39. مجموع
الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى :
728هـ)
==وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ } . قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطبري : عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ
يَقُولُونَ : لِلْمُتَوَلِّي قِسْمَتُهَا وَوَضْعُهَا فِي أَيِّ الْأَصْنَافِ
الثَّمَانِيَةِ شَاءَ وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ
إعْلَامًا مِنْهُ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ إلَى
غَيْرِهَا لَا إيجَابًا لِقِسْمَتِهَا بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ
وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا
: إنْ شِئْت جَعَلْته فِي صِنْفٍ أَوْ صِنْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ . قَالَ وَرُوِيَ
عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : أَيُّمَا صِنْفٍ أَعْطَيْته أَجْزَأَك وَرُوِيَ
عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ عُمَرَ (1) يَأْخُذُ الْفَرْضَ فِي الصَّدَقَةِ فَيَجْعَلُهُ
فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمَيْمُونُ بْنُ
مهران وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي . قَالَ : وَكَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ
يَقُولُ : عَلَيْهِ وَضْعُهَا فِي سِتَّةِ أَصْنَافٍ ؛ لِأَنَّهُ يَقْسِمُهَا
فَسَقَطَ الْعَامِلُ وَالْمُؤَلَّفَةُ سَقَطُوا . قَالَ وَالصَّوَابُ أَنَّ
اللَّهَ جَعَلَ الصَّدَقَةَ فِي مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : سَدُّ خَلَّةِ
الْمُسْلِمِينَ . وَالثَّانِي : مَعُونَةُ الْإِسْلَامِ وَتَقْوِيَتُهُ . فَمَا
كَانَ مَعُونَةً لِلْإِسْلَامِ يُعْطِي مِنْهُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ
كَالْمُجَاهِدِ وَنَحْوِهِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ وَمَا
كَانَ فِي سَدِّ خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
الْأَصْلُ الثَّانِي : الزَّكَاةُ وَهُمْ أَيْضًا مُتَّبِعُونَ فِيهَا لِسُنَّةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ آخِذِينَ بِأَوْسَطِ
الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ أَوْ بِأَحْسَنِهَا فِي السَّائِمَة . فَأَخَذُوا فِي
أَوْقَاصِ الْإِبِلِ بِكِتَابِ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُتَابَعَتِهِ
: الْمُتَضَمِّنِ أَنَّ فِي الْإِبِلِ الْكَثِيرَةِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ
لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ . لِأَنَّهُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ الْكِتَابِ الَّذِي
فِيهِ اسْتِئْنَافُ الْفَرِيضَةِ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ . فَإِنَّهُ
مُتَقَدِّمٌ عَلَى هَذَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَلَى
نَجْرَانَ كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِمُدَّةِ . وَأَمَّا كِتَابُ الصِّدِّيقِ :
فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ إلَى
الْعُمَّالِ حَتَّى أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ . وَتَوَسَّطُوا فِي الْمُعَشَّرَاتِ
بَيْنَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ . فَإِنَّ أَهْلَ
الْعِرَاقِ كَأَبِي حَنِيفَةَ يُوجِبُونَ الْعُشْرَ فِي كُلِّ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ إلَّا الْقَصَبَ وَنَحْوَهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الْأَرْضِ كَالْخَرَاجِ . وَلِهَذَا لَا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ . وَأَهْلُ الْحِجَازِ لَا يُوجِبُونَ الْعُشْرَ إلَّا فِي النِّصَابِ الْمُقَدَّرِ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ . وَوَافَقَهُمْ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا يُوجِبُونَ مِنْ الثِّمَارِ إلَّا فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَفِي الزُّرُوعِ فِي الْأَقْوَاتِ . وَلَا يُوجِبُونَ فِي عَسَلٍ وَلَا غَيْرِهِ . وَالشَّافِعِيِّ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحِجَازِ . وَأَمَّا أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : فَيُوَافِقُ فِي النِّصَابِ قَوْلَ أَهْلِ الْحِجَازِ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ وَلَا يُوجِبُونَ الزَّكَاةَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ ؛ لِمَا فِي التَّرْكِ مِنْ عَمَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ وَالْأَثَرِ عَنْهُ لَكِنْ يُوجِبُهَا فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ الَّتِي تُدَّخَرُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا كَالْفُسْتُقِ وَالْبُنْدُقِ جَعْلًا لِلْبَقَاءِ فِي الْمُعَشَّرَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْحَوْلِ فِي الْمَاشِيَةِ وَالْجَرِينِ . فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْخَضْرَاوَاتِ وَبَيْنَ الْمُدَّخَرَاتِ . وَقَدْ يَلْحَقُ بِالْمُوسَقِ الْمَوْزُونَاتُ : كَالْقُطْنِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَيُوجِبُهَا فِي الْعَسَلِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْآثَارِ الَّتِي جَمَعَهَا هُوَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ لَمْ تَبْلُغْهُ إلَّا مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ وَتَسْوِيَةً بَيْنَ جِنْسِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ
السَّمَاءِ وَمَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْأَرْضِ . وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الزَّرْعِ وَالْخَرَاجَ حَقُّ الْأَرْضِ . وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُمَا هُوَ قَوْلُ أَحْمَد أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ . وَأَمَّا مِقْدَارُ الصَّاعِ وَالْمُدِّ : فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الصَّاعَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ ؛ وَالْمُدُّ رُبْعُهُ . وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْمِيَاهِ . وَقِصَّةُ مَالِكٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ مَشْهُورَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد أَوْ أَكْثَرِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَالْمُدُّ رُبْعُهُ . وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي الْجَمِيعِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ صَاعَ الطَّعَامِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ وَصَاعُ الطَّهَارَةِ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ . كَمَا جَاءَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَثَرُ . فَصَاعُ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ : هُوَ ثُلُثَا صَاعِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ . وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَخْبَارِ الْمَأْثُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ لِمَنْ تَأَمَّلَ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ .
وَمِنْ أُصُولِهَا : أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْسَعُ فِي إيجَابِهَا مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ فِي الْخَيْلِ السَّائِمَة الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْآثَار (1) وَيُوجِبُهَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهِ . وَيَجْعَلُ الرِّكَازَ الْمَعْدِنَ وَغَيْرَهُ . فَيُوجِبُ فِيهِ الْخُمُسَ لَكِنَّهُ لَا يُوجِبُ مَا سِوَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرَ إلَّا عَلَى مُكَلَّفٍ وَيُجَوِّزُ الِاحْتِيَالَ لِإِسْقَاطِهَا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ : هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ أَمْ لَا ؟ فَكَرِهَهُ مُحَمَّدٌ وَلَمْ يَكْرَهْهُ أَبُو يُوسُفَ . وَأَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ : فَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا التَّكْلِيفُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ الْكَثِيرَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ . وَلَمْ يُوجِبْهَا فِي الْخَيْلِ وَلَا فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ وَلَا فِي الْخَارِجِ إلَّا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ . وَحَرَّمَ مَالِكٌ الِاحْتِيَالَ لِإِسْقَاطِهَا وَأَوْجَبَهَا مَعَ الْحِيلَةِ . وَكَرِهَ الشَّافِعِيِّ الْحِيلَةَ فِي إسْقَاطِهَا . وَأَمَّا أَحْمَد : فَهُوَ فِي الْوُجُوبِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُعَشَّرَاتِ وَهُوَ يُوجِبُهَا فِي مَالِ الْمُكَلَّفِ وَغَيْرِ الْمُكَلَّفِ . وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ . وَإِنْ كَانَ الْمَنْصُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ : أَنَّهُ لَا يَجِبُ . وَقَوْلُهُ فِي الِاحْتِيَالِ كَقَوْلِ مَالِكٌ يَحْرُمُ الِاحْتِيَالُ لِسُقُوطِهَا
وَيُوجِبُهَا
مَعَ الْحِيلَةِ . كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُورَةِ " ن " وَغَيْرُهَا
مِنْ الدَّلَائِلِ . وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَسَائِرُ الْأُمَّةِ - إلَّا
مَنْ شَذَّ - مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِهَا فِي عَرْضِ التِّجَارَةِ . سَوَاءٌ
كَانَ التَّاجِرُ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا . وَسَوَاءٌ كَانَ مُتَرَبِّصًا -
وَهُوَ الَّذِي يَشْتَرِي التِّجَارَةَ وَقْتَ رُخْصِهَا وَيَدَّخِرُهَا إلَى
وَقْتِ ارْتِفَاعِ السِّعْرِ - أَوْ مُدِيرًا كَالتُّجَّارِ الَّذِينَ فِي
الْحَوَانِيتِ سَوَاءٌ كَانَتْ التِّجَارَةُ بَزًّا مِنْ جَدِيدٍ أَوْ لَبِيسٍ
أَوْ طَعَامًا مِنْ قُوتٍ أَوْ فَاكِهَةٍ . أَوْ أُدْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ
كَانَتْ آنِيَةً كَالْفَخَّارِ وَنَحْوِهِ أَوْ حَيَوَانًا مِنْ رَقِيقٍ أَوْ
خَيْلٍ أَوْ بِغَالٍ أَوْ حَمِيرٍ أَوْ غَنَمٍ مَعْلُوفَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
فَالتِّجَارَاتُ هِيَ أَغْلَبُ أَمْوَالِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الْبَاطِنَةِ كَمَا
أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الْمَاشِيَةَ هِيَ أَغْلَبُ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ .
فَصْلٌ :
وَلَا بُدَّ فِي الزَّكَاةِ مِنْ الْمِلْكِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْيَدِ .
فَلَهُمْ فِي زَكَاةِ مَا لَيْسَ فِي الْيَدِ كَالدَّيْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهَا تَجِبُ فِي كُلِّ دَيْنٍ وَكُلِّ عَيْنٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ
تَحْتَ يَدِ
صَاحِبِهَا
كَالْمَغْصُوبِ وَالضَّالِّ . وَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ وَعَلَى مُعْسِرٍ أَوْ
مُمَاطِلٍ وَأَنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيلُ الْإِخْرَاجِ مِمَّا يُمْكِنُ قَبْضُهُ
كَالدَّيْنِ عَلَى الْمُوسِرِ . وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ
أَقْوَاهُمَا .
فَصْلٌ :
وَلِلنَّاسِ فِي إخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُجْزِئُ بِكُلِّ حَالٍ . كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَالثَّانِي : لَا يُجْزِئُ بِحَالِ . كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّالِثُ
: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ مِثْلُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ
شَاةٌ فِي الْإِبِلِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَمِثْلُ مَنْ يَبِيعُ عِنَبَهُ
وَرُطَبَهُ قَبْلَ الْيُبْسِ . وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد صَرِيحًا .
فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ إخْرَاجِ الْقِيَمِ . وَجَوَّزَهُ فِي مَوَاضِعَ
لِلْحَاجَةِ ؛ لَكِنَّ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ جَوَازَهُ .
فَجَعَلُوا عَنْهُ فِي إخْرَاجِ الْقِيمَةِ رِوَايَتَيْنِ . وَاخْتَارُوا
الْمَنْعَ . لِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَهَذَا
الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ كَمَا ذَكَرْنَا مِثْلَهُ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ
الْأَدِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلَعِينِ نَصًّا وَقِيَاسًا : كَسَائِرِ أَدِلَّةِ
الْوُجُوبِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَصْلَحَةَ وُجُوبِ الْعَيْنِ قَدْ يُعَارِضُهَا
أَحْيَانًا فِي الْقِيمَةِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَفِي الْعَيْنِ مِنْ
الْمَشَقَّةِ الْمَنْفِيَّةِ شَرْعًا .
وَسُئِلَ
رَحِمَهُ اللَّهُ :
عَنْ صَدَاقِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا تَمُرُّ عَلَيْهِ السُّنُونَ
الْمُتَوَالِيَةُ لَا يُمْكِنُهَا مُطَالَبَتُهُ بِهِ لِئَلَّا يَقَعَ بَيْنَهُمَا
فُرْقَةٌ ثُمَّ إنَّهَا تَتَعَوَّضُ عَنْ صَدَاقِهَا بِعَقَارِ أَوْ يُدْفَعُ
إلَيْهَا الصَّدَاقُ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ السِّنِينَ ؛ فَهَلْ تَجِبُ زَكَاةَ
السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ ؟ أَمْ إلَى أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ قَبَضَتْ
الصَّدَاقَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ : قِيلَ
: يَجِبُ تَزْكِيَةُ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا
أَوْ مُعْسِرًا كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
وَقَدْ نَصَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا . وَقِيلَ يَجِبُ مَعَ يَسَارِهِ
وَتَمَكُّنِهَا مِنْ قَبْضِهَا دُونَ مَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَمْكِينُهُ مِنْ
الْقَبْضِ كَالْقَوْلِ الْآخَرِ فِي مَذْهَبِهِمَا . وَقِيلَ : تَجِبُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ
. كَقَوْلِ مَالِكٌ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَقِيلَ : لَا تَجِبُ بِحَالِ
كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد.
وَأَضْعَفُ
الْأَقْوَالِ : مَنْ يُوجِبُهَا لِلسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ حَتَّى مَعَ الْعَجْزِ
عَنْ قَبْضِهِ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ فَأَمَّا أَنْ يَجِبَ لَهُمْ مَا
يَأْخُذُونَهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي
الشَّرِيعَةِ ثُمَّ إذَا طَالَ الزَّمَانُ كَانَتْ الزَّكَاةُ أَكْثَرَ مِنْ
الْمَالِ . ثُمَّ إذَا نَقَصَ النِّصَابَ وَقِيلَ : إنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي
عَيْنِ النِّصَابِ لَمْ يُعْلَمْ الْوَاجِبُ إلَّا بِحِسَابٍ طَوِيلٍ يَمْتَنِعُ
إتْيَانُ الشَّرِيعَةِ بِهِ . وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ لَا يُوجِبُ
فِيهِ شَيْئًا بِحَالِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ أَوْ يُوجِبُ فِيهِ
زَكَاةً وَاحِدَةً عِنْدَ الْقَبْضِ فَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ وَجْهٌ وَهَذَا وَجْهٌ
. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٌ وَكِلَاهُمَا قِيل بِهِ
فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ جِمَالٌ وَيَشْتَرِي لَهَا أَيَّامَ الرَّعْيِ مَرْعًى هَلْ
فِيهَا زَكَاةٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ رَاعِيَةً أَكْثَرَ الْعَامِ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا ثَلَاثَةَ
أَشْهُرٍ أَوْ أَرْبَعَةً فَإِنَّهُ يُزَكِّيهَا هَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
إذَا كَانَتْ الْغَنَمُ أَرْبَعِينَ صِغَارًا أَوْ كِبَارًا وَجَبَتْ فِيهَا
الزَّكَاةُ إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ . وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ
أَرْبَعِينَ فَحَالَ الْحَوْلُ وَهِيَ أَرْبَعُونَ فَفِي هَذَا نِزَاعٌ
وَالْأَحْوَطُ أَدَاء الزَّكَاةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ غَنَمٌ وَلَمْ تَبْلُغْ النِّصَابَ : هَلْ تَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ
فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ؟
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ
أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَوْلِ حِينَ صَارَتْ أَرْبَعِينَ
كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ
مَلَكَ الْأُمَّهَاتِ كَقَوْلِ مَالِكٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ قَرْيَةٍ بِهَا فَلَّاحُونَ وَهِيَ نِصْفَانِ : أَحَدُ فَلَّاحِي النِّصْفِ
لَهُ غَنَمٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَيْسَ لِفَلَّاحِيهِ
غَنَمٌ . قَدْرُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَأَلْزَمَ الْإِمَامُ أَهْلَ
الْقَرْيَةِ بِزَكَاةِ الْغَنَمِ عَلَى الْفَلَّاحِينَ : فَهَلْ تَجِبُ عَلَى مَنْ
لَهُ النِّصَابُ ؟ وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ : فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ
يَأْخُذَ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ نِصَابٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ هُوَ مِقْدَارُ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَجِبُ
عَلَيْهِ الزَّكَاةُ اخْتَصُّوا بِأَدَائِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ فَوْقَ
الْوَاجِبِ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ اشْتَرَكَ فِيهِ الْجَمِيعُ بِحَسَبِ
أَمْوَالِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابٌ
زَكَاةُ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا يَجِبُ مِنْ عُشْرِ الْحُبُوبِ وَمِقْدَارِهِ : وَهَلْ هُوَ عَلَى
الْمَالِكِ ؟ أَوْ الْفَلَّاحِ ؟ أَمْ عَلَيْهِمَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، النِّصَابُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ :
وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَصَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَهُ
الْأَئِمَّةُ لَمَّا بُنِيَتْ بَغْدَادُ بِخَمْسَةِ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ
بِالرِّطْلِ الْعِرَاقِيِّ إذْ ذَاكَ . فَيَكُونُ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةِ رِطْلٍ
بِالْعِرَاقِيِّ . وَكَانَ الرِّطْلُ الْعِرَاقِيُّ إذْ ذَاكَ تِسْعِينَ
مِثْقَالًا . مِائَةً وَثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعِ
دِرْهَمٍ . وَلَكِنْ زِيدَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ
ثُمَّ زِيدَ فِيهِ حَتَّى صَارَ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ فَظَنَّ بَعْضُ
مُتَأَخَّرِي الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَذَا أَوْ هَذَا هُوَ الرِّطْلُ الَّذِي
قَدَّرَهُ بِهِ الْأَئِمَّةُ غَلَطًا مِنْهُمْ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ
فَمِقْدَارُهُ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي هُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ
ثَلَاثُمِائَةِ رِطْلٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ رِطْلٍ وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ رِطْلٍ . وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ الرِّطْلِ : هُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعٍ . وَهُوَ ثُلُثَا رِطْلٍ وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ . وَمَنْ ظَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الرِّطْلَ الْبَغْدَادِيَّ : مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا زَادَ فِي كُلِّ رِطْلٍ بَغْدَادِيٍّ مِثْقَالًا وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ فَيَزِيدُ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَةَ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ فَيَصِيرُ النِّصَابُ عَلَى قَوْلِهِ : ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَأَرْبَعِينَ رِطْلًا وَثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ وَسُبْعَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ نِصْفُ رِطْلٍ وَسُبْعَا أُوقِيَّةٍ . وَالْعُشْرُ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ الزَّرْعَ فَإِذَا زَارَعَ الْفَلَّاحُ فَفِي صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . فَمَنْ اعْتَقَدَ جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ أَخَذَ نَصِيبَهُ وَأَعْطَى الْفَلَّاحَ نَصِيبَهُ وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا زَكَاةُ نَصِيبِهِ وَمَنْ لَمْ يُصَحِّحْ الْمُزَارَعَةَ جَعَلَ الزَّرْعَ كُلَّهُ لِصَاحِبِ الْحَبِّ فَإِذَا كَانَ هُوَ الْفَلَّاحَ اسْتَحَقَّ الزَّرْعَ كُلَّهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ إلَّا أُجْرَةُ الْأَرْضِ وَالزَّكَاةُ حِينَئِذٍ عَلَى الْفَلَّاحِ . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : إنَّ الْمُقَاسَمَةَ جَائِزَةٌ وَالْعُشْرَ كُلَّهُ عَلَى الْفَلَّاحِ ؛ بَلْ مَنْ قَالَ : الْعُشْرُ عَلَى الْفَلَّاحِ قَالَ : لَيْسَ لِلْمَالِكِ فِي الزَّرْعِ شَيْءٌ . وَلَا الْمُقْطِعُ وَلَا غَيْرُهُمَا . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعُشْرَ عَلَى الْفَلَّاحِ
مَعَ جَوَازِ الْمُقَاسَمَةِ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ . وَالْعَمَلُ فِي بِلَادِ الشَّامِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ كَمَا مَضَتْ بِذَلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ أَوْ مِنْ الْعَامِلِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَكَانَ الْبَذْرُ مِنْ عِنْدِهِمْ وَهَذَا هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ نَبِيِّهِمْ وَإِلَى الْيَوْمِ . فَمَنْ كَانَ يُعَامِلُ بِالْمُزَارَعَةِ : كَانَ عَلَيْهِ زَكَاةُ نَصِيبِهِمْ وَمَنْ كَانَ يَتَقَلَّدُ قَوْلَ مَنْ يُبْطِلُ هَذِهِ الْمُزَارَعَةَ وَيَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الزَّرْعِ شَيْئًا وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ الْفَلَّاحِ إلَّا الْأُجْرَةُ وَأَنَّهُ إذَا أَخَذَ الْمُقَاسَمَةَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْفَلَّاحِ كَانَ ظَالِمًا آكِلًا لِلْحَرَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الزَّرْعَ لِلْفَلَّاحِ . وَيُعَرِّفَهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ إلَّا أُجْرَةَ الْمِثْلِ فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُ الْفَلَّاحِ بَعْدَ هَذَا بِأَنْ يُقَاسِمَهُ وَيُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ كَانَ الْفَلَّاحُ حِينَئِذٍ مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِ بِطِيبِ نَفْسِهِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْفَلَّاحِينَ لَوْ عَلِمُوا هَذَا لَمَا طَابَتْ بِذَلِكَ نَفْسُ أَكْثَرِهِمْ فَهَذَا حَقِيقَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ الطَّائِفَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْعُشْرُ " : فَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ :
كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَنْ نَبَتَ الزَّرْعُ
عَلَى مِلْكِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
} فَالْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ زَكَاةَ التِّجَارَةِ وَالثَّانِي يَتَضَمَّنُ زَكَاةَ
مَا أَخْرَجَ اللَّهُ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ . فَمَنْ أَخْرَجَ اللَّهُ لَهُ
الْحَبَّ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ فَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا
فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ كُلِّهِمْ .
وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ :
الْعُشْرُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ . وَإِذَا زَارَعَ أَرْضًا عَلَى النِّصْفِ فَمَا
حَصَلَ لِلْمَالِكِ فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ وَمَا حَصَلَ لِلْعَامِلِ فَعَلَيْهِ
عُشْرُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُشْر مَا أَخْرَجَهُ الله له .
وَمَنْ أُعِيرُ أَرْضًا أَوْ أُقْطِعَهَا أَوْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى عَيْنِهِ فَازْدَرَعَ فِيهَا زَرْعًا : فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ وَإِنْ آجَرَهَا فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ زَارَعَهَا فَالْعُشْرُ بَيْنَهُمَا . وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ : أَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الزَّرْعِ وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَهُمْ يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الزَّرْعِ وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الزَّكَاةِ وَالْخَرَاجُ حَقُّ الْأَرْضِ وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الْفَيْءِ فَهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَاجْتَمَعَا . كَمَا لَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ لِأَهْلِهِ وَالْكَفَّارَةُ حَقٌّ لِلَّهِ . وَكَمَا لَوْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ لِمَالِكِهِ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ حَقًّا لِلَّهِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : الْعُشْرُ حَقُّ الْأَرْضِ فَلَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا حَقَّانِ وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ : أَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُزْرَعَ سَوَاءٌ زُرِعَتْ أَوْ لَمْ تُزْرَعْ وَأَمَّا الْعُشْرُ فَلَا يَجِبُ إلَّا فِي الزَّرْعِ . وَالْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ : { لَا يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ } كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ كَانَتْ لَهُ أَشْجَارُ أَعْنَابٍ لَا يَصِيرُ زَبِيبًا وَلَا يَتْرُكُهُ
صَاحِبُهُ إلَى الْجِذَاذِ كَيْفَ يُخْرَجُ عُشْرُهُ رَطْبًا ؟ أَوْ يَابِسًا ؟
وَإِنْ أَخْرَجَ يَابِسًا أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ ثَمَرِ بُسْتَانِهِ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْعِنَبُ الَّذِي لَا يَصِيرُ زَبِيبًا : فَإِذَا أَخْرَجَ عَنْهُ
زَبِيبًا بِقَدْرِ عُشْرِهِ لَوْ كَانَ يَصِيرُ زَبِيبًا جَازَ وَهُوَ أَفْضَلُ
وَأَجْزَأَهُ ذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ
الْإِخْرَاجُ مَنْ عَيْنِ الْمَالِ لَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَا غَيْرِهَا
بَلْ مَنْ كَانَ مَعَهُ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ عَرَضُ تِجَارَةٍ أَوْ لَهُ
حَبٌّ أَوْ ثَمَرٌ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ مَاشِيَةٌ تَجِبُ فِيهَا
الزَّكَاةُ " وَأَخْرَجَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ الْمَنْصُوصِ مِنْ غَيْرِ
ذَلِكَ الْمَالِ أَجْزَأَهُ فَكَيْفَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ . وَإِنْ أَخْرَجَ
الْعُشْرَ عِنَبًا فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ
الْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ . وَالثَّانِي : يُجْزِئُهُ وَهُوَ
قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ
أَظْهَرُ .
وَأَمَّا الْعِنَبُ الَّذِي يَصِيرُ زَبِيبًا لَكِنَّهُ قَطَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ زَبِيبًا فَهُنَا يُخْرِجُ زَبِيبًا بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ سُعَاتِهِ فَيَخْرُصُونَ النَّخْلَ وَالْكَرْمَ وَيُطَالِبُ أَهْلَهُ بِمِقْدَارِ الزَّكَاةِ يَابِسًا وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الثِّمَارِ يَأْكُلُونَ كَثِيرًا مِنْهَا رَطْبًا وَيَأْمُرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَارِصِينَ أَنْ يَدَعُوا لِأَهْلِ الْأَمْوَالِ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبُعَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرٌ وَيَقُولُ : { إذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ والوطية وَالسَّابِلَةَ } يَعْنِي أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَتَبَرَّعُ بِمَا يُعَرِّيهِ مِنْ النَّخْلِ لِمَنْ يَأْكُلُهُ وَعَلَيْهِ ضَيْفٌ يَطَئُونَ حَدِيقَتَهُ يُطْعِمُهُمْ وَيُطْعِمُ السَّابِلَةَ وَهُمْ أَبْنَاءُ السَّبِيلِ وَهَذَا الْإِسْقَاطُ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ فِي الْأُولَى . وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمَا عَلِمْت فِيهَا نِزَاعًا فَإِنَّ حَقَّ أَهْلِ السَّهْمَانِ لَا يَسْقُطُ بِاخْتِيَارِ قَطْعِهِ رَطْبًا إذَا كَانَ يَيْبَسُ . نَعَمْ لَوْ بَاعَ عِنَبَهُ أَوْ رُطَبَهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ فَقَدْ نَصَّ أَحْمَد فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُهُ إخْرَاجُ عُشْرِ الثَّمَنِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِ عِنَبٍ أَوْ زَبِيبٍ فَإِنَّ فِي إخْرَاجِ الْقِيمَةِ نِزَاعًا فِي مَذْهَبِهِ وَنُصُوصُهُ الْكَثِيرَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُجَوِّزُ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ وَلَا يُجَوِّزُ بِدُونِ الْحَاجَةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا وَخَرَجَتْ عَنْهُ رِوَايَةٌ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا وَنُصُوصُهُ الصَّرِيحَةُ إنَّمَا هِيَ بِالْفَرْقِ .
وَمِثْلُ
هَذَا كَثِيرٌ فِي مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ
الْأَئِمَّةِ قَدْ يَنُصُّ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ بِجَوَابَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ وَيُخَرِّجُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ إلَى
الْأُخْرَى وَيَكُونُ الصَّحِيحُ إقْرَارَ نُصُوصِهِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ
الْمَسْأَلَتَيْنِ . كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ
تَجُوزُ بَعْدَ الْجَرْحِ وَنَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُدَبَّرَ إذَا قَتَلَ سَيِّدَهُ
بَطَلَ التَّدْبِيرُ فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ خَرَّجَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ
رِوَايَتَيْنِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ إذَا قَتَلَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ
بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ كَمَا يَمْنَعُ قَتْلُ الْوَارِثِ لِمُورِثِهِ أَنْ
يَرِثَهُ وَأَمَّا إذَا أَوْصَى لَهُ بَعْدَ الْجَرْحِ فَهُنَا الْوَصِيَّةُ
صَحِيحَةٌ فَإِنَّهُ رَضِيَ بِهَا بَعْدَ جَرْحِهِ . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ
.
وَسُئِلَ :
عَنْ مُقْطِعٌ لَهُ فَلَّاحٌ وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً : فَهَلْ
عَلَيْهِ عُشْرٌ ؟
أَجَابَ :
مَا نَبَتَ عَلَى مِلْكِ الْإِنْسَانِ فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ فَالْأَرْضُ
الْمُقْطَعَةُ إذَا كَانَتْ الْمُقَاسَمَةُ نِصْفَيْنِ فَعَلَى الْفَلَّاحِ
تَعْشِيرُ نِصْفِهِ وَعَلَى الْمُقْطِعِ تَعْشِيرُ نِصْفِهِ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ
الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ : قَدِيمًا وَحَدِيثًا .
وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ الْمُزَارَعَة صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ
مِنْ الْمَالِكِ أَوْ مِنْ الْعَامِلِ .
وَأَمَّا
مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُزَارَعَةَ بَاطِلَةٌ فَعِنْدَهُ لَا يَسْتَحِقُّ
الْمُقْطِعُ إلَّا أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَالزَّرْعُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْبَذْرِ
الْعَامِلِ وَحِينَئِذٍ فَالْعُشْرُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ فَإِنْ أَرَادَ
الْمُقْطِعُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْمُغَلِّ مُقَاسَمَةً وَيَجْعَلَ الْعُشْرَ
كُلَّهُ عَلَى صَاحِبِ النِّصْفِ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ إنْسَانٍ لَهُ إقْطَاعٌ مِنْ السُّلْطَانِ ؛ فَهَلْ الْحَاصِلُ الَّذِي
يَحْصُلُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِقْطَاعِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَحَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ مَا يَنْبُتُ عَلَى مِلْكِهِ فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ
سَوَاءٌ كَانَ مُقْطَعًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا أَوْ مَالِكًا أَوْ مُسْتَعِيرًا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ نَصِيبِ الْعَامِلِ فِي الْمَزْرَعَةِ : هَلْ فِيهِ زَكَاةٌ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الزَّكَاةُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ : فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى
أَصْلٍ
وَهُوَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةُ : هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهَا لَا تَجُوزُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ أَبْطَلَهَا مُطْلَقًا ، كَأَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ فَيَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ لِلْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يُمْكِنُ إجَارَتُهُ بِخِلَافِ الْأَرْضِ وَجَوَّزُوا الْمُزَارَعَةَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ إمَّا مُطْلَقًا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْبَيَاضُ قَدْرَ الثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ الْمُسَاقَاةَ مُطْلَقًا . كَقَوْلِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَفِي الْجَدِيدِ قَصَرَ الْجَوَازَ عَلَى النَّخْلِ وَالْعِنَبِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَيَقُولُ : إنَّ هَذِهِ مُشَارَكَةٌ وَهِيَ جِنْسٌ غَيْرُ جِنْسِ الْإِجَارَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا قَدْرُ النَّفْعِ وَالْأُجْرَةِ فَإِنَّ الْعَمَلَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَيْسَ بِمَقْصُودِ بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الثَّمَرُ الَّذِي يَشْتَرِكَانِ فِيهِ وَلَكِنَّ هَذَا شَارَكَ بِنَفْعِ مَالِهِ وَهَذَا بِنَفْعِ بَدَنِهِ وَهَكَذَا الْمُضَارَبَةُ . فَعَلَى هَذَا : فَإِذَا افْتَرَقَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْعُقُودِ وَجَبَ لِلْعَامِلِ قِسْطُ مِثْلِهِ مِنْ الرِّبْحِ إمَّا ثُلُثُ الرِّبْحِ وَإِمَّا نِصْفُهُ وَلَمْ تَجِبْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْعَامِلِ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ .
وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ : قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ والخطابي وَغَيْرِهِمْ . وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَحَلُّ مِنْ الْإِجَارَةِ بِثَمَنٍ مُسَمًّى ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَأَبْعَدُ عَنْ الْخَطَرِ . فَإِنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعُقُودِ : مِنْهُ مَا يَدْخُلُ فِي جِنْسِ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ فِي الْقُرْآنِ وَمِنْهُ مَا يَدْخُلُ فِي جِنْسِ الْمَيْسِرِ الَّذِي هُوَ الْقِمَارُ . وَبَيْعُ الْغَرَرِ هُوَ مِنْ نَوْعِ الْقِمَارِ وَالْمَيْسِرِ فَالْأُجْرَةُ وَالثَّمَنُ إذَا كَانَتْ غَرَرًا مِثْلَ مَا لَمْ يُوصَفْ وَلَمْ يُرَ وَلَمْ يُعْلَمْ جِنْسُهُ : كَانَ ذَلِكَ غَرَرًا وَقِمَارًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِالْأَرْضِ بِحُصُولِ الزَّرْعِ لَهُ فَإِذَا أَعْطَى الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ كَانَ الْمُؤَجِّرُ قَدْ حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ بِيَقِينِ . وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ فَلَا يَدْرِي هَلْ يَحْصُلُ لَهُ الزَّرْعُ أَمْ لَا ؟ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَفِي الْحِرْمَانِ . كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ حَصَلَ شَيْءٌ اشْتَرَكَا فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ اشْتَرَكَا فِي الْحِرْمَانِ وَكَانَ ذَهَابُ نَفْعِ مَالِ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ ذَهَابِ نَفْعِ بَدَنِ هَذَا .
وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشْتَرَطَ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ مُقَدَّرٌ مِنْ النَّمَاءِ لَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَا فِي الْمُسَاقَاةِ وَلَا فِي الْمُزَارَعَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْعَدْلِ . إذْ قَدْ يَحْصُلُ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ وَالْآخَرُ لَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي رُوِيَ فِيهَا " أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ " أَوْ " عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ " أَوْ " عَنْ الْمُزَارَعَةِ " كَحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِ . فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ عَلَيْهَا بِزَرْعِ بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ الْأَرْضِ لِلْمَالِكِ . وَلِهَذَا قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : إنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ إذَا نَظَرَ فِيهِ ذُو عِلْمٍ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ . فَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ فَجَائِزَةٌ بِلَا رَيْبٍ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ أَوْ الْعَامِلِ أَوْ مِنْهُمَا وَسَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ أَوْ الْمُزَارَعَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . هَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِثْلُ أَنْ يَدْفَعَ دَابَّتَهُ أَوْ سَفِينَتَهُ إلَى مَنْ يَكْتَسِبُ عَلَيْهَا وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا أَوْ مَنْ يَدْفَعُ مَاشِيَتَهُ أَوْ نَخْلَهُ لِمَنْ يَقُومُ عَلَيْهَا وَالصُّوفُ وَاللَّبَنُ وَالْوَلَدُ وَالْعَسَلُ بَيْنَهُمَا . فَإِذَا عُرِفَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي الْمُزَارَعَةِ فَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ
الْمُزَارَعَةَ
بَاطِلَةٌ قَالَ الزَّرْعُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُ
أَوْ الْعَامِلِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُ . وَمَنْ قَالَ : لَهُ الزَّرْعُ
كَانَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يَسْتَحِقُّ
جُزْءًا مُشَاعًا مِنْ الزَّرْعِ فَإِنَّ عَلَيْهِ عُشْرَهُ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنَّ رَبَّ الْأَرْضِ
يُقَاسِمُ الْعَامِلَ وَيَكُونُ الْعُشْرُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ فَمَنْ قَالَ
هَذَا فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ لُبْسِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ مِنْ الْكَلَالِيبِ وَخَاتَمٍ وَحِيَاصَةٍ
وَحِلْيَةٍ عَلَى السَّيْفِ وَسَائِرِ لُبْسِ الْفِضَّةِ : هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ
؟ وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا خَاتَمُ الْفِضَّةِ فَيُبَاحُ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَأَنَّ أَصْحَابَهُ اتَّخَذُوا
خَوَاتِيمَ . بِخِلَافِ خَاتَمِ الذَّهَبِ : فَإِنَّهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ .
