِي الْجُمُعَةِ بِقَوْلِ مَالِكٍ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً يُصَلِّي إلَيْهَا أُخْرَى وَمَنْ أَدْرَكَهُمْ فِي التَّشَهُّدِ صَلَّى أَرْبَعًا . وَأَمَّا سَائِرُ الْمَسَائِلِ فَفِيهَا نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِمَا يُرَجِّحُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالْأَظْهَرُ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ كَمَا ذَكَرَهُ الخرقي فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ
الصَّلَاةَ } فَهَذَا نَصٌّ عَامٌّ فِي جَمِيعِ صُوَرِ إدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ سَوَاءٌ كَانَ إدْرَاكَ جَمَاعَةٍ أَوْ إدْرَاكَ الْوَقْتِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْفَجْرَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ } . وَهَذَا نَصٌّ فِي رَكْعَةٍ فِي الْوَقْتِ . وَقَدْ عَارَضَ هَذَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ : { مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً } وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ مَا إذَا أَدْرَكَ السَّجْدَةَ الْأُولَى وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّجْدَةِ الرَّكْعَةُ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَهَا وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ } إلَى آخِرِهِ . وَفِي اللَّفْظِ الْمَشْهُورِ " رَكْعَتَيْنِ " وَكَمَا رُوِيَ : { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ سَجْدَتَيْنِ } وَهُمَا رَكْعَتَانِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَمَنْ سَجَدَ بَعْدَ الْوِتْرِ سَجْدَتَيْنِ مُجَرَّدَتَيْنِ عَمَلًا بِهَذَا فَهُوَ غالط بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِإِدْرَاكِ سَجْدَةٍ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ يَقُولُوا بِالْحَدِيثِ . فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمُدْرَكُ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ وَكَانَ بَعْدَهَا جَمَاعَةٌ أُخْرَى فَصَلَّى مَعَهُمْ فِي جَمَاعَةٍ صَلَاةً تَامَّةً فَهَذَا أَفْضَلُ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ مُصَلِّيًا فِي جَمَاعَةٍ ؛ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الْمُدْرَكُ رَكْعَةً أَوْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ وَقُلْنَا إنَّهُ يَكُونُ بِهِ مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ فَهُنَا قَدْ تَعَارَضَ إدْرَاكُهُ
لِهَذِهِ
الْجَمَاعَةِ وَإِدْرَاكُهُ لِلثَّانِيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا فَإِنَّ إدْرَاكَ
الْجَمَاعَةِ مِنْ أَوَّلِهَا أَفْضَلُ . كَمَا جَاءَ فِي إدْرَاكِهَا بِحَدِّهَا
فَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَتَانِ سَوَاءً فَالثَّانِيَةُ أَفْضَلُ وَإِنْ
تَمَيَّزَتْ الْأُولَى بِكَمَالِ الْفَضِيلَةِ أَوْ كَثْرَةِ الْجَمْعِ أَوْ
فَضْلِ الْإِمَامِ أَوْ كَوْنِهَا الرَّاتِبَةَ فَهِيَ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ
أَفْضَلُ وَتِلْكَ مِنْ جِهَةِ إدْرَاكِهَا بِحَدِّهَا أَفْضَلُ وَقَدْ
يَتَرَجَّحُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً . وَأَمَّا إنْ قَدَّرَ أَنَّ
الثَّانِيَةَ أَكْمَلُ أَفْعَالًا وَإِمَامًا أَوْ جَمَاعَةً فَهُنَا قَدْ
تَرَجَّحَتْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ تَكُنْ
تُعْرَفُ فِي السَّلَفِ إلَّا إذَا كَانَ مُدْرِكًا لِمَسْجِدِ آخَرَ فَإِنَّهُ
لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ إمَامَانِ رَاتِبَانِ وَكَانَتْ
الْجَمَاعَةُ تَتَوَفَّرُ مَعَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ
صَلَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً وَلَوْ رَكْعَةً
خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَلَوْ كَانَ جَمَاعَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ صَلَّى فَرْضَهُ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَوَجَدَهُمْ
