49. مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)
== وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ تَبِينُ بِهِ الْمَرْأَةُ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ : هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ تَدُلُّ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ .
= وَعَلَى هَذَا فَإِذَا فَارَقَ الْمَرْأَةَ بِالْعِوَضِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ .
= وَإِذَا قِيلَ : الطَّلَاقُ صَرِيحٌ فِي إحْدَى الثَّلَاثِ فَلَا يَكُونُ كِنَايَةً فِي الْخُلْعِ .
= قِيلَ : إنَّمَا الصَّرِيحُ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ . فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ بِقَيْدِ يُخْرِجُهُ عَنْ ذَلِكَ : فَهُوَ صَرِيحٌ فِي حُكْمِ الْمُقَيَّدِ كَمَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ . أَوْ مِنْ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ ؛ فَإِنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ ؛ لَا فِي الطَّلَاقِ مِنْ النِّكَاحِ . وَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفِ . فَقَالَتْ : قَبِلْت . فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْعِوَضِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْخُلْعِ ؛ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الثَّلَاثِ أَلْبَتَّةَ فَإِذَا نَوَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الثَّلَاثِ فَقَدْ نَوَى بِاللَّفْظِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ كَمَا لَوْ نَوَى بِالْخُلْعِ أَنْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . فَنِّيَّتُهُ هَذَا الْحُكْمَ بَاطِلٌ كَذَلِكَ نِيَّتُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الثَّلَاثِ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى بِالظِّهَارِ الطَّلَاقَ أَوْ نَوَى بِالْإِيلَاءِ الطَّلَاقَ مُؤَجَّلًا مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَعُدُّونَ الظِّهَارَ طَلَاقًا وَالْإِيلَاءَ طَلَاقًا : فَأَبْطَلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ذَلِكَ وَحَكَمَ فِي " الْإِيلَاءِ " بِأَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفِ أَوْ يُسَرِّحَ بِإِحْسَانِ مَعَ تَرَبُّصِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ . وَحَكَمَ فِي " الظِّهَارِ " بِأَنَّهُ إذَا عَادَ كَمَا قَالَ : كَفَرَ قَبْلَ الْمُمَاسَّةِ وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ جَعَلَ الْإِيلَاءَ طَلَاقًا مُؤَجَّلًا أَوْ جَعَلَ التَّحْرِيمَ الَّذِي فِي مَعْنَى الظِّهَارِ طَلَاقًا : قَوْلُهُ مَرْجُوحٌ فِيهِ شَبَهٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ أَوَّلًا بِخِلَافِ مَنْ
فَرَّقَ
بَيْنَ حَقِيقَةِ الظِّهَارِ ؛ وَحَقِيقَةِ الْإِيلَاءِ وَحَقِيقَةِ الطَّلَاقِ ؛
فَإِنَّ هَذَا عَلِمَ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَلَمْ
يُدْخِلْ فِي الْحُدُودِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَمْ يُخْرِجْ مِنْهُ مَا هُوَ فِيهِ
. وَكَذَلِكَ " الِافْتِدَاءُ " لَهُ حَقِيقَةٌ يُبَايِنُ بِهَا مَعْنَى
الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ : فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْخِلَ حَقِيقَةَ الطَّلَاقِ فِي
حَقِيقَةِ الِافْتِدَاءِ ؛ وَلَا حَقِيقَةَ الِافْتِدَاءِ فِي حَقِيقَةِ
الطَّلَاقِ ؛ وَإِنْ عَبَّرَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِلَفْظِ الْآخَرِ أَوْ نَوَى
بِأَحَدِهِمَا حُكْمَ الْآخَرِ فَهُوَ كَمَا إذَا نَوَى بِالطَّلْقَةِ
الْوَاحِدَةِ ؛ أَوْ الْخُلْعِ : أَنْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ . فَنِيَّةُ هَذَا الْحُكْمِ بَاطِلٌ ؛ وَكَذَلِكَ نِيَّتُهُ أَنْ
تَكُونَ مِنْ الثَّلَاثِ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْهَا حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ إلَّا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فَمَنْ نَوَى
هَذَا الْحُكْمَ بِغَيْرِ هَذَا الطَّلَاقِ فَقَدْ قَصَدَ مَا يُنَاقِضُ حُكْمَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ كَذَلِكَ مَنْ نَوَى بِالْفُرْقَةِ الْبَائِنَةِ أَنَّ
الْفُرْقَةَ نَقْصُ بَعْضٍ مِنْ الثَّلَاثِ فَقَدْ قَصَدَ مَا يُنَاقِضُ حُكْمَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ قَصَدَ هَذَا أَوْ
هَذَا لِجَهْلِهِ بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ كَمَا لَوْ قَصَدَ بِسَائِرِ
الْعُقُودِ مَا يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيَكُونُ جَاهِلًا
بِالسُّنَّةِ ؛ فَيُرَدُّ إلَى السُّنَّةِ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ :
رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إلَى السُّنَّةِ . وَكَمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ
فِيمَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ : هُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ فَيُرَدُّ إلَى
السُّنَّةِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُخَالِعِ : {
وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً } إذْنٌ لَهُ فِي الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ بِعِوَضِ
وَنَهْيٌ لَهُ عَنْ الزِّيَادَةِ . كَمَا قَدْ بَيَّنَ دَلَالَةَ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ " الطَّلَاقَ السُّنَّةَ " أَنْ يُطَلِّقَ
طَلْقَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يُرَاجِعُهَا أَوْ يَدَعُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ
عِدَّتُهَا وَأَنَّهُ مَتَى طَلَّقَهَا
ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَبْلَ رَجْعَةٍ أَوْ عَقْدٍ جَدِيدٍ : فَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ مُحَرَّمٍ عِنْدَ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمَا وَأَحْمَد فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ ؛ وَاخْتِيَارِ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . وَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَذِكْرُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةً وَزَمَانَ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ ؛ فَلَمَّا تَتَابَعَ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ ؛ فَلَوْ نَفَّذْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَنْفَذَهُ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَعَلَى كَلَامِ النَّاسِ فِيهِ بِمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَذَكَرْنَا الْحَدِيثَ الْآخَرَ الَّذِي يُوَافِقُهُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ ؛ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنْ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ؛ فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ ؟ أَمْ مَجَالِسَ قَالَ : بَلْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ } وَقَدْ أَثْبَتَ هَذَا الْحَدِيثَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ ؛ وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى فِي حَدِيثِ ركانة . أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ { وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحْلَفَهُ : مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً ؟ قَالَ : مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً . فَرَدَّهَا عَلَيْهِ } فَإِنَّ رُوَاةَ هَذَا مَجَاهِيلُ الصِّفَاتِ لَا يُعْرَفُ عَدْلُهُمْ وَحِفْظُهُمْ وَلِهَذَا ضَعَّفَ أَحْمَد وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ
مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ حَدِيثَهُمْ ؛ بِخِلَافِ حَدِيثِ الثَّلَاثِ فَإِنَّ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ ؛ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِهِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ ؛ وَاَلَّذِينَ رَوَاهُ عُلَمَاءُ فُقَهَاءَ وَقَدْ عَمِلُوا بِمُوجَبِهِ كَمَا أَفْتَى طَاوُوسٌ وَعِكْرِمَةُ ؛ وَابْنُ إسْحَاقَ : أَنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ . وَقَدْ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ : هَذَا أَخْطَأَ السُّنَّةَ فَيُرَدُّ إلَى السُّنَّةِ . وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ مِنْ تَقْدِيمِ رِوَايَةِ أَلْبَتَّةَ ؛ فَإِنَّمَا ذَاكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ هَذَا عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ طَرِيقًا آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ مِنْ رِوَايَةِ مَجْهُولٍ . فَقَدَّمَ رِوَايَةَ مَجْهُولٍ عَلَى مَجْهُولٍ . وَأَمَّا رِوَايَةُ دَاوُد بْنَ الْحُصَيْنِ هَذِهِ فَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى تِلْكَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ ؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ لَمْ تَبْلُغْ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ كَمَا أَنَّ حَدِيثَ طَاوُوسٍ لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ ؛ بَلْ أَكْثَرُهُمْ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ وَبَيَّنَ الْكَلَامُ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْإِفْتَاءِ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَأَظْهَرُوهُ فَجُعِلَ عُقُوبَةً لَهُمْ . وَذِكْرُ كَلَامِ النَّاسِ عَلَى " الْإِلْزَامِ بِالثَّلَاثِ " : هَلْ فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ شَرْعٌ لَازِمٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَوْ فَعَلَهُ عُقُوبَةَ ظُهُورِ الْمُنْكَرِ وَكَثْرَتِهِ ؟ وَإِذَا قِيلَ : هُوَ عُقُوبَةٌ : فَهَلْ مُوجِبُهَا دَائِمٌ لَا يَرْتَفِعُ ؟ أَوْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ؟ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَرْعًا لَازِمًا وَلَا عُقُوبَةَ اجْتِهَادِيَّةً لَازِمَةً ؛ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ اجْتِهَادٌ سايغ مَرْجُوحٌ أَوْ عُقُوبَةٌ عَارِضَةٌ
شَرْعِيَّةٌ وَالْعُقُوبَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهَا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ . فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّحْرِيمِ وَلَمَّا عَلِمَهُ تَابَ مِنْهُ : فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فَلَا يَجُوزُ إلْزَامُ هَذَا بِالثَّلَاثِ الْمَجْمُوعَةِ ؛ بَلْ إنَّمَا يُلْزَمُ وَاحِدَةً . هَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ . فَأَمَّا إذَا كَانَ بِعِوَضِ فَهُوَ " فِدْيَةٌ " كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُوقِعَ الثَّلَاثَ أَيْضًا بِالْعِوَضِ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُطَلِّقَ بِالْعِوَضِ إلَّا وَاحِدَةً لَا أَكْثَرَ كَمَا لَا يُطَلِّقُ بِغَيْرِهِ إلَّا وَاحِدَةً لَا أَكْثَرَ ؛ لَكِنَّ الطَّلَاقَ بِالْعِوَضِ طَلَاقٌ مُقَيَّدٌ : هُوَ فِدْيَةٌ وَفُرْقَةٌ بَائِنَةٌ ؛ لَيْسَ هُوَ الطَّلَاقَ الْمُطْلَقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الرَّجْعِيُّ . فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مَجْمُوعَةً بِعِوَضِ وَقِيلَ : إنَّ الثَّلَاثَ بِلَا عِوَضٍ وَاحِدَةٌ وَبِالْعِوَضِ فَدِيَةٌ لَا تُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ كَانَتْ هَذِهِ الْفُرْقَةُ بِفِدْيَةِ لَا تُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ وَكَانَ لِهَذَا الْمُفَارِقِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَقْدًا جَدِيدًا وَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِرَاقُ بِالْعِوَضِ مِنْ الثَّلَاثِ فَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ لِكَوْنِهِ مُحَرَّمًا وَالثِّنْتَانِ مُحَرَّمَةٌ وَالْوَاحِدَةُ مُبَاحَةٌ ؛ وَلَكِنْ تُسْتَحَبُّ الْوَاحِدَةُ بِالْعِوَضِ مِنْ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّهَا فِدْيَةٌ وَلَيْسَتْ مِنْ الطَّلَاقِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ ثَلَاثًا ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ وَتَكُونَ مَعَهُ عَلَى ثَلَاثٍ . و " جِمَاعُ الْأَمْرِ " أَنَّ الْبَيْنُونَةَ نَوْعَانِ : " الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى " وَهِيَ إيقَاع الْبَيْنُونَةِ الْحَاصِلَةِ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ الَّذِي تَحْرُمُ بِهِ الْمَرْأَةُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . و " الْبَيْنُونَةُ الصُّغْرَى " وَهِيَ : الَّتِي تَبِينُ بِهَا الْمَرْأَةُ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدِ
جَدِيدٍ فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا . فَالْخُلْعُ تَحْصُلُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ الصُّغْرَى دُونَ الْكُبْرَى . وَالْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى الْحَاصِلَةُ بِالثَّلَاثِ تَحْصُلُ إذَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَاحِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقُهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ ؛ أَوْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً وَقَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا وَيَدَعُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ؛ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ . وَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ . وَإِذَا تَزَوَّجَهَا أَوْ ارْتَجَعَهَا فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِيَةَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ . فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ قَبْلَ رَجْعَةٍ أَوْ عَقْدٍ فَهُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَهَا الثَّلَاثَ فِي أَطْهَارٍ قَبْلَ رَجْعَةٍ أَوْ عَقْدٍ ؛ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَلَوْ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ إيقَاعًا مُحَرَّمًا : فَهَلْ يَقَعُ الثَّلَاثُ ؟ أَوْ وَاحِدَةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . فَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ لَا يَقَعُ لَمْ يَمْلِكْ الْبَيْنُونَةَ الْكُبْرَى بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَبْذُلَ لَهُ الْعِوَضَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ فَإِذَا بَذَلَتْ لَهُ الْعِوَضَ عَلَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ الْمُحَرَّمَةِ بَذَلَتْ لَهُ الْعِوَضَ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَلَا يَمْلِكُهُ فَإِذَا أَوْقَعَهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ إلَّا الْمُبَاحُ وَالْمُبَاحُ بِالْعِوَضِ إنَّمَا هُوَ بِالْبَيْنُونَةِ الصُّغْرَى دُونَ الْكُبْرَى ؛ بَلْ لَوْ طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ وَبَذَلَتْ لَهُ الْعِوَضَ عَلَى الْفُرْقَةِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِ الطَّلَاقِ لَمْ تَقَعْ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ عَلَى قَوْلِنَا : إنَّ الْفُرْقَةَ بِعِوَضِ فَسْخٌ تَحْصُلُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ الصُّغْرَى ؛ فَإِذَا فَارَقَهَا بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَقَعَتْ بِهِ " الْبَيْنُونَةُ الصُّغْرَى " وَهُوَ الْفَسْخُ
دُونَ
الْكُبْرَى . وَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِعَقْدِ جَدِيدٍ ؛
لَكِنْ إنْ صَرَّحَتْ بِبَذْلِ الْعِوَضِ فِي الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ
الْمُحَرَّمَةِ وَكَانَ مَقْصُودُهَا أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجًا غَيْرَهُ : فَقَدْ بَذَلَتْ الْعِوَضَ فِي غَيْرِ الْبَيْنُونَةِ
الصُّغْرَى وَهُوَ يُشْبِهُ مَا إذَا بَذَلَتْ الْعِوَضَ فِي الْخُلْعِ بِشَرْطِ
الرَّجْعَةِ . فَإِنَّ اشْتِرَاطَهُ الرَّجْعَةَ فِي الْخُلْعِ يُشْبِهُ اشْتِرَاطَهَا
الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ لَهَا فِيهِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَمْلِكُ
الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ الْمُحَرَّمَةَ لَهَا كَمَا كَانَ يَمْلِكُ قَبْلَ
ذَلِكَ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ؛ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا
مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ :
فِي " الْفُرْقَةِ " الَّتِي تَكُونُ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَاَلَّتِي
لَا تَكُونُ مِنْ الثَّلَاثِ ؛ فَإِنَّ انْقِسَامَ الْفُرْقَةِ إلَى هَذَيْنِ
النَّوْعَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ - فِيمَا أَظُنُّ -
فَإِنَّهُ لَوْ حَدَث بَيْنَهُمَا مَا أَوْجَبَ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ بِدُونِ
اخْتِيَارِهِمَا
كَالْمُصَاهَرَةِ - كَانَتْ فُرْقَةً تُعْتَبَرُ طَلَاقًا ؛ لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنْ " الْمُفَارَقَاتِ " مِثْلَ : " الْخُلْعِ " وَمِثْلَ " الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ " و " الْفُرْقَةِ لِعَيْبِ فِي الرَّجُلِ " مِثْلَ جَبٍّ أَوْ عُنَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ : هَلْ هُوَ طَلَاقٌ مِنْ الثَّلَاثِ ؟ أَمْ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَسَبَبُ ذَلِكَ " تَنْقِيحُ " " مَنَاطِ الْفَرْقِ " بَيْنَ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي هَذَا الْبَابِ أَوْسَعُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُمَا فِي الْخُلْعِ : هَلْ هُوَ طَلَاقٌ ؟ أَمْ لَيْسَ بِطَلَاقِ ؟ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وطاوس وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لَكِنْ فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ بِغَيْرِهِ . فَإِنْ كَانَ بِلَفْظِهِ : فَهُوَ طَلَاقٌ مُنَقِّصٌ . وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ آخَرَ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ أَيْضًا . وَإِنْ خَلَا عَنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ : فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ . وَهَذَا مَوْضِعٌ يَحْتَاجُ إلَى تَحْقِيقٍ كَمَا يَحْتَاجُ مَنَاطُ الْفَرْقِ إلَى تَحْرِيرٍ فَإِنَّ هَذَا يُبْنَى عَلَى أَصْلَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ غَيْرَ الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ . " الثَّانِي " تَحْرِيرُ مَعْنَى الْخُلْعِ الْمُخَالِفِ لِمَعْنَى الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ وَإِلَّا فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ الْمَعْدُودَ . وَيَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرُ وَنَوَى
ذَلِكَ الْمَعْنَى : لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ الْمَعْدُودُ . وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّهُ إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى مِنْ وَثَاقٍ أَوْ مِنْ زَوْجٍ قَبْلِي : لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ . وَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . فَعُلِمَ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُضَافَ إلَى الْمَرْأَةِ يَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ الْمَعْدُودَ وَيَعْنِي بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ . وَقَدْ يُضَافُ الطَّلَاقُ إلَى غَيْرِ الْمَرْأَةِ كَمَا يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَا دُنْيَا قَدْ طَلَّقْتُك ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ لِي فِيك . وَمِثْلُ الشِّعْرِ الْمَأْثُورِ عَنْ الشَّافِعِيِّ : اذْهَبْ فَوُدُّك مِنْ وِدَادِي طَالِقٌ . وَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْمَرْأَةِ يُرَادُ بِهِ الْفُرْقَةُ وَلَا يَكُونُ مِنْ الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ : كَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَهْلُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ : أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي وَهْبٍ الجيشاني { عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَسْلَمْت وَتَحْتِي أُخْتَانِ ؟ قَالَ : طَلِّقْ أَيَّتهمَا شِئْت } هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد قَالَ . حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْت يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ هشيم وَعِيسَى بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ خَمِيصَةَ بْنِ الشمردل { عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ قَالَ : أَسْلَمْت وَعِنْدِي ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا }
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه أَيْضًا . وَقَدْ رَوَى أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَابْنُ مَاجَه وَاللَّفْظُ لَهُ : { أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : أَسْلَمَ غَيْلَانُ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا } قَالَ التِّرْمِذِيُّ سَمِعْت مُحَمَّدًا يَقُولُ : هَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى شُعَيْبٌ وَغَيْرُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : حُدِّثْت عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سويد أَنَّ غَيْلَانَ . . . فَذَكَرَهُ . وَفِي لَفْظِ الْإِمَامِ أَحْمَد . فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ طَلَّقَ نِسَاءَهُ وَقَسَمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَقَالَ : إنِّي لَأَظُنُّ الشَّيْطَانَ فِيمَا يَسْتَرِقُ مِنْ السَّمْعِ سَمِعَ بِمَوْتِك فَقَذَفَهُ فِي نَفْسِك وَلَعَلَّك لَا تَمْلِكُ إلَّا قَلِيلًا وَاَيْمُ اللَّهِ لَتُرَاجِعَنَّ نِسَاءَك وَلَتُرْجِعَنَّ مَالَك أَوْ لَأُورِثَهُنَّ مِنْك ؛ وَلَآمُرَنَّ بِقَبْرِك فَيُرْجَمُ كَمَا رُجِمَ قَبْرُ أَبِي رغال . وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا وَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي مُسْنَدَيْهِمَا فِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا ؛ لَكِنْ بَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ : أَنَّ هَذَا مِمَّا غَلِطَ فِيهِ مَعْمَرٌ لَمَّا قَدِمَ الْبَصَرَ فَإِنَّهُ حَدَّثَهُمْ بِهِ مَنْ حَفِظَهُ وَكَانَ مَعْمَرٌ يَغْلَطُ إذَا حَدَّثَ مِنْ حَفِظَهُ فَرَوَاهُ الْبَصْرِيُّونَ عَنْهُ كَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ - غُنْدُرٍ - وَغَيْرِهِ عَلَى الْغَلَطِ وَأَمَّا أَصْحَابُهُ الَّذِينَ سَمِعُوا مَنْ كَتَبَهُ كَعَبْدِ الرَّزَّاقِ وَغَيْرِهِ فَرَوَوْهُ عَلَى الصَّوَابِ . فَفِي حَدِيثِ فَيْرُوزَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : طَلِّقْ أَيَّتَهمَا شِئْت } لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الطَّلَاقُ الْمَعْدُودُ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا ؛ بَلْ الْمُرَادُ
مِنْهُ
فِرَاقًا لَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ
أَنْ يُطَلِّقَهَا بِنَصِّ الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ ؛ بَلْ يُفَارِقُهَا
عِنْدَهُمْ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَأَمَّا لَفْظُ الطَّلَاقِ فَلَهُمْ فِيهِ
كَلَامٌ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَهَكَذَا مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ
غَيْلَانَ : { أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقِ سَائِرَهُنَّ } وَلَيْسَ عَلَيْهِ
أَنْ يُفَارِقَهَا فُرْقَةً تُحْسَبُ مِنْ الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ . وَقَدْ
تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . . .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا بِنَصِّ الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ بَلْ
أَرَادَ الْمُفَارَقَةَ : وُجُوهٌ . " أَحَدُهَا " أَنَّهُ قَالَ فِي
الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { خُذْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا
اخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا كَفَى ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إنْشَاءِ طَلَاقٍ
فِي الْبَوَاقِي فَلَوْ كَانَ فِرَاقُهُنَّ مِنْ الطَّلَاقِ الْمَعْدُودِ
لَاحْتَاجَ إلَى إنْشَاءِ سَبَبِهِ كَمَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُطَلِّقَن
إحْدَى امْرَأَتَيَّ . فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُحْدِثَ لَهَا طَلَاقًا ؛ فَلَوْ
قَالَ أَخَذْت هَذِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَحْدَهُ طَلَاقًا لِلْأُخْرَى .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : هَذَا مِمَّا قَدْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ
بِالْأُخْرَى مَعَ النِّيَّةِ . " الثَّانِي " أَنْ يُقَالَ : مَا زَادَ
عَلَى الْأَرْبَعِ حَرَامٌ عَلَيْهِ بِالشَّرْعِ وَمَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً
بِالشَّرْعِ لَمْ تَحْتَجْ إلَى طَلَاقٍ ؛ لَكِنَّ الْمُحَرَّمَةَ لَمَّا لَمْ
تَكُنْ مُعَيَّنَةً كَانَتْ لَهُ وِلَايَةُ التَّعْيِينِ .
" الثَّالِثُ " أَنْ يُقَالَ إنَّ : اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ خَصَائِصَ الطَّلَاقِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ مِنْ هَذِهِ الْفُرْقَةِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } فَجَعَلَ الْمُطَلَّقَةَ زَوْجُهَا أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا فِي الْعِدَّةِ ؛ وَمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فِي الْعِدَّةِ إلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : لَهُ فِي الْعِدَّةِ أَنْ يَرْتَجِعَ وَاحِدَةً مِنْ الْمُفَارِقَاتِ وَيُطَلِّقَ غَيْرَهَا : وَهَذَا لَا أَعْلَمُهُ قَوْلًا . " الرَّابِعُ " أَنَّ اللَّهَ قَالَ : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فَجَعَلَ لَهُ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ أَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ يُسَرِّحَ بِإِحْسَانِ وَهَذَا لَيْسَ لَهُ فِي مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ إذَا فَارَقَهُنَّ ؛ إلَّا أَنْ يُقَالَ : لَهُ الرَّجْعَةُ بِشَرْطِ الْبَدَلِ . " الْخَامِسُ " أَنَّ اللَّهَ قَالَ : { إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وَهَذَا الْفِرَاقُ لَا يَقْضِي عَلَى الْعِدَّةِ ؛ بَلْ عَلَيْهِ إذَا أَسْلَمَ أَنْ يُفَارِقَ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ . وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ . " السَّادِسُ " أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } وَهَذِهِ الْمُفَارَقَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ . " السَّابِعُ " أَنَّهُ قَالَ : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ .
" الثَّامِنُ " أَنَّ فِرَاقَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ وَمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ عَيْنًا . وَاَللَّهُ لَمْ يُوجِبْ الطَّلَاقَ عَيْنًا قَطُّ ؛ بَلْ أَوْجَبَ إمَّا الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ وَإِمَّا التَّسْرِيحَ بِإِحْسَانِ . " التَّاسِعُ " : أَنَّ الطَّلَاقَ مَكْرُوهٌ فِي الْأَصْلِ . وَلِهَذَا لَمْ يُرَخِّصْ اللَّهُ فِيهِ إلَّا فِي ثَلَاثٍ وَحَرَّمَ الزَّوْجَةَ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ : عُقُوبَةً لِلرَّجُلِ لِئَلَّا يُطَلِّقَ وَهُنَا الْفُرْقَةُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ فَكَيْفَ يُجْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ دَاخِلًا فِي الْجِنْسِ الَّذِي يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَارَ هَذَا كَمَا أَنَّ هِجْرَةَ الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ مَحْظُورَةً فِي الْأَصْلِ رَخَّصَ الشَّارِعُ مِنْهَا فِي الثَّلَاثِ . فَأَمَّا الْهِجْرَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا : كَهِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا خَمْسِينَ لَيْلَةً فَإِنَّهَا كَانَتْ هِجْرَةً يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا تَكُونُ مِنْ جِنْسِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ أُبِيحَ مِنْهُ الثَّلَاثُ لِلْحَاجَةِ وَكَذَلِكَ إحْدَادُ غَيْرِ الزَّوْجَةِ لَمَّا كَانَ مُحَرَّمًا فِي الْأَصْلِ أُبِيحَ مِنْهُ الثَّلَاثُ لِلْحَاجَةِ . فَأَمَّا إحْدَادُ الزَّوْجَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَلَمَّا كَانَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَخَّصَ مِنْهُ فِي ثَلَاثٍ لِلْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ الْفُرْقَةُ الَّتِي يَأْمُرُ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ لَا تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الطَّلَاقِ الَّذِي يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَرَخَّصَ مِنْهُ فِي ثَلَاثٍ لِلْحَاجَةِ . وَالْخُلْعُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ مِنْ خُلُقٍ وَلَا دِينٍ
وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ قَالَتْ نَعَمْ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً } فَهَذَا فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ . وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً } . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِمَا : أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ الْخُلْعَ مِنْ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : الْخُلْعُ تَفْرِيقٌ ؛ وَلَيْسَ بِطَلَاقِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد : رَأَيْت أَبِي يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ ودَاوُد وَأَصْحَابِهِ ؛ غَيْرَ ابْنِ حَزْمٍ . وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُوسٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ ؛ ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ : أَيَنْكِحُهَا ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَعَمْ . ذَكَرَ اللَّهُ الطَّلَاقَ فِي الْآيَةِ وَفِي آخِرِهَا وَالْخُلْعُ بَيْنَ ذَلِكَ . وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جريج عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ قَالَ : كَانَ أَبِي لَا يَرَى الْفِدَاءَ طَلَاقًا ؛ وَيُخَيِّرُ لَهُ بَيْنَهُمَا . وَقَالَ ابْنُ جريج : أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ ؛ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : مَا أَجَازَهُ الْمَالُ فَلَيْسَ بِطَلَاقِ . فَهَذَا عِكْرِمَةُ يَقُولُ : إنَّ كُلَّ فُرْقَةٍ وَقَعَتْ بِمَالِ فَلَيْسَتْ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْفِدْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ
وَ
" الْفِدْيَةُ " لَيْسَتْ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ كَمَا بَيَّنَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ ؛ مَعَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ هُمَا اللَّذَانِ رَوَى
الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِمَا حَدِيثَ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ كَمَا
تَقَدَّمَ . . . (1) .
قَالَ : وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيهِ عِكْرِمَةُ مُرْسَلًا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ
عَبْدُ الْعَزِيزِ : هُوَ ضَعِيفٌ مُرْسَلٌ . فَيُقَالُ . هَذَا فِي بَعْضِ
طُرُقِهِ وَسَائِرُ طُرُقِهِ لَيْسَ فِيهَا إرْسَالٌ . ثُمَّ هَذِهِ الطَّرِيقُ
قَدْ رَوَاهَا مُسْنَدَةً مَنْ هُوَ مِثْلُ مَنْ أَرْسَلَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ
أَجَلَّ مِنْهُ . وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقْضِي الْمُسْنَدُ عَلَى الْمُرْسَلِ .
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ الْمُسَمَّى "
بِالْمُسْتَدْرَكِ " وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ غَيْرَ
أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ أَرْسَلَهُ عَنْ مَعْمَرٍ وَخَرَّجَهُ القشيري فِي
أَحْكَامِهِ الَّتِي شَرَطَ فِيهَا أَنْ لَا يَرْوِيَ إلَّا حَدِيثَ مَنْ
وَثَّقَهُ إمَامٌ مِنْ مُزَكِّي رُوَاةِ الْأَخْبَارِ وَكَانَ صَحِيحًا عَلَى
طَرِيقَةِ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْحُفَّاظِ وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ
النُّظَّارِ . قَالَ : وَقَوْلُ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ خَالَفَهُ قَوْلُ
عُمَرَ وَعَلِيٍّ فَإِنَّهُمَا قَالَا : عِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ . وَأَمَّا
ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ قَالَ : عِدَّةُ
الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ ؛ وَهُوَ أَصَحُّ عَنْهُ .