وَالسَّيْفُ : يُبَاحُ تَحْلِيَتُهُ بِيَسِيرِ الْفِضَّةِ فَإِنَّ { سَيْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِ فِضَّةٌ } وَكَذَلِكَ يَسِيرُ الذَّهَبِ عَلَى الصَّحِيحِ . وَأَمَّا الْحِيَاصَةُ : إذَا كَانَ فِيهَا فِضَّةٌ يَسِيرَةٌ فَإِنَّهَا تُبَاحُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ . وَأَمَّا الْكَلَالِيبُ الَّتِي تُمْسَكُ بِهَا الْعِمَامَةُ وَتَحْتَاجُ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ بِزِنَةِ الْخَوَاتِيمِ كَالْمِثْقَالِ وَنَحْوِهِ . فَهِيَ أَوْلَى بِالْإِبَاحَةِ مِنْ الْخَاتَمِ فَإِنَّ الْخَاتَمَ يُتَّخَذُ لِلزِّينَةِ وَهَذَا لِلْحَاجَةِ . وَهَذِهِ مُتَّصِلَةٌ بِالْيَسِيرِ لَيْسَتْ مُفْرَدَةً كَالْخَاتَمِ وَيَسِيرُ الْفِضَّةِ التَّابِعُ لِغَيْرِهِ إذَا كَانَ يُحْتَاجُ إلَى جِنْسِهِ كَشُعَيْرَةِ السِّكِّينِ وَحَلْقَةِ الْإِنَاءِ تُبَاحُ فِي الْآنِيَةِ وَإِنْ كُرِهَ مُبَاشَرَتُهُ بِالِاسْتِعْمَالِ . وَبَابُ اللِّبَاسِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ ( الْآنِيَةِ ) فَإِنَّ آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ . وَأَمَّا بَابُ اللِّبَاسِ : فَإِنَّ لِبَاسَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يُبَاحُ لِلنِّسَاءِ بِالِاتِّفَاقِ وَيُبَاحُ لِلرَّجُلِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ . وَيُبَاحُ يَسِيرُ الْفِضَّةِ لِلزِّينَةِ وَكَذَلِكَ يَسِيرُ الذَّهَبِ التَّابِعُ لِغَيْرِهِ كَالطُّرُزِ وَنَحْوِهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا . فَإِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ يَسِيرَ الْفِضَّةِ لِلزِّينَةِ مُفْرَدًا أَوْ مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ كَحِلْيَةِ السَّيْفِ وَغَيْرِهِ فَكَيْفَ يَحْرُمُ
يَسِيرُ الْفِضَّةِ لِلْحَاجَةِ . وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ كَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظٌ عَامٌّ بِتَحْرِيمِ لُبْسِ الْفِضَّةِ كَمَا جَاءَ عَنْهُ لَفْظٌ عَامٌّ بِتَحْرِيمِ لُبْسِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ حَيْثُ قَالَ : { هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا } وَكَمَا جَاءَ عَنْهُ لَفْظٌ عَامٌّ فِي تَحْرِيمِ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . فَلَمَّا كَانَتْ أَلْفَاظُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَّةً فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَفِي لِبَاسِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ . اُسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا خَصَّتْهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ كَيَسِيرِ الْحَرِيرِ وَيَسِيرِ الْفِضَّةِ فِي الْآنِيَةِ لِلْحَاجَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَأَمَّا لُبْسُ الْفِضَّةِ : إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ لَفْظٌ عَامٌّ بِالتَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مِنْهُ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَإِذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِإِبَاحَةِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى إبَاحَةِ ذَلِكَ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْإِبَاحَةِ وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ فِي تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ جُنْدِيٍّ قَالَ لِلصَّانِعِ : اعْمَلْ لِي حِيَاصَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ
فِضَّةٍ وَاكْتُبْ عَلَيْهَا ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : فَهَلْ
يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ إعَادَتِهَا إلَى النَّارِ لِتَمَامِ
عَمَلِهَا . وَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَلْبَسَ حِيَاصَةَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ
؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا حِيَاصَةُ الذَّهَبِ
فَمُحَرَّمَةٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ
لِإِنَاثِهَا } . وَأَمَّا حِيَاصَةُ الْفِضَّةِ ، فَفِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ : وَقَدْ أَبَاحَهَا الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ . وَأَمَّا كِتَابَة الْقُرْآنِ عَلَيْهَا : فَيُشْبِهُ كِتَابَة
الْقُرْآنِ عَلَى الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ . وَلَكِنْ يَمْتَازُ هَذَا
بِأَنَّهَا تُعَادُ إلَى النَّارِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَهَذَا كُلُّهُ مَكْرُوهٌ
فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى ابْتِذَالِ الْقُرْآنِ وَامْتِهَانِهِ وَوُقُوعِهِ فِي
الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهَا . فَإِنَّ الْحِيَاصَةَ وَالدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . هُوَ فِي مَعْرِضِ الِابْتِذَالِ وَالِامْتِهَانِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِي حَمْلِ الدَّرَاهِمِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فَذَلِكَ لِلْحَاجَةِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي كِتَابَة الْقُرْآنِ عَلَيْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابٌ
صَدَقَةُ الْفِطْرِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ : هَلْ تُخْرَجُ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ بُرًّا أَوْ
شَعِيرًا أَوْ دَقِيقًا ؟ وَهَلْ يُعْطِي لِلْأَقَارِبِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ
نَفَقَتُهُ ؟ أَوْ يَجُوزُ إعْطَاءُ الْقِيمَةِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إذَا كَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَقْتَاتُونَ أَحَدَ
هَذِهِ الْأَصْنَافِ جَازَ الْإِخْرَاجُ مِنْ قُوتِهِمْ بِلَا رَيْبٍ . وَهَلْ
لَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوا مَا يَقْتَاتُونَ مِنْ غَيْرِهَا ؟ مِثْلُ أَنْ يَكُونُوا
يَقْتَاتُونَ الْأُرْزَ وَالدُّخْنَ فَهَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُخْرِجُوا حِنْطَةً
أَوْ شَعِيرًا أَوْ يُجْزِئُهُمْ الْأُرْزُ وَالدُّخْنُ وَالذُّرَةُ ؟ فِيهِ
نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد :
إحْدَاهُمَا لَا يُخْرِجُ إلَّا الْمَنْصُوصَ . وَالْأُخْرَى : يُخْرِجُ مَا يَقْتَاتُهُ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ . وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّدَقَاتِ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى وَجْهِ الْمُسَاوَاةِ لِلْفُقَرَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ قُوتَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَوْ كَانَ هَذَا لَيْسَ قُوتَهُمْ بَلْ يَقْتَاتُونَ غَيْرَهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ أَنْ يُخْرِجُوا مِمَّا لَا يَقْتَاتُونَهُ كَمَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ . وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مِنْ جِنْسِ الْكَفَّارَاتِ هَذِهِ مُعَلَّقَةٌ بِالْبَدَنِ وَهَذِهِ مُعَلَّقَةٌ بِالْبَدَنِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْمَالِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِسَبَبِ الْمَالِ مِنْ جِنْسِ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ . وَأَمَّا الدَّقِيقُ : فَيَجُوزُ إخْرَاجُهُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد دُونَ الشَّافِعِيِّ . وَيُخْرِجُهُ بِالْوَزْنِ فَإِنَّ الدَّقِيقَ يُرَبَّعُ إذَا طُحِنَ وَالْقَرِيبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهَا إذَا كَانَتْ حَاجَتُهُ مِثْلَ حَاجَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُ فَإِنَّ صَدَقَتَك عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ ؟ وَيَعْلَمُ أَنَّهَا صَاعٌ وَيَزِيدُ
عَلَيْهِ وَيَقُولُ هُوَ نَافِلَةٌ هَلْ يُكْرَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ يَجُوزُ بِلَا كَرَاهِيَةٍ عِنْدَ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ ؛ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَإِنَّمَا تُنْقَلُ
كَرَاهِيَتُهُ عَنْ مَالِكٌ . وَأَمَّا النَّقْصُ عَنْ الْوَاجِبِ فَلَا يَجُوزُ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ هَلْ الْوَاجِبُ صَاعٌ ؟ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ ؟
أَوْ أَكْثَرُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ : هَلْ يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ
فِي صَرْفِهَا ؟ أَمْ يُجْزِئُ صَرْفُهَا إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ ؟ وَمَا أَقْوَالُ
الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا
: فِي زَكَاةِ الْمَالِ كَزَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالنَّقْدِ وَعُرُوضِ
التِّجَارَةِ وَالْمُعَشَّرَاتِ فَهَذِهِ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُزَكٍّ أَنْ يَسْتَوْعِبَ بِزَكَاتِهِ
جَمِيعَ الْأَصْنَافِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا وَأَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ
ثَلَاثَةً وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد . الثَّانِي : بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ لَا
يَخْرُجَ بِهَا عَنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَلَا يُعْطِيَ أَحَدًا فَوْقَ
كِفَايَتِهِ وَلَا يُحَابِيَ أَحَدًا بِحَيْثُ يُعْطِي وَاحِدًا وَيَدَعُ
مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ مَعَ إمْكَانِ الْعَدْلِ . وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ إذَا دَفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ جَمِيعَهَا لِوَاحِدِ مِنْ صِنْفٍ . وَهُوَ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَارِمًا عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَجِدُ لَهَا وَفَاءً فَيُعْطِيهِ زَكَاتَهُ كُلَّهَا وَهِيَ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَجْزَأَهُ . وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ : كَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ نَفْسِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لقبيصة بْنِ مخارق الْهِلَالِيِّ : أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَك بِهَا } . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهَا أَنَّهُ { قَالَ لسلمة بْنِ صَخْرٍ البياضي : اذْهَبْ إلَى عَامِلِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْ صَدَقَتَهُمْ إلَيْك . } فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ دَفَعَ صَدَقَةَ قَوْمٍ لِشَخْصِ وَاحِدٍ لَكِنَّ الْآمِرَ هُوَ الْإِمَامُ وَفِي مِثْلِ هَذَا تَنَازُعٌ . وَفِي الْمَسْأَلَةِ بَحْثٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَا تَحْتَمِلُهُ هَذِهِ الْفَتْوَى . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْأَصْلُ الثَّانِي : وَهُوَ " صَدَقَةُ الْفِطْرِ " فَإِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ هَلْ تَجْرِي مَجْرَى صَدَقَةِ الْأَمْوَالِ أَوْ صَدَقَةِ الْأَبْدَانِ كَالْكَفَّارَاتِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ وُجُوبُ الِاسْتِيعَابِ أَوْجَبَ الِاسْتِيعَابَ فِيهَا .
وَعَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَنْبَنِي مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ كَقَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ دَفْعَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ إلَى وَاحِدٍ كَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا . وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَجْرِي مَجْرَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ وَمَجْرَى كَفَّارَةِ الْحَجِّ فَإِنَّ سَبَبَهَا هُوَ الْبَدَنُ لَيْسَ هُوَ الْمَالَ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ طهرة لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ . مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ } . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ : { أَغْنُوهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ . } وَلِهَذَا أَوْجَبَهَا اللَّهُ طَعَامًا كَمَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ طَعَامًا وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يُجْزِئُ إطْعَامُهَا إلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْكَفَّارَةَ وَهُمْ الْآخِذُونَ لِحَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ فَلَا يُعْطِي مِنْهَا فِي الْمُؤَلَّفَةِ وَلَا الرِّقَابِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى فِي الدَّلِيلِ . وَأَضْعَفُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَدْفَعَ
صَدَقَةَ فِطْرِهِ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَوْ إلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَوْ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِينَ لَمْ يَعْمَلْ بِهَذَا مُسْلِمٌ عَلَى عَهْدِهِمْ بَلْ كَانَ الْمُسْلِمُ يَدْفَعُ صَدَقَةَ فِطْرِهِ وَصَدَقَةَ فِطْرِ عِيَالِهِ إلَى الْمُسْلِمِ الْوَاحِدِ . وَلَوْ رَأَوْا مَنْ يُقَسِّمُ الصَّاعَ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ نَفَسًا يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ حَفْنَةً لَأَنْكَرُوا ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ وَعَدُّوهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُسْتَنْكَرَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَحَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَ الْمَأْمُورَ بِهِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ . وَمِنْ الْبُرِّ إمَّا نِصْفَ صَاعٍ وَإِمَّا صَاعًا عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ التَّامَّةِ لِلْوَاحِدِ مِنْ الْمَسَاكِينِ وَجَعَلَهَا طُعْمَةً لَهُمْ يَوْمَ الْعِيدِ يَسْتَغْنُونَ بِهَا فَإِذَا أَخَذَ الْمِسْكِينُ حَفْنَةً لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا وَلَمْ تَقَعْ مَوْقِعًا . وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ ابْنُ سَبِيلٍ إذَا أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ حِنْطَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا مِنْ مَقْصُودِهَا مَا يُعَدُّ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُودًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَمَا لَوْ فُرِضَ عَدَدٌ مُضْطَرُّونَ
وَإِنْ قَسَمَ بَيْنَهُمْ الصَّاعَ عَاشُوا وَإِنَّ خَصَّ بِهِ بَعْضَهُمْ مَاتَ الْبَاقُونَ فَهُنَا يَنْبَغِي تَفْرِيقُهُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ لَكِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيقُ هُوَ الْمَصْلَحَةَ وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي لَا يَرْضَاهَا الْعُقَلَاءُ وَلَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . ثُمَّ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ } نَصٌّ فِي أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ . وقَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الظِّهَارِ : { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُصْرَفَ تِلْكَ لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَكَذَلِكَ هَذِهِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُخْرَجِ مِنْ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ وَالْوَاجِبُ مَا يَبْقَى ويستنمى ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبَ فِيهَا الْإِنَاثُ دُونَ الذُّكُورِ إلَّا فِي التَّبِيعِ وَابْنِ لَبُونٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْإِنَاثِ . وَفِي الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْلَ كَانَ الذَّكَرُ أَفْضَلَ مِنْ الْأُنْثَى وَكَانَتْ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا إذَا تُصُدِّقَ بِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمَسَاكِينِ أَهْلِ الْحَاجَةِ دُونَ اسْتِيعَابِ الْمَصَارِفِ الثَّمَانِيَةِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَجَبَتْ طَعَامًا لِلْأَكْلِ لَا للاستنماء . فَعُلِمَ أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْكَفَّارَاتِ . وَإِذَا قِيلَ : إنَّ قَوْلَهُ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } نَصٌّ فِي اسْتِيعَابِ الصَّدَقَةِ . قِيلَ : هَذَا خَطَأٌ لِوُجُوهِ :
أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّامَ فِي هَذِهِ إنَّمَا هِيَ لِتَعْرِيفِ الصَّدَقَةِ الْمَعْهُودَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا } وَهَذِهِ إذًا صَدَقَاتُ الْأَمْوَالِ دُونَ صَدَقَاتِ الْأَبْدَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلِهَذَا قَالَ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ دَاخِلَةً فِي آيَةِ بَرَاءَةٌ وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ فِدْيَةَ الْأَذَى لَا يَجِبُ صَرْفُهَا فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْآيَةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ } . لَا يَخْتَصُّ بِهَا الْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا جَوَابُ مَنْ يَمْنَعُ دُخُولَ هَذِهِ الصَّدَقَةِ فِي الْآيَةِ وَهِيَ تَعُمُّ جَمِيعَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ إنَّهُ يَجِبُ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ بَلْ غَايَةُ مَا قِيلَ : إنَّهُ يَجِبُ إعْطَاءُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَهَذَا تَخْصِيصُ اللَّفْظِ الْعَامِّ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثُمَّ فِيهِ تَعْيِينُ فَقِيرٍ دُونَ فَقِيرٍ . وَأَيْضًا لَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ التَّسْوِيَةَ فِي آحَادِ كُلِّ صِنْفٍ فَالْقَوْلُ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ فِي الْأَصْنَافِ عُمُومًا وَتَسْوِيَةً كَالْقَوْلِ فِي آحَادِ كُلِّ صِنْفٍ عُمُومًا وَتَسْوِيَةً . الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ } لِلْحَصْرِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَذْكُورُ وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ وَالْمَعْنَى لَيْسَتْ الصَّدَقَةُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ بَلْ لِهَؤُلَاءِ فَالْمُثْبَتُ مِنْ جِنْسِ الْمَنْفِيِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ تَبْيِينَ الْمِلْكِ بَلْ قَصَدَ تَبْيِينَ الْحِلِّ أَيْ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى بَلْ تَحِلُّ لَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِمَنْ سَأَلَهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَالْمَذْمُومُ يُذَمُّ عَلَى طَلَبِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ لَا عَلَى طَلَبِ مَا يَحِلُّ لَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَذُمَّ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ إذَا سَأَلُوهَا مِنْ الْإِمَامِ قَبْلَ إعْطَائِهَا وَلَوْ كَانَ الذَّمُّ عَامًّا لَمْ يَكُنْ فِي الْحَصْرِ ذَمٌّ لِهَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَقْتَضِي ذَمَّهُمْ وَالذَّمُّ الَّذِي اخْتَصُّوا بِهِ سُؤَالُ مَا لَا يَحِلُّ فَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي نَفَى وَيَكُونُ الْمُثْبَتُ هَذَا يَحِلُّ وَلَيْسَ مِنْ الْإِحْلَالِ لِلْأَصْنَافِ وَآحَادِهِمْ وُجُودُ الِاسْتِيعَابِ وَالتَّسْوِيَةِ كَاللَّامِ فِي قَوْله تَعَالَى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } وَقَوْلِهِ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ اللَّامُ لِلْإِبَاحَةِ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ إنَّهُ قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ
وَلَامِ التَّمْلِيكِ مَمْنُوعٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَالَ فِي الْفَرَائِضِ : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } وَقَالَ { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ } وَقَالَ : { وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } لَمَّا كَانَتْ اللَّامُ لِلتَّمْلِيكِ وَجَبَ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ وَإِيرَادُ كُلِّ صِنْفٍ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَأَرْبَعَةُ بَنِينَ أَوْ بَنَاتٍ أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ إخْوَةٍ وَجَبَ الْعُمُومُ وَالتَّسْوِيَةُ فِي الْأَفْرَادِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ بِالنَّسَبِ وَهُمْ مُسْتَوُونَ فِيهِ . وَهُنَاكَ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ " وَلَمْ يَجِبْ فِيهِ ذَلِكَ . وَلَا يُقَالُ إفْرَادُ الصِّنْفِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِفْرَادِ مَا قِيلَ فِي الْأَصْنَافِ . فَإِذَا قِيلَ : يَجِبُ اسْتِيعَابُهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَيَسْقُطُ الْمَعْجُوزُ عَنْهُ قِيلَ : فِي الْإِفْرَادِ كَذَلِكَ . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكِنْ يَجِبُ تَحَرِّي الْعَدْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
إخْرَاجُ الزَّكَاةِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ تَاجِرٍ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ زَكَاتِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ
صِنْفًا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ؟ وَهَلْ إذَا مَاتَ إنْسَانٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ :
فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مَنْ أَقَارِبِ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ
مُسْتَحِقًّا لِلزَّكَاةِ ثُمَّ يَسْتَوْفِيهِ مِنْهُ ؟ وَهَلْ إذَا أَخْرَجَ
زَكَاتَهُ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ آخَرَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ هَلْ يُجْزِئُهُ أَمْ
لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ أَجْزَأَ بِلَا رَيْبٍ . وَأَمَّا
إذَا أَعْطَاهُ الْقِيمَةَ فَفِيهِ نِزَاعٌ : هَلْ يَجُوزُ مُطْلَقًا ؟ أَوْ لَا
يَجُوزُ مُطْلَقًا ؟ أَوْ يَجُوزُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِلْحَاجَةِ أَوْ
الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ - فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ . فَإِنْ كَانَ آخِذُ
الزَّكَاةِ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا كُسْوَةً فَاشْتَرَى رَبُّ
الْمَالِ
لَهُ بِهَا كُسْوَةً وَأَعْطَاهُ فَقَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ . وَأَمَّا إذَا قَوَّمَ
هُوَ الثِّيَابَ الَّتِي عِنْدَهُ وَأَعْطَاهَا فَقَدْ يُقَوِّمُهَا بِأَكْثَرَ
مِنْ السِّعْرِ وَقَدْ يَأْخُذُ الثِّيَابَ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا بَلْ
يَبِيعُهَا فَيَغْرَمُ أُجْرَةَ الْمُنَادِي وَرُبَّمَا خَسِرَتْ فَيَكُونُ فِي
ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ . وَالْأَصْنَافُ الَّتِي يُتَّجَرُ فِيهَا
يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهَا جَمِيعًا دَرَاهِمَ بِالْقِيمَةِ فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُ دَرَاهِمُ فَأَعْطَى ثَمَنَهَا بِالْقِيمَةِ فَالْأَظْهَرُ
أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ وَاسَى الْفُقَرَاءَ فَأَعْطَاهُمْ مِنْ جِنْسِ
مَالِهِ .
وَأَمَّا الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْمَيِّتِ : فَيَجُوزُ أَنْ يُوَفَّى مِنْ
الزَّكَاةِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ
أَحْمَد ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَالْغَارِمِينَ } وَلَمْ يَقُلْ
وَلِلْغَارِمِينَ . فَالْغَارِمُ لَا يُشْتَرَطُ تَمْلِيكُهُ . وَعَلَى هَذَا
يَجُوزُ الْوَفَاءُ عَنْهُ وَأَنْ يُمَلَّكَ لِوَارِثِهِ وَلِغَيْرِهِ وَلَكِنَّ
الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يُعْطَى لِيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ زَكَاةِ الْعُشْرِ وَغَيْرِهِ يَأْخُذُهَا السُّلْطَانُ يَصْرِفُهَا حَيْثُ
شَاءَ وَلَا يُعْطِيهَا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ : هَلْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ
بِذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَا يَأْخُذُهُ وُلَاةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعُشْرِ وَزَكَاةِ
الْمَاشِيَةِ وَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ مِنْ
صَاحِبِهِ إذَا كَانَ الْإِمَامُ عَادِلًا يَصْرِفُهُ فِي مَصَارِفِهِ
الشَّرْعِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا لَا يَصْرِفُهُ
فِي مَصَارِفِهِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَنْبَغِي لِصَاحِبِهِ أَنْ لَا يَدْفَعَ
الزَّكَاةَ إلَيْهِ بَلْ يَصْرِفُهَا هُوَ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا فَإِنْ أُكْرِهَ
عَلَى دَفْعِهَا إلَى الظَّالِمِ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَدْفَعْهَا إلَيْهِ لَحَصَلَ
لَهُ ضَرَرٌ فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ . وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ ظَلَمُوا مُسْتَحِقِّيهَا كَوَلِيِّ
الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ إذَا قَبَضُوا مَالَهُ وَصَرَفُوهُ فِي غَيْرِ
مَصَارِفِهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ فِي الزَّكَاةِ ؛ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَكُونُ
أَنْفَعَ لِلْفَقِيرِ : هَلْ هُوَ جَائِزٌ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
فَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ وَأَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ مَنَعَ
الْقِيمَةَ فِي مَوَاضِعَ وَجَوَّزَهَا فِي مَوَاضِعَ فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ
أَقَرَّ النَّصَّ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَالْأَظْهَرُ
فِي هَذَا : أَنَّ إخْرَاجَ الْقِيمَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا مَصْلَحَةٍ
رَاجِحَةٍ مَمْنُوعٌ مِنْهُ وَلِهَذَا قَدَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْجُبْرَانَ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَلَمْ يَعْدِلْ
إلَى الْقِيمَةِ وَلِأَنَّهُ مَتَى جَوَّزَ إخْرَاجَ الْقِيمَةِ مُطْلَقًا فَقَدْ
يَعْدِلُ الْمَالِكُ إلَى أَنْوَاعٍ رَدِيئَةٍ وَقَدْ يَقَعُ فِي التَّقْوِيمِ
ضَرَرٌ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَهَذَا مُعْتَبَرٌ فِي
قَدْرِ الْمَالِ وَجِنْسِهِ وَأَمَّا إخْرَاجُ الْقِيمَةِ لِلْحَاجَةِ أَوْ
الْمَصْلَحَةِ أَوْ الْعَدْلِ فَلَا
بَأْسَ بِهِ : مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ بُسْتَانِهِ أَوْ زَرْعِهِ بِدَرَاهِمَ فَهُنَا إخْرَاجُ عُشْرِ الدَّرَاهِمِ يُجْزِئُهُ وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَمَرًا أَوْ حِنْطَةً إذْ كَانَ قَدْ سَاوَى الْفُقَرَاءَ بِنَفْسِهِ " وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ . وَمِثْلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَنْ يَبِيعُهُ شَاةً فَإِخْرَاجُ الْقِيمَةِ هُنَا كَافٍ وَلَا يُكَلَّفُ السَّفَرَ إلَى مَدِينَةٍ أُخْرَى لِيَشْتَرِيَ شَاةً وَمِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلزَّكَاةِ طَلَبُوا مِنْهُ إعْطَاءَ الْقِيمَةِ لِكَوْنِهَا أَنْفَعَ فَيُعْطِيهِمْ إيَّاهَا أَوْ يَرَى السَّاعِي أَنَّ أَخْذَهَا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ . كَمَا نُقِلَ عَنْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْيَمَنِ : " ائْتُونِي بِخَمِيصِ أَوْ لَبِيسٍ أَسْهَلُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِمَنْ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ " . وَهَذَا قَدْ قِيلَ إنَّهُ قَالَهُ فِي الزَّكَاةِ وَقِيلَ : فِي الْجِزْيَةِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ إسْقَاطِ الدَّيْنِ عَنْ الْمُعْسِرِ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَحْسِبَهُ مِنْ
الزَّكَاةِ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا إسْقَاطُ الدَّيْنِ عَنْ الْمُعْسِرِ فَلَا يُجْزِئُ عَنْ زَكَاةِ الْعَيْنِ
بِلَا نِزَاعٍ لَكِنْ إذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ :
فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ قِدْرَ زَكَاةِ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَيَكُونُ
ذَلِكَ زَكَاةَ ذَلِكَ الدَّيْنِ ؟ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . أَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ
مَبْنَاهَا عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَهُنَا قَدْ أَخْرَجَ مِنْ جِنْسِ مَا يَمْلِكُ
بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَالُهُ عَيْنًا وَأَخْرَجَ دَيْنًا فَإِنَّ الَّذِي
أَخْرَجَهُ دُونَ الَّذِي يَمْلِكُهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ إخْرَاجِ الْخَبِيثِ
عَنْ الطِّيبِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } الْآيَةَ . وَلِهَذَا كَانَ عَلَى الْمُزَكِّي
أَنْ يُخْرِجَ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ لَا يُخْرِجُ أَدْنَى مِنْهُ فَإِذَا كَانَ
لَهُ ثَمَرٌ وَحِنْطَةٌ جَيِّدَةٌ لَمْ يُخْرِجْ عَنْهَا مَا هُوَ دُونَهَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ لَهُ زَكَاةٌ وَلَهُ أَقَارِبُ فِي بَلَدٍ تُقْصَرُ إلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَهُمْ مُسْتَحِقُّونَ الصَّدَقَةَ : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ ؟
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ مُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ وَلَمْ
تَحْصُلْ لَهُمْ كِفَايَتُهُمْ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِمْ مِنْ
الزَّكَاةِ وَلَوْ كَانُوا فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ الْمِسْكِينِ يَحْتَاجُ إلَى الزَّكَاةِ مِنْ الزَّرْعِ : فَهَلْ إعْطَاؤُهُ
. يُسْقِطُ الْفَرْضَ عَنْ صَاحِبِ الزَّرْعِ إذَا عَجَّلَهَا لَهُ قَبْلَ
إدْرَاكِ زَرْعِهِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ
فَيَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد . فَيَجُوزُ
تَعْجِيلُ
زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالنَّقْدَيْنِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ إذَا مَلَكَ
النِّصَابَ . وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الْمُعَشَّرَاتِ قَبْلَ وُجُوبِهَا إذَا كَانَ
قَدْ طَلَعَ الثَّمَرُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَنَبَتَ الزَّرْعُ قَبْلَ
اشْتِدَادِ الْحَبِّ . فَأَمَّا إذَا اشْتَدَّ الْحَبُّ وَبَدَا صَلَاحُ
الثَّمَرَةِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ يَدِهِ مَالٌ فَوْقَ النِّصَابِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ شَيْئًا
مِنْ زَكَاةِ الْفَرْضِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ
ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَحُلْ الْحَوْلُ وَفِيمَنْ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ
وَفِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ الْحَوْلُ حَالًّا فَهِيَ زَكَاةٌ وَإِلَّا تَكُونُ
سَلَفًا عَلَى مَا يَجِبُ بَعْدُ : هَلْ يُجْزِئُ فِي الصُّورَتَيْنِ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يُجْزِئُ ذَلِكَ فِي الصُّورَتَيْنِ جَمِيعًا إذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى قَوْمٍ مُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَشَايِخِ : هَلْ
يَجُوزُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الزَّكَاةُ : فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَحَرَّى بِهَا
الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ الْفُقَرَاءِ . وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ
وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الْمُتَّبِعِينَ لِلشَّرِيعَةِ فَمَنْ أَظْهَرَ
بِدْعَةً أَوْ فُجُورًا فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالْهَجْرِ
وَغَيْرِهِ . وَالِاسْتِتَابَةَ فَكَيْفَ يُعَانُ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا مَنْ
يَأْخُذُهَا وَيُنْفِقُهَا بِحَسَبِ اخْتِيَارِهِ أَوْ يُنْفِقُهَا عَلَى
عِيَالِهِ مَعَ غِنَاهُ فَهَذَا لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِ وَلَا تَبْرَأُ
ذِمَّةُ مَنْ دَفَعَهَا إلَيْهِ بَلْ لَا تُعْطَى إلَّا لِمُسْتَحِقِّهَا أَوْ
لِمَنْ يُعْطِيهَا لِمُسْتَحِقِّهَا مِثْلُ مَنْ عِنْدَهُ خِبْرَةٌ
بِأَهْلِهَا
وَأَمَانَةٌ فَيُؤَدِّيهَا إلَيْهِمْ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } . وَإِذَا طَلَبَهَا
مَنْ لَا يَعْلَمُ حَاجَتَهُ إلَيْهَا وَهُوَ يَعْلَمُ حَاجَةَ آخَرَ فَإِعْطَاءُ
مَنْ يَعْلَمُ حَاجَتَهُ أَوْلَى وَإِعْطَاءُ الْقَرِيبِ الْمُحْتَاجِ الَّذِي
لَيْسَ مَنْ أَهْلِ نَفَقَتِهِ أَوْلَى مِنْ إعْطَاءِ الْبَعِيدِ الْمُسَاوِي لَهُ
فِي الْحَاجَةِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ زَكَاةٌ : هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِأَقَارِبِهِ
الْمُحْتَاجِينَ ؟ أَوْ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُمْ مِنْهَا ثِيَابًا أَوْ حُبُوبًا ؟
وَإِذَا أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ غَنَمِهِ هَلْ تَسْقُطُ زَكَاتُهَا ؟ وَهَلْ
يَلْزَمُهُ إعْطَاءُ الزَّكَاةِ فِي بَلَدِ الْقِلَّةِ وَالْمَالِ أَمْ لَا .
وَهَلْ إذَا مَاتَ فَقِيرٌ وَلَهُ عَلَيْهِ مَالٌ : هَلْ لَهُ أَنْ يَحْسِبَهُ
مِنْ الزَّكَاةِ ؟ أَوْ يَطْلُبَهُ مَنْ غَيْرِهِ فَيَأْخُذَ عَنْهُ ؟ وَهَلْ
يُعْطِي لِمَنْ لَا يُصَلِّي ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ الزَّكَاةَ إلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا
وَإِنْ كَانُوا مَنْ أَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَيْسُوا فِي عِيَالِهِ لَكِنْ
يُعْطِيهِمْ مِنْ مَالِهِ وَهُمْ يَأْذَنُونَ لِمَنْ يَشْتَرِي لَهُمْ بِهَا مَا
يُرِيدُونَ .
وَمَا
أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مِنْ الزَّكَاةِ بِغَيْرِ أَمْرِ أَصْحَابِهِ احْتَسَبَ
بِهِ وَجِيرَانُ الْمَالِ أَحَقُّ بِصَدَقَتِهِ فَإِنْ اسْتَغْنَوْا عَنْهَا
أَعْطَى الْبَعِيدَ وَإِنْ أَعْطَاهَا الْفُقَرَاءَ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ جَازَ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ لَمْ يَحْتَسِبْ بِهِ مِنْ
الزَّكَاةِ وَلَا يَحْتَالُ فِي ذَلِكَ . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا أُمِرَ
بِالصَّلَاةِ فَإِنْ قَالَ : أَنَا أُصَلِّي أُعْطِيَ وَإِلَّا لَمْ يُعْطَ .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى أَقَارِبِهِ الْمُحْتَاجِينَ الَّذِينَ لَا
تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ ؟ هَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ أَوْ دَفْعُهَا إلَى
الْأَجْنَبِيِّ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى أَقَارِبِهِ : فَإِنْ كَانَ الْقَرِيبُ الَّذِي
يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِ حَاجَتُهُ مِثْلُ حَاجَةِ الْأَجْنَبِيِّ إلَيْهَا
فَالْقَرِيبُ أَوْلَى . وَإِنْ كَانَ الْبَعِيدُ أَحْوَجَ لَمْ يُحَابِ بِهَا
الْقَرِيبَ . قَالَ أَحْمَد عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة كَانُوا يَقُولُونَ :
لَا يُحَابِي بِهَا قَرِيبًا وَلَا يَدْفَعُ بِهَا مَذَمَّةً وَلَا يَقِي بِهَا
مَالَهُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ دَفْعِهَا إلَى وَالِدَيْهِ وَوَلَدِهِ الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُ
نَفَقَتُهُمْ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الزَّكَاةَ صِنْفَانِ : صِنْفٌ يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ .
كَالْفَقِيرِ وَالْغَارِمِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ . وَصِنْفٌ يَأْخُذُهَا
لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ : كَالْمُجَاهِدِ وَالْغَارِمِ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ
الْبَيْنِ فَهَؤُلَاءِ يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا مِنْ
أَقَارِبِهِ . وَأَمَّا دَفْعُهَا إلَى الْوَالِدَيْنِ : إذَا كَانُوا غَارِمِينَ
أَوْ مُكَاتَبِينَ : فَفِيهَا وَجْهَانِ . وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ ذَلِكَ . وَأَمَّا
إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ نَفَقَتِهِمْ فَالْأَقْوَى جَوَازُ
دَفْعِهَا إلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ مَوْجُودٌ
وَالْمَانِعَ مَفْقُودٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنْ
الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ وَعَلَيْهَا دَيْنٌ وَلَهَا أَوْلَادُ بِنْتٍ صِغَارٌ
وَلَهُمْ مَالٌ وَهُمْ تَحْتَ الْحَجْرِ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعُوا
زَكَاتَهُمْ إلَى جَدَّتِهِمْ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هِيَ أَوْلَى مَنْ غَيْرِهَا
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا دَفْعُ زَكَاتِهِمْ إلَيْهَا لِقَضَاءِ دَيْنِهَا فَيَجُوزُ فِي أَظْهَرِ
قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ دَفْعُهَا إلَى سَائِرِ الْأَقَارِبِ لِأَجْلِ الدَّيْنِ
. وَأَمَّا دَفْعُهَا لِأَجْلِ النَّفَقَةِ : فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَغْنِيَةً
بِنَفَقَتِهِمْ أَوْ نَفَقَةِ غَيْرِهِمْ لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهَا . وَإِنْ كَانَتْ
مُحْتَاجَةً إلَى زَكَاتِهِمْ دُفِعَتْ إلَيْهَا فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ وَهِيَ أَحَقُّ مِنْ الْأَجَانِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَكَاةِ أَبِيهِ
لِقَضَاءِ . دَيْنِهِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ عَلَى الْوَلَدِ دَيْنٌ وَلَا وَفَاءَ لَهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ
مِنْ زَكَاةِ أَبِيهِ ؛ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى النَّفَقَةِ وَلَيْسَ لِأَبِيهِ
مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ : وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ
أَخْذُ زَكَاةِ أَبِيهِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا بِنَفَقَةِ أَبِيهِ
فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى زَكَاتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
هَلْ يُجْزِئُ الرَّجُلَ عَنْ زَكَاتِهِ مَا يُغَرِّمُهُ وُلَاةُ الْأُمُورِ فِي
الطُّرُقَاتِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
مَا يَأْخُذُهُ وُلَاةُ الْأُمُورِ بِغَيْرِ اسْمِ الزَّكَاةِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ
مِنْ الزَّكَاةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ مَالُ الْإِنْسَانِ لَا يَتَّسِعُ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ فَإِنَّ
نَفَقَةَ الْقَرِيبِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يُعْطِي الْبَعِيدَ مَا يَضُرُّ
بِالْقَرِيبِ . وَأَمَّا الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ
مِنْهَا الْقَرِيبَ الَّذِي لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَالْقَرِيبُ أَوْلَى إذَا
اسْتَوَتْ الْحَاجَةُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَعْطَاهُ أَخٌ لَهُ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا أَيَقْبَلُهُ ؟ أَمْ
يَرُدُّهُ ؟ وَقَدْ وَرَدَ { مَنْ جَاءَهُ شَيْءٌ بِغَيْرِ سُؤَالٍ فَرَدَّهُ
فَكَأَنَّمَا رَدَّهُ عَلَى اللَّهِ } هَلْ هُوَ صَحِيحٌ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
قَدْ ثَبَتَ { عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
لِعُمَرِ : مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا
مُشْرِفٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك } وَثَبَتَ أَيْضًا فِي
الصَّحِيحِ : { أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ
فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ قَالَ : يَا حَكِيمُ مَا أَكْثَرَ
مَسْأَلَتِك إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ
نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ
لَهُ فِيهِ فَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ فَقَالَ لَهُ حَكِيمٌ :
وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ بَعْدَك مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا } .
فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُعْطَيَانِهِ فَلَا يَأْخُذُ . فَتَبَيَّنَ بِهَذَيْنِ
الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا كَانَ سَائِلًا بِلِسَانِهِ ، أَوْ
مُشْرِفًا إلَى مَا يُعْطَاهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَهُ إلَّا حَيْثُ تُبَاحُ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَالِاسْتِشْرَافُ . وَأَمَّا إذَا أَتَاهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ ؛ وَلَا إشْرَافٍ فَلَهُ أَخْذُهُ إنْ كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ أَعْطَاهُ حَقَّهُ كَمَا أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ عَمِلَ فَأَعْطَاهُ عِمَالَتَهُ وَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ كَمَا فَعَلَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ قَبِلَهُ وَكَانَ مِنْ غَيْرِ إشْرَافٍ لَهُ عَلَيْهِ فَقَدْ أَحْسَنَ . وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكَافِئَ بِالْمَالِ مَنْ أَسْدَاهُ . إلَيْهِ لِخَبَرِ { مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا لَهُ مَا تُكَافِئُوهُ . فَادْعُوا حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ } .
وَقَالَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ . فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ { حَكِيمِ بْنِ
حِزَامٍ : لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً
بَعْدَ مَرَّةٍ ثُمَّ قَالَ : يَا حَكِيمُ : إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ
حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ
بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا
يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى . قَالَ حَكِيمٌ :
فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ
أَحَدًا بَعْدَك شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا . فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ
مِنْهُ شَيْئًا ثُمَّ إنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ .
فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ وَفِي رِوَايَةٍ إنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا
مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَى حَكِيمٍ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ
اللَّهُ لَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ
حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ } .
قَوْلُهُ : " لَمْ يَرْزَأْ " : أَيْ لَمْ يُنْقِصْ لَا لَمْ يَسْأَلْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ . فَفِيهِ أَنَّ حَكِيمًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ . وَهَذَا حُجَّةٌ فِي جَوَازِ الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافٍ . وَقَوْلُهُ : { الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى } تَنْبِيهٌ لَهُ عَلَى أَنَّ يَدَ الْآخِذِ سُفْلَى . وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَد عَنْ حُجَّةٍ لِذَلِكَ مِنْ الْآيَةِ فَلَمْ يَعْرِفْهَا . وَهَذِهِ حُجَّةٌ جَيِّدَةٌ . وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ زِيَادَاتٌ مِثْلُ قَوْلِهِ : { إنَّ خَيْرًا لَك أَنْ لَا تَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا } لَكِنْ يُنْظَرُ إسْنَادُهُ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي تَفْضِيلِ عَدَمِ الْأَخْذِ مُطْلَقًا .
كِتَابُ
الصِّيَامِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْغَيْمِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ يَوْمُ
شَكٍّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الْغَيْمِ إذَا حَالَ دُونَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ غَيْمٌ
أَوْ قَتَرٌ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ وَهِيَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ . أَحَدُهَا : أَنَّ صَوْمَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . ثُمَّ هَلْ هُوَ
نَهْيُ تَحْرِيمٍ ؟ أَوْ تَنْزِيهٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ
فِي مَذْهَبِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ
. وَاخْتَارَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : كَأَبِي الْخَطَّابِ
وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ منده الْأَصْفَهَانِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ صِيَامَهُ وَاجِبٌ كَاخْتِيَارِ الْقَاضِي والخرقي وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَهَذَا يُقَالُ إنَّهُ أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد لَكِنَّ الثَّابِتَ عَنْ أَحْمَد لِمَنْ عَرَفَ نُصُوصَهُ وَأَلْفَاظَهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ صِيَامَ يَوْمِ الْغَيْمِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يُوجِبُهُ عَلَى النَّاسِ بَلْ كَانَ يَفْعَلُهُ احْتِيَاطًا وَكَانَ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ مَنْ يَصُومُهُ احْتِيَاطًا وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَصُومُهُ مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَنْهَى عَنْهُ . كَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَغَيْرِهِ فَأَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَصُومُهُ احْتِيَاطًا . وَأَمَّا إيجَابُ صَوْمِهِ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ أَحْمَد وَلَا كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ؛ لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَذْهَبَهُ إيجَابُ صَوْمِهِ وَنَصَرُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ وَيَجُوزُ فِطْرُهُ وَهَذَا
مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ
عَنْهُ وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ
أَكْثَرِهِمْ .
وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِمْسَاكَ عِنْدَ الْحَائِلِ عَنْ رُؤْيَةِ الْفَجْرِ
جَائِزٌ . فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ أَكَلَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ طُلُوعَ
الْفَجْرِ وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ ؟ أَمْ لَا ؟ إنْ شَاءَ تَوَضَّأَ
وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَتَوَضَّأْ .
وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ هَلْ حَالَ حَوْلُ الزَّكَاةِ ؟ أَوْ لَمْ يَحُلْ ؟ وَإِذَا
شَكَّ هَلْ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ مِائَةٌ ؟ أَوْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ
؟ فَأَدَّى الزِّيَادَةَ . وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى
أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُحَرَّمٍ ثُمَّ إذَا صَامَهُ
بِنِيَّةِ مُطْلَقَةٍ أَوْ بِنِيَّةٍ مُعَلَّقَةٍ بِأَنْ يَنْوِيَ إنْ كَانَ مِنْ
شَهْرِ رَمَضَانَ كَانَ عَنْ رَمَضَانَ وَإِلَّا فَلَا .
فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْزِيهِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَصَحِّ
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهِيَ الَّتِي نَقَلَهَا المروذي وَغَيْرُهُ وَهَذَا
اخْتِيَارُ الخرقي فِي شَرْحِهِ لِلْمُخْتَصَرِ وَاخْتِيَارُ أَبِي الْبَرَكَاتِ
وَغَيْرِهِمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا بِنِيَّةِ
أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا
الْقَاضِي وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ .
وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ :
هَلْ هُوَ وَاجِبٌ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ رَمَضَانَ فَإِنْ صَامَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ أَوْ مُعَلَّقَةٍ أَوْ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَوْ النَّذْرِ لَمْ يُجْزِئْهُ ذَلِكَ كَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ . وَالثَّانِي : يُجْزِئُهُ مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يُجْزِئُهُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ لَا بِنِيَّةِ تَعْيِينِ غَيْرِ رَمَضَانَ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَد وَهِيَ اخْتِيَارُ الخرقي وَأَبِي الْبَرَكَاتِ . وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ النِّيَّةَ تَتْبَعُ الْعِلْمَ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ . فَإِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ صَوْمًا مُطْلَقًا لَمْ يُجْزِئْهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ أَدَاء الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي عَلِمَ وُجُوبَهُ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَهُنَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ وَمَنْ أَوْجَبَ التَّعْيِينَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَقَدْ أَوْجَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ . فَإِذَا قِيلَ إنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ وَصَامَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ أَوْ مُعَلَّقَةٍ أَجْزَأَهُ . وَأَمَّا إذَا قَصَدَ صَوْمَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ
مِنْ
شَهْرِ رَمَضَانَ فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَيْضًا كَمَنْ كَانَ لِرَجُلٍ
عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ
التَّبَرُّعِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَقُّهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى
إعْطَائِهِ ثَانِيًا بَلْ يَقُولُ ذَلِكَ الَّذِي وَصَلَ إلَيْك هُوَ حَقٌّ كَانَ
لَك عِنْدِي وَاَللَّهُ يَعْلَمُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ . وَالرِّوَايَةُ الَّتِي
تُرْوَى عَنْ أَحْمَد أَنَّ النَّاسَ فِيهِ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ فِي نِيَّتِهِ
عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ كَمَا فِي
السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ
تُضَحُّونَ } .
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الْهِلَالِ " : هَلْ هُوَ اسْمٌ لِمَا
يَطْلُعُ فِي السَّمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ؟ أَوْ لَا يُسَمَّى هِلَالًا
حَتَّى يَسْتَهِلَّ بِهِ النَّاسُ وَيَعْلَمُوهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي النِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَتْ
السَّمَاءُ مُطْبِقَةً بِالْغَيْمِ أَوْ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ مُطْلَقًا . هَلْ
هُوَ يَوْمُ شَكٍّ . عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَيْسَ بِشَكِّ بَلْ الشَّكُّ إذَا أَمْكَنَتْ رُؤْيَتُهُ
وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَالثَّانِي
: أَنَّهُ شَكٌّ لِإِمْكَانِ طُلُوعِهِ .
وَالثَّالِثُ
: أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ حُكْمًا فَلَا يَكُونُ يَوْمَ شَكٍّ وَهُوَ اخْتِيَارُ
طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ
فِي الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ هَلْ يَصُومُ
وَيُفْطِرُ وَحْدَهُ ؟ أَوْ لَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ ؟
أَوْ يَصُومُ وَحْدَهُ وَيُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ
مَعْرُوفَةٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
مَسْأَلَةُ رُؤْيَةِ بَعْضِ الْبِلَادِ رُؤْيَةٌ لِجَمِيعِهَا : فِيهَا اضْطِرَابٌ
فَإِنَّهُ قَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ
الِاخْتِلَافَ فِيمَا يُمْكِنُ اتِّفَاقُ الْمَطَالِعِ فِيهِ فَأَمَّا مَا كَانَ
مِثْلَ الْأَنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ . قُلْت
: أَحْمَد اعْتَمَدَ فِي الْبَابِ عَلَى حَدِيثِ { الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي شَهِدَ
أَنَّهُ أَهَلَّ الْهِلَالُ الْبَارِحَةَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ عَلَى هَذِهِ الرُّؤْيَةِ } مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ
فِي غَيْرِ الْبَلَدِ وَمَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ
وَلَمْ يَسْتَفْصِلْهُ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ ؛ لَكِنْ مَا حَدُّ ذَلِكَ ؟
وَاَلَّذِينَ قَالُوا : لَا تَكُونُ رُؤْيَةً لِجَمِيعِهَا كَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمْ مَنْ حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَطَالِعُ : كَالْحِجَازِ مَعَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ مَعَ خُرَاسَانَ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ مَسَافَةَ الْقَصْرِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْهِلَالِ . وَأَمَّا الْأَقَالِيمُ فَمَا حَدَّدَ ذَلِكَ ؟ ثُمَّ هَذَانِ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ التَّشْرِيقِ وَالتَّغْرِيبِ فَإِنَّهُ مَتَى رُئِيَ فِي الْمَشْرِقِ وَجَبَ أَنْ يُرَى فِي الْمَغْرِبِ وَلَا يَنْعَكِسُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ غُرُوبُ الشَّمْسِ بِالْمَغْرِبِ عَنْ وَقْتِ غُرُوبِهَا بِالْمَشْرِقِ فَإِذَا كَانَ قَدْ رُئِيَ ازْدَادَ بِالْمَغْرِبِ نُورًا وَبُعْدًا عَنْ الشَّمْسِ وَشُعَاعِهَا وَقْتَ غُرُوبِهَا فَيَكُونُ أَحَقَّ بِالرُّؤْيَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا رُئِيَ بِالْمَغْرِبِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبُ الرُّؤْيَةِ تَأَخُّرَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَهُمْ فَازْدَادَ بُعْدًا وَضَوْءًا وَلَمَّا غَرَبَتْ بِالْمَشْرِقِ كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا . ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا رُئِيَ بِالْمَغْرِبِ كَانَ قَدْ غَرَبَ عَنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ فَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ وَالْهِلَالِ وَسَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَلِذَلِكَ إذَا دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ بِالْمَغْرِبِ دَخَلَ بِالْمَشْرِقِ وَلَا يَنْعَكِسُ وَكَذَلِكَ الطُّلُوعُ إذَا طَلَعَتْ بِالْمَغْرِبِ طَلَعَتْ بِالْمَشْرِقِ وَلَا يَنْعَكِسُ فَطُلُوعُ الْكَوَاكِبِ وَغُرُوبُهَا بِالْمَشْرِقِ سَابِقٌ .
وَأَمَّا الْهِلَالُ فَطُلُوعُهُ وَرُؤْيَتُهُ بِالْمَغْرِبِ سَابِقٌ ؛ لِأَنَّهُ يَطْلُعُ مِنْ الْمَغْرِبِ وَلَيْسَ فِي السَّمَاءِ مَا يَطْلُعُ مِنْ الْمَغْرِبِ غَيْرُهُ وَسَبَبُ ظُهُورِهِ بُعْدُهُ عَنْ الشَّمْسِ فَكُلَّمَا تَأَخَّرَ غُرُوبُهَا ازْدَادَ بُعْدُهُ عَنْهَا فَمَنْ اعْتَبَرَ بُعْدَ الْمَسَاكِنِ مُطْلَقًا فَلَمْ يَتَمَسَّكْ بِأَصْلِ شَرْعِيٍّ وَلَا حِسِّيٍّ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هِلَالَ الْحَجِّ : مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَتَمَسَّكُونَ فِيهِ بِرُؤْيَةِ الْحُجَّاجِ الْقَادِمِينَ وَإِنْ كَانَ فَوْقَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا اعْتَبَرْنَا حَدًّا : كَمَسَافَةِ الْقَصْرِ أَوْ الْأَقَالِيمَ فَكَانَ رَجُلٌ فِي آخِرِ الْمَسَافَةِ وَالْإِقْلِيمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَيُفْطِرَ وَيَنْسُكَ وَآخَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ غَلْوَةُ سَهْمٍ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ . فَالصَّوَابُ فِي هَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ } فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ أَنَّهُ رَآهُ بِمَكَانِ مِنْ الْأَمْكِنَةِ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ وَجَبَ الصَّوْمُ . وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ بِالرُّؤْيَةِ نَهَارَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إلَى الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِمْ إمْسَاكُ مَا بَقِيَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ إقْلِيمٍ أَوْ إقْلِيمَيْنِ .
وَالِاعْتِبَارُ
بِبُلُوغِ الْعِلْمِ بِالرُّؤْيَةِ فِي وَقْتٍ يُفِيدُ فَأَمَّا إذَا بَلَغَتْهُمْ
الرُّؤْيَةُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَالْمُسْتَقْبَلَ يَجِبُ صَوْمُهُ بِكُلِّ
حَالٍ لَكِنَّ الْيَوْمَ الْمَاضِيَ : هَلْ يَجِبُ قَضَاؤُهُ ؟ فَإِنَّهُ قَدْ
يَبْلُغُهُمْ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ أَنَّهُ رُئِيَ بِإِقْلِيمٍ آخَرَ وَلَمْ
يَرَ قَرِيبًا مِنْهُمْ الْأَشْبَهُ أَنَّهُ إنْ رُئِيَ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ وَهُوَ
مَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُمْ خَبَرُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَهُوَ كَمَا
لَوْ رُئِيَ فِي بَلَدِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ .
وَأَمَّا إذَا رُئِيَ بِمَكَانٍ لَا يُمْكِنُ وُصُولُ خَبَرِهِ إلَيْهِمْ إلَّا
بَعْدَ مُضِيِّ الْأَوَّلِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ صَوْمَ النَّاسِ هُوَ
الْيَوْمُ الَّذِي يَصُومُونَهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصُومُوا إلَّا الْيَوْمَ
الَّذِي يُمْكِنُهُمْ فِيهِ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ وَهَذَا لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمْ
فِيهِ بُلُوغُهُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَ صَوْمِهِمْ وَكَذَلِكَ فِي الْفِطْرِ
وَالنُّسُكِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ هَلْ يُفْطِرُونَ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ فِي
أَثْنَاءِ الشَّهْرِ أَنَّهُ رُئِيَ بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الرُّؤْيَةِ ؟ لَكِنْ
إنْ بَلَغَتْهُمْ بِخَبَرِ وَاحِدٍ لَمْ يُفْطِرُوا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ
عِنْدَهُمْ فِي أَثْنَائِهِ مَا يُفْطِرُونَ بِهِ وَلَا يَقْضُونَ الْيَوْمَ
الْأَوَّلَ فَيَكُونُ صَوْمُهُمْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ
يَقُولُ بِالْمَطَالِعِ إذَا صَامَ بِرُؤْيَةِ مَكَانٍ ثُمَّ سَافَرَ إلَى مَكَانٍ
تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُهُمْ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ مَعَهُمْ وَلَا يَقْضِي الْيَوْمَ
الْأَوَّلَ . وَإِنْ تَأَخَّرَتْ رُؤْيَتُهُمْ فَهُنَا اخْتَلَفَتْ نُقُولُ
أَصْحَابِنَا إنْ قَالُوا يُفْطِرُ
وَحْدَهُ
فَهُوَ كَمَا لَوْ رَآهُ عِنْدَهُمْ لَمْ يُفْطِرْ وَحْدَهُ عِنْدَنَا عَلَى
الْمَشْهُورِ وَإِنْ صَامَ مَعَهُمْ فَقَدْ صَامَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ يَوْمًا .
وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ يَخْرُجُ فِيهَا لِأَصْحَابِنَا
قَوْلَانِ كَالْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَتِهِ فِي الْفِطْرِ لِأَنَّ انْفِرَادَ
الرَّجُلِ بِالْفِطْرِ هُوَ الْمَحْذُورُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَرُؤْيَةُ أَهْلِ
بَلَدٍ دُونَ غَيْرِهِمْ كَرُؤْيَتِهِ وَرُؤْيَةِ طَائِفَةٍ مَعَهُ دُونَ
غَيْرِهِمْ . وَأَمَّا هِلَالُ الْفِطْرِ فَإِذَا ثَبَتَتْ رُؤْيَتُهُ فِي
الْيَوْمِ عَمِلُوا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ
فَائِدَةٌ - بَلْ الْعِيدُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي عيده النَّاسُ - وَلَكِنْ
نُقِلَ التَّارِيخُ (1) .
فَالضَّابِطُ أَنَّ مَدَارَ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى الْبُلُوغِ لِقَوْلِهِ {
صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ } فَمَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ رُئِيَ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ مِنْ
غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمَسَافَةٍ أَصْلًا وَهَذَا يُطَابِقُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ فِي أَنَّ طَرَفَيْ الْمَعْمُورَةِ لَا يَبْلُغُ الْخَبَرُ فِيهِمَا
إلَّا بَعْدَ شَهْرٍ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَمَاكِنِ الَّذِي يَصِلُ
الْخَبَرُ فِيهَا قَبْلَ انْسِلَاخِ الشَّهْرِ فَإِنَّهَا مَحَلُّ الِاعْتِبَارِ .
فَتَدَبَّرْ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْأَرْبَعَةَ : وُجُوبُ الصَّوْمِ
وَالْإِمْسَاكُ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ وَوُجُوبُ بِنَاءِ الْعِيدِ عَلَى تِلْكَ
الرُّؤْيَةِ وَرُؤْيَةُ الْبَعِيدِ وَالْبَلَاغُ فِي وَقْتٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ
الْعِبَادَةِ . وَلِهَذَا قَالُوا : إذَا أَخْطَأَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَوَقَفُوا
فِي غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ
أَجْزَأَهُمْ اعْتِبَارًا بِالْبُلُوغِ وَإِذَا أَخْطَأَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لَمْ يُجْزِئْهُمْ لِإِمْكَانِ الْبُلُوغِ فَالْبُلُوغُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ سَوَاءٌ كَانَ عَلِمَ بِهِ لِلْبُعْدِ أَوْ لِلْقِلَّةِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا إلَّا وُجُوبَ الْقَضَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُمْكِنُهُمْ فِيهِ بُلُوغُ الْخَبَرِ . وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَنَّا نَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّهُ مَا زَالَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُرَى الْهِلَالُ فِي بَعْضِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ بَعْضٍ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَبْلُغَهُمْ الْخَبَرُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَلَوْ كَانُوا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ لَكَانَتْ هِمَمُهُمْ تَتَوَفَّرُ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي سَائِرِ بُلْدَانِ الْإِسْلَامِ كَتَوَفُّرِهَا عَلَى الْبَحْثِ عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي بَلَدِهِ وَلَكَانَ الْقَضَاءُ يَكْثُرُ فِي أَكْثَرِ الرمضانات وَمِثْلُ هَذَا لَوْ كَانَ لَنُقِلَ وَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا . وَقَدْ أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُفْطِرْ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ إلَّا بِقَوْلٍ وَاحِدٍ فَلَا يُفْطِرُ بِهِ وَلَا يُقَالُ أَصْحَابُنَا كَذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا بَلَغَهُمْ الْهِلَالُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ بَنَوْا فِطْرَهُمْ عَلَيْهِ . قُلْنَا لِأَنَّ ذَاكَ أَمْرٌ لَا تَتَعَلَّقُ الْهِمَمُ بِالْبَحْثِ عَنْهُ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ
صَوْمِ
يَوْمٍ فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ وَإِلَّا فَالِاحْتِيَاطُ الصَّوْمُ ؛ لِأَنَّ
ذَاكَ الْخَبَرَ قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا
نَظَرٌ . وَلَوْ قِيلَ : إذَا بَلَغَهُمْ الْخَبَرُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَمْ
يَبْنُوا إلَّا عَلَى رُؤْيَتِهِمْ بِخِلَافِ مَا إذَا بَلَغَهُمْ فِي الْيَوْمِ
الْأَوَّلِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ بَلْ الرُّؤْيَةُ الْقَلِيلَةُ لَوْ لَمْ تَبْلُغْ
الْإِنْسَانَ إلَّا فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ ذَلِكَ
الْيَوْمِ نَظَرٌ وَإِنْ كَانَ يُفْطِرُ بِهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { صَوْمُكُمْ يَوْمَ
تَصُومُونَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ صَوْمِنَا وَلِأَنَّ
التَّكْلِيفَ يَتْبَعُ الْعِلْمَ وَلَا عِلْمَ وَلَا دَلِيلَ ظَاهِرٌ فَلَا
وُجُوبَ وَطَرْدُ هَذَا أَنَّ الْهِلَالَ إذَا ثَبَتَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ قَبْلَ
الْأَكْلِ أَوْ بَعْدَهُ أَتَمُّوا وَأَمْسَكُوا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ كَمَا
لَوْ بَلَغَ صَبِيٌّ أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ
الثَّلَاثَةِ . فَقَدْ قِيلَ : يُمْسِكُ وَيَقْضِي . وَقِيلَ : لَا يَجِبُ وَاحِدٌ
مِنْهُمَا . وَقِيلَ : يَجِبُ الْإِمْسَاكُ دُونَ الْقَضَاءِ .
فَإِنَّ الْهِلَالَ مَأْخُوذٌ مِنْ الظُّهُورِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فَطُلُوعُهُ فِي
السَّمَاءِ إنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْأَرْضِ فَلَا حُكْمَ لَهُ لَا بَاطِنًا وَلَا
ظَاهِرًا وَاسْمُهُ مُشْتَقٌّ مَنْ فِعْلِ الْآدَمِيِّينَ يُقَالُ : أَهْلَلْنَا
الْهِلَالَ وَاسْتَهْلَلْنَاهُ فَلَا هِلَالَ إلَّا مَا اُسْتُهِلَّ فَإِذَا
اسْتَهَلَّهُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ فَلَمْ يُخْبِرَا بِهِ فَلَمْ يَكُنْ ذَاكَ
هِلَالًا فَلَا يَثْبُتْ بِهِ حُكْمٌ حَتَّى يُخْبِرَا بِهِ فَيَكُونُ خَبَرُهُمَا
هُوَ الْإِهْلَالَ الَّذِي هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ
بِالْإِخْبَارِ بِهِ وَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَتْبَعُ الْعِلْمَ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ عِلْمُهُ لَمْ يَجِبْ صَوْمُهُ . وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ إذَا كَانَ التَّرْكُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ أَوْ اُسْتُحِبَّ إذَا بَلَغَ رُؤْيَتُهُ الْمَكَانَ الْبَعِيدَ أَوْ رُؤْيَةُ النَّفَرِ الْقَلِيلِ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَاسْتُحِبَّ الصَّوْمُ يَوْمَ الشَّكِّ مَعَ الصَّحْوِ بَلْ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُخْبِرَ الْقَلِيلُ أَوْ الْبَعِيدَ بِرُؤْيَتِهِ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَيُسْتَحَبُّ الصَّوْمُ احْتِيَاطًا وَمَا مِنْ شَيْءٍ فِي الشَّرِيعَةِ يُمْكِنُ وُجُوبُهُ إلَّا وَالِاحْتِيَاطُ مَشْرُوعٌ فِي أَدَائِهِ . فَلَمَّا لَمْ يُشْرَعْ الِاحْتِيَاطُ فِي أَدَائِهِ قَطَعْنَا بِأَنَّهُ لَا وُجُوبَ مَعَ بُعْدِ الرَّائِي أَوْ خَفَائِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّائِي قَرِيبًا ظَاهِرًا فَتَكُونُ رُؤْيَتُهُ إهْلَالًا يَظْهَرُ بِهِ الطُّلُوعُ . وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا مَنْ لَمْ يَحْتَطْ فِي الْغَيْمِ . وَلَكِنْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ طُلُوعَهُ هَذَا مِثَالٌ ظَاهِرٌ أَوْ مُسَاوٍ وَإِنَّمَا الْحَاجِبُ مَانِعٌ كَمَا لَوْ كَانُوا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ فِي مَغَارَةٍ أَوْ مَطْمُورَةٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّرَائِي . وَلِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُوجِبُوا التَّبْيِيتَ : أَصْلُ مَأْخَذِهِمْ إجْزَاءُ يَوْمِ الشَّكِّ فَإِنَّ بُلُوغَ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ كَثِيرٌ كَيَوْمِ عَاشُورَاءَ وَإِيجَابُ الْقَضَاءِ فِيهِ عُسْرٌ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ مِثْلِ ذَلِكَ وَعَدَمِ شُهْرَةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ فِي السَّلَفِ . وَجَوَابُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ
فَإِنَّهُ لَا وُجُوبَ إلَّا مِنْ حِينِ الْإِهْلَالِ وَالرُّؤْيَةِ ؛ لَا مِنْ حِينِ الطُّلُوعِ وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ إذَا لَمْ يَبْلُغُ الْخَبَرُ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ فَائِدَةٌ إلَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَعُلِمَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ بِرُؤْيَةٍ بَعِيدَةٍ مُطْلَقًا . فَتَلَخَّصَ : أَنَّهُ مَنْ بَلَغَهُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُؤَدِّي بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ الصَّوْمَ أَوْ الْفِطْرَ أَوْ النُّسُكَ وَجَبَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِلَا شَكٍّ وَالنُّصُوصُ وَآثَارُ السَّلَفِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَمَنْ حَدَّدَ ذَلِكَ بِمَسَافَةِ قَصْرٍ أَوْ إقْلِيمٍ فَقَوْلُهُ : مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ إلَّا بَعْدَ الْأَدَاءِ وَهُوَ مِمَّا لَا يُقْضَى كَالْعِيدِ الْمَفْعُولِ وَالنُّسُكِ فَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ . وَأَمَّا إذَا بَلَغَهُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ : فَهَلْ يُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ ؟ وَفِي بِنَاءِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ : مِنْ حُلُولِ الدَّيْنِ وَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالْقَضَاءُ يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَفِي بِنَاءِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ نَظَرٌ . فَهَذَا مُتَوَسِّطٌ فِي الْمَسْأَلَةِ : وَمَا مِنْ قَوْلٍ سِوَاهُ إلَّا وَلَهُ لَوَازِمُ شَنِيعَةٌ
لَا سِيَّمَا مَنْ قَالَ بِالتَّعَدُّدِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي الْمَنَاسِكِ مَا يُعْلَمُ بِهِ خِلَافُ دِينِ الْإِسْلَامِ إذَا رَأَى بَعْضُ الْوُفُودِ أَوْ كُلُّهُمْ الْهِلَالَ وَقَدِمُوا مَكَّةَ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ رُئِيَ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فَسَادِهِ صَارَ مُتَنَوِّعًا وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَحْصُلُ بِهِ الِاجْتِمَاعُ الشَّرْعِيُّ كُلُّ قَوْمٍ عَلَى مَا أَمْكَنَهُمْ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ وَإِذَا خَالَفَهُمْ مَنْ لَمْ يَشْعُرُوا بِمُخَالَفَتِهِ لِانْفِرَادِهِ مِنْ الشُّعُورِ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ لَمْ يَضُرَّ هَذَا وَإِنَّمَا الشَّأْنُ مِنْ الشُّعُورِ بِالْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ . وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْأَهِلَّةِ فَقَالَ : { هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْمَعْلُومَ بِبَصَرِ أَوْ سَمْعٍ وَلِهَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ : إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَلَمْ يَحْصُلْ أَحَدٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَكِّ لِانْتِفَاءِ الشَّكِّ فِي الْهِلَالِ وَإِنْ وَقَعَ شَكٌّ فِي الطُّلُوعِ . وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْهِلَالَ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ . وَهَذَا الْمِثَالُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِمَا يُفْعَلُ بِهِ كَالْإِزَارِ لِمَا يؤتزر بِهِ وَالرِّدَاءِ : لِمَا يُرْتَدَى بِهِ وَالرِّكَابِ : لِمَا يُرْكَبُ بِهِ وَالْوِعَاءِ : لِمَا يُوعَى فِيهِ وَبِهِ والسماد لِمَا تُسَمَّدُ بِهِ الْأَرْضُ وَالْعِصَابِ : لِمَا يُعْصَبُ بِهِ وَالسِّدَادِ لِمَا يُسَدُّ بِهِ وَهَذَا كَثِيرٌ مُطَّرِدٌ فِي الْأَسْمَاءِ .