يُصَلُّونَ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْجَمَاعَةِ مِنْ الْفَائِتِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا صَلَّى الرَّجُلُ الْفَرِيضَةَ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدًا تُقَامُ فِيهِ تِلْكَ
الصَّلَاةُ
فَلْيُصَلِّهَا مَعَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا
أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ
لِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَ النَّاسِ : فَقَالَ : { مَا لَكُمَا لَمْ
تُصَلِّيَا ؟ أَلَسْتُمَا مُسْلِمَيْنِ ؟ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا فَقَالَ : إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ
أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ
} . وَمَنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ إلَى قَضَائِهَا عَلَى
الْفَوْرِ سَوَاءٌ فَاتَتْهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ
. كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ الرَّاجِحُ
فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا إذَا فَاتَتْ عَمْدًا كَانَ قَضَاؤُهَا
وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ . وَإِذَا صَلَّى مَعَ الْجَمَاعَةِ نَوَى
بِالثَّانِيَةِ مُعَادَةً وَكَانَتْ الْأُولَى فَرْضًا وَالثَّانِيَةُ نَفْلًا
عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ . وَقِيلَ :
الْفَرْضُ أَكْمَلُهُمَا وَقِيلَ : ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ : { شَهِدْت حَجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّيْت مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي
مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ وَانْحَرَفَ فَإِذَا هُوَ
بِرَجُلَيْنِ فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا فَقَالَ :
عَلَيَّ
بِهِمَا فَإِذَا بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا فَقَالَ : مَا مَنَعَكُمَا أَنْ
تُصَلِّيَا مَعَنَا ؟ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا صَلَّيْنَا فِي
رِحَالِنَا قَالَ : فَلَا تَفْعَلَا إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ
أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ
} . وَالثَّانِي : عَنْ سَلْمَانَ بْنِ سَالِمٍ قَالَ : { رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُمَرَ جَالِسًا عَلَى الْبَلَاطِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ فَقُلْت : يَا
عَبْدَ اللَّهِ مَا لَك لَا تُصَلِّي ؟ فَقَالَ : إنِّي قَدْ صَلَّيْت وَإِنِّي
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا تُعَادُ
صَلَاةٌ مَرَّتَيْنِ } فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ فِي الْإِعَادَةِ
مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ
وَأَنَّهُ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْصِدَ إعَادَةَ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ
سَبَبٍ يَقْتَضِي الْإِعَادَةَ إذْ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لِلصَّلَاةِ
الشَّرْعِيَّةِ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ كَانَ يُمْكِنُ الْإِنْسَانَ أَنْ يُصَلِّيَ
الظُّهْرَ مَرَّاتٍ وَالْعَصْرَ مَرَّاتٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا لَا
رَيْبَ فِي كَرَاهَتِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْأَسْوَدِ : فَهُوَ إعَادَةٌ
مُقَيَّدَةٌ بِسَبَبِ اقْتَضَى الْإِعَادَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ : { إذَا
صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا
مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } فَسَبَبُ الْإِعَادَةِ هُنَا حُضُورُ الْجَمَاعَةِ
الرَّاتِبَةِ وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَلَّى ثُمَّ حَضَرَ جَمَاعَةً رَاتِبَةً أَنْ
يُصَلِّيَ مَعَهُمْ .
لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ الْإِعَادَةَ مُطْلَقًا كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّهَا إذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ أَكْمَلَ كَمَالِكِ . فَإِذَا أَعَادَهَا فَالْأُولَى هِيَ الْفَرِيضَةُ عِنْدَ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؛ لِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : { فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّهُ سَيَكُونُ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } وَهَذَا أَيْضًا يَتَضَمَّنُ إعَادَتَهَا لِسَبَبِ وَيَتَضَمَّنُ أَنَّ الثَّانِيَةَ نَافِلَةٌ . وَقِيلَ الْفَرِيضَةُ أَكْمَلُهُمَا . وَقِيلَ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ . وَمِمَّا جَاءَ فِي الْإِعَادَةِ لِسَبَبِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا يُصَلِّي مَعَهُ } . فَهُنَا هَذَا الْمُتَصَدِّقُ قَدْ أَعَادَ الصَّلَاةَ لِيَحْصُلَ لِذَلِكَ الْمُصَلِّي فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ ثُمَّ الْإِعَادَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا مَشْرُوعَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمَالِكٍ وَقْتَ النَّهْيِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُشْرَعُ وَقْتَ النَّهْيِ . وَأَمَّا الْمَغْرِبُ : فَهَلْ تُعَادُ عَلَى صِفَتِهَا ؟ أَمْ تُشْفَعُ بِرَكْعَةِ ؟ أَمْ لَا تُعَادُ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ لِلْفُقَهَاءِ . وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ الْإِعَادَةُ لِسَبَبِ مَا ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ صَلَوَاتِ الْخَوْفِ صَلَّى بِهِمْ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ صَلَّى بِطَائِفَةِ رَكْعَتَيْنِ
ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى بِطَائِفَةِ أُخْرَى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ } وَمِثْلُ هَذَا حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لَمَّا كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُنَا إعَادَةٌ أَيْضًا وَصَلَاةٌ مَرَّتَيْنِ . وَالْعُلَمَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا : وَهِيَ مَسْأَلَةُ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ " عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . فَقِيلَ : لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ . وَقِيلَ : يَجُوزُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ . وَقِيلَ : يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ مِثْلُ حَالِ الْخَوْفِ وَالْحَاجَةِ إلَى الِائْتِمَامِ بِالْمُتَطَوِّعِ وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهَا كَرِوَايَةِ ثَالِثَةٍ عَنْ أَحْمَد . وَيُشْبِهُ هَذَا إعَادَةُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُشْرَعُ بِغَيْرِ سَبَبٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بَلْ لَوْ صَلَّى عَلَيْهَا مَرَّةً ثَانِيَةً ثُمَّ حَضَرَ مَنْ لَمْ يُصَلِّ ، فَهَلْ يُصَلِّي عَلَيْهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . قِيلَ : يُصَلِّي عَلَيْهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَيُصَلِّي عِنْدَهُمَا عَلَى الْقَبْرِ لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ بَعْدَ مَا صَلَّى عَلَيْهَا غَيْرُهُمْ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ كَمَا يَنْهَيَانِ عَنْ إقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ قَالُوا ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِالصَّلَاةِ الْأُولَى فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ نَافِلَةً وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ لَا يُتَطَوَّعُ بِهَا . وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ يُصَلِّي الْفَرِيضَةَ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ
عَلَيْهِ وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد يُجِيبُونَ بِجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الثَّانِيَةَ تَقَعُ فَرْضًا عَمَّنْ فَعَلَهَا وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي سَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ : أَنَّ مَنْ فَعَلَهَا أَسْقَطَ بِهَا فَرْضَ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ فَعَلَهَا فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِإِسْقَاطِ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ يُسْقِطَ الْفَرْضَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ . وَقِيلَ : بَلْ هِيَ نَافِلَةٌ وَيَمْنَعُونَ قَوْلَ الْقَائِلِ : إنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا يُتَطَوَّعُ بِهَا بَلْ قَدْ يُتَطَوَّعُ بِهَا إذَا كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ . وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَيْنِ الْمَأْخَذَيْنِ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الْجِنَازَةَ مَنْ لَمْ يُصَلِّ أَوَّلًا : فَهَلْ لِمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ تَبَعًا ؟ كَمَا يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا فِي الْمَكْتُوبَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ . قِيلَ : لَا يَجُوزُ هُنَا ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ هُنَا نَفْلٌ بِلَا نِزَاعٍ ، وَهِيَ لَا يَتَنَفَّلُ بِهَا ، وَقِيلَ : بَلْ لَهُ الْإِعَادَةُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ صَلَّى خَلْفَهُ مَنْ كَانَ قَدْ صَلَّى أَوَّلًا ، وَهَذَا أَقْرَبُ فَإِنَّ هَذِهِ الْإِعَادَةَ بِسَبَبِ اقْتَضَاهُ لَا إعَادَةً مَقْصُودَةً وَهَذَا سَائِغٌ فِي الْمَكْتُوبَةِ وَالْجِنَازَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَمَّنْ يَجِدُ الصَّلَاةَ قَدْ أُقِيمَتْ . فَأَيُّمَا أَفْضَلُ صَلَاةُ
الْفَرِيضَةِ ؟ أَوْ يَأْتِي بِالسُّنَّةِ وَيَلْحَقُ الْإِمَامَ وَلَوْ فِي
التَّشَهُّدِ ؟ وَهَلْ رَكْعَتَا الْفَجْرِ سُنَّةٌ لِلصُّبْحِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } وَفِي رِوَايَةٍ
{ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الَّتِي أُقِيمَتْ } فَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا
يَشْتَغِلُ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَلَا بِسُنَّةِ الْفَجْرِ وَقَدْ اتَّفَقَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ عَنْهَا بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ .
وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ : وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ
الْإِقَامَةَ فَلَا يُصَلِّي السُّنَّةَ لَا فِي بَيْتِهِ وَلَا فِي غَيْرِ
بَيْتِهِ . بَلْ يَقْضِيهَا إنْ شَاءَ بَعْدَ الْفَرْضِ . وَالسُّنَّةُ أَنْ
يُصَلِّيَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ سُنَّةً وَالْفَرِيضَةُ
رَكْعَتَانِ وَلَيْسَ بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْفَرِيضَةِ سُنَّةٌ إلَّا
رَكْعَتَانِ وَالْفَرِيضَةُ تُسَمَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ وَصَلَاةَ الْغَدَاةِ
وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ تُسَمَّى سُنَّةَ الْفَجْرِ وَسُنَّةَ الصُّبْحِ
وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ " الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ " ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ نِزَاعٌ وَاضْطِرَابٌ مَعَ عُمُومِ
الْحَاجَةِ إلَيْهِ . وَأُصُولُ الْأَقْوَالِ ثَلَاثَةٌ : طَرَفَانِ وَوَسَطٌ .
فَأَحَدُ الطَّرَفَيْنِ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ بِحَالِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ بِكُلِّ حَالٍ . وَالثَّالِثُ :
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ ؛ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ
أَنْصَتَ وَلَمْ يَقْرَأْ فَإِنَّ اسْتِمَاعَهُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ خَيْرٌ
مِنْ قِرَاءَتِهِ وَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ قَرَأَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّ
قِرَاءَتَهُ خَيْرٌ مِنْ سُكُوتِهِ فَالِاسْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ
أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ هَذَا قَوْلُ
جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَجُمْهُورِ
أَصْحَابِهِمَا وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ : فَهَلْ الْقِرَاءَةُ حَالَ مُخَافَتَةِ الْإِمَامِ بِالْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَأْمُومِ ؟ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ . أَشْهَرُهُمَا أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالِاسْتِمَاعُ حَالَ جَهْرِ الْإِمَامِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَالْقِرَاءَةُ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ ؟ وَهَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ إذَا قَرَأَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ حِينَئِذٍ مُحَرَّمَةٌ وَإِذَا قَرَأَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ حَامِدٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ . وَالثَّانِي أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَنَظِيرُ هَذَا إذَا قَرَأَ حَالَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : هَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا } . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : يَقْرَأُ حَالَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ إنَّمَا يَأْمُرُونَهُ أَنْ يَقْرَأَ حَالَ الْجَهْرِ بِالْفَاتِحَةِ خَاصَّةً وَمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُسْتَمِعًا لَا قَارِئًا .