فَيُقَالُ : أَمَّا الْمَنْقُولُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ . . . (2) وَبِتَقْدِيرِ
ثُبُوتِ النِّزَاعِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَالْوَاجِبُ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ
إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَالسُّنَّةُ قَدْ بَيَّنَتْ أَنَّ الْوَاجِبَ حَيْضَةٌ
. . . (3) وَمِمَّا بَيَّنَ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَنْ تَحِيضَ
وَتَتَرَبَّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً ؛ وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا . فَلَوْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا إحْدَى الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ لَلَزِمَتْهَا عِدَّةُ مُطَلَّقَةٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَاتِّفَاق الْمُسْلِمِينَ ؛ بِخِلَافِ الْخُلْعِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِدَّةٌ ؛ وَإِنَّمَا فِيهِ اسْتِبْرَاءٌ بِحَيْضِ . وَالنِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْرُوفٌ . أَمَّا الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ فَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ فَقَالَ النَّسَائِي : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَرْوَزِي حَدَّثَنِي شاذان بْنُ عُثْمَانَ أَخُو عبدان حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ [ الْمُبَارَكِ ] (1) عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ . أَنَّ الربيع بِنْتَ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ أَخْبَرَتْهُ . وَرَوَاهُ النَّسَائِي عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنِي عَمِّي ؛ حَدَّثَنَا أَبِي ؛ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ وَعَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مهران عَنْ الربيع بِنْتِ مُعَوِّذٍ . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَلَمَةَ النَّيْسَابُورِيِّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ ؛ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ؛ حَدَّثَنَا عبادة بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ وَكِلَاهُمَا يَزْعُمُ { أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ فَكَسَرَ يَدَهَا فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الصُّبْحِ - وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي - فَأَتَى أَخُوهَا يَشْتَكِيهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ ؛ فَقَالَ لَهُ : خُذْ الَّذِي لَهَا عَلَيْك وَخَلِّ سَبِيلَهَا قَالَ : نَعَمْ . فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَتَرَبَّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً ؛ وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا } . أَيْ بَعْدَ حَيْضَةٍ . وَرَوَاهُ
أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَالتِّرْمِذِي فِي جَامِعِهِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي " كِتَابِ الطَّلَاقِ " لَهُ : ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَغْدَادِيِّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْقَطَّانِ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنُ غَرِيبٌ . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ . وَقَالَ أَبُو دَاوُد : هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا { عَنْ الربيع بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ : أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أُمِرَتْ - أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثُ الربيع الصَّحِيحُ أَنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ وَرَوَى النَّسَائِي وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَابْنُ مَاجَه عَنْ الربيع بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ . اختلعت مِنْ زَوْجِي . ثُمَّ جِئْت عُثْمَانَ فَسَأَلْت مَاذَا عَلَيَّ مِنْ الْعِدَّةِ ؟ فَقَالَ : لَا عِدَّةَ عَلَيْك إلَّا أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِك فَتَمْكُثِينَ حَتَّى تَحِيضِي حَيْضَةً . وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَه : تَمْكُثِينَ عِنْدَهُ حَتَّى تَحِيضِي حَيْضَةً . وَأَمَّا النَّسَائِي وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ : فَلَمْ يَقُولَا " عِنْدَهُ " قَالَتْ : وَإِنَّمَا تَبِعَ فِي ذَلِكَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُغَالِيَةِ كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ . فَهَذِهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ لِحَدِيثِ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ الَّتِي خَالَعَهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ وَاحِدَةٍ } وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ
بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي " كِتَابِ الطَّلَاقِ " مِنْ الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ طُرُقٍ . فَيَكُونُ لِلْحَدِيثِ خَمْسَةُ طُرُقٍ أَوْ سِتَّةٌ : ذَكَرَ حَدِيثَ الربيع الَّذِي فِيهِ ذَكَرَ مَرْيَمَ الْمُغَالِيَةِ (*) ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ الربيع الْمُتَقَدِّمَ الَّذِي فِيهِ ضَرْبُ ثَابِتٍ لِامْرَأَتِهِ جَمِيلَةَ . وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ ؛ ذَكَرَ : قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ ؛ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثوبان عَنْ الربيع : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُخْتَلِعَةَ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ } . وَقَالَ أَيْضًا : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ ؛ حَدَّثَنَا أَبُو الْأُسُودِ ؛ عَنْ يَحْيَى بْنِ النَّظْرِ وَيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قسيط عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثوبان ؛ { عَنْ الربيع بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ : أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ عَنْ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ : أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بَعْضُ الشَّيْءِ وَكَانَ رَجُلًا فِيهِ حِدَّةٌ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَتْهُ ؛ فَأَرْسَلَ إلَى ثَابِتٍ ؛ ثُمَّ إنَّهُ قَبِلَ مِنْهَا الْفِدْيَةَ فَافْتَدَتْ مِنْهُ فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْتَدَّ حَيْضَةً } قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ : مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ ؛ لَا طَلَاقٌ : مَا ثَبَتَ بِهِ الْإِسْنَادُ ؛ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى حَدَّثَنَا سويد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
- هُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ - عَنْ عَمْرَةَ { عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ ؛ قَالَتْ : امْرَأَةٌ كَانَ هَمَّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَهَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فَتَزَوَّجَهَا وَكَانَ فِي خُلُقِ ثَابِتٍ شِدَّةٌ فَضَرَبَهَا . فَأَصْبَحَتْ بِالْغَلَسِ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالَتْ حَبِيبَةُ : أَنَا يَا رَسُولُ اللَّهِ لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ . قَالَ : فَلَمْ يَكُنْ أَنْ جَاءَ ثَابِتٌ ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبْتهَا ؟ قَالَ نَعَمْ . ضَرَبْتهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْ مِنْهَا فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ عِنْدِي كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ . فَقَالَ . فَأَخَذَ مِنْهَا وَجَلَسَتْ فِي بَيْتِهَا } . قَالَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ : وَلَمْ يَذْكُرْ : " طَلَاقًا " . قَالَ : وَفِي " حَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُطَلَّقَةٍ ؛ وَكَذَلِكَ فِي عِدَّتِهَا فِي بَيْتِهَا وَلَوْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً لَكَانَ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ . قُلْت : هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْخُلْعَ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً إذَا كَانَ طَلَاقًا كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ودَاوُد . وَابْنِ أَبِي عَاصِمٍ يُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ : مَذْهَبُهُ أَنَّ الْمَبْتُوتَةِ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى ؛ عَلَى حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ : وَمِمَّنْ قَالَ تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ : عُثْمَانُ بْنُ عفان وَابْنُ عُمَرَ وَمِمَّنْ قَالَ : فَسْخٌ ؛ وَلَيْسَ بِطَلَاقِ : ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ . قُلْت : وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ . أَنَّهُ ضَعَّفَ كُلَّ مَا يُرْوَى عَنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي " مُغْنِيهِ " هَذِهِ الرِّوَايَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " الشَّافِي " عَنْ أَحْمَد مِنْهُ نَقَلَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ ؛ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ فَقَالَ : وَأَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ يَقُولُونَ : عِدَّةُ الْمُخْتَلَعَة عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ . مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ . وَمِنْهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ . قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان وَابْنِ عُمَرَ ؛ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ : أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةٌ . وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَحْمَد كَمَا { رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً } رَوَاهُ النَّسَائِي وَعَنْ الربيع بِنْتِ مُعَوِّذٍ مَثَل ذَلِكَ رَوَاهُ النَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه . قَالَ : وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْحَيَاةِ فَكَانَتْ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ كَالْخُلْعِ . فَقَالَ : أَمَّا الْآيَةُ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّ الْمُخْتَلَعَةَ مُطَلَّقَةٌ وَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ وَلَوْ قُدِّرَ شُمُولُ نَصِّ لَهَا فَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ وَالْآيَةُ قَدْ اسْتَثْنَى مِنْهَا غَيْرَ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ : كَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَالْحَامِلِ وَالْأَمَةِ وَاَلَّتِي لَمْ تَحِضْ وَإِنَّمَا تَشْمَلُ الْمُطَلَّقَةَ الَّتِي لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ . وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ . فَيُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَلَا نُسَلِّمُ الْحُكْمَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ النَّاسِ ؛ ثُمَّ هُوَ مَنْقُوضٌ بِالْمُفَارَقَةِ لِزَوْجِهَا وَقَدْ دَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا الِاسْتِبْرَاءُ .
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ : هَلْ هِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ أبي ؟ أَوْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ ؟ أَوْ أُخْرَى ؟ فَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا قِصَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ؛ وَإِمَّا أَنَّ أَحَدَ الرَّاوِيَيْنِ غَلَطٌ فِي اسْمِهَا وَهَذَا لَا يَضُرُّ مَعَ ثُبُوتِ الْقِصَّةِ ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِاسْمِ امْرَأَتِهِ . وَقِصَّةُ خُلْعِهِ لِامْرَأَتِهِ مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ النُّقُولُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ . وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي { عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّةِ : أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى الصُّبْحِ فَوَجَدَ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ عِنْدَ بَابِهِ فِي الْغَلَسِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَتْ أَنَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : مَا شَأْنُك ؟ قَالَتْ : لَا أَنَا وَلَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ . لِزَوْجِهَا فَلَمَّا جَاءَ ثَابِتٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ قَدْ ذَكَرَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ فَقَالَتْ حَبِيبَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتِ : خُذْ مِنْهَا فَأَخَذَ مِنْهَا وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا } . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ هَذَا الْحَدِيثَ وَحَدِيثُ الِاعْتِدَادِ بِحَيْضَةِ فِي حُجَّةِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَقَالَ : قَالُوا : فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ طَلَاقًا ؛ لَكِنَّهُ فَسْخٌ ؛ وَلَمْ يُذْكَرْ حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَّا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمُرْسَلِ ؛ وَقَالَ : أَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَسَاقِطٌ ؛ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ ؛
وَفِيهِ عَمْرُو بْنُ مُسْلِمٍ وَلَيْسَ بِشَيْءِ ؛ وَأَمَّا خَبَرُ الربيع وَحَبِيبَةَ فَلَوْ لَمْ يَأْتِ غَيْرُهُمَا لَكَانَا حُجَّةً قَاطِعَةً ؛ لَكِنْ رُوِيَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ . وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً } قَالَ : فَكَانَ هَذَا الْخَبَرُ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْخَبَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا وَإِذْ هُوَ طَلَاقٌ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ فَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ الربيع وَالزِّيَادَةُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا . فَيُقَالُ لَهُ : أَمَّا قَوْلُك عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ : إنَّهُ مُرْسَلٌ . فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي : مِنْ حَدِيثِ هَمَّامِ بْنِ يُوسُفَ مُسْنَدًا كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْ أَصْلِك : أَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ مِنْ الثِّقَةِ فَتَكُونُ مَقْبُولَةً وَالْحَدِيثُ قَدْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ . وَأَمَّا قَوْلُك عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ . فَيُقَالُ : قَدْ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالْبُخَارِيُّ فِي " كِتَاب أَفْعَالِ الْعِبَادِ " وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُسْنِدِ : لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ أَبُو أَحْمَد بْنُ عَدِيّ : وَلَيْسَ لَهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الَّذِي اعْتَرَفْت بِصِحَّتِهِ وَجَعَلْته حُجَّةً قَاطِعَةً لَوْلَا الْمَعَارِضُ : فَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ أَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ وَاحِدَةٍ وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا } .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَتْ : أَنَّ الطَّرِيقَ الْأُخْرَى فِيهِ زِيَادَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً وَالْمُطَلَّقَةُ تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ : فَلَيْسَ هَذَا زِيَادَةً ؛ بَلْ إنْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِالطَّلْقَةِ هُنَا الْفَسْخَ : كَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُعَارِضَةً لِتِلْكَ ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الرِّوَايَةَ فِيهَا نَصٌّ بِأَنَّهَا تَلْحَقُ بِأَهْلِهَا مَعَ الْحَيْضَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا قَوْلُهُ : { أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ وَاحِدَةٍ } لَكَانَ هَذَا بَيِّنًا فِي أَنَّهُ أَمَرَهَا بِحَيْضَةِ وَاحِدَةٍ لَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا ؛ إذْ لَوْ أَمَرَهَا بِثَلَاثِ لَمَا جَازَ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ : " أَمَرَهَا بِحَيْضَةِ وَاحِدَةٍ " فَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ : " وَتَلْحَقُ بِأَهْلِهَا " وَأَيْضًا فَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ مِنْ الطُّرُقِ يُعَاضِدُ هَذَا أَوْ يُوَافِقُ وَقَدْ عَضَّدَهَا عَمَلُ عُثْمَانَ بْنِ عفان وَهُوَ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ طُرُقِ حَدِيثِهِ وَأَنَّهُ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ السُّنَّةَ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ . وَأَيْضًا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّاوِيَةِ الْأُخْرَى : " أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ " لَكَانَ هَذَا تَعَارُضًا فِي الرِّوَايَةِ يُنْظَرُ فِيهِ إلَى أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ . فَكَيْفَ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا قَوْلُهُ : " وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً " وَالرَّاوِي لِذَلِكَ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَصَاحِبُهُ وَهُمَا يَرْوِيَانِ أَيْضًا " أَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ " وَهُمَا أَيْضًا يَقُولَانِ : الْخُلْعُ فِدْيَةٌ لَا تُحْسَبُ مِنْ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ . وَقَوْلُهُ : " وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً " إنْ كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا قَبْلَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يُقَالَ : الطَّلَاقُ
بِعِوَضِ لَا تُحْسَبُ فِيهِ الْعِدَّةُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ؛ وَيَكُونُ هَذَا مَخْصُوصًا مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ . وَإِذَا قِيلَ : هَذَا فِي الطَّلَاقِ بِعِوَضِ : فَهُوَ فِي الْخُلْعِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ " طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً " هُوَ الْخُلْعُ ؛ وَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّارِعِ بَيْنَ لَفْظِ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقُ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِعِوَضِ ؛ فَإِنَّ هَذَا فِدْيَةٌ ؛ وَلَيْسَ هُوَ الطَّلَاقَ الْمُطْلَقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِنْ السَّلَفِ ؛ وَهَذَا يَعُودُ إلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَجْعَلْ الشَّارِعُ فِي ذَلِكَ عِدَّةً عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ صَرِيحٌ بِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَفِيهِ الْعِدَّةُ . وَأَيْضًا : فَهَذَا إجْمَاعٌ فِيمَا نَعْلَمُهُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا نَازَعَ فِي هَذَا وَقَالَ : إنَّ الْخُلْعَ طَلْقَةٌ مَحْسُوبَةٌ مِنْ الثَّلَاثِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا عِدَّةَ فِيهِ . وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْمَنْقُولِ عَنْ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ . وَرَوَى يَحْيَى بْنُ بكير حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ سَمِعَ الربيع بِنْتَ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ وَهِيَ تُخْبِرُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ فَجَاءَ عَمُّهَا إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ : إنَّ ابْنَةَ معيذ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا الْيَوْمَ أَفَتَنْتَقِلُ ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ : لِتَنْتَقِلْ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ؛ إلَّا أَنَّهَا لَا تَنْكِحُ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ بِهَا حَبَلٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : وَلَعُثْمَانُ خَيَّرَنَا وَأَعْلَمَنَا . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : فَهَذَا عُثْمَانُ والربيع وَلَهَا صُحْبَةٌ وَعَمُّهَا وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَابْنُ عُمَرَ : كُلُّهُمْ لَا يَرَى فِي الْفَسْخِ عِدَّةً .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ طَلَاقٌ كَمَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جمهان : أَنَّ أُمَّ بَكْرَةَ الأسلمية كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسِيدً فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَنَدِمَا فَارْتَفَعَا إلَى عُثْمَانَ بْنِ عفان فَأَجَازَ ذَلِكَ وَقَالَ : هِيَ وَاحِدَةٌ ؛ إلَّا أَنْ تَكُونَ سَمَّيْت شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا سَمَّيْت . وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : عِدَّةُ الْمُخْتَلَعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عفان حَدَّثَنَا هَمَّامُ عَنْ قتادة عَنْ عِكْرِمَةَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ } (1) ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ : حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قتادة عَنْ عِكْرِمَةَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَرِيرَةَ بِأَرْبَعِ قَضَايَا : أَمَرَهَا أَنْ تَخْتَارَ وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ } . وَقَالَ : حَدَّثَنَا الحلواني حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ . . . (2) حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قتادة عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَحْسَبُهُ قَالَ فِيهِ : " تَعْتَدِّي عِدَّةَ الْخُلْعِ " فَهَذَا فَسْخٌ أَوْجَبَ فِيهِ الْعِدَّةَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : إنَّهُ لَا عِدَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الفسوخ ؛ إلَّا فِي هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالْقِيَاسِ ؛ وَلَيْسَ فِي النَّصِّ إيجَابُ الْعِدَّةِ فِي فَسْخٍ .
لَكِنَّ لَفْظَ " الِاعْتِدَادِ " يُسْتَعْمَلُ عِنْدَهُمْ فِي الِاعْتِدَادِ بِحَيْضَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُخْتَلَعَةِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ " أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ " وَقَالَتْ عَائِشَةُ فِي قَوْلِهِ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أَيْ فَهُنَّ لَكُمْ حَلَالٌ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ وَالْمُرَادُ بِهَا : " الِاسْتِبْرَاءُ " ؛ فَإِنَّ الْمَسْبِيَّةَ لَا يَجِبُ فِي حَقِّهَا إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ بِحَيْضَةِ كَمَا { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَايَا أوطاس : لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ ؛ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ } وَقَالَ فِيهِ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَهَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري فِي سَبَايَا أوطاس مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْخَلِيلِ { حَلَالٌ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ } (*) وَفِي هَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ } وَأَبُو سَعِيدٍ رَوَى هَذَا وَهَذَا . وَعَلَى الْحَدِيثَيْنِ : أُمُّ الْوَلَدِ تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ ؛ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ : وَأَحْسَبُهُ قَالَ : تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْحُرَّةِ . شَكٌّ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ . وَعَنْ أَحْمَد فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلَعَةِ رِوَايَتَانِ : ذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ فِي " كِتَاب الشَّافِي " قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي : " بَابٌ عِدَّةُ الْمُخْتَلَعَةِ وَالْمُلَاعَنَةِ وَامْرَأَة عصبى " وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَثْرَمِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ : أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عِدَّةُ كُلِّ مُطَلَّقَةٍ ثَلَاثُ حِيَضٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ؛ إلَّا الْأَمَةَ . قِيلَ لَهُ : الْمُخْتَلَعَةُ وَالْمُلَاعَنَةُ وَامْرَأَةُ الْمُرْتَدِّ ؟ قَالَ : نَعَمْ . كُلُّ فُرْقَةٍ عِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ . وَعَنْ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي الْمُخْتَلَعَةِ تَعْتَدُّ مِثْلَ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثَ حِيَضٍ . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَد بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةٌ . قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ : وَالْعَمَلُ عَلَى رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ والعبادي : أَنَّ كُلَّ فُرْقَةٍ مِنْ الْحَرَائِرِ عِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ وَحَدِيثُ الْمُخْتَلِعَةِ أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا قُلْت أَذْهَبُ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عفان . قُلْت ابْنُ الْقَاسِمِ كَثِيرًا مَا يَرْوِي عَنْ أَحْمَد الْأَقْوَالَ الْمُتَأَخِّرَةَ الَّتِي رَجَعَ إلَيْهَا كَمَا رَوَى عَنْهُ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ وَذَكَرَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ : إنَّهُ مُبَاحٌ وَأَنَّهُ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ الطَّلَاقَ إلَّا رَجْعِيًّا . وَهَكَذَا قَدْ يَكُونُ أَحْمَد ثَبَتَتْ عِنْدَهُ فِي الْمُخْتَلَعَةِ فَرَجَعَ إلَيْهَا فَقَوْلُهُ : عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ . لَا يَكُونُ إلَّا إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ الْحَدِيثُ ؛ وَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ . وَلِأَصْحَابِ أَحْمَد فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَجْهَانِ - وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا : إنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ فَلَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عفان أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةِ رَجَعَ إلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ . وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عُثْمَانَ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ وَالْمَشْهُورُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ وَآخِرُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ صَحَابِيٍّ خِلَافُهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ خِلَافُهُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ بِإِسْنَادِ ضَعِيفٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعِكْرِمَةَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ " الْمُشْرِكُونَ " عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ : كَانُوا مُشْرِكِينَ أَهْلَ حَرْبٍ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ وَمُشْرِكِينَ أَهْلَ عَهْدٍ لَا يُقَاتِلُهُمْ وَلَا يُقَاتِلُونَهُ فَكَانَ إذَا هَاجَرَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إلَيْهِ وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَمَةٌ فَهُمَا حُرَّانِ . وَلَهُمَا لِلْمُهَاجِرِينَ ؛ ثُمَّ ذُكِرَ فِي " أَهْلِ الْعَهْدِ " مِثْلَ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ أَهْلَ الْعَهْدِ لَمْ يردوا وَرُدَّتْ أَثْمَانُهُمْ . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُهَاجِرَةَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إذَا حَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ : حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ فَلَمْ يَكُنْ يَجِبُ عَلَيْهَا إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ بِحَيْضَةِ ؛ لَا بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ؛ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ وَطْءِ زَوْجٍ ؛ لَكِنْ زَالَ نِكَاحُهُ عَنْهَا بِإِسْلَامِهَا . فَفِي هَذَا أَنَّ الْفُرْقَةَ الْحَاصِلَةَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ - كَإِسْلَامِ امْرَأَةِ الْكَافِرِ - إنَّمَا يُوجِبُ اسْتِبْرَاءً بِحَيْضَةِ : وَهِيَ فَسْخٌ مِنْ الفسوخ ؛ لَيْسَتْ طَلَاقًا . وَفِي هَذَا نَقْصٌ لِعُمُومِ مَنْ يَقُولُ : كُلُّ فُرْقَةٍ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ الدُّخُولِ تُوجِبُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ . وَهَذِهِ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ ؛ لَكِنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ وَطْءِ كَافِرٍ .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي امْرَأَةِ الْكَافِرِ هَلْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ ؟ أَمْ اسْتِبْرَاءٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ ؛ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا . وَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رَدِّ إنَاثِ عَبِيدِ الْمُعَاهِدِينَ : فَهُوَ نَظِيرُ رَدِّ مُهُورِ النِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ مِنْ أَهْلِ الْهُدْنَةِ وَهُنَّ الْمُمْتَحَنَاتِ اللَّاتِي قَالَ اللَّهُ فِيهِنَّ : { إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } الْآيَةَ . وَمِنْ أَنَّهُ كَانَ إذَا هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا . فَهَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ : هَلْ تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةَ مُطْلَقًا ؟ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا ؟ أَوْ الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ فَإِذَا أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ؟ وَالْأَحَادِيثُ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَمِنْهَا هَذَا الْحَدِيثُ وَمِنْهَا حَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الثَّابِتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ ؛ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ : أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { رَدُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي العاص بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا } وَفِي رِوَايَةٍ " بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ " وَفِي إسْنَادِهِ ابْنُ إسْحَاقَ ؛ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَوَّجَتْ ؛ فَجَاءَ زَوْجُهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت أَسْلَمْت ؛ وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِي : فَانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَوْجِهَا الْآخَرِ ؛ وَرَدَّهَا إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ } وَفِي إسْنَادِهِ سِمَاكٌ .
فَقَدْ رَدَّهَا لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِهِ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْهُ : هَلْ أَسْلَمَا مَعًا ؟ أَوْ هَلْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ؟ وَتَرْكُ الاستفصال يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ عَامٌّ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَا تَتَنَاوَلُهُ صُوَرُ السُّؤَالِ . وَهَذَا لِأَنَّهُ مَتَى أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ . وَإِذَا أَسْلَمَ عَلَى مَوَارِيثَ لَمْ تُقَسَّمْ قُسِّمَتْ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ عَلَى عُقُودٍ لَمْ تُقْبَضْ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ فِيهَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ أَسْلَمَ رَقِيقُ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ ؛ بَلْ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ ؛ وَاسْتِمْتَاعِهِ بِإِمَائِهِ : أُمِّ وَلَدِهِ وَغَيْرِهَا وَالِاسْتِخْدَامُ فَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ حِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ غَيْرِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ رَقِيقُهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِمْ وَالدَّوَامُ أَقْوَى مِنْ الِابْتِدَاءِ ؛ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَعْجِيلِ الْفُرْقَةِ خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَوْلُ بِالتَّوَقُّفِ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَيْضًا كَذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَقِّتْ ذَلِكَ فِيمَنْ أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِهِ مِنْ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ مَعَ كَثْرَةِ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْعِدَّةِ وَبَيْنَ اسْتِحْقَاقِهَا بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا . وَقِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى الرَّجْعَةِ مِنْ أَبْطَلْ الْقِيَاسِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . " وَأَيْضًا " فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ فِي السَّبَايَا : لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ ؛ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ } وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ إلَّا الْحَيْضُ ؛ أَوْ الْحَمْلُ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تَحِيضُ ؛ وَالْأَمَةُ لَا يُتَصَوَّرُ هَذَا فِي حَقِّهَا فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إيجَابُ اسْتِبْرَاءٍ عَلَى مَنْ لَا تَحِيضُ
وَإِيجَابُ ذَلِكَ بَعِيدٌ عَنْ الْقِيَاسِ ؛ وَلِهَذَا اضْطَرَبَ الْقَائِلُونَ بِهِ عَلَى أَقْوَالٍ كُلٌّ مِنْهَا مَنْقُوضٌ . " وَأَيْضًا " فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالِاسْتِبْرَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا ؛ لِأَنَّهُنَّ كُنَّ مَوْطُوآتٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ . وَأَمَّا الْإِمَاءُ اللَّاتِي كُنَّ يَبِعْنَ عَلَى عَهْدِهِ فَلَمْ يَكُنَّ يوطأن فِي الْعَادَةِ ؛ بَلْ كُنَّ لِلِاسْتِخْدَامِ فِي الْغَالِبِ . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمَةَ الَّتِي لَمْ يَطَأْهَا سَيِّدُهَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَبْرِئِ اسْتِبْرَاؤُهَا كَمَا لَا يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا إذَا تَزَوَّجَتْ ؛ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ فِي التَّزْوِيجِ : فَفِي التَّسَرِّي أَوْلَى وَأَحْرَى ؛ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى الْمُسْلِمَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تُوطَأُ فَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ وَلَا اسْتِبْرَاءٌ إذَا زُوِّجَتْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ إذَا وُطِئَتْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ : إنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَحْمِلُ مِثْلُهَا لَمْ يَجِبْ اسْتِبْرَاؤُهَا لَا بِحَيْضِ وَلَا بِحَمْلِ . فَهَذَا مُوَافِقٌ لِلنَّصِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا اسْتَبْرَؤهَا . . . (1) اسْتِبْرَاءً عَلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا وَعَلِمَ أَنَّهَا لَمْ تُوطَأْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِبْرَاءٍ إذَا اسْتَبْرَأَهَا (2) ، وَكَذَلِكَ الَّذِي قَالَ لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ إلَّا عَلَى حَامِلٍ أَوْ مَوْطُوءَةٍ . وَإِلَيْهِ مَالَ الروياني .
