الأربعاء، 20 أبريل 2022

ج 35. و36-مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

 

35.مجموع الفتاوى  لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)
 فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يُسَمَّى قَضَاءً أَوْ أَدَاءً ؟ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ هُوَ فَرْقٌ اصْطِلَاحِيٌّ ؛ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى فِعْلَ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا قَضَاءً ، كَمَا قَالَ فِي الْجُمُعَةِ : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ يَفْعَلَانِ فِي الْوَقْتِ . و " الْقَضَاءُ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ : هُوَ إكْمَالُ الشَّيْءِ وَإِتْمَامُهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } أَيْ أَكْمَلَهُنَّ وَأَتَمَّهُنَّ . فَمَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ كَامِلَةً فَقَدْ قَضَاهَا ، وَإِنْ فَعَلَهَا فِي وَقْتِهَا . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَعْلَمُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ بَقَاءَ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَنَوَاهَا أَدَاءً . ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ صَحَّتْ لِأَنَّهُ ، وَلَوْ اعْتَقَدَ خُرُوجَهُ فَنَوَاهَا قَضَاءً ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَقَاءُ الْوَقْتِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ . وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ ، سَوَاءٌ نَوَاهَا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً ، وَالْجُمُعَةُ تَصِحُّ سَوَاءٌ نَوَاهَا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً إذْ أَرَادَ الْقَضَاءَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ ، وَالنَّائِمُ وَالنَّاسِي إذَا صَلَّيَا وَقْتَ الذِّكْرِ وَالِانْتِبَاهِ فَقَدْ صَلَّيَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَا بِالصَّلَاةِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَا قَدْ صَلَّيَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الْمَشْرُوعِ لِغَيْرِهِمَا . فَمَنْ سَمَّى ذَلِكَ قَضَاءً بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى ، وَكَانَ فِي لُغَتِهِ أَنَّ الْقَضَاءَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا

لِلْعُمُومِ ، فَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ قَطُّ شُغْلٌ يُسْقِطُ عَنْهُ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا ، بِحَيْثُ يُؤَخِّرُ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وَصَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ ؛ لَكِنْ يُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ ، فَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ فَرَائِضِهَا فَعَلَهُ ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ سَقَطَ عَنْهُ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْعُذْرِ بَيْنَ صَلَاتَيْ النَّهَارِ وَبَيْنَ صَلَاتَيْ اللَّيْلِ ، عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : فَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَلَا يَجُوزُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَفِعْلُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَوْلَى مِنْ الْجَمْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ ؛ بِخِلَافِ الْقَصْرِ فَإِنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَرْبَعٍ ، عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ . فَلَوْ صَلَّى الْمُسَافِرُ أَرْبَعًا فَهَلْ تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، وَلَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا قَطُّ ، وَلَا أَبُو بَكْرٍ ، وَلَا عُمَرُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي لِلَّهِ بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، وَالْعَمَلِ الَّذِي بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ .

فَأَجَابَ :
وَأَمَّا عَمَلُ النَّهَارِ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ بِاللَّيْلِ ، وَعَمَلُ اللَّيْلِ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ بِالنَّهَارِ : فَهُمَا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، لَا يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُؤَخِّرَهُمَا إلَى اللَّيْلِ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ } . فَأَمَّا مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } . وَأَمَّا مَنْ فَوَّتَهَا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَصِحُّ فِعْلُهَا قَضَاءً أَصْلًا ، وَمَعَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ لَا تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوَاجِبِ ، وَلَا يَقْبَلُهَا اللَّهُ مِنْهُ بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْعِقَابُ ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ ؛ بَلْ يُخَفِّفُ عَنْهُ الْعَذَابَ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الْقَضَاءِ ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ إثْمُ التَّفْوِيتِ ، وَهُوَ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى مُسْقِطٍ آخَرَ ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَيْهِ حَقَّانِ : فَعَلَ أَحَدَهُمَا ، وَتَرَكَ الْآخَرَ . قَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } وَتَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا مِنْ السَّهْوِ عَنْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا

عَنْ وَقْتِهَا ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْوَيْلَ لِمَنْ أَضَاعَهَا وَإِنْ صَلَّاهَا ، وَمَنْ كَانَ لَهُ الْوَيْلُ لَمْ يَكُنْ قَدْ يُقْبَلُ عَمَلُهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ أُخَرُ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ فِي نَفْسِ الْعَمَلِ لَمْ يُتَقَبَّلْ ذَلِكَ الْعَمَلُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرِ : وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ تَارِكِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، هَلْ هُوَ مُسْلِمٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا تَارِكُ الصَّلَاةِ فَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَكِنْ إذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ ، أَوْ وُجُوبَ بَعْضِ أَرْكَانِهَا : مِثْلَ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا وُضُوءٍ ، فَلَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ أَوْ يُصَلِّيَ مَعَ الْجَنَابَةِ فَلَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ، فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ . لَكِنْ إذَا عَلِمَ الْوُجُوبَ : هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا . قِيلَ : يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَقِيلَ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ

الْقَضَاءُ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ . وَعَنْ أَحْمَد فِي هَذَا الْأَصْلِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ فِيمَنْ صَلَّى فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ ، ثُمَّ عَلِمَ ، هَلْ يُعِيدُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ ، ثُمَّ عَلِمَ . هَلْ يُعِيدُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ . وَقِيلَ : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ : إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ دُونَ دَارِ الْحَرْبِ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالصَّائِمُ إذَا فَعَلَ مَا يَفْطُرُ بِهِ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ : فَهَلْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَكَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا فِي الْحَجِّ جَاهِلًا . وَأَصْلُ هَذَا : أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ ؛ هَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يَثْبُتُ . وَقِيلَ : لَا يَثْبُتُ ، وَقِيلَ : يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ دُونَ النَّاسِخِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يَثْبُتُ الْخِطَابُ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } وَقَوْلِهِ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَلِقَوْلِهِ : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ مُتَعَدِّدٌ ، بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا حَتَّى يَبْلُغَهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَآمَنَ بِذَلِكَ ، وَلَمْ يَعْلَمْ كَثِيرًا مِمَّا

جَاءَ بِهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ اللَّهُ عَلَى مَا لَمْ يَبْلُغْهُ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعَذِّبْهُ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبْهُ عَلَى بَعْضِ شَرَائِطِهِ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ { طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ ظَنُّوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } هُوَ الْحَبْلَ الْأَبْيَضَ مِنْ الْحَبْلِ الْأَسْوَدِ ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَرْبِطُ فِي رِجْلِهِ حَبْلًا ، ثُمَّ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ هَذَا مِنْ هَذَا فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بَيَاضُ النَّهَارِ ، وَسَوَادُ اللَّيْلِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ } . وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَمَّارُ أَجْنَبَا ، فَلَمْ يُصَلِّ عُمَرُ حَتَّى أَدْرَكَ الْمَاءَ ، وَظَنَّ عَمَّارٌ أَنَّ التُّرَابَ يَصِلُ إلَى حَيْثُ يَصِلُ الْمَاءُ فَتَمَرَّغَ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ وَلَمْ يَأْمُرْ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ ، وَكَذَلِكَ أَبُو ذَرٍّ بَقِيَ مُدَّةً جُنُبًا لَمْ يُصَلِّ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ ، بَلْ أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ قَالَتْ : إنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً تَمْنَعُنِي الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ ، فَأَمَرَهَا بِالصَّلَاةِ زَمَنَ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالْقَضَاءِ . وَلَمَّا حُرِّمَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ تَكَلَّمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِي فِي

الصَّلَاةِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ ، فَقَالَ لَهُ : { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ . وَلَمَّا زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ حِينَ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، كَانَ مَنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ : مِثْلُ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ ، وَبِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ . وَلَمَّا فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ ، وَلَمْ يَبْلُغْ الْخَبَرُ إلَى مَنْ كَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، حَتَّى فَاتَ ذَلِكَ الشَّهْرُ ، لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصِّيَامِ . { وَكَانَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ - لَمَّا ذَهَبُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ - قَدْ صَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ ، وَكَانُوا حِينَئِذٍ يَسْتَقْبِلُونَ الشَّامَ ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَمَرَهُ بِاسْتِقْبَالِ الشَّامِ } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا كَانَ صَلَّى . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ { سُئِلَ - وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ : عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ ، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ قَالَ لَهُ : انْزِعْ عَنْك جُبَّتَك ، وَاغْسِلْ عَنْك أَثَرَ الْخَلُوقِ ، وَاصْنَعْ فِي

عُمْرَتِك مَا كُنْت صَانِعًا فِي حَجِّك } . وَهَذَا قَدْ فَعَلَ مَحْظُورًا فِي الْحَجِّ ، وَهُوَ لُبْسُ الْجُبَّةِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ بِدَمِ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ لَلَزِمَهُ دَمٌ . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ { قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ : صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا ، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِينِي فِي الصَّلَاةِ ، فَعَلَّمَهُ الصَّلَاةَ الْمُجْزِيَةَ } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا صَلَّى قَبْلَ ذَلِكَ . مَعَ قَوْلِهِ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ تِلْكَ الصَّلَاةَ ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا بَاقٍ ، فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِهَا ، وَاَلَّتِي صَلَّاهَا لَمْ تَبْرَأْ بِهَا الذِّمَّةُ ، وَوَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ صَبِيٌّ أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ ، أَوْ طَهُرَتْ حَائِضٌ ، أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ " وَالْوَقْتُ بَاقٍ لَزِمَتْهُمْ الصَّلَاةُ أَدَاءً لَا قَضَاءً . وَإِذَا كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِمْ . فَهَذَا الْمُسِيءُ الْجَاهِلُ إذَا عَلِمَ بِوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الطُّمَأْنِينَةُ حِينَئِذٍ ، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ فَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِي صَلَاةِ تِلْكَ الْوَقْتِ ، دُونَ مَا قَبْلَهَا . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ أَنْ يُعِيدَ ، وَلِمَنْ تَرَكَ لَمْعَةً مِنْ قَدَمِهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ . وَقَوْلُهُ أَوَّلًا : { صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ }

تَبَيَّنَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ لَمْ يَكُنْ صَلَاةً ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ ، فَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ ابْتِدَاءً ، ثُمَّ عَلَّمَهُ إيَّاهَا ، لَمَّا قَالَ : " وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا " . فَهَذِهِ نُصُوصُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ مَعَ الْجَهْلِ فِيمَنْ تَرَكَ وَاجِبَاتِهَا مَعَ الْجَهْلِ ، وَأَمَّا أَمْرُهُ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ أَنْ يُعِيدَ فَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْوَاجِبِ مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ . فَثَبَتَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهِ حِينَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَقَاءِ وَقْتِ الْوُجُوبِ ، لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ مَعَ مُضِيِّ الْوَقْتِ . وَأَمَّا أَمْرُهُ لِمَنْ تَرَكَ لَمْعَةً فِي رِجْلِهِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءَ بِالْإِعَادَةِ ، فَلِأَنَّهُ كَانَ نَاسِيًا ، فَلَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ ، كَمَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ ، وَكَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا ، فَإِنَّهَا قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ بِمُشَخَّصِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ . أَعْنِي أَنَّهُ رَأَى فِي رِجْلِ رَجُلٍ لَمْعَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثٌ جَيِّدٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ } وَنَحْوُهُ . فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَكْمِيلِ الْوُضُوءِ لَيْسَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ بِإِعَادَةِ شَيْءٍ وَمَنْ كَانَ أَيْضًا يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّلَاةَ تَسْقُطُ عَنْ الْعَارِفِينَ ، أَوْ عَنْ الْمَشَايِخِ الْوَاصِلِينَ ، أَوْ عَنْ بَعْضِ أَتْبَاعِهِمْ ، أَوْ أَنَّ الشَّيْخَ يُصَلِّي عَنْهُمْ ، أَوْ أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا

أَسْقَطَ عَنْهُمْ الصَّلَاةَ ، كَمَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْفَقْرِ وَالزُّهْدِ ، وَاتِّبَاعِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَالْمُعَرِّفَةِ ، فَهَؤُلَاءِ يُسْتَتَابُونَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِالْوُجُوبِ ، وَإِلَّا قُوتِلُوا ، وَإِذَا أَصَرُّوا عَلَى جَحْدِ الْوُجُوبِ حَتَّى قُتِلُوا ، كَانُوا مِنْ الْمُرْتَدِّينَ ، وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ وَصَلَّى لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا تَرَكَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ جَاهِلِينَ لِلْوُجُوبِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ عَنْ الْإِسْلَامِ ، فَالْمُرْتَدُّ إذَا أَسْلَمَ لَا يَقْضِي مَا تَرَكَهُ حَالَ الرِّدَّةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، كَمَا لَا يَقْضِي الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ مَا تَرَكَ حَالَ الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَالْأُخْرَى يَقْضِي الْمُرْتَدُّ . كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ . فَإِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْحَارِثِ ابْنِ قَيْسٍ ، وَطَائِفَةٍ مَعَهُ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ } الْآيَةَ ، وَاَلَّتِي بَعْدَهَا . وَكَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ ، وَاَلَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَأَنْزَلَ فِيهِمْ : { ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } فَهَؤُلَاءِ عَادُوا إلَى الْإِسْلَامِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ عَامَ الْفَتْحِ ، وَبَايَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا

مِنْهُمْ بِإِعَادَةِ مَا تَرَكَ حَالَ الْكُفْرِ فِي الرِّدَّةِ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ يَأْمُرْ سَائِرَ الْكُفَّارِ إذَا أَسْلَمُوا . وَقَدْ ارْتَدَّ فِي حَيَاتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ اتَّبَعُوا الْأَسْوَدَ الْعَنْسِيَّ الَّذِي تَنَبَّأَ بِصَنْعَاءَ الْيَمَنِ ، ثُمَّ قَتَلَهُ اللَّهُ ، وَعَادَ أُولَئِكَ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ . وَتَنَبَّأَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ ، وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، قَاتَلَهُمْ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى أَعَادُوا مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَكَانَ أَكْثَرُ الْبَوَادِي قَدْ ارْتَدُّوا ثُمَّ عَادُوا إلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِقَضَاءِ مَا تَرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ ، بَلْ جُهَّالًا بِالْوُجُوبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يَسْتَأْنِفُونَ الصَّلَاةَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ . فَهَذَا حُكْمُ مَنْ تَرَكَهَا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِوُجُوبِهَا . وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَهَا مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى تَرْكِ : فَقَدْ ذَكَرَ عَلَيْهِ الْمُفَرِّعُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فُرُوعًا :

أَحَدُهَا هَذَا ، فَقِيلَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ : مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَإِذَا صَبَرَ حَتَّى يُقْتَلَ فَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا مُرْتَدًّا ، أَوْ فَاسِقًا كَفُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورِينَ . حُكِيَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد ، وَهَذِهِ الْفُرُوعُ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ ، وَهِيَ فُرُوعٌ فَاسِدَةٌ ، فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالصَّلَاةِ فِي الْبَاطِنِ ، مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا ، يَمْتَنِعُ أَنْ يُصِرَّ عَلَى تَرْكِهَا حَتَّى يُقْتَلَ ، وَهُوَ لَا يُصَلِّي هَذَا لَا يُعْرَفُ مِنْ بَنِي آدَمَ وَعَادَتِهِمْ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ هَذَا قَطُّ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا ، وَيُقَالُ لَا إنْ لَمْ تُصَلِّ وَإِلَّا قَتَلْنَاك ، وَهُوَ يُصِرُّ عَلَى تَرْكِهَا ، مَعَ إقْرَارِهِ بِالْوُجُوبِ ، فَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ في الْإِسْلَامِ . وَمَتَى امْتَنَعَ الرَّجُلُ مِنْ الصَّلَاةِ حَتَّى يُقْتَلَ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَاطِنِ مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا ، وَلَا مُلْتَزِمًا بِفِعْلِهَا ، وَهَذَا كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، كَمَا اسْتَفَاضَتْ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ بِكُفْرِ هَذَا ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ . كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَوْلِهِ : { الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ } . وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ : كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنْ الْأَعْمَالِ فِي تَرْكِهِ كُفْرٌ إلَّا الصَّلَاةَ ، فَمَنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى تَرْكِهَا حَتَّى يَمُوتَ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً قَطُّ ، فَهَذَا لَا يَكُونُ قَطُّ مُسْلِمًا مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا ، فَإِنَّ اعْتِقَادَ

الْوُجُوبِ ، وَاعْتِقَادَ أَنَّ تَارِكَهَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ هَذَا دَاعٍ تَامٌّ إلَى فِعْلِهَا ، وَالدَّاعِي مَعَ الْقُدْرَةِ يُوجِبُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ ، فَإِذَا كَانَ قَادِرًا وَلَمْ يَفْعَلْ قَطُّ عُلِمَ أَنَّ الدَّاعِيَ فِي حَقِّهِ لَمْ يُوجَدْ . وَالِاعْتِقَادُ التَّامُّ لِعِقَابِ التَّارِكِ بَاعِثٌ عَلَى الْفِعْلِ ، لَكِنَّ هَذَا قَدْ يُعَارِضُهُ أَحْيَانًا أُمُورٌ تُوجِبُ تَأْخِيرَهَا وَتَرْكَ بَعْضِ وَاجِبَاتِهَا ، وَتَفْوِيتِهَا أَحْيَانًا . فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى تَرْكِهَا لَا يُصَلِّي قَطُّ ، وَيَمُوتُ عَلَى هَذَا الْإِصْرَارِ وَالتَّرْكِ فَهَذَا لَا يَكُونُ مُسْلِمًا ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُصَلُّونَ تَارَةً ، وَيَتْرُكُونَهَا تَارَةً ، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا ، وَهَؤُلَاءِ تَحْتَ الْوَعِيدِ ، وَهُمْ الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمْ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ حَدِيثُ عبادة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ لَمْ يُحَافَظْ عَلَيْهِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ . } فَالْمُحَافِظُ عَلَيْهَا الَّذِي يُصَلِّيهَا فِي مَوَاقِيتِهَا ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَاَلَّذِي يُؤَخِّرُهَا أَحْيَانًا عَنْ وَقْتِهَا ، أَوْ يَتْرُكُ وَاجِبَاتِهَا ، فَهَذَا تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ يَكُونُ لِهَذَا نَوَافِلُ يُكَمِّلُ بِهَا فَرَائِضَهُ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ فَيَمْتَنِعُ ، وَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَمَنْ اعْتَذَرَ بِقَوْلِهِ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } هَلْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ فِي أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ ، أَمْ لَا ؟ وَمَاذَا يَجِبُ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ فِي حَقِّ مَنْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ إذَا تَرَكُوا الصَّلَاةَ ؟ وَهَلْ قِيَامُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ وَأَكْبَرِ أَبْوَابِ الْبِرِّ ؟.
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَنْ يَمْتَنِعُ عَنْ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الْغَلِيظَةَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، بَلْ يَجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ : كَمَالِكِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَد ، وَغَيْرِهِمْ أَنْ يُسْتَتَابَ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . بَلْ تَارِكُ الصَّلَاةِ شَرٌّ مِنْ السَّارِقِ وَالزَّانِي ، وَشَارِبِ الْخَمْرِ ، وَآكِلِ الْحَشِيشَةِ . وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُطَاعٍ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ يُطِيعُهُ بِالصَّلَاةِ ، حَتَّى الصِّغَارَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } .

وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ صَغِيرٌ مَمْلُوكٌ أَوْ يَتِيمٌ أَوْ وَلَدٌ فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ الْكَبِيرُ إذَا لَمْ يَأْمُرْ الصَّغِيرَ ، وَيُعَزِّرُ الْكَبِيرَ عَلَى ذَلِكَ تَعْزِيرًا بَلِيغًا ؛ لِأَنَّهُ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ عِنْدَهُ مَمَالِيكُ كِبَارٌ ، أَوْ غِلْمَانُ الْخَيْلِ وَالْجِمَالِ وَالْبُزَاةِ ، أَوْ فَرَّاشُونَ أَوْ بَابِيَّةٌ يَغْسِلُونَ الْأَبْدَانَ وَالثِّيَابَ ، أَوْ خَدَمٌ ، أَوْ زَوْجَةٌ ، أَوْ سُرِّيَّةٌ ، أَوْ إمَاءٌ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ بِالصَّلَاةِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ هَذَا أَنْ يَكُونَ مِنْ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ ، بَلْ مِنْ جُنْدِ التَّتَارِ . فَإِنَّ التَّتَارَ يَتَكَلَّمُونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَمَعَ هَذَا فَقِتَالُهُمْ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ كُلُّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ ، أَوْ الْبَاطِنَةِ الْمَعْلُومَةِ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا ، فَلَوْ قَالُوا : نَشْهَدُ وَلَا نُصَلِّي قُوتِلُوا حَتَّى يُصَلُّوا ، وَلَوْ قَالُوا : نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي قُوتِلُوا حَتَّى يُزَكُّوا ، وَلَوْ قَالُوا : نُزَكِّي وَلَا نَصُومُ وَلَا نَحُجُّ ، قُوتِلُوا حَتَّى يَصُومُوا رَمَضَانَ . وَيَحُجُّوا الْبَيْتَ . وَلَوْ قَالُوا : نَفْعَلُ هَذَا لَكِنْ لَا نَدَعُ الرِّبَا ، وَلَا شُرْبَ الْخَمْرِ ، وَلَا الْفَوَاحِشَ ، وَلَا نُجَاهَدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا نَضْرِبُ الْجِزْيَةَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، وَنَحْوُ ذَلِكَ . قُوتِلُوا حَتَّى يَفْعَلُوا ذَلِكَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ }. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } .

وَالرِّبَا آخِرُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ، وَكَانَ أَهْلُ الطَّائِفِ قَدْ أَسْلَمُوا وَصَلَّوْا وَجَاهَدُوا ، فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الرِّبَا ، كَانُوا مِمَّنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ ، قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ : كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ . فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَلَمْ يَقُلْ : إلَّا بِحَقِّهَا ؟ . وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهِ . قَالَ عُمَرُ : فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ ، فَعَلِمْت أَنَّهُ الْحَقُّ . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ : { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ، أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . فَإِذَا كَانَ الَّذِينَ يَقُومُونَ اللَّيْلَ ، وَيَصُومُونَ النَّهَارَ ، وَيَقْرَؤُونَ

الْقُرْآنَ ، أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ فَارَقُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ ، فَكَيْفَ بِالطَّوَائِفِ الَّذِينَ لَا يَلْتَزِمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ بباساق (1) مُلُوكُهُمْ ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يَأْمُرُهُ النَّاسُ بِالصَّلَاةِ ، وَلَمْ يُصَلِّ ، فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يُصَلِّ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً عَمْدًا بِنِيَّةِ أَنَّهُ يَفْعَلُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا قَضَاءً فَهَلْ يَكُونُ فِعْلُهُ كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ غَيْرِ وَقْتِهَا الَّذِي يَجِبُ فِعْلُهَا فِيهِ عَمْدًا مِنْ الْكَبَائِرِ بَلْ قَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ . وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ

قَالَ : { مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ } . وَرَفَعَ هَذَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَظَرٌ . فَإِنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ : الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْأَثَرِ مَعْرُوفٌ وَأَهْلُ الْعِلْمِ ذَكَرُوا ذَلِكَ مُقِرِّينَ لَهُ لَا مُنْكِرِينَ لَهُ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وَحُبُوطُ الْعَمَلِ لَا يُتَوَعَّدُ بِهِ إلَّا عَلَى مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ - وَكَذَلِكَ تَفْوِيتُ الْعَصْرِ أَعْظَمُ مِنْ تَفْوِيتِ غَيْرِهَا فَإِنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الْمَخْصُوصَةُ بِالْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَهِيَ الَّتِي فُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَضَيَّعُوهَا فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا فَلَهُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ وَهِيَ الَّتِي لَمَّا فَاتَتْ سُلَيْمَانَ فَعَلَ بِالْخَيْلِ مَا فَعَلَ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } وَالْمُوتُورُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ يَبْقَى مَسْلُوبًا لَيْسَ لَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي حَبِطَ عَمَلُهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ

سَاهُونَ } فَتَوَعَّدَ بِالْوَيْلِ لِمَنْ يَسْهُو عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا وَإِنْ صَلَّاهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } وَقَدْ سَأَلُوا ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ إضَاعَتِهَا فَقَالَ : هُوَ تَأْخِيرُهَا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا فَقَالُوا : مَا كُنَّا نَرَى ذَلِكَ إلَّا تَرْكَهَا فَقَالَ : لَوْ تَرَكُوهَا لَكَانُوا كُفَّارًا وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ عَنْ بَعْضِ أُمَرَاءَ الْكُوفَةِ فِي زَمَانِهِ : مَا فَعَلَ خَلْفُكُمْ ؟ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا . وَقَوْلُهُ : { وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ اسْتَعْمَلَ مَا يَشْتَهِيهِ عَنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي وَقْتِهَا سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَهَى مِنْ جِنْسِ الْمُحَرَّمَاتِ : كَالْمَأْكُولِ الْمُحَرَّمِ وَالْمَشْرُوبِ الْمُحَرَّمِ وَالْمَنْكُوحِ الْمُحَرَّمِ وَالْمَسْمُوعِ الْمُحَرَّمِ أَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحَاتِ لَكِنَّ الْإِسْرَافَ فِيهِ يُنْهَى عَنْهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ اشْتَغَلَ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ بِلَعِبِ أَوْ لَهْوٍ أَوْ حَدِيثٍ مَعَ أَصْحَابِهِ أَوْ تَنَزُّهٍ فِي بُسْتَانِهِ أَوْ عِمَارَةِ عَقَارِهِ أَوْ سَعْيٍ فِي تِجَارَتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ أَضَاعَ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعَ مَا يَشْتَهِيهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } وَمَنْ أَلْهَاهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ عَنْ فِعْلِ الْمَكْتُوبَةِ فِي وَقْتِهَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ خَاسِرًا . وَقَالَ تَعَالَى فِي ضِدِّ هَؤُلَاءِ : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } { رِجَالٌ

لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } . فَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ قَدْ تَوَعَّدَ بِلُقِيِّ الْغَيِّ مَنْ يُضَيِّعُ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا وَيَتَّبِعُ الشَّهَوَاتِ وَالْمُؤَخِّرَ لَهَا عَنْ وَقْتِهَا مُشْتَغِلًا بِمَا يَشْتَهِيهِ هُوَ مُضَيِّعٌ لَهَا مُتَّبِعٌ لِشَهْوَتِهِ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ إذْ هَذَا الْوَعِيدُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى كَبِيرَةٍ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ جَعْلُهُ خَاسِرًا وَالْخُسْرَانُ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الصَّغَائِرِ الْمُكَفِّرَةِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ .
وَأَيْضًا فَلَا . . . (1) أَحَدًا مَنْ صَلَّى بِلَا طَهَارَةٍ أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ عَمْدًا وَتَرَكَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ أَوْ الْقِرَاءَةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدَا أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ بِذَلِكَ كَبِيرَةً بَلْ قَدْ يَتَوَرَّعُ فِي كُفْرَهُ إنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ ذَلِكَ وَأَمَّا إذَا اسْتَحَلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا رَيْبٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَقْتَ لِلصَّلَاةِ مُقَدَّمٌ عَلَى هَذِهِ الْفُرُوضِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ الْمُسَافِرُ الْعَادِمُ لِلْمَاءِ أَنَّهُ يَجِدُهُ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِيُصَلِّيَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ بِوُضُوءِ أَوْ غُسْلٍ ؛ بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْفَرْضُ وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ إذَا اسْتَحَلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا رَيْبٍ .