فَالْهِلَالُ
اسْمٌ لِمَا يُهَلُّ بِهِ : أَيْ يُصَاتُ بِهِ وَالتَّصْوِيتُ بِهِ لَا يَكُونُ
إلَّا مَعَ إدْرَاكِهِ بِبَصَرٍ أَوْ سَمْعٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ
:
يُهِلُّ بِالْفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا * * * كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرُ
أَيْ : يُصَوِّتُونَ بِالْفَرْقَدِ فَجَعَلَهُمْ مُهِلِّينَ بِهِ فَلِذَلِكَ
سُمِّيَ هِلَالًا . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ }
أَيْ صُوِّتَ بِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ التَّصْوِيتُ بِهِ رَفِيعًا أَوْ خَفِيضًا
فَإِنَّهُ مِمَّا تُكُلِّمَ بِهِ وَجُهِرَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ . وَنُطِقَ بِهِ
. الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَهَا مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَلَا تَكُونُ
مَوَاقِيتَ لَهُمْ إلَّا إذَا أَدْرَكُوهَا بِبَصَرٍ أَوْ سَمْعٍ فَإِذَا انْتَفَى
الْإِدْرَاكُ انْتَفَى التَّوْقِيتُ فَلَا تَكُونُ أَهِلَّةً وَهُوَ غَايَةُ مَا
يُمْكِنُ ضَبْطُهُ مِنْ جِهَةِ الْحِسِّ إذْ ضَبْطُ مَكَانِ الطُّلُوعِ
بِالْحِسَابِ لَا يَصِحُّ أَصْلًا وَقَدْ صَنَّفْت فِي ذَلِكَ شَيْئًا . وَهَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَيْهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي قُوَى الْبَشَرِ
أَنْ يَضْبُطُوا لِلرُّؤْيَةِ زَمَانًا وَمَكَانًا مَحْدُودًا وَإِنَّمَا
يَضْبُطُونَ مَا يُدْرِكُونَهُ بِأَبْصَارِهِمْ أَوْ مَا يَسْمَعُونَهُ
بِآذَانِهِمْ فَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ تَعْلِيقَهُ فِي حَقِّ مَنْ رَأَى
بِالرُّؤْيَةِ فَفِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَرَ بِالسَّمَاعِ وَمَنْ لَا رُؤْيَةَ لَهُ
وَلَا سَمَاعَ فَلَا إهْلَالَ لَهُ وَاَللَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ وَتَحَقَّقَ الرُّؤْيَةَ : فَهَلْ لَهُ
أَنْ يُفْطِرَ وَحْدَهُ ؟ أَوْ يَصُومَ وَحْدَهُ ؟ أَوْ مَعَ جُمْهُورِ النَّاسِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا رَأَى هِلَالَ الصَّوْمِ وَحْدَهُ أَوْ هِلَالَ
الْفِطْرِ وَحْدَهُ فَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ ؟ أَوْ
يُفْطِرَ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ ؟ أَمْ لَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ
النَّاسِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد :
أَحَدُهَا : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ وَأَنْ يُفْطِرَ سِرًّا وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ وَهُوَ
الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبَ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّالِثُ :
يَصُومُ مَعَ النَّاسِ وَيُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ وَهَذَا أَظْهَرُ
الْأَقْوَالِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنِ مَاجَه وَذَكَرَ الْفِطَرَ وَالْأَضْحَى فَقَطْ . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ المقبري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ : { الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطَرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ قَالَ : وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ : إنَّمَا مَعْنَى هَذَا الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَعُظْمِ النَّاسِ . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ آخَرَ : فَقَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ فَقَالَ : { وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ . وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ . وَكُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَكُلُّ جَمْعٍ مَوْقِفٌ } . وَلِأَنَّهُ لَوْ رَأَى هِلَالَ النَّحْرِ لَمَا اُشْتُهِرَ وَالْهِلَالُ اسْمٌ لَمَا اُسْتُهِلَّ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْهِلَالَ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا اسْتَهَلَّ بِهِ النَّاسُ وَالشَّهْرُ بَيِّنٌ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هِلَالًا وَلَا شَهْرًا . وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَّقَ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً
بِمُسَمَّى الْهِلَالِ وَالشَّهْرِ : كَالصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَالنَّحْرِ فَقَالَ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ . قَالَ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } إلَى قَوْلِهِ : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ } أَنَّهُ أَوْجَبَ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَكِنَّ الَّذِي تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ أَنَّ الْهِلَالَ . هَلْ هُوَ اسْمٌ لِمَا يَظْهَرُ فِي السَّمَاءِ ؟ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ النَّاسُ ؟ وَبِهِ يَدْخُلُ الشَّهْرُ أَوْ الْهِلَالُ اسْمٌ لِمَا يَسْتَهِلُّ بِهِ النَّاسُ وَالشَّهْرُ لِمَا اشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ يَقُولُ : مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ فَقَدْ دَخَلَ مِيقَاتُ الصَّوْمِ وَدَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ وَتِلْكَ اللَّيْلَةُ هِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ رَمَضَانَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ غَيْرُهُ . وَيَقُولُ مَنْ لَمْ يَرَهُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ طَالِعًا قَضَى الصَّوْمَ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي شَهْرِ الْفِطْرِ وَفِي شَهْرِ النَّحْرِ لَكِنَّ شَهْرَ النَّحْرِ مَا عَلِمْت أَنَّ أَحَدًا قَالَ مَنْ رَآهُ يَقِفُ وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ الْحَاجِّ وَأَنَّهُ يَنْحَرُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَيَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَيَتَحَلَّلُ دُونَ سَائِرِ الْحَاجِّ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْفِطْرِ : فَالْأَكْثَرُونَ أَلْحَقُوهُ بِالنَّحْرِ وَقَالُوا لَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَآخَرُونَ قَالُوا بَلْ الْفِطْرُ كَالصَّوْمِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ الْعِبَادَ بِصَوْمِ وَاحِدٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَتَنَاقُضُ
هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ . وَحِينَئِذٍ فَشَرْطُ كَوْنِهِ هِلَالًا وَشَهْرًا شُهْرَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَاسْتِهْلَالُ النَّاسِ بِهِ حَتَّى لَوْ رَآهُ عَشَرَةٌ وَلَمْ يَشْتَهِرْ ذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْبَلَدِ لِكَوْنِ شَهَادَتِهِمْ مَرْدُودَةً أَوْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ كَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فَكَمَا لَا يَقِفُونَ وَلَا يَنْحَرُونَ وَلَا يُصَلُّونَ الْعِيدَ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ لَا يَصُومُونَ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ } . وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَتِهِ : يَصُومُ مَعَ الْإِمَامِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ . قَالَ أَحْمَد : يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ . وَعَلَى هَذَا تَفْتَرِقُ أَحْكَامُ الشَّهْرِ : هَلْ هُوَ شَهْرٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَلَدِ كُلِّهِمْ ؟ أَوْ لَيْسَ شَهْرًا فِي حَقِّهِمْ كُلِّهِمْ ؟ يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالصَّوْمِ مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ وَالشُّهُودُ لَا يَكُونُ إلَّا لِشَهْرٍ اشْتَهَرَ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ شُهُودُهُ وَالْغَيْبَةُ عَنْهُ . { وقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا وَصُومُوا مِنْ الْوَضَحِ إلَى الْوَضَحِ } وَنَحْوُ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْجَمَاعَةِ لَكِنْ مَنْ كَانَ فِي مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُ إذَا رَآهُ صَامَهُ فَإِنَّهُ
لَيْسَ هُنَاكَ غَيْرُهُ . وَعَلَى هَذَا فَلَوْ أَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ رُئِيَ فِي مَكَانٍ آخَرَ أَوْ ثَبَتَ نِصْفَ النَّهَارِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ . وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . فَإِنَّهُ إنَّمَا صَارَ شَهْرًا فِي حَقِّهِمْ مِنْ حِينِ ظَهَرَ وَاشْتَهَرَ . وَمِنْ حِينَئِذٍ وَجَبَ الْإِمْسَاكُ كَأَهْلِ عَاشُورَاءَ : الَّذِينَ أُمِرُوا بِالصَّوْمِ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْقَضَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ وَحَدِيثُ الْقَضَاءِ ضَعِيفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّالِثُ : فَالصِّيَامُ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَبْيِيتِ
نِيَّتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَقَالَتْ طَائِفَةٌ - مِنْهُمْ أَبُو
حَنِيفَةَ - إنَّهُ يُجْزِئُ كُلُّ صَوْمٍ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا بِنِيَّةِ
قَبْلَ الزَّوَالِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَاشُورَاءَ وَحَدِيثُ {
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ
فِلْم يَجِدْ طَعَامًا فَقَالَ : إنِّي إذًا صَائِمٌ } . وَبِإِزَائِهَا طَائِفَةٌ
أُخْرَى - مِنْهُمْ مَالِكٌ - قَالَتْ : لَا يُجْزِئُ الصَّوْمُ إلَّا مُبَيَّتًا
مِنْ اللَّيْلِ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ حَفْصَةَ
وَابْنِ عُمَرَ : الَّذِي يُرْوَى مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا : { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } . وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ : فَالْفَرْضُ لَا يُجْزِئُ إلَّا بِتَبْيِيتِ النِّيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ حَفْصَةَ وَابْنِ عُمَرَ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الزَّمَانِ يَجِبُ فِيهِ الصَّوْمُ وَالنِّيَّةُ لَا تَنْعَطِفُ عَلَى الْمَاضِي . وَأَمَّا النَّفْلُ فَيُجْزِئُ بِنِيَّةِ مِنْ النَّهَارِ . كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { إنِّي إذًا صَائِمٌ } كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ يَجِبُ فِيهَا مِنْ الْأَرْكَانِ - كَالْقِيَامِ وَالِاسْتِقْرَارِ عَلَى الْأَرْضِ - مَا لَا يَجِبُ فِي التَّطَوُّعِ تَوْسِيعًا مِنْ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي طُرُقِ التَّطَوُّعِ . فَإِنَّ أَنْوَاعَ التَّطَوُّعَاتِ دَائِمًا أَوْسَعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفْرُوضَاتِ وَصَوْمُهُمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ إنْ كَانَ وَاجِبًا : فَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّهَارِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا قَبْلَ ذَلِكَ . وَمَا رَوَاهُ بَعْضُ الخلافيين الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي رَمَضَانَ : فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ . وَهَذَا أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمَا : هَلْ يُجْزِئُ التَّطَوُّعُ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ ؟ وَالْأَظْهَرُ صِحَّتُهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُمَا فِي الثَّوَابِ : هَلْ هُوَ ثَوَابُ يَوْمٍ كَامِلٍ ؟ أَوْ مِنْ حِينِ
نَوَاهُ ؟ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد : أَنَّ الثَّوَابَ مِنْ حِينِ النِّيَّةِ . وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي التَّعْيِينِ . وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ - فِي مَذْهَبَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ رَمَضَانَ . فَلَا تُجْزِئُ نِيَّةٌ مُطْلَقَةً وَلَا مُعَيَّنَةٌ لِغَيْرِ رَمَضَانَ . وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُجْزِئُ بِنِيَّةِ مُطْلَقَةٍ وَمُعَيَّنَةٍ لِغَيْرِهِ . كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٍ مَحْكِيَّةٍ عَنْ أَحْمَد . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يُجْزِئُ بِالنِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ دُونَ نِيَّةِ التَّطَوُّعِ أَوْ الْقَضَاءِ أَوْ النَّذْرِ . وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ .
فَصْلٌ
:
وَاخْتَلَفُوا فِي صَوْمِ يَوْمِ الْغَيْمِ : وَهُوَ مَا إذَا حَالَ دُونَ
مَطْلَعِ الْهِلَالِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ .
فَقَالَ قَوْمٌ : يَجِبُ صَوْمُهُ بِنِيَّةٍ مِنْ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَد . وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ
مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ وَحَكَوْهَا عَنْ أَكْثَرِ مُتَقَدِّمِيهِمْ بِنَاءً
عَلَى مَا تَأَوَّلُوهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى
شَعْبَانَ هُوَ النَّقْصُ فَيَكُونُ الْأَظْهَرُ طُلُوعَ الْهِلَالِ . كَمَا هُوَ
الْغَالِبُ فَيَجِبُ بِغَالِبِ الظَّنِّ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : لَا يَجُوزُ
صَوْمُهُ مِنْ رَمَضَانَ . وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ
مِنْ أَصْحَابِهِ . كَابْنِ عَقِيلٍ وَالْحَلْوَانِيِّ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ اسْتِدْلَالًا بِمَا جَاءَ مِنْ
الْأَحَادِيثِ وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ .
وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ مِنْ رَمَضَانَ
وَيَجُوزُ
فِطْرُهُ
: وَالْأَفْضَلُ صَوْمُهُ مِنْ وَقْتِ الْفَجْرِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ
عَرَفَ وَقْتَ الْفَجْرِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ طُلُوعُهُ جَازَ لَهُ الْإِمْسَاكُ
وَالْأَكْلُ وَإِنْ أَمْسَكَ وَقْتَ الْفَجْرِ . فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى
لِاسْتِحْبَابِ الْإِمْسَاكِ لَكِنْ . . . (1) .
وَأَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَد إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَأَنَّهُ
كَانَ يَسْتَحِبُّ صَوْمَهُ وَيَفْعَلُهُ لَا أَنَّهُ يُوجِبُهُ وَإِنَّمَا أَخَذَ
فِي ذَلِكَ بِمَا نَقَلَهُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلِ ابْنِهِ عَبْدِ
اللَّهِ وَالْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ الْقَطَّانِ وَغَيْرِهِمْ أَخَذَ بِمَا نَقَلَهُ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَنَحْوِهِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ :
أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَ فِي حَالِ الْغَيْمِ لَا يُوجِبُونَ الصَّوْمَ
وَكَانَ غَالِبُ النَّاسِ لَا يَصُومُونَ وَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ التَّرْكَ
. وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَحِبَّ الصَّوْمَ فِي الصَّحْوِ بَلْ نَهَى عَنْهُ :
لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالظَّاهِرَ عَدَمُ الْهِلَالِ فَصَوْمُهُ تَقْدِيمٌ
لِرَمَضَانَ بِيَوْمِ . وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ . وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ : هَلْ يُسَمَّى
يَوْمُ الْغَيْمِ يَوْمَ شَكٍّ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ
أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ .
وَأَمَّا يَوْمُ الصَّحْوِ عِنْدَهُ : فَيَوْمُ شَكٍّ أَوْ يَقِينٍ مِنْ شَعْبَانَ يُنْهَى عَنْ صَوْمِهِ بِلَا تَوَقُّفٍ . وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ أَدَلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهَا عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ الْمَشْكُوكَ فِي وُجُوبِهِ - كَمَا لَوْ شَكَّ فِي وُجُوبِ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - لَا يَجِبُ فِعْلُهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ بَلْ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ احْتِيَاطًا . فَلَمْ تُحَرِّمْ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ الِاحْتِيَاطَ وَلَمْ تُوجِبْ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ كَأَوَّلِ النَّهَارِ . وَلَوْ شَكَّ فِي طُلُوعِ النَّهَارِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ بِقَصْدِ الصَّوْمِ وَلِأَنَّ الْإِغْمَامَ أَوَّلَ الشَّهْرِ كَالْإِغْمَامِ بِالشَّكِّ بَلْ يُنْهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ لِمَا يَخَافُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الْفَرْضِ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ : يَجْتَمِعُ غَالِبُ الْمَأْثُورِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ . فَإِنَّ الْجَمَاعَاتِ الَّذِينَ صَامُوا مِنْهُمْ - كَعُمَرِ وَعَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمْ - لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْوُجُوبِ وَغَالِبُ الَّذِينَ أَفْطَرُوا لَمْ يُصَرِّحُوا بِالتَّحْرِيمِ . وَلَعَلَّ مَنْ كَرِهَ الصَّوْمَ مِنْهُمْ إنَّمَا كَرِهَهُ لِمَنْ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ : خَشْيَةَ إيجَابِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبِ . كَمَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْهُمْ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ لِمَنْ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ وُجُوبَهُ وَكَمَا أَمَرَ طَائِفَةً مِنْهُمْ مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ أَنْ يَقْضِيَ ؛ لِمَا ظَنُّوهُ بِهِ مِنْ كَرَاهَةِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ فَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ عَائِدَةً إلَى حَالِ الْفَاعِلِ لَا إلَى نَفْسِ الِاحْتِيَاطِ بِالصَّوْمِ . فَإِنَّ تَحْرِيمَ الصَّوْمِ أَوْ إيجَابَهُ
كِلَاهُمَا فِيهِ بُعْدٌ عَنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ . وَالْأَحَادِيثُ الْمَأْثُورَةُ فِي الْبَابِ إذَا تُؤُمِّلَتْ إنَّمَا يُصَرِّحُ غَالِبُهَا بِوُجُوبِ الصَّوْمِ بَعْدَ إكْمَالِ الْعِدَّةِ . كَمَا دَلَّ بَعْضُهَا عَلَى الْفِعْلِ قَبْلَ الْإِكْمَالِ . أَمَّا الْإِيجَابُ قَبْلَ الْإِكْمَالِ لِلصَّوْمِ فَفِيهِمَا نَظَرٌ . فَهَذَا الْقَوْلُ الْمُتَوَسِّطُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ غَالِبُ نُصُوصِ أَحْمَد . وَلَوْ قِيلَ : بِجَوَازِ الْأَمْرَيْنِ وَاسْتِحْبَابِ الْفِطْرِ لَكَانَ (1) عَنْ التَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابِ وَيُؤْثَرُ عَنْ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ . وَجَعَلَهُ
تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ . وَأَمَرَنَا
بِالِاعْتِصَامِ بِهِ إذْ هُوَ حَبْلُهُ الَّذِي هُوَ أَثْبَتُ الْأَسْبَابِ
وَهَدَانَا بِهِ إلَى سُبُلِ الْهُدَى وَمَنَاهِجِ الصَّوَابِ وَأَخْبَرَ فِيهِ
أَنَّهُ : { جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ
لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ رَبُّ الْأَرْبَابِ وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ
وَالْحِكْمَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
صَلَاةً دَائِمَةً بَاقِيَةً بَعْدُ إلَى يَوْمِ الْمَآبِ . أَمَّا بَعْدُ :
فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْمَلَ لَنَا دِينَنَا وَأَتَمَّ عَلَيْنَا نِعْمَتَهُ
وَرَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا وَأَمَرَنَا أَنْ نَتَّبِعَ صِرَاطَهُ
الْمُسْتَقِيمَ وَلَا نَتَّبِعَ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِنَا عَنْ سَبِيلِهِ
وَجَعَلَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ خَاتِمَةَ وَصَايَاهُ الْعَشْرِ الَّتِي هِيَ
جَوَامِعُ الشَّرَائِعِ الَّتِي تُضَاهِي الْكَلِمَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا
اللَّهُ عَلَى مُوسَى فِي
التَّوْرَاةِ وَإِنْ كَانَتْ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْنَا أَكْمَلَ وَأَبْلَغَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خثيم : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَمْ يُفَضَّ خَاتَمُهُ بَعْدَهُ فَلْيَقْرَأْ آخِرَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } الْآيَاتِ . وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نَكُونَ كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأَخْبَرَ رَسُولُهُ أَنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْت مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ . وَذَكَرَ أَنَّهُ جَعَلَهُ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَّبِعَهَا وَلَا يَتَّبِعَ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ } . فَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَهُ مِنْ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْعًا أَوْ طَرِيقًا لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ سُنَّةً وَسَبِيلًا وَحَذَّرَهُ أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ شَرِيعَةُ غَيْرِهِ فَكَيْفَ بِمَا لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ جَاءَتْ بِهِ شَرِيعَةٌ بَلْ هُوَ طَرِيقَةُ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ .
وَأَمَرَهُ وَإِيَّانَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنْ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا دُونَ مَا خَالَفَهُ فَقَالَ : { المص } { كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } . وَبَيَّنَ حَالَ الَّذِينَ وَرِثُوا الْكِتَابَ فَخَالَفُوهُ وَاَلَّذِينَ اسْتَمْسَكُوا بِهِ فَقَالَ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } إلَى قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } وَقَالَ : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا } الْآيَاتِ . وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } وَقَالَ : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا } وَحَبْلُ اللَّهِ كِتَابُهُ كَمَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اتِّبَاعِهَا . وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ جُمْلَةً . وَلَكِنْ قَدْ يَقَعُ التَّنَازُعُ فِي تَفْصِيلِهِ فَتَارَةً يَكُونُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي " مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ " وَتَارَةً يَتَنَازَعُ فِيهِ قَوْمٌ جُهَّالٌ بِالدِّينِ أَوْ مُنَافِقُونَ
أَوْ سَمَّاعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ . فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ فِينَا قَوْمًا سَمَّاعِينَ لِلْمُنَافِقِينَ يَقْبَلُونَ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ : { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } وَإِنَّمَا عَدَّاهُ بِاللَّامِ لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الْقَبُولِ وَالطَّاعَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ : " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " أَيْ اسْتَجَابَ لِمَنْ حَمِدَهُ وَكَذَلِكَ { سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أَيْ مُطِيعُونَ لَهُمْ . فَإِذَا كَانَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْمٌ سَمَّاعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَمَّنْ يُظْهِرُ الِانْقِيَادَ لِحُكْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ يَقُولُ : { لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } إلَى قَوْلِهِ { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } فَإِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامُ التَّعْدِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أَيْ قَائِلُونَ لِلْكَذِبِ مُرِيدُونَ لَهُ وَسَامِعُونَ مُطِيعُونَ لِقَوْمِ آخَرِينَ غَيْرِك فَلَيْسُوا مُفْرِدِينَ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّامَ لَامُ كَيْ أَيْ يَسْمَعُونَ لِيَكْذِبُوا لِأَجْلِ أُولَئِكَ فَلَمْ يُصِبْ . فَإِنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُرَادُ وَكَثِيرًا مَا يَضِيعُ الْحَقُّ بَيْنَ الْجُهَّالِ الْأُمِّيِّينَ وَبَيْنَ الْمُحَرِّفِينَ لِلْكَلِمِ الَّذِينَ فِيهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
حَيْثُ قَالَ : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ } الْآيَةَ . وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ : أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَتَّبِعُ سَنَنَ مَنْ قَبْلَهَا حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ : وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَيُغَيِّرُ مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ أَمَرَ بِهِ . وَفِيهِمْ أُمِّيُّونَ لَا يَفْقَهُونَ مَعَانِيَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ رُبَّمَا يَظُنُّونَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَمَانِيِّ الَّتِي هِيَ مُجَرَّدُ التِّلَاوَةِ وَمَعْرِفَةُ ظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ هُوَ غَايَةُ الدِّينِ . ثُمَّ قَدْ يُنَاظِرُونَ الْمُحَرِّفِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ أَوْ الْكُفَّارِ مَعَ عِلْمِ أُولَئِكَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْأُمِّيُّونَ فَإِمَّا أَنْ تَضِلَّ الطَّائِفَتَانِ وَيَصِيرَ كَلَامُ هَؤُلَاءِ فِتْنَةً عَلَى أُولَئِكَ حَيْثُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَا يَقُولُهُ الْأُمِّيُّونَ هُوَ غَايَةُ عِلْمِ الدِّينِ وَيَصِيرُوا فِي طَرَفَيْ النَّقِيضِ . وَإِمَّا أَنْ يَتَّبِعَ أُولَئِكَ الْأُمِّيُّونَ أُولَئِكَ الْمُحَرِّفِينَ فِي بَعْضِ ضَلَالِهِمْ . وَهَذَا مِنْ بَعْضِ أَسْبَابِ تَغْيِيرِ الْمِلَلِ إلَّا أَنَّ هَذَا الدِّينَ مَحْفُوظٌ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وَلَا تَزَالُ فِيهِ طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْحَقِّ فَلَمْ يَنَلْهُ مَا نَالَ غَيْرَهُ مِنْ الْأَدْيَانِ مِنْ تَحْرِيفِ كُتُبِهَا وَتَغْيِيرِ شَرَائِعِهَا مُطْلَقًا ؛ لِمَا يُنْطِقُ
اللَّهُ
بِهِ الْقَائِمِينَ بِحُجَّةِ اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ الَّذِينَ يُحْيُونَ
بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِهِ أَهْلَ الْعَمَى فَإِنَّ
الْأَرْضَ لَنْ تَخْلُوَ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةِ ؛ لِكَيْلَا تَبْطُلَ
حُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ .
وَكَانَ مُقْتَضَى تَقْدِيمِ هَذِهِ " الْمُقَدِّمَةِ " أَنِّي رَأَيْت
النَّاسَ فِي شَهْرِ صَوْمِهِمْ وَفِي غَيْرِهِ أَيْضًا : مِنْهُمْ مَنْ يُصْغِي
إلَى مَا يَقُولُهُ بَعْضُ جُهَّالِ أَهْلِ الْحِسَابِ : مِنْ أَنَّ الْهِلَالَ
يُرَى أَوْ لَا يُرَى . وَيَبْنِي عَلَى ذَلِكَ إمَّا فِي بَاطِنِهِ وَإِمَّا فِي
بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ . حَتَّى بَلَغَنِي أَنَّ مِنْ الْقُضَاةِ مَنْ كَانَ يَرُدُّ
شَهَادَةَ الْعَدَدِ مِنْ الْعُدُولِ لِقَوْلِ الْحَاسِبِ الْجَاهِلِ الْكَاذِبِ :
إنَّهُ يُرَى أَوْ لَا يُرَى . فَيَكُونُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُ . وَرُبَّمَا أَجَازَ شَهَادَةَ غَيْرِ الْمَرْضِيِّ لِقَوْلِهِ .
فَيَكُونُ هَذَا الْحَاكِمُ مِنْ السَّمَّاعِينَ لِلْكَذِبِ . فَإِنَّ الْآيَةَ
تَتَنَاوَلُ حُكَّامَ السُّوءِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ حَيْثُ يَقُولُ
: { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } وَحُكَّامُ السُّوءِ
يَقْبَلُونَ الْكَذِبَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ قَبُولُ قَوْلِهِ مِنْ مُخْبِرٍ أَوْ
شَاهِدٍ . وَيَأْكُلُونَ السُّحْتَ مِنْ الرِّشَا وَغَيْرِهَا . وَمَا أَكْثَرُ
مَا يَقْتَرِنُ هذان . وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَقْبَلُ قَوْلَ الْمُنَجِّمِ لَا فِي
الْبَاطِنِ وَلَا فِي الظَّاهِر ؛ لَكِنْ فِي قَلْبِهِ حَسِيكَةٌ مِنْ ذَلِكَ
وَشُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ لِثِقَتِهِ بِهِ : مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ
تَلْتَفِتْ إلَى ذَلِكَ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ حِسَابِ
النَّيِّرَيْنِ
وَاجْتِمَاعِ الْقُرْصَيْنِ وَمُفَارَقَةِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ بِعِدَّةِ دَرَجَاتٍ وَسَبَبِ الْإِهْلَالِ وَالْإِبْدَارِ وَالِاسْتِتَارِ وَالْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ . فَأَجْرَى حُكْمَ الْحَاسِبِ الْكَاذِبِ الْجَاهِلِ بِالرُّؤْيَةِ هَذَا الْمَجْرَى . ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَ مِنْ الْحِسَابِ وَصُورَةِ الْأَفْلَاكِ وَحَرَكَاتِهَا أَمْرًا صَحِيحًا : قَدْ يُعَارِضُهُمْ بَعْضُ الْجُهَّالِ مِنْ الْأُمِّيِّينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِيمَانِ أَوْ إلَى الْعَدَمِ أَيْضًا فَيَرَاهُمْ قَدْ خَالَفُوا الدِّينَ فِي الْعَمَلِ بِالْحِسَابِ فِي الرُّؤْيَةِ أَوْ فِي اتِّبَاعِ أَحْكَامِ النُّجُومِ فِي تَأْثِيرَاتِهَا الْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ فَيَرَاهُمْ لَمَّا تَعَاطَوْا هَذَا - وَهُوَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الدِّينِ - صَارَ يَرُدُّ كُلَّ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ . وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ وَالْبَاطِلِ الْمُخَالِفِ لِلسَّمْعِ وَالْعَقْلِ مَعَ أَنَّ هَذَا أَحْسَنُ حَالًا فِي الدِّينِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ . لِأَنَّ هَذَا كَذَّبَ بِشَيْءِ مِنْ الْحَقِّ مُتَأَوِّلًا جَاهِلًا مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلِ بَعْضِ أُصُولِ الْإِسْلَامِ . وَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ قَدْ يَدْخُلُونَ فِي تَبْدِيلِ الْإِسْلَامِ . فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْعَمَلَ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الْعِدَّةِ أَوْ الْإِيلَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِالْهِلَالِ بِخَبَرِ الْحَاسِبِ أَنَّهُ يُرَى أَوْ لَا يُرَى لَا يَجُوزُ . وَالنُّصُوصُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ . وَقَدّ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ . وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ قَدِيمٌ أَصْلًا وَلَا خِلَافٌ حَدِيثٌ ؛ إلَّا أَنَّ
بَعْضَ
الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ الحادثين بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ
زَعَمَ أَنَّهُ إذَا غُمَّ الْهِلَالُ جَازَ لِلْحَاسِبِ أَنْ يَعْمَلَ فِي حَقِّ
نَفْسِهِ بِالْحِسَابِ فَإِنْ كَانَ الْحِسَابُ دَلَّ عَلَى الرُّؤْيَةِ صَامَ
وَإِلَّا فَلَا . وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِالْإِغْمَامِ
وَمُخْتَصًّا بِالْحَاسِبِ فَهُوَ شَاذٌّ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى
خِلَافِهِ . فَأَمَّا اتِّبَاعُ ذَلِكَ فِي الصَّحْوِ أَوْ تَعْلِيقُ عُمُومِ
الْحُكْمِ الْعَامِّ بِهِ فَمَا قَالَهُ مُسْلِمٌ . وَقَدْ يُقَارِبُ هَذَا قَوْلَ
مَنْ يَقُولُ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة بِالْعَدَدِ دُونَ الْهِلَالِ وَبَعْضُهُمْ
يَرْوِي عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ جَدْوَلًا يُعْمَلُ عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي
افْتَرَاهُ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ
خَارِجَةٌ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ بَرَّأَ اللَّهُ مِنْهَا جَعْفَرًا
وَغَيْرَهُ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُمْكِنُهُ مَعَ ظُهُورِ دِينِ
الْإِسْلَامِ أَنْ يُظْهِرَ الِاسْتِنَادَ إلَى ذَلِكَ . إلَّا أَنَّهُ قَدْ
يَكُونُ لَهُ عُمْدَةٌ فِي الْبَاطِنِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَرَدِّهَا وَقَدْ
يَكُونُ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فِي كَوْنِ الشَّرِيعَةِ لَمْ تُعَلِّقْ الْحُكْمَ بِهِ
.
وَأَنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أُبَيِّنُ ذَلِكَ وَأُوَضِّحُ مَا جَاءَتْ بِهِ
الشَّرِيعَةُ : دَلِيلًا وَتَعْلِيلًا شَرْعًا وَعَقْلًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }
فَأَخْبَرَ أَنَّهَا مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ
وَخَصَّ الْحَجَّ بِالذِّكْرِ تَمْيِيزًا لَهُ ؛ وَلِأَنَّ الْحَجَّ تَشْهَدُهُ
الْمَلَائِكَةُ وَغَيْرُهُمْ وَلِأَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ شُهُورِ الْحَوْلِ .
فَيَكُونُ عَلَمًا عَلَى الْحَوْلِ كَمَا أَنَّ الْهِلَالَ
عَلَمٌ عَلَى الشَّهْرِ وَلِهَذَا يُسَمُّونَ الْحَوْلَ حِجَّةً فَيَقُولُونَ : لَهُ سَبْعُونَ حِجَّةً وَأَقَمْنَا خَمْسَ حِجَجٍ . فَجَعَلَ اللَّهُ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ فِي الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً . أَوْ سَبَبًا مِنْ الْعِبَادَةِ . وَلِلْأَحْكَامِ الَّتِي تَثْبُتُ بِشُرُوطِ الْعَبْدِ . فَمَا ثَبَتَ مِنْ الْمُؤَقَّتَاتِ بِشَرْعٍ أَوْ شَرْطٍ فَالْهِلَالُ مِيقَاتٌ لَهُ وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَالْعِدَّةِ وَصَوْمُ الْكَفَّارَةِ . وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ فِي الْقُرْآنِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { شَهْرُ رَمَضَانَ } وَقَالَ تَعَالَى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } . وَكَذَلِكَ صَوْمُ النَّذْرِ وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ الشُّرُوطُ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالثَّمَنِ وَدَيْنُ السَّلَمِ وَالزَّكَاةُ وَالْجِزْيَةُ وَالْعَقْلُ وَالْخِيَارُ وَالْأَيْمَانُ وَأَجَلُ الصَّدَاقِ وَنُجُومُ الْكِتَابَةِ وَالصُّلْحُ عَنْ الْقِصَاصِ وَسَائِرُ مَا يُؤَجَّلُ مِنْ دَيْنٍ وَعَقْدٍ وَغَيْرِهِمَا . وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلَّا بِالْحَقِّ } فَقَوْلُهُ : { لِتَعْلَمُوا } مُتَعَلِّقٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِقَوْلِهِ : { وَقَدَّرَهُ } لَا بجعل . لِأَنَّ كَوْنَ هَذَا
ضِيَاءً . وَهَذَا نُورًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ ؛ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ انْتِقَالُهَا مِنْ بُرْجٍ إلَى بُرْجٍ . وَلِأَنَّ الشَّمْسَ لَمْ يُعَلَّقْ لَنَا بِهَا حِسَابُ شَهْرٍ وَلَا سَنَةٍ وَإِنَّمَا عُلِّقَ ذَلِكَ بِالْهِلَالِ . كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَةُ وَلِأَنَّهُ قَدْ قَالَ : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الشُّهُورَ مَعْدُودَةٌ اثْنَا عَشَرَ وَالشَّهْرُ هِلَالِيٌّ بِالِاضْطِرَارِ . فَعُلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَعْرُوفٌ بِالْهِلَالِ . وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الشَّرَائِعَ قَبْلَنَا أَيْضًا إنَّمَا عَلَّقَتْ الْأَحْكَامَ بِالْأَهِلَّةِ وَإِنَّمَا بَدَّلَ مَنْ بَدَّلَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْيَهُود فِي اجْتِمَاعِ الْقُرْصَيْنِ وَفِي جَعْلِ بَعْضِ أَعْيَادِهَا بِحِسَابِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ وَكَمَا تَفْعَلُهُ النَّصَارَى فِي صَوْمِهَا حَيْثُ تُرَاعِي الِاجْتِمَاعَ الْقَرِيبَ مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ وَتَجْعَلُ سَائِرَ أَعْيَادِهَا دَائِرَةً عَلَى السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ بِحَسَبِ الْحَوَادِثِ الَّتِي كَانَتْ لِلْمَسِيحِ وَكَمَا يَفْعَلُهُ الصَّابِئَةُ وَالْمَجُوسُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فِي اصْطِلَاحَاتٍ لَهُمْ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ بِالسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ فَقَطْ وَلَهُمْ اصْطِلَاحَاتٌ فِي عَدَدِ شُهُورِهَا ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ طَبِيعِيَّةً فَشَهْرُهَا عَدَدِيٌّ وَضْعِيٌّ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَبِرُ الْقَمَرِيَّةَ لَكِنْ يَعْتَبِرُ اجْتِمَاعَ الْقُرْصَيْنِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ أَكْمَلُ الْأُمُورِ وَأَحْسَنُهَا وَأَبْيَنُهَا وَأَصَحُّهَا وَأَبْعَدُهَا مِنْ الِاضْطِرَابِ .