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مَشْرُوعٌ حَيْثُ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالِاسْتِبْرَاءِ الْحَامِلَ وَالْحَائِضَ مِنْ الْمَسْبِيَّاتِ اللَّاتِي لَا تُعْلَمُ حَالُهُنَّ . فَأَمَّا مَعَ الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِبْرَاءِ . وَحَدِيثُ ابْنِ شِهَابٍ الَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ مُرْسَلٌ . " وَالْقُرْآنُ " لَيْسَ فِيهِ إيجَابُ الْعِدَّةِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ إلَّا عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ ؛ لَا عَلَى مَنْ فَارَقَهَا زَوْجُهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا عَلَى مَنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةِ وَلَا عَلَى الْمَزْنِيِّ بِهَا . فَإِذَا مَضَتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ الْمُخْتَلَعَةَ إنَّمَا عَلَيْهَا الِاعْتِدَادُ بِحَيْضَةِ الَّذِي هُوَ اسْتِبْرَاءٌ فَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةِ وَالْمَزْنِيُّ بِهَا أَوْلَى بِذَلِكَ كَمَا هُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد فِي الْمُخْتَلَعَةِ ؛ وَفِي الْمَزْنِيِّ بِهَا . وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةِ دُونَ الْمَزْنِيِّ بِهَا ؛ وَدُونَ الْمُخْتَلَعَة . . فَبِأَيِّهِمَا أُلْحِقَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا إلَّا الِاعْتِدَادُ بِحَيْضَةِ كَمَا هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ . " وَالِاعْتِبَارُ " يُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا رَجْعَةٌ وَلَهَا مُتْعَةٌ بِالطَّلَاقِ وَنَفَقَةٌ وَسُكْنَى فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ فَإِذَا أُمِرَتْ أَنْ تَتَرَبَّصَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لِحَقِّ الزَّوْجُ ؛ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ ارْتِجَاعِهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ : كَانَ هَذَا مُنَاسِبًا وَكَانَ لَهُ فِي طُولِ الْعِدَّةِ حَقٌّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعِدَّةَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ إذَا وَجَبَتْ ؛ فَإِذَا مَسَّهَا كَانَ لَهُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِأَجْلِ مَسِّهِ لَهَا وَكَانَ لَهُ الرَّجْعَةُ عَلَيْهَا وَلَهَا بِإِزَاءِ ذَلِكَ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى كَمَا لَهَا مَتَاعٌ لِأَجْلِ الطَّلَاقِ . أَمَّا غَيْرُ الْمُطَلَّقَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى وَلَا مَتَاعٌ وَلَا لِلزَّوْجِ الْحَقُّ بِرُجْعَتِهَا : فَالتَّأَكُّدُ مِنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ تَحْصُلُ بِحَيْضَةِ وَاحِدَةٍ كَمَا يَحْصُلُ فِي الْمَمْلُوكَاتِ وَكَوْنُهَا حُرَّةً لَا أَثَرَ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تَعْتَدُّ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِحَيْضَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَهِيَ حُرَّةٌ : فَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةِ لَيْسَتْ خَيْرًا مِنْهَا . وَاَلَّتِي فُورِقَتْ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى وَلَا رَجْعَةَ عَلَيْهَا وَلَا مَتَاعَ : هِيَ بِمَنْزِلَتِهَا . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَنْتَقِضُ بِالْمُطَلَّقَةِ آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَإِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى وَلَا رَجْعَةَ وَمَعَ هَذَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ ؟ قِيلَ : هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ لَهَا الْمُتْعَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَكَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ وَلَهَا النَّفَقَةُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَلَهَا السُّكْنَى مَعَ ذَلِكَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ : فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَتَاعٍ أَوْ سُكْنَى عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ . فَإِذَا وَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِإِزَاءِ ذَلِكَ كَانَ فِيهِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مَا لَيْسَ فِي إيجَابِهَا عَلَى مَنْ لَا مَتَاعَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ وَلَا سُكْنَى وَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ
لَمَّا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ أَنْ تَعْتَدَّ و أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ أَمَرَهَا بِالِانْتِقَالِ إلَى بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ } وَالْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ أَنْ تَعْتَدَّ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ مَنْ بَلَغَنَا قَوْلَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنْ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا : فَهُوَ الْحَقُّ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ . وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا إنَّمَا عَلَيْهَا إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ لَا الِاعْتِدَادُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ : فَهَذَا لَهُ وَجْهٌ قَوِيٌّ بِأَنْ يَكُونَ طُولَ الْعِدَّةِ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِهَا جُعِلَتْ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ . فَمَنْ لَا رَجْعَةَ عَلَيْهَا لَا تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ؛ وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ إلَّا مَا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ ؛ لَا يُخَالِفُهُ وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ إلَّا مَا يُوَافِقُ الْقَوْلَ الْمَعْرُوفَ لَا يُخَالِفُهُ . فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ قَضَتْ السُّنَّةُ كَانَ حَقًّا مُوَافِقًا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ . وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ هُوَ الْأَوَّلُ بِخِلَافِ الْمُخْتَلَعَةِ فَإِنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ فِيهَا بِمَا ذُكِرَ وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ ؛ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا مَا يُوَافِقُهُ لَا يُخَالِفُهُ ؛ فَلَا يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا . وَالْمَعَانِي الْمُفَرِّقَةُ بَيْنَ الِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ وَالِاسْتِبْرَاءِ إنْ عَلِمْنَاهَا وَإِلَّا فَيَكْفِينَا اتِّبَاعُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الطَّاهِرَةُ الْمَعْرُوفَةُ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْمَسْبِيَّاتِ اللَّاتِي يَبْتَدِئُ الرِّقُّ عَلَيْهِنَّ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي فِيهِ : أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ وَطْأَهُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ لَمَّا تَحَرَّجُوا مِنْ
وَطْئِهِنَّ وَأَنْزَلَ فِي ذَلِكَ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَقَالَ فِيهِ : إنَّ أَجَلَّ وَطْئِهِنَّ إذَا نَقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ . { وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَبْيِ أوطاس : لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ } وَرُوِيَ : " حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً " وَالْعُلَمَاءُ عَامَّةً إنَّمَا يُوجِبُونَ فِي ذَلِكَ اسْتِبْرَاءً بِحَيْضَةِ وَهُوَ اعْتِدَادٌ مِنْ وَطْءِ زَوْجٍ يَلْحَقُهُ النَّسَبُ وَوَطْؤُهُ مُحْتَرَمٌ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا حَرْبِيًّا فَإِنَّ مُحَارَبَتَهُ أَبَاحَتْ قَتْلَهُ وَأَخْذَ مَالِهِ وَاسْتِرْقَاقَ امْرَأَتِهِ . عَلَى نِزَاعٍ وَتَفْصِيلٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنْ لَا خِلَافَ أَنَّ نَسَبَ وَلَدِهِ ثَابِتٌ مِنْهُ وَأَنَّ مَاءَهُ مَاءٌ مُحْتَرَمٌ لَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ قَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي مُسْلِمٍ : { أَنَّهُ أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ مُجِحٍّ عَلَى بَابِ فُسْطَاطٍ فَقَالَ : لَعَلَّ سَيِّدَهَا يُلِمُّ بِهَا قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةً تَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ كَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ } و { نَهَى أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ } . لَكِنَّ هَذِهِ الزَّوْجَةَ لَمْ يُفَارِقْهَا زَوْجُهَا بِاخْتِيَارِهِ ؛ لَا بِطَلَاقِ ؛ وَلَا غَيْرِهِ ؛ لَكِنْ طريان الرِّقِّ عَلَيْهَا أَزَالَ مِلْكَهُ إلَى الْمُسْتَرِقِّ أَوْ اشْتِبَاهُ زَوْجِهَا بِغَيْرِهِ أَزَالَ ذَلِكَ . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحِ زَالَ عَنْ امْرَأَةٍ ؛ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ . وَلَوْ أَنَّ الْكَافِرَ تَحَاكَمَ إلَيْنَا هُوَ وَامْرَأَتُهُ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ
لَأَلْزَمْنَاهَا
بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ : فَعُلِمَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ
مُطْلَقًا وَأَنَّ هَذِهِ لَمَّا زَالَ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ لَمْ يَكُنْ
عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ . فَلَا يُقَالُ : إنَّ كُلَّ مُعْتَدَّةٍ مِنْ
مُفَارَقَةِ زَوْجٍ فِي الْحَيَاةِ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ ؛ بَلْ هَذَا
مَنْقُوضٌ بِهَذِهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ .
فَصْلٌ :
وَهَذَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ أَكَابِرِ
الصَّحَابَةِ - كَعُثْمَانِ وَغَيْرِهِ - مِنْ أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلَعَة :
حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ : يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ فِي مَسْأَلَةِ " تَدَاخُلِ
الْعِدَّتَيْنِ " : كَمَا إذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ فِي عِدَّتِهَا
بِمَنْ أَصَابَهَا ؛ فَإِنَّ الْمَأْثُورَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَعُمَرِ وَعَلِيٍّ :
أَنَّهَا تُكْمِلُ عِدَّةَ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي
فَعَلَيْهَا تَمَامُ عِدَّةِ الْأَوَّلِ وَعِدَّةٌ لِلثَّانِي . وَبِهِ أَخَذَ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَاخْتَلَفَ
عُمَرُ وَعَلِيٌّ : هَلْ تُبَاحُ لِلْأَوَّلِ بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّتَيْنِ ؟
فَقَالَ عُمَرُ : لَا يَنْكِحُهَا أَبَدًا . وَبِهِ أَخَذَ مَالِك . وَقَالَ
عَلِيٌّ : هُوَ خَاطِبٌ مِنْ الْخُطَّابِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ . وَعَنْ
أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَعِنْدَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا
إلَّا عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ الثَّانِي وَتُدْخِلُ فِيهَا بَقِيَّةَ عِدَّةِ
الْأَوَّلِ وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَنْقُولٌ عَنْ
ابْنِ مَسْعُودٍ ؛ لَكِنْ لَمْ نَعْرِفْ لِذَلِكَ إسْنَادًا . فَنَقُولُ
بِتَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ ؛ فَإِنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ لَهُ ؛ إذْ لَوْ أَرَادَ
الزَّوْجُ إسْقَاطَهَا لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فَدَخَلَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ :
كَالْحُدُودِ ؛ وَالْكَفَّارَاتِ ؛ فَإِنَّهُ
لَوْ سَرَقَ ثُمَّ سَرَقَ : لَمْ يُقْطَعْ إلَّا يَدٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ شَرِبَ ؛ ثُمَّ شَرِبَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ . فَالْحُدُودُ وَجَبَتْ فِي جِنْسِ الذَّنْبِ ؛ لَا فِي قَدْرِهِ . وَلِهَذَا تَجِبُ بِسَرِقَةِ الْمَالِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ ؛ وَتَجِبُ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَهُ جِنْسُ الذَّنْبِ ؛ لَا قَدْرُهُ . فَإِذَا لَمْ يَفْتَرِقْ الْحُكْمُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي الْقَدْرِ لَمْ يَفْتَرِقْ بَيْنَ وَاحِدِهِ وَعَدِّهِ ؛ فَإِنَّ الْجَمِيعَ مِنْ جِنْسِ الْقَدْرِ وَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ إذَا وَطِئَ ثُمَّ وَطِئَ قَبْلَ أَنْ يَكْفُرَ . فَمَنْ قَالَ بِتَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ قَالَ : عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنْ سَبَّبَهَا الْوَطْءُ لَيْسَتْ مِثْلَ عِدَّةِ الْوَفَاةِ الَّتِي سَبَّبَهَا الْعَقْدُ ؟ وَهِيَ تَجِبُ مَعَ قَلِيلِ الْوَطْءِ وَكَثِيرِهِ فَإِنَّ الْمُوجِبَ لَهَا جِنْسُ الْوَطْءِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ . وَطَرَدَهُ لَوْ اشْتَرَى أَمَةً قَدْ اشْتَرَكَ فِي وَطْئِهَا جَمَاعَةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا إلَّا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ ؛ وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ جَمَاعَةً . وَقَدْ نُوزِعُوا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَقِيلَ : بَلْ تُسْتَبْرَأُ لِكُلِّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ اسْتِبْرَاءً وَاحِدًا إذَا كَانَتْ فِي مِلْكِهِمَا . فَأَمَّا إذَا بَاعَاهَا لِغَيْرِهِمَا : فَهُنَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَّا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ عَلِمْنَاهُ إنَّ الْأَمَةَ الْمَمْلُوكَةَ بِسَبْيٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ إرْثٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَيْهَا استبراءات مُتَعَدِّدَةٌ بِعَدَدِ الْوَاطِئِينَ . وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى رِجْلٌ جَارِيَةً وَبَاعَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي إلَّا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ . قَالَ الْفُقَهَاءُ : وَلَا نَقُولُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا مَرَّتَيْنِ . وَاعْتَذَرَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ سَبَّبَهُ تَعَدُّدُ الْمِلْكِ وَلَمْ يَتَعَدَّدْ ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجِبُونَ الِاسْتِبْرَاءَ إذَا أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَائِعُ قَدْ وَطِئَهَا وَيُوجِبُونَهُ إذَا لَمْ يُعْتِقْهَا ؛ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ سَبَبَهَا الرِّقُّ . وَالْكَلَامُ فِي عِدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
" وَالْمَقْصُودُ " هُنَا : أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا قَالَ يَتَعَدَّدُ ؛ وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا فَإِنَّ السُّنَّةَ تَخْصِمُهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ إلَّا بِمُجَرَّدِ الِاسْتِبْرَاءِ حَيْثُ قَالَ : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ } فَعَلَّقَ الْحِلَّ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِبْرَاءِ وَلَمْ يُفَرِّقْ وَإِذَا كَانَ الِاسْتِبْرَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعِدَّةِ وَلَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْوَاطِئِ : فَالْعِدَّةُ كَذَلِكَ . هَذَا مَا يَحْتَجُّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا : الْعِدَّةُ فِيهَا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ } الْآيَةَ . قَالُوا : فَقَدْ نَفَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ لِلرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ عِدَّةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَلَيْسَ هُنَا عِدَّةٌ لِغَيْرِ الرِّجَالِ فَعَلِمَ أَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا حَقٌّ لِلرِّجَالِ حَيْثُ وَجَبَتْ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ مَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ عِدَّةٌ فَلَوْ كَانَتْ الْعِدَّةُ حَقًّا مَحْضًا لِلَّهِ لَمْ يَقُلْ : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ } إذْ لَا عِدَّةَ لَهُمْ لَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَتْ الْعِدَّةُ نَوْعَيْنِ نَوْعًا لِلَّهِ وَنَوْعًا فِيهِ حَقٌّ لِلْأَزْوَاجِ : لَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِ عِدَّةِ الْأَزْوَاجِ مَا يَنْفِي الْعِدَّةَ الْأُخْرَى فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ حَيْثُ وَجَبَتْ فَفِيهَا حَقٌّ لِلْأَزْوَاجِ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَتْ الْعِدَّةُ فِيهَا حَقٌّ لِرَجُلَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ حَقُّ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ؛ فَإِنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا تَتَدَاخَلُ كَمَا لَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ دَيْنَانِ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ كَانَ لَهُمَا عِنْدَهُ أَمَانَةٌ أَوْ غَصْبٌ ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ . فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ .
وَاحْتَجُّوا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ يَقُولُ : لَوْ تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيَّةً وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْمُدَّةُ حَقًّا مَحْضًا لِلزَّوْجِ ؛ لَأَنَّ الذِّمِّيَّةَ لَا تُؤَاخَذُ بِحَقِّ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجِبُهَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا ذِمِّيًّا وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ الْعِدَّةِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَهُ الْأَكْثَرُونَ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَلِمَا قَضَى بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ لَا سِيَّمَا وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ ؛ وَإِنْ ثَبَتَ فَإِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ إذَا خَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ كَانَ قَوْلُهُمْ هُوَ الرَّاجِحَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي : تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . لَكِنْ مِنْ تَمَامِ كَوْنِ الْعِدَّةِ حَقًّا لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ عَلَى الْمَرْأَةِ وَهُوَ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } فَأَمَرَهُنَّ بِالتَّرَبُّصِ ؛ وَجَعَلَ الرَّجُلَ أَحَقّ بِرَدِّهَا فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ طَلَاقٌ إلَّا طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ : إلَّا الثَّالِثَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَذَلِكَ طَلَاقٌ أَوْجَبَ تَحْرِيمَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ بِعَقْدِ يَكُونُ بِرِضَاهَا وَرِضَا وَلَيِّهَا ؛ فَكَيْفَ تُبَاحُ بِالرَّجْعَةِ . أَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي تُبَاحُ لِزَوْجِهَا فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّ زَوْجَهَا أَحَقّ بِرُجْعَتِهَا فِي الْعِدَّةِ بِدُونِ عَقْدٍ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ طَلَاقٌ بَائِنٌ تُبَاحُ فِيهِ بِعَقْدِ وَلَا يَكُونُ الزَّوْجُ أَحَقّ بِهَا ؛ بَلْ مَتَى كانت حَلَالًا لَهُ كَانَ أَحَقّ بِهَا .
وَعَلَى هَذَا فَيَظْهَرُ كَوْنُ الْعِدَّةِ حَقًّا لِلرَّجُلِ . فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهَا الرَّجْعَةَ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْجَبَتْ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ الَّتِي تُبَاحُ فِيهِ بِعَقْدِ ؛ فَإِنَّهُ هُنَا لَا حَقَّ لَهُ إذْ النِّكَاحُ إنَّمَا يُبَاحُ بِرِضَاهُمَا جَمِيعًا ؛ وَلِهَذَا طَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ أَصْلَهُ ؛ لَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ عِنْدَهُ يَنْقَسِمُ إلَى : بَائِنٍ وَرَجْعِيٍّ وَلَهُ أَنْ يُوقِعَ الْبَائِنَ بِلَا رِضَاهَا . جَعَلَ الرَّجْعَةَ حَقًّا مَحْضًا لِلزَّوْجِ : لَهُ أَنْ يُسْقِطَهَا وَلَهُ أَلَّا يُسْقِطَهَا ؛ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ إسْقَاطُهَا ؛ فَلَا تَكُونُ حَقًّا لَهُ وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقِ ؛ فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلتَّسْوِيَةِ . وَيُؤَيِّدُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّجُلِ فِيهِ عِدَّةٌ عَلَى الْمَرْأَةِ كَمَا يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ ؛ بَلْ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ بِحَيْضَةِ ؛ فَإِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ بِحَيْضَةِ حَقٌّ لِلَّهِ ؛ لِأَجْلِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ مَوْطُوءَةٍ سَوَاءٌ وُطِئَتْ بِنِكَاحِ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ لِبَرَاءَةِ رَحِمَهَا مِنْ مَاءِ الْوَاطِئِ الْأَوَّلِ ؛ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ مَاؤُهُ بِمَاءِ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ بِالزِّنَى ؛ لِأَجْلِ مَاءِ الْوَاطِئِ الثَّانِي ؛ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ مَاؤُهُ بِمَاءِ الزَّانِي . وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِك وَأَحْمَد . وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُخْتَلَعَة إلَّا عِدَّةٌ بِحَيْضَةِ : فَعَلَى الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا أَوْلَى ؛ فَإِنَّهُ لَا رَجْعَةَ عَلَيْهَا . وَلَا نَفَقَةَ لَهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَفِي حَدِيثِ طليحة أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي أَتَمَّتْ عِدَّةَ زَوْجِهَا وَإِنْ دَخَلَ بِهَا أَتَمَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا لِلْأَوَّلِ ثُمَّ اعْتَدَّتْ لِلثَّانِي . وَكَذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ : أَنَّهُ قَضَى أَنَّهَا تَأْتِي بِبَقِيَّةِ عِدَّتِهَا لِلْأَوَّلِ ثُمَّ تَأْتِي لِلثَّانِي بِعِدَّةِ مُسْتَقْبَلَةٍ فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَإِنْ شَاءَتْ نَكَحَتْ وَإِنْ شَاءَتْ لَمْ تَنْكِحْ ؟
قِيلَ : نَعَمْ . لَكِنَّ لَفْظَ " الْعِدَّةِ " فِي كَلَام السَّلَفِ يُقَالُ عَلَى الْقُرُوءِ الثَّلَاثَةِ وَعَلَى الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ . وَحِينَئِذٍ فَعُمَرُ وَعَلِيٌّ إنْ كَانَ قَوْلُهُمَا فِي الْمُخْتَلَعَة وَنَحْوِهَا أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ فَيَكُونَانِ أَرَادَا أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ . وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُمَا أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ : فَيَكُونُ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلصَّحَابَةِ ؛ فَإِنَّ عُثْمَانَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّ الْمُخْتَلَعَة تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ . وَإِنْ قِيلَ : بَلْ قَدْ نَقُولُ : تَعْتَدُّ الْمُخْتَلَعَة بِحَيْضَةِ وَالْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ : فَهَذَا الْقَوْلُ إذَا قِيلَ بِهِ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ اخْتَلَفَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ هَلْ تُبَاحُ لِلثَّانِي ؟ فَقَالَ عُمَرُ : لَا يَنْكِحُهَا أَبَدًا . وَقَالَ عَلِيٌّ : إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا - يَعْنِي مِنْ الثَّانِي - فَإِنْ شَاءَتْ نَكَحَتْ وَإِنْ شَاءَتْ لَمْ تَنْكِحْ . وَلَوْ كَانَ وَطْءُ الثَّانِي كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ لَمْ يَمْنَعْ الْأَوَّلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَوْ وَطِئَتْ امْرَأَتُهُ بِشُبْهَةِ لَمْ يَزَلْ نِكَاحُهُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ بَلْ يَعْتَزِلُهَا حَتَّى تَعْتَدَّ وَلَوْ وُطِئَتْ الرَّجْعِيَّةُ بِشُبْهَةِ لَمْ يُسْقِطْ حَقَّ الزَّوْجِ شَيْءٌ ؟ قِيلَ : أَوَّلًا هَذَا السُّؤَالُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِقَدْرِ الْعِدَّةِ فَسَوَاءٌ كَانَتْ الْعِدَّةُ اسْتِبْرَاءً بِحَيْضَةِ أَوْ كَانَتْ بِتَرَبُّصِ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ . هَذَا وَارِدٌ فِي الصُّورَتَيْنِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الزَّوْجَ الْمُطَلِّقَ الَّذِي اعْتَدَّتْ مِنْ وَطْئِهِ إنْ كَانَ طَلَّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ وَأَمَّا إنْ فَارَقَهَا فُرْقَةً بَائِنَةً كَالْخُلْعِ - وَنَكَحَتْ فِي مُدَّةِ اعْتِدَادِهَا مِنْهُ : مِثْلَ أَنْ تَنْكِحَ قَبْلَ أَنْ تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ : فَهُنَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا فَإِنَّمَا يَتَزَوَّجُهَا بِعَقْدِ
جَدِيدٍ ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِعِدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ بِعَقْدِ جَدِيدٍ ؛ فَإِنَّ الْعِدَّةَ مِنْ الْغَيْرِ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَلَا تَمْنَعُ دَوَامَهُ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِعِدَّةِ ؛ لَا مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ وَلَا نِكَاحٍ فَاسِدٍ ؛ بَلْ وَلَا زِنًى ؛ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةِ أَوْ زِنًى لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهُ ؛ بَلْ يَجْتَنِبُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا ثُمَّ يَطَؤُهَا . وَإِذَا قِيلَ : فَهَذِهِ مُعْتَدَّةٌ مِنْ الْوَطْءِ فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنْ نِكَاحِهَا فِي الْعِدَّةِ ؟ قِيلَ : " أَوَّلًا " هَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِقَدْرِ الْعِدَّةِ . وَقِيلَ " ثَانِيًا " لَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ يُبِيحُ لِكُلِّ مُعْتَدَّةٍ أَنْ تَنْكِحَ فِي عِدَّتِهَا ؛ لَكِنْ الْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى ذَلِكَ فِي مِثْلِ الْمُخْتَلَعَة ؛ إذْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لِغَيْرِ النَّاكِحِ . فَأَمَّا إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا عِدَّةً مِنْ غَيْرِهِ : فَهُنَا الْمَانِعُ كَوْنُهَا مُعْتَدَّةً مِنْ غَيْرِهِ كَمَا يُمْنَعُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ ؛ فَإِنَّ الْخَلِيَّةَ مِنْ عِدَّتِهَا لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا ؛ وَإِذَا كَانَ بِعِدَّةِ مِنْ الْغَيْرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ . فَالْعِدَّةُ لَيْسَتْ مَانِعَةً مِنْ النِّكَاحِ وَلَا مُوجِبَةً لِحِلِّهِ وَانْتِفَاءُ مَانِعٍ وَاحِدٍ لَا يُبِيحُ الْغَيْرَ إذَا وُجِدَ مَانِعٌ آخَرُ ؛ وَلَكِنْ يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ الْعِدَّةَ مِنْهُ وَجَبَتْ لِإِبَاحَةِ عَقْدِهِ . وَهَذَا غَلَطٌ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ رَجْعِيًّا فَارْتِجَاعُهُ إيَّاهَا فِي بَقِيَّةِ عِدَّتِهَا مِنْهُ كَارْتِجَاعِهِ لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةِ فِي عِدَّتِهَا مِنْ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
وَكَذَلِكَ الَّذِي قَضَى بِهِ عَلِيٌّ : أَنَّ الثَّانِيَ لَا يَنْكِحُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ . وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَيَجُوزُ عِنْدَهُ لِلثَّانِي أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ كَمَا يَجُوزُ لِلْوَاطِئِ بِشُبْهَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَوْطُوءَةَ فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ نَكَحَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ . وَأَحْمَد لَهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ رِوَايَتَانِ . " إحْدَاهُمَا " لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ لِيُمَيِّزَ بَيْنَ مَاءِ وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَمَاءِ الْمُبَاحِ الْمَحْضِ . " وَالثَّانِي " يَجُوزُ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَاحِقٌ فِي كِلَيْهِمَا . وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مَنْ جَوَّزَ لِلثَّانِي أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِكُلِّ مُعْتَدَّةٍ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ نَصَّهُ وَقَالَ هُنَا : كَانَ يَذْكُرُ فِيهَا عِدَّةً مَنْ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ وَهَذَا الْوَاطِئُ الثَّانِي لَمْ تَعْتَدَّ مِنْهُ عَقِبَ مُفَارَقَتِهِ لَهَا ؛ بَلْ تَخَلَّلَ بَيْنَ مُفَارَقَتِهِ وَعِدَّتُهُ عِدَّةُ الْأَوَّلِ وَهِيَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ لَهُمَا وَتَقْدِيمُ عِدَّةِ الْأَوَّلِ كَانَ لِقِدَمِ حَقِّهِ ؛ وَإِلَّا فَلَوْ وَضَعَتْ وَلَدًا أَلْحَقَ بِالثَّانِي لَكَانَتْ عِدَّةَ الثَّانِي مُتَقَدِّمَةً عَلَى عِدَّةِ الْأَوَّلِ فَهِيَ فِي أَيَّامِ عِدَّةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهَا حَقٌّ لِلثَّانِي وَفِي الِاعْتِدَادِ
مِنْ
الثَّانِي عَلَيْهَا حَقٌّ لِلْأَوَّلِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ وَضَعَتْ
وَلَدًا بَعْدَ اعْتِدَادِهَا مِنْ الْأَوَّلِ وَأَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْ
الْأَوَّلِ وَالثَّانِي عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ . فَإِذَا كَانَ لِلْأَوَّلِ
حَقٌّ فِي مُدَّةِ عِدَّتِهَا مِنْ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ لِلثَّانِي أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ . فَهَذَا أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَهُوَ نَصُّ أَحْمَد
وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَقَدْ تَبِعَهُ الْجَدُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
فِي " مُحَرَّرِهِ " . وَأَمَّا مِقْدَارُ الْعِدَّةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا
عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَيْنِ فِي الْمُخْتَلَعَة فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا فَرْقٌ شَرْعِيٌّ وَإِلَّا وَجَبَ أَنْ
يُقَالَ فِي الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا : إنَّمَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ
كَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَخَاصَمَ مَعَ زَوْجَتِهِ وَهِيَ مَعَهُ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ
فَقَالَتْ لَهُ : طَلِّقْنِي . فَقَالَ : إنْ أبرأتيني فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ
. أَبْرَأَك اللَّهُ مِمَّا يَدَّعِي النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ . فَقَالَ لَهَا
: أَنْتِ طَالِقٌ . وَظَنَّ أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ الْحُقُوقِ وَهُوَ شَافِعِيُّ
الْمَذْهَبِ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا تَدَّعِي النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ إذَا كَانَتْ
رَشِيدَةً .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ : طَلِّقْنِي وَأَنَا أَبْرَأَتْك مِنْ
جَمِيعِ حُقُوقِي عَلَيْك ؛ وَآخُذُ الْبِنْتَ بِكِفَايَتِهَا يَكُونُ لَهَا
عَلَيْك مِائَةُ دِرْهَمٍ . كُلُّ يَوْمٍ سُدُسُ دِرْهَمٍ . وَشَهِدَ الْعُدُولُ
بِذَلِكَ فَطَلَّقَهَا عَلَى ذَلِكَ بِحُكْمِ الْإِبْرَاءِ أَوْ الْكَفَالَةِ :
فَهَلْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِفَرْضِ الْبِنْتِ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا خَالَعَهَا عَلَى أَنْ تُبْرِئَهُ مِنْ حُقُوقِهَا وَتَأْخُذَ الْوَلَدَ
بِكَفَالَتِهِ وَلَا تُطَالِبَهُ بِنَفَقَةِ . صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ
الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ
وَغَيْرِهِمَا ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَصِحُّ الْخُلْعُ بِالْمَعْدُومِ
الَّذِي يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ كَمَا تَحْمِلُ أَمَتُهَا وَشَجَرُهَا . وَأَمَّا
نَفَقَةُ حَمْلِهَا وَرِضَاعُ وَلَدِهَا وَنَفَقَتُهُ . فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ
وُجُودِهِ وَجَوَازِهِ ؛ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ لَهُ : طَلِّقْنِي وَأَنَا
أَبْرَأْتُك مِنْ حُقُوقِي وَأَنَا آخُذُ الْوَلَدَ بِكَفَالَتِهِ . وَأَنَا
أَبْرَأْتُك مِنْ نَفَقَتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ .
وَإِذَا خَالَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ يَرَى صِحَّةَ مِثْلِ هَذَا
الْخُلْعِ - كَالْحَاكِمِ الْمَالِكِيِّ - لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنْقُضَهُ
وَإِنْ رَآهُ فَاسِدًا وَلَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَفْرِضَ لَهُ
عَلَيْهِ
بَعْدَ هَذَا نَفَقَةً لِلْوَلَدِ ؛ فَإِنْ فَعَلَ الْحَاكِمُ الْأَوَّلُ كَذَلِكَ
حَكَمَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَالْحَاكِمُ متى عَقَدَ عَقْدًا
سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ أَوْ فَسَخَ فَسْخًا جَازَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ : لَمْ
يَكُنْ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِصِهْرِهِ : إنْ جِئْت لِي بِكِتَابِي وَأَبْرَأْتَنِي مِنْهُ
فَبِنْتُك طَالِقٌ ثَلَاثًا ؛ فَجَاءَ لَهُ بِكِتَابِ غَيْرِ كِتَابِهِ ؛
فَقَطَّعَهُ الزَّوْجُ وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ هُوَ كِتَابُهُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ :
أَبُو الزَّوْجَةِ : اشْهَدُوا عَلَيْهِ أَنَّ بِنْتِي تَحْتَ حِجْرِي وَاشْهَدُوا
عَلَيَّ أَنِّي أَبْرَأْته مِنْ كِتَابِهَا وَلَمْ يُعَيِّنْ مَا فِي الْكِتَابِ
ثُمَّ إنَّهُ مَكَثَ سَاعَةً وَجَاءَ أَبُو الزَّوْجَةِ بِحُضُورِ الشُّهُودِ ؛
وَقَالَ لَهُ : أَيَّ شَيْءٍ قُلْت يَا زَوْجُ ؟ فَقَالَ الزَّوْجُ اشْهَدُوا عَلَيَّ
أَنَّ بِنْتَ هَذَا طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ إنَّ الزَّوْجَ ادَّعَى أَنَّ هَذَا
الطَّلَاقَ الصَّرِيحَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ :
فَهَلْ يَقَعُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
قَوْلُهُ الْأَوَّلُ مُعَلَّقٌ عَلَى الْإِبْرَاءِ فَإِنْ لَمْ يُبْرِهِ لَمْ
يَقَعْ الطَّلَاقُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ الثَّانِي فَهُوَ إقْرَارُ مِنْهُ ؛
بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ وَقَعَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَقَعْ
فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِالثَّانِي شَيْءٌ
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ فَحَلَفَ أَبُوهَا أَنَّهُ مَا يُخَلِّيهَا مَعَهُ
وَضَرَبَهَا وَقَالَ لَهُ أَبُوهَا : أَبْرِئِيهِ . فَأَبْرَأَتْهُ وَطَلَّقَهَا
طَلْقَةً ؛ ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهَا لَمْ تُبْرِهِ إلَّا خَوْفًا مِنْ أَبِيهَا :
فَهَلْ تَقَعُ عَلَى الزَّوْجَةِ الطَّلْقَةُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَتْ أَبْرَأَتْهُ مُكْرَهَةً بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ
يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ وَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِهِ . وَإِنْ
كَانَتْ تَحْتَ حِجْرِ الْأَبِ وَقَدْ رَأَى الْأَبُ أَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ
لَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا فِي
مَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ بِنْتٍ يَتِيمَةٍ تَحْتَ الْحِجْرِ مُزَوَّجَةٍ قَالَ لَهَا الزَّوْجُ : إنْ
أبرأتيني مِنْ صَدَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا : فَمِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ
وَالْفَزَعِ أَوْهَبَتْهُ . ثُمَّ رَجَعَتْ فَنَدِمَتْ : هَلْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ
. وَلَا يَحْنَثُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أَكْرَهَهَا عَلَى الْهِبَةِ أَوْ كَانَتْ تَحْتَ الْحِجْرِ : لَمْ تَصِحَّ
الْهِبَةُ ؛ وَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ امْرَأَةٌ كَسَاهَا كُسْوَةً مُثَمَّنَةً : مِثْلَ مَصَاغٍ
وَحُلِيٍّ وَقَلَائِدَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ كُسْوَةِ الْقِيمَةِ
وَطَلَبَتْ مِنْهُ الْمُخَالَعَةَ وَعَلَيْهِ مَالٌ كَثِيرٌ مُسْتَحِقٌّ لَهَا
عَلَيْهِ وَطَلَبَ حِلْيَةً مِنْهَا لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى حَقِّهَا أَوْ عَلَى
غَيْرِ حَقِّهَا فَأَنْكَرَتْهُ وَيَعْلَمُ أَنَّهَا تَحْلِفُ وَتَأْخُذُ الَّذِي
ذَكَرَهُ عِنْدَهَا وَالثَّمَنُ يَلْزَمُهُ ؛ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ
عَلَيْهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا ذَلِكَ الزَّائِدَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى وَجْهِ
التَّمْلِيكِ لَهَا فَقَدْ مَلَكَتْهُ وَلَيْسَ لَهُ إذَا طَلَّقَهَا هُوَ
ابْتِدَاءً أَنْ يُطَالِبَهَا بِذَلِكَ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَتْ الْكَارِهَةَ
لِصُحْبَتِهِ وَأَرَادَتْ الِاخْتِلَاعَ مِنْهُ : فَلْتُعْطِهِ مَا أَعْطَاهَا
مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الصَّدَاقِ الَّذِي سَاقَهُ إلَيْهَا وَالْبَاقِي فِي
ذِمَّتِهِ ؛ لِيَخْلَعَهَا كَمَا مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي { امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ حَيْثُ
أَمَرَهَا بِرَدِّ مَا أَعْطَاهَا } . وَإِنْ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا لِتَتَجَمَّلَ
بِهِ كَمَا يُرْكِبُهَا دَابَّتَهُ وَيُحْذِيهَا غُلَامَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ لَا عَلَى
وَجْهِ التَّمْلِيكِ لِلْعَيْنِ : فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَلَهُ أَنْ
يَرْجِعَ
فِيهِ
مَتَى شَاءَ ؛ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا . وَإِنْ تَنَازَعَا
هَلْ أَعْطَاهَا عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ ؟ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ؟
وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُرْفٌ يَقْضِي بِهِ : فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ
أَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهَا ذَلِكَ . وَإِنْ تَنَازَعَا هَلْ أَعْطَاهَا شَيْئًا
أَوْ لَمْ يُعْطِهَا وَلَمْ يَكُنْ حُجَّةٌ يَقْضِي لَهُ بِهَا ؛ لَا شَاهِدٌ
وَاحِدٌ وَلَا إقْرَارٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ : فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ
يَمِينِهَا أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ بَاعَ شَيْئًا مِنْ قُمَاشِهِ فَخَاصَمَتْهُ زَوْجَتُهُ لِأَجْلِ
أَنَّهُ بَاعَ قُمَاشَهُ وَحَصَلَ بَيْنَهُمَا شَنَآنٌ عَلَيْهِ وَهُمْ فِي الْخِصَامِ
وَجَاءَ نَاسٌ مِنْ قَرَابَتِهَا فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّاسِ الَّذِينَ حَضَرُوا
: هَذِهِ الْمَرْأَةُ إنْ لَمْ تَقْعُدْ مِثْلَ النَّاسِ وَإِلَّا تَخَلَّى
وَتَزَوَّجَ . ثُمَّ قَالَ : إنْ أَعْطَيْتِنِي كِتَابَك لِهَذَا الرَّجُلِ كُنْت
طَالِقًا ثَلَاثًا وَكَانَ نِيَّتُهُ أَنَّهَا تُبْرِئُهُ فَحَنِقَتْ وَأَعْطَتْ
الْكِتَابَ لِلرَّجُلِ : فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ إعْطَاءَ الْكِتَابِ عَلَى وَجْهِ الْإِبْرَاءِ
فَأَعْطَتْهُ عَطَاءً مُجَرَّدًا وَلَمْ تُبْرِئْهُ مِنْهُ : لَمْ يَقَعْ بِهِ
الطَّلَاقُ . وَإِذَا قَالَ : كَانَ مَقْصُودَيْ الْإِعْطَاءَ فِي ذَلِكَ ؛ إذْ
لَا غَرَضَ لَهُ إلَّا فِي الْإِبْرَاءِ وَتَسْلِيمُ الصَّدَاقِ يَمْنَعُ مِنْ
الِادِّعَاءِ بِهِ وَمُجَرَّدُ إيدَاعِهِ فَلَا غَرَضَ لَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مَالِكِيِّ الْمَذْهَبِ حَصَلَ لَهُ نَكَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِ
زَوْجَتِهِ فَحَضَرَ قُدَّامَ الْقَاضِي . فَقَالَ الزَّوْجُ لِوَالِدِ
الزَّوْجَةِ : إنْ أَبْرَأَتْنِي ابْنَتُك أَوْقَعْت عَلَيْهَا الطَّلَاقَ .
فَقَالَ وَالِدُهَا أَنَا أَبْرَأْتُك . فَحَضَرَ الزَّوْجُ وَوَالِدُ الزَّوْجَةِ
قُدَّامَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فَأَبْرَأَهُ وَالِدُهَا بِغَيْرِ حُضُورِهَا
وَبِغَيْرِ إذْنِهَا : فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي
الْمَنْصُوصِ الْمَعْرُوفِ عَنْهُمْ : أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يُخَالِعَ
عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ ابْنَتِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا أَوْ
لَمْ تَكُنْ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ بِمَالِهَا فَلَا يَمْلِكُهُ كَمَا لَا
يَمْلِكُ إسْقَاطَ سَائِرِ دُيُونِهَا . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يُخَالِعَ عَنْ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ بِكْرًا كانت أَوْ ثَيِّبًا لِكَوْنِهِ يَلِي
مَالَهَا وَرُوِيَ عَنْهُ : أَنَّ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ عَنْ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ
مُطْلَقًا ؛ لِكَوْنِهِ يُجْبِرُهَا عَلَى النِّكَاحِ . وَرُوِيَ عَنْهُ :
يُخَالِعُ عَنْ ابْنَتِهِ مُطْلَقًا كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِدُونِ
مَهْرِ الْمِثْلِ لِلْمَصْلَحَةِ وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهًا فِي مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي حَقِّ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ أَنْ يُخَالِعَهَا بِالْإِبْرَاءِ مِنْ نِصْفِ مَهْرِهَا إذَا قُلْنَا : إنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْوَلِيُّ ؛ وَخَطَّأَهُ بَعْضُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ بَعْدَ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ إسْقَاطَ حَقِّهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ فَجَوَازُ ذَلِكَ لِمَنْفَعَتِهَا وَهُوَ يَخْلَعُهَا مِنْ الزَّوْجِ أَوْلَى ؛ وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ كُلِّهِمْ أَنْ يَخْتَلِعَهَا مِنْ الزَّوْجِ بِشَيْءِ مِنْ مَالِهِ ؛ وَكَذَلِكَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بِمَالِهَا إذَا ضَمِنَ ذَلِكَ الزَّوْجُ . فَإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَخْتَلِعَهَا وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا ضَرَرٌ إلَّا إسْقَاطُ نِصْفِ صَدَاقِهَا . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ يُخَرَّجُ عَلَى أُصُولِ أَحْمَد مِنْ وُجُوهٍ . مِنْهَا أَنَّ الْأَبَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ وَيَخْلَعَ امْرَأَةَ ابْنِهِ الطِّفْلِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ . وَمَالِكٌ يُجَوِّزُ الْخُلْعَ دُونَ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ فِي الْخَلْعِ مُعَاوَضَةً . وَأَحْمَد يَقُولُ : لَهُ التَّطْلِيقُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهُ لِتَخْلِيصِهِ مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ وَضَرَرِهَا وَكَذَلِكَ لَا فَرْقَ فِي إسْقَاطِ حُقُوقِهِ بَيْنَ الْمَالِ وَغَيْرِ الْمَالِ . " وَأَيْضًا " فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِلْحُكْمِ فِي الشِّقَاقِ أَنْ يَخْلَعَ الْمَرْأَةَ بِشَيْءِ مِنْ مَالِهَا بِدُونِ إذْنِهَا ؛ وَيُطَلِّقَ عَلَى الزَّوْجِ بِدُونِ إذْنِهِ : كَمَذْهَبِ
مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ الْمَرْأَةَ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَعِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الْأَبَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ نِصْفَ الصَّدَاقِ . وَمَذْهَبُهُ أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَتَمَلَّكَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا لَا يَضُرُّ بِالْوَلَدِ حَتَّى لَوْ زَوَّجَهَا وَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ بَعْضَ الصَّدَاقِ : جَازَ لَهُ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ لَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَالتَّمَلُّكِ هَذَا التَّصَرُّفُ لَمْ يَبْقَ إلَّا طَلَبُهُ لِفُرْقَتِهَا وَذَلِكَ يَمْلِكُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَيَجُوزُ عِنْدَهُ لِلْأَبِ أَنْ يُعْتِقَ بَعْضَ رَقَبَةِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِلْمَصْلَحَةِ . فَقَدْ يُقَالُ : الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إنْ كَانَتْ تَحْتَ حِجْرِ الْأَبِ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ مُعَاوَضَةً وَافْتِدَاءً لِنَفْسِهَا مِنْ الزَّوْجِ فَيَمْلِكُهُ الْأَبُ كَمَا يَمِلْك غَيْرَهُ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ وَكَمَا يَمْلِكُ افْتِدَاءَهَا مِنْ الْأَسْرِ ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ مَصْلَحَةً لَهَا . وَقَدْ يُقَالُ : قَدْ لَا يَكُونُ مَصْلَحَتُهَا فِي الطَّلَاقِ ؛ وَلَكِنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِ ؛ فَإِذَا بُذِلَ لَهُ الْعِوَضُ مِنْ غَيْرِهَا لَمْ يُمْكِنْهَا مَنْعُهُ مِنْ الْبَذْلِ . فَأَمَّا إسْقَاطُ مَهْرِهَا وَحَقِّهَا الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ بِالنِّكَاحِ فَقَدْ يَكُونُ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ . وَالْأَبُ قَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ بِاخْتِلَاعِهَا حَظَّهُ لَا لِمَصْلَحَتِهَا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّهَا بِمُجَرَّدِ حَظِّهِ بِالِاتِّفَاقِ . فَعَلَى قَوْلِ مَنْ يُصَحِّحُ الْإِبْرَاءَ يَقَعُ الْإِبْرَاءُ وَالطَّلَاقُ . وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ إبْرَاءَهُ إنْ ضَمِنَهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِلَا نِزَاعٍ ؛ وَكَانَ عَلَى الْأَبِ لِلزَّوْجِ
مِثْلُ
الصَّدَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ فِي
الْقَدِيمِ . وَعِنْدَهُ فِي الْجَدِيدِ : إنَّمَا عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ .
وَأَمَّا إنْ لَمْ يُضَمِّنْهُ إنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالْإِبْرَاءِ . فَقَالَ
لَهُ : إنْ أَبَرَّأْتنِي فَهِيَ طَالِقٌ . فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ
يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا اعْتَقَدَ الزَّوْجُ أَنَّهُ يَبْرَأُ وَيَرْجِعُ عَلَى
الْأَبِ بِقَدْرِ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ ؛ وَهُوَ إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي الْأُخْرَى لَا يَقَعُ
شَيْءٌ . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَبْرَأْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَالْأَوَّلُونَ قَالُوا : وَجَدَ
الْإِبْرَاءَ . وَأَمْكَنَ أَنْ يَجْعَلَ الْأَبَ ضَامِنًا بِهَذَا الْإِبْرَاءِ .
وَأَمَّا إنْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا لَمْ يُعَلِّقْهُ عَلَى الْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُ يَقَعُ
؛ لَكِنْ عِنْدَ أَحْمَد يَضْمَنُ لِلزَّوْجِ الصَّدَاقَ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَضْمَنُ لَهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُلْزَمْ
شَيْئًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا وَأَبْرَأَتْ الزَّوْجَ مِنْ
حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ قَبْلَ عِلْمِهَا بِالْحَمْلِ فَلَمَّا بَانَ الْحَمْلُ
طَالَبَتْ الزَّوْجَ بِفَرْضِ الْحَمْلِ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ لَمْ تَدْخُلْ نَفَقَةُ الْحَمْلِ فِي
الْإِبْرَاءِ . وَكَانَ لَهَا أَنْ تَطْلُبَ نَفَقَةَ الْحَمْلِ . وَلَوْ عَلِمَتْ
بِالْحَمْلِ وَأَبْرَأَتْهُ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ فَقَطْ لَمْ
يَدْخُلْ
فِي ذَلِكَ نَفَقَةُ الْحَمْلِ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بَعْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ وَهِيَ
وَاجِبَةٌ لِلْحَمْلِ فِي أَظْهَرْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ : كَأُجْرَةِ الرَّضَاعِ
. وَفِي الْآخَرِ هِيَ لِلزَّوْجَةِ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ فَتَكُونُ مِنْ جِنْسِ
نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ
كَأُجْرَةِ الرَّضَاعِ . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَاءُ بِمُقْتَضَى
أَنَّهُ لَا تَبْقَى بَيْنَهُمَا مُطَالَبَةٌ بَعْدَ النِّكَاحِ أَبَدًا فَإِذَا
كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَمَقْصُودُهُمَا الْمُبَارَأَةَ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى
لِلْآخِرَةِ مُطَالَبَةٌ بِوَجْهِ : فَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْإِبْرَاءُ مِنْ
نَفَقَةِ الْحَمْلِ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ
الْجُزْءُ
الْثَّالِثُ وَالْثَّلَاثُونَ
كِتَابُ الْطَلَاقِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ
بَعْدَهُ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَهْدِيه وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا
وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِي اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ
يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
بَابُ طَلَاقِ السُّنَّةِ وَطَلَاقِ الْبِدْعَةِ
فَصْلٌ :
مُخْتَصَرٌ فِيمَا " يَحِلُّ مِنْ الطَّلَاقِ وَيَحْرُمُ " وَهَلْ
يَلْزَمُ الْمُحَرَّمُ ؟ أَوْ لَا يَلْزَمُ ؟ فَنَقُولُ : الطَّلَاقُ مِنْهُ مَا
هُوَ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَمِنْهُ مَا لَيْسَ
بِمُحَرَّمِ " فَالطَّلَاقُ الْمُبَاحُ " بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ -
هُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ
امْرَأَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً ؛ إذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا بَعْدَ أَنْ تَغْتَسِلَ وَقَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا ثُمَّ يَدَعَهَا فَلَا يُطَلِّقَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا . وَهَذَا الطَّلَاقُ يُسَمَّى " طَلَاقَ السُّنَّةِ " فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ فَلَهُ ذَلِكَ بِدُونِ رِضَاهَا وَلَا رِضَا وَلِيِّهَا . وَلَا مَهْرٍ جَدِيدٍ . وَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ : فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانِ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ . فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ يَكُونُ بِعَقْدِ ؛ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا ابْتِدَاءً أَوْ تَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ ثُمَّ ارْتَجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ؛ فَإِنَّهُ يُطَلِّقُهَا كَمَا تَقَدَّمَ . ثُمَّ إذَا ارْتَجَعَهَا أَوْ تَزَوَّجَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَإِنَّهُ يُطَلِّقُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَإِذَا طَلَّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ وَحِينَئِذٍ فَلَا تُبَاحُ لَهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ النِّكَاحَ الْمَعْرُوفَ الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ إذَا كَانَ الرَّجُلُ رَاغِبًا فِي نِكَاحِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ يُفَارِقُهَا . فَأَمَّا إنْ تَزَوَّجَهَا بِقَصْدِ أَنْ يَحِلَّهَا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا نَقَلَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَغَيْرِهِمْ وَكَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَإِنْ
كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِمَّا لَا تَحِيضُ لِصِغَرِهَا أَوْ كِبَرِهَا ؛ فَإِنَّهُ
يُطَلِّقُهَا مَتَى شَاءَ سَوَاءٌ كَانَ وَطِئَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ يَطَؤُهَا ؛
فَإِنَّ هَذِهِ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ . فَفِي أَيِّ وَقْتٍ طَلَّقَهَا
لِعِدَّتِهَا ؛ فَإِنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِقُرُوءِ وَلَا بِحَمْلِ ؛ لَكِنْ مِنْ
الْعُلَمَاءِ مَنْ يُسَمِّي هَذَا " طَلَاقَ سُنَّةٍ " وَمِنْهُمْ مَنْ
لَا يُسَمِّيه " طَلَاقَ سُنَّةٍ " وَلَا " بِدْعَةٍ " .
وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا وَقَبْلَ
أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا : فَهَذَا الطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ وَيُسَمَّى "
طَلَاقَ الْبِدْعَةِ " وَهُوَ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالْإِجْمَاعِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا وَأَرَادَ أَنْ
يُطَلِّقَهَا : فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا . وَهَلْ يُسَمَّى هَذَا طَلَاقَ سُنَّةٍ
؟ أَوْ لَا يُسَمَّى طَلَاقَ سُنَّةٍ وَلَا بِدْعَةٍ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ .
وَهَذَا " الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ " فِي الْحَيْضِ وَبَعْدَ الْوَطْءِ
وَقَبْلَ تَبَيُّنِ الْحَمْلِ هَلْ يَقَعُ ؟ أَوْ لَا يَقَعُ ؟ سَوَاءٌ كَانَتْ
وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ .
وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ أَوْ
كَلِمَاتٍ ؛ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا . أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ
وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ . أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ . أَوْ
يَقُولُ : أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ يَقُولُ : أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ يَقُولُ : أَنْتِ
طَالِقٌ . أَوْ يَقُولُ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا . أَوْ عَشْرَ طَلَقَاتٍ أَوْ
مِائَةَ طَلْقَةٍ أَوْ
أَلْفَ طَلْقَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ : فَهَذَا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا . وَمِنْ السَّلَفِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا . وَفِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ مُحْدَثٌ مُبْتَدِعٌ . " أَحَدُهَا " : أَنَّهُ طَلَاقٌ مُبَاحٌ لَازِمٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْقَدِيمَةِ عَنْهُ : اخْتَارَهَا الخرقي . " الثَّانِي " أَنَّهُ طَلَاقٌ مُحَرَّمٌ لَازِمٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهُ . اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ : مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِهِمْ . " الثَّالِثُ " : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ . وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلَانِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ : مِثْلَ طَاوُوسٍ وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو ؛ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ ؛ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ ؛ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَابْنِهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَلِهَذَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ مَنْ ذَهَبَ مِنْ الشِّيعَةِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ .
وَأَمَّا
" الْقَوْلُ الرَّابِعُ " الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ
وَالشِّيعَةِ : فَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا
يَلْزَمُهُ شَيْءٌ . وَالْقَوْلُ " الثَّالِثُ " هُوَ الَّذِي يَدُلُّ
عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ طَلَاقٍ شَرَعَهُ اللَّهُ فِي
الْقُرْآنِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إنَّمَا هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ ؛ لَمْ
يُشَرِّعْ اللَّهُ لِأَحَدِ أَنْ يُطَلِّقَ الثَّلَاثَ جَمِيعًا وَلَمْ يُشَرِّعْ
لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا طَلَاقًا باينا وَلَكِنْ إذَا طَلَّقَهَا
قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بَانَتْ مِنْهُ فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَانَتْ
مِنْهُ .
فَالطَّلَاقُ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ :
" الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ " وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ
يَرْتَجِعَهَا فِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي
الْعِدَّةِ وَرِثَهُ الْآخَرُ .
وَ " الطَّلَاقُ الْبَائِنُ " وَهُوَ مَا يَبْقَى بِهِ خَاطِبًا مِنْ
الْخِطَابِ لَا تُبَاحُ لَهُ إلَّا بِعَقْدِ جَدِيدٍ . " و الطَّلَاقُ
الْمُحَرَّمُ لَهَا " لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
وَهُوَ فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ كَمَا أَذِنَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَهُوَ : أَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ .
أَوْ يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا . أَوْ
يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ . فَهَذَا الطَّلَاقُ
الْمُحَرَّمُ لَهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا
طَلَاقٌ بَائِنٌ يُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ . وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ
الْحَدِيثِ كَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ . وَالشَّافِعِيِّ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ
الْمُنْذِرِ .
ودَاوُد
وَابْنِ خُزَيْمَة وَغَيْرِهِمْ : أَنَّ " الْخُلْعَ " فَسْخٌ
لِلنِّكَاحِ وَفُرْقَةٌ بَائِنَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لَا يُحْسَبُ مِنْ
الثَّلَاثِ . وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ : كَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان : وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا :
أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ؛
وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةِ وَهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ بْنِ
رَاهَوَيْه ؛ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
عَنْ أَحْمَد . وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَعْرُوفَةٌ فِي السُّنَنِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا
وَبَيْنَ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ : رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْخُلْعَ
طَلَاقًا ؛ لَكِنْ ضَعَّفَهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ : كَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ
حَنْبَلٍ ؛ وَابْنِ خُزَيْمَة ؛ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرِهِمْ
. كَمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ .
و " الْخُلْعُ " أَنْ تَبْذُلَ الْمَرْأَةُ عِوَضًا لِزَوْجِهَا ؛
لِيُفَارِقَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا
خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا
إصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } { فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ
بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ
الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُطْلِقَاتِ
بَعْدَ الدُّخُولِ يَتَرَبَّصْنَ أَيْ يَنْتَظِرْنَ ثَلَاثَ قُرُوءٍ . "
وَالْقُرْءُ " عِنْدَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ : كَعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ
مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمْ : الْحَيْضُ . فَلَا تَزَالُ فِي
الْعِدَّةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَذَهَبَ ابْنُ
عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِطَعْنِهَا فِي
الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَهِيَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ .
وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ
عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا }
ثُمَّ قَالَ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } أَيْ فِي
ذَلِكَ التَّرَبُّصِ . ثُمَّ قَالَ : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } فَبَيَّنَ أَنَّ
الطَّلَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ
أَحَقَّ بِرَدِّهَا : هُوَ ( مَرَّتَانِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ كَمَا إذَا قِيلَ
لِلرَّجُلِ : سَبِّحْ مَرَّتَيْنِ . أَوْ سَبِّحْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . أَوْ مِائَةَ
مَرَّةٍ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ : سُبْحَانَ اللَّهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ .
حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْعَدَدَ . فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُجْمِلَ
ذَلِكَ فَيَقُولُ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ . لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ : الطَّلَاقُ طَلْقَتَانِ . بَلْ قَالَ : مَرَّتَانِ فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ عَشْرًا أَوْ أَلْفًا . لَمْ يَكُنْ قَدْ طَلَّقَهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً { وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَّةَ : لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْته مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ : سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ التَّسْبِيحَ بِعَدَدِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ } لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ سَبَّحَ تَسْبِيحًا بِقَدْرِ ذَلِكَ . فَالْمِقْدَارُ تَارَةً يَكُونُ وَصْفًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ وَفِعْلُهُ مَحْصُورٌ . وَتَارَةً يَكُونُ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ فَذَاكَ الَّذِي يَعْظُمُ قَدْرُهُ ؛ وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ . لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً . وَلَمَا شَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُحَمَّدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُكَبَّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ . فَلَوْ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ خَلْقَهُ . لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً . وَلَا نَعْرِفُ أَنَّ أَحَدًا طَلَّقَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ فَأَلْزَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّلَاثِ وَلَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا حَسَنٌ وَلَا نَقَلَ أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَدِّ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ شَيْئًا ؛
بَلْ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ بَلْ مَوْضُوعَةٌ ؛ بَلْ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ : طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً . فَقَالَ عُمَرُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ وَغَيْرِهِ عَنْ طَاوُوسٍ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَتَعْلَمُ إنَّمَا كَانَتْ الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَثَلَاثًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَعَمْ : وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : هَاتِ مِنْ هَنَاتِك أَلَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً ؟ قَالَ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ . { طَلَّقَ ركانة بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو بَنِي الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا ؛ قَالَ : فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ طَلَّقْتهَا ؟ قَالَ : طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا . قَالَ ؛ فَقَالَ : فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَإِنَّمَا تِلْكَ وَحْدَةٌ فَأَرْجِعْهَا إنْ شِئْت قَالَ : فَرَجَعَهَا } . فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ ؛ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ المقدسي فِي كِتَابِهِ " الْمُخْتَارَةِ " الَّذِي هُوَ أَصَحُّ مِنْ " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " . وَهَكَذَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ } مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي مَجَالِسَ لَأَمْكَنَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ قَدْ ارْتَجَعَهَا ؛ فَإِنَّهَا عِنْدَهُ وَالطَّلَاقُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ يَقَعُ . وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ فِي جَانِبِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ تَفْصِيلٌ كَقَوْلِهِ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ أَوْ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ } وَهُوَ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَقَدْ يَحْمِلُ الْخَبَثَ وَقَدْ لَا يَحْمِلُهُ . وَقَوْلُهُ { فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ } وَهِيَ إذَا لَمْ تَكُنْ سَائِمَةً قَدْ يَكُونُ فِيهَا الزَّكَاةُ - زَكَاةُ التِّجَارَةِ - وَقَدْ لَا يَكُونُ فِيهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَمَنْ لَمْ يَقُمْهَا فَقَدْ يُغْفَرُ لَهُ بِسَبَبِ آخَرَ . وَكَقَوْلِهِ : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وقَوْله تَعَالَى تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَقَدْ يَعْمَلُ عَمَلًا آخَرَ يَرْجُو بِهِ رَحْمَةَ اللَّهِ مَعَ الْإِيمَانِ وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ . فَلَوْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَقَدْ يَكُونُ لَهُ فِيهَا رَجْعَةٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ : بِخِلَافِ الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ صَاحِبِهِ بِأَنَّهُ لَا يُرَاجِعُهَا فِيهِ ؛ فَإِنَّ لَهُ فِيهِ الرَّجْعَةَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { ارْجِعْهَا إنْ شِئْت } وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا } فَأَمَرَهُ بِالرَّجْعَةِ وَالرَّجْعَةُ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ ؛ بِخِلَافِ الْمُرَاجَعَةِ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ { أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً ؟ فَقَالَ : مَا أَرَدْت بِهَا إلَّا وَاحِدَةً .
فَرَّدَهَا إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَأَبُو دَاوُد لَمَّا لَمْ يَرْوِ فِي سُنَنِهِ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ : حَدِيثُ " أَلْبَتَّةَ " أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جريج { أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا } لِأَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ أَعْلَمُ ؛ لَكِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَكَابِرَ الْعَارِفُونَ بِعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِيهِ : كَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ : ضَعَّفُوا حَدِيثَ أَلْبَتَّةَ وَبَيَّنُوا أَنَّ رُوَاتَهُ قَوْمٌ مَجَاهِيلُ ؛ لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُمْ وَضَبْطُهُمْ وَأَحْمَد أَثْبَتَ حَدِيثَ الثَّلَاثِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ الصَّوَابُ مِثْلَ قَوْلِهِ : حَدِيثُ ركانة لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ . وَقَالَ أَيْضًا : حَدِيثُ ركانة فِي أَلْبَتَّةَ لَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّ ابْنَ إسْحَاقَ يَرْوِيه عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا } وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا طَلَّقَ أَلْبَتَّةَ وَأَحْمَد إنَّمَا عَدَلَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الثَّلَاثَ جَائِزَةٌ مُوَافَقَةً لِلشَّافِعِيِّ . فَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ : حَدِيثُ ركانة مَنْسُوخٌ . ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ طَلَاقٌ مُبَاحٌ إلَّا الرَّجْعِيُّ عَدَلَ : عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ أَفْتَى بِخِلَافِهِ وَهَذَا عِلَّةٌ عِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ؛ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الَّتِي عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَعْذَارَ الْأَئِمَّةَ الْمُجْتَهِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الَّذِينَ أَلْزَمُوا مَنْ أَوْقَعَ جُمْلَةَ الثَّلَاثِ بِهَا مِثْلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ جَمْعِ الثَّلَاثِ وَلَا يَنْتَهُونَ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِعُقُوبَةِ :
رَأَى
عُقُوبَتَهُمْ بِإِلْزَامِهَا ؛ لِئَلَّا يَفْعَلُوهَا . إمَّا مِنْ نَوْعِ
التَّعْزِيرِ الْعَارِضِ الَّذِي يُفْعَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا كَانَ يَضْرِبُ
فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ وَيَحْلِقُ الرَّأْسَ وَيَنْفِي وَكَمَا مَنَعَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا
عَنْ الِاجْتِمَاعِ بِنِسَائِهِمْ . وَإِمَّا ظَنًّا أَنْ جَعْلَهَا وَاحِدَةً
كَانَ مَشْرُوطًا بِشَرْطِ وَقَدْ زَالَ كَمَا ذَهَبَ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي
مُتْعَةِ الْحَجِّ : إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مُتْعَةَ الْفَسْخِ .