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَعْدَ الْوَقْتِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ لِإِمْكَانِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا : إنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا إلَّا لِنَاوٍ لِجَمْعِهَا أَوْ مُشْتَغِلٍ بِشَرْطِهَا فَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ قَبْلَهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْحَابِ بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَائِرِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ فَهَذَا أَشُكُّ فِيهِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا فِيهِ صُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ كَمَا إذَا أَمْكَنَ الْوَاصِلَ إلَى الْبِئْرِ أَنْ يَضَعَ حَبْلًا يَسْتَقِي وَلَا يَفْرَغُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ ؛ وَإِذَا أَمْكَنَ الْعُرْيَانَ أَنْ يَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا وَلَا يَفْرَغَ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ وَنَحْوَ هَذِهِ الصُّوَرِ وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِي قَالَهُ فِي ذَلِكَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَحْمَد وَأَصْحَابِهِ وَخِلَافُ قَوْلِ جَمَاعَةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . وَمَا أَعْلَمُ مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الِاشْتِغَالِ بِالشَّرْطِ لَا يُبِيحُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَطْلُبَ الْمَاءَ وَهُوَ لَا يَجِدُهُ . إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّأْخِيرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالشَّرْطِ . وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى قَرْيَةٍ لِيَشْتَرِيَ لَهُ مِنْهَا ثَوْبًا وَهُوَ لَا يُصَلِّي إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّأْخِيرُ بِلَا نِزَاعٍ .

وَالْأُمِّيُّ كَذَلِكَ إذَا أَمْكَنَهُ تَعَلُّمُ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ لَا يَتَعَلَّمُهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ تَعَلُّمِ التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ صَلَّى بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ . وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ لَوْ كَانَ دَمُهَا يَنْقَطِعُ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تُؤَخِّرَ . الصَّلَاةَ لِتُصَلِّي بِطَهَارَةِ بَعْدَ الْوَقْتِ . بَلْ تُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَأَمَّا حَيْثُ جَازَ الْجَمْعُ فَالْوَقْتُ وَاحِدٌ وَالْمُؤَخِّرُ لَيْسَ بِمُؤَخِّرِ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ : فِعْلُهَا فِيهِ ؛ بَلْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ الْجَمْعُ إلَى النِّيَّةِ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ . وَكَذَلِكَ الْقَصْرُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْخَوْفِ تَجِبُ فِي الْوَقْتِ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يُؤَخِّرَهَا فَلَا يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ وَلَا يَعْمَلُ عَمَلًا كَثِيرًا فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْ الْإِمَامِ بِرَكْعَةِ وَلَا يُفَارِقُ الْإِمَامَ قَبْلَ السَّلَامِ وَلَا يَقْضِي مَا سَبَقَ بِهِ قَبْلَ السَّلَامِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِأَجْلِ الْوَقْتِ وَإِلَّا فَفِعْلُهَا بَعْدَ الْوَقْتِ وَلَوْ بِاللَّيْلِ مُمْكِنٌ عَلَى الْإِكْمَالِ . وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَأَمْكَنَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إلَى أَنْ يَأْتِيَ مِصْرًا يَعْلَمُ فِيهِ الْقِبْلَةَ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا نَازَعَ مَنْ نَازَعَ إذَا أَمْكَنَهُ تَعَلُّمُ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ وَلَا يَتَعَلَّمُهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ . وَهَذَا النِّزَاعُ هُوَ

الْقَوْلُ الْمُحْدَثُ الشَّاذُّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ . وَأَمَّا النِّزَاعُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي مِثْلِ مَا إذَا اسْتَيْقَظَ النَّائِمُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الطُّلُوعِ بِوُضُوءِ : هَلْ يُصَلِّي بِتَيَمُّمِ ؟ أَوْ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي بَعْدَ الطُّلُوعِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ : الْأَوَّلُ : قَوْلُ مَالِكٍ ؛ مُرَاعَاةً . لِلْوَقْتِ . الثَّانِي : قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ كَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَهَذِهِ . الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي تَوَهَّمَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الشَّرْطَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَقْتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } فَجَعَلَ الْوَقْتَ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ هُوَ وَقْتَ الذِّكْرِ وَالِانْتِبَاهِ وَحِينَئِذٍ فَمَنْ فَعَلَهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ الطَّهَارَةِ الْوَاجِبَةِ فَقَدْ فَعَلَهَا فِي الْوَقْتِ وَهَذَا لَيْسَ بِمُفَرِّطٍ وَلَا مُضَيِّعٍ لَهَا . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ ؛ إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ } . بِخِلَافِ الْمُتَنَبِّهِ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ أَنْ يَفْعَلَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَوْ أَخَّرَهَا عَنْهُ عَمْدًا كَانَ مُضَيِّعًا مُفَرِّطًا فَإِذَا اشْتَغَلَ عَنْهَا بِشَرْطِهَا

وَكَانَ قَدْ أَخَّرَهَا عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ أَنْ يَفْعَلَهَا فِيهِ وَلَوْلَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَجَازَ تَأْخِيرُهَا عَنْ الْوَقْتِ إذَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِتَحْصِيلِ مَاءِ الطَّهَارَةِ أَوْ ثَوْبِ الِاسْتِعَارَةِ بِالذَّهَابِ إلَى مَكَانِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . بَلْ الْمُسْتَيْقِظُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ كَمَا يَتَوَضَّأُ الْمُسْتَيْقِظُ فِي الْوَقْتِ فَلَوْ أَخَّرَهَا لِأَنَّهُ يَجِدُ الْمَاءَ عِنْدَ الزَّوَالِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ . عَلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَمْ يُصَلِّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ قَالَ أَنَا أُصَلِّيهَا قَضَاءً . كَمَا يُقْتَلُ إذَا قَالَ : أُصَلِّي بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَكُلُّ فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا إذَا تَرَكَهُ عَمْدًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِهِ . كَمَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ . فَإِنْ قُلْنَا : يُقْتَلُ بِضِيقِ الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا : يُقْتَلُ بِضِيقِ الْأُولَى وَهُوَ الصَّحِيحُ أَوْ الثَّالِثَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ : هَلْ يُقْتَلُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ أَوْ بِثَلَاثِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَإِذَا قِيلَ بِتَرْكِ صَلَاةٍ : فَهَلْ يُشْتَرَطُ وَقْتُ الَّتِي بَعْدَهَا أَوْ يَكْفِي ضِيقُ وَقْتِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجُمَعِ وَغَيْرِهَا . وَلَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ يَصِحُّ بَعْدَ الْوَقْتِ ؛ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ إذَا فَاتَ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِدْرَاكُهُ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ

يَفْعَلَهَا إلَّا فَائِتَةً وَيَبْقَى إثْمُ التَّأْخِيرِ مِنْ بَابِ الْكَبَائِرِ الَّتِي تَمْحُوهَا التَّوْبَةُ وَنَحْوُهَا وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْفَرَائِضِ فَيُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا بِالْقَضَاءِ . وَأَمَّا الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِتَالِهِمْ فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُمْ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قِيلَ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - إنَّهُمْ كَانُوا يُفَوِّتُونَهَا فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَّةَ بِالصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ . وَقَالَ : { اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } وَنَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ كَمَا نَهَى عَنْ قِتَالِ الْأَئِمَّةِ إذْ اسْتَأْثَرُوا وَظَلَمُوا النَّاسَ حُقُوقَهُمْ وَاعْتَدَوْا عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ مِنْ الْكَبَائِرِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَا يَقَعُ . وَمُؤَخِّرُهَا عَنْ وَقْتِهَا فَاسِقٌ وَالْأَئِمَّةُ لَا يُقَاتِلُونَ بِمُجَرَّدِ الْفِسْقِ وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ الْمَقْدُورُ قَدْ يُقْتَلُ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْفِسْقِ : كَالزِّنَا وَغَيْرِهِ . فَلَيْسَ كُلُّ مَا جَازَ فِيهِ الْقَتْلُ جَازَ أَنْ يُقَاتَلَ الْأَئِمَّةُ لِفِعْلِهِمْ إيَّاهُ ؛ إذْ فَسَادُ الْقِتَالِ أَعْظَمُ مِنْ فَسَادِ كَبِيرَةٍ يَرْتَكِبُهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ . وَلِهَذَا نَصَّ مَنْ نَصَّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ النَّافِلَةَ تُصَلَّى خَلْفَ الْفُسَّاقِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا وَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ فُسَّاقٌ وَقَدْ أَمَرَ بِفِعْلِهَا خَلْفَهُمْ نَافِلَةً .

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْفِسْقَ بِتَفْوِيتِ الصَّلَاةِ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ . لَكِنْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ : الْكَبِيرَةُ تَفْوِيتُهَا دَائِمًا فَإِنَّ ذَلِكَ إصْرَارٌ عَلَى الصَّغِيرَةِ . قِيلَ لَهُ : قَدْ تَقَدَّمَ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْوَعِيدَ يَلْحَقُ بِتَفْوِيتِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِصْرَارَ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْعَوْدِ وَمَنْ أَتَى صَغِيرَةً وَتَابَ مِنْهَا ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَى كَبِيرَةً . وَأَيْضًا فَمَنْ اشْتَرَطَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى التَّفْوِيتِ مُحْتَاجٌ إلَى ضَابِطٍ فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى طُولِ عُمُرِهِ لَمْ يَكُنْ الْمَذْكُورُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَإِنْ أَرَادَ مِقْدَارًا مَحْدُودًا طُولِبَ بِدَلِيلِ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فَالْقَتْلُ بِتَرْكِ وَاحِدَةٍ أَبْلَغُ مِنْ جَعْلِ ذَلِكَ كَبِيرَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ مُسْلِمٍ تَارِكٍ لِلصَّلَاةِ وَيُصَلِّي الْجُمُعَةَ ، فَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا اسْتَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْوَاجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَلَعْنُ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ جَائِزٌ وَأَمَّا لَعْنَةُ الْمُعَيَّنِ فَالْأَوْلَى تَرْكُهَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتُوبَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ
وَسُئِلَ :
عَنْ الْأَذَانِ . هَلْ هُوَ فَرْضٌ أَمْ سُنَّةٌ ؟ وَهَلْ يُسْتَحَبُّ التَّرْجِيعُ أَمْ لَا . وَهَلْ التَّكْبِيرُ أَرْبَعٌ أَوْ اثْنَتَانِ . كَمَالِكِ . وَهَلْ الْإِقَامَةُ شَفْعٌ أَوْ فَرْدٌ ؟ وَهَلْ يَقُولُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الصَّحِيحُ أَنْ الْأَذَانَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلَيْسَ لِأَهْلِ مَدِينَةٍ وَلَا قَرْيَةٍ أَنْ يَدَعُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ " وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَقَدْ أَطْلَقَ طَوَائِفُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ سُنَّةٌ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ إذَا اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِ قُوتِلُوا وَالنِّزَاعُ مَعَ هَؤُلَاءِ . قَرِيبٌ مِنْ النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ . فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ يُطْلِقُ الْقَوْلَ بِالسُّنَّةِ عَلَى مَا يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ شَرْعًا فَالنِّزَاعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ وَاجِبٌ نِزَاعُ لَفْظِيٌّ وَلِهَذَا نَظَائِرُ مُتَعَدِّدَةٌ .

وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ سُنَّةٌ لَا إثْمَ عَلَى تَارِكِيهِ وَلَا عُقُوبَةَ فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ . فَإِنَّ الْأَذَانَ هُوَ شِعَارُ دَارِ الْإِسْلَامِ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّقُ اسْتِحْلَالَ أَهْلِ الدَّارِ بِتَرْكِهِ فَكَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ سَمِعَ مُؤَذِّنًا لَمْ يُغِرْ وَإِلَّا أَغَارَ } . وَفِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لَا يُؤَذَّنُ وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَعَلَيْك بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .
وَأَمَّا التَّرْجِيعُ وَتَرْكُهُ وَتَثْنِيَةُ التَّكْبِيرِ وَتَرْبِيعِهِ " وَتَثْنِيَةُ الْإِقَامَةِ وَإِفْرَادُهَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ { حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَذَانَ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ وَكَانَ الْأَذَانُ فِيهِ وَفِي وَلَدِهِ . بِمَكَّةَ ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَّمَهُ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَفِيهِ التَّرْجِيعُ } . وَرَوَى فِي حَدِيثِهِ { التَّكْبِيرُ مَرَّتَيْنِ } كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ . وَرَوَى { أَرْبَعًا } كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ . وَفِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ عَلَّمَهُ الْإِقَامَةَ شَفْعًا . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ قَالَ : تَذَاكَرُوا أَنْ يَعْلَمُوا وَقْتَ الصَّلَاةِ . بِشَيْءِ يَعْرِفُونَهُ

فَذَكَرُوا أَنْ يوروا نَارًا أَوْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا فَأَمَرَ بِلَالَ أَنْ يُشَفِّعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ } . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ : " إلَّا الْإِقَامَةَ " . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ . أَنَّ { عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ لَمَّا أُرَى الْأَذَانَ أَمَرَهُ . النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلْقِيَهُ عَلَى بِلَالٍ فَأَلْقَاهُ . عَلَيْهِ وَفِيهِ التَّكْبِيرُ أَرْبَعًا بِلَا تَرْجِيعٍ } . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالصَّوَابُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَهُوَ تَسْوِيغُ كُلِّ مَا ثَبَتَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكْرَهُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إذْ تَنَوُّعُ صِفَةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ كَتَنَوُّعِ صِفَةِ الْقِرَاءَاتِ وَالتَّشَهُّدَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَكْرَهَ . مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ . وَأَمَّا مَنْ بَلَغَ بِهِ الْحَالُ إلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ حَتَّى يُوَالِيَ وَيُعَادِيَ وَيُقَاتِلَ عَلَى مِثْلِ هَذَا وَنَحْوِهِ . مِمَّا سَوَّغَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ فَهَؤُلَاءِ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا . وَكَذَلِكَ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ - وَلَا أُحِبُّ تَسْمِيَتَهُ - مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِهِمْ لِلتَّرْجِيعِ وَظَنِّهِمْ أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ غَلِطَ فِي نَقْلِهِ وَأَنَّهُ كَرَّرَهُ . لِيَحْفَظَهُ وَمِنْ كَرَاهَةِ مَنْ خَالَفَهُمْ لِشَفْعِ الْإِقَامَةِ مَعَ أَنَّهُمْ يَخْتَارُونَ أَذَانَ أَبِي مَحْذُورَةَ . هَؤُلَاءِ يَخْتَارُونَ إقَامَتَهُ وَيَكْرَهُونَ أَذَانَهُ وَهَؤُلَاءِ يَخْتَارُونَ أَذَانَهُ وَيَكْرَهُونَ

إقَامَتَهُ . فَكِلَاهُمَا قَوْلَانِ مُتَقَابِلَانِ . وَالْوَسَطُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا . وَإِنْ كَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ يَخْتَارُونَ أَذَانَ بِلَالٍ وَإِقَامَتَهُ لِمُدَاوَمَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا كَمَا يَخْتَارُ بَعْضَ الْقِرَاءَاتِ . وَالتَّشَهُّدَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمِنْ تَمَامِ السُّنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا : أَنْ يُفْعَلَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَهَذَا فِي مَكَانٍ وَهَذَا فِي مَكَانٍ ؛ لِأَنَّ هَجْرَ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَمُلَازِمَةَ غَيْرِهِ قَدْ يُفْضِي إلَى أَنْ يَجْعَلَ السُّنَّةَ بِدْعَةً وَالْمُسْتَحَبَّ وَاجِبًا وَيُفْضِيَ ذَلِكَ إلَى التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ إذَا فَعَلَ آخَرُونَ الْوَجْهَ الْآخَرَ . فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُرَاعِيَ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي فِيهَا الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ . وَأَصَحُّ النَّاسِ طَرِيقَةً فِي ذَلِكَ هُمْ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ الَّذِينَ عَرَفُوا السُّنَّةَ وَاتَّبَعُوهَا إذْ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ مَنْ اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ عُمْدَتُهُ الْعَمَلَ الَّذِي وَجَدَهُ بِبَلَدِهِ وَجَعَلَ ذَلِكَ السُّنَّةَ دُونَ مَا خَالَفَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَسَّعَ فِي ذَلِكَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ . وَرُبَّمَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ أَذَانَ بِلَالٍ وَإِقَامَتَهُ مَا وَجَدَهُ فِي بَلَدِهِ : إمَّا بِالْكُوفَةِ وَإِمَّا بِالشَّامِ وَإِمَّا بِالْمَدِينَةِ . وَبِلَالٌ لَمْ يُؤَذِّنْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا قَلِيلًا وَإِنَّمَا أَذَّنَ بِالْمَدِينَةِ سَعْدٌ القرظي مُؤَذِّنُ أَهْلِ قُبَاء .

وَالتَّرْجِيعُ فِي الْأَذَانِ اخْتِيَارُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ : لَكِنَّ مَالِكًا يَرَى التَّكْبِيرَ مَرَّتَيْنِ وَالشَّافِعِيَّ يَرَاهُ . أَرْبَعًا وَتَرْكُهُ اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَأَمَّا أَحْمَد فَعِنْدَهُ كِلَاهُمَا سُنَّةٌ وَتَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَذَانُ بِلَالٍ . وَالْإِقَامَةُ يَخْتَارُ إفْرَادُهَا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُ : إنَّ تَثْنِيَتَهَا سُنَّةٌ وَالثَّلَاثَةُ : أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد يَخْتَارُونَ تَكْرِيرَ لَفْظِ الْإِقَامَةِ دُونَ مَالِكٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
وَأَمَّا الْأَذَانُ الَّذِي هُوَ شِعَارُ الْإِسْلَامِ فَقَدْ اسْتَعْمَلَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ - كَأَحْمَدَ - فِيهِ جَمِيعَ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحْسَنَ أَذَانَ بِلَالٍ وَإِقَامَتَهُ وَأَذَانَ أَبِي مَحْذُورَةَ وَإِقَامَتَهُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ أَبَا مَحْذُورَةَ الْأَذَانَ مُرَجَّعًا وَفِي الْإِقَامَةِ مَشْفُوعَةً . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ بِلَالًا أُمِرَ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ } . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُرَجِّعُ فَرَجَّحَ أَحْمَد أَذَانَ بِلَالٍ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمًا قَبْلَ

أَذَانِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَبَعْدَهُ إلَى أَنْ مَاتَ . وَاسْتَحْسَنَ أَذَانَ أَبِي مَحْذُورَةَ وَلَمْ يَكْرَهْهُ . وَهَذَا أَصْلٌ مُسْتَمِرٌّ لَهُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِ الْعِبَادَاتِ أَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا يُسْتَحْسَنُ كُلُّ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِشَيْءِ مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَاخْتِيَارِهِ . لِلْبَعْضِ أَوْ تَسْوِيَتِهِ بَيْنَ الْجَمِيعِ . كَمَا يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِكُلِّ قِرَاءَةٍ ثَابِتَةٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ اخْتَارَ بَعْضَ الْقِرَاءَةِ : مِثْلَ أَنْوَاعِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَأَنْوَاعِ التَّشَهُّدَاتِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ . وَأَحَبُّهَا إلَيْهِ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ ؛ لِأَسْبَابِ مُتَعَدِّدَةٍ : مِنْهَا كَوْنُهُ أَصَحَّهَا وَأَشْهَرَهَا . ومِنْهَا كَوْنُهُ مَحْفُوظَ الْأَلْفَاظِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي حَرْفٍ مِنْهُ . ومِنْهَا كَوْنُ غَالِبِهَا يُوَافِقُ أَلْفَاظَهُ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِهِ غَالِبًا . وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ الْمَأْثُورَةِ وَأَنَّهُ اخْتَارَ بَعْضَهَا . وَكَذَلِكَ مَوْضِعُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَمَحَلُّ وَضْعِهَا بَعْدَ الرَّفْعِ وَصِفَاتُ التَّحْمِيدِ الْمَشْرُوعِ بَعْدَ التَّسْمِيعِ وَمِنْهَا صِفَاتُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ اخْتَارَ بَعْضَهَا .

وَمِنْهَا أَنْوَاعُ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَيَجُوزُ كُلُّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ . وَمِنْهَا أَنْوَاعُ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ يَجُوزُ كُلُّ مَأْثُورٍ وَإِنْ اسْتَحَبَّ بَعْضَهُ . وَمِنْهَا التَّكْبِيرُ عَلَى الْجَنَائِزِ يَجُوزُ عَلَى الْمَشْهُورِ : التَّرْبِيعُ وَالتَّخْمِيسُ وَالتَّسْبِيعُ وَإِنْ اخْتَارَ التَّرْبِيعَ . وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ فَيَخْتَارُونَ بَعْضَ ذَلِكَ وَيَكْرَهُونَ بَعْضَهُ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُ " التَّرْجِيعَ " فِي الْأَذَانِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُ . تَرْكَهُ كَالشَّافِعِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُ شَفْعَ الْإِقَامَةِ كَالشَّافِعِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُ . إفْرَادَهَا حَتَّى قَدْ آلَ الْأَمْرُ بِالْأَتْبَاعِ إلَى نَوْعِ جَاهِلِيَّةٍ فَصَارُوا يَقْتَتِلُونَ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْمَشْرِقِ عَلَى ذَلِكَ حَمِيَّةً جَاهِلِيَّةً مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ حَسَنٌ قَدْ أَمَرَ بِهِ { رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا بِإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ وَأَمَرَ أَبَا مَحْذُورَةَ بِشَفْعِهَا } . وَإِنَّ الضَّلَالَةَ حَقَّ الضَّلَالَةِ أَنْ يُنْهَى عَمَّا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْمُؤَذِّنِ إذَا قَالَ : { الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ } هَلْ السُّنَّةُ أَنْ يَسْتَدِيرَ وَيَلْتَفِتَ أَمْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ أَمْ الشَّرْقَ ؟ .