وَذَلِكَ أَنَّ الْهِلَالَ أَمْرٌ مَشْهُودٌ مَرْئِيٌّ بِالْأَبْصَارِ . وَمِنْ أَصَحِّ الْمَعْلُومَاتِ مَا شُوهِدَ بِالْأَبْصَارِ وَلِهَذَا سَمَّوْهُ هِلَالًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ تَدُلُّ عَلَى الظُّهُورِ وَالْبَيَانِ : إمَّا سَمْعًا وَإِمَّا بَصَرًا كَمَا يُقَالُ : أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَأَهَلَّ بِالذَّبِيحَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ إذَا رَفَعَ صَوْتَهُ وَيُقَالُ لِوَقْعِ الْمَطَرِ الْهَلَلُ . وَيُقَالُ : اسْتَهَلَّ الْجَنِينُ إذَا خَرَجَ صَارِخًا . وَيُقَالُ : تَهَلَّلَ وَجْهُهُ إذَا اسْتَنَارَ وَأَضَاءَ . وَقِيلَ : إنَّ أَصْلَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ . ثُمَّ لَمَّا كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ سَمَّوْهُ هِلَالًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ : يُهِلُّ بِالْفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرُ وَتَهَلُّلُ الْوَجْهِ مَأْخُوذٌ مِنْ اسْتِنَارَةِ الْهِلَالِ . فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَوَاقِيتَ حُدِّدَتْ بِأَمْرِ ظَاهِرٍ بَيِّنٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ وَلَا يَشْرَكُ الْهِلَالَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ الَّذِي هُوَ تَحَاذِيهِمَا الْكَائِنُ قَبْلَ الْهِلَالِ : أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِحِسَابٍ يَنْفَرِدُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ مَعَ تَعَبٍ وَتَضْيِيعِ زَمَانٍ كَثِيرٍ وَاشْتِغَالٍ عَمَّا يَعْنِي النَّاسَ وَمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَرُبَّمَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ وَالِاخْتِلَافُ .
وَكَذَلِكَ كَوْنُ الشَّمْسِ حَاذَتْ الْبُرْجَ الْفُلَانِيَّ أَوْ الْفُلَانِيَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُدْرَكُ بِالْأَبْصَارِ . وَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالْحِسَابِ الْخَفِيِّ الْخَاصِّ الْمُشْكِلِ الَّذِي قَدْ يُغْلَطُ فِيهِ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالْإِحْسَاسِ تَقْرِيبًا . فَإِنَّهُ إذَا انْصَرَمَ الشِّتَاءُ وَدَخَلَ الْفَصْلُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الصَّيْفَ وَيُسَمِّيهِ النَّاسُ الرَّبِيعَ : كَانَ وَقْتُ حُصُولِ الشَّمْسِ فِي نُقْطَةِ الِاعْتِدَالِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْحَمَلِ . وَكَذَلِكَ مِثْلُهُ فِي الْخَرِيفِ . فَاَلَّذِي يُدْرَكُ بِالْإِحْسَاسِ الشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِاعْتِدَالَيْنِ تَقْرِيبًا . فَأَمَّا حُصُولُهَا فِي بُرْجٍ بَعْدَ بُرْجٍ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِحِسَابٍ فِيهِ كُلْفَةٌ وَشُغْلٌ عَنْ غَيْرِهِ مَعَ قِلَّةِ جَدْوَاهُ . فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوَاقِيتِ حَدٌّ ظَاهِرٌ عَامُّ الْمَعْرِفَةِ إلَّا الْهِلَالُ . وَقَدْ انْقَسَمَتْ عَادَاتُ الْأُمَمِ فِي شَهْرِهِمْ وَسَنَتِهِمْ الْقِسْمَةَ الْعَقْلِيَّةِ . وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ : إمَّا أَنْ يَكُونَا عَدَدِيَّيْنِ أَوْ طَبِيعِيَّيْنِ . أَوْ الشَّهْرُ طَبِيعِيًّا وَالسَّنَةُ عَدَدِيَّةً أَوْ بِالْعَكْسِ . فَاَلَّذِينَ يَعُدُّونَهُمَا : مِثْلُ مَنْ يَجْعَلُ الشَّهْرَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَالسَّنَةَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا . وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَهُمَا طَبِيعِيَّيْنِ . مِثْلُ مَنْ يَجْعَلُ الشَّهْرَ قَمَرِيًّا وَالسَّنَةَ شَمْسِيَّةً . وَيُلْحِقُ فِي آخِرِ الشُّهُورِ الْأَيَّامَ الْمُتَفَاوِتَةَ بَيْنَ
السَّنَتَيْنِ . فَإِنَّ السَّنَةَ الْقَمَرِيَّةَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا . وَبَعْضُ يَوْمٍ خُمُسٌ أَوْ سُدْسٌ . وَإِنَّمَا يُقَالُ فِيهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا جَبْرًا لِلْكَسْرِ فِي الْعَادَةِ - عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَكْمِيلِ مَا يَنْقُصُ مِنْ التَّارِيخِ فِي الْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَالْحَوْلِ . وَأَمَّا الشَّمْسِيَّةُ فَثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا وَبَعْضُ يَوْمٍ : رُبْعُ يَوْمٍ . وَلِهَذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا إلَّا قَلِيلًا : تَكُونُ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَثُلْثِ سَنَةٍ : سَنَةٌ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } قِيلَ : مَعْنَاهُ ثَلَاثُمِائَةٍ سَنَةً شَمْسِيَّةً . { وَازْدَادُوا تِسْعًا } بِحِسَابِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ وَمُرَاعَاةُ هَذَيْنِ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْأُمَمِ : مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ بِسَبَبِ تَحْرِيفِهِمْ وَأَظُنُّهُ كَانَ عَادَةَ الْمَجُوسِ أَيْضًا . وَأَمَّا مَنْ يَجْعَلُ السَّنَةَ طَبِيعِيَّةً وَالشَّهْرَ عَدَدِيًّا . فَهَذَا حِسَابُ الرُّومِ وَالسُّرْيَانِيِّين وَالْقِبْطِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ . مِمَّنْ يَعُدُّ شَهْرَ كَانُونَ وَنَحْوَهُ عَدَدًا وَيَعْتَبِرُ السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ بِسَيْرِ الشَّمْسِ . فَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَبِأَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ طَبِيعِيًّا وَالسَّنَةُ عَدَدِيَّةً فَهُوَ سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ . ثُمَّ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ السَّنَةَ طَبِيعِيَّةً لَا يَعْتَمِدُونَ
عَلَى أَمْرٍ ظَاهِرٍ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْحِسَابِ وَالْعَدَدِ . وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الشَّهْرَ طَبِيعِيًّا . وَيَعْتَمِدُونَ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لَا بُدَّ مِنْ الْعَدَدِ وَالْحِسَابِ . ثُمَّ مَا يَحْسِبُونَهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ يَنْفَرِدُ بِهِ الْقَلِيلُ مِنْ النَّاسِ مَعَ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ وَتَعَرُّضٍ لِلْخَطَأِ . فَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ شَرِيعَتُنَا أَكْمَلُ الْأُمُورِ ؛ لِأَنَّهُ وَقَّتَ الشَّهْرَ بِأَمْرِ طَبِيعِيٍّ ظَاهِرٍ عَامٍّ يُدْرَكُ بِالْأَبْصَارِ فَلَا يَضِلُّ أَحَدٌ عَنْ دِينِهِ وَلَا يَشْغَلُهُ مُرَاعَاتُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِهِ وَلَا يَدْخُلُ بِسَبَبِهِ فِيمَا لَا يَعْنِيه وَلَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى التَّلْبِيسِ فِي دِينِ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْمِلَلِ بِمِلَلِهِمْ . وَأَمَّا الْحَوْلُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ ظَاهِرٌ فِي السَّمَاءِ فَكَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْحِسَابِ وَالْعَدَدِ فَكَانَ عَدَدُ الشُّهُورِ الْهِلَالِيَّةِ أَظْهَرَ وَأَعَمَّ مِنْ أَنْ يُحْسَبَ بِسَيْرِ الشَّمْسِ وَتَكُونُ السَّنَةُ مُطَابِقَةً لِلشُّهُورِ ؛ وَلِأَنَّ السِّنِينَ إذَا اجْتَمَعَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ عَدَدِهَا فِي عَادَةِ جَمِيعِ الْأُمَمِ ؛ إذْ لَيْسَ لِلسِّنَّيْنِ إذَا تَعَدَّدَتْ حَدٌّ سَمَاوِيٌّ يُعْرَفُ بِهِ عَدَدُهَا فَكَانَ عَدَدُ الشُّهُورِ مُوَافِقًا لِعَدَدِ الْبُرُوجِ جُعِلَتْ السَّنَةُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِعَدَدِ الْبُرُوجِ الَّتِي تَكْمُلُ بِدَوْرِ الشَّمْسِ فِيهَا سَنَةً شَمْسِيَّةً فَإِذَا دَارَ الْقَمَرُ فِيهَا كَمَّلَ دَوْرَتَهُ السَّنَوِيَّةَ . وَبِهَذَا كُلِّهِ يَتَبَيَّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسَابَ } فَإِنَّ عَدَدَ شُهُورِ السَّنَةِ وَعَدَدَ السَّنَةِ بَعْدَ السَّنَةِ إنَّمَا أَصْلُهُ بِتَقْدِيرِ الْقَمَرِ مَنَازِلَ . وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْحِسَابِ ؛ فَإِنَّ حِسَابَ بَعْضِ الشُّهُورِ لِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ الْآجَالِ وَنَحْوِهَا إنَّمَا يَكُونُ بِالْهِلَالِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } . فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ بِالْهِلَالِ يَكُونُ تَوْقِيتُ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يَقُومُ مَقَامَ الْهِلَالِ أَلْبَتَّةَ لِظُهُورِهِ وَظُهُورِ الْعَدَدِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ وَتَيَسُّرِ ذَلِكَ وَعُمُومِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْمَفَاسِدِ . وَمَنْ عَرَفَ مَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ فِي أَعْيَادِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَتَوَارِيخِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ مِنْ الِاضْطِرَابِ وَالْحَرَجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ : ازْدَادَ شُكْرُهُ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يَشْرَعُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ أَدْخَلُوا فِي مِلَّتِهِمْ وَشَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . فَلِهَذَا ذَكَرْنَا مَا ذَكَرْنَاهُ حِفْظًا لِهَذَا الدِّينِ عَنْ إدْخَالِ الْمُفْسِدِينَ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُخَافُ تَغْيِيرُهُ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا قَدْ غَيَّرَتْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ بِالنَّسِيءِ الَّذِي ابْتَدَعَتْهُ فَزَادَتْ بِهِ فِي السَّنَةِ شَهْرًا جَعَلَتْهَا كَبِيسًا ؛ لِأَغْرَاضِ لَهُمْ .
وَغَيَّرُوا بِهِ مِيقَاتَ الْحَجِّ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ حَتَّى كَانُوا يَحُجُّونَ تَارَةً فِي الْمُحَرَّمِ وَتَارَةً فِي صَفَرٍ . حَتَّى يَعُودَ الْحَجُّ إلَى ذِي الْحِجَّةِ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ الْمُقِيمُ لِمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَوَافَى حَجُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِجَّةَ الْوَدَاعِ وَقَدْ اسْتَدَارَ الزَّمَانُ كَمَا كَانَ وَوَقَعَتْ حِجَّتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا : { إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ : السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَمَحْرَمٌ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ } وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ الْحَجُّ لَا يَقَعُ فِي ذِي الْحِجَّةِ حَتَّى حِجَّةِ أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ . وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ تَأْخِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ . وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } . فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا هُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ؛ لِيُبَيِّنَ أَنَّ مَا سِوَاهُ مِنْ أَمْرِ النَّسِيءِ وَغَيْرِهِ مِنْ عَادَاتِ الْأُمَمِ لَيْسَ قَيِّمًا ؛ لِمَا يَدْخُلُهُ مِنْ الِانْحِرَافِ وَالِاضْطِرَابِ . وَنَظِيرُ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ الْيَوْمُ وَالْأُسْبُوعُ . فَإِنَّ الْيَوْمَ طَبِيعِيٌّ مِنْ طُلُوعِ
الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِهَا . وَأَمَّا الْأُسْبُوعُ فَهُوَ عَدَدِيٌّ مِنْ أَجْلِ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ : الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ . فَوَقَعَ التَّعْدِيلُ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ : بِالْيَوْمِ وَالْأُسْبُوعِ بِسَيْرِ الشَّمْسِ . وَالشَّهْرُ وَالسَّنَةُ : بِسَيْرِ الْقَمَرِ وَبِهِمَا يَتِمُّ الْحِسَابُ . وَبِهَذَا قَدْ يَتَوَجَّهُ قَوْلُهُ : { لِتَعْلَمُوا } إلَى { جَعَلَ } فَيَكُونُ جَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لِهَذَا كُلِّهِ . فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } وَقَوْلُهُ : { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } فَقَدْ قِيلَ : هُوَ مِنْ الْحِسَابِ . وَقِيلَ : بِحُسْبَانٍ كَحُسْبَانِ الرَّحَا . وَهُوَ دَوَرَانُ الْفَلَكِ . فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَلْ قَدْ دَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّةُ وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى مَثَلِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ أَهْلِ الْحِسَابِ مِنْ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ لَا مُسَطَّحَةٌ .
فَصْلٌ
:
لَمَّا ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَوْدُ الْمَوَاقِيتِ إلَى الْأَهِلَّةِ . وَجَبَ
أَنْ يَكُونَ الْمَوَاقِيتُ كُلُّهَا مُعَلَّقَةً بِهَا . فَلَا خِلَافَ بَيْنِ
الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَبْدَأُ الْحُكْمِ فِي الْهِلَالِ حُسِبَتْ
الشُّهُورُ كُلُّهَا هِلَالِيَّةً : مِثْلُ أَنْ يَصُومَ لِلْكَفَّارَةِ فِي هِلَالِ
الْمُحَرَّمِ أَوْ يَتَوَفَّى زَوْجُ الْمَرْأَةِ فِي هِلَالِ الْمُحَرَّمِ أَوْ
يُولِيَ مِنْ امْرَأَتِهِ فِي هِلَالِ الْمُحَرَّمِ أَوْ يَبِيعَهُ فِي هِلَالِ
الْمُحَرَّمِ إلَى شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ . فَإِنَّ جَمِيعَ الشُّهُورِ
تُحْسَبُ بِالْأَهِلَّةِ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَوْ جَمِيعُهَا نَاقِصًا .
فَأَمَّا إنْ وَقَعَ مَبْدَأُ الْحُكْمِ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ . فَقَدْ قِيلَ :
تُحْسَبُ الشُّهُورُ كُلُّهَا بِالْعَدَدِ بِحَيْثُ لَوْ بَاعَهُ إلَى سَنَةٍ فِي
أَثْنَاءِ الْمُحَرَّمِ عَدَّ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا وَإِنْ كَانَ
إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ عَدَّ مِائَةً وَثَمَانِينَ يَوْمًا فَإِذَا كَانَ
الْمُبْتَدَأُ مُنْتَصَفَ الْمُحَرَّمِ كَانَ الْمُنْتَهَى الْعِشْرِينَ مِنْ
الْمُحَرَّمِ . وَقِيلَ : بَلْ يُكْمِلُ الشَّهْرَ بِالْعَدَدِ وَالْبَاقِيَ بِالْأَهِلَّةِ
. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَبَعْضُ
الْفُقَهَاءِ يُفَرِّقُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ .
ثُمَّ لِهَذَا الْقَوْلِ تَفْسِيرَانِ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجْعَلُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَبَاقِيَ الشُّهُورِ هِلَالِيَّةً . فَإِذَا كَانَ الْإِيلَاءُ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ حَسَبَ بَاقِيَهُ . فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا أَخَذَ مِنْهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَكَمَّلَهُ بستة عَشَرَ يَوْمًا مِنْ جُمَادَى الْأُولَى . وَهَذَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ . وَالتَّفْسِيرُ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ كَامِلًا كَمُلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا جُعِلَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا . فَمَتَى كَانَ الْإِيلَاءُ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ كَمُلَتْ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ فِي مُنْتَصَفِ جُمَادَى الْأُولَى . وَهَكَذَا سَائِرُ الْحِسَابِ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْجَمِيعُ بِالْهِلَالِ وَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ نَقُولَ بِالْعَدَدِ بَلْ نَنْظُرُ الْيَوْمَ الَّذِي هُوَ الْمَبْدَأُ مِنْ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ . فَتَكُونُ النِّهَايَةُ مِثْلَهُ مِنْ الشَّهْرِ الْآخَرِ . فَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ كَانَتْ النِّهَايَةُ فِي مِثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ بَعْدَ كَمَالِ الشُّهُورِ وَهُوَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ بَعْدَ انْسِلَاخِ الشُّهُورِ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ الْمُحَرَّمِ كَانَتْ النِّهَايَةُ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ الْمُحَرَّمِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى قَدْرِ الشُّهُورِ الْمَحْسُوبَةِ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ . وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } فَجَعَلَهَا مَوَاقِيتَ لِجَمِيعِ النَّاسِ مَعَ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِي أَثْنَاءِ الشُّهُورِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يَقَعُ فِي أَوَائِلهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِيقَاتًا إلَّا لِمَا
يَقَعُ فِي أَوَّلِهَا لَمَا كَانَتْ مِيقَاتًا إلَّا لِأَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ عُشْرِ أُمُورِ النَّاسِ . وَلِأَنَّ الشَّهْرَ إذَا كَانَ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ : فَمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ مِثْلُ مَا بَيْنَ نِصْفِ هَذَا وَنِصْفِ هَذَا سَوَاءٌ وَالتَّسْوِيَةُ مَعْلُومَةٌ بِالِاضْطِرَارِ . وَالْفَرْقُ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ . وَأَيْضًا فَمَنْ الَّذِي جَعَلَ الشَّهْرَ الْعَدَدِيَّ ثَلَاثِينَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَّسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ } وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ نِصْفَ شُهُورِ السَّنَةِ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَنِصْفَهَا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَأَيْضًا فَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ إذَا أَجَّلَ الْحَقَّ إلَى سَنَةٍ . فَإِنْ كَانَ مَبْدَؤُهُ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ كَانَ مُنْتَهَاهُ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ سَلْخَ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَهُمْ . وَإِنْ كَانَ مَبْدَؤُهُ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ كَانَ مُنْتَهَاهُ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ أَيْضًا . لَا يَعْرِفُ الْمُسْلِمُونَ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ وَلَا يَبْنُونَ إلَّا عَلَيْهِ وَمَنْ أَخَذَ لِيَزِيدَ يَوْمًا لِنُقْصَانِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ كَانَ قَدْ غَيَّرَ عَلَيْهِمْ مَا فُطِرُوا عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ وَأَتَاهُمْ بِمُنْكَرِ لَا يَعْرِفُونَهُ . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ مِمَّنْ تَوَهَّمَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَنَبَّهْنَا عَلَيْهِ لِيُحْذَرَ الْوُقُوعُ فِيهِ وَلِيُعْلَمَ بِهِ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } وَأَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَحْفُوظٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْءٌ .
وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا
وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ
اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ
رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } يُبَيِّنُ بِذَلِكَ
أَنَّ جَمِيعَ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ تَابِعٌ لِتَقْدِيرِهِ مَنَازِلَ .
فَصْلٌ :
مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْأَحْكَامَ مِثْلَ صِيَامِ رَمَضَانَ مُتَعَلِّقَةٌ
بِالْأَهِلَّةِ لَا رَيْبَ فِيهِ . لَكِنْ الطَّرِيقُ إلَى مَعْرِفَةِ طُلُوعِ
الْهِلَالِ هُوَ الرُّؤْيَةُ ؛ لَا غَيْرُهَا : بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ . أَمَّا
السَّمْعُ : فَقَدْ أَخْبَرَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ المقدسي وَأَبُو الْغَنَائِمِ
الْمُسْلِمُ بْنُ عُثْمَانَ الْقَيْسِيُّ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا : أَنْبَأَنَا
حَنْبَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُؤَذِّنُ أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ
الْمُذْهِبِ أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ
أَحْمَد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ أَنْبَأَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ . وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تَمَامَ الثَّلَاثِينَ } . وَقَالَ أَحْمَد : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ وَإِسْحَاقَ يَعْنِي الْأَزْرَقَ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ . الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي ذَكَرَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ قَالَ إسْحَاقُ : وَطَبَّقَ بِيَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَخَنَّسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ آدَمَ عَنْ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ } . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَّسَ سُلَيْمَانُ أُصْبُعَهُ فِي الثَّالِثَةِ يَعْنِي تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ } . رَوَاهُ
النَّسَائِي مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ . كَمَا ذَكَرْنَاهُ . وَمِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ أَيْضًا كَمَا سُقْنَاهُ وَقَالَ فِي آخِرِهِ تَمَامُ الثَّلَاثِينَ . وَلَمْ يَقُلْ : يَعْنِي . فَرِوَايَتُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُسْنَدِ كَمَا سُقْنَاهُ أَجَلُّ الطُّرُقِ وَأَرْفَعُهَا قَدْرًا ؛ إذْ غُنْدَرٌ أَرْفَعُ مِنْ كُلِّ مَنْ رَوَاهُ عَنْ شُعْبَةَ وَأَضْبَطُ لِحَدِيثِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَد أَجَلُّ مَنْ رَوَاهُ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمُسْنَدَةُ الَّتِي رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ تُفَسِّرُ رِوَايَةَ الْثَوْرِي وَسَائِرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِمَّا فِيهِ إجْمَالٌ يُوهَمُ بِسَبَبِهِ عَلَى ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ مَا رَوَيْنَاهُ بِالطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ أَحْمَد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَبَهْزٌ قَالَا : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جبلة يَقُولُ لَنَا ابْنُ سحيم : قَالَ بَهْزٌ : أَخْبَرَنِي جبلة بْنُ سحيم سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّهْرُ هَكَذَا وَطَبَّقَ بِأَصَابِعِهِ مَرَّتَيْنِ وَكَسَرَ فِي الثَّالِثَةِ الْإِبْهَامَ . } قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ فِي حَدِيثِهِ يَعْنِي قَوْلَهُ : " تِسْعًا وَعِشْرِينَ " . هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ : { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَّسَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ } . وَمِثْلُ مَا رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ كَمَا رَوَيْنَاهُ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ إلَى أَحْمَد : حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ أَنْبَأَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ } قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إذَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ يَبْعَثُ مَنْ يَنْظُرُ
فَإِنْ رُئِيَ فَذَاكَ فَإِنْ لَمْ يُرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا . وَرَوَيْنَاهُ . فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : أَنْبَأَنَا أَيُّوبُ هَكَذَا سَوَاءً . وَلَفْظُهُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } قَالَ فِي آخِرِهِ : فَكَانَ ابْنِ عُمَرَ إذَا كَانَ شَعْبَانُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ نُظِرَ لَهُ فَإِنْ رُئِيَ فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يُرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا قَالَ فَكَانَ ابْنِ عُمَرَ يُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ وَلَا يَأْخُذُ بِهَذَا الْحِسَابِ وَرِوَى لَهُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } وَبِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ سَحَابٌ أَصْبَحَ صَائِمًا . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَحَابٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا . قَالَ : وَأَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طاوس عَنْ أَبِيهِ مِثْلَهُ وَهَكَذَا رَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ كَمَا رَوَيْنَاهُ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ إلَى أَحْمَد : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : إذَا كَانَ لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ . وَكَانَ فِي السَّمَاءِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا . رَوَاهُ النَّسَائِي عَنْ عُمَرَو بْنُ عَلِيٍّ عَنْ يَحْيَى . وَلَفْظُهُ : { لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ ،
فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ } وَذَكَرَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { قَالَ : ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهِلَالَ فَقَالَ : إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ } وَجَعَلَ هَذَا اخْتِلَافًا عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ . وَمِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ لَا يَقْدَحُ إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ فَإِنَّ الْحُفَّاظَ كَالزُّهْرِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ وَنَحْوِهِمَا يَكُونُ الْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ وَثَلَاثَةٍ أَوْ أَكْثَرَ . فَتَارَةً يُحَدِّثُونَ بِهِ مِنْ وَجْهٍ وَتَارَةً يُحَدِّثُونَ بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا . وَيُظْهِرُ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ الرُّوَاةِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْخَيْنِ أَوْ يَذْكُرُ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ذَكَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَقَالَ : لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ } لَمْ يَذْكُرْ فِي أَوَّلِهِ قَوْلَهُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } وَلَا ذَكَرَ الزِّيَادَةَ عَلَى عَادَتِهِ فِي أَنَّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يَتْرُكُ التَّحْدِيثَ بِمَا لَا يُعْمَلُ بِهِ عِنْدَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } فَرَوَاهَا مَالِكٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَرَوَاهَا مِنْ طَرِيقِهِ الْبُخَارِيُّ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسلمة وَهُوَ القعنبي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ } هَكَذَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظُ مُخْتَصَرًا فِي الْبُخَارِيِّ . وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ القعنبي عَنْ مَالِكٍ . وَهُوَ نَاقِصٌ . فَإِنَّ الَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ : " يَوْمًا " لِأَنَّ القعنبي لَفْظُهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ . فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ } فَذَكَرَ قَوْلَهُ : { وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ } وَذَكَرَهُ بِلَفْظَةِ { فَاقْدُرُوا لَهُ } لَا بِلَفْظِ { فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ } وَهَكَذَا فِي سَائِر الْمُوَطَّآتِ مَسْبُوقٌ بِذِكْرِ الْجُمْلَتَيْنِ . وَلَفْظُ " الْقَدْر " حَتَّى قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَمْ يُخْتَلَفْ عَنْ نَافِعٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ : { فَاقْدُرُوا لَهُ } قَالَ : وَكَذَلِكَ رَوَى سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : وَرَوَاهُ الدراوردي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ فَقَالَ فِيهِ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } فَهَذِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ نَقْصٌ وَرِوَايَةٌ بِالْمَعْنَى وَقَعَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ كَمَا ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي لَفْظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ الْمُشْعِرُ بِالْحَصْرِ مَا رَوَيْنَاهُ أَيْضًا بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ إلَى
أَحْمَد : حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا شيبان عَنْ يَحْيَى أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ : قَالَ : سَمِعْت { ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } وَرَوَاهُ النَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ عَنْ يَحْيَى هَكَذَا . وَسَاقَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشَّهْرُ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَيَكُونُ ثَلَاثِينَ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ } وَجَعَلَ النَّسَائِي هَذَا اخْتِلَافًا عَلَى يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ . وَالصَّوَابُ أَنَّ كِلَيْهِمَا مَحْفُوظٌ عَنْ يَحْيَى . عَنْ أَبِي سَلَمَةَ لَا اخْتِلَافَ فِي اللَّفْظِ . وَقَالَ أَحْمَد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ . حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ حريث سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ وَطَبَّقَ شُعْبَةُ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَكَسَرَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ عُقْبَةُ وَأَحْسَبُهُ قَالَ : الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ وَطَبَّقَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } وَرَوَاهُ النَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُثَنَّى عَنْ غُنْدُرٍ ؛ لَكِنْ لَفْظُهُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } لَمْ يَزِدْ . فَرِوَايَةُ أَحْمَد أَكْمَلُ وَأَحْسَنُ سِيَاقًا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الرِّوَايَةَ الْمُفَسِّرَةَ تُبَيِّنُ أَنَّ سَائِر رِوَايَاتِ ابْنِ عُمَرَ الَّتِي فِيهَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ عُنِيَ بِهَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ : أَمَّا أَنَّ الشَّهْرَ
قَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ رَدًّا عَلَى مَنْ يَتَّهِمُ أَنَّ الشَّهْرَ الْمُطْلَقَ هُوَ ثَلَاثُونَ كَمَا تَوَهَّمَ مَنْ تَوَهَّمَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الشَّهْرِ الْعَدَدِيِّ فَيَجْعَلُونَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِكُلِّ حَالٍ وَعَارَضَهُمْ قَوْمٌ فَقَالُوا : الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَالْيَوْمُ الْآخِرُ زِيَادَةٌ . وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا } يَعْنِي : مَرَّةً ثَلَاثِينَ وَمَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ فَمَنْ جَزَمَ بِكَوْنِهِ ثَلَاثِينَ أَوْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ فَقَدْ أَخْطَأَ . وَالْمَعْنَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّ عَدَدَ الشَّهْرِ اللَّازِمَ الدَّائِمَ هُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَأَمَّا الزَّائِدُ فَأَمْرٌ جَائِزٌ يَكُونُ فِي بَعْضِ الشُّهُورِ وَلَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التِّسْعَةَ وَالْعِشْرِينَ يَجِبُ عَدَدُهَا وَاعْتِبَارُهَا بِكُلِّ حَالٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَا يُشْرَعُ الصَّوْمُ بِحَالِ حَتَّى يَمْضِيَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ شَعْبَانَ وَلَا بُدَّ أَنْ يُصَامَ فِي رَمَضَانَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ ؛ لَا يُصَامُ أَقَلُّ مِنْهَا بِحَالِ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يُفَسَّرُ بِهِ رِوَايَةُ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ : { إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ . فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ } أَيْ إنَّمَا الشَّهْرُ اللَّازِمُ الدَّائِمُ الْوَاجِبُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ . وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ
هَذَا اللَّفْظُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَصْرِ . وَقَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ إشَارَةً إلَى شَهْرٍ بِعَيْنِهِ لَا إلَى جِنْسِ الشَّهْرِ : أَيْ إنَّمَا ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ كَأَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي آلَى فِيهِ مِنْ أَزْوَاجِهِ لَكِنْ هَذَا يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ عَقِبَهُ : { فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ . فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَقْدِرُوا لَهُ } فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا لِبَيَانِ الشَّرْعِ الْعَامِّ الْمُتَعَلِّقِ بِجِنْسِ الشَّهْرِ لَا لِشَهْرِ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا لِأَجْلِ الصَّوْمِ . فَلَوْ أَرَادَ شَهْرًا بِعَيْنِهِ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ لَكَانَ إذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ الْغَمِّ وَعَدَمِهِ وَلَمْ يَقُلْ : { فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ } وَلِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا وَقَدْ رُئِيَ هِلَالُ الصَّوْمِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يُقَالُ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ } . وَلِذَلِكَ حَمَلَ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَد قَوْلَهُ الْمُطْلَقَ عَلَى أَنَّهُ لِجِنْسِ الشَّهْرِ لَا لِشَهْرِ مُعَيَّنٍ . وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ . قَالَ حَنْبَلُ بْنُ إسْحَاقَ : حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ حميد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قُلْت لِيَحْيَى : الَّذِينَ يَقُولُونَ الملائي قَالَ : نَعَمْ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ : صُمْنَا عَلَى عَهْدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ فَأَمَرَنَا عَلِيٍّ أَنْ نُتِمَّهَا يَوْمًا . أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقُولُ : الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الشَّهْرِ ؛ لِأَنَّ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَمَنْ صَامَ هَذَا الصَّوْمَ قَضَى يَوْمًا وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ . وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ يَتَبَيَّنُ الْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ فِي هَذَا قَالَتْ . يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ { وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا فَنَزَلَ لِتِسْعِ وَعِشْرِينَ . فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ : إنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ } فَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَدَّتْ مَا أَفْهَمُوهَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَوْ مَا فَهِمَتْهُ هِيَ مِنْ أَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ إلَّا تِسْعًا وَعِشْرِينَ . وَابْنِ عُمَرَ لَمْ يَرُدَّ هَذَا بَلْ قَدْ ذَكَرْنَا عَنْهُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ . بِأَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ . فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ ابْنِ عُمَرَ رَوَى أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تَارَةً كَذَلِكَ وَتَارَةً كَذَلِكَ . وَمَا رَوَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ أَيْضًا : مِنْ أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّهْرَ اللَّازِمَ الدَّائِمَ الْوَاجِبَ هُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ الشَّيْءَ فِي صِيَغِ الْحَصْرِ أَوْ غَيْرِهَا تَارَةً لِانْتِفَاءِ ذَاتِهِ . وَتَارَةً لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ وَمَقْصُودِهِ . وَيَحْصُرُونَ الشَّيْءَ فِي غَيْرِهِ : تَارَةً لِانْحِصَارِ جَمِيعِ الْجِنْسِ مِنْهُ . وَتَارَةً لِانْحِصَارِ الْمُفِيدِ أَوْ الْكَامِلِ فِيهِ . ثُمَّ إنَّهُمْ تَارَةً
يُعِيدُونَ النَّفْيَ إلَى الْمُسَمَّى . وَتَارَةً يُعِيدُونَ النَّفْيَ إلَى الِاسْمِ . وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي اللُّغَةِ ؛ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْحَقِيقِيُّ بِالِاسْمِ مُنْتَفِيًا عَنْهُ ثَابِتًا لِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } فَنَفَى عَنْهُمْ مُسَمَّى الشَّيْءِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ شَامِلٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ ؛ لَمَّا كَانَ مَا لَا يُفِيدُ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ يَئُولُ إلَى الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ الْعَدَمُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ . بَلْ مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا مِنْ الْمَعْدُومِ الْمُسْتَمِرِّ عَدَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ . فَمَنْ قَالَ الْكَذِبَ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا . وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمَا يَنْفَعُهُ فَلَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْكُهَّانِ قَالَ . " لَيْسُوا بِشَيْءِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَاسٍ مِنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ : لَيْسُوا بِشَيْءِ } وَيَقُولُ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ لَيْسَ بِشَيْءِ أَوْ عَنْ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ بِشَيْءِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ ؛ لِظُهُورِ كَذِبِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً . وَيُقَالُ أَيْضًا لِمَنْ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْأَخْلَاقِ وَنَحْوِهَا : هَذَا لَيْسَ بِآدَمِيِّ وَلَا إنْسَانٍ مَا فِيهِ إنْسَانِيَّةٌ وَلَا مُرُوءَةٌ هَذَا حِمَارٌ ؛ أَوْ كَلْبٌ كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ اتَّصَفَ بِمَا هُوَ
فَوْقَهُ مِنْ حُدُودِ الْإِنْسَانِيَّةِ . كَمَا قُلْنَ لِيُوسُفَ : { مَا هَذَا بَشَرًا إنْ هَذَا إلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } . وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ إنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إلْحَافًا } وَقَالَ : { مَا تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : الَّذِي لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا دِينَارَ فَقَالَ : لَيْسَ ذَلِكَ إنَّمَا الْمُفْلِسُ الَّذِي يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الْحَدِيثَ . وَقَالَ : { مَا تُعِدُّونَ الرَّقُوبَ ؟ } الْحَدِيثَ . فَهَذَا نَفْيٌ لِحَقِيقَةِ الِاسْمِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ اعْتِبَارُهُ : بِاعْتِبَارِ أَنَّ الرَّقُوبَ وَالْمُفْلِسَ إنَّمَا قُيِّدَ بِهَذَا الِاسْمِ لَمَّا عَدِمَ الْمَالَ وَالْوَلَدَ وَالنُّفُوسُ تَجْزَعُ مِنْ ذَلِكَ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَدَمَ ذَلِكَ حَيْثُ يَضُرُّهُ عَدَمُهُ هُوَ أَحَقُّ بِهَذَا الِاسْمِ مِمَّنْ يَعْدَمُهُ حَيْثُ قَدْ لَا يَضُرُّهُ ضَرَرًا لَهُ اعْتِبَارٌ . وَمَثَّالُ هَذَا أَنْ يُقَالَ لِمَنْ يَتَأَلَّمُ أَلَمًا يَسِيرًا لَيْسَ هَذَا بِأَلَمِ إنَّمَا الْأَلَمُ كَذَا وَكَذَا وَلِمَنْ يَرَى أَنَّهُ غَنِيٌّ لَيْسَ هَذَا بِغَنِيِّ إنَّمَا الْغَنِيُّ فُلَانٌ . وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْعَالَمِ وَالزَّاهِدِ . كَقَوْلِهِمْ إنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى .
وَكَقَوْلِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ النَّاسُ يَقُولُونَ : مَالِكٌ زَاهِدٌ إنَّمَا الزَّاهِدُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَّذِي أَتَتْهُ الدُّنْيَا فَتَرَكَهَا . وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا تَكُونُ الْقُلُوبُ تُعَظِّمُهُ لِذَلِكَ الْمُسَمَّى اعْتِقَادًا وَاقْتِصَادًا : إمَّا طَلَبًا لِوُجُودِهِ وَإِمَّا طَلَبًا لِعَدَمِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلِاسْمِ فَيُبَيِّنُ لَهَا أَنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثَابِتَةٌ لِغَيْرِهِ دُونَهُ عَلَى وَجْهٍ يَنْبَغِي تَعْلِيقُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ وَالِاقْتِصَادِ بِذَلِكَ الْغَيْرِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ } وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } إلَى قَوْلِهِ { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } فَهَؤُلَاءِ الْمُسْتَحِقُّونَ لِهَذَا الِاسْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْوَاجِبَةِ لَهُمْ . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لَا عِلْمَ إلَّا مَا نَفَعَ وَلَا مَدِينَةَ إلَّا بِمُلْكِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ } أَوْ { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } . فَإِنَّمَا الرِّبَا الْعَامُّ الشَّامِلُ لِلْجِنْسَيْنِ وَلِلْجِنْسِ الْوَاحِدِ الْمُتَّفِقَةِ صِفَاتُهُ إنَّمَا يَكُونُ فِي النَّسِيئَةِ . وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَلَا يَكُونُ إلَّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَلَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ إلَّا إذَا اخْتَلَفَتْ الصِّفَاتُ . كَالْمَضْرُوبِ بِالتِّبْرِ وَالْجِيدِ بِالرَّدِيءِ فَإِمَّا إذَا اسْتَوَتْ الصِّفَاتُ
فَلَيْسَ أَحَدٌ يَبِيعُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ . وَلِهَذَا شُرِعَ الْقَرْضُ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ التَّبَرُّعِ . فَلَمَّا كَانَ غَالِبُ الرِّبَا وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَوَّلًا وَهُوَ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ وَهُوَ رِبَا النَّسَاءِ : قِيلَ إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ . وَأَيْضًا رِبَا الْفَضْلِ إنَّمَا حُرِّمَ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى رِبَا النَّسِيئَةِ فَالرِّبَا الْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ رِبَا النَّسِيئَةِ فَلَا رِبَا إلَّا فِيهِ وَأَظْهَرُ مَا تَبَيَّنَ فِيهِ الرِّبَا الْجِنْسُ الْوَاحِدُ الْمُتَّفَقُ فِيهِ الصِّفَاتُ فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ مِائَةَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ وَعِشْرِينَ ظَهَرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ قَابَلَتْ الْأَجَلَ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا دَخَلَ فِيهِ لِلْحَاجَةِ ؛ وَلِهَذَا لَا تُضْمَنُ الْآجَالُ بِالْيَدِ وَلَا بِالْإِتْلَافِ . فَلَوْ تَبَقَّى الْعَيْنُ فِي يَدِهِ أَوْ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ مُدَّةً لَمْ يَضْمَنْ الْأَجَلَ ؛ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الصِّفَةِ فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي الْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ وَفِي الْبَيْعِ إذَا قَابَلَتْ غَيْرَ الْجِنْسِ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . فَإِنَّ الْكَلَامَ الْخَبَرِيَّ إمَّا إثْبَاتٌ وَإِمَّا نَفْيٌ . فَكَمَا أَنَّهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ يُثْبِتُونَ لِلشَّيْءِ اسْمَ الْمُسَمَّى إذَا حَصَلَ فِيهِ مَقْصُودُ الِاسْمِ وَإِنْ انْتَفَتْ صُورَةُ الْمُسَمَّى . فَكَذَلِكَ فِي النَّفْيِ . فَإِنَّ أَدَوَاتِ النَّفْيِ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الِاسْمِ بِانْتِفَاءِ مُسَمَّاهُ فَكَذَلِكَ تَارَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا . وَتَارَةً لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْحَقِيقَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالْمُسَمَّى . وَتَارَةً لِأَنَّهُ لَمْ تَكْمُلْ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ . وَتَارَةً لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُسَمَّى مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا ؛ بَلْ الْمَقْصُودُ غَيْرُهُ .
وَتَارَةً لِأَسْبَابِ أُخَرَ . وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي لَا تُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا حَقِيقَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلِكَوْنِ الْمُرَكَّبِ قَدْ صَارَ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى أَوْ مِنْ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ الَّتِي تَجْعَلُهَا مَجَازًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَأَمَّا إذَا أُطْلِقَ الْكَلَامُ مُجَرَّدًا عَنْ الْقَرِينَتَيْنِ فَمَعْنَاهُ السَّلْبُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ . فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } وَقَوْلُهُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } حَيْثُ قَصَدَ بِهِ الْحَصْرَ فِي النَّوْعِ لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ عَلَّقَ بِالشَّهْرِ أَحْكَامًا كَقَوْلِهِ : { شَهْرُ رَمَضَانَ } وَقَوْلِهِ : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وَقَوْلِهِ : { شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَكَانَ مِنْ الْأَفْهَامِ مَا يَسْبِقُ إلَى أَنَّ مُطْلَقَ الشَّهْرِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا . وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ لَمْ يَعُدَّ أَيَّامَ الشَّهْرِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ السَّنَةَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا . وَأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّهْرُ الثَّابِتُ اللَّازِمُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ . وَزِيَادَةُ الْيَوْمِ قَدْ تَدْخُلُ فِيهِ وَقَدْ تَخْرُجُ مِنْهُ كَمَا يَقُولُ الْإِسْلَامُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَقَدْ يَمُوتُ قَبْلَ الْكَلَامِ فَلَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ فِي حَقِّهِ إلَّا مَا تَكَلَّمَ بِهِ .
وَعَلَى مَا قَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَيَكُونُ قَدْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِلَا الْخِبْرَيْنِ أَوْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ : { أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَيَكُونُ ثَلَاثِينَ } كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ وَسُمِعَ مِنْهُ : { أَنَّ الشَّهْرَ إنَّمَا هُوَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } رُوِيَ هَذَا بِالْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَرْوِي بِالْمَعْنَى . رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ أَنَّ قَوْلَهُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } لِشَهْرِ مُعَيَّنٍ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { قَدْ يَكُونُ } وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا الشَّهْرُ } وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُوَافِقُ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ . مِثْلُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جريج . عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا أَوْ رَاحَ فَقِيلَ لَهُ إنَّك حَلَفْت أَنْ لَا تَدْخُلُ شَهْرًا . فَقَالَ : إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا } فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهْرَ يَكْمُلُ بِحَسْبِهِ مُطْلَقًا . إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِيلَاءُ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ . فَمَتَى كَانَ الْإِيلَاءُ . فِي أَثْنَائِهِ فَهُوَ نَصٌّ فِي مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ
عَنْ حَمِيدٍ عَنْ أَنَسٍ { قَالَ : آلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ وَكَانَتْ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ فَأَقَامَ فِي مَشْرَبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ . فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْت شَهْرًا فَقَالَ : إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ } . وَأَمَّا الشَّهْرُ الْمُعَيَّنُ فَرَوَى النَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ : تَمَّ الشَّهْرُ لِتِسْعِ وَعِشْرِينَ } هَكَذَا رَوَاهُ بَهْز عَنْهُ . وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ غُنْدُرٍ . وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ غُنْدُرٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ إيلَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ . فَلَمَّا مَضَى تِسْعٌ وَعِشْرُونَ أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ أَنَّ الشَّهْرَ تَمَّ لِتِسْعِ وَعِشْرِينَ لِأَنَّ الشَّهْرَ الَّذِي آلَى فِيهِ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَظُنُّ أَنَّ عَلَيْهِ إكْمَالَ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ . فَأَخْبَرَهُ جبرائيل بِأَنَّهُ تَمَّ شَهْرُ إيلَائِهِ لِتِسْعِ وَعِشْرِينَ . وَلَوْ كَانَ الْإِيلَاءُ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُخْبِرَهُ جبرائيل بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا رُئِيَ لِتَمَامِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ تَمَّ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ حَتَّى يُخْبِرَهُ بِهِ جبرائيل . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْإِيلَاءُ بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ لَكَانَ الصَّحَابَةُ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ
شَهْرٌ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّونَ فِيهِ هُمْ وَلَا أَحَدٌ أَنَّ الشَّهْرَ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْعَدَدِ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا وَقَعَ الْإِيلَاءُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ يَجِبُ تَكْمِيلُ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ فَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ شَهْرُ إيلَائِهِ لِتِسْعِ وَعِشْرِينَ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : { إنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } أَيْ شَهْرُ الْإِيلَاءِ { وَأَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ } . وَأَيْضًا فَقَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَعُدُّهُنَّ . وَلَوْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ لَمْ تَحْتَجْ إلَى أَنْ تَعُدَّهُنَّ كَمَا لَمْ يَعُدَّ رَمَضَانَ إذَا صَامُوا بِالرُّؤْيَةِ ؛ بَلْ رِوَى عَنْهُ مَا ظَاهِرُهُ الْحَصْرُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ إلَى أَحْمَد : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ { قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْرِبُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ يَقُولُ : الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا ثُمَّ يَقْبِضُ أُصْبُعَهُ فِي الثَّالِثَةِ } . وَقَالَ أَحْمَد حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا عَشْرٌ عَشْرٌ وَتِسْعٌ مَرَّةً } رَوَاهُ النَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ . وَرَوَاهُ هُوَ وَأَحْمَد أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ إسْمَاعِيلَ مُسْنَدًا كَمَا تَقَدَّمَ
وَقَدْ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَوَكِيعٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدٍ مُرْسَلًا . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي رِوَايَتِهِ قُلْت لِإِسْمَاعِيلَ : عَنْ أَبِيهِ ؟ قَالَ : لَا . وَقَدْ صَحَّحَ أَحْمَد الْمُسْنَدَ . وَقَالَ فِي حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ حَدِيثُ سَعْدٍ { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا } قَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ : أَرَدْنَا أَنْ يَقُولَ عَنْ أَبِيهِ فَأَبَى . قَالَ أَحْمَد : هَذَا عَنْ إسْمَاعِيلَ كَانَ يُسْنِدُهُ أَحْيَانًا وَأَحْيَانًا لَا يُسْنِدُهُ . وَرَوَاهُ زَائِدَةُ عَنْ أَبِيهِ قِيلَ لَهُ : إنَّ وَكِيعًا . قَدْ رَوَاهُ وَيَحْيَى يَقُولُ : مَا يَقُولُ ؟ قَالَ : زَائِدَةُ قَدْ رَوَاهُ . وَقَالَ أَيْضًا : قَدْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ وَابْنُ بِشْرٍ وَزَائِدَةُ وَغَيْرُهُمْ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ بَيَانٌ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ الثِّقَات فَهِيَ مَقْبُولَةٌ . وَأَنَّ الَّذِينَ حَدَّثُوا عَنْهُ كَانَ تَارَةً يَذْكُرُهَا وَتَارَةً يَتْرُكُهَا . وَقَدْ رُوِيَ مَا يُفَسِّرُهُ : فَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ وَكِيعٌ بِالْعَشْرِ الْأَصَابِعِ مَرَّتَيْنِ وَخَنَّسَ وَاحِدَةً الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ } . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ الْمُتَلَقَّاةُ بِالْقَبُولِ دَلَّتْ عَلَى أُمُورٍ . أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَهُ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ } هُوَ خَبَرٌ
تَضَمَّنَ نَهْيًا . فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي اتَّبَعَتْهُ هِيَ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ أُمِّيَّةٌ لَا تَكْتُبُ وَلَا تَحْسُبُ . فَمَنْ كَتَبَ أَوْ حَسَبَ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ . بَلْ يَكُونُ قَدْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ فَيَكُونُ قَدْ فَعَلَ مَا لَيْسَ مِنْ دِينِهَا وَالْخُرُوجُ عَنْهَا مُحَرَّمٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَيَكُونُ الْكِتَابُ وَالْحِسَابُ الْمَذْكُورَانِ مُحَرَّمَيْنِ مَنْهِيًّا عَنْهُمَا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } أَيْ هَذِهِ صِفَةُ الْمُسْلِمِ فَمَنْ خَرَجَ عَنْهَا خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَمَنْ خَرَجَ عَنْ بَعْضِهَا خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { : الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } . فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا قِيلَ إنَّ لَفْظَهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ الطَّلَبُ ؟ . كَقَوْلِهِ : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ وَلَا يَحْسُبَ . نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ ؛ لِئَلَّا يَكُونُ خَبَرًا قَدْ خَالَفَ مَخْبَرَهُ . فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَتَبَ أَوْ حَسَبَ . قِيلَ : هَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ . فَإِنَّ ظَاهِرَهُ خَبَرٌ وَالصَّرْفُ عَنْ الظَّاهِرِ إنَّمَا يَكُونُ لِدَلِيلِ يحوج إلَى ذَلِكَ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ .
وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ } لَيْسَ هُوَ طَلَبًا فَإِنَّهُمْ أُمِّيُّونَ قَبْلَ الشَّرِيعَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ } وَقَالَ : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ } فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُمْ قَبْلَ الْمَبْعَثِ لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِابْتِدَائِهَا . نَعَمْ قَدْ يُؤْمَرُونَ بِالْبَقَاءِ عَلَى بَعْضِ أَحْكَامِهَا فَإِنَّا سَنُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا أَنْ يَبْقَوْا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مُطْلَقًا . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إخْبَارًا مَحْضًا أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ ؛ إذْ لَهُمْ طَرِيقٌ آخَرُ غَيْرُهُ وَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ؛ بَلْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ فَإِنَّ الْأُمِّيَّةَ صِفَةُ نَقْصٍ لَيْسَتْ صِفَةَ كَمَالٍ فَصَاحِبُهَا بِأَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمْدُوحًا . قِيلَ : لَا يَجُوزُ هَذَا لِأَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي بَعَثَهُ اللَّهُ إلَيْهَا فِيهِمْ مَنْ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ كَثِيرًا كَمَا كَانَ فِي أَصْحَابِهِ وَفِيهِمْ مَنْ يَحْسُبُ وَقَدْ بُعِثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَرَائِضِ الَّتِي فِيهَا مِنْ الْحِسَابِ مَا فِيهَا وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَامِلُهُ عَلَى الصَّدَقَةِ ابْنُ اللتبية حَاسَبَهُ . وَكَانَ لَهُ كُتَّابٌ عِدَّةٌ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَمُعَاوِيَةَ - يَكْتُبُونَ الْوَحْيَ وَيَكْتُبُونَ الْعُهُودَ وَيَكْتُبُونَ كُتُبَهُ إلَى النَّاسِ إلَى مَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ
إلَيْهِ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَرُءُوسِ الطَّوَائِفِ : وَإِلَى عُمَّالِهِ وَوُلَاتِهِ وَسُعَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُعْلَمَ الْحِسَابُ . وَإِنَّمَا " الْأُمِّيُّ " هُوَ فِي الْأَصْلِ مَنْسُوبٌ إلَى الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ جِنْسُ الْأُمِّيِّينَ وَهُوَ مَنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ الْجِنْسِ بِالْعِلْمِ الْمُخْتَصِّ : مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ كِتَابَة كَمَا يُقَالُ : عَامِّيٌّ لِمَنْ كَانَ مِنْ الْعَامَّةِ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ عَنْهُمْ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنْ عُلُومٍ : وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى الْأُمِّ : أَيْ هُوَ الْبَاقِي عَلَى مَا عَوَّدَتْهُ أُمُّهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . ثُمَّ التَّمَيُّزُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْأُمِّيَّةِ الْعَامَّةِ إلَى الِاخْتِصَاصِ : تَارَةً يَكُونُ فَضْلًا وَكَمَالًا فِي نَفْسِهِ . كَالْمُتَمَيِّزِ عَنْهُمْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ . وَتَارَةً يَكُونُ بِمَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ : كَالتَّمَيُّزِ عَنْهُمْ بِالْكِتَابَةِ وَقِرَاءَةِ الْمَكْتُوبِ فَيُمْدَحُ فِي حَقِّ مَنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْكَمَالِ وَيُذَمُّ فِي حَقِّ مَنْ عَطَّلَهُ أَوْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الشَّرِّ . وَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ كَانَ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ . وَكَانَ تَرْكُهُ فِي حَقِّهِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ . فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّمَيُّزَ عَنْ الْأُمِّيِّينَ نَوْعَانِ " فَالْأُمَّةُ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَاهُمْ الْعَرَبُ وَبِوَاسِطَتِهِمْ حَصَلَتْ الدَّعْوَةُ لِسَائِرِ الْأُمَمِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا بُعِثَ بِلِسَانِهِمْ فَكَانُوا أُمِّيِّينَ عَامَّةً لَيْسَتْ فِيهِمْ مَزِيَّةُ عِلْمٍ وَلَا كِتَابٍ وَلَا غَيْرِهِ مَعَ كَوْنِ فِطَرِهِمْ كَانَتْ مُسْتَعِدَّةً لِلْعِلْمِ أَكْمَلَ مِنْ اسْتِعْدَادِ سَائِر الْأُمَمِ . بِمَنْزِلَةِ أَرْضِ الْحَرْثِ الْقَابِلَةِ لِلزَّرْعِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ لَهَا مَنْ يَقُومُ عَلَيْهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ يَقْرَءُونَهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا عُلُومٌ قِيَاسِيَّةٌ مُسْتَنْبِطَةٌ كَمَا لِلصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ . وَكَانَ الْخَطُّ فِيهِمْ قَلِيلًا جِدًّا وَكَانَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ مَا يُنَالُ بِالْفِطْرَةِ الَّتِي لَا يَخْرُجُ بِهَا الْإِنْسَانُ عَنْ الْأُمُوَّةِ الْعَامَّةِ . كَالْعِلْمِ بِالصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعْظِيمِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَعِلْمِ الْأَنْوَاءِ . وَالْأَنْسَابِ وَالشِّعْرِ . فَاسْتَحَقُّوا اسْمَ الْأُمِّيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . كَمَا قَالَ فِيهِمْ : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ } فَجَعَلَ الْأُمِّيِّينَ مُقَابِلِينَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ . فَالْكِتَابِيُّ غَيْرُ الْأُمِّيِّ . فَلَمَّا بُعِثَ فِيهِمْ وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَتَدَبُّرِهِ وَعَقْلِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ - وَقَدْ جَعَلَهُ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَعَلَّمَهُمْ نَبِيُّهُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ - صَارُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ . بَلْ صَارُوا أَعْلَمَ الْخَلْقِ
وَأَفْضَلَهُمْ فِي الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَزَالَتْ عَنْهُمْ الْأُمِّيَّةُ الْمَذْمُومَةُ النَّاقِصَةُ وَهِيَ عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ إلَى أَنْ عَلِمُوا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَأُورِثُوا الْكِتَابَ . كَمَا قَالَ فِيهِمْ : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } فَكَانُوا أُمِّيِّينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . فَلَمَّا عَلَّمَهُمْ الْكِتَابُ وَالْحِكْمَةَ قَالَ فِيهِمْ : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } { أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ } وَاسْتُجِيبَ فِيهِمْ دَعْوَةُ الْخَلِيلِ حَيْثُ قَالَ : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } . فَصَارَتْ هَذِهِ الْأُمِّيَّةُ : مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ . وَمِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ نَقْصٌ وَتَرْكُ الْأَفْضَلِ . فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْفَاتِحَةَ أَوْ لَمْ يَقْرَأْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ أُمِّيًّا . وَيُقَابِلُونَهُ بِالْقَارِئِ
فَيَقُولُونَ : لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ . وَيَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ الْأُمِّيُّ بِالْأُمِّيِّ . وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ وَغَرَضُهُمْ بِالْأُمِّيِّ هُنَا الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقِرَاءَةَ الْوَاجِبَةَ سَوَاءٌ كَانَ يَكْتُبُ أَوْ لَا يَكْتُبُ يَحْسُبُ أَوْ لَا يَحْسُبُ . فَهَذِهِ الْأُمِّيَّةُ مِنْهَا مَا هُوَ تَرْكُ وَاجِبٍ يُعَاقَبُ الرَّجُلُ عَلَيْهِ . إذَا قَدَرَ عَلَى التَّعَلُّمِ فَتَرَكَهُ . وَمِنْهَا مَا هُوَ مَذْمُومٌ كَاَلَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ } فَهَذِهِ صِفَةُ مَنْ لَا يَفْقَهُ كَلَامَ اللَّهِ وَيَعْمَلُ بِهِ وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ عَلَى مُجَرَّدِ تِلَاوَتِهِ . كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ . نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيُعْمَلَ بِهِ فَاِتَّخِذُوا تِلَاوَتَهُ عَمَلًا . فَالْأُمِّيُّ هُنَا قَدْ يَقْرَأُ حُرُوفَ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرَهَا وَلَا يَفْقَهُ . بَلْ يَتَكَلَّمُ فِي الْعِلْمِ بِظَاهِرِ مِنْ الْقَوْلِ ظَنًّا . فَهَذَا أَيْضًا أُمِّيٌّ مَذْمُومٌ كَمَا ذَمَّهُ اللَّهُ ؛ لِنَقْصِ عِلْمِهِ الْوَاجِبِ سَوَاءٌ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ أَمْ كِفَايَةٍ . وَمِنْهَا مَا هُوَ الْأَفْضَلُ الْأَكْمَلُ كَاَلَّذِي لَا يَقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا بَعْضَهُ وَلَا يَفْهَمُ مِنْهُ إلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَا يَفْهَمُ مِنْ الشَّرِيعَةِ إلَّا مِقْدَارَ الْوَاجِبِ
عَلَيْهِ فَهَذَا أَيْضًا يُقَالُ لَا أُمِّيٌّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ عِلْمًا وَعَمَلًا أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَكْمَلُ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْمُمَيِّزَةُ لِلشَّخْصِ عَنْ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ فَضَائِلُ وَكَمَالٌ : فَقَدَهَا أَمَّا فَقْدُ وَاجِبٍ عَيْنًا أَوْ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ أَوْ مُسْتَحَبٌّ . وَهَذِهِ يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا وَأَنْبِيَاؤُهُ مُطْلَقًا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ جَمَعَ الْعِلْمَ وَالْكَلَامَ النَّافِعَ طَلَبًا وَخَبَرًا وَإِرَادَة . وَكَذَلِكَ أَنْبِيَاؤُهُ وَنَبِيُّنَا سَيِّدُ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ . وَأَمَّا الْأُمُورُ الْمُمَيِّزَةُ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ وَأَسْبَابٌ إلَى الْفَضَائِلِ مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِغَيْرِهَا فَهَذِهِ مِثْلُ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ الْخَطُّ وَالْحِسَابُ فَهَذَا إذَا فَقَدَهَا مَعَ أَنَّ فَضِيلَتَهُ فِي نَفْسِهِ لَا تَتِمُّ بِدُونِهَا وَفَقْدُهَا نَقْصٌ إذَا حَصَّلَهَا وَاسْتَعَانَ بِهَا عَلَى كَمَالِهِ وَفَضْلِهِ كَاَلَّذِي يَتَعَلَّمُ الْخَطَّ فَيَقْرَأُ بِهِ الْقُرْآنَ ؛ وَكُتُبَ الْعِلْمِ النَّافِعَةَ أَوْ يَكْتُبُ لِلنَّاسِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ : كَانَ هَذَا فَضْلًا فِي حَقِّهِ وَكَمَالًا . وَإِنْ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى تَحْصِيلِ مَا يَضُرُّهُ أَوْ يَضُرُّ النَّاسَ كَاَلَّذِي يَقْرَأُ بِهَا كُتُبَ الضَّلَالَةِ وَيَكْتُبُ بِهَا مَا يَضُرُّ النَّاسَ كَاَلَّذِي يُزَوِّرُ خُطُوطَ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالشُّهُودِ : كَانَ هَذَا ضَرَرًا فِي حَقِّهِ وَسَيِّئَةً وَمَنْقَصَةً وَلِهَذَا نَهَى عُمَرَ أَنْ تُعَلَّمَ النِّسَاءُ الْخَطَّ .
وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ يَنَالُ كَمَالَ الْعُلُومِ مِنْ غَيْرِهَا . وَيَنَالُ كَمَالَ التَّعْلِيمِ بِدُونِهَا : كَانَ هَذَا أَفْضَلَ لَهُ وَأَكْمَلَ . وَهَذِهِ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } فَإِنَّ أُمِّيَّتَهُ لَمْ تَكُنْ مِنْ جِهَةِ فَقْدِ الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ فَإِنَّهُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا . وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ مَكْتُوبًا . كَمَا قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } . وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ كَتَبَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِخَطِّهِ مُعْجِزَةً لَهُ ؟ أَمْ لَمْ يَكْتُبْ ؟ وَكَانَ انْتِفَاءُ الْكِتَابَةِ عَنْهُ مَعَ حُصُولِ أَكْمَلِ مَقَاصِدِهَا بِالْمَنْعِ مِنْ طَرِيقِهَا مِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِهِ وَأَكْبَرِ مُعْجِزَاتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ الْعِلْمَ بِلَا وَاسِطَةِ كِتَابٍ مُعْجِزَةً لَهُ وَلَمَّا كَانَ قَدْ دَخَلَ فِي الْكُتُبِ مِنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَعَلَّمَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إلَى أَنْ يَكْتُبَ بِيَدِهِ وَأَمَّا سَائِر أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ فَالْغَالِبُ عَلَى كِبَارِهِمْ الْكِتَابَةُ لِاحْتِيَاجِهِمْ إلَيْهَا إذْ لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَنْ الْوَحْي مَا أُوتِيَهُ صَارَتْ أُمِّيَّتُهُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ كَمَالًا فِي حَقِّهِ مِنْ جِهَةِ الْغِنَى بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا وَأَكْمَلُ وَنَقْصًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ فَقْدِهِ الْفَضَائِلَ الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْكِتَابَةِ .
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا : فَكِتَابُ أَيَّامِ الشَّهْرِ وَحِسَابِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَإِنَّ مَنْ كَتَبَ مَسِيرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِحُرُوفِ " أَبِجَدِّ " وَنَحْوِهَا وَحَسَبَ كَمْ مَضَى مِنْ مَسِيرِهَا وَمَتَى يَلْتَقِيَانِ لَيْلَةَ الِاسْتِسْرَارِ وَمَتَى يَتَقَابَلَانِ لَيْلَةَ الْإِبْدَارِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ مِنْ الْفَائِدَةِ إلَّا ضَبْطُ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا فِي تَحْدِيدِ الْحَوَادِثِ وَالْأَعْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُنَا مِنْ الْأُمَمِ فَضَبَطُوا مَوَاقِيتَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالْحِسَابِ كَمَا يَفْعَلُونَهُ بِالْجَدَاوِلِ أَوْ بِحُرُوفِ الْجُمَلِ وَكَمَا يَحْسُبُونَ مَسِيرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ : وَيَعْدِلُونَ ذَلِكَ وَيُقَوِّمُونَهُ بِالسَّيْرِ الْأَوْسَطِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ وَقْتُ الِاسْتِسْرَارِ وَالْإِبْدَارِ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّا أَيَّتُهَا الْأُمَّةَ الْأُمِّيَّةَ لَا نَكْتُبُ هَذَا الْكِتَابَ وَلَا نَحْسُبُ هَذَا الْحِسَابَ فَعَادَ كَلَامُهُ إلَى نَفْيِ الْحِسَابِ وَالْكِتَابِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَيَّامِ الشَّهْرِ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى اسْتِسْرَارِ الْهِلَالِ وَطُلُوعِهِ . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّفْيَ وَإِنْ كَانَ عَلَى إطْلَاقِهِ يَكُونُ عَامًّا فَإِذَا كَانَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ مَا يُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ عُلِمَ بِهِ الْمَقْصُودُ أَخَاصٌّ هُوَ أَمْ عَامٌّ ؟ فَلَمَّا قَرَنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ } وَ { الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ } بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّا لَا نَحْتَاجُ فِي أَمْرِ الْهِلَالِ إلَى كِتَابٍ وَلَا
حِسَابٍ إذْ هُوَ تَارَةً كَذَلِكَ وَتَارَةً كَذَلِكَ . وَالْفَارِقُ بَيْنَهُمَا هُوَ الرُّؤْيَةُ فَقَطْ لَيْسَ بَيْنَهَا فَرْقٌ آخَرُ مِنْ كِتَابٍ وَلَا حِسَابٍ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ . فَإِنَّ أَرْبَابَ الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَضْبُطُوا الرُّؤْيَةَ بِضَبْطِ مُسْتَمِرٍّ وَإِنَّمَا يُقَرِّبُوا ذَلِكَ فَيُصِيبُونَ تَارَةً وَيُخْطِئُونَ أُخْرَى . وَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأُمِّيَّةَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا صِفَةُ مَدْحٍ وَكَمَالٍ مِنْ وُجُوهٍ : مِنْ جِهَةِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ بِمَا هُوَ أَبْيَنُ مِنْهُ وَأَظْهَرُ وَهُوَ الْهِلَالُ . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ هُنَا يَدْخُلُهُمَا غَلَطٌ . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِمَا تَعَبًا كَثِيرًا بِلَا فَائِدَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ شُغْلٌ عَنْ الْمَصَالِحِ إذْ هَذَا مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ لَا لِنَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ نَفْيُ الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ عَنْهُمْ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ وَلِلْمَفْسَدَةِ الَّتِي فِيهِ كَانَ الْكِتَابُ وَالْحِسَابُ فِي ذَلِكَ نَقْصًا وَعَيْبًا بَلْ سَيِّئَةً وَذَنْبًا فَمَنْ دَخَلَ فِيهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ فِيمَا هُوَ مِنْ الْكَمَالِ وَالْفَضْلِ السَّالِمِ عَنْ الْمَفْسَدَةِ وَدَخَلَ فِي أَمْرٍ نَاقِصٍ يُؤَدِّيهِ إلَى الْفَسَادِ وَالِاضْطِرَابِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ جَعَلَ هَذَا وَصْفًا لِلْأُمَّةِ . كَمَا جَعَلَهَا وَسَطًا فِي قَوْله تَعَالَى { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } فَالْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ .
وَأَيْضًا فَالشَّيْءُ إذَا كَانَ صِفَةً لِلْأُمَّةِ لِأَنَّهُ أَصْلَحُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَهُ فِيهِ مَفْسَدَةٌ : كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ لِوَجْهَيْنِ : لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَلِأَنَّ صِفَةَ الْكَمَالِ الَّتِي لِلْأُمَّةِ يَجِبُ حِفْظُهَا عَلَيْهَا . فَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ تَحْصِيلُ الْمُسْتَحَبَّاتِ فَإِنَّ كُلَّ مَا شُرِعَ لِلْأُمَّةِ جَمِيعًا صَارَ مِنْ دِينِهَا وَحِفْظُ مَجْمُوعِ الدِّينِ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ فَرْضَ عَيْنٍ أَوْ فَرْضَ كِفَايَةٍ . وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ حِفْظُ جَمِيعِ الْكِتَابِ وَجَمِيعِ السُّنَنِ الْمُتَعَلِّقَةِ بالمستحبات وَالرَّغَائِبِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَى آحَادِهَا . وَلِهَذَا أَوْجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ تَحْصِيلِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الْعَامَّةِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْأَفْرَادِ . وَتَحْصِيلُهُ لِنَفْسِهِ : مِثْلُ الَّذِي يَؤُمُّ النَّاسَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ دَائِمًا مَا يَجُوزُ لِلْمُنْفَرِدِ فِعْلُهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُطَوِّلُ الصَّلَاةَ تَطْوِيلًا يَضُرُّ مَنْ خَلْفَهُ وَلَا يُنْقِصَهَا عَنْ سُنَنِهَا الرَّاتِبَةِ : مِثْلِ قِرَاءَةِ السُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَإِكْمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الصَّحَابَةَ بِعَزْلِ إمَامٍ كَانَ يُصَلِّي لِبُصَاقِهِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ ؛ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً } - الْحَدِيثَ وَقَالَ : { إذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لَمْ يَزَالُوا فِي سَفَالٍ } . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّ الْإِمَامَ الْمُقِيمَ بِالنَّاسِ حَجَّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ
بِكَمَالِ
الْحَجِّ مِنْ تَأْخِيرِ النَّفْرِ إلَى الثَّالِثِ مِنْ مِنًى وَلَا يَتَعَجَّلُ
فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ الَّتِي لَوْ
تَرَكَهَا الْوَاحِدُ لَمْ يَأْثَمْ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ تَرْكُهَا لِأَجْلِ
مَصْلَحَةِ عُمُومِ الْحَجِيجِ مِنْ تَحْصِيلِ كَمَالِ الْحَجِّ وَتَمَامِهِ
وَلِهَذَا { لَمَّا اجْتَمَعَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيدَانِ فَشَهِدَ الْعِيدَ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمْعَةِ
قَالَ : إنَّا مُجَمِّعُونَ } فَقَالَ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرُهُ
: إنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ الْجُمُعَةَ لِيَحْصُلَ الْكَمَالُ
لِمَنْ شَهِدَهُمَا وَإِنْ جَازَ لِلْآحَادِ الِانْصِرَافُ . وَنَظَائِرُهُ
كَثِيرَةٌ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يَحْفَظَ لِلْأُمَّةِ - فِي أَمْرِهَا الْعَامِّ
فِي الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَعْمَالِ - كَمَالَ دَيْنِهَا الَّذِي
قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } فَمَا أَفْضَى إلَى
نَقْصِ كَمَالِ دِينِهَا وَلَوْ بِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ يُفْضِي إلَى تَرْكِهِ
مُطْلَقًا كَانَ تَحْصِيلُهُ وَاجِبًا عَلَى الْكِفَايَةِ إمَّا عَلَى
الْأَئِمَّةِ وَإِمَّا عَلَى غَيْرِهِمْ . فَالْكَمَالُ وَالْفَضْلُ الَّذِي
يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ دُونَ الْحِسَابِ يَزُولُ بِمُرَاعَاةِ الْحِسَابِ
لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ مَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا
حَتَّى تَرَوْهُ } كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَنَهَى
عَنْ الصَّوْمِ قَبْلَ رُؤْيَتِهِ وَعَنْ الْفِطْرِ قَبْلَ
رُؤْيَتِهِ . وَلَا يَخْلُو النَّهْيُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الصَّوْمِ فَرْضًا وَنَفْلًا وَنَذْرًا وَقَضَاءً . أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَلَا تَصُومُوا رَمَضَانَ حَتَّى تَرَوْهُ . وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَقَدْ نَهَى أَنْ يُصَامُ رَمَضَانُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَالرُّؤْيَةُ الْإِحْسَاسُ وَالْإِبْصَارُ بِهِ . فَمَتَى لَمْ يَرَهُ الْمُسْلِمُونَ . كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : قَدْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ أَنَّهُ يُرَى وَإِذَا رُئِيَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : أَخْبَرَ مُخْبَرٌ أَنَّهُ لَا يُرَى وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ : { فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ } لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَصُومُهُ أَحَدٌ حَتَّى يَرَاهُ بِنَفْسِهِ بَلْ لَا يَصُومُهُ أَحَدٌ حَتَّى يَرَاهُ أَوْ يَرَاهُ غَيْرُهُ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ عُمُومِ النَّفْيِ لَا نَفْيِ الْعُمُومِ : أَيْ لَا يَصُومُهُ أَحَدٌ حَتَّى يَرَى أَوْ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ رُئِيَ أَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَدْ رُئِيَ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَهُ بَعْضُهُمْ مُطْلَقًا فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ احْتِيَاطًا وَبَعْضُهُمْ كَرِهَ صَوْمَهُ مُطْلَقًا فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ كَرَاهَةَ الزِّيَادَةِ فِي الشَّهْرِ . وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ لِظُهُورِ الْعَدَمِ فِي الصَّحْوِ دُونَ الْغَيْمِ . كَانَ الَّذِي صَامُوهُ احْتِيَاطًا إنَّمَا صَامُوهُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَآهُ غَيْرُهُمْ . فَيَنْقُصُونَهُ فِيمَا بَعْدُ . وَأَمَّا لَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ يَسْتَجِيزُ أَنْ يَصُومَهُ لِكَوْنِ الْحِسَابِ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَطْلُعُ وَلَمْ يُرَ مَعَ ذَلِكَ كَمَا
أَنَّ الْجُمْهُورَ الَّذِينَ كَرِهُوا صَوْمَهُ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى هَذَا الْجَوَابِ إذْ الْحُكْمُ مَمْدُودٌ إلَى وُقُوعِ الرُّؤْيَةِ لَا إلَى جَوَازِهَا . وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ هَلْ يَجُوزُ أَوْ يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ أَوْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَامَ بِغَيْرِ نِيَّةِ رَمَضَانَ . إذَا لَمْ يُوَافِقْ عَادَةً ؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ . هَذَا يُجَوِّزُهُ أَوْ يَسْتَحِبُّهُ حَمْلًا لِلنَّهْيِ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ . وَيَكْرَهُهُ وَيَحْظُرُهُ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّقَدُّمِ وَلِخَوْفِ الزِّيَادَة . وَلِمَعَانٍ أُخَرَ . ثُمَّ إذَا صَامَهُ بِغَيْرِ نِيَّةِ رَمَضَانَ أَوْ بِنِيَّتِهِ الْمَكْرُوهَةِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ إذَا تَبَيَّنَ أَوْ لَا يُجْزِئُهُ . بَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْأُمَّةِ . وَإِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ رُئِيَ إلَّا مِنْ النَّهَارِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ إنْشَاءُ النِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْأُمَّةِ : وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ رُئِيَ فِي مَكَانٍ آخَرَ : فَهَلْ يَجِبُ الْقَضَاءُ أَوْ لَا يَجِبُ مُطْلَقًا ؟ أَمْ إذَا كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ؟ أَمْ إذَا كَانَتْ الرُّؤْيَةُ فِي الْإِقْلِيمِ ؟ أَمْ إذَا كَانَ الْعَمَلُ وَاحِدًا ؟ وَهَلْ تَثْبُتُ الرُّؤْيَةُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ ؟ أَمْ الِاثْنَيْنِ مُطْلَقًا ؟ أَمْ لَا بُدَّ فِي الصَّحْوِ مَنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ ؟ هَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِيَوْمِ الثَّلَاثِينَ وَتَفَرَّعَ بِسَبَبِهَا مَسَائِلُ أُخَرُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَذَا
الْأَمْرِ وَلِمَا فَهِمُوهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَرَأَوْهُ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَتِهِ وَلِمَا بَلَغَهُمْ عَنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَهِيَ مَنْ جِنْسِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ مَنْ خَرَجَ فِي ذَلِكَ إلَى الْأَخْذِ بِالْحِسَابِ أَوْ الْكِتَابِ كَالْجَدَاوِلِ وَحِسَابِ التَّقْوِيمِ وَالتَّعْدِيلِ الْمَأْخُوذِ مَنْ سَيْرِهِمَا . وَغَيْرِ ذَلِكَ الَّذِي صَرَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْيِهِ عَنْ أُمَّتِهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ . وَلِهَذَا مَا زَالَ الْعُلَمَاءُ يَعُدُّونَ مَنْ خَرَجَ إلَى ذَلِكَ قَدْ أَدْخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَيُقَابِلُونَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ بِالْإِنْكَارِ الَّذِي يُقَابَلُ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا فِيهِ مَا يُشْبِهُ بِدَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالصَّابِئَةِ أَنْوَاعٌ : قَوْمٌ مُنْتَسِبَةٌ إلَى الشِّيعَةِ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَغَيْرِهِمْ . يَقُولُونَ بِالْعَدَدِ دُونَ الرُّؤْيَةِ . وَمَبْدَأُ خُرُوجِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ مِنْ الْكُوفَةِ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَمِدُ عَلَى جَدْوَلٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ جَعْفَرًا الصَّادِقَ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ إلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ عَلَى جَعْفَرٍ اخْتَلَقَهُ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا . وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمَرْضِيِّ عَنْ جَعْفَرٍ وَعَامَّةِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْبَيْتِ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ . وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ عُقَلَاءَ الشِّيعَةِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَمِدُ عَلَى أَنَّ رَابِعَ رَجَبٍ أَوَّلُ رَمَضَانَ أَوْ عَلَى أَنَّ خَامِسَ رَمَضَانَ الْمَاضِيَ أَوَّلُ رَمَضَانَ الْحَاضِرِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْإِسْلَامِ وَلَا رَوَاهُ عَالِمٌ قَطُّ أَنَّهُ قَالَ : { يَوْمُ صَوْمِكُمْ يَوْمُ نَحْرِكُمْ } . وَغَالِبُ هَؤُلَاءِ يُوجِبُونَ أَنْ يَكُونَ رَمَضَانُ تَامًّا وَيَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَمِدُ عَلَى رُؤْيَتِهِ بِالْمُشْرِقِ قَبْلَ الِاسْتِسْرَارِ فَيُوجِبُونَ اسْتِسْرَارَهُ لَيْلَتَيْنِ وَيَقُولُونَ : أَوَّلُ يَوْمٍ يُرَى فِي أَوَّلِهِ فَهُوَ مِنْ الشَّهْرِ الْمَاضِي . وَالْيَوْمُ يَكُونُ الْيَوْمَ الَّذِي لَا يُرَى فِي طَرَفَيْهِ . ثُمَّ الْيَوْمُ الَّذِي يُرَى فِي آخِرِهِ هُوَ أَوَّلُ الشَّهْرِ الثَّانِي وَيَجْعَلُونَ مَبْدَأَ الشَّهْرِ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْهِلَالَ يُسْتَسَرُّ لِلَيْلَةِ تَارَةً وَلَيْلَتَيْنِ أُخْرَى وَقَدْ يُسْتَسَرُّ ثَلَاثَ لَيَالٍ . فَأَمَّا الَّذِينَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى حِسَابِ الشُّهُورِ وَتَعْدِيلِهَا فَيَعْتَبِرُونَهُ بِرَمَضَانَ الْمَاضِي . أَوْ بِرَجَبِ أَوْ يَضَعُونَ جَدْوَلًا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فَهُمْ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ } إنَّمَا عُمْدَتُهُمْ
تَعْدِيلُ سَيْرِ النَّيِّرَيْنِ وَالتَّعْدِيلُ أَنْ يَأْخُذَ أَعْلَى سَيْرِهِمَا وَأَدْنَاهُ فَيَأْخُذَ الْوَسَطَ مِنْهُ وَيَجْمَعُهُ . وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى شُهُورِ الْعَامِ أَنْ الْأَوَّلَ ثَلَاثُونَ وَالثَّانِيَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ كَانَ جَمِيعُ أَنْوَاعِ هَذَا الْحِسَابِ وَالْكِتَابِ مَبْنِيَّةً عَلَى أَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ ثَلَاثُونَ وَالثَّانِيَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ . وَالسَّنَةَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ . وَيَحْتَاجُونَ أَنْ يَكْتُبُوا فِي كُلِّ عِدَّةٍ مِنْ السِّنِينَ زِيَادَةَ يَوْمٍ تَصِيرُ فِيهِ السَّنَةُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا يَزِيدُونَهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مَثَلًا فَهَذَا أَصْلُ عِدَّتِهِمْ . وَهَذَا الْقَدْرُ مُوَافِقٌ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الشُّهُورِ هَكَذَا وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فَقَدْ يَتَوَالَى شَهْرَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ ثَلَاثِينَ وَقَدْ يَتَوَالَى شَهْرَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ فَيَنْتَقِضُ كِتَابُهُمْ وَحِسَابُهُمْ وَيَفْسُدُ دِينُهُمْ الَّذِي لَيْسَ بِقِيَمِ وَهَذَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِئَلَّا يُعْمَلَ بِالْكِتَابِ وَالْحِسَابِ فِي الْأَهِلَّةِ . فَهَذِهِ طَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعَةِ الْمَارِقِينَ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ ذَلِكَ الشَّهْرَ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الشُّهُورِ إمَّا فِي جَمِيعِ السِّنِينَ أَوْ بَعْضِهَا وَيَكْتُبُونَ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي : فَقَوْمٌ مِنْ فُقَهَاءَ الْبَصْرِيِّينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ قَوْلَهُ :
{ فَاقْدُرُوا لَهُ } تَقْدِيرُ حِسَابٍ بِمَنَازِلِ الْقَمَرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين قَالَ : خَرَجْت فِي الْيَوْمِ الَّذِي شُكَّ فِيهِ فَلَمْ أَدْخُلْ عَلَى أَحَدٍ يُؤْخَذُ عَنْهُ الْعِلْمُ إلَّا وَجَدْته يَأْكُلُ إلَّا رَجُلًا كَانَ يَحْسُبُ وَيَأْخُذُ بِالْحِسَابِ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الرَّجُلَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشخير وَهُوَ رَجُلٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ إلَّا أَنَّ هَذَا إنْ صَحَّ عَنْهُ فَهِيَ مِنْ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَيْضًا . وَحَكَاهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنْ كَانَ مَذْهَبُهُ الِاسْتِدْلَالَ بِالنُّجُومِ وَمَنَازِلِ الْقَمَرِ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ مِنْ جِهَةِ النُّجُومِ أَنَّ الْهِلَالَ اللَّيْلَةَ وَغُمَّ عَلَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَقِدَ الصِّيَامَ وَيُبَيِّتَهُ وَيُجْزِئُهُ وَهَذَا بَاطِلٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْهُ . بَلْ الْمَحْفُوظُ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ كَمَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ . وَإِنَّمَا كَانَ قَدْ حَكَى ابْنُ سُرَيْجٍ وَهُوَ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ نِسْبَةَ ذَلِكَ إلَيْهِ إذْ كَانَ هُوَ الْقَائِمَ بِنَصْرِ مَذْهَبِهِ . وَاحْتِجَاجُ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مَعَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ هُوَ الرَّاوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ } فَكَيْفَ يَكُونُ مُوجَبُ حَدِيثِهِ الْعَمَلَ بِالْحِسَابِ . وَهَؤُلَاءِ يَحْسَبُونَ مَسِيرَهُ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَلَيَالِيُهُ . وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ طَرِيقَةٌ مُنْضَبِطَةٌ أَصْلًا بَلْ أَيَّةُ طَرِيقَةٍ سَلَكُوهَا فَإِنَّ الْخَطَأَ وَاقِعٌ فِيهَا أَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ لِمَطْلَعِ الْهِلَالِ حِسَابًا مُسْتَقِيمًا بَلْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إلَى رُؤْيَتِهِ
طَرِيقٌ
مُطَّرِدٌ إلَّا الرُّؤْيَةُ وَقَدْ سَلَكُوا طُرُقًا كَمَا سَلَكَ الْأَوَّلُونَ
مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَضْبُطُوا سَيْرَهُ إلَّا بِالتَّعْدِيلِ الَّذِي يَتَّفِقُ
الْحِسَابُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ . وَإِنَّمَا هُوَ تَقْرِيبٌ مِثْلُ
أَنْ يُقَالَ : إنْ رُئِيَ صَبِيحَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ فَهُوَ تَامٌّ وَإِنْ
لَمْ يُرَ صَبِيحَةَ ثَمَانٍ فَهُوَ نَاقِصٌ . وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ
الِاسْتِسْرَارَ لِلَيْلَتَيْنِ وَلَيْسَ بِصَحِيحِ بَلْ قَدْ يُسْتَسَرُّ
لَيْلَةً تَارَةً وَثَلَاثَ لَيَالٍ أُخْرَى . وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ إنَّمَا
هُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ لَا يَمْكُثُ فِي الْمَنْزِلَةِ إلَّا
سِتَّةَ أَسْبَاعِ سَاعَةً لَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ . فَيَغِيبُ لَيْلَةَ
السَّابِعِ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَطْلُعُ لَيْلَةَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ أَوَّلِ
اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَيْلَةَ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ يَطْلُعُ
مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ وَلَيْلَةَ الثَّامِنَ وَالْعِشْرِينَ إنْ اُسْتُسِرَّ
فِيهَا نَقَصَ وَإِلَّا كَمُلَ وَهَذَا غَالِبُ سَيْرِهِ وَإِلَّا فَقَدْ يُسْرِعُ
وَيُبْطِئُ .
وَأَمَّا الْعَقْلُ : فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْحِسَابِ
كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ الرُّؤْيَةِ بِحِسَابٍ
بِحَيْثُ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ يُرَى لَا مَحَالَةَ أَوْ لَا يُرَى أَلْبَتَّةَ
عَلَى وَجْهٍ مُطَّرِدٍ وَإِنَّمَا قَدْ يَتَّفِقُ ذَلِكَ أَوْ لَا يُمْكِنُ
بَعْضَ الْأَوْقَاتِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَنُونَ بِهَذَا الْفَنِّ مِنْ
الْأُمَمِ : الرُّومِ وَالْهِنْدِ وَالْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِثْلُ
بَطْلَيْمُوسَ الَّذِي هُوَ مُقَدَّمُ هَؤُلَاءِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ قَبْلَ
الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ لَمْ يَنْسُبُوا إلَيْهِ فِي الرُّؤْيَةِ حَرْفًا
وَاحِدًا وَلَا حَدُّوهُ كَمَا حَدُّوا اجْتِمَاعَ الْقُرْصَيْنِ وَإِنَّمَا
تَكَلَّمَ بِهِ قَوْمٌ مِنْهُمْ فِي أَبْنَاءِ الْإِسْلَامِ : مِثْلُ
كوشيار الديلمي وَعَلَيْهِ وَعَلَى مِثْلُهُ يَعْتَمِدُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الرُّؤْيَةِ مِنْهُمْ . وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حُذَّاقُهُمْ مِثْلُ أَبِي عَلِيٍّ المروذي الْقَطَّانِ وَغَيْرِهِ وَقَالُوا إنَّهُ تَشَوَّقَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَإِلَّا فَهَذَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ . وَلَعَلَّ مَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ كَانَ مَرْمُوقًا بِنِفَاقٍ ، فَمَا النِّفَاقُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِبَعِيدِ أَوْ يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ الْجُهَّالِ مِمَّنْ يُحْسِنُ ظَنَّهُ بِالْحِسَابِ مَعَ انْتِسَابِهِ إلَى الْإِسْلَامِ . وَبَيَانُ امْتِنَاعِ ضَبْطِ ذَلِكَ : أَنَّ الْحِسَابَ إنَّمَا يُقَدِّرُهُ عَلَى ضَبْطِ شَبَحِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَجَرْيِهِمَا أَنَّهُمَا يَتَحَاذَيَانِ فِي السَّاعَةِ الْفُلَانِيَّةِ فِي الْبُرْجِ الْفُلَانِيِّ فِي السَّمَاءِ الْمُحَاذِي لِلْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ مِنْ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ الِاجْتِمَاعُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَهَذَا الِاجْتِمَاعُ يَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِسْرَارِ وَقَبْلَ الِاسْتِهْلَالِ فَإِنَّ الْقَمَرَ يَجْرِي فِي مَنَازِلِهِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ كَمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ ثُمَّ يَقْرُبُ مِنْ الشَّمْسِ فَيَسْتَسِرُّ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ ؛ لِمُحَاذَاتِهِ لَهَا فَإِذَا خَرَجَ مِنْ تَحْتِهَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ النُّورَ ثُمَّ يَزْدَادُ النُّورُ كُلَّمَا بَعُدَ عَنْهَا إلَى أَنْ يُقَابِلَهَا لَيْلَةَ الْإِبْدَارِ ثُمَّ يَنْقُصُ كُلَّمَا قَرُبَ مِنْهَا إلَى أَنْ يُجَامِعَهَا وَلِهَذَا يَقُولُونَ الِاجْتِمَاعُ وَالِاسْتِقْبَالُ وَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَقُولُوا : الْهِلَالُ وَقْتَ الْمُفَارَقَةِ عَلَى كَذَا . يَقُولُونَ : الِاجْتِمَاعُ وَقْتَ الِاسْتِسْرَارِ وَالِاسْتِقْبَالُ وَقْتَ الْإِبْدَارِ .
وَمِنْ مَعْرِفَةِ الْحِسَابِ الِاسْتِسْرَارُ وَالْإِبْدَارُ الَّذِي هُوَ الِاجْتِمَاعُ وَالِاسْتِقْبَالُ فَالنَّاسُ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ الظَّاهِرِ مِنْ الِاسْتِسْرَارِ الْهِلَالِيِّ فِي آخِرِ الشَّهْرِ وَظُهُورِهِ فِي أَوَّلِهِ وَكَمَالِ نُورِهِ فِي وَسَطِهِ والحساب يُعَبِّرُونَ بِالْأَمْرِ الْخَفِيِّ مِنْ اجْتِمَاعِ الْقُرْصَيْنِ الَّذِي هُوَ وَقْتُ الِاسْتِسْرَارِ وَمِنْ اسْتِقْبَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ الَّذِي هُوَ وَقْتُ الْإِبْدَارِ فَإِنَّ هَذَا يُضْبَطُ بِالْحِسَابِ . وَأَمَّا الْإِهْلَالُ فَلَا لَهُ عِنْدَهُمْ مِنْ جِهَةِ الْحِسَابِ ضَبْطٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُضْبَطُ بِحِسَابٍ يُعْرَفُ كَمَا يُعْرَفُ وَقْتُ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ فَإِنَّ الشَّمْسَ لَا تَكْسِفُ فِي سُنَّةِ اللَّهِ الَّتِي جَعَلَ لَهَا إلَّا عِنْدَ الِاسْتِسْرَارِ إذَا وَقَعَ الْقَمَرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَبْصَارِ النَّاسِ عَلَى مُحَاذَاةٍ مَضْبُوطَةٍ وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ لَا يَخْسِفُ إلَّا فِي لَيَالِي الْإِبْدَارِ عَلَى مُحَاذَاةٍ مَضْبُوطَةٍ لِتَحَوُّلِ الْأَرْضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ فَمَعْرِفَةُ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ لِمَنْ صَحَّ حِسَابُهُ مِثْلُ مَعْرِفَةِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ لَيْلَةَ الْحَادِيَ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ الشَّهْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَطْلُعَ الْهِلَالُ وَإِنَّمَا يَقَعُ الشَّكُّ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ . فَنَقُولُ الْحَاسِبُ غَايَةُ مَا يُمْكِنُهُ إذَا صَحَّ حِسَابُهُ أَنْ يَعْرِفَ مَثَلًا أَنَّ الْقُرْصَيْنِ اجْتَمَعَا فِي السَّاعَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَأَنَّهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَكُونُ قَدْ فَارَقَهَا الْقَمَرُ إمَّا بِعَشْرِ دَرَجَاتٍ مَثَلًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ . وَالدَّرَجَةُ هِيَ جُزْءٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا مِنْ الْفَلَكِ .
فَإِنَّهُمْ قَسَّمُوهُ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا سَمَّوْهَا " الدَّاخِلَ " : كُلُّ بُرْجٍ اثْنَا عَشَرَ دَرَجَةً وَهَذَا غَايَةُ مَعْرِفَتِهِ وَهِيَ بِتَحْدِيدِكُمْ بَيْنَهُمَا مِنْ الْبُعْدِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ . هَذَا الَّذِي يَضْبُطُهُ بِالْحِسَابِ . أَمَّا كَوْنُهُ يُرَى أَوْ لَا يُرَى فَهَذَا أَمْرٌ حِسِّيٌّ طَبِيعِيٌّ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا حِسَابِيًّا رِيَاضِيًّا . وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يَقُولَ : اسْتَقْرَأْنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى كَذَا وَكَذَا دَرَجَةً يُرَى قَطْعًا أَوْ لَا يُرَى قَطْعًا . فَهَذَا جَهْلٌ وَغَلَطٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجْرِي عَلَى قَانُونٍ وَاحِدٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . بَلْ إذَا كَانَ بُعْدُهُ مَثَلًا عِشْرِينَ دَرَجَةً فَهَذَا يُرَى مَا لَمْ يَحُلْ حَائِلٌ وَإِذَا كَانَ عَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذَا لَا يُرَى وَأَمَّا مَا حَوْلَ الْعَشْرَةِ فَالْأَمْرُ فِيهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِ الرُّؤْيَةِ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهَا تَخْتَلِفُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تَخْتَلِفُ لِحِدَّةِ الْبَصَرِ وكلاله فَمَعَ دِقَّتِهِ يَرَاهُ الْبَصَرُ الْحَدِيدُ دُونَ الْكَلِيلِ وَمَعَ تَوَسُّطِهِ يَرَاهُ غَالِبُ النَّاسِ وَلَيْسَتْ أَبْصَارُ النَّاسِ مَحْصُورَةً بَيْنَ حَاصِرَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ يَرَاهُ غَالِبُ النَّاسِ وَلَا يَرَاهُ غَالِبُهُمْ : لِأَنَّهُ لَوْ رَآهُ اثْنَانِ عَلَّقَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ بِهِمَا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ لَمْ يَرَوْهُ فَإِذَا قَالَ لَا يُرَى بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُخْطِئًا فِي حُكْمِ الشَّرْعِ وَإِنْ قَالَ يُرَى بِمَعْنَى أَنَّهُ يَرَاهُ الْبَصَرُ الْحَدِيدُ . فَقَدْ لَا يَتَّفِقُ فِيمَنْ يَتَرَاءَى لَهُ مَنْ يَكُونُ بَصَرُهُ حَدِيدًا
فَلَا يَلْتَفِتُ إلَى إمْكَانِ رُؤْيَةِ مَنْ لَيْسَ بِحَاضِرِ . السَّبَبُ الثَّانِي : أَنْ يَخْتَلِفَ بِكَثْرَةِ الْمُتَرَائِينَ وَقِلَّتِهِمْ فَإِنَّهُمْ إذَا كَثُرُوا كَانَ أَقْرَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يَرَاهُ لِحِدَّةِ بَصَرِهِ وَخِبْرَتِهِ بِمَوْضِعِ طُلُوعِهِ وَالتَّحْدِيقِ نَحْوَ مَطْلَعِهِ وَإِذَا قَلُّوا : فَقَدْ لَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ فَإِذَا ظَنَّ أَنَّهُ يُرَى قَدْ يَكُونُونَ قَلِيلًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَرَوْهُ وَإِذَا قَالَ : لَا يُرَى فَقَدْ يَكُونُ الْمُتَرَاءُونَ كَثِيرًا فِيهِمْ مَنْ فِيهِ قُوَّةٌ عَلَى إدْرَاكِ مَا لَمْ يُدْرِكْهُ غَيْرُهُ . السَّبَبُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَكَانِ التَّرَائِي فَإِنَّ مَنْ كَانَ أَعْلَى مَكَانًا فِي مَنَارَةٍ أَوْ سَطْحٍ عَالٍ أَوْ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَكُونُ عَلَى الْقَاعِ الصَّفْصَفِ أَوْ فِي بَطْنِ وَادٍ . كَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ أَمَامَ أَحَدِ الْمُتَرَائِينَ بِنَاءٌ أَوْ جَبَلٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ يُمْكِنُ مَعَهُ أَنْ يَرَاهُ غَالِبًا وَإِنْ مَنْعَهُ أَحْيَانًا وَقَدْ يَكُونُ لَا شَيْءَ أَمَامَهُ . فَإِذَا قِيلَ : يُرَى مُطْلَقًا لَمْ يَرَهُ الْمُنْخَفِضُ وَنَحْوُهُ وَإِذَا قِيلَ لَا يُرَى فَقَدْ يَرَاهُ الْمُرْتَفِعُ وَنَحْوُهُ وَالرُّؤْيَةُ تَخْتَلِفُ بِهَذَا اخْتِلَافًا ظَاهِرًا . السَّبَبُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ وَقْتِ التَّرَائِي وَذَلِكَ أَنَّ عَادَةَ الحساب أَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ بِبُعْدِهِ وَقْتَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَفِي تِلْكَ
السَّاعَةِ
يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ الشَّمْسِ فَيَكُونُ نُورُهُ قَلِيلًا وَتَكُونُ حُمْرَةُ
شُعَاعِ الشَّمْسِ مَانِعًا لَهُ بَعْضَ الْمَنْعِ فَكُلَّمَا انْخَفَضَ إلَى
الْأُفُقِ بَعُدَ عَنْ الشَّمْسِ فَيَقْوَى شَرْطُ الرُّؤْيَةِ وَيَبْقَى
مَانِعُهَا فَيَكْثُرُ نُورُهُ وَيَبْعُدُ عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ فَإِذَا ظَنَّ
أَنَّهُ لَا يُرَى وَقْتَ الْغُرُوبِ أَوْ عَقِبَهُ فَإِنَّهُ يُرَى بَعْدَ ذَلِكَ
وَلَوْ عِنْدَ هُوِيِّهِ فِي الْمَغْرِبِ وَإِنْ قَالَ : إنَّهُ يُضْبَطُ حَالُهُ
مِنْ حِينِ وُجُوبِ الشَّمْسِ إلَى حِينِ وُجُوبِهِ فَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ أَنْ
يَضْبُطَ عَدَدَ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُرْتَفِعًا بِقَدْرِ مَا
بَيْنَهُمَا مِنْ الْبُعْدِ أَمَّا مِقْدَارُ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الضَّوْءِ
وَمَا يَزُولُ مِنْ الشُّعَاعِ الْمَانِعِ لَهُ فَإِنَّ بِذَلِكَ تَحْصُلُ
الرُّؤْيَةُ بِضَبْطِهِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ - يَصِحُّ مَعَ الرُّؤْيَةِ دَائِمًا
أَوْ يَمْتَنِعُ دَائِمًا - فَهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَبَدًا وَلَيْسَ هُوَ
فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مُنْضَبِطًا خُصُوصًا إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ (1) .