وَالْإِلْزَامُ بِالْفُرْقَةِ لِمَنْ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ : مِمَّا يَسُوغُ
فِيهِ الِاجْتِهَادُ ؛ لَكِنْ تَارَةً يَكُونُ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ . كَمَا فِي
الْعِنِّينِ وَالْمَوْلَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالْعَاجِزِ عَنْ
النَّفَقَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ . وَتَارَةً يُقَالُ : إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ
كَمَا فِي تَفْرِيقِ الْحُكْمَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ
إذَا لَمْ يَجْعَلَا وَكِيلَيْنِ وَكَمَا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالْمَوْلَى
عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إذَا لَمْ يَفِ فِي
مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَكَمَا قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ : إنَّهُمَا إذَا تَطَاوَعَا فِي الْإِتْيَانِ فِي الدُّبُرِ فُرِّقَ
بَيْنِهِمَا وَالْأَبُ الصَّالِحُ إذَا أَمَرَ ابْنَهُ بِالطَّلَاقِ لِمَا رَآهُ
مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَلَدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَهُ كَمَا قَالَ أَحْمَد
وَغَيْرُهُ كَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنْ يُطِيعَ أَبَاهُ لَمَّا أَمَرَهُ أَبُوهُ بِطَلَاقِ
امْرَأَتِهِ } . فَالْإِلْزَامُ إمَّا مِنْ الشَّارِعِ . وَإِمَّا مِنْ الْإِمَامِ
. بِالْفُرْقَةِ إذَا لَمْ يَقُمْ الزَّوْجُ بِالْوَاجِبِ : هُوَ مِنْ مَوَارِدِ
الِاجْتِهَادِ . فَلَمَّا كَانَ النَّاسُ إذَا لَمْ يُلْزِمُوا بِالثَّلَاثِ
يَفْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ رَأَى عُمَرُ إلْزَامَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ
يَلْزَمُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ ؛ وَلَكِنْ
كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ نَازَعُوا مَنْ قَالَ ذَلِكَ ؛ إمَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا التَّعْزِيزَ بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَإِمَّا لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُعَاقِبْ بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَهَذَا فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ . وَأَمَّا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِجَهْلِ أَوْ تَأْوِيلٍ فَلَا وَجْهَ لِإِلْزَامِهِ بِالثَّلَاثِ . وَهَذَا شَرْعٌ شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا شَرَعَ نَظَائِرَهُ لَمْ يَخُصَّهُ : وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : إنَّ مَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ - التَّمَتُّعُ كَمَا أَمَرَ بِهِ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - هُوَ شَرْعٌ مُطْلَقٌ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ { لِمَا سُئِلَ أَعُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا ؟ أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : لَا ؛ بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَإِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّمَا شُرِعَ لِلشُّيُوخِ لِمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِمْ مِثْلَ بَيَانِ جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ : قَوْلٌ فَاسِدٌ ؛ لِوُجُوهِ مَبْسُوطَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ تَنَازُعِهِمْ بِرَدِّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ . فَمَا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوجِبُ الْإِلْزَامَ بِالثَّلَاثِ بِمَنْ أَوْقَعَهَا جُمْلَةً بِكَلِمَةِ أَوْ كَلِمَاتٍ بِدُونِ رَجْعَةٍ أَوْ عُقْدَةٍ ؛ بَلْ إنَّمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْإِلْزَامُ بِذَلِكَ مَنْ طَلَّقَ الطَّلَاقَ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ وَعَلَى هَذَا
يَدُلُّ الْقِيَاسُ وَالِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ أُصُولِ الشَّرْعِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ عَقْدٍ يُبَاحُ تَارَةً وَيَحْرُمُ تَارَةً - كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ - إذَا فُعِلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا نَافِذًا كَمَا يَلْزَمُ الْحَلَالُ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا حَرَمَهُ اللَّهُ مِنْ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَمِنْ النِّكَاحِ . فِي الْعِدَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَقَعُ بَاطِلًا غَيْرَ لَازِمٍ وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْعِ الْمُحْرِمَاتِ : كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ؛ وَالْمَيْتَةِ . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا كَانَ مُحَرَّمُ الْجِنْسِ كَالظِّهَارِ وَالْقَذْفِ وَالْكَذِبِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا يَسْتَحِقُّ مِنْ فِعْلِهِ الْعُقُوبَةَ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَارَةً حَلَالًا وَتَارَةً حَرَامًا حَتَّى يَكُونَ تَارَةً صَحِيحًا وَتَارَةً فَاسِدًا . وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مُبَاحًا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ - كَافْتِدَاءِ الْأَسِيرِ وَاشْتِرَاءِ الْمَجْحُودِ عِتْقَهُ وَرِشْوَةِ الظَّالِمِ لِدَفْعِ ظُلْمَةٍ أَوْ لِبَذْلِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ وَكَاشْتِرَاءِ الْإِنْسَانِ الْمُصَرَّاةَ وَمَا دُلِّسَ عَيْبُهُ وَإِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِيَفْعَلَ الْوَاجِبَ أَوْ لِيَتْرُكَ الْمُحَرَّمَ وَكَبَيْعِ الْجَالِبِ لِمَنْ تَلَقَّى مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ - الْمَظْلُومَ يُبَاحُ لَهُ فِعْلُهُ وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَلَهُ أَنْ يُمْضِيَهُ ؛ بِخِلَافِ الظَّالِمِ فَإِنَّ مَا فَعَلَهُ لَيْسَ بِلَازِمِ . وَالطَّلَاقُ هُوَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَارَةً وَحَرَّمَهُ أُخْرَى . فَإِذَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا نَافِذًا كَمَا يَلْزَمُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا - وَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ - ( مَرَّتَانِ وَبَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ : إمَّا { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } بِأَنْ يُرَاجِعَهَا فَتَبْقَى زَوْجَتَهُ وَتَبْقَى مَعَهُ عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ . وَإِمَّا { تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } بِأَنْ يُرْسِلَهَا إذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } وَهَذَا هُوَ الْخُلْعُ سَمَّاهُ " افْتِدَاءً " لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَفْتَدِي نَفْسهَا مِنْ أَسْرِ زَوْجِهَا كَمَا يَفْتَدِي الْأَسِيرُ وَالْعَبْدُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَا يَبْذُلُهُ . قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } يَعْنِي الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } . { فَإِنْ طَلَّقَهَا } يَعْنِي هَذَا الزَّوْجَ الثَّانِيَ { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } يَعْنِي عَلَيْهَا وَعَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ { أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } . وَفِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ . فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ . مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ بَعْدُ أَمْسَكَهَا . وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا . فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ " قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ : الطَّلَاقُ عَلَى " أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ " : وَجْهَانِ حَلَالٌ . وَوَجْهَانِ حَرَامٌ . فَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَلَالٌ فَأَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا فِي غَيْرِ جِمَاعٍ . أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا . وَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَرَامٌ فَأَنْ يُطَلِّقَهَا حَائِضًا . أَوْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْجِمَاعِ لَا يَدْرِي اشْتَمَلَ الرَّحِمُ عَلَى وَلَدٍ أَمْ لَا رَوَاهُ الدارقطني وَغَيْرُهُ . وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إلَّا إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا ؛ وَهَذَا هُوَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ . أَيْ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ الطُّهْرَ أَوْ الْعِدَّةَ . فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ يَكُونُ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ وَيَكُونُ قَدْ طَوَّلَ عَلَيْهَا التَّرَبُّصَ وَطَلَّقَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِهِ إلَى
طَلَاقِهَا
. وَالطَّلَاقُ فِي الْأَصْلِ مِمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَهُوَ أَبْغَضُ
الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا أَبَاحَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ
النَّاسُ كَمَا تُبَاحُ الْمُحَرَّمَاتُ لِلْحَاجَةِ ؛ فَلِهَذَا حَرَّمَهَا
بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ عُقُوبَةً لَهُ
لِيَنْتَهِيَ الْإِنْسَانُ عَنْ إكْثَارِ الطَّلَاقِ . فَإِذَا طَلَّقَهَا لَمْ
تَزَلْ فِي الْعِدَّةِ مُتَرَبِّصَةً ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَهُوَ مَالِكٌ لَهَا
يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ وَلَيْسَ لَهُ فَائِدَةٌ فِي تَعْجِيلِ الطَّلَاقِ قَبْلَ
وَقْتِهِ ؛ كَمَا لَا فَائِدَةَ فِي مُسَابَقَةِ الْإِمَامِ ؛ وَلِهَذَا لَا
يُعْتَدُّ لَهُ بِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ ؛ بَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إذَا
تَعَمَّدَ ذَلِكَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ لَا يَزَالُ مَعَهُ فِي
الصَّلَاةِ حَتَّى يُسَلِّمَ .
وَلِهَذَا جَوَّزَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْخُلْعَ فِي الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّهُ
عَلَى قَوْلِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِطَلَاقِ ؛ بَلْ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ
وَهُوَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةِ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا
وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَد ؛ وَلِأَنَّهَا تَمْلِكُ
نَفْسَهَا بِالِاخْتِلَاعِ فَلَهُمَا فَائِدَةٌ فِي تَعْجِيلِ الْإِبَانَةِ
لِرَفْعِ الشَّرِّ الَّذِي بَيْنَهُمَا ؛ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ
فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَعْجِيلِهِ قَبْلَ وَقْتِهِ ؛ بَلْ ذَلِكَ شَرٌّ
بِلَا خَيْرٍ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ طَلَاقٌ فِي وَقْتٍ لَا يَرْغَبُ فِيهَا
وَقَدْ لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ ؛ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَقْتَ الرَّغْبَةِ
فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ حَاجَةٍ . { وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عُمَرَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا } مِمَّا تَنَازَعَ
الْعُلَمَاءُ فِيهِ فِي مُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَفَهِمَ مِنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ لَزِمَهُ
فَأَمَرَ أَنْ يَرْتَجِعَهَا ؛ ثُمَّ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ إنْ شَاءَ .
وَتَنَازَعَ
هَؤُلَاءِ : هَلْ الِارْتِجَاعُ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي ؟ وَفِي حِكْمَةِ هَذَا النَّهْيِ ؟ أَقْوَالٌ : ذَكَرْنَاهَا وَذَكَرْنَا مَأْخَذَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَفَهِمَ طَائِفَةٌ أُخْرَى : أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ وَلَكِنَّهُ لَمَّا فَارَقَهَا بِبَدَنِهِ كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ مِنْ الرَّجُلِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ اعْتَزَلَهَا بِبَدَنِهِ وَاعْتَزَلَتْهُ بِبَدَنِهَا ؛ { فَقَالَ لِعُمَرِ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا } وَلَمْ يَقُلْ : فَلْيَرْتَجِعْهَا . " وَالْمُرَاجَعَةُ " مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ : أَيْ تَرْجِعُ إلَيْهِ بِبَدَنِهَا فَيَجْتَمِعَانِ كَمَا كَانَا ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَلْزَمْهُ فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي أَبَاحَ اللَّهُ فِيهِ الطَّلَاقَ طَلَّقَهَا حِينَئِذٍ إنْ شَاءَ . قَالَ هَؤُلَاءِ : وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ لَزِمَ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ بِالرَّجْعَةِ لِيُطَلِّقَهَا طَلْقَةً ثَانِيَةً فَائِدَةٌ ؛ بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمَا ؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ مَعَ الْأَوَّلِ تَكْثِيرُ الطَّلَاقِ ؛ وَتَطْوِيلُ الْعِدَّةِ وَتَعْذِيبُ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ ؛ بَلْ إذَا وَطِئَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا ؛ أَوْ تَطْهُرَ الطُّهْرَ الثَّانِيَ . وَقَدْ يَكُونُ زَاهِدًا فِيهَا يَكْرَهُ أَنْ يَطَأَهُمَا فَتَعْلَقَ مِنْهُ ؛ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبْ الْوَطْءَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَكِنْ أَخَّرَ الطَّلَاقَ إلَى الطُّهْرِ الثَّانِي . وَلَوْلَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَوَّلًا لَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لَهُ الطَّلَاقُ فِي
الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ فِي إمْسَاكِهَا فَائِدَةٌ مَقْصُودَةٌ بِالنِّكَاحِ إذَا كَانَ لَا يُمْسِكُهَا إلَّا لِأَجْلِ الطَّلَاقِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا زِيَادَةُ ضَرَرٍ عَلَيْهِمَا وَالشَّارِعُ لَا يَأْمُرُ بِذَلِكَ فَإِذَا كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ طَلَاقِهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لِيَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْوَطْءِ الَّذِي لَا يُعْقِبُهُ طَلَاقٌ ؛ فَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا أَوْ وَطِئَهَا أَوْ حَاضَتْ بَعْدَ ذَلِكَ : فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ وَطْئِهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الثَّانِي : دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى طَلَاقِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِيهَا إذْ لَوْ كَانَتْ لَهُ فِيهَا رَغْبَةٌ لَجَامَعَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ . قَالُوا لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ ابْنَ عُمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ وَهُوَ يَرْتَجِعُهَا لَأُمِرَ بِالْإِشْهَادِ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ آيَةٍ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالرَّجْعَةِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ ؛ بَلْ قَالَ : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } فَخَيَّرَ الزَّوْجَ إذَا قَارَبَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهَا بِمَعْرُوفٍ - وَهُوَ الرَّجْعَةُ - وَبَيْنَ أَنْ يُسَيِّبَهَا فَيُخَلِّيَ سَبِيلَهَا إذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ ؛ وَلَا يَحْبِسُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَمَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ قَدْ لَزِمَ لَكَانَ حَصَلَ الْفَسَادُ الَّذِي كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَذَلِكَ الْفَسَادُ لَا يَرْتَفِعُ بِرَجْعَةِ يُبَاحُ لَهُ الطَّلَاقُ
بَعْدَهَا وَالْأَمْرُ بِرَجْعَةِ لَا فَائِدَةَ فِيهَا مِمَّا تَنَزَّهَ عَنْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ رَاغِبًا فِي الْمَرْأَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا وَإِنْ كَانَ رَاغِبًا عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فَلَيْسَ فِي أَمْرِهِ بِرَجْعَتِهَا مَعَ لُزُومِ الطَّلَاقِ لَهُ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ ؛ بَلْ زِيَادَةُ مَفْسَدَةٍ وَيَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَمْرِ بِمَا يَسْتَلْزِمُ زِيَادَةَ الْفَسَادِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ لِمَنْعِ الْفَسَادِ فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِمَا يَسْتَلْزِمُ زِيَادَةَ الْفَسَادِ وَقَوْلُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ أَشْبَهُ بِالْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُتَنَاقِضٌ ؛ إذْ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ : أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودَ الْمُحَرَّمَةَ إذَا فُعِلَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً صَحِيحَةً وَهَذَا وَإِنْ كَانَ نَازَعَ فِيهِ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَالصَّوَابُ مَعَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ كَانُوا يَسْتَدِلُّونَ عَلَى فَسَادِ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَةِ بِتَحْرِيمِ الشَّارِعِ لَهَا وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ . وَأَيْضًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِهَا لَمْ يَكُنْ عَنْ الشَّارِعِ مَا يُبَيِّنُ الصَّحِيحَ مِنْ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا : النَّهْيُ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ . قَالُوا : نَعْلَمُ صِحَّةَ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ وَفَسَادَهَا بِجَعْلِ الشَّارِعِ هَذَا شَرْطًا أَوْ مَانِعًا وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ
هَذَا صَحِيحٌ . وَلَيْسَ بِصَحِيحِ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ مِثْلَ قَوْلِهِ : الطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ وَالْكُفْرُ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَهَذَا الْعَقْدُ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ لَا تَصِحُّ . وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ بَلْ إنَّمَا فِي كَلَامِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ وَفِي نَفْيِ الْقَبُولِ وَالصَّلَاحِ كَقَوْلِهِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ } وَقَوْلِهِ : { هَذَا لَا يَصْلُحُ } وَفِي كَلَامِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ كَذَا } وَفِي كَلَامِهِ : الْوَعْدُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ فَلَمْ نَسْتَفِدْ الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ وَهُوَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ بَيَّنَ ذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ قَطْعًا . وَأَيْضًا فَالشَّارِعُ يُحَرِّمُ الشَّيْءَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ . وَمَقْصُودُهُ بِالتَّحْرِيمِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ الْفَسَادِ وَجَعْلُهُ مَعْدُومًا . فَلَوْ كَانَ مَعَ التَّحْرِيمِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَلَالِ فَيَجْعَلُهُ لَازِمًا نَافِذًا كَالْحَلَالِ لَكَانَ ذَلِكَ إلْزَامًا مِنْهُ بِالْفَسَادِ الَّذِي قَصَدَ عَدَمَهُ . فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَسَادُ قَدْ أَرَادَ عَدَمَهُ مَعَ أَنَّهُ أَلْزَمَ النَّاسَ بِهِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ : إنَّهُ إنَّمَا حَرَّمَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لِئَلَّا يَنْدَمَ الْمُطَلِّقُ : دَلَّ عَلَى لُزُومِ النَّدَمِ لَهُ إذَا فَعَلَهُ . وَهَذَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ .
فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ يَكُونُ صَحِيحًا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ . فَيُقَالُ : إنْ كَانَ مَا قَالَهُ هَذَا صَحِيحًا هُنَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ ؛ إذْ لَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ تَحْصُلْ الْقَطِيعَةُ وَهَذَا جَهْلٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ بَيَّنَ حِكْمَتَهُ فِي مَنْعِهِ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَوْ أَبَاحَهُ لَلَزِمَ الْفَسَادُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا خَالَتِهَا ؛ فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ } وَنَحْوَ ذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْفِعْلَ لَوْ أُبِيحَ لَحَصَلَ بِهِ الْفَسَادُ فَحُرِّمَ مَنْعًا مِنْ هَذَا الْفَسَادِ . ثُمَّ الْفَسَادُ يَنْشَأُ مِنْ إبَاحَتِهِ وَمِنْ فِعْلِهِ . إذَا اعْتَقَدَ الْفَاعِلُ أَنَّهُ مُبَاحٌ أَوْ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَأَمَّا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بَاطِلٌ وَالْتِزَامِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا تَحْصُلُ الْمَفْسَدَةُ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْمَفْسَدَةُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَالْمَفَاسِدُ فِيهَا فِتْنَةٌ وَعَذَابٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَقَوْلُ الْقَائِلِ : لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ غَيْرَ لَازِمٍ لَمْ يَحْصُلْ الْفَسَادُ . فَيُقَالُ : هَذَا هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَى عَنْهُ وَحَكَمَ بِبُطْلَانِهِ لِيَزُولَ الْفَسَادُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَفَعَلَهُ النَّاسُ وَاعْتَقَدُوا صِحَّتَهُ فَيَلْزَمُ الْفَسَادُ . وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ وَأَنَّهُ شَرْعِيٌّ وَأَنَّهُ يُسَمَّى بَيْعًا وَنِكَاحًا وَصَوْمًا . كَمَا يَقُولُونَ فِي نَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الشَّغَارِ وَلَعْنِهِ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا
وَنَهْيِهِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَيُقَالُ : أَمَّا تَصَوُّرُهُ حِسًّا فَلَا رَيْبَ فِيهِ . وَهَذَا كَنَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَعَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ ؛ وَيُدْهَنُ الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ . فَقَالَ : لَا هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمُلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا } فَتَسْمِيَتُهُ لِهَذَا نِكَاحًا وَبَيْعًا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا بَاطِلًا بَلْ دَلَّ عَلَى إمْكَانِهِ حِسًّا . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ شَرْعِيٌّ . إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُسَمَّى بِمَا أَسْمَاهُ بِهِ الشَّارِعُ : فَهَذَا صَحِيحٌ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِيهِ : فَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ وَجَعَلَهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَيُلْزِمُ النَّاسَ حُكْمَهُ ؛ كَمَا فِي الْمُبَاحِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَحْتَجُّ بِهِ هَؤُلَاءِ بِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ ؛ فَلَيْسَ مَعَهُمْ صُورَةٌ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا مَقْصُودُهُمْ ؛ لَا بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ . وَكَذَلِكَ " الْمُحَلِّلُ " الْمَلْعُونُ لَعَنَهُ لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّحْلِيلَ لِلْأَوَّلِ بِعَقْدِهِ ؛ لَا لِأَنَّهُ أَحَلَّهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ لَكَانَ قَدْ أَحَلَّهَا بِالْإِجْمَاعِ ؛ وَهَذَا غَيْرُ مَلْعُونٍ بِالْإِجْمَاعِ
فَعُلِمَ أَنَّ اللَّعْنَةَ لِمَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ . وَعُلِمَ أَنَّ الْمَلْعُونَ لَمْ يُحَلِّلْهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَدَلَّتْ اللَّعْنَةُ عَلَى تَحْرِيمِ فِعْلِهِ وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ فِعْلُهُ مُبَاحٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ مَعَهُمْ بَلْ الصَّوَابُ مَعَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَمَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ جَوَابٌ صَحِيحٌ وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضَ كَمَا تَنَاقَضَ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذِهِ . وَالْأُصُولُ الَّتِي لَا تَنَاقُضَ فِيهَا مَا أَثْبَتَ بِنَصِّ أَوْ إجْمَاعٍ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَالتَّنَاقُضُ مَوْجُودٌ فِيهِ وَلَيْسَ هُوَ حُجَّةً عَلَى أَحَدٍ . وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَتَنَاقَضُ هُوَ مُوَافِقٌ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ؛ بَلْ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ قَدْ دَلَّ عَلَى الْحُكْمِ ؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَهَذَا مَعْنَى الْعِصْمَةِ ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْمَعْصُومِ لَا يَتَنَاقَضُ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَعْصُومٌ فِيمَا شَرَعَهُ لِلْأُمَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ أَيْضًا مَعْصُومَةٌ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ ؛ بِخِلَافِ مَا سِوَى ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ الْإِيمَانَ بِهِ وَطَاعَتَهُ وَتَحْلِيلَ مَا حَلَّلَهُ وَتَحْرِيمَ مَا حَرَّمَهُ وَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ . فَالْمُؤْمِنُونَ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ الْهُدَى وَالرَّشَادِ : هُمْ مُتَّبِعُونَ . وَالْكُفَّارُ أَهْلُ النَّارِ وَأَهْلُ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ هُمْ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُ .
وَمَنْ آمَنَ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَاجْتَهَدَ فِي مُتَابَعَتِهِ : فَهُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ فَلَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ لَمْ يَفْهَمْهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ : قَدْ فَعَلْت } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ ؛ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظِّ وَافِرٍ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فَقَدْ خَصَّ أَحَدَ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ بِالتَّفْهِيمِ مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ أُوتِيَ عِلْمًا وَحُكْمًا . فَهَكَذَا إذَا خَصَّ اللَّهُ أَحَدَ الْعَالِمَيْنِ بِعِلْمِ أَمْرٍ وَفَهْمِهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ ذَمُّ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ . بَلْ كُلُّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّينِ مَا فَهِمَهُ غَيْرُهُ . وَقَدْ { قَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ - وَبَعْضُهُمْ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَأَدْرَكَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَلَمْ يُدْرِكْهُ فَلَهُ أَجْرٌ } . وَهَذَا يُوَافِقُ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ العاص وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } . وَهَذِهِ الْأُصُولُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ مِمَّا يَقُولُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . إنَّهُ لَازِمٌ . وَالسَّلَفُ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْجُمْهُورِ يُسَلِّمُونَ : أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي
الْفَسَادَ . وَلَا يَذْكُرُونَ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ هَذِهِ الصُّورَةِ فَرْقًا صَحِيحًا . وَهَذَا مِمَّا تَسَلَّطَ بِهِ عَلَيْهِمْ مَنْ نَازَعُوهُمْ فِي أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ . وَاحْتَجَّ بِمَا سَلَّمُوهُ لَهُ مِنْ الصُّوَرِ ؛ وَهَذِهِ حُجَّةٌ جَدَلِيَّةٌ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ ؛ وَإِنَّمَا تُفِيدُ أَنَّ مُنَازَعِيهِ أَخْطَئُوا : إمَّا فِي صُوَرِ النَّقْضِ وَإِمَّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ . وَخَطَؤُهُمْ فِي إحْدَاهُمَا لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ؛ بَلْ هَذَا الْأَصْلُ أَصْلٌ عَظِيمٌ عَلَيْهِ مَدَارُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ مَعَهُمْ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ ؛ بَلْ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ لَا تُوَافِقُ بَلْ تُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ . وَمَنْ تَدَبَّرَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُشَرِّعْ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ جُمْلَةً قَطُّ . وَأَمَّا الطَّلَاقُ الْبَائِنُ فَإِنَّهُ شَرَعَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ . وَطَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ لِمَنْ لَمْ يَجْعَلْ الثَّلَاثَ الْمَجْمُوعَةَ إلَّا وَاحِدَةً : أَنْتُمْ خَالَفْتُمْ عُمَرَ ؛ وَقَدْ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ ذَلِكَ إجْمَاعًا فَيَقُولُ لَهُمْ : أَنْتُمْ خَالَفْتُمْ عُمَرَ فِي الْأَمْرِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ؛ بَلْ وَفِي الْأَمْرِ الَّذِي مَعَهُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُجَوِّزُ التَّحْلِيلَ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : لَا أُوتِيَ بِمُحَلِّلِ وَلَا مُحَلَّلَ لَهُ إلَّا رَجَمْتهمَا . وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ : مِثْلَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَعَادَ الْمَرْأَةَ إلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ . وَعُمَرُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ مَعَهُمْ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ { كَلَعْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَقَدْ خَالَفَهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ اجْتِهَادًا . وَاَللَّهُ يَرْضَى عَنْ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : إنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ . وَأَكْثَرُهُمْ يُخَالِفُونَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ : أَنَّهُ خَيَّرَ الْمَفْقُودَ إذَا رَجَعَ فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ تَزَوَّجَتْ خَيَّرَهُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ الْمَهْرِ . وَهَذَا أَيْضًا مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ : كَعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ . وَذَكَرَهُ أَحْمَد عَنْ ثَمَانِيَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَالَ : إلَى أَيِّ شَيْءٍ يَذْهَبُ الَّذِي يُخَالِفُ هَؤُلَاءِ وَمَعَ هَذَا فَأَكْثَرُهُمْ يُخَالِفُونَ عُمَرَ وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْقُضُ حُكْمَ مَنْ حَكَمَ بِهِ . وَعُمَرُ وَالصَّحَابَةُ جَعَلُوا الْأَرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً ؛ كَأَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْمَغْرِبِ : فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَمْ يُقَسِّمْ عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ أَرْضًا فَتَحَهَا عَنْوَةً وَلَمْ يَسْتَطِبْ عُمَرُ أَنْفُسَ جَمِيعِ الْغَانِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِينَ ؛ وَإِنْ ظَنَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ اسْتَطَابُوا أَنْفُسَهُمْ فِي السَّوَادِ ؛ بَلْ طَلَبَ مِنْهُمْ بِلَالٌ وَالزُّبَيْرُ وَغَيْرُهُمَا قِسْمَةَ أَرْضِ الْعَنْوَةِ فَلَمْ يُجِبْهُمْ وَمَعَ هَذَا فَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ يُخَالِفُ عُمَرَ وَالصَّحَابَةَ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ مِنْ زَمَنِهِمْ ؛ بَلْ يَنْقُضُ حُكْمَ مَنْ حَكَمَ بِحُكْمِهِمْ أَيْضًا . فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ لَمْ يُخَمِّسُوا قَطُّ مَالَ فَيْءٍ وَلَا خَمَّسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا جَعَلُوا خُمُسَ الْغَنِيمَةِ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ مُتَسَاوِيَةٍ وَمَعَ هَذَا : فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُخَالِفُ ذَلِكَ . وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ .
وَالْأَصْلُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَظُنَّ بِالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ شَرِيعَتِهِ . بَلْ هَذَا مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ ؛ وَلَا يَجُوزُ دَعْوَى نَسْخِ مَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ بِإِجْمَاعِ أَحَدٍ بَعْدَهُ كَمَا يَظُنُّ طَائِفَةٌ مِنْ الغالطين ؛ بَلْ كُلُّ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَا مُخَالِفًا لَهُ بَلْ كُلُّ نَصٍّ مَنْسُوخٍ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَمَعَ الْأُمَّةِ النَّصُّ النَّاسِخُ لَهُ ؛ تَحْفَظُ الْأُمَّةُ النَّصَّ النَّاسِخَ كَمَا تَحْفَظُ النَّصَّ الْمَنْسُوخَ وَحِفْظُ النَّاسِخِ أَهَمُّ عِنْدَهَا وَأَوْجَبُ عَلَيْهَا مِنْ حِفْظِ الْمَنْسُوخِ وَيَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ نَصِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ قَدْ يَجْتَهِدُ الْوَاحِدُ وَيُنَازِعُهُ غَيْرُهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ . هَذَا مِنْهَا كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا . وَلِهَذَا لَمَّا رَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ فَظَنَّ أَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَيْهِ نَازَعَهُ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَهَا السُّكْنَى فَقَطْ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى . وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ وَهِيَ الَّتِي رَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ لَك نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى } فَلَمَّا احْتَجُّوا عَلَيْهَا بِحُجَّةِ عُمَرَ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { لَا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ }
قَالَتْ هِيَ وَغَيْرُهَا مِنْ الصَّحَابَةِ - كَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ
وَغَيْرِهِمَا - هَذَا فِي الرَّجْعِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَدْرِي
لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ
الثَّلَاثِ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ ابْنِ حَنْبَلٍ فِي ظَاهِرِ
مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ مَعَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ .
وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِي " الطَّلَاقِ " لَمَّا قَالَ تَعَالَى : {
لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الطَّلَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ ؛ فَإِنَّهُ
لَوْ شَرَعَ إيقَاعَ الثَّلَاثِ عَلَيْهِ لَكَانَ الْمُطَلِّقُ يَنْدَمُ إذَا
فَعَلَ ذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ إلَى رَجْعَتِهَا : فَيَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ بِذَلِكَ
وَاَللَّهُ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ
؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى أَيْضًا بَعْدَ ذَلِكَ : { فَإِذَا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ }
وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لَا يَكُونُ فِي الثَّلَاثِ
وَلَا فِي الْبَائِنِ .