فَأَجَابَ :
لَيْسَ هَذَا سُنَّةً عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ السُّنَّةُ أَنْ يَقُولَهَا وَهُوَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ . وَكَقَوْلِهِ فِي الْإِقَامَةِ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ إلَّا الْحَيْعَلَةَ . فَإِنَّهُ يَلْتَفِتُ بِهَا يَمِينًا وَشِمَالًا وَلَا يَخْتَصُّ الْمَشْرِقَ بِالْكَلِمَتَيْنِ وَلَيْسَ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مَا يَخْتَصُّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ بِجِنْسِهِ . فَمَنْ قَالَ : " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " كِلَاهُمَا إلَى الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ فَهُوَ مُبْتَدَعٌ خَارِجٌ عَنْ السَّنَةِ فِي الْأَذَانِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يَدُورُ فِي الْمَنَارَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . فَمَنْ دَارَ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ إنْ دَارَ لِقَوْلِهِ : " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " لَزِمَهُ أَنْ يَدُورَ مَرَّتَيْنِ . وَلَا قَائِلَ بِهِ . وَإِنْ خَصَّ الْمَشْرِقَ بِهِمَا كَانَ أَبْعَدَ عَنْ السُّنَّةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَقُولَهُمَا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
لَمَّا ذَهَبْت عَلَى الْبَرِيدِ كُنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَكُنْت أَوَّلًا أُؤَذِّنُ عِنْدَ الْغُرُوبِ وَأَنَا رَاكِبٌ ثُمَّ تَأَمَّلْت فَوَجَدْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَمَعَ لَيْلَةَ جَمْعٍ لَمْ يُؤَذِّنُوا لِلْمَغْرِبِ فِي طَرِيقِهِمْ : بَلْ أَخَّرَ التَّأْذِينَ

حَتَّى نَزَلَ فَصِرْت أَفْعَلُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْجَمْعِ صَارَ وَقْتُ الثَّانِيَةِ وَقْتًا لَهُمَا وَالْأَذَانُ إعْلَامٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ . وَلِهَذَا قُلْنَا يُؤَذَّنُ لِلْفَائِتَةِ كَمَا أَذَّنَ بِلَالٌ لَمَّا نَامُوا عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ " لِأَنَّهُ وَقْتُهَا وَالْأَذَانُ لِلْوَقْتِ الَّذِي تُفْعَلُ فِيهِ ؛ لَا الْوَقْتُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ أَحْرَمَ وَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَتْ نَافِلَةً ثُمَّ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ فَهَلْ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَيَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ ؟ أَوْ يُتِمُّ صَلَاتَهُ وَيَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يُؤَذِّنُ وَهُوَ فِي صَلَاةٍ فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا وَلَا يَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا إذَا كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فِي قِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ ذَلِكَ وَيَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ . لِأَنَّ . مُوَافَقَةَ الْمُؤَذِّنِ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ يَفُوتُ وَقْتُهَا وَهَذِهِ الْأَذْكَارُ لَا تَفُوتُ . وَإِذَا قَطَعَ الْمُوَالَاةَ . فِيهَا لِسَبَبِ شَرْعِيٍّ كَانَ جَائِزًا مِثْلَ مَا يَقْطَعُ

الْمُوَالَاةَ فِيهَا بِكَلَامِ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ خِطَابِ آدَمِيٍّ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بِسُجُودِ تِلَاوَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ مُوَالَاتَهَا بِسَبَبِ آخَرَ كَمَا لَوْ سَمِعَ غَيْرَهُ يَقْرَأُ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ لَمْ يَسْجُدْ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَمَعَ هَذَا فَفِي هَذَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ شُرُوطِ الصَّلَاةِ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا إذَا ابْتَدَءُوا الصَّلَاةَ بِالْمَوَاقِيتِ فَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ قَدْ اسْتَعْمَلُوا فِي هَذَا الْبَابِ جَمِيعَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ . عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوْقَاتِ الْجَوَازِ . وَأَوْقَاتِ الِاخْتِيَارِ . فَوَقْتُ الْفَجْرِ : مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتُ الظُّهْرِ : مِنْ الزَّوَالِ إلَى مَصِيرِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلِهِ سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ وَوَقْتُ الْعَصْرِ : إلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ : إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ وَوَقْتُ الْعِشَاءِ : إلَى مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَهَذَا بِعَيْنِهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ

الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو . وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسِ أَصَحَّ مِنْهُ وَكَذَلِكَ صَحَّ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وبريدة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجَاءَ مُفَرَّقًا فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَغَالِبُ الْفُقَهَاءِ إنَّمَا اسْتَعْمَلُوا غَالِبَ ذَلِكَ . فَأَهْلُ الْعِرَاقِ الْمَشْهُورُ عَنْهُمْ : أَنَّ الْعَصْرَ لَا يَدْخُلُ وَقْتُهَا حَتَّى يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ . وَأَهْلُ الْحِجَازِ - مَالِكٌ وَغَيْرُهُ - : لَيْسَ لِلْمَغْرِبِ عِنْدَهُمْ إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ .
فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ نَقُولُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَالْآثَارُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْمَطَرِ وَالْمَرَضِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ . وَنَقُولُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ مِنْ أَنَّ الْوَقْتَ وَقْتَانِ : وَقْتَ اخْتِيَارٍ وَهُوَ خَمْسُ مَوَاقِيتَ . وَوَقْتَ اضْطِرَارٍ وَهُوَ ثَلَاثُ مَوَاقِيتَ وَلِهَذَا أَمَرَتْ الصَّحَابَةُ - كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا -

الْحَائِضَ إذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْغُرُوبِ أَنْ تُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ أَنْ تُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاء . وَأَحْمَد مُوَافِقٌ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِمَالِكِ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَزَائِدٌ عَلَيْهِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ دُونَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَصْلُهُ فِي الْجَمْعِ مَعْرُوفٌ . وَكَذَلِكَ أَوْقَاتُ الِاسْتِحْبَابِ . فَإِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ يَسْتَحِبُّونَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي الْجُمْلَةِ . إلَّا حَيْثُ يَكُونُ فِي التَّأْخِيرِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَيَسْتَحِبُّونَ تَأْخِيرَ الظُّهْرِ فِي الْحَرِّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ وَيَسْتَحِبُّونَ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ مَا لَمْ يَشُقَّ . وَبِكُلِّ ذَلِكَ جَاءَتْ السُّنَنُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لَا دَافِعَ لَهَا . وَكُلٌّ مِنْ الْفُقَهَاءِ يُوَافِقُهُمْ فِي الْبَعْضِ أَوْ الْأَغْلَبِ . فَأَبُو حَنِيفَةَ : يَسْتَحِبُّ التَّأْخِيرَ إلَّا فِي الْمَغْرِبِ وَالشَّافِعِيُّ : يَسْتَحِبُّ التَّقْدِيمَ مُطْلَقًا حَتَّى فِي الْعِشَاءِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَحَتَّى فِي الْحَرِّ إذَا كَانُوا مُجْتَمِعِينَ { وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الصَّحِيحُ فِيهِ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بِالْإِبْرَادِ وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ } .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
" قَاعِدَةٌ " فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَوْقَاتِهَا وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ جَمْعٍ وَقَصْرٍ .
جَرَتْ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُصَنِّفِينَ لِلْعِلْمِ أَنْ يَذْكُرُوا فِي بَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ : أَوْقَاتَهَا وَأَعْدَادَهَا وَأَسْمَاءَهَا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ الْقَصْرَ وَالْجَمْعَ فِي بَابَيْنِ مُفْتَرِقَيْنِ مَعَ صَلَاةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ كَالْمَرِيضِ وَالْخَائِفِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ الْجَمْعَ فِي الْمَوَاقِيتِ . وَأَمَّا الْقَصْرُ فَيُفْرِدُهُ . فَإِنَّ سَبَبَ الْقَصْرِ هُوَ السَّفَرُ وَحْدَهُ فَقِرَانُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ بِصَلَاةِ الْخَائِفِ وَالْمَرِيضِ مُنَاسِبٌ . وَأَمَّا الْجَمْعُ : فَأَسْبَابُهُ مُتَعَدِّدَةٌ ؛ لَا اخْتِصَاصِ السَّفَرِ بِهِ . وَنَحْنُ نَذْكُرُ فِي كُلٍّ مِنْهَا فَصْلًا جَامِعًا.

أَمَّا الْعَدَدُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ : ثَلَاثَةٌ رُبَاعِيَّةٌ وَوَاحِدَةٌ ثُلَاثِيَّةٌ وَوَاحِدَةٌ ثُنَائِيَّةٌ هَذَا فِي الْحَضَرِ . وَأَمَّا فِي السَّفَرِ فَقَدْ سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ سُفْرَةً وَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي أَسْفَارِهِ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ صَلَّى فِي السَّفَرِ الْفَرْضَ أَرْبَعًا قَطُّ حَتَّى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ آخِرُ أَسْفَارِهِ كَانَ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَوَاتِ : رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ . وَهَذَا مِنْ الْعِلْمِ الْعَامِّ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَى نَقْلِهِ عَنْهُ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ وَمَنْ أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْهُمْ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الدارقطني عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ وَيُفْطِرُ وَتَصُومُ } . بَاطِلٌ فِي الْإِتْمَامِ . وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي الْإِفْطَارِ ؛ بِخِلَافِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الْمُسْتَفِيضِ . وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا بَعْدُ قَطُّ . وَكَيْفَ يَكُونُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ إنَّمَا كَانَ يُصَلِّي الْفَرْضَ إمَامًا لَكِنْ مَرَّةً فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ احْتَبَسَ لِلطَّهَارَةِ سَاعَةً فَقَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَأَدْرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ بَعْضَ الصَّلَاةِ فَلَوْ صَلَّى بِهِمْ أَرْبَعًا فِي السَّفَرِ لَكَانَ هَذَا مِنْ أَوْكَدِ مَا تَتَوَفَّرُ هِمَمُهُمْ وَدَوَاعِيهِمْ عَلَى نَقْلِهِ ؛ لِمُخَالَفَتِهِ سُنَّتَهُ الْمُسْتَمِرَّةَ ؛ وَعَادَتَهُ الدَّائِمَةَ كَمَا نَقَلُوا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ أَحْيَانًا . فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ .

وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ : أَيْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ بِمَسْنُونِ وَلَا مَشْرُوعٍ فَقَدْ كَفَرَ . وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : الصَّلَاةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ . قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَقُلْت لِعُرْوَةِ : فَمَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ . قَالَ : تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ } . هَذَا وَلَمَّا حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مُقَامِهِ بِمَكَّةَ وَالْمَشَاعِرِ مَعَ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَخَرَجَ مِنْهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ إلَى مِنًى وَعَرَّفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَقَامَ بِمِنَى إلَى عَشِيَّةِ الثُّلَاثَاءِ وَبَاتَ بِالْمُحَصَّبِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ وَطَافَ لِلْوَدَاعِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ . وَأَقَامَ أَيْضًا قَبْلَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَأَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ .

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى عَنْ { - عَائِشَةَ : أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ حَتَّى إذَا قَدِمَتْ مَكَّةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَصَرْت وَأَتْمَمْت وَأَفْطَرْت وَصُمْت . قَالَ : أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ وَمَا عَابَ عَلَيَّ } رَوَاهُ النَّسَائِي . وَرَوَى الدارقطني { خَرَجْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ وَصُمْت وَقَصَرَ وَأَتْمَمْت } وَقَالَ : إسْنَادُهُ حَسَنٌ . فَهَذَا لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَمَّ " وَإِنَّمَا فِيهِ إذْنُهُ فِي الْإِتْمَامِ مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِصَحِيحِ " بَلْ هُوَ خَطَأٌ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ } وَقَدّ ذَكَرَ ابْنُ أَخِيهَا وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَا : أَنَّهَا إنَّمَا أَتَمَّتْ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ بِتَأْوِيلِ تَأَوَّلَتْهُ لَا بِنَصِّ كَانَ مَعَهَا . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا فِيهِ نَصٌّ . الثَّانِي : أَنَّ فِي الْحَدِيثِ : { أَنَّهَا خَرَجَتْ مُعْتَمِرَةً مَعَهُ فِي رَمَضَانَ عُمْرَةَ رَمَضَانَ وَكَانَتْ صَائِمَةً } وَهَذَا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي رَمَضَانَ قَطُّ وَإِنَّمَا كَانَتْ عُمَرُهُ كُلُّهَا فِي شَوَّالٍ وَإِذَا كَانَ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ فِي عُمْرَةٍ عَلَيْهِ صَوْمٌ بَطَلَ هَذَا الْحَدِيثُ .

الثَّالِثُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا سَافَرَ فِي رَمَضَانَ غَزْوَةَ بَدْرٍ وَغَزْوَةَ الْفَتْحِ . فَأَمَّا غَزْوَةُ بَدْرٍ فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِيهَا أَزْوَاجُهُ وَلَا كَانَتْ عَائِشَةُ . وَأَمَّا غَزْوَةُ الْفَتْحِ فَقَدْ كَانَ صَامَ فِيهَا فِي أَوَّلِ سَفَرِهِ ثُمَّ أَفْطَرَ خِلَافَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُفْتَعَلِ . الرَّابِعُ : أَنَّ اعْتِمَارَ عَائِشَةَ مَعَهُ فِيهِ نَظَرٌ . الْخَامِسُ : أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَكُنْ بِاَلَّتِي تَصُومَ وَتُصَلِّي طُولَ سَفَرِهَا إلَى مَكَّةَ وَتُخَالِفُ فِعْلَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَلْ كَانَتْ تَسْتَفْتِيهِ قَبْلَ الْفِعْلِ فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى مَثَلِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ . فَثَبَتَ بِهَذِهِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الْحَضَرِ أَرْبَعٌ فَإِنَّ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ إنَّمَا أُخِذَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي سَنَّهُ لِأُمَّتِهِ وَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيَّ إنَّ الْأَصْلَ أَرْبَعٌ وَإِنَّمَا الرَّكْعَتَانِ رُخْصَةٌ . وَبَنَوْا عَلَى هَذَا : أَنَّ الْقَاصِرَ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْقَصْرِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ قَوْلُ الخرقي وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا . بَلْ الصَّوَابُ مَا قَالَهُ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ : أَنَّ الْقَصْرَ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ بَلْ دُخُولُ الْمُسَافِرِ فِي صَلَاتِهِ كَدُخُولِ الْحَاضِرِ بَلْ لَوْ

نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا لَكَرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَتْ السُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَنُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَد إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَقَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي التَّرْبِيعِ فِي السَّفَرِ : هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ أَوْ تَرْكُ الْأَفْضَلِ . أَوْ هُوَ أَفْضَلُ . عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : فَالْأَوَّلُ : قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ . وَالثَّانِي : رِوَايَةٌ عَنْهُ وَعَنْ أَحْمَد . وَالثَّالِثُ : رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد وَأَصَحُّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَالرَّابِعُ : قَوْلٌ لَهُ . والرَّابِعُ خَطَأٌ قَطْعًا لَا رَيْبَ فِيهِ . وَالثَّالِثُ ضَعِيفٌ : وَإِنَّمَا الْمُتَوَجِّهُ أَنْ يَكُونَ التَّرْبِيعُ إمَّا مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ لِأَنَّ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُرَبِّعُونَ وَكَانَ الْآخَرُونَ لَا يُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِمْ إنْكَارَ مَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ بَلْ إنْكَارَ مَنْ فَعَلَ الْمَكْرُوهَ . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فَهُنَا عَلَّقَ الْقَصْرَ بِسَبَبَيْنِ : الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفِ مِنْ فِتْنَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُ قَصْرَ عَدَدِهَا وَقَصْرَ عَمَلِهَا وَأَرْكَانِهَا . مِثْلَ الْإِيمَاءِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَهَذَا الْقَصْرُ إنَّمَا يَشْرَعُ بِالسَّبَبَيْنِ كِلَاهُمَا

كُلُّ سَبَبٍ لَهُ قَصْرٌ . فَالسَّفَرُ يَقْتَضِي قَصْرَ الْعَدَدِ وَالْخَوْفُ يَقْتَضِي قَصْرَ الْأَرْكَانِ . وَلَوْ قِيلَ : إنَّ الْقَصْرَ الْمُعَلَّقَ هُوَ قَصْرُ الْأَرْكَانِ فَإِنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ لَكَانَ وَجِيهًا . وَلِهَذَا قَالَ : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } . فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْقَصْرَ لَا يُسَوَّى بِالْجَمْعِ فَإِنَّهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشِرْعَتُهُ لِأُمَّتِهِ بَلْ الْإِتْمَامُ فِي السَّفَرِ أَضْعَفُ مِنْ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ . فَإِنَّ الْجَمْعَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ فِي السَّفَرِ أَحْيَانًا وَأَمَّا الْإِتْمَامُ فِيهِ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ قَطُّ وَكِلَاهُمَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ الْإِتْمَامِ : وَفِي " جَوَازِ الْجَمْعِ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ وَجَوَازِ الْإِفْرَادِ . فَلَا يُشَبَّهُ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ فِي أَسْفَارِهِ وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ ، [ فَلَا يُصَارُ ] (1) إلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ فِي سَفَرِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً [ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ] (2) وَقَدْ تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْوَقْتُ : فَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَقْتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ نَوْعَانِ : وَقْتُ اخْتِيَارٍ وَرَفَاهِيَةٍ وَوَقْتُ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ .

أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالْأَوْقَاتُ خَمْسَةٌ . وَأَمَّا الثَّانِي : فَالْأَوْقَاتُ ثَلَاثَةٌ فَصَلَاتَا اللَّيْلِ وَصَلَاتَا النَّهَارِ وَهُمَا اللَّتَانِ فِيهِمَا الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ بِخِلَافِ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا جَمْعٌ وَلَا قَصْرٌ لِكُلِّ مِنْهُمَا وَقْتٌ مُخْتَصٌّ وَقْتُ الرَّفَاهِيَةِ وَالِاخْتِيَارِ وَالْوَقْتُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالِاضْطِرَارِ ؛ لَكِنْ لَا تُؤَخَّرُ صَلَاةُ نَهَارٍ إلَى لَيْلٍ وَلَا صَلَاةُ لَيْلٍ إلَى نَهَارٍ . وَلِهَذَا وَقَعَ الْأَمْرُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وَقَالَ : { فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ اللَّهَ فِي كِتَابِهِ ذَكَرَ الْوُقُوتَ تَارَةً ثَلَاثَةً وَتَارَةً خَمْسَةً . أَمَّا الثَّلَاثَةُ فَفِي قَوْلِهِ : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } وَفِي قَوْلِهِ : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } وَقَوْلِهِ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ . } وَأَمَّا الْخَمْسُ فَقَدْ ذَكَرَهَا أَرْبَعَةً : فِي قَوْلِهِ : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ } وَقَوْلِهِ : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى . } وَقَوْلِهِ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ

وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } وَالسُّنَّةُ هِيَ الَّتِي فَسَّرَتْ ذَلِكَ وَبَيَّنَتْهُ وَأَحْكَمَتْهُ . وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي خَمْسِ مَوَاقِيتَ : فِي حَالِ مُقَامِهِ بِالْمَدِينَةِ وَفِي غَالِبِ أَسْفَارِهِ حَتَّى أَنَّهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - آخِرِ أَسْفَارِهِ - كَانَ يُصَلِّي كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا رَكْعَتَيْنِ وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَبَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ بمزدلفة ؛ وَلِهَذَا { قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ وَقْتِهَا إلَّا الْمَغْرِبَ لَيْلَةَ جَمْعٍ وَالْفَجْرَ بمزدلفة } . وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَلَّسَ بِهَا تَغْلِيسًا شَدِيدًا وَقَدْ بَيَّنَ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ صَلَّاهَا حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ ؛ لِأَنَّ جَمْعَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِمَّا صَلَّاهُ . بِالْمُسْلِمِينَ بِمِنَى أَوْ بِمَكَّةَ هُوَ مِنْ الْمَنْقُولِ نَقْلًا عَامًّا مُتَوَاتِرًا مُسْتَفِيضًا . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ بَيَّنَ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ بِفِعْلِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ الْمَوَاقِيتِ بِالْمَدِينَةِ كَمَا رَوَاهُ . مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَحَدِيثِ بريدة بْنِ الحصيب وَبَيَّنَ لَهُ جِبْرِيلُ الْمَوَاقِيتَ بِمَكَّةَ كَمَا رَوَاهُ . جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ الْمَوَاقِيتَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرُو وَهُوَ أَحْسَنُ أَحَادِيثِ الْمَوَاقِيتِ ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ بِكَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { وَقْتُ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ وَوَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَصِرْ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ وَوَقْتُ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ } وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ . مَرْفُوعًا وَفِيهِ نَظَرٌ . وَعَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ اعْتَمَدَ الْإِمَامُ أَحْمَد لِكَثْرَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى السُّنَنِ وَأَمَّا غَيْرُهُ . مِنْ الْأَئِمَّةِ فَبَلَغَهُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دُونَ بَعْضٍ فَاتَّبَعَ مَا بَلَغَهُ وَمَنْ اتَّبَعَ مَا بَلَغَهُ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ : { سَيَكُونُ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُورُ تَأْخِيرُ الْأُولَى إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ؛ فَإِنَّ الْأُمَرَاءَ لَمْ يَكُونُوا يُؤَخِّرُونَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وَلَا صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ وَلَكِنَّ غَايَتَهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ أَوْ الْعَصْرَ إلَى الِاصْفِرَارِ أَوْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ . وَأَمَّا الْعِشَاءُ فَلَوْ أَخَّرُوهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَكْرُوهًا . وَتَأْخِيرُهَا إلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ أَحَدٌ وَلَا هُوَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْأُمَرَاءُ .

وَأَمَّا الثَّلَاثُ : فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : { أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاء يَجْمَعُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ فِي وَقْتِ الْأُولَى أَوْ إذَا كَانَ سَائِرًا فِي وَقْتِهَا } . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْحِجَاز . وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ { أَنَّهُ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا } رَوَاهُ . أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُعَاذٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ . وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا كَانَ نَازِلًا فِي وَقْتِ الصَّلَاتَيْنِ كِلَاهُمَا وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : إحْدَاهُمَا : لَا يَجْمَعُ لِعَدَمِ السُّنَّةِ وَالْحَاجَةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاخْتِيَارُ الخرقي . الثَّانِيَةُ : يَجْمَعُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِحَدِيثِ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ غَيْرُهُ وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَبِالِاتِّفَاقِ أَنَّهُ { جَمَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِعَرَفَةَ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ وبمزدلفة بَيْنَ صَلَاتَيْ الْعِشَاءَيْنِ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّهُ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا : الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ

وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاء } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ { جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاء بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ } . قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : مَا أَرَادَ بِذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرَادَ أَلَّا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ " . وَكَذَلِكَ قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ . وَرَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْهُ حَدِيثَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَنَّهُ أَمَرَ الْمُسْتَحَاضَةَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي حَدِيثِ حمنة بِنْتِ جَحْشٍ وَغَيْرِهَا فَهَذَا الْجَمْعُ بِالْمَدِينَةِ لِلْمَطَرِ وَلِغَيْرِ مَطَرٍ . وَقَدْ نَبَّهَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى الْجَمْعِ لِلْخَوْفِ وَالْمَطَرِ . وَالْجَمْعُ عِنْدَ الْمَسِيرِ فِي السَّفَرِ ؛ يَجْمَعُ فِي الْمَقَامِ وَفِي السَّفَرِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ . فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ السَّفَرُ سَبَبٌ لِلْجَمْعِ كَمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْقَصْرِ فَإِنَّ قَصْرَ الْعَدَدِ دَائِرٌ مَعَ السَّفَرِ وَجُودًا وَعَدَمًا وَأَمَّا الْجَمْعُ فَقَدْ جَمَعَ فِي غَيْرِ سَفَرٍ وَقَدْ كَانَ فِي السَّفَرِ يَجْمَعُ لِلْمَسِيرِ وَيَجْمَعُ فِي مِثْلِ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَلَا يَجْمَعُ فِي سَائِرِ مَوَاطِنِ السَّفَرِ وَأَمَرَ الْمُسْتَحَاضَةَ بِالْجَمْعِ . فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْجَمْعَ هُوَ لِرَفْعِ الْحَرَجِ فَإِذَا كَانَ فِي التَّفْرِيقِ حَرَجٌ جَازَ الْجَمْعُ وَهُوَ وَقْتُ الْعُذْرِ وَالْحَاجَةِ . وَلِهَذَا قَالَ الصَّحَابَةُ : كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي الْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْغُرُوبِ : صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَقَالَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْجَمْعِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ . وَأَحْمَد فَهَذَا يُوَافِقُ " قَاعِدَةَ الْجَمْعِ " فِي أَنَّ الْوَقْتَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ

وَالْمَانِعِ . فَمَنْ أَدْرَكَ آخِرَ الْوَقْتِ الْمُشْتَرَكِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاتَيْنِ [ كِلْتَيْهِمَا ] (1) . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ : إنَّ الْجَمْعَ مُعَلَّقٌ بِسَفَرِ الْقَصْرِ وَجُودًا وَعَدَمًا حَتَّى مَنَعُوا الْحَاجَّ الَّذِينَ بِمَكَّةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ وَصَلَاتَيْ الْعِشَاءِ فَمَا أَعْلَمُ لِقَوْلِهِمْ حُجَّةً تُعْتَمَدُ : بَلْ خِلَافَ السُّنَّةِ الْمَعْلُومَةِ يَقِينًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْ الْحُجَّاجِ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعَصْرَ إلَى وَقْتِهَا الْمُخْتَصِّ وَلَا يُعَجِّلُوا الْمَغْرِبَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى مُزْدَلِفَةَ فَيُصَلُّوهَا إمَّا بِعَرَفَةَ وَإِمَّا قَرِيبًا مِنْ الْمَأْزِمَيْنِ هَذَا مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ يَقِينًا وَلَا قَالَ هَذَا أَحَدٌ بَلْ كَلَامُهُ وَنُصُوصُهُ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَوْسِمِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَكَمَا اخْتَارَهُ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِهِ : كَأَبِي الْخَطَّابِ فِي الْعِبَادَاتِ وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَغَيْرِهِمَا . ثُمَّ إمَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْجَمْعَ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ مُطْلَقًا قَصِيرِهِ وَطَوِيلِهِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا لِأَجْلِ الْمَسِيرِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ الْجَمْعُ بمزدلفة لِأَجْلِ النُّسُكِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ . وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ عِنْدِي وَأَقْيَسُهُ بِأُصُولِ أَحْمَد وَنُصُوصِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى الْجَمْعِ فِي الْحَضَرِ لِشُغْلِ فَإِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ فَهُوَ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُعَلَّقَةَ بِالسَّفَرِ تَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ كَالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ وَالْمَسْحِ . وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقَةُ بِالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ كَالصَّلَاةِ عَلَى الدَّابَّةِ وَالْمُتَيَمِّمِ وَكَأَكْلِ الْمَيْتَةِ ،

فَهَذِهِ جَاءَتْ لِلْحَاجَةِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ فِي الْحَضَرِ وَالْجَمْعُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . إنَّمَا جَازَ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ لَا لِخُصُوصِ السَّفَرِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَا تَعَلَّقَ بِالسَّفَرِ إنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ قَدْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا . وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالْحَاجَةِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ضَرُورَةً لَا بُدَّ مِنْهَا . فَالْأَوَّلُ كَفِطْرِ الْمُسَافِرِ وَالثَّانِي كَفِطْرِ الْمَرِيضِ فَهَذَا هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْعُمُومِ وَالْجَمْعِ وَإِنْ اشْتَبَهَ مَعْنَاهَا : قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فَإِنَّهُ أَبَاحَ الْقَصْرَ بِشَرْطَيْنِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ ؛ وَخَوْفِ الْكُفَّارِ . وَلِهَذَا اعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْقَصْرَ مُجَرَّدُ قَصْرِ الْعَدَدِ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ فَمِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مَنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ قَصْرُ الصَّلَاةِ إلَّا فِي حَالِ الْخَوْفِ حَتَّى رَوَى الصَّحَابَةُ السُّنَنَ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَصْرِ فِي سَفَرِ الْأَمْنِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَقَدْ كَفَرَ . فَإِنَّ مِنْ الْخَوَارِجِ مَنْ يَرُدُّ السُّنَّةَ الْمُخَالِفَةَ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الرَّسُولَ سَنَّهَا . وَقَالَ { حَارِثَةُ بْنُ وَهْبٍ : صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمَنَ مَا كَانَ - رَكْعَتَيْنِ } . وَقَالَ { عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : صَلَّيْنَا خَلْفَ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ وَخَلْفَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ } وَقَالَ { عُمَرُ لِيَعْلَى بْنِ أُمِّيَّةَ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ الْآيَةِ : فَقَالَ : عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت مِنْهُ . فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ . } فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقَصْرَ فِي سَفَرِ الْأَمْنِ صَدَقَةٌ مِنْ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ . فَنَقُولُ : الْقَصْرُ الْكَامِلُ الْمُطْلَقُ هُوَ قَصْرُ الْعَدَدِ وَقَصْرُ الْأَرْكَانِ فَقَصْرُ الْعَدَدِ جَعْلُ الرُّبَاعِيَّةِ رَكْعَتَيْنِ وَقَصْرُ الْأَرْكَانِ هُوَ قَصْرُ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ الْيَسِيرِ . فَالسَّفَرُ سَبَبُ قَصْرِ الْعَدَدِ وَالْخَوْفُ سَبَبُ قَصْرِ الْأَرْكَانِ فَإِذَا اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ : قَصْرُ الْعَدَدِ وَالْأَرْكَانِ . وَإِنْ انْفَرَدَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ : انْفَرَدَ قَصْرُهُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : ( { أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } مُطْلَقٌ فِي هَذَا الْقَصْرِ وَهَذَا الْقَصْرُ وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُفَسِّرُ مُجْمَلَ الْقُرْآنِ وَتُبَيِّنُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ . وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لَهُ لَا مُخَالِفَةٌ لِظَاهِرِهِ . وَنَظِيرُ هَذَا أَيْضًا مَا قُرِئَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } مِنْ أَنَّ الْمَسْحَ مُطْلَقٌ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَسْحُ بِإِسَالَةِ وَهُوَ الْغَسْلُ

وَالْمَسْحُ بِغَيْرِ إسَالَةٍ وَهُوَ الْمَسْحُ بِلَا غَسْلٍ " فَالْقُرْآنُ أَمَرَ بِمَسْحِ مُطْلَقٍ وَالسُّنَّةُ تُثْبِتُ أَنَّ الْمَسْحَ فِي الرَّأْسِ بِغَيْرِ إسَالَةٍ وَالْمَسْحَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ بِإِسَالَةِ . فَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لَهُ لَا مُخَالِفَةٌ لِظَاهِرِهِ . فَيَنْبَغِي تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةُ وُجُوهِهِ " فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَتَوَهَّمُ النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ خُولِفَ ظَاهِرُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا لَهُ دَلَالَاتٌ يَعْرِفُهَا مَنْ أَعْطَاهُ . اللَّهُ فَهْمًا فِي كِتَابِهِ وَيَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ خَمْسَةَ فَوَائِدَ : أَحَدُهَا : تَقْرِيرُ الْأَحْكَامِ بِدَلَائِلَ الْقُرْآنِ . وَالثَّانِي : بَيَانُ اتِّفَاقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَالثَّالِثُ : بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ مُفَسِّرَةٌ لَهُ لَا مُنَافِيَةٌ لَهُ . وَالرَّابِعُ : بَيَانُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ . وَالْخَامِسُ : الْإِجْمَاعُ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا } فَهَلْ هُوَ الْأَوَّلُ ؟ أَوْ الثَّانِي ؟ .

فَأَجَابَ :
الْوَقْتُ يَعُمُّ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَآخِرَهُ وَاَللَّهُ يَقْبَلُهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ لَكِنَّ أَوَّلَهُ أَفْضَلُ مِنْ آخِرِهِ إلَّا حَيْثُ اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ كَالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَكَالْعِشَاءِ إذَا لَمْ يَشُقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يُشْتَرَطُ اللَّيْلُ إلَى مَطْلَعِ الشَّمْسِ ؟ وَكَمْ أَقَلُّ مَا بَيْنَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَدُخُولِ الْعِشَاءِ مِنْ مَنَازِلِ الْقَمَرِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا وَقْتُ الْعِشَاءِ فَهُوَ مَغِيبُ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ لَكِنْ فِي الْبِنَاءِ يُحْتَاطُ حَتَّى يَغِيبَ الْأَبْيَضُ فَإِنَّهُ قَدْ تَسْتَتِرُ الْحُمْرَةُ بِالْجُدْرَانِ فَإِذَا غَابَ الْبَيَاضُ تَيَقَّنَ مَغِيبَ الْأَحْمَرِ . هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ : فَالشَّفَقُ عِنْدَهُ هُوَ الْبَيَاضُ وَأَهْلُ الْحِسَابِ يَقُولُونَ : إنَّ وَقْتَهَا مَنْزِلَتَانِ لَكِنَّ هَذَا لَا يَنْضَبِطُ فَإِنَّ الْمَنَازِلَ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالْكَوَاكِبِ بَعْضُهَا قَرِيبٌ مِنْ الْمَنْزِلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَبَعْضُهَا بَعِيدٌ مِنْ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَوَقْتُ الْعِشَاءِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ يَتْبَعُ النَّهَارَ فَيَكُونُ

فِي الصَّيْفِ أَطْوَلَ كَمَا أَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ يَتْبَعُ اللَّيْلَ فَيَكُونُ فِي الشِّتَاءِ أَطْوَلَ . وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ حِصَّةَ الْعِشَاءِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْفَجْرِ فِي الشِّتَاءِ وَفِي الصَّيْفِ : فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا حِسِّيًّا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . وَسَبَبُ غَلَطِهِ أَنَّ الْأَنْوَارَ تَتْبَعُ الْأَبْخِرَةَ فَفِي الشِّتَاءِ يَكْثُرُ الْبُخَارُ بِاللَّيْلِ فَيَظْهَرُ النُّورُ فِيهِ أَوَّلًا وَفِي الصَّيْفِ تَقِلُّ الْأَبْخِرَةُ بِاللَّيْلِ وَفِي الصَّيْفِ يَتَكَدَّرُ الْجَوُّ بِالنَّهَارِ بِالْأَبْخِرَةِ وَيَصْفُو فِي الشِّتَاءِ ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ مَزَّقَتْ الْبُخَارَ وَالْمَطَرَ لَبَّدَ الْغُبَارَ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ النورين تَابِعَانِ لِلشَّمْسِ هَذَا يَتَقَدَّمُهَا وَهَذَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَا تَابِعَيْنِ لِلشَّمْسِ فَإِذَا كَانَ فِي الشِّتَاءِ طَالَ زَمَنُ مَغِيبِهَا فَيَطُولُ زَمَانُ الضَّوْءِ التَّابِعِ لَهَا . وَأَمَّا جَعْلُ هَذِهِ الْحِصَّةِ بِقَدْرِ هَذِهِ الْحِصَّةِ وَأَنَّ الْفَجْرَ فِي الصَّيْفِ أَطْوَلُ وَالْعِشَاءَ فِي الشِّتَاءِ أَطْوَلُ وَجُعِلَ الْفَجْرُ تَابِعًا لِلنَّهَارِ : يَطُولُ فِي الصَّيْفِ وَيَقْصُرُ فِي الشِّتَاءِ وَجُعِلَ الشَّفَقُ تَابِعًا لِلَّيْلِ يَقْصُرُ فِي الصَّيْفِ وَيَطُولُ فِي الشِّتَاءِ فَهَذَا قَلْبُ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . وَلَا يَتَأَخَّرُ ظُهُورُ السَّوَادِ عَنْ مَغِيبِ الشَّمْسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
هَلْ التَّغْلِيسُ أَفْضَلُ أَمْ الْإِسْفَارُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ التَّغْلِيسُ أَفْضَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ سَبَبٌ يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الْمُسْتَفِيضَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يُغَلِّسُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { لَقَدْ كَانَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ يُصَلِّي الْفَجْرَ فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٌ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ } وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فِي مَسْجِدِهِ قَنَادِيلُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأسلمي : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِمَا بَيْنَ السِّتِّينَ آيَةً إلَى الْمِائَةِ وَيَنْصَرِفُ مِنْهَا حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ وَهَذِهِ . الْقِرَاءَةُ هِيَ نَحْوُ نِصْفِ جُزْءٍ أَوْ ثُلُثِ جُزْءٍ وَكَانَ فَرَاغُهُ مِنْ الصَّلَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ } . وَهَكَذَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ كَانَ يُغَلِّسُ بِالْفَجْرِ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ وَكَانَ بَعْدَهُ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَنَشَأَ فِي دَوْلَتِهِمْ فُقَهَاءُ رَأَوْا

عَادَتَهُمْ فَظَنُّوا أَنَّ تَأْخِيرَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ أَفْضَلُ مِنْ تَقْدِيمِهَا وَذَلِكَ غَلَطٌ فِي السُّنَّةِ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ } وَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ كَانَ مُعَارِضًا لَمْ يُقَاوِمْهَا . لِأَنَّ تِلْكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ وَالْخَبَرُ الْوَاحِدُ إذَا خَالَفَ الْمَشْهُورَ الْمُسْتَفِيضَ كَانَ شَاذًّا وَقَدْ يَكُونُ مَنْسُوخًا ؛ لِأَنَّ التَّغْلِيسَ هُوَ فِعْلُهُ حَتَّى مَاتَ وَفِعْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ . وَقَدْ تَأَوَّلَ الطَّحَاوِي مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ . كَأَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمَا قَوْلَهُ : { أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ } عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْإِسْفَارُ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا أَيْ أَطِيلُوا صَلَاةَ الْفَجْرِ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْهَا مُسْفِرِينَ . وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالْإِسْفَارِ التَّبَيُّنُ أَيْ صَلُّوهَا إذَا تَبَيَّنَ الْفَجْرُ وَانْكَشَفَ وَوَضَحَ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ وَقْتِهَا إلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ بمزدلفة وَصَلَاةَ الْمَغْرِبِ بِجَمْعِ وَصَلَاةَ الْفَجْرِ إنَّمَا صَلَّاهَا يَوْمَئِذٍ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ } هَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { وَصَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ حِينَ بَرَقَ

الْفَجْرُ } وَإِنَّمَا مُرَادُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُؤَخِّرُ الْفَجْرَ عَنْ أَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَيَنْكَشِفَ وَيَظْهَرَ . وَذَلِكَ الْيَوْمَ عَجَّلَهَا قَبْلُ . وَبِهَذَا تَتَّفِقُ مَعَانِي أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا إذَا أَخَّرَهَا لِسَبَبِ يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ مِثْلَ الْمُتَيَمِّمِ عَادَتُهُ إنَّمَا يُؤَخِّرُهَا لِيُصَلِّيَ آخِرَ الْوَقْتِ بِوُضُوءِ وَالْمُنْفَرِدُ يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يُصَلِّيَ آخِرَ الْوَقْتِ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الصَّلَاةِ آخِرَ الْوَقْتِ قَائِمًا وَفِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَا يَقْدِرُ إلَّا قَاعِدًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ فَضِيلَةٌ تَزِيدُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَالتَّأْخِيرُ لِذَلِكَ أَفْضَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ } ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ } فَإِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . لَكِنْ قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يُغَلِّسُ بِالْفَجْرِ حَتَّى كَانَتْ تَنْصَرِفُ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ } . فَلِهَذَا فَسَّرُوا ذَلِكَ الْحَدِيثَ بِوَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ الْإِسْفَارَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا : أَيْ أَطِيلُوا الْقِرَاءَةَ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْهَا مُسْفِرِينَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِالسِّتِّينَ آيَةً إلَى مِائَةِ آيَةٍ نَحْوِ نِصْفِ حِزْبٍ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَبَيَّنَ الْفَجْرُ وَيَظْهَرَ فَلَا يُصَلِّي مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ التَّبَيُّنِ إلَّا يَوْمَ مُزْدَلِفَةَ فَإِنَّهُ قَدَّمَهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى عَادَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ ثُمَّ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَاظَبَ عَلَى أَدَائِهَا . فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْهَا أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ أَوْ فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِهَا ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ ذَلِكَ نَاسِيًا لَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِوُجُوبِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعُذْرِ يَعْتَقِدُ مَعَهُ جَوَازَ التَّأْخِيرِ وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُ عَالِمًا عَمْدًا . فَأَمَّا النَّاسِي لِلصَّلَاةِ : فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا . لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ } وَقَدْ اسْتَفَاضَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ : { أَنَّهُ نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي السَّفَرِ فَصَلَّوْهَا بَعْدَ مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ السُّنَّةَ وَالْفَرِيضَةَ بِأَذَانِ وَإِقَامَةٍ } . وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ طَهَارَةَ الْحَدَثِ وَصَلَّى نَاسِيًا : فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ بِطَهَارَةِ بِلَا نِزَاعٍ حَتَّى لَوْ كَانَ النَّاسِي إمَامًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ وَلَا إعَادَةَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ . كَمَا جَرَى لِعُمَرِ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَأَمَّا مَنْ نَسِيَ طِهَارَةَ الْخَبَثِ فَإِنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَتِلْكَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمَنْ فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ نَاسِيًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِيمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَطَرَدَ ذَلِكَ فِيمَنْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا وَمَنْ تَطَيَّبَ وَلَبِسَ نَاسِيًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ

وَكَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَهُنَا مَسَائِلُ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا : مِثْلَ مَنْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَصَلَّى بِالتَّيَمُّمِ " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلِهَا .
وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهَا : مِثْلُ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِلْفُقَهَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَحَدُهَا : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مُطْلَقًا . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ : إذَا تَرَكَهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ دُونَ دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ جَهْلٍ بِعُذْرِ فِيهِ ؛ بِخِلَافِ دَارِ الْإِسْلَامِ . وَالثَّالِثُ : لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا . وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : أَنَّ حُكْمَ الشَّارِعِ هَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ

الْمُكَلَّفِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخِطَابِ لَهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ وَغَيْرِهِ . أَحَدُهَا يَثْبُتُ مُطْلَقًا . وَالثَّانِي : لَا يَثْبُتُ مُطْلَقًا . وَالثَّالِثُ : يَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ دُونَ الْخِطَابِ النَّاسِخِ كَقَضِيَّةِ أَهْلِ قُبَاء وَكَالنِّزَاعِ الْمَعْرُوفِ فِي الْوَكِيلِ إذَا عُزِلَ . فَهَلْ يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَزْلِ فِي حَقِّهِ قَبْلَ الْعِلْمِ . وَعَلَى هَذَا : لَوْ تَرَكَ الطِّهَارَةَ الْوَاجِبَةَ لِعَدَمِ بُلُوغِ النَّصِّ . مِثْلَ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ الْإِبِلِ وَلَا يَتَوَضَّأَ ثُمَّ يَبْلُغُهُ النَّصُّ وَيَتَبَيَّنُ لَهُ وُجُوبُ الْوُضُوءِ أَوْ يُصَلِّي فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ ثُمَّ يَبْلُغُهُ وَيَتَبَيَّنُ لَهُ النَّصُّ فَهَلْ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا مَضَى ؟ فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَنَظِيرُهُ أَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ . وَيُصَلِّي ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ وُجُوبُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ . وَالصَّحِيحُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَدَمُ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ . لِأَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَلِأَنَّهُ قَالَ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ

رَسُولًا } فَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ أَمْرُ الرَّسُولِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ وَعَمَّارًا لَمَّا أَجْنَبَا فَلَمْ يُصَلِّ عُمَرُ وَصَلَّى عَمَّارٌ بِالتَّمَرُّغِ أَنْ يُعِيدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَكَذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ أَبَا ذَرٍّ بِالْإِعَادَةِ لَمَّا كَانَ يُجْنِبُ وَيَمْكُثُ أَيَّامًا لَا يُصَلِّي وَكَذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَكَلَ مِنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَبْلُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْحَبْلِ الْأَسْوَدِ بِالْقَضَاءِ كَمَا لَمْ يَأْمُرْ مَنْ صَلَّى إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ بُلُوغِ النَّسْخِ لَهُمْ بِالْقَضَاءِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ " الْمُسْتَحَاضَةُ " إذَا مَكَثَتْ مُدَّةً لَا تُصَلِّي لِاعْتِقَادِهَا عَدَمَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا لَا إعَادَةَ عَلَيْهَا . كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ : لِأَنَّ { الْمُسْتَحَاضَةِ الَّتِي قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي حِضْت حَيْضَةً شَدِيدَةً كَبِيرَةً مُنْكَرَةً مَنَعَتْنِي الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ أَمَرَهَا بِمَا يَجِبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِقَضَاءِ صَلَاةِ الْمَاضِي } . وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدِي بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ فِي النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بِالْبَوَادِي وَغَيْرِ الْبَوَادِي مَنْ يَبْلُغُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ ؛ بَلْ إذَا قِيلَ لِلْمَرْأَةِ : صَلِّي تَقُولُ : حَتَّى أَكْبُرَ وَأَصِيرَ عَجُوزَةً ظَانَّةً أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالصَّلَاةِ إلَّا الْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ كَالْعَجُوزِ وَنَحْوِهَا . وَفِي اتِّبَاعِ الشُّيُوخِ

طَوَائِفُ كَثِيرُونَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ فَهَؤُلَاءِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي الصَّحِيحِ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ سَوَاءٌ قِيلَ : كَانُوا كُفَّارًا أَوْ كَانُوا مَعْذُورِينَ بِالْجَهْلِ . وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ خِلَافَهُ وَهُوَ لَا يُصَلِّي أَوْ يُصَلِّي أَحْيَانًا بِلَا وُضُوءٍ أَوْ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ إذَا تَابَ مِنْ نِفَاقِهِ وَصَلَّى فَإِنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُرْتَدُّ الَّذِي كَانَ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ثُمَّ عَادَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ حَالَ الرِّدَّةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ ؛ فَإِنَّ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَغَيْرِهِ مَكَثُوا عَلَى الْكُفْرِ مُدَّةً ثُمَّ أَسْلَمُوا وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِقَضَاءِ مَا تَرَكُوهُ وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّونَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يُؤْمَرُوا بِقَضَاءِ صَلَاةٍ وَلَا غَيْرِهَا . وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَالِمًا بِوُجُوبِهَا وَتَرَكَهَا بِلَا تَأْوِيلٍ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا الْمُوَقَّتِ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّ فِعْلَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِيمَنْ تَرَكَ الصَّوْمَ مُتَعَمِّدًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ . فَاتَتْهُ هَلْ يُصَلِّيهَا بِسُنَنِهَا . أَمْ الْفَرِيضَةُ وَحْدَهَا ؟ وَهَلْ تُقْضَى فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْمُسَارَعَةُ إلَى قَضَاءِ الْفَوَائِتِ الْكَثِيرَةِ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِالنَّوَافِلِ وَأَمَّا مَعَ قِلَّةِ الْفَوَائِتِ فَقَضَاءُ السُّنَنِ مَعَهَا حَسَنٌ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ الصَّلَاةِ - صَلَاةِ الْفَجْرِ - عَامَ حنين قَضَوْا السُّنَّةَ وَالْفَرِيضَةَ . وَلَمَّا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَضَى الْفَرَائِضَ بِلَا سُنَنٍ . وَالْفَوَائِتُ الْمَفْرُوضَةُ تُقْضَى فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
أَيُّهُمَا أَفْضَلُ صَلَاةُ النَّافِلَةِ ؟ أَمْ الْقَضَاءُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَاجِبٌ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي تَشْغَلُ عَنْهُ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامُ :
عَنْ رَجُلٍ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ مِنْ فَرْضِ الظُّهْرِ فَسَلَّمَ ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْهَا إلَّا وَهُوَ فِي فَرْضِ الْعَصْرِ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا فِي التَّحِيَّاتِ . فَمَاذَا يَصْنَعُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ مَأْمُومًا فَإِنَّهُ يُتِمُّ الْعَصْرَ ثُمَّ يَقْضِي الظُّهْرَ وَفِي إعَادَةِ الْعَصْرِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ بَطَلَتْ بِطُولِ الْفَصْلِ وَالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فَاتَتْهُ الظُّهْرُ وَمَنْ فَاتَتْهُ الظُّهْرُ وَحَضَرَتْ جَمَاعَةُ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ هَلْ يُعِيدُ الْعَصْرَ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ . أَحَدُهُمَا : يُعِيدُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَالثَّانِي : لَا يُعِيدُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَاخْتِيَارُ جَدِّي . وَمَتَى ذَكَرَ الْفَائِتَةَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ كَانَ كَمَا لَوْ ذَكَرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْفَائِتَةَ حَتَّى فَرَغَتْ الْحَاضِرَةُ فَإِنَّ الْحَاضِرَةَ تُجْزِئُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَمَّا مَالِكٌ فَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ : فَجَاءَ إلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ الْمَغْرِبَ قَدْ أُقِيمَتْ فَهَلْ يُصَلِّي الْفَائِتَةَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، بَلْ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ يُصَلِّي الْعَصْرَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَكِنْ هَلْ يُعِيدُ الْمَغْرِبَ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : يُعِيدُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَالثَّانِي : لَا يُعِيدُ الْمَغْرِبَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَالثَّانِي أَصَحُّ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ إذَا اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْجَامِعَ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ وَهُوَ لَا يَسْمَعُ كَلَامَ

الْخَطِيبِ فَذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ صَلَاةٍ فَقَضَاهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا ذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ فَائِتَةً وَهُوَ فِي الْخُطْبَةِ يَسْمَعُ الْخَطِيبَ أَوْ لَا يَسْمَعُهُ : فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إذَا أَمْكَنَهُ الْقَضَاءُ وَإِدْرَاكُ الْجُمُعَةِ بَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ لَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيَ عَنْ الْفَرِيضَةِ وَالْفَائِتَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ بَلْ لَا يَتَنَاوَلُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا يَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } " . وَأَيْضًا فَإِنْ فِعْلَ الْفَائِتَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْفَجْرَ } . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا ذَكَرَ الْفَائِتَةَ عِنْدَ قِيَامِهِ إلَى الصَّلَاةِ هَلْ يَبْدَأُ بِالْفَائِتَةِ وَإِنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ ؟ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ يُصَلِّي الْفَائِتَةَ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا . ثُمَّ هَلْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْجُمُعَةِ ظُهْرًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَأَصْلُ هَذَا : أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَوَاتِ

الْقَلِيلَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد بَلْ يَجِبُ عِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْقَلِيلَةِ وَالْكَثِيرَةِ . وَبَيْنَهُمْ نِزَاعٌ فِي حَدِّ الْقَلِيلِ كَذَلِكَ يَجِبُ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا تَرَكَهَا عَمْدًا فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ بِخِلَافِ النَّاسِي . وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ وَفِي لَفْظٍ فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } . وَاخْتَلَفَ الْمُوجِبُونَ لِلتَّرْتِيبِ هَلْ يَسْقُطُ بِضِيقِ الْوَقْتِ . عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . لَكِنَّ أَشْهَرَهُمَا عَنْهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ . وَالْأُخْرَى لَا يَسْقُطُ كَقَوْلِ مَالِكٍ . كَذَلِكَ هَلْ يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ ؟ فِيهِ فِي نِزَاعٌ نَحْوَ هَذَا . وَإِذَا كَانَتْ الْمُسَارَعَةُ إلَى قَضَاءِ الْفَائِتَةِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى الْحَاضِرَةِ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ : كَانَ فِعْلُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ هُوَ الْوَاجِبُ وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِذَا كَانَ يُجَوِّزُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَالْفَائِتَةُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي " اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ " وَهُوَ أَخْذُ الزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ : الَّذِي يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ : ( بَابُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ ) فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الَّذِي يُسْتَرُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ الَّذِي يُسْتَرُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ وَهُوَ الْعَوْرَةُ وَأَخَذَ مَا يُسْتَرُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ قَوْلِهِ : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } ثُمَّ قَالَ { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } يَعْنِي الْبَاطِنَةَ { إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } الْآيَةَ . فَقَالَ : يَجُوزُ لَهَا فِي الصَّلَاةِ أَنْ تُبْدِيَ الزِّينَةَ الظَّاهِرَةَ دُونَ الْبَاطِنَةِ . وَالسَّلَفُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَالَ : ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَنْ وَافَقَهُ ؛ هِيَ الثِّيَابُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ : هِيَ فِي الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ مِثْلُ الْكُحْلِ وَالْخَاتَمِ . وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي النَّظَرِ إلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ . فَقِيلَ : يَجُوزُ النَّظَرُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ إلَى وَجْهِهَا وَيَدَيْهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد .

وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا عَوْرَةٌ حَتَّى ظُفْرِهَا . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ . وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ : أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الزِّينَةَ زِينَتَيْنِ : زِينَةً ظَاهِرَةً وَزِينَةً غَيْرَ ظَاهِرَةٍ وَجَوَّزَ لَهَا إبْدَاءَ زِينَتَهَا الظَّاهِرَةَ لِغَيْرِ الزَّوْجِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ . وَكَانُوا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَةُ الْحِجَابِ كَانَ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ بِلَا جِلْبَابٍ يَرَى الرَّجُلُ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا وَكَانَ إذْ ذَاكَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُظْهِرَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ وَكَانَ حِينَئِذٍ يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا إظْهَارُهُ ثُمَّ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ الْحِجَابِ بِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } حَجَبَ النِّسَاءَ عَنْ الرِّجَالِ وَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فَأَرْخَى السِّتْرَ وَمَنَعَ النِّسَاءَ أَنْ يَنْظُرْنَ وَلَمَّا اصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حيي بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ خَيْبَرَ قَالُوا : إنْ حَجَبَهَا فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ . وَإِلَّا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَحَجَبَهَا . فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ أَنْ لَا يَسْأَلْنَ إلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَأَمَرَ أَزْوَاجَهُ وَبَنَاتَه وَنِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ - و " الْجِلْبَابُ " هُوَ الْمُلَاءَةُ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ الرِّدَاءَ وَتُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ الْإِزَارَ وَهُوَ الْإِزَارُ الْكَبِيرُ الَّذِي يُغَطِّي رَأْسَهَا وَسَائِرَ بَدَنِهَا . وَقَدْ حَكَى أَبُو عَبِيدٍ وَغَيْرُهُ : أَنَّهَا تُدْنِيهِ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا فَلَا تُظْهِرُ إلَّا

عَيْنَهَا وَمِنْ جِنْسِهِ النِّقَابُ : فَكُنَّ النِّسَاءُ يَنْتَقِبْنَ . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْمُحْرِمَةَ لَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ فَإِذَا كُنَّ مَأْمُورَاتٍ بِالْجِلْبَابِ لِئَلَّا يُعْرَفْنَ وَهُوَ سَتْرُ الْوَجْهِ أَوْ سَتْرُ الْوَجْهِ بِالنِّقَابِ : كَانَ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ مِنْ الزِّينَةِ الَّتِي أُمِرَتْ أَلَّا تُظْهِرَهَا لِلْأَجَانِبِ فَمَا بَقِيَ يَحِلُّ لِلْأَجَانِبِ النَّظَرُ إلَّا إلَى الثِّيَابِ الظَّاهِرَةِ فَابْنُ مَسْعُودٍ ذَكَرَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ ذَكَرَ أَوَّلَ الْأَمْرَيْنِ . وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : { أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُبْدِيَ الزِّينَةَ الْبَاطِنَةَ لِمَمْلُوكِهَا . وَفِيهِ قَوْلَانِ : قِيلَ الْمُرَادُ الْإِمَاءُ وَالْإِمَاءُ الْكِتَابِيَّاتُ . كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَرَجَّحَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَقِيلَ : هُوَ الْمَمْلُوكُ الرَّجُلُ : كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد . فَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ نَظَرِ الْعَبْدِ إلَى مَوْلَاتِهِ وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ وَهَذَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إلَى مُخَاطَبَةِ عَبْدِهَا أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهَا إلَى رُؤْيَةِ الشَّاهِدِ وَالْمُعَامِلِ وَالْخَاطِبِ فَإِذَا جَازَ نَظَرُ أُولَئِكَ فَنَظَرُ الْعَبْدِ أَوْلَى وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْرَمًا يُسَافِرُ بِهَا . كَغَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَجُوزُ لَهُمْ النَّظَرُ وَلَيْسُوا مَحَارِمَ يُسَافِرُونَ بِهَا فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ النَّظَرُ جَازَ لَهُ السَّفَرُ بِهَا وَلَا الْخَلْوَةُ بِهَا ؛ بَلْ عَبْدُهَا يَنْظُرُ إلَيْهَا لِلْحَاجَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو بِهَا وَلَا يُسَافِرُ بِهَا

فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ } " فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا عَتَقَ كَمَا يَجُوزُ لِزَوْجِ أُخْتِهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا طَلَّقَ أُخْتَهَا وَالْمَحْرَمُ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ : سَفَرُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا ضَيْعَةٌ . فَالْآيَةُ رَخَّصَتْ فِي إبْدَاءِ الزِّينَةِ لِذَوِي الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِمْ وَحَدِيثُ السَّفَرِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا ذَوُو الْمَحَارِمِ وَذَكَرَ فِي الْآيَةِ نِسَاءَهُنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَغَيْرَ أُولِي الْإِرْبَةِ وَهِيَ لَا تُسَافِرُ مَعَهُمْ . وَقَوْلُهُ : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } قَالَ : احْتِرَازٌ عَنْ النِّسَاءِ الْمُشْرِكَاتِ . فَلَا تَكُونُ الْمُشْرِكَةُ قَابِلَةً لِلْمُسْلِمَةِ وَلَا تَدْخُلُ مَعَهُنَّ الْحَمَّامَ لَكِنْ قَدْ كُنَّ النِّسْوَةُ الْيَهُودِيَّاتُ يَدْخُلْنَ عَلَى عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا فَيَرَيْنَ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَيَكُونُ هَذَا فِي الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ الذِّمِّيَّاتِ وَلَيْسَ لِلذِّمِّيَّاتِ أَنْ يَطَّلِعْنَ عَلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ وَيَكُونُ الظُّهُورُ وَالْبُطُونُ بِحَسَبِ مَا يَجُوزُ لَهَا إظْهَارُهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَقَارِبُهَا تُبْدِي لَهُنَّ الْبَاطِنَةَ وَلِلزَّوْجِ خَاصَّةً لَيْسَتْ لِلْأَقَارِبِ . وَقَوْلُهُ : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تُغَطِّي الْعُنُقَ فَيَكُونُ مِنْ الْبَاطِنِ لَا الظَّاهِرِ مَا فِيهِ مِنْ الْقِلَادَةِ وَغَيْرِهَا .

فَصْلٌ :
فَهَذَا سَتْرُ النِّسَاءِ عَنْ الرِّجَالِ وَسَتْرُ الرِّجَالِ عَنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَنْ النِّسَاءِ فِي الْعَوْرَةِ الْخَاصَّةِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا تَنْظُرُ الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ } " وَكَمَا قَالَ : " { احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا عَنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك . قُلْت : فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضَهُمْ فِي بَعْضٍ قَالَ : إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا يَرَيْنَهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَاهَا قُلْت : فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا . قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ } " . { وَنَهَى أَنْ يُفْضِيَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَالْمَرْأَةُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ } وَقَالَ عَنْ الْأَوْلَادِ : " { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشَرِ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } " فَنَهَى عَنْ النَّظَرِ وَاللَّمْسِ لِعَوْرَةِ النَّظِيرِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْقُبْحِ وَالْفُحْشِ . وَأَمَّا الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فَلِأَجْلِ شَهْوَةِ النِّكَاحِ فَهَذَانِ نَوْعَانِ وَفِي الصَّلَاةِ نَوْعٌ ثَالِثٌ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ صَلَّتْ وَحْدَهَا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِالِاخْتِمَارِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ يَجُوزُ لَهَا كَشْفُ رَأْسِهَا فِي بَيْتِهَا فَأَخْذُ الزِّينَةَ فِي الصَّلَاةِ لِحَقِّ اللَّهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانَا وَلَوْ

كَانَ وَحْدَهُ بِاللَّيْلِ وَلَا يُصَلِّي عُرْيَانَا وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ فَعُلِمَ أَنَّ أَخْذَ الزِّينَةِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ لِيَحْتَجِبَ عَنْ النَّاسِ فَهَذَا نَوْعٌ وَهَذَا نَوْعٌ . وَحِينَئِذٍ فَقَدَ يَسْتُرُ الْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ مَا يَجُوزُ إبْدَاؤُهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَقَدْ يُبْدِي فِي الصَّلَاةِ مَا يَسْتُرُهُ عَنْ الرِّجَالِ : فَالْأَوَّلُ : مِثْلُ الْمَنْكِبَيْنِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ . فَهَذَا لِحَقِّ الصَّلَاةِ وَيَجُوزُ لَهُ كَشْفُ مَنْكِبَيْهِ لِلرِّجَالِ خَارِجَ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ تَخْتَمِرُ فِي الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارِ } " وَهِيَ لَا تَخْتَمِرُ عِنْدَ زَوْجِهَا وَلَا عِنْدَ ذَوِي مَحَارِمِهَا فَقَدْ جَازَ لَهَا إبْدَاءُ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ لِهَؤُلَاءِ وَلَا يَجُوزُ لَهَا فِي الصَّلَاةِ أَنْ يُكْشَفَ رَأْسُهَا لِهَؤُلَاءِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ . وَعَكْسُ ذَلِكَ : الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ وَالْقَدَمَانِ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُبْدِيَ ذَلِكَ لِلْأَجَانِبِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ بِخِلَافِ مَا كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ بَلْ لَا تُبْدِي إلَّا الثِّيَابَ . وَأَمَّا سَتْرُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَجُوزُ لَهَا إبْدَاؤُهُمَا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . فَكَذَلِكَ الْقَدَمُ يَجُوزُ إبْدَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَقْوَى . فَإِنَّ عَائِشَةَ جَعَلَتْهُ مِنْ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ . قَالَتْ : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } قَالَتْ : " الْفَتْخُ " حَلَقٌ

مِنْ فِضَّةٍ تَكُونُ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ . فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُظْهِرْنَ أَقْدَامَهُنَّ أَوَّلًا كَمَا يُظْهِرْنَ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ كُنَّ يُرْخِينَ ذُيُولَهُنَّ فَهِيَ إذَا مَشَتْ قَدْ يَظْهَرُ قَدَمُهَا وَلَمْ يَكُنَّ يَمْشِينَ فِي خِفَافٍ وَأَحْذِيَةٍ وَتَغْطِيَةُ هَذَا فِي الصَّلَاةِ فِيهِ حَرَجٌ عَظِيمٌ . وَأُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ : " تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبٍ سَابِغٍ يُغَطِّي ظَهْرَ قَدَمَيْهَا " فَهِيَ إذَا سَجَدَتْ قَدْ يَبْدُو بَاطِنُ الْقَدَمِ . وَبِالْجُمْلَةِ : قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ أَنْ تَلْبَسَ الْجِلْبَابَ الَّذِي يَسْتُرُهَا إذَا كَانَتْ فِي بَيْتِهَا وَإِنَّمَا ذَلِكَ إذَا خَرَجَتْ . وَحِينَئِذٍ فَتُصَلِّي فِي بَيْتِهَا وَإِنْ رُئِيَ وَجْهُهَا وَيَدَاهَا وَقَدَمَاهَا كَمَا كُنَّ يَمْشِينَ أَوَّلًا قَبْلَ الْأَمْرِ بِإِدْنَاءِ الْجَلَابِيبِ عَلَيْهِنَّ فَلَيْسَتْ الْعَوْرَةُ فِي الصَّلَاةِ مُرْتَبِطَةً بِعَوْرَةِ النَّظَرِ لَا طَرْدًا وَلَا عَكْسًا . وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَالَ : الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ هِيَ الثِّيَابُ لَمْ يَقُلْ إنَّهَا كُلَّهَا عَوْرَةٌ حَتَّى ظُفْرِهَا بَلْ هَذَا قَوْلُ أَحْمَد يَعْنِي أَنَّهَا تُشْتَرَطُ فِي الصَّلَاةِ ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يُسَمُّونَ ذَلِكَ : ( بَابُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَلْفَاظِ الرَّسُولِ وَلَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَا يَسْتُرُهُ . الْمُصَلِّي فَهُوَ عَوْرَةٌ ؛ بَلْ قَالَ تَعَالَى : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } { وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانَا } فَالصَّلَاةُ أَوْلَى . وَسُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ . فَقَالَ : " { أو لِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ ؟ }

وَقَالَ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ : { إنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاِتَّزِرْ بِهِ } " " { وَنَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ } . فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ فِي الصَّلَاةِ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ : الْفَخْذِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ جَوَّزْنَا لِلرَّجُلِ النَّظَرَ إلَى ذَلِكَ . فَإِذَا قُلْنَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد : أَنَّ الْعَوْرَةَ السَّوْأَتَانِ وَأَنَّ الْفَخْذَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةِ فَهَذَا فِي جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَيْهَا ؛ لَيْسَ هُوَ فِي الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مَكْشُوفَ الْفَخْذَيْنِ سَوَاءٌ قِيلَ هُمَا عَوْرَةٌ أَوْ لَا . وَلَا يَطُوفَ عُرْيَانَا . بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ إنْ كَانَ ضَيِّقًا اتَّزَرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا الْتَحَفَ بِهِ ؛ كَمَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّى وَحْدَهُ فِي بَيْتٍ كَانَ عَلَيْهِ تَغْطِيَةُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّجُلِ بَادِيَ الْفَخْذَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِزَارِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَمَنْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْعَوْرَةِ كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَةٌ فَقَدْ غَلِطُوا ؛ وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ : أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُصَلِّي عَلَى هَذِهِ الْحَالِ . كَيْفَ وَأَحْمَد يَأْمُرُهُ بِسَتْرِ الْمَنْكِبَيْنِ فَكَيْفَ يُبِيحُ لَهُ كَشْفَ الْفَخْذِ فَهَذَا هَذَا .

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ إذَا كَانَ الرَّجُلُ خَالِيًا وَلَمْ يُخْتَلَف فِي أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَا بُدَّ مِنْ اللِّبَاسِ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عُرْيَانَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى اللِّبَاسِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ لِلْعُرَاةِ أَنْ يُصَلُّوا قُعُودًا وَيَكُونُ إمَامُهُمْ وَسَطَهُمْ بِخِلَافِ خَارِجِ الصَّلَاةِ وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ لَا لِأَجْلِ النَّظَرِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ { بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ لَمَّا قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا . قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ } " فَإِذَا كَانَ هَذَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ فَتُؤْخَذُ الزِّينَةُ لِمُنَاجَاتِهِ سُبْحَانَهُ . وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ لِغُلَامِهِ نَافِعٍ لَمَّا رَآهُ يُصَلِّي حَاسِرًا : أَرَأَيْت لَوْ خَرَجْت إلَى النَّاسِ كُنْت تَخْرُجُ هَكَذَا ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ مَنْ يُتَجَمَّلُ لَهُ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا قِيلَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا . فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ } . وَهَذَا كَمَا أَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِالطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ . وَالطِّيبِ فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُتَّخَذَ الْمَسَاجِدُ فِي الْبُيُوتِ وَتُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ وَعَلَى هَذَا فَيَسْتَتِرُ فِي الصَّلَاةِ أَبْلَغَ مِمَّا يَسْتَتِرُ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ . وَلِهَذَا أُمِرَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَخْتَمِرَ فِي الصَّلَاةِ وَأَمَّا وَجْهُهَا

وَيَدَاهَا وَقَدَمَاهَا فَهِيَ إنَّمَا نُهِيَتْ عَنْ إبْدَاءِ ذَلِكَ لِلْأَجَانِبِ لَمْ تَنْهَ عَنْ إبْدَائِهِ لِلنِّسَاءِ وَلَا لِذَوِي الْمَحَارِمِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ عَوْرَةِ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا ؛ لِأَجْلِ الْفُحْشِ وَقُبْحِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ . بَلْ هَذَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْفَاحِشَةِ فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ إبْدَائِهَا نَهْيًا عَنْ مُقَدِّمَاتِ الْفَاحِشَةِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ : { ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ } وَقَالَ فِي آيَةِ الْحِجَابِ : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } فَنَهَى عَنْ هَذَا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ ؛ لَا أَنَّهُ عَوْرَةٌ مُطْلَقَةٌ لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا غَيْرِهَا فَهَذَا هَذَا . وَأَمْرُ الْمَرْأَةِ فِي الصَّلَاةِ بِتَغْطِيَةِ يَدَيْهَا بَعِيدٌ جِدًّا وَالْيَدَانِ يَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ وَالنِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ لَهُنَّ قُمَّصٌ وَكُنَّ يَصْنَعْنَ الصَّنَائِعَ والقمص عَلَيْهِنَّ فَتُبْدِي الْمَرْأَةُ يَدَيْهَا إذَا عَجَنَتْ وَطَحَنَتْ وَخَبَزَتْ وَلَوْ كَانَ سَتْرُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . كَذَلِكَ الْقَدَمَانِ . وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْخِمَارِ فَقَطْ مَعَ الْقَمِيصِ فَكُنَّ يُصَلِّينَ بقمصهن وَخُمُرِهِنَّ : { وَأَمَّا الثَّوْبُ الَّتِي كَانَتْ الْمَرْأَةُ تُرْخِيهِ وَسَأَلَتْ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : شِبْرًا فَقُلْنَ : إذَنْ تَبْدُو سُوقُهُنَّ فَقَالَ : ذِرَاعٌ لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ } . وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ :

كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا * * * وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ
فَهَذَا كَانَ إذَا خَرَجْنَ مِنْ الْبُيُوتِ ؛ وَلِهَذَا { سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَجُرُّ ذَيْلَهَا عَلَى الْمَكَانِ الْقَذِرِ فَقَالَ : يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ } " . وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْبَيْتِ فَلَمْ تَكُنْ تَلْبَسُ ذَلِكَ . كَمَا أَنَّ الْخِفَافَ اتَّخَذَهَا النِّسَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ لِسَتْرِ السُّوقِ إذَا خَرَجْنَ وَهُنَّ لَا يَلْبَسْنَهَا فِي الْبُيُوتِ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَ : إذَنْ تَبْدُوا سُوقُهُنَّ . فَكَانَ الْمَقْصُودُ تَغْطِيَةَ السَّاقِ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ إذَا كَانَ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ بَدَا السَّاقُ عِنْدَ الْمَشْيِ . وَقَدْ رُوِيَ : { أَعْرُوا النِّسَاءَ يَلْزَمْنَ الْحِجَالَ } يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَا تَلْبَسُهُ فِي الْخُرُوجِ لَزِمَتْ الْبَيْتَ وَكُنَّ نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ يُصَلِّينَ فِي بُيُوتِهِنَّ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ } " وَلَمْ يُؤْمَرْنَ مَعَ القمص إلَّا بِالْخُمُرِ لَمْ تُؤْمَرْ بِسَرَاوِيلَ لِأَنَّ الْقَمِيصَ يُغْنِي عَنْهُ وَلَمْ تُؤْمَرْ بِمَا يُغَطِّي رِجْلَيْهَا لَا خُفٍّ وَلَا جَوْرَبٍ وَلَا بِمَا يُغَطِّي يَدَيْهَا لَا بِقُفَّازَيْنِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ سَتْرُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا رِجَالٌ أَجَانِبُ . وَقَدْ رُوِيَ : { أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَنْظُرُ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ فَإِذَا وَضَعَتْ خِمَارَهَا وَقَمِيصَهَا لَمْ يُنْظَرْ إلَيْهَا } وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْ خَدِيجَةَ .

فَهَذَا الْقَدْرُ لِلْقَمِيصِ وَالْخِمَارِ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ لِحَقِّ الصَّلَاةِ كَمَا يُؤْمَرُ الرَّجُلُ إذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاسِعٍ أَنْ يَلْتَحِفَ بِهِ فَيُغَطِّي عَوْرَتَهُ وَمَنْكِبَيْهِ فَالْمَنْكِبَانِ فِي حَقِّهِ كَالرَّأْسِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يُصَلِّي فِي قَمِيصٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْقَمِيصِ . وَهُوَ فِي الْإِحْرَامِ لَا يَلْبَسُ عَلَى بَدَنِهِ مَا يُقَدِّرُ لَهُ كَالْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ . وَأَمَّا رَأْسُهُ فَلَا يُخَمِّرُهُ وَوَجْهُ الْمَرْأَةِ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ قِيلَ : إنَّهُ كَرَأْسِ الرَّجُلِ فَلَا يُغَطَّى . وَقِيلَ : إنَّهُ كَيَدَيْهِ فَلَا تُغَطَّى بِالنِّقَابِ وَالْبُرْقُعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا صُنِعَ عَلَى قَدْرِهِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ إلَّا عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ . وَكُنَّ النِّسَاءُ يُدْنِينَ عَلَى وُجُوهِهِنَّ مَا يَسْتُرُهَا مِنْ الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ وَضْعِ مَا يُجَافِيهَا عَنْ الْوَجْهِ فَعُلِمَ أَنَّ وَجْهَهَا كَيَدَيْ الرَّجُلِ وَيَدَيْهَا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَهَا أَنْ تُغَطِّيَ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا لَكِنْ بِغَيْرِ اللِّبَاسِ الْمَصْنُوعِ بِقَدْرِ الْعُضْوِ كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ وَيَلْبَسُ الْإِزَارَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ الصَّلَاةِ فِي النَّعْلِ وَنَحْوِهِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الصَّلَاةُ فِي النَّعْلِ وَنَحْوِهِ مِثْلَ الْجُمْجُمِ وَالْمَدَاسِ والزربول وَغَيْرِ ذَلِكَ : فَلَا يُكْرَهُ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ } فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ . وَإِذَا عُلِمَتْ طَهَارَتُهَا لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا إذَا تُيُقِّنَ نَجَاسَتُهَا فَلَا يُصَلِّي فِيهَا حَتَّى تُطَهَّرَ . لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ إذَا دُلِكَ النَّعْلُ بِالْأَرْضِ طَهُرَ بِذَلِكَ . كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ سَوَاءٌ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عُذْرَةً أَوْ غَيْرَ عُذْرَةٍ . فَإِنَّ أَسْفَلَ النَّعْلِ مَحَلُّ تَكَرُّرِ مُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ لَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّبِيلَيْنِ فَلَمَّا كَانَ إزَالَتُهُ عَنْهَا بِالْحِجَارَةِ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا .

وَإِذَا شَكَّ فِي نَجَاسَةٍ أَسْفَلَ الْخُفِّ لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ فِيهِ وَلَوْ تَيَقَّنَ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ كَانَ نَجِسًا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ كَذَلِكَ غَيْرُهُ كَالْبَدَنِ وَالثِّيَابِ وَالْأَرْضِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ لُبْسِ الْقَبَاءِ فِي الصَّلَاةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي أَكْمَامِهِ هَلْ يُكْرَهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا بَأْسَ بِذَلِكَ . فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ ذَكَرُوا جَوَازَ ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ السَّدْلِ الْمَكْرُوهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُشَابَهَةِ الْيَهُودِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ اللُّبْسَةَ لَيْسَتْ مِنْ مَلَابِسِ الْيَهُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْفِرَاءِ مِنْ جُلُودِ الْوُحُوشِ هَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا جِلْدُ الْأَرْنَبِ فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ وَأَمَّا الثَّعْلَبُ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِيهِ وَجِلْدُ الضَّبُعِ كَذَلِكَ كُلُّ جِلْدٍ غَيْرِ جُلُودِ السِّبَاعِ التي نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِهَا .

وَسُئِلَ :
عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهَا فِي الصَّلَاةِ هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا انْكَشَفَ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ شَعْرِهَا وَبَدَنِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا الْإِعَادَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد ، وَإِنْ انْكَشَفَ شَيْءٌ كَثِيرٌ أَعَادَتْ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ :
عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا صَلَّتْ وَظَاهِرُ قَدَمِهَا مَكْشُوفٌ ، هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهَا ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ صَلَاتُهَا جَائِزَةٌ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ .

وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ فِي " مَحَبَّةِ الْجَمَالِ " (*)
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَفِي رِوَايَةٍ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ فَقَالَ : رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ . } فَقَوْلُهُ : " { إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجِمَالَ } " قَدْ أَدْرَجَ فِيهِ حُسْنَ الثِّيَابِ الَّتِي هِيَ الْمَسْئُولُ عَنْهَا فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْجَمِيلَ مِنْ النَّاسِ وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ بِطَرِيقِ الْفَحْوَى الْجَمِيلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ : " { إنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ } " . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ : " { إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا } "

وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّجَمُّلِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْت هَذِهِ تَلْبَسُهَا فَقَالَ : إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ } " وَهَذَا يُوَافِقُهُ فِي حُسْنِ الثِّيَابِ مَا فِي السُّنَنِ { عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ الجشمي قَالَ : رَآنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيَّ أَطْمَارٌ فَقَالَ : هَلْ لَك مِنْ مَالٍ ؟ قُلْت : نَعَمْ قَالَ : مِنْ أَيِّ الْمَالِ قُلْت : مِنْ كُلِّ مَا آتَانِي اللَّهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالشَّاءِ قَالَ : فَلْتَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْك وَكَرَامَتَهُ عَلَيْك } . وَفِيهَا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ } لَكِنَّ هَذَا لِظُهُورِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شُكْرِهِ وَأَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُشْكَرَ وَذَلِكَ لِمَحَبَّةِ الْجَمَالِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ضَلَّ قَوْمٌ بِمَا تَأَوَّلُوهُ رَأَوْهُ مُعَارِضًا . وَكُلُّ مَصْنُوعِ الرَّبِّ جَمِيلٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } فَيُحِبُّ كُلَّ شَيْءٍ وَقَدْ يَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ : الْمَحَبَّةُ نَارٌ تُحْرِقُ مِنْ الْقَلْبِ كُلَّ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ

وَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا مُرَادَةٌ لَهُ وَهَؤُلَاءِ يُصَرِّحُ أَحَدُهُمْ بِإِطْلَاقِ الْجَمَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَقَلُّ مَا يُصِيبُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ الْغِيرَةَ لِلَّهِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُتَنَاقِضُونَ إذْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الرِّضَا بِكُلِّ مَوْجُودٍ . فَإِنَّ الْمُنْكَرَاتِ هِيَ أُمُورٌ مُضِرَّةٌ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فَيَبْقَى أَحَدُهُمْ مَعَ طَبْعِهِ وَذَوْقِهِ وَيَنْسَلِخُونَ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَرُبَّمَا دَخَلَ أَحَدُهُمْ فِي الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ الْمُطْلَقِ وَفِيهِمْ مَنْ يَخُصُّ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْمَسِيحِ أَوْ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا أَوْ الْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ والمردان . فَيَقُولُونَ : بِحُلُولِهِ فِي الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ وَيَعْبُدُونَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ بَلْ يَتَدَيَّنُ بِحُبِّ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ مِنْ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ والمردان وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَرَى هَذَا مِنْ الْجَمَالِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ فَيُحِبُّهُ هُوَ وَيُلْبِسُ الْمَحَبَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ الْمُحَرَّمَةَ بِالْمَحَبَّةِ الدِّينِيَّةِ وَيَجْعَلُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِمَّا يُقَرِّبُ إلَيْهِ { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } وَالْآخَرُونَ قَالُوا : قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ

هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا } وَالْأَثَاثُ الْمَالُ مِنْ اللِّبَاسِ وَنَحْوِهِ . وَالرِّئْيُ الْمَنْظَرُ . فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ قَبْلَهُمْ كَانُوا أَحْسَنَ صُوَرًا وَأَحْسَنَ أَثَاثًا وَأَمْوَالًا لِيُبَيِّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ عِنْدَهُ وَلَا يَعْبَأُ بِهِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إلَّا بِالتَّقْوَى } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { الْبَذَاذَةُ مِنْ الْإِيمَانِ } وَأَيْضًا فَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْنَا مِنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمَ الْجَمَالِ فِي الدُّنْيَا وَحَرَّمَ اللَّهُ الْفَخْرَ وَالْخُيَلَاءَ وَاللِّبَاسَ الَّذِي فِيهِ الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ كَإِطَالَةِ الثِّيَابِ حَتَّى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا } " وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إزَارَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } فَأَخْبَرَ أَنَّ لِبَاسَ التَّقْوَى خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ قَارُونَ : { فَخَرَجَ عَلَى

قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } . قَالُوا : بِثِيَابِ الْأُرْجُوَانِ . وَلِهَذَا ثَبَتَ { عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ : إنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهُمَا . قُلْت : أَغْسِلُهُمَا قَالَ : اُحْرُقْهُمَا } وَلِهَذَا كَرِهَ الْعُلَمَاءُ الْأَحْمَرَ الْمُشَبَّعَ حُمْرَةً كَمَا جَاءَ النَّهْيُ عَنْ الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : دَعُوا هَذِهِ الْبَرَّاقَاتِ لِلنِّسَاءِ . وَالْآثَارُ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ كَثِيرَةٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } إلَى قَوْلِهِ { وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : " { سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ : اصْرِفْ بَصَرَك } وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ : { يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الْآخِرَةُ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } وَقَالَ : { لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ } إلَى قَوْلِهِ { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى - مَعَ ذَمِّهِ لِمَا ذَمَّهُ مِنْ

هَذِهِ الزِّينَةِ - : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . فَنَقُولُ : اعْلَمْ أَنَّ مَا يَصِفُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِلْأَجْنَاسِ . الْمَحْبُوبَةِ وَمَا يُبْغِضُهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مِثْلُ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَيَنْهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ هُمَا أَصْلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَذَلِكَ نَظِيرُ مَا يَعِدُهُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ مِنْ الثَّوَابِ وَيَتَوَعَّدُ بِهِ عَلَى الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ مِنْ الْعِقَابِ فَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَوَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ وَحُبُّهُ وَبُغْضُهُ وَثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ . . . (1) .
وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لِتَعَلُّقِهَا بِأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ فَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ شُعَبِهَا " مَسْأَلَةُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " فِي فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ . وَهَلْ يَجْتَمِعُ فِي حَقِّ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَمْ لَا يَجْتَمِعُ ذَلِكَ ؟ كَمَا يَقُولُهُ جُمْهُورُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ . وَهَلْ يَكُونُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مَحْبُوبًا مِنْ وَجْهٍ مَبْغُوضًا مِنْ وَجْهٍ مَحْمُودًا مِنْ وَجْهٍ مَذْمُومًا مِنْ وَجْهٍ ؟ وَقَدْ تَنَازَعَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَغَيْرِهِمْ . وَالتَّعَارُضُ بَيْنَ النُّصُوصِ إنَّمَا هُوَ لِتَعَارُضِ الْمُقْتَضِي لِلْحَمْدِ وَالذَّمِّ مِنْ الصِّفَاتِ

الْقَائِمَةِ بِذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْجِنْسُ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ وَالْفِتْنَةِ . فَأَوَّلُ مَسْأَلَةٍ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْأُمَّةِ مَسْأَلَةُ الْفَاسِقِ الْمَلِيِّ فَأَدْرَجَتْهُ الْخَوَارِجُ فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ فَخَلَّدُوهُ فِي النَّارِ لَكِنْ لَمْ يَحْكُمُوا بِكُفْرِهِ فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ خَيْرًا مَحْضًا لَمْ يُوجِبْ فُرْقَةً وَلَوْ كَانَ شَرًّا مَحْضًا لَمْ يَخْفَ أَمْرُهُ لَكِنْ لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ أَوْجَبَ الْفِتْنَةَ . وَكَذَلِكَ " مَسْأَلَةُ الْقَدَرِ " الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْأَفْعَالِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّهَا مُرَادَةٌ لَهُ لِكَوْنِهَا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَأَنَّهَا غَيْرُ مَحْبُوبَةٍ لَهُ بَلْ مَمْقُوتَةٌ مَبْغُوضَةٌ فَأَثْبَتُوا وُجُودَ الْكَائِنَاتِ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ غَيْلَانُ الْقَدَرِيُّ لِرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ : يَا رَبِيعَةُ نَشَدْتُك اللَّهَ أَتَرَى اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُعْصَى ؟ فَقَالَ لَهُ رَبِيعَةُ : أَفْتَرَى اللَّهَ يُعْصَى قَسْرًا فَكَأَنَّهُ أَلْقَمَهُ حَجَرًا . يَقُولُ لَهُ : نَزَّهْته عَنْ مَحَبَّةِ الْمَعَاصِي فَسَلَبْته الْإِرَادَةَ وَالْقُدْرَةَ وَجَعَلْته مَقْهُورًا مَقْسُورًا . وَقَالَ مَنْ عَارَضَ الْقَدَرِيَّةَ بَلْ كُلُّ مَا أَرَادَهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ وَلَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ مَرْضِيًّا . وَقَالُوا أَيْضًا : يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ

فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ وَرُبَّمَا قَالُوا : وَلَمْ يُحِبَّهُ وَلَمْ يَرْضَهُ إلَّا إذَا وُجِدَ . قَالُوا . وَلَكِنْ أَمَرَ بِهِ وَطَلَبَهُ . فَقِيلَ لَهُمْ : هَلْ يَكُونُ طَلَبٌ وَإِرَادَةٌ وَاسْتِدْعَاءٌ بِلَا إرَادَةٍ وَلَا مَحَبَّةٍ وَلَا رِضًى . هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَتَحَيَّرُوا . فَأُولَئِكَ سَلَبُوا الرَّبَّ خَلْقَهُ وَقُدْرَتَهُ وَإِرَادَتَهُ الْعَامَّةَ وَهَؤُلَاءِ سَلَبُوهُ مَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ وَإِرَادَتَهُ الدِّينِيَّةَ وَمَا تَضَمَّنَهُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ مِنْ ذَلِكَ . فَكَمَا أَنَّ الْأَوَّلِينَ لَمْ يُثْبِتُوا أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَكُونُ مُثَابًا مُعَاقَبًا : بَلْ إمَّا مُثَابًا وَإِمَّا مُعَاقَبًا فَهَؤُلَاءِ لَمْ يُثْبِتُوا أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ يَكُونُ مُرَادًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ مُرَادًا غَيْرَ مَحْبُوبٍ بَلْ إمَّا مُرَادٌ مَحْبُوبٌ وَإِمَّا غَيْرُ مُرَادٍ وَلَا مَحْبُوبٍ . وَكَمَا تَفَرَّقُوا فِي صِفَاتِ الْخَالِقِ تَفَرَّقُوا فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ فَأُولَئِكَ لَمْ يُثْبِتُوا إلَّا قُدْرَةً وَاحِدَةً تَكُونُ قَبْلَ الْفِعْلِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ إلَّا قُدْرَةً وَاحِدَةً تَكُونُ مَعَ الْفِعْلِ . أُولَئِكَ نَفَوْا الْقُدْرَةَ الْكَوْنِيَّةَ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الْفِعْلُ وَهَؤُلَاءِ نَفَوْا الْقُدْرَةَ الدِّينِيَّةَ الَّتِي بِهَا يَأْمُرُ اللَّهُ الْعَبْدَ وَيَنْهَاهُ وَهَذَا مِنْ أُصُولِ تُفَرِّقْهُمْ فِي " مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ " . وَانْقَسَمُوا إلَى قَدَرِيَّةٍ مَجُوسِيَّةٍ ؛ تُثْبِتُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَتَنْفِي الْقَضَاءَ وَالْقَدْرَ . وَإِلَى قَدَرِيَّةٍ مشركية شَرٍّ مِنْهُمْ : تُثْبِتُ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَتُكَذِّبُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَوْ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَإِلَى قَدَرِيَّةٍ إبليسية : تُصَدِّقُ بِالْأَمْرِ لَكِنْ تَرَى ذَلِكَ تَنَاقُضًا مُخَالِفًا لِلْحَقِّ وَالْحِكْمَةِ وَهَذَا

شَأْنُ عَامَّةِ مَا تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَسْبَابُ وَالدَّلَائِلُ . تَجِدُ فَرِيقًا يَقُولُونَ : بِهَذَا دُونَ هَذَا وَفَرِيقًا بِالْعَكْسِ أَوْ الْأَمْرَيْنِ فَاعْتَقَدُوا تَنَاقُضَهُمَا فَصَارُوا مُتَحَيِّرِينَ مُعْرِضِينَ عَنْ التَّصْدِيقِ بِهِمَا جَمِيعًا وَمُتَنَاقِضِينَ مَعَ هَذَا تَارَةً وَمَعَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَجِدُهُ فِي مَسَائِلِ الْكَلَامِ وَالِاعْتِقَادَاتِ وَمَسَائِلِ الْإِرَادَةِ وَالْعِبَادَاتِ . كَمَسْأَلَةِ السَّمَاعِ الصَّوْتِيِّ وَمَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَمَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ . وَأَصْلُ هَذَا كُلِّهِ : هُوَ الْعَدْلُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ . وَبَيَّنَّا أَنَّ الْعَدْلَ جِمَاعُ الدِّينِ وَالْحَقِّ وَالْخَيْرِ كُلِّهِ : فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَالْعَدْلُ الْحَقِيقِيُّ قَدْ يَكُونُ مُتَعَذَّرًا أَوْ مُتَعَسِّرًا إمَّا عِلْمُهُ وَإِمَّا الْعَمَلُ بِهِ لِكَوْنِ التَّمَاثُلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ أَوْ غَيْرَ مَعْلُومٍ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مَا كَانَ أَشْبَهَ بِالْعَدْلِ وَأَقْرَبَ إلَيْهِ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى ؛ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } .

وَسُئِلَ :
عَنْ الْمُتَنَزِّهِ عَنْ الْأَقْمِشَةِ الثَّمِينَةِ مِثْلِ الْحَرِيرِ وَالْكَتَّانِ الْمُتَغَالَى فِي تَحْسِينِهِ وَمَا نَاسَبَهَا : هَلْ فِي تَرْكِ ذَلِكَ أَجْرٌ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالْحَرِيرِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ كَمَا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ } وَقَالَ عَنْ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ : { هَذَا حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا } . وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ : فَيُثَابُ عَلَى تَرْكِ فُضُولِهَا وَهُوَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ دِينِهِ كَمَا أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْمُبَاحَاتِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ النَّارِ : { إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } { وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَآتِ

ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } { إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } . وَالْإِسْرَافُ فِي الْمُبَاحَاتِ هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَهُوَ مِنْ الْعُدْوَانِ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكُ فُضُولِهَا هُوَ مِنْ الزُّهْدِ الْمُبَاحِ . وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلِ الْمُبَاحَاتِ مُطْلَقًا كَاَلَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ وَأَكْلِ الْخُبْزِ أَوْ شُرْبِ الْمَاءِ أَوْ لُبْسِ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَلَا يَلْبَسُ إلَّا الصُّوفَ وَيَمْتَنِعُ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِنْ الزُّهْدِ الْمُسْتَحَبِّ فَهَذَا جَاهِلٌ ضَالٌّ مِنْ جِنْسِ زُهَّادِ النَّصَارَى . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى تَرْكِ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ . كَاللَّحْمِ وَنَحْوِهِ وَتَرْكِ النِّكَاحِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ وَيَقُولُ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَلَا أَنَامُ وَيَقُولُ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ . لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } .

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ . فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرُوهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ وَأَنْ يَتَكَلَّمَ وَأَنْ يَجْلِسَ وَيُتِمَّ صَوْمَهُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } . فَأَمَرَ بِالْأَكْلِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَالشُّكْرِ لَهُ وَالطَّيِّبُ هُوَ مَا يَنْفَعُ الْإِنْسَانَ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ وَهُوَ مَا يَضُرُّهُ وَأَمَرَ بِشُكْرِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْذُورِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَلَى الْعَبْدِ يَأْكُلُ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } فَمَنْ أَكَلَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَلَمْ يَشْكُرْ وَلَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا كَانَ مُعَاقَبًا عَلَى مَا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ الطَّيِّبَاتُ . فَإِنَّهُ إنَّمَا أَحَلَّهَا لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَاعَتِهِ ؛ لَا لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى مَعْصِيَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } وَقَالَ الْخَلِيلُ :

{ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَانَ الْإِنْسَانُ بِالْمُبَاحَاتِ عَلَى الْمَعَاصِي مِثْلَ مَنْ يُعْطِي الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ لِمَنْ يَشْرَبُ عَلَيْهِ الْخَمْرَ وَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْفَوَاحِشِ . وَمَنْ حَرَّمَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَاعْتَقَدَ أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ مُطْلَقًا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهِ لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ كَانَ مُعْتَدِيًا مُعَاقَبًا عَلَى تَحْرِيمِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَعَلَى تَعَبُّدِهِ لِلَّهِ تَعَالَى بالرهبانية وَرَغْبَتِهِ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . كَذَلِكَ مَنْ أَسْرَفَ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ : كَسَرْدِ الصَّوْمِ وَمُدَاوَمَةِ قِيَامِ اللَّيْلِ حَتَّى يُضْعِفَهُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو : " { إنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا وَلِأَهْلِك عَلَيْك حَقًّا وَلِزَوْجِك عَلَيْك حَقًّا فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ } .
فَأَصْلُ الدِّينِ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ . فَمَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ

إلَى اللَّهِ بِأَفْضَلَ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يُحِبَّهُ . فَالنَّوَافِلُ الْمُسْتَحَبَّةُ الَّتِي لَا تَمْنَعُ الْوَاجِبَاتِ : مِمَّا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الدَّرَجَاتِ وَتَرْكُ فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ وَهُوَ مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا لِفِعْلِ وَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ مَعَ الْإِيثَارِ بِهَا مِمَّا يُثِيبُ اللَّهُ فَاعِلَهُ عَلَيْهِ وَمَنْ تَرَكَهَا لِمُجَرَّدِ الْبُخْلِ لَا لِلتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا . وَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الْأَنْوَاعِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ بِتَرْكِهَا فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَمَنْ تَنَاوَلَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ مُظْهِرًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ مُسْتَعِينًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ كَانَ مُثَابًا عَلَى ذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } أَيْ عَنْ شُكْرِ النَّعِيمِ فَيُطَالَبُ الْعَبْدُ بِأَدَاءِ شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى النَّعِيمِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُعَاقِبُ عَلَى مَا أَبَاحَ وَإِنَّمَا يُعَاقِبُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ وَفِعْلِ مَحْذُورٍ . وَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ الْجَامِعَةُ تُبَيِّنُ الْمَسَائِلَ الْمَذْكُورَةَ وَغَيْرَهَا . وَأَمَّا الْحَرِيرُ : فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ مُسْتَثْنَاةٍ فَمَنْ لَبِسَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ آثِمٌ . وَأَمَّا الْكَتَّانُ وَالْقُطْنُ وَنَحْوُهُمَا فَمَنْ تَرَكَهُ مَعَ الْحَاجَةِ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ وَمَنْ أَسْرَفَ فِيهِ فَهُوَ مَذْمُومٌ . وَمَنْ تَجَمَّلَ بِلُبْسِهِ إظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فَهُوَ مَشْكُورٌ عَلَى ذَلِكَ

فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ إذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ بِنِعْمَةِ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعَمِهِ عَلَيْهِ } " وَقَالَ : " { إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ } وَمَنْ تَرَكَ لُبْسَ الرَّفِيعِ مِنْ الثِّيَابِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ لَا بُخْلًا وَلَا الْتِزَامًا لِلتَّرْكِ مُطْلَقًا فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَكْسُوهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ . وَتُكْرَهُ الشُّهْرَةُ مِنْ الثِّيَابِ وَهُوَ الْمُتَرَفِّعُ الْخَارِجُ عَنْ الْعَادَةِ وَالْمُتَخَفِّضُ الْخَارِجُ عَنْ الْعَادَةِ ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الشهرتين الْمُتَرَفِّعَ وَالْمُتَخَفِّضَ وَفِي الْحَدِيثِ " { مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ } " . وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا . وَالْفِعْلُ الْوَاحِدُ فِي الظَّاهِرِ يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِهِ مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَيُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ مَعَ النِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ فَمَنْ حَجَّ مَاشِيًا لِقُوَّتِهِ عَلَى الْمَشْيِ وَآثَرَ بِالنَّفَقَةِ كَانَ مَأْجُورًا أَجْرَيْنِ أَجْرَ الْمَشْيِ وَأَجْرَ الْإِيثَارِ . وَمَنْ حَجَّ مَاشِيًا بُخْلًا بِالْمَالِ إضْرَارًا بِنَفْسِهِ كَانَ آثِمًا إثْمَيْنِ : إثْمَ الْبُخْلِ وَإِثْمَ الْإِضْرَارِ وَمَنْ حَجَّ رَاكِبًا ؛ لِضَعْفِهِ عَنْ الْمَشْيِ وَلِلِاسْتِعَانَةِ بِذَلِكَ عَلَى رَاحَتِهِ لِيَتَقَوَّى بِذَلِكَ عَلَى الْعِبَادَةِ كَانَ مَأْجُورًا أَجْرَيْنِ وَمَنْ حَجَّ رَاكِبًا يَظْلِمُ الْجَمَّالَ وَالْحَمَّالَ كَانَ آثِمًا إثْمَيْنِ . وَكَذَلِكَ اللِّبَاسُ : فَمَنْ تَرَكَ جَمِيلَ الثِّيَابِ بُخْلًا بِالْمَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ وَمَنْ تَرَكَهُ مُتَعَبِّدًا بِتَحْرِيمِ الْمُبَاحَاتِ كَانَ آثِمًا وَمَنْ لَبِسَ