السَّبَبُ الْخَامِسُ : صَفَاءُ الْجَوِّ وَكَدَرُهُ . لَسْت أَعْنِي إذَا كَانَ
هُنَاكَ حَائِلٌ يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ كَالْغَيْمِ وَالْقَتَرِ الْهَائِجِ مِنْ
الْأَدْخِنَةِ وَالْأَبْخِرَةِ وَإِنَّمَا إذَا كَانَ الْجَوُّ بِحَيْثُ يُمْكِنُ
فِيهِ رُؤْيَتُهُ أَمْكَنَ مِنْ بَعْضٍ إذَا كَانَ الْجَوُّ صَافِيًا مِنْ كُلِّ
كَدَرٍ فِي مِثْلِ مَا يَكُونُ فِي الشِّتَاءِ عَقِبَ الْأَمْطَارِ فِي
الْبَرِّيَّةِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ بُخَارٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي
الْجَوِّ بُخَارٌ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ
فِيهِ رُؤْيَتُهُ كَنَحْوِ مَا يَحْصُلُ فِي الصَّيْفِ بِسَبَبِ الْأَبْخِرَةِ وَالْأَدْخِنَةِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَمَا يُمْكِنُ فِي مِثْلِ صَفَاءِ الْجَوِّ . وَأَمَّا صِحَّةُ مُقَابَلَتِهِ وَمَعْرِفَةِ مَطْلَعِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَهَذَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُمْكِنُ الْمُتَرَائِي أَنْ يَتَعَلَّمَهَا . أَوْ يَتَحَرَّاهُ . فَقَدْ يُقَالُ : هُوَ شَرْطُ الرُّؤْيَةِ كَالتَّحْدِيقِ نَحْوَ الْمَغْرِبِ خَلْفَ الشَّمْسِ فَلَمْ نَذْكُرْهُ فِي أَسْبَابِ اخْتِلَافِ الرُّؤْيَةِ . وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مَا لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْمُتَرَائِينَ الْإِحَاطَةُ مِنْ صِفَةِ الْأَبْصَارِ وَأَعْدَادِهَا وَمَكَانِ التَّرَائِيِ وَزَمَانِهِ وَصَفَاءِ الْجَوِّ وَكَدَرِهِ . فَإِذَا كَانَتْ الرُّؤْيَةُ حُكْمًا تَشْتَرِكُ فِيهِ هَذِهِ الْأَسْبَابُ الَّتِي لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا دَاخِلًا فِي حِسَابِ الْحَاسِبِ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ مَعَ ذَلِكَ يُخْبِرُ خَبَرًا عَامًّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ حَيْثُ رَآهُ عَلَى سَبْعٍ أَوْ ثَمَانِ دَرَجَاتٍ أَوْ تِسْعٍ أَمْ كَيْفَ يُمْكِنُهُ يُخْبِرُ خَبَرًا جَزْمًا أَنَّهُ يُرَى إذَا كَانَ عَلَى تِسْعَةٍ أَوْ عَشَرَةٍ مَثَلًا . وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِي قَوْسِ الرُّؤْيَةِ : كَمْ ارْتِفَاعُهُ . مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ تِسْعَةٌ وَنِصْفٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ (1) وَيَحْتَاجُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الصَّيْفِ
وَالشِّتَاءِ : إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ فِي الْبُرُوجِ الشَّمَالِيَّةِ مُرْتَفِعَةً أَوْ فِي الْبُرُوجِ الْجَنُوبِيَّةِ مُنْخَفِضَةً . فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنَّ خَبَرَهُمْ بِالرُّؤْيَةِ مِنْ جِنْسِ خَبَرِهِمْ بِالْأَحْكَامِ وَأَضْعَفَ وَذَلِكَ أَنَّهُ هَبْ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةَ سَبَبُ الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ . فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُمْكِنُ الْمُسْلِمُ أَنْ يَجْزِمَ بِنَفْيِهِ إذْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْيَانَهَا وَصِفَاتِهَا وَحَرَكَاتِهَا سَبَبًا لِبَعْضِ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُحِيلُهُ شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ لَكِنْ الْمُسْلِمُونَ قِسْمَانِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا لَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهِ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ . وَآخَرُ يَقُولُ : بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ بَعْضُهُ بِالتَّجْرِبَةِ وَلِأَنَّ الشَّرِيعَةَ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ لَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ } وَالتَّخْوِيفُ إنَّمَا يَكُونُ بِوُجُودِ سَبَبِ الْخَوْفِ فَعُلِمَ أَنَّ كُسُوفَهُمَا قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِأَمْرٍ مَخُوفٍ وَقَوْلُهُ { لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ } رَدٌّ لِمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ النَّاسِ . فَإِنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ يَوْمَ مَوْتِ إبْرَاهِيمَ فَاعْتَقَدَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا خَسَفَتْ مِنْ أَجْلِ مَوْتِهِ تَعْظِيمًا لِمَوْتِهِ وَأَنَّ مَوْتَهُ سَبَبُ خُسُوفِهَا فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَنْخَسِفُ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَاتَ أَحَدٌ وَلَا لِأَجْلِ أَنَّهُ حَيِيَ أَحَدٌ . وَهَذَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ : مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ فَقَالُوا . كُنَّا نَقُولُ : وُلِدَ اللَّيْلَةَ عَظِيمٌ أَوْ مَاتَ عَظِيمٌ فَقَالَ : إنَّهُ لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى بِالْقَضَاءِ سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ } الْحَدِيثَ . فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الشُّهُبَ الَّتِي يُرْجَمُ بِهَا لَا يَكُونُ عَنْ سَبَبِ حَدَثٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا يَكُونُ عَنْ أَمْرٍ حَدَثَ فِي السَّمَاءِ وَأَنَّ الرَّمْيَ بِهَا لِطَرْدِ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ . وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ هُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ . كَمَا قَالَ اللَّهُ : { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلَّا تَخْوِيفًا } فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةَ قَدْ تَكُونُ سَبَبَ عَذَابٍ ؛ وَلِهَذَا شَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْخَوْفِ مَا يَدْفَعُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَأَمَرَ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ - الصَّلَاةُ الطَّوِيلَةُ - وَأَمَرَ بِالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْبَلَاءَ وَالدُّعَاءَ
لَيَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } فَالدُّعَاءُ وَنَحْوُهُ يَدْفَعُ الْبَلَاءَ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ . فَإِنْ قُلْت : مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ - وَإِنْ كَانَ مُنْتَسِبًا إلَى عِلْمِ - مَنْ يَجْزِمُ بِأَنَّ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِحُدُوثِ أَمْرٍ أَلْبَتَّةَ وَرُبَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ وَإِثْبَاتَهُ مِنْ جُمْلَةِ التَّنْجِيمِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ النُّجُومِ فَقَدْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَرُبَّمَا احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِمَا فَهِمَهُ مِنْ قَوْلِهِ : { لَا يَكْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ } وَاعْتَقَدَ أَنَّ الْعِلَّةَ هُنَا هِيَ الْعِلَّةُ الغائية : أَيْ لَا يَكْسِفَانِ لِيَحْدُثَ عَنْ ذَلِكَ مَوْتٌ أَوْ حَيَاةٌ ؟ قُلْت : قَوْلُ هَذَا جَهْلٌ ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَنْفِيَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ . وَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ هُوَ الشَّيْطَانُ فَقَالَ : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ : { إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَلِكَ
وَلَا فِي الْعَقْلِ وَمَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ مَا يُعْلَمُ بِهِ نَفْيُ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا نَفْيُ ذَلِكَ جَزْمًا بِغَيْرِ مِثْلُ نَفْيِ بَعْضِ الْجُهَّالِ أَنْ تَكُونَ الْأَفْلَاكُ مُسْتَدِيرَةً : فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي ذَلِكَ جَزْمًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي الْجَزْمَ بِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَكِلَاهُمَا جَهْلٌ . فَمِنْ أَيْنَ لَهُ نَفْيُ ذَلِكَ أَوْ نَفْيُ الْعَامِّ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَلَا دَلِيلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا مَا قَدْ يَفْهَمُهُ بِفَهْمِهِ النَّاقِصِ . هَذَا وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } وَقَالَ : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ : فِي فَلْكَةٍ مِثْلِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ وَهَكَذَا هُوَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْفَلَكُ الشَّيْءُ الْمُسْتَدِيرُ . وَمِنْهُ يُقَالُ : تَفَلَّكَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إذَا اسْتَدَارَ . قَالَ تَعَالَى : { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } وَالتَّكْوِيرُ هُوَ التَّدْوِيرُ . وَمِنْهُ قِيلَ : كَارَ الْعِمَامَةَ وَكَوَّرَهَا إذَا أَدَارَهَا . وَمِنْهُ قِيلَ : لِلْكُرَةِ كُرَةٌ وَهِيَ الْجِسْمُ الْمُسْتَدِيرُ وَلِهَذَا يُقَالُ : لِلْأَفْلَاكِ كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْكُرَةِ كورة تَحَرَّكَتْ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا وَكَوَّرْت الْكَارَةَ إذَا دَوَّرْتهَا وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : { إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
كَأَنَّهُمَا ثَوْرَانِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } وَقَالَ تَعَالَى : { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } مِثْلِ حُسْبَانِ الرَّحَا وَقَالَ : { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَسْتَدِيرُ مِنْ أَشْكَالِ الْأَجْسَامِ دُونَ الْمُضَلَّعَاتِ مِنْ الْمُثَلَّثِ أَوْ الْمُرَبَّعِ أَوْ غَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ يَتَفَاوَتُ لِأَنَّ زَوَايَاهُ مُخَالِفَةٌ لِقَوَائِمِهِ وَالْجِسْمِ الْمُسْتَدِيرِ مُتَشَابِهُ الْجَوَانِبِ وَالنَّوَاحِي لَيْسَ بَعْضُهُ مُخَالِفًا لِبَعْضِ . { وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ : إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك . فَقَالَ : وَيْحَك إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ . إنَّ شَأْنَهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ هَكَذَا وَقَالَ بِيَدِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ : وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ } رَوَاهُ . أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهَا أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْفِرْدَوْسَ هِيَ الْأَعْلَى وَالْأَوْسَطُ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الصُّورَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ فَأَمَّا الْمُرَبَّعُ وَنَحْوُهُ فَلَيْسَ أَوْسَطُهُ أَعْلَاهُ بَلْ هُوَ مُتَسَاوٍ . وَأَمَّا إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ : فَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ - الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ قَاضِي
الْبَصْرَةِ مِنْ التَّابِعِينَ - : السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْمُنَادِي مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِمَعْرِفَةِ الْآثَارِ وَالتَّصَانِيفِ الْكِبَارِ فِي فُنُونِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ السَّمَاءَ عَلَى مِثَالِ الْكَرَّةِ وَأَنَّهَا تَدُورُ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا مِنْ الْكَوَاكِبِ كَدَوْرَةِ الْكُرَةِ عَلَى قُطْبَيْنِ ثَابِتَيْنِ غَيْرِ مُتَحَرِّكَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي نَاحِيَةِ الشَّمَالِ وَالْآخَرُ فِي نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ . قَالَ : وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ جَمِيعَهَا تَدُورُ مِنْ الْمَشْرِقِ تَقَعُ قَلِيلًا عَلَى تَرْتِيبٍ وَاحِدٍ فِي حَرَكَاتِهَا وَمَقَادِيرِ أَجْزَائِهَا إلَى أَنْ تَتَوَسَّطَ السَّمَاءَ ثُمَّ تَنْحَدِرُ عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ . كَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي كُرَةٍ تُدِيرُهَا جَمِيعَهَا دَوْرًا وَاحِدًا . قَالَ : وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ حَرَكَاتِهَا مِنْ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِثْلُ الْكُرَةِ . قَالَ : وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ لَا يُوجَدُ طُلُوعُهَا وَغُرُوبُهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ عَلَى الْمَشْرِقِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ . قَالَ : فَكُرَةُ الْأَرْضِ مُثَبَّتَةٌ فِي وَسَطِ كَرَّةِ السَّمَاءِ كَالنُّقْطَةِ فِي الدَّائِرَةِ . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ جُرْمَ كُلِّ كَوْكَبٍ يُرَى فِي جَمِيعِ نَوَاحِي السَّمَاءَ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى بُعْدِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ جَمِيعِ
الْجِهَاتِ بِقَدْرِ وَاحِدٍ فَاضْطِرَارُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضَ وَسَطَ السَّمَاءِ . وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ النَّبَوِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْعَرْشَ سَقْفُ الْجَنَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ مَعَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ مُتَنَاقِضٌ أَوْ مُقْتَضٍ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَحْتَ بَعْضِ خَلْقِهِ " كَمَا احْتَجَّ بَعْضُ الْجَهْمِيَّة عَلَى إنْكَارِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ بِاسْتِدَارَةِ الْأَفْلَاكِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزَمٌ كَوْنَ الرَّبِّ أَسْفَلَ . وَهَذَا مِنْ غَلَطِهِمْ فِي تَصَوُّرِ الْأَمْرِ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ وَأَنَّ الْمُحِيطَ الَّذِي هُوَ السَّقْفُ هُوَ أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَأَنَّ الْمَرْكَزَ الَّذِي هُوَ بَاطِنُ ذَلِكَ وَجَوْفُهُ وَهُوَ قَعْرُ الْأَرْضِ هُوَ " سِجِّينٌ " " وَأَسْفَلُ سَافِلِينَ " عَلِمَ مِنْ مُقَابَلَةِ اللَّهِ بَيْنَ أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَبَيْنَ سِجِّينٍ مَعَ أَنَّ الْمُقَابَلَةَ : إنَّمَا تَكُونُ فِي الظَّاهِرِ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ أَوْ بَيْنَ السِّعَةِ وَالضِّيقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُلُوَّ مُسْتَلْزَمٌ لِلسِّعَةِ وَالضِّيقِ مُسْتَلْزِمٌ لِلسُّفُولِ وَعَلِمَ أَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ تَحْتَهَا قَطُّ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَدِيرَةً مُحِيطَةً وَكَذَلِكَ كُلَّمَا عَلَا كَانَ أَرْفَعَ وَأَشْمَلَ . وَعَلِمَ أَنَّ الْجِهَةَ قِسْمَانِ : قِسْمٌ ذَاتِيٌّ . وَهُوَ الْعُلُوُّ وَالسُّفُولُ فَقَطْ . وَقِسْمٌ إضَافِيٌّ : وَهُوَ مَا يُنْسَبُ إلَى الْحَيَوَانِ بِحَسَبِ حَرَكَتِهِ : فَمَا أَمَامَهُ
يُقَالُ لَهُ : أَمَامٌ وَمَا خَلْفَهُ يُقَالُ لَهُ خَلْفٌ وَمَا عَنْ يَمِينِهِ يُقَالُ لَهُ الْيَمِينُ وَمَا عَنْ يَسْرَتِهِ يُقَالُ لَهُ الْيَسَارُ وَمَا فَوْقَ رَأْسِهِ يُقَالُ لَهُ فَوْقٌ وَمَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ يُقَالُ لَهُ تَحْتٌ وَذَلِكَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ . أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَلَّقَ رِجْلَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَرَأْسُهُ إلَى الْأَرْضِ أَلَيْسَتْ السَّمَاءُ فَوْقَهُ وَإِنْ قَابَلَهَا بِرِجْلَيْهِ وَكَذَلِكَ النَّمْلَةُ أَوْ غَيْرُهَا لَوْ مَشَى تَحْتَ السَّقْفِ مُقَابِلًا لَهُ بِرِجْلَيْهِ وَظَهْرُهُ إلَى الْأَرْضِ لَكَانَ الْعُلُوُّ مُحَاذِيًا لَرِجْلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ وَأَسْفَلُ سَافِلِينَ يَنْتَهِي إلَى جَوْفِ الْأَرْضِ . وَالْكَوَاكِبُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مُحَاذِيًا لِرُءُوسِنَا وَبَعْضُهَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ الْفَلَكِ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا تَحْتَ شَيْءٍ بَلْ كُلُّهَا فَوْقَنَا فِي السَّمَاءِ وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ إذَا تَصَوَّرَ هَذَا يَسْبِقُ إلَى وَهْمِهِ السُّفْلُ الْإِضَافِيُّ كَمَا احْتَجَّ بِهِ الجهمي الَّذِي أَنْكَرَ عُلُوَّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ وَخَيَّلَ عَلَى مَنْ لَا يَدْرِي أَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَقَدْ جَعَلَهُ تَحْتَ نِصْفِ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ جَعَلَهُ فَلَكًا آخَرَ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَاهِلُ . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَازِمٌ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِاَللَّهِ وَلَا هِيَ لَازِمَةٌ بَلْ هَذَا يُصَدِّقُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِ الْإِدْلَاءِ ؛
فَإِنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَيَدُلُّ عَلَى إحَاطَةِ الْعَرْشِ كَوْنُهُ سَقْفَ الْمَخْلُوقَاتِ . وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى قَوْلِهِ هَبَطَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ كَمَا فَعَلَ التِّرْمِذِيُّ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ الْأَمْرُ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَمْ يَعْرِفْ صُورَةَ الْمَخْلُوقَاتِ وَخَشِيَ أَنْ يَتَأَوَّلهُ الجهمي أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ قَالَ : هَكَذَا وَإِلَّا فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُ حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا . وَمَا عُلِمَ بِالْمَعْقُولِ مِنْ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ يُصَدِّقُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَيَشْهَدُ لَهُ . فَنَقُولُ : إذَا تَبَيَّنَ أَنَّا نَعْرِفُ مَا قَدْ عُرِفَ مِنْ اسْتِدَارَةِ الْأَفْلَاكِ عُلِمَ أَنَّ الْمُنْكِرَ لَهُ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ الْأَدِلَّةِ لَكِنْ الْمُتَوَقِّفُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَزَلْ يَسْتَفِيدُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ لَا يَثِقُ بِهَا . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ } وَأَنَّ كَوْنَ بَعْضِ الْحَرَكَاتِ الْعَالِيَةِ سَبَبٌ لِبَعْضِ الْحَوَادِثِ مِمَّا لَا يُنْكَرُ بَلْ إمَّا أَنْ يُقْبَلَ أَوْ لَا يُرَدَّ . فَالْقَوْلُ بِالْأَحْكَامِ النُّجُومِيَّةُ بَاطِلٌ عَقْلًا مُحَرَّمٌ شَرْعًا وَذَلِكَ أَنَّ حَرَكَةَ الْفَلَكِ وَإِنْ كَانَ لَهَا أَثَرٌ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً بَلْ تَأْثِيرُ الْأَرْوَاحِ وَغَيْرِهَا
مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَشَدُّ مِنْ تَأْثِيرِهِ وَكَذَلِكَ تَأْثِيرُ الْأَجْسَامِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ وَكَذَلِكَ تَأْثِيرُ قُلُوبِ الْآدَمِيِّينَ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُؤَثِّرَاتِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَالصَّابِئَةِ الْمُشْتَغِلِينَ بِأَحْكَامِ النُّجُومِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِر الْأُمَمِ فَهُوَ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ جُزْءُ السَّبَبِ وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ أَوْ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِتَمَامِ السَّبَبِ فَالْعِلْمُ بِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِسُرْعَةِ حَرَكَتِهِ وَإِنْ فُرِضَ الْعِلْمُ بِهِ فَمَحَلُّ تَأْثِيرِهِ لَا يَنْضَبِطُ ؛ إذْ لَيْسَ تَأْثِيرُ خُسُوفِ الشَّمْسِ فِي الْإِقْلِيمِ الْفُلَانِيِّ بِأَوْلَى مِنْ الْإِقْلِيمِ الْآخَرِ وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ قَدْ حُصِّلَ بِشُرُوطِهِ وَعُلِمَ بِهِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا يَصْغُرُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ يُعَارِضُ مُقْتَضَى ذَلِكَ السَّبَبِ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ عِنْدَ الْخُسُوفِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ يَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ . وَالْمُنَجِّمُونَ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ حَتَّى قَالَ كَبِيرُهُمْ " بَطْلَيْمُوسُ " ضَجِيجُ الْأَصْوَاتِ فِي هَيَاكِلِ الْعِبَادَاتِ بِفُنُونِ الدَّعَوَاتِ مِنْ جَمِيعِ اللُّغَاتِ يُحَلِّلُ مَا عَقَدْته الْأَفْلَاكُ الدَّائِرَاتُ فَصَارَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ إنْ حَدَثَ سَبَبُ خَيْرٍ كَانَ ذَلِكَ : الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ يُقَوِّيهِ وَيُؤَيِّدُهُ وَإِنْ حَدَثَ سَبَبٌ شَرٍّ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ يَدْفَعُهُ وَكَذَلِكَ اسْتِخَارَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ إذَا هَمَّ بِأَمْرِ كَمَا
أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ } الْحَدِيثَ فَهَذِهِ الِاسْتِخَارَةُ لِلَّهِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ خَالِقِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ الطَّالِعَ فِيمَا يُرِيدُ فِعْلَهُ . فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ غَايَتُهُ تَحْصِيلُ سَبَبٍ وَاحِدٍ مِنْ أَسْبَابِ النُّجْحِ إنْ صَحَّ . وَالِاسْتِخَارَةُ أَخْذٌ لِلنُّجْحِ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْخِيَرَةَ فَإِمَّا أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَ الْإِنْسَانِ وَيُيَسِّرَ الْأَسْبَابَ أَوْ يُعَسِّرَهَا وَيَصْرِفَهُ عَنْ ذَلِكَ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ } الْحَدِيثَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْعَرَّافُ يَعُمُّ الْمُنَجِّمَ وَغَيْرَهُ إمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنًى . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ النُّجُومِ فَقَدْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَاد مَا زَادَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه فَقَدْ تَبَيَّنَ تَحْرِيمُ الْأَخْذِ بِأَحْكَامِ النُّجُومِ عِلْمًا أَوْ عَمَلًا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مُتَعَذِّرٌ فِي الْغَالِبِ . لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحَوَادِثِ وَشُرُوطَهَا وَمَوَانِعَهَا لَا تُضْبَطُ بِضَبْطِ حَرَكَةِ بَعْضِ الْأُمُورِ وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ الْإِصَابَةُ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ بَقِيَّةُ الْأَسْبَابِ مَوْجُودَةً . وَالْمَوَانِعُ مُرْتَفِعَةً . لَا أَنَّ ذَلِكَ عَنْ دَلِيلٍ مُطَّرِدٍ لَازِمًا أَوْ غَالِبًا . وَحُذَّاقُ الْمُنَجِّمِينَ يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ . وَيَعْرِفُونَ أَنَّ طَالِعَ الْبِلَادِ لَا
يَسْتَقِيمُ الْحُكْمُ بِهِ غَالِبًا لِمُعَارَضَةِ ؛ طَالِعٍ لِوَقْتِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوَانِعِ وَيَقُولُونَ : إنَّ الْأَحْكَامَ مَبْنَاهَا عَلَى الْحَدْسِ وَالْوَهْمِ . فَنُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَفِي الْأَحْكَامِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ يُعْلَمُ بِأَدِلَّةِ الْعُقُولِ امْتِنَاعُ ضَبْطِ ذَلِكَ وَيُعْلَمُ بِأَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمُ ذَلِكَ وَالِاسْتِغْنَاءُ عَمَّا نَظُنُّ مِنْ مَنْفَعَتِهِ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ عُلُومٍ صَادِقَةٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مَنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَبَيْنَ ظُنُونٍ كَاذِبَةٍ لَا ثِقَةَ بِهَا وَأَنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ . وَلَقَدْ صَدَقَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْحَاسِبَ إذَا قَتَلَ نَفْسَهُ فِي حِسَابِ الدَّقَائِقِ وَالثَّوَانِي كَانَ غَايَتُهُ مَا لَا يُفِيدُ . وَإِنَّمَا تَعِبُوا عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْأَحْكَامِ . وَهِيَ ظُنُونٌ كَاذِبَةٌ . أَمَّا الْكَلَامُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَإِنْ كَانَ عِلْمًا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ ظَنًّا مِثْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ الرَّاجِحِ فَهُوَ عَمَلٌ بِعِلْمِ . وَهُوَ ظَنٌّ يُثَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ . آخَرُ مَا وُجِدَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَهْلِ مَدِينَةٍ رَأَى بَعْضُهُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَلَمْ يَثْبُتْ
عِنْدَ حَاكِمِ الْمَدِينَةِ : فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يَصُومُوا الْيَوْمَ الَّذِي
فِي الظَّاهِرِ التَّاسِعُ . وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ الْعَاشِرَ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، يَصُومُونَ التَّاسِعَ فِي الظَّاهِرِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ
وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَكُونُ عَاشِرًا وَلَوْ قُدِّرَ ثُبُوتُ
تِلْكَ الرُّؤْيَةِ . فَإِنَّ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَوْمُكُمْ يَوْمَ
تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ }
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ . وَعَنْ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ
وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَعَلَى هَذَا
الْعَمَلُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ . فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ
وَقَفُوا بِعَرَفَةَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ خَطَأً أَجْزَأَهُمْ الْوُقُوفُ
بِالِاتِّفَاقِ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي حَقِّهِمْ . وَلَوْ وَقَفُوا الثَّامِنَ خَطَأً فَفِي الْإِجْزَاءِ نِزَاعٌ . وَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ الْوُقُوفِ أَيْضًا وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٌ وَمَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قَالَتْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - " إنَّمَا عَرَفَةُ الْيَوْمُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ " وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْهِلَالِ وَالشَّهْرِ فَقَالَ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } وَالْهِلَالُ اسْمٌ لِمَا يُسْتَهَلُّ بِهِ : أَيْ يُعْلَنُ بِهِ وَيُجْهَرُ بِهِ فَإِذَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ وَيَسْتَهِلُّوا لَمْ يَكُنْ هِلَالًا . وَكَذَا الشَّهْرُ مَأْخُوذٌ مِنْ الشُّهْرَةِ فَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بَيْنَ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ الشَّهْرُ قَدْ دَخَلَ وَإِنَّمَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؟ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ إذَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ أَوَّلَ الشَّهْرِ سَوَاءٌ ظَهَرَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَاسْتَهَلُّوا بِهِ أَوْ لَا . وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ ظُهُورُهُ لِلنَّاسِ وَاسْتِهْلَالُهُمْ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْم تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْم تُضَحُّونَ } أَيْ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَعْلَمُونَ أَنَّهُ وَقْتُ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَالْأَضْحَى . فَإِذَا لَمْ تَعْلَمُوهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ . وَصَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ : هَلْ هُوَ تَاسِعُ ذِي الْحِجَّةِ . أَوْ عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ ؟ جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛
لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعَاشِرِ . كَمَا أَنَّهُمْ لَوْ شَكُّوا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ ؛ هَلْ طَلَعَ الْهِلَالُ ؟ أَمْ لَمْ يَطْلُعْ ؟ فَإِنَّهُمْ يَصُومُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَإِنَّمَا يَوْمُ الشَّكِّ الَّذِي رُوِيَتْ فِيهِ الْكَرَاهَةُ الشَّكُّ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ شَعْبَانَ . وَإِنَّمَا الَّذِي يَشْتَبِهُ فِي هَذَا الْبَابِ مَسْأَلَتَانِ : إحْدَاهُمَا : لَوْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ جَمَاعَةٌ يَعْلَمُ صِدْقَهُمْ : هَلْ يُفْطِرُ ؟ أَمْ لَا ؟ وَالثَّانِيَةُ : لَوْ رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ أَخْبَرَهُ جَمَاعَةٌ يَعْلَمُ صِدْقَهُمْ هَلْ يَكُونُ فِي حَقِّهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ هُوَ التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ بِحَسَبِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ الَّتِي لَمْ تَشْتَهِرْ عِنْدَ النَّاسِ ؟ أَوْ هُوَ التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ الَّذِي اشْتَهَرَ عِنْدَ النَّاسِ ؟ . فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فَالْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ لَا يُفْطِرُ عَلَانِيَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ يُبِيحُ الْفِطْرَ كَمَرَضِ وَسَفَرٍ وَهَلْ يُفْطِرُ سِرًّا عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ أَصَحُّهُمَا لَا يُفْطِرُ سِرًّا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِمَا . وَفِيهِمَا قَوْلٌ أَنَّهُ يُفْطِرُ سِرًّا كَالْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَيَا هِلَالَ شَوَّالٍ فَأَفْطَرَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُفْطِرْ الْآخَرُ . فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ قَالَ : لِلَّذِي أَفْطَرَ لَوْلَا صَاحِبُك لَأَوْجَعْتُك ضَرْبًا . وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِطْرَ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ وَاَلَّذِي صَامَهُ الْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَيْسَ هُوَ يَوْمَ الْعِيدِ الَّذِي نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِهِ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ . وَقَالَ : { أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صَوْمِكُمْ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيَوْمَ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ } . فَاَلَّذِي نَهَى عَنْ صَوْمِهِ هُوَ الْيَوْمَ الَّذِي يُفْطِرُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَنْسُكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ . وَهَذَا يَظْهَرُ بِالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ بِرُؤْيَةِ ذِي الْحِجَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقِفَ قَبْلَ النَّاسِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ فِي الظَّاهِرِ الثَّامِنُ وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ رُؤْيَتِهِ هُوَ التَّاسِعَ وَهَذَا لِأَنَّ فِي انْفِرَادِ الرَّجُلِ فِي الْوُقُوفِ وَالذَّبْحِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ مَا فِي إظْهَارِهِ لِلْفِطْرِ . وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ التَّاسِعِ فِي حَقِّ مَنْ رَأَى الْهِلَالَ أَوْ أَخْبَرَهُ ثِقَتَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا الْهِلَالَ وَهُوَ الْعَاشِرُ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَهُوَ الْعَاشِرُ بِحَسَبِ الرُّؤْيَةِ الْخَفِيَّةِ فَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
فَمَنْ أَمَرَهُ بِالصَّوْمِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ الَّذِي هُوَ بِحَسَبِ الرُّؤْيَةِ الْخَفِيَّةِ مِنْ شَوَّالٍ وَلَمْ يَأْمُرْهُ . بِالْفِطْرِ سِرًّا سَوَّغَ لَهُ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ وَاسْتَحَبَّهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ رَمَضَانَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ . وَمَنْ أَمَرَهُ بِالْفِطْرِ سِرًّا لِرُؤْيَتِهِ نَهَاهُ عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ كَهِلَالِ شَوَّالٍ الَّذِي انْفَرَدَ بِرُؤْيَتِهِ . فَإِنْ قِيلَ قَدْ يَكُونُ الْإِمَامُ الَّذِي فُوِّضَ إلَيْهِ إثْبَاتُ الْهِلَالِ مُقَصِّرًا لِرَدِّهِ شَهَادَةَ الْعُدُولِ إمَّا لِتَقْصِيرِهِ . فِي الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ وَإِمَّا رَدَّ شَهَادَتَهُمْ لِعَدَاوَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَيْسَتْ بِشَرْعِيَّةِ أَوْ لِاعْتِمَادِهِ . عَلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُرَى . قِيلَ : مَا يَثْبُتُ مِنْ الْحُكْمِ لَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ بَيْنَ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا كَانَ أَوْ مُخْطِئًا أَوْ مُفَرِّطًا فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ الْهِلَالُ وَيَشْتَهِرُ بِحَيْثُ يَتَحَرَّى النَّاسُ فِيهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فِي الْأَئِمَّةِ : { يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } . فَخَطَؤُهُ وَتَفْرِيطُهُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يُفَرِّطُوا وَلَمْ يُخْطِئُوا .
وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى حِسَابِ النُّجُومِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } . وَالْمُعْتَمِدُ عَلَى الْحِسَابِ فِي الْهِلَالِ كَمَا أَنَّهُ ضَالٌّ فِي الشَّرِيعَةِ مُبْتَدِعٌ فِي الدِّينِ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي الْعَقْلِ وَعِلْمِ الْحِسَابِ . فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ . بِالْهَيْئَةِ يَعْرِفُونَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَنْضَبِطُ بِأَمْرٍ حِسَابِيٍّ وَإِنَّمَا غَايَةُ الْحِسَابِ مِنْهُمْ إذَا عَدَلَ أَنْ يَعْرِفَ كَمْ بَيْنَ الْهِلَالِ وَالشَّمْسِ مِنْ دَرَجَةٍ وَقْتَ الْغُرُوبِ مَثَلًا ؛ لَكِنَّ الرُّؤْيَةَ لَيْسَتْ مَضْبُوطَةً بِدَرَجَاتٍ مَحْدُودَةٍ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حِدَّةِ النَّظَرِ وكلاله وَارْتِفَاعِ الْمَكَانِ الَّذِي يَتَرَاءَى فِيهِ الْهِلَالُ وَانْخِفَاضِهِ وَبِاخْتِلَافِ صَفَاءِ . الْجَوِّ وَكَدَرِهِ . وَقَدْ يَرَاهُ بَعْضُ النَّاسِ لِثَمَانِ دَرَجَاتٍ وَآخَرُ لَا يَرَاهُ لِثِنْتَيْ عَشْرَ دَرَجَةً ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ أَهْلُ الْحِسَابِ فِي قَوْسِ الرُّؤْيَةِ تَنَازُعًا مُضْطَرِبًا وَأَئِمَّتُهُمْ : كَبَطْلَيْمُوسَ لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ بِحَرْفِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ حِسَابِيٌّ . وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ مِثْلُ كوشيار الديلمي وَأَمْثَالِهِ . لَمَّا رَأَوْا الشَّرِيعَةَ عَلَّقَتْ الْأَحْكَامَ بِالْهِلَالِ فَرَأَوْا الْحِسَابَ طَرِيقًا تَنْضَبِطُ فِيهِ
الرُّؤْيَةُ وَلَيْسَتْ طَرِيقَةٌ مُسْتَقِيمَةً وَلَا مُعْتَدِلَةً بَلْ خَطَؤُهَا كَثِيرٌ وَقَدْ جُرِّبَ وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ كَثِيرًا : هَلْ يُرَى ؟ أَمْ لَا يُرَى ؟ وَسَبَبُ ذَلِكَ : أَنَّهُمْ ضَبَطُوا بِالْحِسَابِ مَا لَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ فَأَخْطَئُوا طَرِيقَ الصَّوَابِ وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنْت أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي يُوَافِقُهُ الْعَقْلُ الصَّرِيحُ كَمَا تَكَلَّمْت عَلَى حَدِّ الْيَوْمِ أَيْضًا وَبَيَّنْت أَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ بِالْحِسَابِ ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ يَظْهَرُ بِسَبَبِ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ الْعِشَاءِ مِنْ حِصَّةِ الْفَجْرِ إنَّمَا يَصِحُّ كَلَامُهُ لَوْ كَانَ الْمُوجِبُ لِظُهُورِ النُّورِ وَخَفَائِهِ مُجَرَّدُ مُحَاذَاةِ الْأُفُقِ الَّتِي تُعْلَمُ بِالْحِسَابِ . فَأَمَّا إذَا كَانَ لِلْأَبْخِرَةِ فِي ذَلِكَ تَأْثِيرٌ وَالْبُخَارُ يَكُونُ فِي الشِّتَاءِ وَالْأَرْضِ الرَّطْبَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ فِي الصَّيْفِ وَالْأَرْضِ الْيَابِسَةِ . وَكَانَ ذَلِكَ لَا يَنْضَبِطُ بِالْحِسَابِ فَسَدَتْ طَرِيقَةُ الْقِيَاسِ الْحِسَابِيِّ . وَلِهَذَا تُوجَدُ حِصَّةُ الْفَجْرِ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ أَطْوَلَ مِنْهَا فِي زَمَانِ الصَّيْفِ . وَالْآخِذُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ الْحِسَابِيِّ يُشْكِلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّ حِصَّةَ الْفَجْرِ عِنْدَهُ تَتْبَعُ النَّهَارَ وَهَذَا أَيْضًا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ وَمَنْ يَصُومُ يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُنْسَبُ
إلَى الْجَهْلِ . وَيُقَالُ لَهُ الْفِطْرُ أَفْضَلُ وَمَا هُوَ مَسَافَةُ
الْقَصْرِ : وَهَلْ إذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ مِنْ يَوْمِهِ يُفْطِرُ ؟ ؟ وَهَلْ
يُفْطِرُ السُّفَّارُ مِنْ الْمُكَارِيَةِ وَالتُّجَّارِ وَالْجَمَّالِ
وَالْمَلَّاحِ وَرَاكِبِ الْبَحْرِ ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ سَفَرِ الطَّاعَةِ
وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ
سَوَاءٌ كَانَ سَفَرَ حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ
الْأَسْفَارِ الَّتِي لَا يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَتَنَازَعُوا فِي
سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَاَلَّذِي يُسَافِرُ لِيَقْطَعَ الطَّرِيقَ وَنَحْوِ ذَلِكَ
عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ كَمَا تَنَازَعُوا فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ .
فَأَمَّا السَّفَرُ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ
الْفِطْرُ مَعَ الْقَضَاءِ
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَيَجُوزُ الْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ سَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الصِّيَامِ أَوْ عَاجِزًا وَسَوَاءٌ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ أَوْ لَمْ يَشُقَّ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا فِي الظِّلِّ وَالْمَاءِ وَمَعَهُ مَنْ يَخْدِمُهُ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ وَالْقَصْرُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْفِطْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْ عَجَزَ عَنْ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى الْمُفْطِرِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمُفْطِرَ عَلَيْهِ إثْمٌ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ خِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ وَخِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِلَافُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ . وَهَكَذَا السُّنَّةُ لِلْمُسَافِرِ أَنَّهُ يُصَلِّي الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ وَالْقَصْرُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ التَّرْبِيعِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ : كَمَذْهَبِ مَالِكٌ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ . وَلَمْ تَتَنَازَعْ الْأُمَّةُ فِي جَوَازِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ ؛ بَلْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الصِّيَامِ لِلْمُسَافِرِ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الصَّائِمَ فِي
السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ وَإِنَّهُ إذَا صَامَ لَمْ يَجْزِهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ } لَكِنْ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ وَأَنْ يُفْطِرَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أَنَسٍ قَالَ : كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ فَلَا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ } وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي رَجُلٌ أُكْثِرُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ ؟ فَقَالَ : إنْ أَفْطَرْت فَحَسَنٌ وَإِنْ صُمْت فَلَا بَأْسَ } . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ " { خِيَارُكُمْ الَّذِينَ فِي السَّفَرِ يَقْصُرُونَ وَيُفْطِرُونَ } . وَأَمَّا مِقْدَارُ السَّفَرِ الَّذِي يُقْصَرُ فِيهِ وَيُفْطَرُ : فَمَذْهَبُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهُ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ وَهُوَ سِتَّةُ عَشَرَ فَرْسَخًا كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وعسفان وَمَكَّةَ وَجُدَّةَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَسِيرَةُ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : بَلْ يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ فِي أَقَلِّ مِنْ يَوْمَيْنِ . وَهَذَا قَوْلٌ قَوِيٌّ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَخَلْفُهُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ يُصَلُّونِ بِصَلَاتِهِ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ . وَإِذَا سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . أَظْهَرُهُمَا : أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ . كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَنِ أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ كَانَ يُفْطِرُ إذَا خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ وَيَذْكُرُ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَوَى الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ إنَّهُ دَعَا بِمَاءِ فَأَفْطَرَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ } . وَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي : فَيُفْطِرُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ وَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ سَفَرِهِ يَوْمَيْنِ فِي مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَّةِ . وَأَمَّا إذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ فَفِي وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ سَوَاءً أَمْسَكَ أَوْ لَمْ يُمْسِكْ .
وَيُفْطِرُ مَنْ عَادَتُهُ السَّفَرُ إذَا كَانَ لَهُ بَلَدٌ يَأْوِي إلَيْهِ . كَالتَّاجِرِ الْجَلَّابِ الَّذِي يَجْلِبُ الطَّعَامَ وَغَيْرَهُ مِنْ السِّلَعِ وَكَالْمُكَارِي الَّذِي يَكْرِي دَوَابَّهُ مِنْ الْجُلَّابِ وَغَيْرِهِمْ . وَكَالْبَرِيدِ الَّذِي يُسَافِرُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِهِمْ . وَكَذَلِكَ الْمَلَّاحُ الَّذِي لَهُ مَكَانٌ فِي الْبَرِّ يَسْكُنُهُ . فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ امْرَأَتُهُ وَجَمِيعُ مَصَالِحِهِ وَلَا يَزَالُ مُسَافِرًا فَ