وَهَلْ قِرَاءَتُهُ لِلْفَاتِحَةِ مَعَ الْجَهْرِ وَاجِبَةٌ ، أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ . وَالثَّانِي أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ الأوزاعي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَاخْتِيَارُ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاحْتِيَاطِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا سَبِيلَ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَفِي فَسْخِ الْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ . يَتَعَيَّنُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ النَّظَرُ فِيمَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ صَلَاةُ الْعَصْرِ يَخْرُجُ وَقْتُهَا إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ كَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : حِينَئِذٍ يَدْخُلُ وَقْتُهَا وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى وَقْتٍ تَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ بَعْدَ مَصِيرِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى ظِلِّ الزَّوَالِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَالْمَغْرِبُ أَيْضًا تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِهِمْ إذَا صَلَّى بَعْدَ الْغُرُوبِ وَالْعِشَاءُ تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِهِمْ إذَا صَلَّى بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَالْفَجْرُ
تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِهِمْ إذَا صَلَّاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الْإِسْفَارِ الشَّدِيدِ وَأَمَّا الْعَصْرُ فَهَذَا يَقُولُ : تُصَلَّى إلَى الْمِثْلَيْنِ وَهَذَا يَقُولُ لَا تُصَلَّى إلَّا بَعْدَ الْمِثْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُصَلَّى مِنْ حِينِ يَصِيرُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ إلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ فَوَقْتُهَا أَوْسَعُ كَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَدَنِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مِنْ الْمَسَائِلِ مَسَائِلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْمَلَ فِيهَا بِقَوْلِ يُجْمَعُ عَلَيْهِ لَكِنْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ عَلَيْهِ دَلَائِلُ شَرْعِيَّةٌ تُبَيِّنُ الْحَقَّ . وَمِنْ ذَلِكَ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ فَإِنَّ الْحَجَّ الَّذِي اتَّفَقَ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِهِ أَنْ يُهِلَّ مُتَمَتِّعًا يُحْرِمَ بِعُمْرَةِ ابْتِدَاءً وَيُهِلَّ قَارِنًا وَقَدْ سَاقَ الْهَدْيَ فَأَمَّا إنْ أَفْرَدَ أَوْ قَرَنَ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَفِي حَجِّهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ فَنَقُولُ : إذَا جَهَرَ الْإِمَامُ اسْتَمَعَ لِقِرَاءَتِهِ فَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ لِبُعْدِهِ فَإِنَّهُ يَقْرَأُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ لِصَمَمِهِ أَوْ كَانَ يَسْمَعُ
هَمْهَمَةَ الْإِمَامِ وَلَا يَفْقَهُ مَا يَقُولُ : فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَقْرَأُ ؛ لِأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ إمَّا مُسْتَمِعًا وَإِمَّا قَارِئًا وَهَذَا لَيْسَ بِمُسْتَمِعِ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُ السَّمَاعِ فَقِرَاءَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ سُكُوتِهِ فَنَذْكُرُ الدَّلِيلَ عَلَى الْفَصْلَيْنِ . عَلَى أَنَّهُ فِي حَالِ الْجَهْرِ يَسْتَمِعُ وَأَنَّهُ فِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ يَقْرَأُ . فَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَوَّلِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ : أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْخُطْبَةِ وَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَذَكَرَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ حَالَ الْجَهْرِ . ثُمَّ يَقُولُ : قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لَفْظٌ عَامٌّ فَإِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ يَعُمُّهُمَا . وَالثَّانِي بَاطِلٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يَجِبُ الِاسْتِمَاعُ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلَا يَجِبُ فِي
الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ اسْتِمَاعَ الْمُسْتَمِعِ إلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ الَّذِي يَأْتَمُّ بِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ أَوْلَى مِنْ اسْتِمَاعِهِ إلَى قِرَاءَةِ مَنْ يَقْرَأُ خَارِجَ الصَّلَاةِ دَاخِلَةٌ فِي الْآيَةِ إمَّا عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَمْرِ الْمَأْمُومِ بِالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَسَوَاءٌ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ . فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ . فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ أَوْلَى مِنْ الْقِرَاءَةِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَالْمُنَازِعُ يُسَلِّمُ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ مَأْمُورٌ بِهِ دُونَ الْقِرَاءَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ . وَالْآيَةُ أَمَرَتْ بِالْإِنْصَاتِ إذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ . وَالْفَاتِحَةُ أُمُّ الْقُرْآنِ وَهِيَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَتِهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَالْفَاتِحَةُ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ . وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الِاسْتِمَاعَ إلَى غَيْرِهَا دُونَهَا مَعَ إطْلَاقِ لَفْظِ الْآيَةِ وَعُمُومِهَا مَعَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا . فَإِنَّ قَوْلَهُ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ } يَتَنَاوَلُهَا كَمَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا وَشُمُولُهُ لَهَا أَظْهَرُ لَفْظًا وَمَعْنًى . وَالْعَادِلُ عَنْ اسْتِمَاعِهَا إلَى قِرَاءَتِهَا إنَّمَا يَعْدِلُ لِأَنَّ قِرَاءَتَهَا عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ الِاسْتِمَاعِ وَهَذَا غَلَطٌ يُخَالِفُ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَمَرَتْ الْمُؤْتَمَّ بِالِاسْتِمَاعِ دُونَ الْقِرَاءَةِ وَالْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ اسْتِمَاعَهُ لِمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهِ لِمَا زَادَ عَلَيْهَا .
فَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ لِمَا يَقْرَأْهُ الْإِمَامُ أَفْضَلَ مِنْ الِاسْتِمَاعِ لِقِرَاءَتِهِ لَكَانَ قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَتِهِ لِمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ . وَإِنَّمَا نَازَعَ مَنْ نَازَعَ فِي الْفَاتِحَةِ لِظَنِّهِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَأْمُومِ مَعَ الْجَهْرِ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ لَهُ حِينَئِذٍ . وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْحَاصِلَةَ لَهُ بِالْقِرَاءَةِ يَحْصُلُ بِالِاسْتِمَاعِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا بِدَلِيلِ اسْتِمَاعِهِ لِمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ فَلَوْلَا أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِالِاسْتِمَاعِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَفْعَلَ أَفْضَلَ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِمَاعَ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ عُلِمَ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ يَحْصُلُ لَهُ أَفْضَلُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْقَارِئِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا فَالْمُسْتَمِعُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ يَحْصُلُ لَهُ أَفْضَلُ مِمَّا يَحْصُلُ بِالْقِرَاءَةِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْأَدْنَى وَيُنْهَى عَنْ الْأَعْلَى . وَثَبَتَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ كَمَا قَالَ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَفِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ مُرْسَلًا وَمُسْنَدًا لَكِنْ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ الثقاة رَوَوْهُ مُرْسَلًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْنَدَهُ بَعْضُهُمْ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه مُسْنَدًا وَهَذَا الْمُرْسَلُ قَدْ عَضَّدَهُ
ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَقَالَ بِهِ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمُرْسِلُهُ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ وَمِثْلُ هَذَا الْمُرْسَلِ يُحْتَجُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ الِاحْتِجَاجِ بِمِثْلِ هَذَا الْمُرْسَلِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ إلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ أَمْرٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ دَلَالَةً قَاطِعَةً ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا جَمِيعُ الْأُمَّةِ فَكَانَ بَيَانُهَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْبَيَانِ وَجَاءَتْ السُّنَّةُ مُوَافِقَةً لِلْقُرْآنِ . فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَنَا فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا فَقَالَ : أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمّكُمْ أَحَدُكُمْ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } . وَهَذَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الطَّوِيلِ الْمَشْهُورِ . لَكِنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ زَادَ فِيهِ عَلَى بَعْضٍ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ : { وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهَا وَهِيَ زِيَادَةٌ مِنْ الثِّقَةِ لَا تُخَالِفُ الْمَزِيدَ بَلْ تُوَافِقُ مَعْنَاهُ وَلِهَذَا رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . فَإِنَّ الْإِنْصَاتَ إلَى قِرَاءَةِ الْقَارِئِ مِنْ تَمَامِ الِائْتِمَامِ بِهِ فَإِنَّ مَنْ قَرَأَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ لَمْ يَكُونُوا مُؤْتَمِّينَ بِهِ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ حِكْمَةَ سُقُوطِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ فَإِنَّ مُتَابَعَتَهُ لِإِمَامِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا حَتَّى فِي الْأَفْعَالِ فَإِذَا أَدْرَكَهُ سَاجِدًا سَجَدَ مَعَهُ وَإِذَا أَدْرَكَهُ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ
تَشَهَّدَ عَقِبَ الْوِتْرِ وَهَذَا لَوْ فَعَلَهُ مُنْفَرِدًا لَمْ يَجُزْ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِأَجْلِ الِائْتِمَامِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِائْتِمَامَ يَجِبُ بِهِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ وَيَسْقُطُ بِهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه . قِيلَ لِمُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ : حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ يَعْنِي { وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } قَالَ هُوَ عِنْدِي صَحِيحٌ . فَقِيلَ لَهُ : لِمَا لَا تَضَعُهُ هَاهُنَا ؟ يَعْنِي فِي كِتَابِهِ فَقَالَ : لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٍ وَضَعْته هَاهُنَا إنَّمَا وَضَعْت هَاهُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ أكيمة الليثي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا فَقَالَ : هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : نَعَمْ . يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ } . قَالَ : فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ يَقُولُ : قَوْلُهُ : " فَانْتَهَى النَّاسُ " مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ .
وَرُوِيَ
عَنْ الْبُخَارِيِّ نَحْوُ ذَلِكَ فَقَالَ : فِي الْكُنَى مِنْ التَّارِيخِ
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُوسُفُ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ سَمِعْت ابْنَ أكيمة الليثي يُحَدِّثُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ
سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : { صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ ثُمَّ قَالَ : هَلْ
قَرَأَ مِنْكُمْ أَحَدٌ مَعِي ؟ قُلْنَا : نَعَمْ قَالَ : إنِّي أَقُولُ مَا لِي
أُنَازَعُ الْقُرْآنَ } قَالَ : فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِيمَا
جَهَرَ الْإِمَامُ قَالَ اللَّيْثُ : حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ يَقُلْ :
فَانْتَهَى النَّاسُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ : هُوَ قَوْلُ ابْنِ أكيمة وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ .
وَهَذَا إذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ فَهُوَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ
عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَقْرَءُونَ فِي الْجَهْرِ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ مِنْ أَعْلَمِ
أَهْلِ زَمَانِهِ أَوْ أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ وَقِرَاءَةُ
الصَّحَابَةِ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَتْ
مَشْرُوعَةً وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً تَكُونُ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ
الَّتِي يَعْرِفُهَا عَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ
فَيَكُونُ الزُّهْرِيُّ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهَا فَلَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا
لَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى انْتِفَائِهَا فَكَيْفَ إذَا قَطَعَ الزُّهْرِيُّ
بِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَقْرَءُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَهْرِ .
[ فَإِنْ قِيلَ : قَالَ البيهقي : ابْنُ أكيمة رَجُلٌ مَجْهُولٌ لَمْ يُحَدِّثْ
إلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَحْدَهُ وَلَمْ يُحَدِّثْ عَنْهُ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ .
قِيلَ
: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي فِيهِ : صَحِيحُ
الْحَدِيثِ حَدِيثُهُ مَقْبُولٌ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ البستي أَنَّهُ
قَالَ : رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ وَابْنُ أَبِيهِ
عُمَرُ وَسَالِمُ بْنُ عَمَّارٍ ابْنُ أكيمة بْنِ عُمَرَ ] (*) .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ كيسان أَنَّهُ سَمِعَ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : " مَنْ صَلَّى رَكْعَةً لَمْ يَقْرَأْ
فِيهَا لَمْ يُصَلِّ إلَّا وَرَاءَ الْإِمَامِ " وَرَوَى أَيْضًا عَنْ
نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا سُئِلَ : هَلْ يُقْرَأُ
خَلْفَ الْإِمَامِ ؟ يَقُولُ : إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ خَلْفَ الْإِمَامِ
تُجْزِئُهُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيَقْرَأْ . قَالَ :
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَرَوَى
مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ
ثَابِتٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَالَ : لَا قِرَاءَةَ مَعَ
الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ . وَرَوَى البيهقي عَنْ أَبِي وَائِلٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ
ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَالَ : أَنْصِتْ
لِلْقُرْآنِ فَإِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا وَسَيَكْفِيك ذَلِكَ الْإِمَامُ
وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ هُمَا فَقِيهَا أَهْلِ الْمَدِينَةِ
وَأَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَفِي كَلَامِهِمَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ
الْمَانِعَ إنْصَاتُهُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ .
وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ " عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : وَرَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ يُسَبِّحُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَالَ : وَلَمْ يَصِحَّ وَخَالَفَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ س&