وَقَالَ تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ
لِلَّهِ } فَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهَا
مَأْمُورٌ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ : قِيلَ : أَمْرُ إيجَابٍ . وَقِيلَ أَمْرُ
اسْتِحْبَابٍ . وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ : أَنَّ الْإِشْهَادَ هُوَ الطَّلَاقُ
وَظَنَّ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ لَا يَقَعُ . وَهَذَا
خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَخِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ
مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِهِ ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ أَذِنَ فِيهِ
أَوَّلًا وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ
بِالْإِشْهَادِ
وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ حِينَ قَالَ : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } . وَالْمُرَادُ
هُنَا بِالْمُفَارَقَةِ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا إذَا قَضَتْ الْعِدَّةَ وَهَذَا
لَيْسَ بِطَلَاقِ وَلَا بِرَجْعَةِ وَلَا نِكَاحٍ . وَالْإِشْهَادُ فِي هَذَا
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَعُلِمَ أَنَّ الْإِشْهَادَ إنَّمَا هُوَ عَلَى
الرَّجْعَةِ . وَمِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ : أَنَّهُ قَدْ يُطَلِّقُهَا
وَيَرْتَجِعُهَا فَيُزَيِّنُ لَهُ الشَّيْطَانُ كِتْمَانَ ذَلِكَ حَتَّى
يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا مُحَرَّمًا وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ فَتَكُونُ
مَعَهُ حَرَامًا فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الرَّجْعَةِ لِيُظْهِرَ
أَنَّهُ قَدْ وَقَعَتْ بِهِ طَلْقَةٌ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وَجَدَ اللُّقَطَةَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهَا ؛ لِئَلَّا
يُزَيِّنَ الشَّيْطَانُ كِتْمَانَ اللُّقَطَةِ ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ
فَإِنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا بَلْ خَلَّى سَبِيلَهَا فَإِنَّهُ
يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّهَا لَيْسَتْ امْرَأَتَهُ ؛ بَلْ هِيَ مُطَلَّقَةٌ ؛
بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَتْ زَوْجَةً عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي النَّاسُ
أَطَلَّقَهَا أَمْ لَمْ يُطَلِّقْهَا .
وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ
وَاِتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ وَلِهَذَا مَضَتْ
السُّنَّةُ بِإِعْلَانِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَالسِّفَاحِ مَكْتُومًا ؛
لَكِنْ : هَلْ الْوَاجِبُ مُجَرَّدُ الْإِشْهَادِ ؟ أَوْ مُجَرَّد الْإِعْلَانِ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إشْهَادٌ ؟ أَوْ يَكْفِي أَيُّهُمَا كَانَ ؟ هَذَا فِيهِ
نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ . وَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ
مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }
وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ . وَسِيَاقُ الْآيَةِ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى مُرَادَةٌ مِنْ هَذَا النَّصِّ الْعَامِّ فَمَنْ
اتَّقَى اللَّهَ فِي الطَّلَاقِ فَطَلَّقَ كَمَا
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى غَيْرِهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَيَفْعَلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَمَنْ كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ مُحَرَّمٌ أَوْ إنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ : فَهَذَا إذَا عَرَفَ التَّحْرِيمَ وَتَابَ صَارَ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ فَاسْتَحَقَّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا . وَمَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ وَفَعَلَ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا مَنْ يُفْتِيه بِأَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ : فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عُقُوبَةً بِقَدْرِ ظُلْمِهِ كَمُعَاقَبَةِ أَهْلِ السَّبْتِ بِمَنْعِ الْحِيتَانِ أَنْ تَأْتِيَهُمْ فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَعُوقِبَ بِالضِّيقِ . وَإِنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَعَرَّفَهُ الْحَقَّ وَأَلْهَمَهُ التَّوْبَةَ وَتَابَ : فَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنَبَ لَهُ وَحِينَئِذٍ فَقَدَ دَخَلَ فِيمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ فَيَسْتَحِقُّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا فَإِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ . فَكُلُّ مَنْ تَابَ فَلَهُ فَرَجٌ فِي شَرْعِهِ ؛ بِخِلَافِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْهُمْ كَانَ يُعَاقَبُ بِعُقُوبَاتِ : كَقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا يَقُولُ لَهُ : لَوْ اتَّقَيْت اللَّهَ لَجَعَلَ لَك مَخْرَجًا . وَكَانَ تَارَةً يُوَافِقُ عُمَرَ فِي الْإِلْزَامِ بِذَلِكَ لِلْمُكْثِرِينَ مِنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِمْ ؛ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ تَارَةً لَا يَلْزَمُ إلَّا وَاحِدَةً . وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَغْضَبُ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ وَيَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَتَى الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُ ؛ وَإِلَّا فَوَاَللَّهِ مَا لَنَا طَاقَةٌ بِكُلِّ مَا تُحَدِّثُونَ .
وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبِي بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ ؛ وَلَا عُثْمَانَ ؛ وَلَا عَلِيٍّ " نِكَاحُ تَحْلِيلٍ " ظَاهِرٌ تَعْرِفُهُ الشُّهُودُ وَالْمَرْأَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ أَنَّهُمْ أَعَادُوا الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يُطَلِّقُونَ فِي الْغَالِبِ طَلَاقَ السُّنَّةِ . وَلَمْ يَكُونُوا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ نَقْلٌ خَاصٌّ فِي الْحَلِفِ ؛ وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُمْ الْكَلَامُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ ؛ لَا فِي الْحَلِفِ بِهِ . وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِهِ كَمَا يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّذْرِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ حَاجَةً فَقَالَ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرَضِي . أَوْ قَضَى دَيْنِي أَوْ خَلَّصَنِي مِنْ هَذِهِ الشِّدَّةِ ؛ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ . أَوْ أَصُومَ شَهْرًا ؛ أَوْ أَعْتِقَ رَقَبَةً : فَهَذَا تَعْلِيقُ نَذْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَإِذَا عُلِّقَ النَّذْرُ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ فَقَالَ : إنْ سَافَرْت مَعَكُمْ إنْ زَوَّجْت فُلَانًا . أَنْ أَضْرِبَ فُلَانًا . إنْ لَمْ أُسَافِرْ مِنْ عِنْدِكُمْ : فَعَلَيَّ الْحَجُّ . أَوْ : فَمَالِي صَدَقَةٌ . أَوْ : فَعَلَيَّ عِتْقٌ . فَهَذَا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ هُوَ حَالِفٌ بِالنَّذْرِ ؛ لَيْسَ بِنَاذِرِ : فَإِذَا لَمْ يَفِ بِمَا الْتَزَمَهُ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَكَذَلِكَ أَفْتَى الصَّحَابَةُ فِيمَنْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ . أَنَّهُ يَمِينٌ يَجْزِيه فِيهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ التَّابِعِينَ فِي هَذَا كُلِّهِ لَمَّا أَحْدَثَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ تَحْلِيفَ النَّاسِ بِأَيْمَانِ الْبَيْعَةِ - وَهُوَ التَّحْلِيفُ بِالطَّلَاقِ ؛ وَالْعَتَاقِ ؛ وَالتَّحْلِيفُ بِاسْمِ اللَّهِ ؛ وَصَدَقَةُ الْمَالِ . وَقِيلَ : كَانَ فِيهَا التَّحْلِيفُ بِالْحَجِّ -
نُكَلِّمُ
حِينَئِذٍ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ وَتَكَلَّمُوا
فِي بَعْضِهَا عَلَى ذَلِكَ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إذَا حَنِثَ بِهَا لَزِمَهُ
مَا الْتَزَمَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَلْزَمُهُ إلَّا الطَّلَاقُ
وَالْعَتَاقُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ هَذَا جِنْسُ إيمَانِ أَهْلِ
الشِّرْكِ ؛ لَا يَلْزَمُ بِهَا شَيْءٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ هِيَ مِنْ
أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ يَلْزَمُ فِيهَا مَا يَلْزَمُ فِي سَائِرِ أَيْمَانِ
الْمُسْلِمِينَ . وَاتَّبَعَ هَؤُلَاءِ مَا نُقِلَ فِي هَذَا الْجِنْسِ عَنْ
الصَّحَابَةِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا بُسِطَ فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ .
و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ لَمْ تَكُنْ امْرَأَةٌ
تُرَدُّ إلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ وَكَانَ إنَّمَا يُفْعَلُ سِرًّا ؛ وَلِهَذَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ
الرِّبَا وَمُوكِلَهُ ؛ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ
وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَلَعَنَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّبَا : الْآخِذَ وَالْمُعْطِيَ
وَالشَّاهِدَيْنِ وَالْكَاتِبَ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ يُكْتَبُ وَيُشْهَدُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَ فِي التَّحْلِيلِ : الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَلَمْ يَلْعَنْ
الشَّاهِدَيْنِ وَالْكَاتِبَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِهِ تُكْتَبُ
الصَّدَاقَاتِ فِي كِتَابٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ لِصَدَاقِ فِي
الْعَادَةِ الْعَامَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا يَبْقَى دِينَارٌ فِي ذِمَّةِ
الزَّوْجِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى كِتَابٍ وَشُهُودٍ وَكَانَ الْمُحَلِّلُ يَكْتُمُ
ذَلِكَ هُوَ وَالزَّوْجُ الْمُحَلَّلُ لَهُ . وَالْمَرْأَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ
وَالشُّهُودُ لَا يَدْرُونَ بِذَلِكَ . { وَلَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } إذْ كَانُوا هُمْ
الَّذِينَ فَعَلُوا الْمُحَرَّمَ ؛ دُونَ هَؤُلَاءِ . وَالتَّحْلِيلُ لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ إذْ كَانَ الرَّجُلُ
إنَّمَا يَقَعُ مِنْهُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ إذَا طَلَّقَ بَعْدَ رَجْعَةٍ أَوْ
عَقْدٍ فَلَا يَنْدَمُ بَعْدَ الثَّلَاثِ إلَّا نَادِرٌ مِنْ النَّاسِ ؛ وَكَانَ
يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ عِصْيَانِهِ وَتَعَدِّيه لِحُدُودِ اللَّهِ فَيَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فَيَلْعَنُ مَنْ يَقْصِدُ تَحْلِيلَ الْمَرْأَةِ لَهُ ؛ وَيَلْعَنُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا : لِأَنَّهُمَا تَعَاوَنَا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ . فَلَمَّا حَدَثَ " الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ " وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ . أَنَّ الْحَانِثَ يَلْزَمُهُ مَا أَلْزَمَهُ نَفْسَهُ وَلَا تَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ يُلْزِمُ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ يَقَعُ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ يَقَعُ . وَكَانَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الصَّحَابَةُ ؛ وَبَعْضُهَا مِمَّا قِيلَ بَعْدَهُمْ : كَثُرَ اعْتِقَادُ النَّاسِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ مَا يَقَعُ مِنْ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ وَالْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِمُفَارَقَةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فَصَارَ الْمُلْزَمُونَ بِالطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا " حِزْبَيْنِ " . " حِزْبًا " اتَّبَعُوا مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ فِي تَحْرِيمِ التَّحْلِيلِ فَحَرَّمُوا هَذَا مَعَ تَحْرِيمِهِمْ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ فَصَارَ فِي قَوْلِهِمْ مِنْ الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ وَالْحَرَجِ الْعَظِيمِ الْمُفْضِي إلَى مَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا أُمُورٌ . مِنْهَا : رِدَّةُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمَّا أُفْتِيَ بِلُزُومِ مَا الْتَزَمَهُ . وَمِنْهَا سَفْكُ الدَّمِ الْمَعْصُومِ . وَمِنْهَا زَوَالُ الْعَقْلِ . وَمِنْهَا الْعَدَاوَةُ بَيْنَ النَّاسِ . وَمِنْهَا تَنْقِيصُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ . إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْآثَامِ . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْعِظَامِ . " وَحِزْبًا " رَأَوْا أَنْ يُزِيلُوا ذَلِكَ الْحَرَجَ الْعَظِيمَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْحِيَلِ الَّتِي بِهَا تَعُودُ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا .
وَكَانَ مِمَّا أُحْدِثَ أَوَّلًا " نِكَاحُ التَّحْلِيلِ " . وَرَأَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ فَاعِلَهُ يُثَابُ ؛ لِمَا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنْ إزَالَةِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ بِإِعَادَةِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا وَكَانَ هَذَا حِيلَةً فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لِرَفْعِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ . ثُمَّ أُحْدِثَ فِي " الْأَيْمَانِ " حِيَلٌ أُخْرَى . فَأُحْدِثَ أَوَّلًا الِاحْتِيَالُ فِي لَفْظِ الْيَمِينِ ثُمَّ أُحْدِثَ الِاحْتِيَالُ بِخُلْعِ الْيَمِينِ ؛ ثُمَّ أُحْدِثَ الِاحْتِيَالُ بِدَوْرِ الطَّلَاقِ ثُمَّ أُحْدِثَ الِاحْتِيَالُ بِطَلَبِ إفْسَادِ النِّكَاحِ . وَقَدْ أَنْكَرَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّتُهُمْ هَذِهِ الْحِيَلَ وَأَمْثَالَهَا وَرَأَوْا أَنَّ فِي ذَلِكَ إبْطَالَ حِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ وَإِبْطَالَ حَقَائِقِ الْأَيْمَانِ الْمُودَعَةِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْمُخَادَعَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ حَتَّى قَالَ أَيُّوبُ السختياني فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ : يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ ثُمَّ تَسَلَّطَ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى الْقَدْحِ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ وَنَصَرَهُ وَعَزَّرَهُ وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَصُدُّونَ بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَمْنَعُونَ مَنْ أَرَادَ الْإِيمَانَ بِهِ وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَمْتَنِعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِهِ عَنْ الْإِيمَانِ كَمَا أَخْبَرَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَبَيَّنُ لَهُ مَحَاسِنُ الْإِسْلَامِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ " التَّحْلِيلِ " فَإِنَّهُ الَّذِي لَا يَجِدُ فِيهِ مَا يَشْفِي الْغَلِيلَ . وقد قَالَ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَوَصَفَ رَسُولَهُ بِأَنَّهُ يَأْمُرُ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ وَيُحِلُّ كُلَّ طَيِّبٍ وَيُحَرِّمَ كُلَّ خَبِيثٍ وَيَضَعُ الْآصَارَ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ . وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمَرْجُوحَةِ فَهِيَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ الَّتِي أَحْسَنُ أَحْوَالِهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ الشَّرْعِ الْمَنْسُوخِ الَّذِي رَفَعَهُ اللَّهُ بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ كَانَ قَائِلُهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأُمَّةِ وَأَجَلِّهَا وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ مُجْتَهِدٌ قَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَهُوَ مُثَابٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَتَقْوَاهُ مَغْفُورٌ لَهُ خَطَؤُهُ فَلَا يَلْزَمُ الرَّسُولَ قَوْلٌ قَالَهُ غَيْرُهُ بِاجْتِهَادِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { كَانَ يَقُولُ لِمَنْ بَعَثَهُ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَجَيْشٍ : وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك } . وَهَذَا يُوَافِقُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ لَمَّا حَكَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَاصَرَهُمْ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ . فَأَنْزَلَهُمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُمْ حِلْفًا وَهُمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهِمْ وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ خِلَافَ مَا يَظُنُّ بِهِ بَعْضُ قَوْمِهِ : كَانَ مُقَدِّمًا لِرِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى رِضَا
قَوْمِهِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا مَاتَ اهْتَزَّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ فَرَحًا بِقُدُومِ رُوحِهِ فَحَكَّمَ فِيهِمْ : أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى حَرِيمُهُمْ وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ } وَفِي رِوَايَةٍ . { لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ } وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فَهَذَانِ نَبِيَّانِ كَرِيمَانِ فِي حُكُومَةٍ وَاحِدَةٍ فَخَصَّ اللَّهُ أَحَدَهُمَا بِفَهْمِهَا مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ آتَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا فَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِلْمُصِيبِ مِنْهُمْ أَجْرَانِ وَلِلْآخَرِ أَجْرٌ . وَكُلٌّ مِنْهُمْ مُطِيعٌ لِلَّهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ وَلَا يُكَلِّفُهُ اللَّهُ مَا عَجَزَ عَنْ عِلْمِهِ . وَمَعَ هَذَا فَلَا يَلْزَمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُ غَيْرِهِ وَلَا يَلْزَمُ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحْدَثَةِ ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ شَنِيعَةً . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ إذَا تَكَلَّمُوا بِاجْتِهَادِهِمْ يُنَزِّهُونَ شَرْعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَطَئِهِمْ وَخَطَأِ غَيْرِهِمْ . كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوَّضَةِ : أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي ؛ فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الصِّدِّيقِ فِي الْكَلَالَةِ وَكَذَلِكَ عَنْ عُمَرَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ ؛ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصِيبُونَ فِيمَا يَقُولُونَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى يُوجَدَ النَّصُّ مُوَافِقًا لِاجْتِهَادِهِمْ كَمَا وَافَقَ النَّصُّ اجْتِهَادَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ
وَإِنَّمَا كَانُوا أَعْلَمَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِمَا يَجِبُ مِنْ تَعْظِيمِ شَرْعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضِيفُوا إلَيْهِ إلَّا مَا عَلِمُوهُ مِنْهُ ؛ وَمَا أَخْطَئُوا فِيهِ - وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ - قَالُوا : إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَ : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } وَقَالَ : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } . وَلِهَذَا تَجِدُ الْمَسَائِلَ الَّتِي تَنَازَعَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ عَلَى أَقْوَالٍ ؛ وَإِنَّمَا الْقَوْلُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ مِنْهَا وَسَائِرُهَا إذَا كَانَ أَهْلُهَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ : فَهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَأْجُورُونَ غَيْرُ مَأْزُورِينَ ؛ كَمَا إذَا خَفِيَتْ جِهَةُ الْقِبْلَةِ فِي السَّفَرِ اجْتَهَدَ كُلُّ قَوْمٍ فَصَلَّوْا إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ ؛ فَإِنَّ الْكَعْبَةَ لَيْسَتْ إلَّا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَسَائِرُ الْمُصَلِّينَ مَأْجُورُونَ عَلَى صَلَاتِهِمْ حَيْثُ اتَّقَوْا مَا اسْتَطَاعُوا . وَمِنْ آيَاتِ مَا بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبِينِ ظَهَرَ النُّورُ وَالْهُدَى عَلَى مَا بُعِثَ بِهِ ؛ وَعُلِمَ أَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ دُونَهُ ؛ فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ ؛ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } وَهَذَا التَّحَدِّي
وَالتَّعْجِيزُ . ثَابِتٌ فِي لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعْنَاهُ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمِنْ أَمْثَالِ ذَلِكَ : مَا تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ مِنْ مَسَائِلِ الطَّلَاقِ فَإِنَّك تَجِدُ الْأَقْوَالَ فِيهِ " ثَلَاثَةً " : قَوْلٌ فِيهِ آصَارٌ وَأَغْلَالٌ . وَقَوْلٌ فِيهِ خِدَاعٌ وَاحْتِيَالٌ . وَقَوْلٌ فِيهِ عِلْمٌ وَاعْتِدَالٌ . وَقَوْلٌ يَتَضَمَّنُ نَوْعًا مِنْ الظُّلْمِ وَالِاضْطِرَابِ . وَقَوْلٌ يَتَضَمَّنُ نَوْعًا مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَاحِشَةِ وَالْعَارِ . وَقَوْلٌ يَتَضَمَّنُ سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . وَتَجِدُهُمْ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بِالنَّذْرِ ؛ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . قَوْلٌ يُسْقِطُ أَيْمَانَ الْمُسْلِمِينَ وَيَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ أَيْمَانِ الْمُشْرِكِينَ . وَقَوْلٌ يَجْعَلُ الْأَيْمَانَ اللَّازِمَةَ لَيْسَ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَلَا تَحِلَّةٌ كَمَا كَانَ شَرْعُ غَيْرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ . وَقَوْلٌ يُقِيمُ حُرْمَةَ أَيْمَانِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ ؛ وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَيْمَانِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْأَوْثَانِ وَيَجْعَلُ فِيهَا مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالتَّحْلِيلِ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ وَالتَّنْزِيلُ وَاخْتَصَّ بِهِ أَهْلَ الْقُرْآنِ دُونَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ . وَهَذَا هُوَ الشَّرْعُ الَّذِي جَاءَ بِهِ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ ؛ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ ؛ وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
مُخْتَصَرٌ جَامِعٌ فِي مَسَائِلِ " الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ " وَمَا
بَيْنَهُمَا مِنْ اتِّفَاقٍ وَافْتِرَاقٍ ؛ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ قَدْ تَكُونُ
مِنْ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ دُونَ الطَّلَاقِ . وَقَدْ تَكُونُ مِنْ مَسَائِلِ
الطَّلَاقِ دُونَ الْأَيْمَانِ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ مَسَائِلِ النَّوْعَيْنِ .
فَإِنَّ الْكَلَامَ الْمُتَعَلِّقَ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ .
وَالْأَيْمَانُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ . أَمَّا الْكَلَامُ الْمُتَعَلِّقُ
بِالطَّلَاقِ فَهُوَ : إمَّا صِيغَةُ تَنْجِيزٍ . وَإِمَّا صِيغَةُ تَعْلِيقٍ .
وَإِمَّا صِيغَةُ قَسَمٍ . أَمَّا " صِيغَةُ التَّنْجِيزِ " فَهُوَ
إيقَاعُ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا مُرْسَلًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِصِفَةِ وَلَا
يَمِينٍ ؛ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ . أَوْ مُطَلَّقَةٌ . أَوْ : فُلَانَةٌ
طَالِقٌ . أَوْ : أَنْتِ الطَّلَاقُ . أَوْ : طَلَّقْتُك وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا
يَكُونُ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ أَوْ الْمَصْدَرِ أَوْ اسْمِ الْفَاعِلِ أَوْ اسْمِ
الْمَفْعُولِ : فَهَذَا يُقَالُ لَهُ : طَلَاقٌ مُنْجَزٌ . وَيُقَالُ . طَلَاقٌ
مُرْسَلٌ . وَيُقَالُ : طَلَاقٌ مُطْلَقٌ . أَيْ غَيْرُ مُعَلَّقٍ بِصِفَةِ .
فَهَذَا إيقَاعٌ لِلطَّلَاقِ وَلَيْسَ هَذَا
بِيَمِينِ
يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْحِنْثِ وَعَدَمِهِ ؛ وَلَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْفُقَهَاءِ فِي عُرْفِهِمْ الْمَعْرُوفِ
بَيْنَهُمْ لَا يُسَمُّونَ هَذَا يَمِينًا وَلَا حَلِفًا ؛ وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ
مَنْ يَقُولُ : حَلَفْت بِالطَّلَاقِ . وَمُرَادُهُ أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ .
وَأَمَّا " صِيغَةُ الْقَسَمِ " فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : الطَّلَاقُ
يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا . فَيَحْلِفُ بِهِ عَلَى
حَضٍّ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ مَنْعٍ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ
عَلَى تَصْدِيقِ خَبَرٍ أَوْ تَكْذِيبِهِ : فَهَذَا يَدْخُلُ فِي مَسَائِلِ
الطَّلَاقِ وَالْأَيْمَانِ فَإِنَّ هَذَا يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ ؛
فَإِنَّهَا صِيغَةُ قَسَمٍ وَهُوَ يَمِينٌ أَيْضًا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ لَمْ
يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّهَا تُسَمَّى يَمِينًا ؛ وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي
حُكْمِهَا . فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ غَلَّبَ عَلَيْهَا جَانِبَ الطَّلَاقِ
فَأَوْقَعَ بِهِ الطَّلَاقَ إذَا حَنِثَ . وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَّبَ عَلَيْهِ
جَانِبَ الْيَمِينِ فَلَمْ يُوقِعْ بِهِ الطَّلَاقَ بَلْ قَالَ : عَلَيْهِ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ . أَوْ قَالَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِحَالِ . وَكَذَلِكَ
تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا حَلَفَ بِالنَّذْرِ فَقَالَ : إذَا فَعَلْت كَذَا
فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ ؛ لَكِنَّ هَذَا
النَّوْعَ اُشْتُهِرَ الْكَلَامُ فِيهِ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَغَيْرِهِمْ . وَقَالُوا : إنَّهُ أَيْمَانٌ تَجْزِي فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؛
لِكَثْرَةِ وُقُوعِ هَذَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ ؛ بِخِلَافِ الْحَلِفِ
بِالطَّلَاقِ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيهِ إنَّمَا عُرِفَ عَنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ وَتَنَازَعُوا فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ .
وَالثَّالِثُ " صِيغَةُ تَعْلِيقِ " كَقَوْلِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَيُسَمَّى هَذَا طَلَاقًا بِصِفَةِ . فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُ صَاحِبِهِ الْحَلِفَ وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الصِّفَةِ . " فَالْأَوَّلُ " حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَلَوْ قَالَ : إنْ حَلَفْت يَمِينًا فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَحِلْفٌ بِالطَّلَاقِ حَنِثَ بِلَا نِزَاعٍ نَعْلَمُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لِقَصْدِ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ أَوْ هَدْيٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ : الْعِتْقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا وَعَلَيَّ الْحَجُّ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ الْمُؤَخَّرَ فِي صِيغَةِ الشَّرْطِ مُقَدَّمٌ فِي صِيغَةِ الْقَسَمِ وَالْمَنْفِيُّ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ مُثْبَتٌ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ . " وَالثَّانِي " وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الصِّفَةِ . فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ كَمَا يَقَعُ الْمُنْجَزُ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَكَذَلِكَ إذَا وَقَّتَ الطَّلَاقَ بِوَقْتِ ؛ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ . وَقَدّ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُقُوعِ هَذَا الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ وَلَمْ يَعْلَمْ فِيهِ خِلَافًا قَدِيمًا ؛ لَكِنْ ابْنُ حَزْمٍ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ مَعَ أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ ذَكَرَ فِي " كِتَابِ الْإِجْمَاعِ " إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ
وَذَكَرَ
أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ : هَلْ
يَقَعُ الطَّلَاقُ ؟ أَوْ لَا يَقَعُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؟ أَوْ يَكُونُ
يَمِينًا مُكَفِّرَةً ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : كَمَا أَنَّ نَظَائِرَ ذَلِكَ
مِنْ الْأَيْمَانِ فِيهَا هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ . وَهَذَا الضَّرْبُ
وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِصِفَةِ يَقْصِدُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهَا
وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْحَضِّ وَالْمَنْعِ كَقَوْلِهِ : إنْ طَلَعَتْ
الشَّمْسُ فَأَنْتِ طَالِقٌ . هَلْ هُوَ يَمِينٌ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ "
أَحَدُهُمَا " هُوَ يَمِينٌ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ
فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . " الثَّانِي " أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينِ
كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلِ الْآخَرِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَهَذَا
الْقَوْلُ أَصَحُّ شَرْعًا . وَلُغَةً . وَأَمَّا الْعُرْفُ فَيَخْتَلِفُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا أَنْوَاعُ الْأَيْمَانِ الثَّلَاثَةِ " فَالْأَوَّلُ " . أَنْ
يَعْقِدَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ . و " الثَّانِي " أَنْ يَعْقِدَهَا
لِلَّهِ . " وَالثَّالِثُ " أَنْ يَعْقِدَهَا بِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ
لِغَيْرِ اللَّهِ . فَأَمَّا " الْأَوَّلُ " فَهُوَ الْحَلِفُ
بِاَللَّهِ . فَهَذِهِ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ مُكَفِّرَةٌ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا " الثَّالِثُ " وَهُوَ أَنْ
يَعْقِدَهَا بِمَخْلُوقِ أَوْ لِمَخْلُوقِ مِثْلَ : أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّوَاغِيتِ
؛ أَوْ بِأَبِيهِ . أَوْ الْكَعْبَةِ : أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ :
فَهَذِهِ يَمِينٌ غَيْرُ
مُحْتَرَمَةٍ
لَا تَنْعَقِدُ وَلَا كَفَّارَةَ بِالْحِنْثِ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛
لَكِنَّ نَفْسَ الْحَلِفِ بِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ
فَقَالَ فِي حَلِفِهِ : واللات وَالْعُزَّى . فَلْيَقُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
} وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحَلِفُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ إلَّا أَنَّ فِي الْحَلِفِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَوْلَيْنِ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ
فِيهَا . وَأَمَّا عَقْدُهَا لِغَيْرِ اللَّهِ فَمِثْلَ أَنْ يُنْذِرَ
لِلْأَوْثَانِ وَالْكَنَائِسِ أَوْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ فَيَقُولُ : إنْ فَعَلْت
كَذَا فَعَلَيَّ لِلْكَنِيسَةِ كَذَا أَوْ لِقَبْرِ فُلَانٍ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ
. فَهَذَا إنْ كَانَ نَذْرًا فَهُوَ شِرْكٌ وَإِنْ كَانَ يَمِينًا : فَهُوَ شِرْكٌ
إذَا كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُ :
إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ هَدْيٌ وَأَمَّا إذَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْبُغْضِ
لِذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ .
أَوْ نَصْرَانِيٌّ فَهَذَا لَيْسَ مُشْرِكًا وَفِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ لَهُ
قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَمَا كَانَ مِنْ نَذْرِ شِرْكٍ أَوْ
يَمِينِ شِرْكٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّهِ مِنْ عَقْدِهَا ؛ لَيْسَ
فِيهَا وَفَاءٌ وَلَا كَفَّارَةٌ إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا كَانَ لِلَّهِ أَوْ
بِاَللَّهِ .
وَأَمَّا الْمَعْقُودُ لِلَّهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ . " أَحَدُهُمَا "
أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ ؛ لَا مُجَرَّدُ أَنْ يَحُضَّ
أَوْ يَمْنَعَ . وَهَذَا هُوَ النَّذْرُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } وَثَبَتَ عَنْهُ أَنْ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . فَإِذَا كَانَ قَصْدُ الْإِنْسَانِ أَنْ يُنْذِرَ لِلَّهِ طَاعَةً فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَإِنْ نَذَرَ مَا لَيْسَ بِطَاعَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ . وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ ؛ لَكِنْ إذَا لَمْ يُوفِ بِالنَّذْرِ لِلَّهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . قِيلَ : مُطْلَقًا . وَقِيلَ : إذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ . " وَالثَّانِي " أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ الْحَضَّ أَوْ الْمَنْعَ أَوْ التَّصْدِيقَ أَوْ التَّكْذِيبَ فَهَذَا هُوَ الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالظِّهَارُ وَالْحَرَامُ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ وَصَوْمُ سَنَةٍ وَمَالِي صَدَقَةٌ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنِسَائِي طَوَالِقُ . فَهَذَا الصِّنْفُ يَدْخُلُ فِي مَسَائِلِ " الْأَيْمَانِ " وَيَدْخُلُ فِي مَسَائِلِ " الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ " . وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . " أَحَدُهَا " أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا حَلَفَ بِهِ إذَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْجَزَاءَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَلْزَمُهُ : كَنَذْرِ التَّبَرُّرِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " : هَذِهِ يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ فَلَا شَيْءَ فِيهَا إذَا حَنِثَ ؛ لَا كَفَّارَةَ وَلَا وُقُوعَ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَسْكُتْ } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ { : لَا تَحْلِفُوا إلَّا بِاَللَّهِ } "
وَالْقَوْلُ
الثَّالِثُ " أَنَّ هَذِهِ أَيْمَانٌ مُكَفِّرَةٌ إذَا حَنِثَ فِيهَا
كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَيْمَانِ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا
عَقَدَهُ لِلَّهِ مِنْ الْوُجُوبِ - وَهُوَ الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ - وَمَا
عَقَدَهُ لِلَّهِ مِنْ تَحْرِيمٍ - وَهُوَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ -
فَقَالُوا فِي الْأَوَّلِ : عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إذَا حَنِثَ . وَقَالُوا
فِي الثَّانِي : يَلْزَمُهُ مَا عَلَّقَهُ وَهُوَ الَّذِي حَلَفَ بِهِ إذَا حَنِثَ
؛ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ فِي الْأَوَّلِ فِعْلٌ وَاجِبٌ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا
بِفِعْلِهِ فَيُمْكِنُهُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْمُلْتَزِمُ فِي
الثَّانِي وُقُوعُ حُرْمَةٍ . وَهَذَا يَحْصُلُ بِالشَّرْطِ فَلَا يَرْتَفِعُ
بِالْكَفَّارَةِ . و " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ
الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أَقْوَالِ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا قَدْ
بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ : { وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ
} وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا
فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } وَهَذَا
يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ لَفْظًا وَمَعْنًى . أَمَّا اللَّفْظُ
فَلِقَوْلِهِ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }
وَقَوْلِهِ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } وَهَذَا خِطَابٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَيْمَانِهِمْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا
وَالْحِلْفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ شِرْكٌ لَيْسَ مِنْ أَيْمَانِهِمْ ؛ لِقَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ
فَقَدْ أَشْرَكَ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ أَبُو دَاوُد
وَغَيْرُهُ فَلَا تَدْخُلُ هَذِهِ فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا مَا عَقَدَهُ بِاَللَّهِ أَوْ لِلَّهِ فَهُوَ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَيْمَانُ الْبِيعَةِ تَلْزَمُنِي وَنَوَى دُخُولَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ : دَخَلَ فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحَلِفُ بِالْكَعْبَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِذَا كَانَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ تَنَاوَلَهَا الْخِطَابُ . وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الْكَفَّارَةَ فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِئَلَّا تَكُونَ الْيَمِينُ مُوجِبَةً عَلَيْهِمْ أَوْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ لَا مَخْرَجَ لَهُمْ كَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تُشْرَعَ الْكَفَّارَةُ ؛ لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِ مَخْرَجٌ إلَّا الْوَفَاءُ بِالْيَمِينِ فَلَوْ كَانَ مِنْ الْأَيْمَانِ مَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ كَانَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ مَوْجُودَةً . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } نَهَاهُمْ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلُوا الْحَلِفَ بِاَللَّهِ مَانِعًا لَهُمْ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ ؛ لِئَلَّا يَمْتَنِعُوا عَنْ طَاعَتِهِ بِالْيَمِينِ الَّتِي حَلَفُوهَا فَلَوْ كَانَ فِي الْأَيْمَانِ مَا يَنْعَقِدُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ لَكَانَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ إذَا حَلَفُوا بِهِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } {وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، " وَالْإِيلَاءُ " هُوَ الْحَلِفُ وَالْقَسَمُ وَالْمُرَادُ بِالْإِيلَاءِ هُنَا أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يَطَأَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ إذَا حَلَفَ بِمَا عَقَدَهُ بِاَللَّهِ كَانَ مُولِيًا وَإِنْ حَلَفَ بِمَا عَقَدَهُ لِلَّهِ
كَالْحَلِفِ
بِالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ كَانَ مُولِيًا عِنْدَ
جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي
قَوْلِهِ الْجَدِيدِ وَأَحْمَد . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعًا كَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِ وَذُكِرَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ يَمِينٍ مَنَعَتْ جِمَاعًا فَهِيَ إيلَاءٌ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ جَعَلَ الْمُولِيَ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ :
إمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ . وَالْفِيئَةُ هِيَ الْوَطْءُ :
خَيْرٌ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفِ وَالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانِ . فَإِنْ
فَاءَ فَوَطِئَهَا حَصَلَ مَقْصُودُهَا وَقَدْ أَمْسَكَ بِمَعْرُوفِ وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى : { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَمَغْفِرَتُهُ
وَرَحْمَتُهُ لِلْمُولِي تُوجِبُ رَفْعَ الْإِثْمِ عَنْهُ وَبَقَاءَ امْرَأَتِهِ .
وَلَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمَانِكُمْ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بِمَا فَرَضَهُ مِنْ تَحِلَّةِ
الْأَيْمَانِ حَيْثُ رَحِمَ عِبَادَهُ بِمَا فَرَضَهُ لَهُمْ مِنْ الْكَفَّارَةِ
وَغَفَرَ لَهُمْ بِذَلِكَ نَقْضَهُمْ لِلْيَمِينِ الَّتِي عَقَدُوهَا ؛ فَإِنَّ
مُوجِبَ الْعَقْدِ الْوَفَاءُ لَوْلَا مَا فَرَضَهُ مِنْ التَّحِلَّةِ الَّتِي
جَعَلَهَا تَحِلُّ عُقْدَةَ الْيَمِينِ . وَإِنْ كَانَ الْمُولِي لَا يَفِيءُ ؛
بَلْ قَدْ عَزَمَ عَلَى الطَّلَاقِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . فَحَكَمَ
الْمُولِي فِي كِتَابِ اللَّهِ : أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ
يَعْزِمَ الطَّلَاقَ . فَإِنْ فَاءَ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَا يَقَعُ
بِهِ طَلَاقٌ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَأَمَّا " الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ " فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يَقَعُ
بِهِ الطَّلَاقُ فَلَا يَكْفُرُ ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ : إنْ فَاءَ الْمُولِي
بِالطَّلَاقِ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ عَزَمَ الطَّلَاقَ فَأَوْقَعَهُ
وَقَعَ بِهِ
الطَّلَاقُ . فَالطَّلَاقُ عَلَى قَوْلِهِ لَازِمٌ سَوَاءٌ أَمَسَكَ بِمَعْرُوفِ ؛ أَوْ سَرَّحَ بِإِحْسَانِ . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُولِيَ مُخَيَّرٌ : إمَّا أَنْ يَفِيءَ ؛ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ . فَإِذَا فَاءَ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ ؛ بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ إذَا قِيلَ بِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ ؛ فَإِنَّ الْمُولِيَ بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ إذَا فَاءَ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَفِيهِ قَوْلٌ شَاذٌّ : أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِحَالِ . وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَصَحُّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } . فَإِنْ قِيلَ الْمُولِي بِالطَّلَاقِ إذَا فَاءَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَأْخِيرِ الْوَطْءِ لِلزَّوْجَةِ وَإِنْ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَرَحِمَهُ بِذَلِكَ ؟ " قِيلَ " : هَذَا لَا يَصِحُّ . فَإِنَّ أَحَدَ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَنْ لَا يَطَأَ امْرَأَتَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا بِحَالِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَوْلَجَ حَنِثَ وَكَانَ النَّزْعُ فِي أَجْنَبِيَّةٍ وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . " وَالثَّانِي " يَجُوزُ لَهُ وَطْأَةُ وَاحِدَةٍ يَنْزِعُ عَقِبَهَا وَتَحْرُمُ بِهَا عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيلَاءَ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْمَرْأَةِ فِي الْوَطْءِ وَالْمَرْأَةُ لَا تَخْتَارُ وَطْأَةً يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَقِبَهَا إلَّا إذَا كَانَتْ كَارِهَةً لَهُ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهَا بِهَذِهِ الْفِيئَةِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا فَائِدَةَ فِي
التَّأْجِيلِ ؛ بَلْ تَعْجِيلُ الطَّلَاقِ أَحَبُّ إلَيْهَا لِتَقْضِيَ الْعِدَّةَ لِتُبَاحَ لِغَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ الطَّلَاقِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ : كَانَ التَّأْجِيلُ ضَرَرًا مَحْضًا لَهَا وَهَذَا خِلَافُ مَقْصُودِ الْإِيلَاءِ الَّذِي شُرِعَ لِنَفْعِ الْمَرْأَةِ ؛ لَا لِضَرِّهَا . وَمَا ذَكَرْته مِنْ النُّصُوصِ قَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ الصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْجِنْسِ فَأَفْتَوْا مَنْ حَلَفَ فَقَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي هَدْيٌ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنَحْوَ ذَاكَ : بِأَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ فَجَعَلُوا هَذَا يَمِينًا مُكَفِّرَةً ؛ وَكَذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ جَعَلُوا هَذَا مُتَنَاوِلًا لِلْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَيْمَانِ وَجَعَلُوا كُلَّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْحَالِفُ فَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ عَظُمَتْ . وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ فِيهِ شِبْهٌ مِنْ النَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَشِبْهٌ مِنْ الْأَيْمَانِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ هَذِهِ أَيْمَانٌ مَحْضَةٌ ؛ لَيْسَتْ نَذْرًا وَلَا طَلَاقًا . وَلَا عَتَاقًا وَإِنَّمَا يُسَمِّيهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ " نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " تَسْمِيَةً مُقَيَّدَةً وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي اسْمِ النَّذْرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الصَّحَابَةَ بَيَّنُوا أَنَّ هَذِهِ أَيْمَانٌ مَحْضَةٌ كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا فِي الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ ؛ لَكِنْ هِيَ أَيْمَانٌ عَلَّقَ الْحِنْثَ فِيهَا عَلَى شَيْئَيْنِ " أَحَدُهُمَا " فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ : و " الثَّانِي " عَدَمُ إيقَاعِ الْمَحْلُوفِ بِهِ .
فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ هَذَا الْعَامَ . بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا لَأَحُجَّن هَذَا الْعَامَ وَهُوَ لَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ إلَّا إذَا فَعَلَ وَلَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ هَذَا الْعَامَ . إنَّمَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إذَا فَعَلَهُ وَلَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِي . أَوْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي ؛ فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا فَعَلَهُ وَلَمْ يُطَلِّقْ وَلَمْ يُعْتِقْ وَلَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَوَاَللَّهِ لَأُطَلِّقَن امْرَأَتِي وَلَأُعْتِقَن عَبْدِي . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا لَيَقَعَن بِي الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَلَأُوقِعَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَهُوَ إذَا فَعَلَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَإِذَا لَمْ يُوقِعْهُ لَمْ يَقَعْ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ مُعَلَّقٌ بِشَرْطَيْنِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ قَدْ يَكُونُ وُجُوبًا وَقَدْ يَكُونُ وُقُوعًا . فَإِذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ . فَالْمُعَلَّقُ وُجُوبُ الصَّوْمِ . وَإِذَا قَالَ : فَعَبْدِي حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَالْمُعَلَّقُ وُقُوعُ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُعَلَّقَ إنْ كَانَ قَصْدُهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَقَعَ كَمَا إذَا كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا أَبْرَأَتْهُ مِنْ الصَّدَاقِ فَقَالَ : إنْ أبرأتيني مِنْ صَدَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَهُنَا إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ وَقَعَ الطَّلَاقُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ الْحَلِفَ وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَهَذَا حَالِفٌ كَمَا لَوْ قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ الْتَزَمَ الطَّلَاقَ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَلْزَمُهُ : فَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ أَوْجُهٍ . " أَحَدُهَا " أَنَّ الْحَالِفَ بِالْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ . وَقَوْلُ الذِّمِّيِّ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ : هُوَ الْتِزَامٌ لِلْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وُقُوعَهُ عِنْدَ الشَّرْطِ ؛ بَلْ قَصَدَ الْحَلِفَ بِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحِلْفِ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ . " الثَّانِي " أَنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي : لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِالِاتِّفَاقِ إذَا فَعَلَهُ . " الثَّالِثُ " أَنَّ الْمُلْتَزِمَ لِأَمْرِ عِنْدَ الشَّرْطِ إنَّمَا يُلْزِمُهُ بِشَرْطَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَكُونَ الْمُلْتَزِمُ قِرْبَةً . " وَالثَّانِي " أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ بِهِ ؛ لَا الْحَلِفُ بِهِ . فَلَوْ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةِ كَالتَّطْلِيقِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَمْ يَلْزَمْهُ . وَلَوْ الْتَزَمَ قُرْبَةً : كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ : وَالْحَجِّ : عَلَى وَجْهِ الْحَلِفِ بِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ ؛ بَلْ تَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ وَآخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ .
وَهُنَا
الْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ هُوَ الْتَزَمَ وُقُوعُهُ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ ؛
وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ كَمَا يَكْرَهُ وُقُوعَ
الْكُفْرِ إذَا حَلَفَ بِهِ ؛ وَكَمَا يَكْرَهُ وُجُوبَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ إذَا
حَلَفَ بِهَا . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ هَذَا حَالِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ
فَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ ؟ " فَيُقَالُ " : النَّصُّ وَرَدَ فِيمَنْ
حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ ؛ وَلِهَذَا جَعَلَهُ شِرْكًا ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ
الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ ؛ فَمَنْ عَقَدَ الْيَمِينَ لِلَّهِ فَهُوَ أَبْلَغُ
مِمَّنْ عَقَدَهَا بِاَللَّهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّذْرُ أَبْلَغَ مِنْ
الْيَمِينِ ؛ فَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِيمَا عَقَدَ لِلَّهِ أَوْلَى مِنْ
وُجُوبِهَا فِيمَا عَقَدَ بِاَللَّهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْحَلِفِ " وَإِيضَاحِ الْحُكْمِ فِي
ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
الصِّيَغُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
وَالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " .
" النَّوْعُ الْأَوَّلُ " صِيغَةُ التَّنْجِيزِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : امْرَأَتِي طَالِقٌ . أَوْ : أَنْتِ طَالِقٌ . أَوْ : فُلَانَةٌ طَالِقٌ . أَوْ هِيَ مُطَلَّقَةٌ . وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَلَا تَنْفَعُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا فِيهِ كَفَّارَةٌ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : عَبْدِي حُرٌّ . أَوْ عَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ . أَوْ : عِتْقُ رَقَبَةٍ . أَوْ : الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ . أَوْ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي : فَهَذِهِ كُلُّهَا إيقَاعَاتٌ لِهَذِهِ الْعُقُودِ بِصِيَغِ التَّنْجِيزِ وَالْإِطْلَاقِ . " وَالنَّوْعُ الثَّانِي " أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ فَيَقُولُ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا . أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا . أَوْ يَحْلِفُ عَلَى غَيْرِهِ - كَعَبْدِهِ وَصَدِيقِهِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ يَبَرُّ قَسَمَهُ - لَيَفْعَلَنَّ كَذَا . أَوْ لَا يَفْعَلُ كَذَا . أَوْ يَقُولُ : الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا . أَوْ لَا أَفْعَلُهُ . أَوْ يَقُولُ : عَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا . أَوْ لَا أَفْعَلُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذِهِ صِيَغُ قَسَمٍ وَهُوَ حَالِفٌ بِهَذِهِ الْأُمُورِ ؛ لَا مَوْقِعَ لَهَا . وَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . " أَحَدُهَا " أَنَّهُ إذَا حَنِثَ لَزِمَهُ مَا حَلَفَ بِهِ . " وَالثَّانِي " لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ . و " الثَّالِثُ " يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَلِفِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَقَالَ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَأَبِي
مُوسَى أَنَّهُ قَالَ : { وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } وَجَاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ حَلَفَ بِيَمِينِ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَحَنِثَ أَجْزَأَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَمَنْ حَلَفَ بِإِيمَانِ الشِّرْكِ : مِثْلَ أَنْ يَحْلِفَ بِتُرْبَةِ أَبِيهِ ؛ أَوْ الْكَعْبَةِ أَوْ نِعْمَةِ السُّلْطَانِ أَوْ حَيَاةِ الشَّيْخِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ : فَهَذِهِ الْيَمِينُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا إذَا حَنِثَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ . " وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ " مِنْ الصِّيَغِ : أَنْ يُعَلِّقَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ أَوْ النَّذْرَ بِشَرْطِ ؛ فَيَقُولُ : إنْ كَانَ كَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ . أَوْ الْحَجُّ . أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ . وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذَا يُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهِ فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ لَيْسَ غَرَضُهُ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ - كَمَنْ لَيْسَ غَرَضُهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إذَا وَقَعَ الشَّرْطُ - فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَالِفِ ؛ وَهُوَ مِنْ " بَابِ الْيَمِينِ " . وَأَمَّا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ : كَمَنَ غَرَضُهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ : مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ : إنَّ أبرأتيني مِنْ طَلَاقِك أَنْتِ طَالِقٌ . فَتُبَرِّئُهُ . أَوْ يَكُونُ عَرْضُهُ أَنَّهَا إذَا فَعَلَتْ فَاحِشَةً أَنْ يُطَلِّقَهَا فَيَقُولُ : إذَا فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ ؛ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ غَرَضُهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا لِيَمْنَعَهَا ؛ وَلَوْ فَعَلَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي طَلَاقِهَا فَإِنَّهَا تَارَةً يَكُونُ طَلَاقُهَا أُكْرِهَ إلَيْهِ مِنْ الشَّرْطِ فَيَكُونُ حَالِفًا . وَتَارَةً يَكُونُ الشَّرْطُ الْمَكْرُوهُ أَكْرَهَ إلَيْهِ مِنْ طَلَاقِهَا ؛ فَيَكُونُ مُوقِعًا لِلطَلَاقِ إذَا وُجِدَ
ذَلِكَ الشَّرْطُ فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ فَشُفِيَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ . فَالْأَصْلُ فِي هَذَا : أَنْ يُنْظَرَ إلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَقْصُودِهِ فَإِنْ كَانَ غَرَضُهُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْأُمُورُ وَقَعَتْ مُنْجَزَةً أَوْ مُعَلَّقَةً إذَا قُصِدَ وُقُوعُهَا عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ . وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَحْلِفَ بِهَا ؛ وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَهَا إذَا حَنِثَ وَإِنْ وَقْعَ الشَّرْطُ فَهَذَا حَالِفٌ بِهَا ؛ لَا مُوقِعٌ لَهَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ مِنْ " بَابِ الْيَمِينِ " ؛ لَا مِنْ " بَابِ التَّطْلِيقِ وَالنَّذْرِ " فَالْحَالِفُ هُوَ الَّذِي يَلْتَزِمُ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ ؛ أَوْ نَصْرَانِيٌّ وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَعَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ . فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَمِينٌ ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَقْصِدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ مِنْ نَاذِرٍ وَمُطَلِّقٍ وَمُعَلِّقٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْصِدُ وَيَخْتَارُ لُزُومَ مَا الْتَزَمَهُ وَكِلَاهُمَا مُلْتَزِمٌ ؛ لَكِنَّ هَذَا الْحَالِفَ يَكْرَهُ وُقُوعَ اللَّازِمِ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ الْمَلْزُومُ كَمَا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ فَإِنَّ هَذَا يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَلَوْ وَقَعَ الشَّرْطُ : فَهَذَا حَالِفٌ . وَالْمَوْقِعُ يَقْصِدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ اللَّازِمِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ الْمَلْزُومِ ؛ سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ مُرَادًا لَهُ أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ غَيْرَ مُرَادٍ لَهُ . فَهَذَا مُوقِعٌ لَيْسَ بِحَالِفِ . وَكِلَاهُمَا مُلْتَزِمٌ مُعَلِّقٌ ؛ لَكِنَّ هَذَا الْحَالِفَ يَكْرَهُ وُقُوعَ اللَّازِمِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَابِرِ التَّابِعِينَ وَعَلَيْهِ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .
كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهَا : فِي تَعْلِيقِ النَّذْرِ . قَالُوا : إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ النَّذْرَ فَقَالَ : لَئِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ الْحَجُّ . فَهُوَ نَاذِرٌ إذَا شَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ لَزِمَهُ الْحَجُّ فَهَذَا حَالِفٌ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَا حَجَّ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ . وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ . قَالُوا : يَكْفُرُ عَنْ يَمِينِهِ . وَلَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ . هَذَا مَعَ أَنَّ الْعِتْقَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ ؛ فَالطَّلَاقُ لَا يَلْزَمُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ وَالْعِتْقُ مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ . بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يَقَعُ بِمَنْ غَرَضُهُ أَنْ يُوقِعَهُ ؛ لَا لِمَنْ يَكْرَهُ وُقُوعَهُ كَالْحَالِفِ بِهِ وَالْمُكْرَهِ عَلَيْهِ وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : كُلُّ يَمِينٍ وَإِنْ عَظُمَتْ فَكَفَّارَتُهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ : مِنْ الْحِلْفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ . وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ مَذْهَبُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ لَكِنْ فِيهِمْ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ : كدَاوُد وَأَصْحَابِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ : كَطَاوُوسِ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَالْأَيْمَانُ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الْخَلْقُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ . " أَحَدُهَا " يَمِينٌ مُحْتَرَمَةٌ مُنْعَقِدَةٌ : كَالْحَلِفِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى : فَهَذِهِ فِيهَا الْكَفَّارَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .
" الثَّانِي " الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ : كَالْحَالِفِ بِالْكَعْبَةِ . فَهَذِهِ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . " وَالثَّالِثُ " أَنْ يَعْقِدَ الْيَمِينَ لِلَّهِ فَيَقُولُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ . أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ . أَوْ فَنِسَائِي طَوَالِقُ . أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذِهِ فِيهَا الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ : إمَّا لُزُومُ الْمَحْلُوفِ بِهِ وَإِمَّا الْكَفَّارَةُ وَإِمَّا لَا هَذَا وَلَا هَذَا . وَلَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا يَمِينَانِ : يَمِينٌ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ . أَوْ يَمِينٌ لَيْسَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ : فَهَذِهِ لَا شَيْءَ فِيهَا إذَا حَنِثَ . فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ إنْ كَانَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا كَفَّارَةٌ ؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَلْزَمْ بِهَا شَيْءٌ . فَأَمَّا إثْبَاتُ يَمِينٍ يَلْزَمُ الْحَالِفُ بِهَا مَا الْتَزَمَهُ وَلَا تُجْزِئُهُ فِيهَا كَفَّارَةٌ : فَهَذَا لَيْسَ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَذَكَرَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا حُكْمَ طَلَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حُكْمَ الطَّلَاقِ وَبَيَّنَ فِي تِلْكَ حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ . وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْرِفُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَيَعْرِفُوا مَا يَدْخُلُ فِي الطَّلَاقِ وَمَا يَدْخُلُ فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَيَحْكُمُوا فِي هَذَا بِمَا حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ فَيَجْعَلُوا حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكْمَ طَلَاقِهِمْ حُكْمَ أَيْمَانِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ اشْتَبَهَ بَعْضُ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَاَلَّذِينَ مَيَّزُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هُمْ أَجَلُّ قَدْرًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ هَذَا وَهَذَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَالِاعْتِبَارُ - الَّذِي هُوَ أَصَحُّ الْقِيَاسِ وَأَجْلَاهُ - إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إذَا
فَرَّقُوا
بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُ فَإِنَّ الَّذِينَ لَمْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا أَوْقَعَهُمْ هَذَا الِاشْتِبَاهُ : إمَّا فِي
آصَارٍ وَأَغْلَالٍ وَإِمَّا فِي مَكْرٍ وَاحْتِيَالٍ : كَالِاحْتِيَالِ فِي
أَلْفَاظِ الْأَيْمَانِ وَالِاحْتِيَالِ بِطَلَبِ إفْسَادِ النِّكَاحِ
وَالِاحْتِيَالِ بِدَوْرِ الطَّلَاقِ وَالِاحْتِيَالِ بِخُلْعِ الْيَمِينِ
وَالِاحْتِيَالِ بِالتَّحْلِيلِ . وَاَللَّهُ أَغْنَى الْمُسْلِمِينَ
بِنَبِيِّهِمْ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ } أَيْ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ ؛ وَمِنْ
الدُّخُولِ فِي مُنْكَرَاتِ أَهْلِ الْحِيَلِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ
وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ .
" فَالْأَوَّلُ " أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ
وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مَكْرُوهًا لَهُ ؛ لَكِنَّهُ إذَا وَجَدَ الشَّرْطَ
فَإِنَّهُ يُرِيدُ الطَّلَاقَ ؛ لِكَوْنِ الشَّرْطِ أُكْرِهَ إلَيْهِ مِنْ
الطَّلَاقِ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَكْرَهُ طَلَاقَهَا وَيَكْرَهُ الشَّرْطَ ؛
لَكِنْ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ طَلَاقَهَا : مِثْلَ أَنْ
يَكُونَ كَارِهًا لِلتَّزَوُّجِ بِامْرَأَةٍ بَغِيٍّ أَوْ فَاجِرَةٍ أَوْ
خَائِنَةٍ أَوْ هُوَ لَا يَخْتَارُ طَلَاقَهَا ؛ لَكِنْ إذَا فَعَلَتْ هَذِهِ
الْأُمُورَ : اخْتَارَ طَلَاقَهَا ؛ فَيَقُولُ إنْ زَنَيْت أَوْ سَرَقْت أَوْ
خُنْت فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَمُرَادُهُ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَهَا :
إمَّا عُقُوبَةً لَهَا ؛ وَإِمَّا كَرَاهَةً لِمُقَامِهِ مَعَهَا
عَلَى هَذَا الْحَالِ : فَهَذَا مُوقِعٌ لِلطَّلَاقِ عِنْدَ الصِّفَةِ ؛ لَا حَالِفٌ : وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ : كَابْنِ مَسْعُودٍ ؛ وَابْنِ عُمَرَ ؛ وَعَنْ التَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ قَالَ فِي مِثْلِ هَذَا : إنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ؛ وَلَكِنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الشِّيعَةِ وَطَائِفَةٌ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ . وَهَذَا لَيْسَ بِحَالِفِ ؛ وَلَا يَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ سَمَّى هَذَا حَالِفًا كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي كُلَّ مُعَلِّقٍ حَالِفًا ؛ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي كُلَّ مُنْجِزٍ لِلطَّلَاقِ حَالِفًا . وَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي اللُّغَةِ ؛ وَلَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَلَا كَلَامِ الصَّحَابَةِ ؛ وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَلِكَ يَمِينًا لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَمِينِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَ الْمُسَمَّى . وَهُوَ ظَنُّهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الصِّفَةِ . وَأَمَّا التَّعْلِيقُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ فَيُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْ مَعْنَاهُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْ مَعْنَاهُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ . وَهَذَا الْقَسَمُ إذَا ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ فَإِنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ كَارِهًا لِلْجَزَاءِ ؛ وَهُوَ أَكْرَهُ إلَيْهِ مِنْ الشَّرْطِ : فَيَكُونُ كَارِهًا لِلشَّرْطِ ؛ وَهُوَ لِلْجَزَاءِ أَكْرَهُ وَيَلْتَزِمُ أَعْظَمَ الْمَكْرُوهَيْنِ عِنْدَهُ لِيَمْتَنِعَ بِهِ مِنْ أَدْنَى الْمَكْرُوهَيْنِ . فَيَقُولُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ . أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ . أَوْ عَلَيَّ الْحَجُّ وَنَحْوَ ذَلِكَ . أَوْ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ : إنْ زَنَيْت أَوْ سَرَقْت أَوْ خُنْت : فَأَنْتِ طَالِقٌ يَقْصِدُ زَجْرَهَا أَوْ تَخْوِيفَهَا بِالْيَمِينِ لَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ إذَا فَعَلَتْ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُرِيدًا لَهَا وَإِنْ
فَعَلَتْ
ذَلِكَ ؛ لِكَوْنِ طَلَاقِهَا أَكْرَهَ إلَيْهِ مِنْ مُقَامِهَا عَلَى تِلْكَ
الْحَالِ فَهُوَ عَلَّقَ بِذَلِكَ لِقَصْدِ الْحَظْرِ وَالْمَنْعِ ؛ لَا لِقَصْدِ
الْإِيقَاعِ : فَهَذَا حَالِفٌ لَيْسَ بِمُوقِعِ . وَهَذَا هُوَ الْحَالِفُ فِي
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ الَّذِي تُجْزِئُهُ الْكَفَّارَةُ . وَالنَّاسُ
يَحْلِفُونَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَقَدْ يَحْلِفُونَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ الَّتِي
فِي مَعْنَاهَا ؛ فَإِنْ عَلِمَ هَذَا وَهَذَا سَوَاءٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَبْنَى أَحْكَامِ أُصُولِ الدِّينِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَتَقَدَّمَ .
فَصْلٌ :
" وَالطَّلَاقُ نَوْعَانِ " نَوْعٌ أَبَاحَهُ اللَّهُ وَنَوْعٌ
حَرَّمَهُ . فَاَلَّذِي أَبَاحَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ
بَعْدَ أَنْ تَطْهُرَ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا وَيُسَمَّى "
طَلَاقَ السُّنَّةِ " فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ طَلَّقَهَا أَيَّ
وَقْتٍ شَاءَ أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا فَإِنْ
طَلَّقَهَا بِالْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا : كَانَ هَذَا
طَلَاقًا مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَفِي وُقُوعِهِ "
قَوْلَانِ " لِلْعُلَمَاءِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ
وَطَلَاقُ السُّنَّةِ الْمُبَاحِ : إمَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَيَدَعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَتَبِينُ أَوْ يُرَاجِعُهَا فِي الْعِدَّةِ . فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ طَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ أَوْ الثَّالِثَةَ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ : فَهَذَا حَرَامٌ وَفَاعِلُهُ مُبْتَدِعٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ أَوْ الْعَقْدِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِمَا ؛ وَلَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ ؟ أَوْ ثَلَاثٌ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . قِيلَ : يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الثَّلَاثَةِ . وَقِيلَ : لَا يَلْزَمُهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ ؛ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ ؛ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ : طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً } . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ ركانة بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ وَاحِدَةٌ } وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادِ ثَابِتٍ أَنَّهُ أَلْزَمَ بِالثَّلَاثِ لِمَنْ طَلَّقَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً ؛ وَحَدِيثُ ركانة الَّذِي يَرْوِي فِيهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ ؛ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " سَأَلَهُ " ؛ وَقَالَ : " مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً " ؟ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ : ضَعَّفَهُ أَحْمَد ، وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَابْنُ حَزْمٍ ؛ بِأَنَّ رُوَاتَهُ لَيْسُوا مَوْصُوفِينَ بِالْعَدْلِ وَالضَّبْطِ . وَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ الصَّحِيحَ فِي حَدِيثِ ركانة أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَجَعَلَهَا وَاحِدَةً . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ يَمِينًا مِنْ الْأَيْمَانِ ، فَالْأَيْمَانُ ثَلَاثَةُ
أَقْسَامٍ :
" أَحَدُهَا " مَا لَيْسَ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ
الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ . كَالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَشَايِخِ
وَالْمُلُوكِ وَالْآبَاءِ ؛ وَتُرْبَتِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَهَذِهِ يَمِينٌ
غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ
هِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّهْيِ نَهْيَ تَحْرِيمٍ
فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِمْ . فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ
بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } وَقَالَ { إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا
بِآبَائِكُمْ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ
اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } . " وَالثَّانِي " الْيَمِينُ بِاَللَّهِ
تَعَالَى كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ . فَهَذِهِ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ
فِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَأَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْحَلِفِ بِاَللَّهِ
مَقْصُودُ الْحَالِفِ بِهَا تَعْظِيمَ الْخَالِقِ - لَا الْحَلِفَ
بِالْمَخْلُوقَاتِ - كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالْحَرَامِ وَالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ أَوْ
الْحَجُّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ . أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا
. أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَا أَمْلِكُهُ حَرَامٌ . أَوْ الطَّلَاقُ
يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا . أَوْ لَا أَفْعَلُهُ . أَوْ إنْ
فَعَلْته فَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَكُلُّ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ . وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . قِيلَ إذَا حَنِثَ لَزِمَهُ مَا عَلَّقَهُ وَحَلَفَ بِهِ . وَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ . وَقِيلَ : يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ يَجْزِيه فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَالْحِلْفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَلْزَمُهُ مَا حَلَفَ بِهِ . وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُوَافِقُ لِلْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ : أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } فَإِذَا قَالَ : الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا . أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا . أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ . أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ : أَجْزَأَهُ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَإِنْ كَفَّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَهُوَ أَحْسَنُ . وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ الْعِتْقِ أَوْ إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتِهِمْ وَإِذَا أَطْعَمَهُمْ أَطْعَمَ كُلَّ وَاحِدٍ جِرَايَةً مِنْ الْجِرَايَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي بَلَدِهِ : مِثْلَ أَنْ يُطْعِمَ ثَمَانِ أَوَاقٍ أَوْ تِسْعَ أَوَاقٍ بِالشَّامِيِّ وَيُطْعِمُ مَعَ ذَلِكَ إدَامَهَا ؛ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الشَّامِ فِي إعْطَاءِ الْجِرَايَاتِ خُبْزًا وَإِدَامًا . وَإِذَا كَفَّرَ يَمِينَهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ .
وَأَمَّا
إذَا قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ : مِثْلَ أَنْ
يُنَجِّزَ الطَّلَاقَ فَيُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ :
فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ
الطَّلَاقَ بِصِفَةِ يَقْصِدُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهَا : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ
مُرِيدًا لِلطَّلَاقِ إذَا فَعَلَتْ أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ . فَيَقُولُ لَهَا :
إنْ فَعَلْته فَأَنْتِ طَالِقٌ . قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا فَعَلَتْهُ :
فَهَذَا مُطَلِّقٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ السَّلَفِ وَجَمَاهِيرِ
الْخَلَفِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ قَصْدُهُ أَنْ يَنْهَاهَا وَيَزْجُرَهَا بِالْيَمِينِ
؛ وَلَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ الَّذِي يَكْرَهُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَلِّقَهَا ؛
بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لَهَا وَإِنْ فَعَلَتْهُ ؛ لَكِنَّهُ قَصَدَ الْيَمِينَ
لِمَنْعِهَا عَنْ الْفِعْلِ ؛ لَا مُرِيدًا أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنْ
فَعَلَتْهُ : فَهَذَا حَلِفٌ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ مَنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ بَلْ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
كَمَا تَقَدَّمَ .
فَصْلٌ :
وَالطَّلَاقُ الَّذِي يَقَعُ بِلَا رَيْبٍ هُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ
فِيهِ وَأَبَاحَهُ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا
أَوْ بَعْدَ مَا يَبِينُ حَمْلُهَا : طَلْقَةً وَاحِدَةً
فَأَمَّا " الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ " مِثْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَيْضِ أَوْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ أَنْ يَطَأَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَبِينَ حَمْلُهَا : فَهَذَا الطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ أَوْ كَلِمَاتٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ : فَهُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَتَنَازَعُوا فِيمَا يَقَعُ بِهَا . فَقِيلَ : يَقَعُ بِهَا الثَّلَاثُ . وَقِيلَ : لَا يَقَعُ بِهَا إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ فِي الْحَيْضِ وَبَعْدَ الْوَطْءِ : هَلْ يَلْزَمُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَمَا لَا يَلْزَمُ النِّكَاحُ الْمُحَرَّمُ وَالْبَيْعُ الْمُحَرَّمُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ : طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً } . وَثَبَتَ أَيْضًا فِي مُسْنَدِ أَحْمَد : { أَنَّ ركانة بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ وَاحِدَةٌ } وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَ هَذِهِ السُّنَّةِ بَلْ مَا يُخَالِفُهَا إمَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ ؛ بَلْ مَرْجُوحٌ . وَإِمَّا أَنَّهُ صَحِيحٌ لَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
:
الطَّلَاقُ مِنْهُ طَلَاقُ سُنَّةٍ أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ
حَرَّمَهُ اللَّهُ . فَطَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً
إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا ؛ أَوْ يُطَلِّقَهَا
حَامِلًا قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا . فَإِنْ طَلَّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ
وَطِئَهَا وَطَلَّقَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا
فَهَذَا " طَلَاقٌ مُحَرَّمٌ " بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يَلْزَمُ ؟ أَوْ لَا يَلْزَمُ ؟
عَلَى " قَوْلَيْنِ " . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ . وَإِنْ
طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ أَوْ بِكَلِمَاتِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ قَبْلَ أَنْ
يُرَاجِعَهَا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ . ثَلَاثًا . أَوْ أَنْتِ
طَالِقٌ أَلْفَ طَلْقَةٍ . أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ .
وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ : فَهَذَا حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ
مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد
وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ . وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ
تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا : فَهُوَ أَيْضًا حَرَامٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ
مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ . وَأَمَّا " السُّنَّةُ
" إذَا طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً لَمْ يُطَلِّقْهَا الثَّانِيَةَ حَتَّى
يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ بَعْدَ
الْعِدَّةِ فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِيَةَ
وَكَذَلِكَ
الثَّالِثَةَ فَإِذَا طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ .
وَأَمَّا لَوْ طَلَّقَهَا " الثَّلَاثَ " طَلَاقًا مُحَرَّمًا مِثْلَ
أَنْ يَقُولَ : لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةً جُمْلَةً وَاحِدَةً : فَهَذَا
فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ " أَحَدُهُمَا " يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ .
و " الثَّانِي " لَا يَلْزَمُهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَهُ أَنْ
يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَيَنْكِحَهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ .
وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ
أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد ابْنِ حَنْبَلٍ ؛ وَهَذَا أَظْهَرُ
الْقَوْلَيْنِ ؛ لِدَلَائِلَ كَثِيرَةٍ : مِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ
{ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ
خِلَافَةِ عُمَرَ وَاحِدَةً } . وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد
وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ { ركانة بْنَ عَبْدٍ
يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَجَاءَ إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ
وَرَدَّهَا عَلَيْهِ } وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ثَبَّتَهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ
وَغَيْرُهُ . وَضَعَّفَ أَحْمَد وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ مَا
رُوِيَ { أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ وَقَدْ اسْتَحْلَفَهُ مَا أَرَدْت إلَّا
وَاحِدَةً ؟ } فَإِنَّ رُوَاةَ هَذَا مَجَاهِيلُ لَا يُعْرَفُ حِفْظُهُمْ وَعَدْلُهُمْ
؛ وَرُوَاةُ الْأَوَّلِ مَعْرُوفُونَ بِذَلِكَ . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادِ مَقْبُولٍ أَنَّ
أَحَدًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ فَأَلْزَمَهُ
الثَّلَاثَ ؛ بَلْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كُلُّهَا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ
أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ وَلَكِنْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ : { أَنَّ فُلَانًا
طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا } . أَيْ ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَةً . وَجَاءَ { أَنَّ
الْمُلَاعِنَ طَلَّقَ ثَلَاثًا } وَتِلْكَ امْرَأَةٌ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى
رَجْعَتِهَا ؛ بَلْ هِيَ
مُحَرَّمَةٌ
عَلَيْهِ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا كَمَا لَوْ طَلَّقَ
الْمُسْلِمُ امْرَأَتَهُ إذَا ارْتَدَّتْ ثَلَاثًا . وَكَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ
امْرَأَةُ الْيَهُودِيِّ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا ؛ أَوْ أَسْلَمَ زَوْجُ
الْمُشْرِكَةِ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا . وَإِنَّمَا الطَّلَاقُ الشَّرْعِيُّ أَنْ
يُطَلِّقَ مَنْ يَمْلِكُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا أَوْ يَتَزَوَّجَهَا بِعِقْدِ جَدِيدٍ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : (*)
إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِالْحَرَامِ فَقَالَ : الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي لَا
أَفْعَلُ كَذَا . أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ فَعَلْت كَذَا . أَوْ مَا يَحِلُّ
لِلْمُسْلِمِينَ يَحْرُمُ عَلَيَّ إنْ فَعَلْت كَذَا . أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَلَهُ
زَوْجَةٌ : فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ ؛ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ مِنْ
الْأَيْمَانِ لَا يَلْزَمُهُ بِهَا طَلَاقٌ وَلَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ الْحَلِفَ
بِالطَّلَاقِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد الْمَشْهُورُ عَنْهُ حَتَّى
لَوْ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ بِهِ
الطَّلَاقُ عِنْدَهُ . وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَقَصَدَ
بِهِ الطَّلَاقَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ
الظِّهَارَ طَلَاقًا وَالْإِيلَاءَ طَلَاقًا فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ
وَجَعَلَ فِي الظِّهَارِ الْكَفَّارَةَ الْكُبْرَى . وَجَعَلَ الْإِيلَاءَ
يَمِينًا يَتَرَبَّصُ فِيهَا الرَّجُلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ : فَإِمَّا أَنْ
يُمْسِكَ بِمَعْرُوفِ أَوْ يُسَرِّحَ بِإِحْسَانِ . كَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ
السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : إنَّهُ إذَا كَانَ مُزَوَّجًا فَحَرَّمَ امْرَأَتَهُ أَوْ
حَرَّمَ الْحَلَالَ مُطْلَقًا كَانَ مُظَاهِرًا وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَد وَإِذَا
حَلَفَ بِالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَحَنِثَ
فِي
يَمِينِهِ أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِي مَذْهَبِهِ ؛ لَكِنْ قِيلَ إنَّ
الْوَاجِبَ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَسَوَاءٌ حَلَفَ أَوْ أَوْقَعَ وَهُوَ
الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : بَلْ إنْ حَلَفَ بِهِ أَجْزَأَهُ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَإِنْ أَوْقَعَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ . وَهَذَا
أَقْوَى وَأَقْيَسُ عَلَى أُصُولِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَالْحَالِفُ بِالْحَرَامِ
يَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا يُجْزِئُ الْحَالِفُ بِالنَّذْرِ إذَا قَالَ :
إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ . أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ كَذَلِكَ إذَا
حَلَفَ بِالْعِتْقِ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ مِنْ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ؛ كَذَلِكَ الْحَلِفُ . بِالطَّلَاقِ يُجْزِئُ فِيهِ
أَيْضًا كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا أَفْتَى بِهِ [ جَمَاعَةٌ ] مِنْ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ وَالثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ لَا يُخَالِفُ ذَلِكَ ؛ بَلْ
مَعْنَاهُ يُوَافِقُهُ . فَكُلُّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ فِي
أَيْمَانِهِمْ فَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ أَنْ
يُعْتِقَ أَوْ أَنْ يُظَاهِرَ : فَهَذَا يَلْزَمُهُ مَا أَوْقَعَهُ سَوَاءٌ كَانَ
مُنْجِزًا أَوْ مُعَلِّقًا وَلَا يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ : هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا قَوْلُهُ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهِيَ حَائِضٌ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ
عَلَى أَصْلَيْنِ " أَحَدِهِمَا " أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ
مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّهُ
لَا يُعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ نِزَاعٌ وَهُوَ طَلَاقٌ بِدْعَةٍ . وَأَمَّا " طَلَاقُ السُّنَّةِ " أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَا يَمَسُّهَا فِيهِ أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا ؛ فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ ؛ أَوْ بَعْدَ مَا وَطِئَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ حَمْلُهَا لَهُ : فَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } . وَفِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ : أَنَّ { ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ فِيهَا النِّسَاءُ } . وَأَمَّا جَمْعُ " الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ " فَفِيهِ قَوْلَانِ " أَحَدُهُمَا " مُحَرَّمٌ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَقَالَ أَحْمَد : تَدَبَّرْت الْقُرْآنَ فَإِذَا كُلُّ طَلَاقٍ فِيهِ فَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ - يَعْنِي طَلَاقَ الْمَدْخُولِ بِهَا - غَيْرَ قَوْلِهِ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ بِأَنْ يُفَرِّقَ الطَّلَاقَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ فَيُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً ؟ فِيهِ " قَوْلَانِ " هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد " إحْدَاهُمَا " لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . " وَالثَّانِيَةُ " لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَصْحَابِهِ . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ ؛ بَلْ هُوَ تَرْكُ الْأَفْضَلِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد : اخْتَارَهَا الخرقي . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ { فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَبُو حَفْصِ بْنُ الْمُغِيرَةِ ثَلَاثًا وَبِأَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا وَبِأَنَّ الْمُلَاعِنَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ } . وَأَجَابَ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ وَامْرَأَةِ رِفَاعَةَ إنَّمَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ هَكَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الثَّالِثَةَ آخِرُ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ؛ لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثًا لَا هَذَا وَلَا هَذَا مُجْتَمَعَاتٍ . وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ : طَلَّقَ ثَلَاثًا . يَتَنَاوَلُ مَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ . بِأَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا . وَهَذَا طَلَاقٌ سُنِّيٌّ وَاقِعٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ ثَلَاثًا . وَأَمَّا جَمْعُ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةِ فَهَذَا كَانَ مُنْكِرًا عِنْدَهُمْ إنَّمَا يَقَعُ قَلِيلًا ؛ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْقَلِيلِ الْمُنْكَرِ دُونَ الْكَثِيرِ الْحَقِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : يُطَلِّقُ مُجْتَمِعَاتٍ لَا هَذَا وَلَا هَذَا ؛ بَلْ هَذَا قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ ؛ بَلْ هُوَ بِخِلَافِ الدَّلِيلِ . وَأَمَّا الْمُلَاعَنُ فَإِنَّ طَلَاقَهُ وَقَعَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ ؛ أَوْ بَعْدَ وُجُوبِ الْإِبَانَةِ الَّتِي تَحْرُمُ بِهَا الْمَرْأَةُ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْرُمُ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فَكَانَ مُؤَكِّدًا لِمُوجَبِ اللِّعَانِ
وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي طَلَاقِ مَنْ يُمْكِنُهُ إمْسَاكُهَا ؛ لَا سِيَّمَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الثَّلَاثِ لَمْ يَقَعْ بِهَا ثَلَاثٌ وَلَا غَيْرُهَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا دَلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ . وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ لَمْ يَقَعْ بِهَا إذْ لَوْ وَقَعَتْ لَكَانَتْ قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يُفَرِّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا أَجْنَبِيَّيْنِ وَلَكِنْ غَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : حَرَّمَهَا عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا . فَيُقَالُ : فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا ؛ فَلَمَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا دَلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ وَأَنَّ الثَّلَاثَ لَمْ تَقَعْ جَمِيعًا ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ إنَّهُ يَقَعُ بِهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِيهِ حِينَئِذٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا . وَقَوْلُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ : طَلَّقَهَا ثَلَاثًا . فَأَنْفَذَهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ احْتَاجَ إلَى إنْفَاذِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتِصَاصِ الْمُلَاعَنِ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ مِنْ شَرْعِهِ أَنَّهَا تَحْرُمُ بِالثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُلَاعِنِ اخْتِصَاصٌ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إنْفَاذٍ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ الْمُلَاعِنَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ أَنْفَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُودَهُ ؛ بَلْ زَادَهُ ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ اللِّعَانِ أَبْلَغُ مِنْ تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ ؛ إذْ تَحْرِيمُ اللِّعَانِ لَا يَزُولُ وَإِنْ نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ وَهُوَ مُؤَبَّدٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لَا يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ . وَاسْتَدَلَّ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ إلَّا الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ وَإِلَّا الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } إلَى قَوْلِهِ : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الرَّجْعِيِّ . وَقَوْلُهُ : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إرْدَافُ الطَّلَاقِ لِلطَّلَاقِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ أَوْ يُرَاجِعَهَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ . أَيْ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ فَمَتَى طَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ بَنَتْ عَلَى الْعِدَّةِ وَلَمْ تَسْتَأْنِفْهَا بِاتِّفَاقِ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ عَنْ خِلَاسٍ وَابْنِ حَزْمٍ فَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ؛ فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ إضْرَارَ امْرَأَتِهِ طَلَّقَهَا حَتَّى إذَا شَارَفَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لِيُطِيلَ حَبْسَهَا فَلَوْ كَانَ إذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى أَنْ يُرَاجِعَهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى قَصَرَهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ دَفْعًا لِهَذَا الضَّرَرِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَ اللَّهِ أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تُسْتَأْنَفُ بِدُونِ رَجْعَةٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ ؟ أَوْ يَقَعُ وَلَا يُسْتَأْنَفُ لَهُ الْعِدَّةَ ؟ وَابْنُ حَزْمٍ إنَّمَا أَوْجَبَ اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ بِأَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ فَلَا يَكُونُ طَلَاقٌ إلَّا يَتَعَقَّبُهُ عِدَّةٌ ؛ إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَلَزِمَهُ عَلَى ذَلِكَ هَذَا الْقَوْلُ الْفَاسِدُ . وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ بِمُقْتَضَى الْقُرْآنِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ فَإِنَّهُ يَقُولُ : إنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ هُوَ مَا يَتَعَقَّبُهُ الْعِدَّةُ وَمَا كَانَ صَاحِبُهُ مُخَيَّرًا فِيهَا بَيْنَ الْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفِ وَالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانِ وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ فَلَا
يَكُونُ جَائِزًا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا لِلْعِدَّةِ وَلِأَنَّهُ قَالَ : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الرَّجْعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَدَعَهَا تَقْضِي الْعِدَّةَ فَيُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانِ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَانِيَةً قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَمْ يُمْسِكْ بِمَعْرُوفِ وَلَمْ يُسَرِّحْ بِإِحْسَانِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا حَالُ كُلِّ مُطَلَّقَةٍ فَلَمْ يُشَرِّعْ إلَّا هَذَا الطَّلَاقَ ثُمَّ قَالَ : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } أَيْ هَذَا الطَّلَاقُ الْمَذْكُورُ ( مَرَّتَانِ . وَإِذَا قِيلَ : سَبِّحْ مَرَّتَيْنِ . أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَنْطِقَ بِالتَّسْبِيحِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ : طَلَّقَ مَرَّتَيْنِ إلَّا إذَا طَلَّقَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا . أَوْ مَرَّتَيْنِ : لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ : طَلَّقَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ ؛ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ طَلَّقَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ ؛ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ " { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } فَهَذِهِ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ إلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ مَرَّتَيْنِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } الْآيَةَ . وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ طَلَاقٍ فَعُلِمَ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ . وَدَلَائِلُ تَحْرِيمِ الثَّلَاثِ
كَثِيرَةٌ
قَوِيَّةٌ : مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَالْآثَارُ وَالِاعْتِبَارُ كَمَا
هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ " الْأَصْلَ فِي
الطَّلَاقِ الْحَظْرُ " وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ قَدْرُ الْحَاجَةِ كَمَا
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَنَّ إبْلِيسَ يَنْصِبُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ وَيَبْعَثُ سَرَايَاهُ
: فَأَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً فَيَأْتِيه
الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ : مَا زِلْت بِهِ حَتَّى فَعَلَ كَذَا ؛ حَتَّى يَأْتِيَهُ
الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ : مَازِلْت بِهِ حَتَّى فَرَّقْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ
امْرَأَتِهِ ؛ فَيُدْنِيه مِنْهُ ؛ وَيَقُولُ : أَنْتَ أَنْتَ وَيَلْتَزِمُهُ }
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ السِّحْرِ : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الْمُخْتَلِعَاتِ
وَالْمُنْتَزِعَاتِ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ } وَفِي السُّنَنِ أَيْضًا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّمَا
امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ
عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ } وَلِهَذَا لَمْ يُبَحْ إلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ وَإِذَا كَانَ إنَّمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ فَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ
بِوَاحِدَةٍ فَمَا زَادَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْحَظْرِ .
" الْأَصْلُ الثَّانِي " أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ الَّذِي
يُسَمَّى " طَلَاقَ الْبِدْعَةِ " إذَا أَوْقَعَهُ الْإِنْسَانُ هَلْ
يَقَعُ أَمْ لَا ؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَالْأَكْثَرُونَ
يَقُولُونَ بِوُقُوعِهِ مَعَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا
يَقَعُ . مِثْلَ طَاوُوسٍ وَعِكْرِمَةَ وَخِلَاسٍ وَعُمَرَ وَمُحَمَّدِ بْنِ
إسْحَاقَ وَحَجَّاجِ بْنِ أرطاة وَأَهْلِ الظَّاهِرِ :
كدَاوُد وَأَصْحَابِهِ . وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَيُرْوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ : دَاوُد وَأَصْحَابُهُ ؛ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَقُولُ بِتَحْرِيمِ الثَّلَاثِ . وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ مَجْمُوعُ الثَّلَاثِ إذَا أَوْقَعَهَا جَمِيعًا ؛ بَلْ يَقَعُ مِنْهَا وَاحِدَةٌ وَلَمْ يُعْرَفْ قَوْلُهُ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ ؛ وَلَكِنْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ جَمِيعًا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالشِّيعَةِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : إذَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا ؛ لَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ لَا يُعْرَفُ لِقَائِلِهِ سَلَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالشِّيعَةِ ؛ لَكِنْ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ لَا يَقُولُ بِتَحْرِيمِ جَمْعِ الثَّلَاثِ ؛ فَلِذَا يُوقِعُهَا وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً . وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَفَ قَوْلَهُ فِي الثَّلَاثِ وَلَمْ يَعْرِفْ قَوْلَهُ فِي الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ كَمَنْ يَنْقُلْ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَابْنِ عُمَرَ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ . وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى أَشْهَرَ وَأَثْبَتَ : أَنَّهُ يَقَعُ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدٍ . وَأَمَّا " جَمْعُ الثَّلَاثِ " فَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فِيهَا كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ : رُوِيَ الْوُقُوعُ فِيهَا عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ . وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَغَيْرِهِمْ . وَرُوِيَ عَدَمُ الْوُقُوعِ فِيهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَنْ عُمَرَ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعَنْ الزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ . رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُغِيثٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْمُقْنِعُ فِي أُصُولِ الْوَثَائِقِ . وَبَيَانُ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الدَّقَائِقِ " : وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مُطْلَقٌ كَمْ يَلْزَمُهُ مِنْ الطَّلَاقِ ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ : " ثَلَاثًا " لَا مَعْنَى لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُخْبِرًا عَمَّا مَضَى فَيَقُولُ : طَلَّقْت ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يُخْبِرُ عَنْ ثَلَاثِ طَلَقَاتٍ أَتَتْ مِنْهُ فِي ثَلَاثَةِ أَفْعَالٍ كَانَتْ مِنْهُ فَذَلِكَ يَصِحُّ . وَلَوْ طَلَّقَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَالَ : طَلَّقْتهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَكَانَ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ ثَلَاثًا يُرَدِّدُ الْحَلِفَ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ وَأَمَّا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ فَقَالَ : أَحْلِفُ بِاَللَّهِ ثَلَاثًا لَمْ يَكُنْ حَلَفَ إلَّا يَمِينًا وَاحِدَةً وَالطَّلَاقُ مِثْلُهُ . قَالَ : وَمِثْلُ ذَلِكَ قَالَ الزُّبَيْرُ ابْنُ الْعَوَّامِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ . روينا ذَلِكَ كُلَّهُ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ يَعْنِي الْإِمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ وَضَّاحٍ الَّذِي يَأْخُذُ عَنْ طَبَقَةِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وسحنون بْنِ سَعِيدٍ وَطَبَقَتُهُمْ . قَالَ : وَبِهِ قَالَ مِنْ شُيُوخِ قُرْطُبَةَ ابْنُ زنباع شَيْخُ هُدًى وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْحُسَيْنِيُّ فَقِيهُ عَصْرِهِ وَابْنُ بقي بْنِ مخلد وأصبغ ابْنُ الحباب وَجَمَاعَةٌ سِوَاهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ وَذَكَرَ هَذَا عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ فَقِيهًا مِنْ فُقَهَاءِ طُلَيْطِلَةَ الْمُتَعَبِّدِينَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ . قُلْت : وَقَدْ ذَكَرَهُ التِّلْمِسَانِيُّ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِي مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ حَكَاهُ عَنْ الْمَازِنِيَّ وَغَيْرِهِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا رِوَايَةً عَنْ
مَالِكٍ وَكَانَ يُفْتِي بِذَلِكَ أَحْيَانًا الشَّيْخُ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيَّة وَهُوَ وَغَيْرُهُ يَحْتَجُّونَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا أَمْرًا كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ ؛ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ } . وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّ { أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : هَاتِ مِنْ هَنَاتِك أَلَمْ يَكُنْ طَلَاقُ الثَّلَاثِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً ؟ قَالَ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ . فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ وَأَجَازَهُ } . وَاَلَّذِينَ رَدُّوا هَذَا الْحَدِيثَ تَأَوَّلُوهُ بِتَأْوِيلَاتِ ضَعِيفَةٍ وَكَذَلِكَ كَلُّ حَدِيثٍ فِيهِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْزَمَ الثَّلَاثَ بِيَمِينِ أَوْقَعَهَا جُمْلَةً . أَوْ أَنَّ أَحَدًا فِي زَمَنِهِ أَوْقَعَهَا جُمْلَةً فَأَلْزَمَهُ بِذَلِكَ } مِثْلَ حَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَآخَرَ عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ وَآخَرَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكُلُّهَا أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ وَيُعْرَفُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِنَقْدِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَأَقْوَى مَا رَدُّوهُ بِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا : ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ أَفْتَى بِلُزُومِ الثَّلَاثِ .
وَجَوَابُ الْمُسْتَدِلِّينَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُهَا وَاحِدَةً ؛ وَثَبَتَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُوَافِقُ حَدِيثَ طَاوُوسٍ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ خِلَافَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمَرْفُوعُ { أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ؛ فَرَّدَهَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ؛ حَدَّثَنَا أَبِي ؛ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالَ : { طَلَّقَ ركانة بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو بَنِي الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؛ فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا قَالَ : فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . كَيْفَ طَلَّقْتهَا ؟ قَالَ : فَقَالَ : طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا قَالَ : فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ . فَإِنَّهَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَارْجِعْهَا إنْ شِئْت قَالَ فَرَاجَعَهَا ؛ } وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ : إنَّمَا الطَّلَاقُ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ . قُلْت وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ فِيهِ ابْنُ إسْحَاقَ حَدَّثَنِي دَاوُد ؛ ودَاوُد مِنْ شُيُوخِ مَالِكٍ وَرِجَالِ الْبُخَارِيِّ ؛ وَابْنِ إسْحَاقَ إذَا قَالَ . حَدَّثَنِي . فَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَهَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ ؛ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو دَاوُد هَذَا الطَّرِيقَ الْجَيِّدَ ؛ فَلِذَلِكَ ظَنَّ أَنَّ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً بَائِنًا أَصَحُّ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ بَلْ الْإِمَامُ أَحْمَد رَجَّحَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى تِلْكَ ؛ وَهُوَ كَمَا قَالَ أَحْمَد . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ ركانة مِنْ وَجْهَيْنِ وَهُوَ رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ { رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ ركانة وَنَافِعِ بْنِ عَجِيرٍ : أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ و أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحْلَفَهُ فَقَالَ : مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً ؟ } فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَجَاهِيلُ لَا تُعْرَفُ أَحْوَالُهُمْ وَلَيْسُوا فُقَهَاءَ وَقَدْ ضَعَّفَ حَدِيثَهُمْ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ . وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : حَدِ