جَمِيلَ الثِّيَابِ إظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ وَاسْتِعَانَةً عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ كَانَ مَأْجُورًا . وَمَنْ لَبِسَهُ فَخْرًا وَخُيَلَاءَ كَانَ آثِمًا . فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ . وَلِهَذَا حَرَّمَ إطَالَةَ الثَّوْبِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { مَنْ جَرَّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَيْهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ طَرَفَ إزَارِي يَسْتَرْخِي إلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ إنَّك لَسْت مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ إذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ وَنَحْوُهَا تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ عِلْمِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ يَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْحَرِيرِ الْمَحْضِ : هَلْ يَجُوزُ لِلْخَيَّاطِ خِيَاطَتُهُ لِلرِّجَالِ ؟ وَهَلْ أُجْرَتُهُ حَرَامٌ ؟ وَهَلْ يُنْكَرُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ ؟ وَهَلْ تُبَاحُ الْخِيَاطَةُ بِخُيُوطِ الْحَرِيرِ فِي غَيْرِ الْحَرِيرِ ؟ وَهَلْ تَجُوزُ خِيَاطَتُهُ لِلنِّسَاءِ ؟ .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَجُوزُ خِيَاطَةُ الْحَرِيرِ لِمَنْ يَلْبَسُ لِبَاسًا مُحَرَّمًا . مِثْلَ لُبْسِ الرَّجُلِ لِلْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ وَلِغَيْرِ التَّدَاوِي فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ . وَكَذَلِكَ صَنْعَةُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ صَنْعَةُ آلَاتِ الْمَلَاهِي وَمِثْلَ تَصْوِيرِ الْحَيَوَانِ وَتَصْوِيرِ الْأَوْثَانِ وَالصُّلْبَانِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ تَصْوِيرُ الشَّيْءِ عَلَى صُورَةٍ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهَا . وَكَذَلِكَ صَنْعَةُ الْخَمْرِ وَأَمَّا أَمْكِنَةُ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْعِوَضُ الْمَأْخُوذُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ الْمُحَرَّمِ خَبِيثٌ وَيَجِبُ إنْكَارُ ذَلِكَ . وَأَمَّا خِيَاطَتُهُ لِمَنْ يَلْبَسُهُ لَبْسًا جَائِزًا فَهُوَ مُبَاحٌ : كَخِيَاطَتِهِ لِلنِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ يَمَسُّهُ عِنْدَ الْخِيَاطَةِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَمِثْلُ ذَلِكَ صِنَاعَةُ . الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِمَنْ يَسْتَعْمِلُهُ اسْتِعْمَالًا مُبَاحًا . وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ خُيُوطِ الْحَرِيرِ فِي لِبَاسِ الرِّجَالِ كَذَلِكَ يُبَاحُ الْعَلَمُ وَالسِّجَافُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ بِالرُّخْصَةِ فِيهِ وَهُوَ مَا كَانَ مَوْضِعُ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُبَّةٌ مَكْفُوفَةٌ بِحَرِيرِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ خَيَّاطٍ خَاطَ لِلنَّصَارَى سَيْرَ حَرِيرٍ فِيهِ صَلِيبُ ذَهَبٍ . فَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي خِيَاطَتِهِ ؟ وَهَلْ تَكُونُ أُجْرَتُهُ حَلَالًا أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ إذَا أَعَانَ الرَّجُلُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ آثِمًا ؛ لِأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ . وَلِهَذَا لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا . وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ كَالْعَاصِرِ وَالْحَامِلِ وَالسَّاقِي إنَّمَا هُمْ يُعَاوِنُونَ عَلَى شُرْبِهَا ؛ وَلِهَذَا يُنْهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ لِمَنْ يُقَاتِلُ بِهِ قِتَالًا مُحَرَّمًا كَقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقَتَّالِ فِي الْفِتْنَةِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعَاصِي فَكَيْفَ بِالْإِعَانَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَشَعَائِرِ الْكُفْرِ . وَالصَّلِيبُ لَا يَجُوزُ عَمَلُهُ بِأُجْرَةِ وَلَا غَيْرِ أُجْرَةٍ وَلَا بَيْعُهُ صَلِيبًا كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَصْنَامِ وَلَا عَمَلُهَا . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ

وَالْأَصْنَامَ } . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ وَأَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى فِي الْبَيْتِ صُورَةً إلَّا قَضَبَهُ . فَصَانِعُ الصَّلِيبِ مَلْعُونٌ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَمَنْ أَخَذَ عِوَضًا عَنْ عَيْنٍ مُحَرَّمَةٍ أَوْ نَفْعٍ اسْتَوْفَاهُ مِثْلَ أُجْرَةِ حَمَّالِ الْخَمْرِ وَأُجْرَةِ صَانِعِ الصَّلِيبِ وَأُجْرَةِ الْبَغِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهَا وَلْيَتُبْ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ الْمُحَرَّمِ وَتَكُونُ صَدَقَتُهُ بِالْعِوَضِ كَفَّارَةً لِمَا فَعَلَهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْعِوَضَ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ خَبِيثٌ وَلَا يُعَادُ إلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى الْعِوَضَ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ . كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَنْ نَصَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ . كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مِثْلِ حَامِلِ الْخَمْرِ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَتَّجِرُ فِي الأقباع : هَلْ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْقُبَعِ المرعزي وَشِرَاؤُهُ ؟ وَالِاكْتِسَاءُ مِنْهُ ؟ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ الْحَرِيرِ الصَّامِتِ ؟ أَوْ يُحَرَّمُ عَلَيْهِ لِكَوْنِ الْقُبَعِ لُبْسُ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِلْجُنْدِ وَالصِّبْيَانِ إذَا كَانُوا دُونَ الْبُلُوغِ ؟ أَوْ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَمْ لَا ؟ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا أقباع الْحَرِيرِ فَيَحْرُمُ لُبْسُهَا عَلَى الرِّجَالِ وَلِأَنَّهَا حَرِيرٌ

وَلُبْسُ الْحَرِيرِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ . وَإِنْ كَانَ مُبَطَّنًا بِقُطْنِ أَوْ كَتَّانٍ . وَأَمَّا عَلَى النِّسَاءِ ؛ فَلِأَنَّ الأقباع مِنْ لِبَاسِ الرِّجَالِ وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ والمتشبهين مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ . وَأَمَّا لِبَاسُ الْحَرِيرِ لِلصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا : فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنَّ أَظْهَرَهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِنَّ مَا حُرِّمَ عَلَى الرَّجُلِ فِعْلُهُ حُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْهُ الصَّغِيرُ فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ وَيَضْرِبُهُ عَلَيْهَا إذَا بَلَغَ عَشْرًا فَكَيْفَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُلْبِسَهُ الْمُحَرَّمَاتِ . وَقَدْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى صَبِيٍّ لِلزُّبَيْرِ ثَوْبًا مِنْ حَرِيرٍ فَمَزَّقَهُ وَقَالَ : " لَا تُلْبِسُوهُمْ الْحَرِيرَ " وَكَذَلِكَ ابْنِ مَسْعُودٍ مَزَّقَ ثَوْبَ حَرِيرٍ كَانَ عَلَى ابْنِهِ وَمَا حُرِّمَ لُبْسُهُ لَمْ تَحِلّ صَنْعَتُهُ وَلَا بَيْعُهُ لِمَنْ يَلْبَسُهُ مِنْ أَهْلِ التَّحْرِيمِ . وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكْتَسِبَ بِأَنْ يَخِيطَ الْحَرِيرَ لِمَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَهُوَ مِثْلُ الْإِعَانَةِ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَنَحْوِهَا وَكَذَلِكَ لَا يُبَاعُ

الْحَرِيرُ لِرَجُلِ يَلْبَسُهُ مِنْ أَهْلِ التَّحْرِيمِ وَأَمَّا بَيْعُ الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ فَيَجُوزُ . وَكَذَلِكَ إذَا بِيعَ لِكَافِرِ فَإِنَّ { عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرْسَلَ بِحَرِيرِ أَعْطَاهُ إيَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ مُشْرِكٍ } .
وَسُئِلَ :
هَلْ طَرْحُ الْقَبَاءِ عَلَى الْكَتِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي أَكْمَامِهِ مَكْرُوهٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا بَأْسَ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ ذَكَرُوا جَوَازَ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ السَّدْلِ الْمَكْرُوهِ لِأَنَّ هَذِهِ اللُّبْسَةَ لَيْسَتْ لُبْسَةَ الْيَهُودِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ طُولِ السَّرَاوِيلِ إذَا تَعَدَّى عَنْ الْكَعْبِ هَلْ يَجُوزُ ؟ .
فَأَجَابَ :
طُولُ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَسَائِرِ اللِّبَاسِ إذَا تَعَدَّى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ . كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : : { الْإِسْبَالُ فِي السَّرَاوِيلِ وَالْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ } يَعْنِي نَهَى عَنْ الْإِسْبَالِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ لُبْسِ الْكُوفِيَّةِ لِلنِّسَاءِ . مَا حُكْمُهَا إذَا كَانَتْ بِالدَّائِرِ وَالْفَرْقِ ؟ وَفِي لُبْسِهِنَّ الفراجي ؟ وَمَا الضَّابِطُ فِي التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ فِي الْمَلْبُوسِ ؟ هَلْ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كُلُّ زَمَانٍ بِحَسَبِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْكُوفِيَّةُ الَّتِي بِالْفَرْقِ وَالدَّائِرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْتُرَ الشَّعْرَ الْمَسْدُولَ هِيَ مِنْ لِبَاسِ الصِّبْيَانِ وَالْمَرْأَةُ اللَّابِسَةُ لِذَلِكَ مُتَشَبِّهَةٌ بِهِمْ . وَهَذَا النَّوْعُ قَدْ يَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَهُ مِنْ النِّسَاءِ قَصَدَتْ التَّشَبُّهَ بالمردان كَمَا يَقْصِدُ بَعْضُ الْبَغَايَا أَنْ تُضَفِّرَ شَعْرَهَا ضَفِيرًا وَاحِدًا مَسْدُولًا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ وَأَنْ تُرْخِيَ لَهَا السَّوَالِفَ وَأَنْ تَعْتَمَّ ؛ لِتُشْبِه المردان فِي الْعِمَامَةِ وَالْعِذَارِ وَالشَّعْرِ . ثُمَّ قَدْ تَفْعَلُ الْحُرَّةُ بَعْضَ ذَلِكَ لَا تَقْصِدُ هَذَا ؛ لَكِنْ هِيَ فِي ذَلِكَ مُتَشَبِّهَةٌ بِالرِّجَالِ . وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا بِلَعْنِ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ والمتشبهين مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَفِي رِوَايَةٍ " { أَنَّهُ لَعَنَ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ والمترجلات مِنْ

النِّسَاءِ } وَأَمَرَ بِنَفْيِ الْمُخَنَّثِينَ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى نَفْيِهِمْ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا . وَقَالُوا جَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّفْيِ فِي حَدِّ الزِّنَا وَنَفْيِ الْمُخَنَّثِينَ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ أُمَّتِي لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ : كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا . وَرِجَالٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ } . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ { مَرَّ بِبَابِ أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ تَعْتَصِبُ فَقَالَ : يَا أُمَّ سَلَمَةَ لَيَّةٌ لَا لَيَّتَيْنِ } وَقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ : { كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ } بِأَنْ تَكْتَسِيَ مَا لَا يَسْتُرُهَا فَهِيَ كَاسِيَةٌ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ عَارِيَةٌ مِثْلُ مَنْ تَكْتَسِي الثَّوْبَ الرَّقِيقَ الَّذِي يَصِفُ بَشَرَتَهَا ؛ أَوْ الثَّوْبَ الضَّيِّقَ الَّذِي يُبْدِي تَقَاطِيعَ خَلْقِهَا مِثْلَ عَجِيزَتِهَا وَسَاعِدِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا كُسْوَةُ الْمَرْأَةِ مَا يَسْتُرُهَا فَلَا يُبْدِي جِسْمَهَا وَلَا حَجْمَ أَعْضَائِهَا لِكَوْنِهِ كَثِيفًا وَاسِعًا . وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ الضَّابِطُ فِي نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَشَبُّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَعَنْ تَشَبُّهِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ رَاجِعًا إلَى مُجَرَّدِ مَا يَخْتَارُهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَيَشْتَهُونَهُ وَيَعْتَادُونَهُ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إذَا اصْطَلَحَ قَوْمٌ عَلَى أَنْ يَلْبَسَ الرِّجَالُ الْخُمُرَ الَّتِي

تُغَطِّي الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ وَالْعُنُقَ وَالْجَلَابِيبَ الَّتِي تُسْدَلُ مِنْ فَوْقِ الرُّءُوسِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ مِنْ لَابِسِهَا إلَّا الْعَيْنَانِ وَأَنْ تَلْبَسَ النِّسَاءُ الْعَمَائِمَ وَالْأَقْبِيَةَ الْمُخْتَصَرَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا سَائِغًا . وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلنِّسَاءِ : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } الْآيَةَ وَقَالَ : { قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } الْآيَةَ . وَقَالَ : { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } . فَلَوْ كَانَ اللِّبَاسُ الْفَارِقُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مُسْتَنَدُهُ مُجَرَّدُ مَا يَعْتَادُهُ النِّسَاءُ أَوْ الرِّجَالُ بِاخْتِيَارِهِمْ وَشَهْوَتِهِمْ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ الْجَلَابِيبَ وَلَا أَنْ يَضْرِبْنَ بِالْخُمُرِ عَلَى الْجُيُوبِ وَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِنَّ التَّبَرُّجَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَادَةً لِأُولَئِكَ وَلَيْسَ الضَّابِطُ فِي ذَلِكَ لِبَاسًا مُعَيَّنًا مِنْ جِهَةِ نَصِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ جِهَةِ عَادَةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى عَهْدِهِ بِحَيْثُ يُقَالُ : إنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ وَغَيْرُهُ يَحْرُمُ . فَإِنَّ النِّسَاءَ عَلَى عَهْدِهِ كُنَّ يَلْبَسْنَ ثِيَابًا طَوِيلَاتِ الذَّيْلِ . بِحَيْثُ يَنْجَرُّ خَلْفَ الْمَرْأَةِ إذَا خَرَجَتْ وَالرَّجُلُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُشَمِّرَ ذَيْلَهُ حَتَّى لَا يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرِّجَالَ عَنْ إسْبَالِ الْإِزَارِ وَقِيلَ لَهُ : فَالنِّسَاءُ ؟ قَالَ : يُرْخِينَ شِبْرًا قِيلَ لَهُ : إذَنْ

تَنْكَشِفَ سُوقُهُنَّ قَالَ : ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . حَتَّى إنَّهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمَرْأَةِ إذَا جَرَّتْ ذَيْلَهَا عَلَى مَكَانٍ قَذِرٍ ثُمَّ مَرَّتْ بِهِ عَلَى مَكَانٍ طَيِّبٍ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِذَلِكَ وَذَلِكَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ جَعَلَ الْمَجْرُورَ بِمَنْزِلَةِ النَّعْلِ الَّذِي يَكْثُرُ مُلَاقَاتُهُ النَّجَاسَةَ فَيَطْهُرُ بِالْجَامِدِ كَمَا يَطْهُرُ السَّبِيلَانِ بِالْجَامِدِ لِمَا تَكَرَّرَ مُلَاقَاتُهُمَا النَّجَاسَةَ . ثُمَّ إنَّ هَذَا لَيْسَ مُعِينًا لِلسَّتْرِ فَلَوْ لَبِسَتْ الْمَرْأَةُ سَرَاوِيلَ أَوْ خُفًّا وَاسِعًا صُلْبًا كَالْمُوقِ وَتَدَلَّى فَوْقَهُ الْجِلْبَابُ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ حَجْمُ الْقَدَمِ لَكَانَ هَذَا مُحَصِّلًا لِلْمَقْصُودِ بِخِلَافِ الْخُفِّ اللَّيِّنِ الَّذِي يُبْدِي حَجْمَ الْقَدَمِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ لِبَاسِ الرِّجَالِ . وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَوْ لَبِسَتْ جُبَّةً وَفَرْوَةً لِحَاجَتِهَا إلَى ذَلِكَ إلَى دَفْعِ الْبَرْدِ لَمْ تَنْهَ عَنْ ذَلِكَ . فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : لَمْ يَكُنْ النِّسَاءُ يَلْبَسْنَ الْفِرَاءَ قُلْنَا : فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالْحَاجَةِ فَالْبِلَادُ الْبَارِدَةُ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى غِلَظِ الْكُسْوَةِ وَكَوْنِهَا مُدَفِّئَةً وَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إلَى ذَلِكَ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ فَالْفَارِقُ بَيْنَ لِبَاسِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يَعُودُ إلَى مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ . وَهُوَ مَا يُنَاسِبُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الرِّجَالُ وَمَا تُؤْمَرُ بِهِ النِّسَاءُ . فَالنِّسَاءُ مَأْمُورَاتٌ

بِالِاسْتِتَارِ وَالِاحْتِجَابِ دُونَ التَّبَرُّجِ وَالظُّهُورِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَشْرَعْ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْأَذَانِ وَلَا التَّلْبِيَةِ وَلَا الصُّعُودُ إلَى الصَّفَا والمروة وَلَا التَّجَرُّدُ فِي الْإِحْرَامِ . يَتَجَرَّدُ الرَّجُلُ . فَإِنَّ الرَّجُلَ مَأْمُورٌ أَنْ يَكْشِفَ رَأْسَهُ وَأَنْ لَا يَلْبَسَ الثِّيَابَ الْمُعْتَادَةَ وَهِيَ الَّتِي تُصْنَعُ عَلَى قَدْرِ أَعْضَائِهِ فَلَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا الْخُفَّ لَكِنَّ لَمَّا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَيَمْشِي فِيهِ رَخَّصَ لَهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إذَا لَمْ يَجِدْ إزَارًا أَنْ يَلْبَسَ سَرَاوِيلَ وَإِذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ أَنْ يَلْبَسَ خُفَّيْنِ . وَجَعَلَ ذَلِكَ بَدَلًا لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ بِخِلَافِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةً خَاصَّةً لِمَرَضِ أَوْ بَرْدٍ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ إذَا لَبِسَهُ وَلِهَذَا طَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا الْقِيَاسَ وَخَالَفَهُ الْأَكْثَرُونَ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَلِأَجْلِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا لَمْ تُنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ اللِّبَاسِ ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالِاسْتِتَارِ وَالِاحْتِجَابِ فَلَا يَشْرَعُ لَهَا ضِدُّ ذَلِكَ لَكِنْ مُنِعَتْ أَنْ تَنْتَقِبَ وَأَنْ تَلْبَسَ الْقُفَّازَيْنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِبَاسٌ مَصْنُوعٌ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ وَلَا حَاجَةَ بِهَا إلَيْهِ .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ هَلْ وَجْهُهَا كَرَأْسِ الرَّجُلِ أَوْ كَيَدَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَمَنْ جَعَلَ وَجْهَهَا كَرَأْسِهِ أَمَرَهَا إذَا

سَدَلَتْ الثَّوْبَ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا أَنْ تُجَافِيَهُ عَنْ الْوَجْهِ . كَمَا يُجَافَى عَنْ الرَّأْسِ مَا يُظَلَّلُ بِهِ . وَمَنْ جَعَلَهُ كَالْيَدَيْنِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - قَالَ هِيَ لَمْ تُنْهَ عَنْ سَتْرِ الْوَجْهِ وَإِنَّمَا نُهِيَتْ عَنْ الِانْتِقَابِ . كَمَا نُهِيَتْ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ ؛ وَذَلِكَ كَمَا نَهَى الرَّجُلَ عَنْ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَفِي مَعْنَاهُ الْبُرْقُعُ وَمَا صُنِعَ لِسَتْرِ الْوَجْهِ . فَأَمَّا تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ بِمَا يُسْدَلُ مِنْ فَوْقِ الرَّأْسِ فَهُوَ مِثْلُ تَغْطِيَتِهِ عِنْدَ النَّوْمِ بِالْمِلْحَفَةِ وَنَحْوِهَا . وَمِثْلُ تَغْطِيَةِ الْيَدَيْنِ بِالْكُمَّيْنِ وَهِيَ لَمْ تُنْهَ عَنْ ذَلِكَ . فَلَوْ أَرَادَ الرِّجَالُ أَنْ يَنْتَقِبُوا وَيَتَبَرْقَعُوا وَيَدَعُوا النِّسَاءَ بَادِيَاتِ الْوُجُوهِ لَمُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ . كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ أُمِرَتْ أَنْ تَجْتَمِعَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تُجَافِيَ بَيْنَ أَعْضَائِهَا وَأُمِرَتْ أَنْ تُغَطِّيَ رَأْسَهَا فَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارِ وَلَوْ كَانَتْ فِي جَوْفِ بَيْتٍ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ مِنْ الْأَجَانِبِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِسَتْرِ لَا يُؤْمَرُ بِهِ الرَّجُلُ حَقًّا لِلَّهِ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَرَهَا بَشَرٌ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ } وَقَالَ : { صَلَاةُ إحْدَاكُنَّ

فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا وَصَلَاتُهَا فِي حُجْرَتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي دَارِهَا وَصَلَاتُهَا فِي دَارِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا وَصَلَاتُهَا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا مَعِي } وَهَذَا كُلُّهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِتَارِ وَالِاحْتِجَابِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسَاكِنَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَابِسِ كِلَاهُمَا جُعِلَ فِي الْأَصْلِ لِلْوِقَايَةِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ . كَمَا جُعِلَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ لِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ فَاللِّبَاسُ يَتَّقِي الْإِنْسَانُ بِهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَيَتَّقِي بِهِ سِلَاحَ الْعَدُوِّ وَكَذَلِكَ الْمَسَاكِنُ يُتَّقَى بِهَا الْحَرُّ وَالْبَرْدُ وَيُتَّقَى بِهَا الْعَدُوُّ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } فَذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِدَفْعِ مَا قَدْ يُؤْذِيهِمْ . وَذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مَا يَضْطَرُّونَ إلَيْهِ لِدَفْعِ مَا يَضُرُّهُمْ فَقَالَ : { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } فَذَكَرَ مَا يَسْتَدْفِئُونَ بِهِ وَيَدْفَعُونَ بِهِ الْبَرْدَ ؛ لِأَنَّ الْبَرْدَ يُهْلِكُهُمْ وَالْحَرَّ يُؤْذِيهِمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ : الْبَرْدُ بُؤْسٌ وَالْحَرُّ أَذًى ؛ وَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وِقَايَةَ الْبَرْدِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَهُوَ ذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ مَا أَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ وَذَكَرَ

فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أُصُولَ النِّعَمِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مَقْصُودَ الثِّيَابِ تُشْبِهُ مَقْصُودَ الْمَسَاكِنِ وَالنِّسَاءُ مَأْمُورَاتٌ فِي هَذَا بِمَا يَسْتُرُهُنَّ وَيَحْجُبُهُنَّ فَإِذَا اخْتَلَفَ لِبَاسُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَمَّا كَانَ أَقْرَبَ إلَى مَقْصُودِ الِاسْتِتَارِ وَالِاحْتِجَابِ : كَانَ لِلنِّسَاءِ وَكَانَ ضِدُّهُ لِلرِّجَالِ . وَأَصْلُ هَذَا : أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الشَّارِعَ لَهُ مَقْصُودَانِ :
أَحَدُهُمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ . والثَّانِي احْتِجَابُ النِّسَاءِ . فَلَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ مُجَرَّدَ الْفَرْقِ لَحَصَلَ ذَلِكَ بِأَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ بِهِ الِاخْتِلَافُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فَسَادُ ذَلِكَ بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِاللِّبَاسِ إظْهَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِيَتَرَتَّبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مَا يُنَاسِبُهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَحْصُلُ بِأَيِّ لِبَاسٍ اصْطَلَحَتْ الطَّائِفَتَانِ عَلَى التَّمَيُّزِ بِهِ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ رُوعِيَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ الْفَرْقِ فَإِنَّ لِبَاسَ الْأَبْيَضِ لَمَّا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { عَلَيْكُمْ بِالْبَيَاضِ فَلْيَلْبَسْهُ أَحْيَاؤُكُمْ . وَكَفِّنُوا فِيهِ مَوْتَاكُمْ } " لَمْ يَكُنْ

مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُجْعَلَ لِبَاسُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْأَبْيَضَ وَلِبَاسُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْمَصْبُوغَ كَالْعَسَلِيِّ وَالْأَدْكَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ . كَذَلِكَ فِي الشُّعُورِ وَغَيْرِهَا : فَكَيْفَ الْأَمْرُ فِي لِبَاسِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ مُجَرَّدَ الْفَرْقِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ جَانِبِ الِاحْتِجَابِ وَالِاسْتِتَارِ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَيْسَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ حَجْبِ النِّسَاءِ وَسَتْرِهِنَّ دُونَ الْفَرْقِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الرِّجَالِ ؛ بَلْ الْفَرْقُ أَيْضًا مَقْصُودٌ حَتَّى لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الصِّنْفَيْنِ اشْتَرَكُوا فِيمَا يَسْتُرُ وَيَحْجُبُ بِحَيْثُ يُشْتَبَهُ لِبَاسُ الصِّنْفَيْنِ لَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَقْصُودَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } فَجَعَلَ كَوْنَهُنَّ يُعْرَفْنَ بِاللِّبَاسِ الْفَارِقِ أَمْرًا مَقْصُودًا . وَلِهَذَا جَاءَتْ صِيغَةُ النَّهْيِ بِلَفْظِ التَّشَبُّهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ . والمتشبهين مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ } " وَقَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ والمترجلات مِنْ

النِّسَاءِ } " فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِاسْمِ التَّشَبُّهِ . وَيَكُونُ كُلُّ صِنْفٍ يَتَّصِفُ بِصِفَةِ الْآخَرِ . وَقَدْ بَسَطْنَا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فِي ( اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِمُخَالَفَةِ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ تُورِثُ تَنَاسُبًا وَتَشَابُهًا فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَلِهَذَا نُهِينَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْكُفَّارِ وَمُشَابَهَةِ الْأَعَاجِمِ وَمُشَابَهَةِ الْأَعْرَابِ وَنَهَى كُلًّا مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَنْ مُشَابَهَةِ الصِّنْفِ الْآخَرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ : " { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ } " . " { وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا } " وَالرَّجُلُ الْمُتَشَبِّهُ بِالنِّسَاءِ يَكْتَسِبُ مِنْ أَخْلَاقِهِنَّ بِحَسَبِ تَشَبُّهِهِ حَتَّى يُفْضِيَ الْأَمْرُ بِهِ إلَى التَّخَنُّثِ الْمَحْضِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ نَفْسِهِ كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ . وَلَمَّا كَانَ الْغِنَاءُ مُقَدِّمَةَ ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ عَمَلِ النِّسَاءِ : كَانُوا يُسَمُّونَ الرِّجَالَ الْمُغَنِّينَ مَخَانِيثَ . وَالْمَرْأَةُ الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ تَكْتَسِبُ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ حَتَّى يَصِيرَ فِيهَا مِنْ التَّبَرُّجِ وَالْبُرُوزِ وَمُشَارَكَةِ الرِّجَالِ : مَا قَدْ يُفْضِي بِبَعْضِهِنَّ إلَى أَنْ تُظْهِرَ بَدَنَهَا كَمَا يُظْهِرُهُ الرَّجُلُ وَتَطْلُبُ أَنْ تَعْلُوَ عَلَى الرِّجَالِ كَمَا تَعْلُو الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ وَتَفْعَلَ مِنْ الْأَفْعَالِ مَا يُنَافِي الْحَيَاءَ وَالْخَفْرَ الْمَشْرُوعَ لِلنِّسَاءِ وَهَذَا الْقَدْرُ قَدْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْمُشَابَهَةِ . وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ لِبَاسِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَرْقٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ الرِّجَالُ عَنْ النِّسَاءِ . وَأَنْ يَكُونَ لِبَاسُ النِّسَاءِ فِيهِ مِنْ

الِاسْتِتَارِ وَالِاحْتِجَابِ مَا يُحَصِّلُ مَقْصُودَ ذَلِكَ : ظَهَرَ أَصْلُ هَذَا الْبَابِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ اللِّبَاسَ إذَا كَانَ غَالِبُهُ لُبْسَ الرِّجَالِ نُهِيَتْ عَنْهُ الْمَرْأَةُ وَإِنْ كَانَ سَاتِرًا كالفراجي الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ الْبِلَادِ أَنْ يَلْبَسَهَا الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ وَالنَّهْيُ عَنْ مَثَلِ هَذَا بِتَغَيُّرِ الْعَادَاتِ وَأَمَّا مَا كَانَ الْفَرْقُ عَائِدًا إلَى نَفْسِ السِّتْرِ فَهَذَا يُؤْمَرُ بِهِ النِّسَاءُ بِمَا كَانَ أَسْتَرُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْفَرْقَ يَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي اللِّبَاسِ قِلَّةُ السَّتْرِ وَالْمُشَابَهَةُ نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ لُبْسِ النِّسَاءِ هَذِهِ الْعَمَائِمَ الَّتِي عَلَى رُءُوسِهِنَّ . هَلْ هِيَ حَرَامٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ وَمَا الْعَمَائِمُ الَّتِي تُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُنَّ لُبْسُ الْخُفِّ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، هَذِهِ الْعَمَائِمُ الَّتِي تَلْبَسُهَا النِّسَاءُ حَرَامٌ بِلَا رَيْبٍ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ أُمَّتِي لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ : نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتُ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَرِجَالٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ } " .

وَأَيْضًا فَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ والمتشبهين مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ } " وَفِي لَفْظٍ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَخَنِّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ والمترجلات مِنْ النِّسَاءِ } " وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أُمَّ سَلَمَةَ تَعْتَصِبُ فَقَالَ : يَا أُمَّ سَلَمَةَ لَيَّةٌ ؛ لَا لَيَّتَانِ } . وَمَا كَانَ مِنْ لِبَاسِ الرِّجَالِ مِثْلُ الْعِمَامَةِ وَالْخُفِّ وَالْقَبَاءِ الَّذِي لِلرِّجَالِ وَالثِّيَابِ الَّتِي تُبْدِي مَقَاطِعَ خَلْقِهَا وَالثَّوْبِ الرَّقِيقِ الَّذِي لَا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُنْهَى عَنْهُ وَعَلَى وَلِيِّهَا كَأَبِيهَا وَزَوْجِهَا أَنْ يَنْهَاهَا عَنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ يَجُوزُ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ الْعَصَائِبِ الْكِبَارِ الَّتِي يَتَشَبَّهْنَ بِلُبْسِهَا بِالرِّجَالِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ نَصٌّ خَاصٌّ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا لُبْسُ النِّسَاءِ الْعَصَائِبَ الْكِبَارَ فَهُوَ حَرَامٌ . فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ : نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَمْثَالِ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ

الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا . وَرِجَالٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ } وَفِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ تَعْتَصِبُ : " { يَا أُمَّ سَلَمَةَ لَيَّةٌ لَا لَيَّتَانِ } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ والمتشبهين مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ } . وَالنُّصُوصُ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ . وَأَخْبَرَ بِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونُوا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا إذَا صَلَّى فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا صَلَّى وَبَعْضُ بَدَنِهِ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ لَمْ يُمْكِنْهُ الصَّلَاةُ إلَّا فِيهِ فَهُوَ مَعْذُورٌ وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ . وَأَمَّا إنْ أَمْكَنَهُ الصَّلَاةُ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَوْضِعِ النَّجِسِ .

وَسُئِلَ :
هَلْ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْأَرْضِ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي مُوَاطِنَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ فَقَالَ : " { لَا تُصَلُّوا فِيهَا } وَسُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْغَنَمِ فَقَالَ : " { صَلُّوا فِيهَا } وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ : " { الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةُ وَالْحَمَّامُ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ " { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَفِي السُّنَنِ : " { أَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بِأَرْضِ الْخَسْفِ } . وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَه وَغَيْرِهِ : " { أَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ : الْمَقْبَرَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْمَزْبَلَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالْحَمَّامِ وَظَهْرِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ } وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ - غَيْرُ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ - قَدْ يُعَلِّلُهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهَا مَظِنَّةُ النَّجَاسَةِ . وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ النَّهْيَ تَعَبُّدًا .

وَالصَّحِيحُ أَنَّ عِلَلَهَا مُخْتَلِفَةٌ . تَارَةً تَكُونُ الْعِلَّةُ مُشَابَهَةَ أَهْلِ الشِّرْكِ . كَالصَّلَاةِ عِنْدَ الْقُبُورِ وَتَارَةً لِكَوْنِهَا مَأْوًى لِلشَّيَاطِينِ : كَأَعْطَانِ الْإِبِلِ . وَتَارَةً لِغَيْرِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْحَمَّامِ إذَا اُضْطُرَّ الْمُسْلِمُ لِلصَّلَاةِ فِيهَا وَخَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَخْرُجَ وَيُصَلِّيَ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بِالْحَمَّامِ ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَمَاكِنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الْوَقْتِ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوَقْتِ فِي غَيْرِهَا وَلِهَذَا لَوْ حُبِسَ فِي الْحُشِّ صَلَّى فِيهِ وَفِي الْإِعَادَةِ نِزَاعٌ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ عُرْيَانَا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا كَذَلِكَ . وَأَمَّا إنْ أَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ وَالْخُرُوجُ لِلصَّلَاةِ خَارِجَ الْحَمَّامِ فِي الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ فِي الْحَمَّامِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ فِي بَيْتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُصَلِّي فِي الْحَمَّامِ إلَّا لِحَاجَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ ؟
فَأَجَابَ :
فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ } وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحُفَّاظُ . وَأَمَّا إنْ ضَاقَ الْوَقْتُ فَهَلْ يُصَلِّي فِي الْحَمَّامِ ؟ أَوْ يُفَوِّتُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَخْرُجَ فَيُصَلِّيَ خَارِجَهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَمَّامِ . وَيَنْبَغِي لِمَنْ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ إنْ احْتَاجَ إلَى الْحَمَّامِ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَيَخْرُجَ يُصَلِّي ثُمَّ إنْ أَحَبَّ أَنْ يُتِمَّ اغْتِسَالَهُ بِالسِّدْرِ وَنَحْوِهِ عَادَ إلَى الْحَمَّامِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا ؛ إمَّا نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ لَا تَصِحُّ : كَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَإِمَّا نَهْيَ تَنْزِيهٍ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ .

وَسُئِلَ :
هَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَمَّامِ ، إذَا خَافَ خُرُوجَ الْوَقْتِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ لِيَغْتَسِلَ وَيَخْرُجَ وَيُصَلِّيَ خَارِجَ الْحَمَّامِ فِي الْوَقْتِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَمَّامِ أَوْ تَفُوتَ الصَّلَاةُ فَالصَّلَاةُ فِي الْحَمَّامِ خَيْرٌ مِنْ تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي الْحَمَّامِ كَالصَّلَاةِ فِي الْحُشِّ وَالْمَوَاضِعِ النَّجِسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمَنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يَفُوتَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِيهِ وَلَا يُفَوِّتُ الْوَقْتَ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْوَقْتِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مُرَاعَاةِ جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ لَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا وَعَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ الصَّلَاةُ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ جَائِزَةٌ مَعَ وُجُودِ الصُّوَرِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُقَالُ إنَّهَا بُيُوتُ اللَّهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَتْ بُيُوتَ اللَّهِ وَإِنَّمَا بُيُوتُ اللَّهِ الْمَسَاجِدُ : بَلْ هِيَ بُيُوتٌ يُكْفَرُ فِيهَا بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُذْكَرُ فِيهَا فَالْبُيُوتُ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِهَا وَأَهْلُهَا كُفَّارٌ فَهِيَ بُيُوتُ عِبَادَةِ الْكُفَّارِ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيهَا فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ . وَالْإِذْنُ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَأْثُورُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهَا صُوَرٌ لَمْ يُصَلَّ فِيهَا لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلْ الْكَعْبَةَ حَتَّى مُحِيَ مَا فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ : إنَّا كُنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَهُمْ وَالصُّوَرُ فِيهَا . وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْجِدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْقَبْرِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ ذُكِرَ

لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْحُسْنِ وَالتَّصَاوِيرِ فَقَالَ : " { أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا صُوَرٌ فَقَدْ صَلَّى الصَّحَابَةُ فِي الْكَنِيسَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَبْسُطُ سَجَّادَةً فِي الْجَامِعِ وَيُصَلِّي عَلَيْهَا : هَلْ مَا فَعَلَهُ بِدْعَةٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى السَّجَّادَةِ بِحَيْثُ يَتَحَرَّى الْمُصَلِّي ذَلِكَ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ سُنَّةَ السَّلَفِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَتَّخِذُ أَحَدُهُمْ سَجَّادَةً يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَسَطَ سَجَّادَةً فَأَمَرَ مَالِكٌ بِحَبْسِهِ فَقِيلَ لَهُ : إنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ فَقَالَ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ بَسْطَ السَّجَّادَةِ فِي مَسْجِدِنَا بِدْعَةٌ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري فِي حَدِيثِ اعْتِكَافِ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - وَفِيهِ قَالَ : " { مَنْ اعْتَكَفَ فَلْيَرْجِعْ إلَى مُعْتَكَفِهِ فَإِنِّي رَأَيْت هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَرَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ } . وَفِي آخِرِهِ : " { فَلَقَدْ رَأَيْت يَعْنِي صَبِيحَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ عَلَى أَنْفِهِ وَأَرْنَبَتِهِ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ } . فَهَذَا بَيَّنَ أَنَّ سُجُودَهُ كَانَ عَلَى الطِّينِ . وَكَانَ مَسْجِدُهُ مَسْقُوفًا بِجَرِيدِ النَّخْلِ يَنْزِلُ مِنْهُ الْمَطَرُ فَكَانَ مَسْجِدُهُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ . وَرُبَّمَا وَضَعُوا فِيهِ الْحَصَى كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : { سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ الْحَصَى الَّذِي كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ : مُطِرْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَصْبَحَتْ الْأَرْضُ مُبْتَلَّةً فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِي بِالْحَصَى فِي ثَوْبِهِ فَيَبْسُطُهُ تَحْتَهُ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ . قَالَ : مَا أَحْسَنَ هَذَا ؟ } . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَيْضًا عَنْ أَبِي بَدْرٍ شُجَاعِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ . أَبُو بَدْرٍ أُرَاهُ قَدْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إنَّ الْحَصَاةَ تُنَاشِدُ الَّذِي يُخْرِجُهَا مِنْ الْمَسْجِدِ } . وَلِهَذَا فِي السُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَمْسَحْ الْحَصَى ؛ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ } . وَفِي لَفْظٍ فِي مُسْنَدِ أَحْمَد قَالَ : { سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى سَأَلْته عَنْ مَسْحِ

الْحَصَى فَقَالَ : وَاحِدَةٌ أَوْ دَعْ } . وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَأَنْ يُمْسِكَ أَحَدُكُمْ يَدَهُ عَنْ الْحَصَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ مِائَةِ نَاقَةٍ كُلِّهَا سُودُ الْحَدَقِ فَإِنْ غَلَبَ أَحَدَكُمْ الشَّيْطَانُ فَلْيَمْسَحْ وَاحِدَةً } . وَهَذَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ معيقيب أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ قَالَ إنْ كُنْت فَاعِلًا فَوَاحِدَةً } . فَهَذَا بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَابِ وَالْحَصَى فَكَانَ أَحَدُهُمْ يُسَوِّي بِيَدِهِ مَوْضِعَ سُجُودِهِ فَكَرِهَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْعَبَثَ وَرَخَّصَ فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لِلْحَاجَةِ وَإِنْ تَرَكَهَا كَانَ أَحْسَنَ . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " { كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ } أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الصِّحَاحِ : كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ : بَيَانُ أَنَّ أَحَدَهُمْ إنَّمَا كَانَ يَتَّقِي شِدَّةَ الْحَرِّ بِأَنْ يَبْسُطَ ثَوْبَهُ الْمُتَّصِلَ . كَإِزَارِهِ وَرِدَائِهِ وَقَمِيصِهِ فَيَسْجُدُ عَلَيْهِ . وَهَذَا بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ عَلَى سَجَّادَاتٍ ؛ بَلْ وَلَا عَلَى حَائِلٍ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يُصَلُّونَ تَارَةً فِي نِعَالِهِمْ

وَتَارَةً حُفَاةً كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالْمَسْنَدِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ فَلَمَّا انْصَرَفَ . قَالَ : لِمَ خَلَعْتُمْ ؟ قَالُوا : رَأَيْنَاك خَلَعْت . فَخَلَعْنَا قَالَ : فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا خُبْثًا فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَيْهِ فَإِنْ رَأَى خُبْثًا فَلْيَمْسَحْهُ بِالْأَرْضِ ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِمَا } . فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ صَلَاتَهُمْ فِي نِعَالِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يُفْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ إذْ لَمْ يَكُنْ يُوطَأُ بِهِمَا عَلَى مَفَارِشَ وَأَنَّهُ إذَا رَأَى بِنَعْلَيْهِ أَذًى فَإِنَّهُ يَمْسَحُهُمَا بِالْأَرْضِ وَيُصَلِّي فِيهِمَا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِهِمَا وَلَا إلَى نَزْعِهِمَا وَقْتَ الصَّلَاةِ وَوَضْعِ قَدَمَيْهِ عَلَيْهِمَا كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . وَبِهَذَا كُلِّهِ جَاءَتْ السُّنَّةُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : " { سَأَلْت أَنَسًا أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ } . وَفِي سُنَنِ أَبَى دَاوُد عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ } فَقَدْ أَمَرَنَا بِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ إذْ هُمْ يَنْزِعُونَ الْخِفَافَ وَالنِّعَالَ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَيَأْتَمُّونَ فِيمَا يُذْكَرُ عَنْهُمْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قِيلَ لَهُ وَقْتَ الْمُنَاجَاةِ { فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بالوادي الْمُقَدَّسِ طُوًى } . فَنُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ

وَأُمِرْنَا أَنْ نُصَلِّيَ فِي خِفَافِنَا وَنِعَالِنَا وَإِنْ كَانَ بِهِمَا أَذًى مَسَحْنَاهُمَا بِالْأَرْضِ لِمَا تَقَدَّمَ . وَلِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ بِنَعْلَيْهِ الْأَذَى فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ } . وَفِي لَفْظٍ قَالَ : " { إذَا وَطِئَ الْأَذَى بِخُفَّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ } وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنَاهُ وَقَدْ قِيلَ حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَفْظُهُ الثَّانِي مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَان وَقَدْ خَرَّجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الشَّوَاهِدِ وَمُسْلِمٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ وَوَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ . وَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ لَمْ يُسَمَّ رَاوِيهِ ؛ لَكِنَّ تَعَدُّدَهُ مَعَ عَدَمِ التُّهْمَةِ وَعَدَمِ الشُّذُوذِ يَقْتَضِي أَنَّهُ حَسَنٌ أَيْضًا وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلِي الْعُلَمَاءِ وَمَعَ دَلَالَةِ السُّنَّةِ عَلَيْهِ هُوَ مُقْتَضَى الِاعْتِبَارِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مَحَلٌّ تَتَكَرَّرُ مُلَاقَاتُهُ لِلنَّجَاسَةِ فَأَجْزَأَ الْإِزَالَةَ عَنْهُ بِالْجَامِدِ كَالْمَخْرَجَيْنِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ فِيهِمَا الِاسْتِجْمَارُ بِالْأَحْجَارِ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِجْمَارِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ

تَارَةً فِي نِعَالِهِمْ وَتَارَةً حُفَاةً كَمَا فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَه عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : " { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا } وَالْحُجَّةُ فِي الِانْتِعَالِ ظَاهِرَةٌ " . وَأَمَّا فِي الِاحْتِفَاءِ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ . " { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي يَوْمَ الْفَتْحِ وَوَضَعَ نَعْلَيْهِ عَنْ يَسَارِهِ } وَكَذَلِكَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ قَالَ : " { بَيْنَمَا رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ وَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ } . وَتَمَامُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ . كَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ السَّائِبِ فَإِنَّ أَصْلَهُ قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ : " { صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى إذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ - أَوْ ذِكْرُ مُوسَى وَعِيسَى - أَخَذَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ } وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ حَاضِرٌ لِذَلِكَ فَهَذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَقَدْ وَضَعَ نَعْلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ النَّاسَ يُصَلُّونَ وَيَطُوفُونَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَوْ كَانَ الِاحْتِرَازُ مِنْ نَجَاسَةٍ أَسْفَلَ النَّعْلِ مُسْتَحَبًّا لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقَّ النَّاسِ بِفِعْلِ الْمُسْتَحَبِّ الَّذِي فِيهِ صِيَانَةُ الْمَسْجِدِ . وَأَيْضًا فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَلَا يُؤْذِ بِهِمَا أَحَدًا وَلْيَجْعَلْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَوْ لِيُصَلِّ فِيهِمَا } وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَضَعُ نَعْلَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ : تَكُونُ عَنْ يَمِينِ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ عَنْ يَسَارِهِ أَحَدٌ . وَلْيَضَعْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ } وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ قِيلَ : فِي إسْنَادِهِ لِينٌ لَكِنَّهُ هُوَ وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ . وَلَوْ كَانَ الِاحْتِرَازُ مِنْ ظَنِّ نَجَاسَتِهِمَا مَشْرُوعًا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ . وَأَيْضًا فَفِي الْأَوَّلِ الصَّلَاةُ فِيهِمَا وَفِي الثَّانِي وَضْعُهُمَا عَنْ يَسَارِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُصَلٍّ . وَمَا ذُكِرَ مِنْ كَرَاهَةِ وَضْعِهِمَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ يَمِينِ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ النَّجَاسَةِ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ الْأَدَبِ . كَمَا كُرِهَ الْبُصَاقُ عَنْ يَمِينِهِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ خباب بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ : " { شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِدَّةَ حَرِّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا . وَأَكُفَّنَا فَلَمْ يَشْكُنَا } . وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي مُسْلِمٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . وَسَبَبُ هَذِهِ الشَّكْوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ عَلَى الْأَرْضِ فَتَسْخَنُ جِبَاهُهُمْ وَأَكُفُّهُمْ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ يُؤَخِّرُهَا وَيُبْرِدُ بِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ

أَنْ يَسْجُدُوا عَلَى مَا يَقِيهِمْ مِنْ الْحَرِّ مِنْ عِمَامَةٍ وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ وَجَعَلُوا ذَلِكَ حُجَّةً فِي وُجُوبِ مُبَاشَرَةِ الْمُصَلِّي بِالْجَبْهَةِ . وَهَذِهِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّهُ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ : " { وَأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُهُمْ أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ } وَالسُّجُودُ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِالْإِنْسَانِ مِنْ كُمِّهِ وَذَيْلِهِ وَطَرَفِ إزَارِهِ وَرِدَائِهِ فِيهِ النِّزَاعُ الْمَشْهُورُ وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُونَ وَأَيْدِيهِمْ فِي ثِيَابِهِمْ وَيَسْجُدُ الرَّجُلُ عَلَى عِمَامَتِهِ رَوَاهُ البيهقي . وَقَدْ اسْتَشْهَدَ بِذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فَقَالَ : " وَقَالَ الْحَسَنُ : كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ " وَرَوَى حَدِيثَ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمَ قَالَ : " { كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ أَحَدُنَا الثَّوْبَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ } وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ حَسَرَ الْعِمَامَةَ عَنْ جَبْهَتِهِ . وَعَنْ نَافِعٍ : " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا سَجَدَ وَعَلَيْهِ الْعِمَامَةُ يَرْفَعُهَا حَتَّى يَضَعَ جَبْهَتَهُ بِالْأَرْضِ " رَوَاهُ البيهقي . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " { إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلْيَحْسُرْ الْعِمَامَةَ عَنْ جَبْهَتِهِ } فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ

حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الخدري فِي الصَّحِيحَيْنِ : " { وَأَنَّهُ رَأَى أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى أَنْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْنَبَتِهِ } . وَفِي لَفْظٍ قَالَ : " { فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَأَيْت أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْنَبَتِهِ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ } وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ . وَقَالَ الحميدي : يُحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ لَا تُمْسَحُ الْجَبْهَةُ فِي الصَّلَاةِ بَلْ تُمْسَحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُئِيَ الْمَاءُ فِي أَرْنَبَتِهِ وَجَبْهَتِهِ بَعْدَ مَا صَلَّى . قُلْت : كَرِهَ الْعُلَمَاءُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مَسْحَ الْجَبْهَةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ التُّرَابِ وَنَحْوِهِ الَّذِي يَعْلَقُ بِهَا فِي السُّجُودِ وَتَنَازَعُوا فِي مَسْحِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . كَالْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد فِي مَسْحِ مَاءِ الْوُضُوءِ بِالْمِنْدِيلِ وَفِي إزَالَةِ خُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أَثَرِ الْعِبَادَةِ . وَعَنْ أَبِي حميد الساعدي : " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا سَجَدَ مَكَّنَ جَبْهَتَهُ بِالْأَرْضِ وَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حجر قَالَ : " { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ وَاضِعًا جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ فِي سُجُودِهِ } رَوَاهُ أَحْمَد .

فَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ كَانُوا يُبَاشِرُونَ الْأَرْضَ بِالْجِبَاهِ وَعِنْدَ الْحَاجَةِ كَالْحَرِّ وَنَحْوِهِ : يَتَّقُونَ بِمَا يَتَّصِلُ بِهِمْ مِنْ طَرَفِ ثَوْبٍ وَعِمَامَةٍ وَقَلَنْسُوَةٍ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يُرَخَّصُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيُكْرَهُ السُّجُودُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَطْلُوبُهُمْ مِنْهُ السُّجُودَ عَلَى الْحَائِلِ لَأَذِنَ لَهُمْ فِي اتِّخَاذِ مَا يَسْجُدُونَ عَلَيْهِ مُنْفَصِلًا عَنْهُمْ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخَمْرَةِ فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ : " { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ } أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَهْلِ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ : أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه . وَرَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد : " { كَانَ يُصَلِّي وَأَنَا حِذَاءَهُ وَأَنَا حَائِضٌ وَرُبَّمَا أَصَابَنِي ثَوْبُهُ إذَا سَجَدَ وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمُسْنَدِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : " { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي حَائِضٌ فَقَالَ : إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك } وَعَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ : " { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّكِئُ عَلَى إحْدَانَا وَهِيَ حَائِضٌ فَيَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهَا فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهِيَ

حَائِضٌ ثُمَّ تَقُومُ إحْدَانَا بِخُمْرَتِهِ فَتَضَعُهَا فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ } رَوَاهُ . أَحْمَد وَالنَّسَائِي وَلَفْظُهُ " { فَتَبْسُطُهَا وَهِيَ حَائِضٌ } فَهَذَا صَلَاتُهُ عَلَى الْخُمْرَةِ وَهِيَ نَسْجٌ يُنْسَجُ مِنْ خُوصٍ كَانَ يُسْجَدُ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : " { أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامِ صَنَعَتْهُ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ : قُومُوا فَلْأُصَلِّ لَكُمْ قَالَ أَنَسٌ : فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لَبِسَ فَنَضَحْته بِمَاءِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَفَفْت أَنَا وَالْيَتِيمُ مِنْ وَرَائِهِ وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ } وَفِي الْبُخَارِيِّ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : " { قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي رَجُلٌ ضَخْمٌ - وَكَانَ ضَخْمًا - لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَك وَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا وَدَعَاهُ إلَى بَيْتِهِ وَقَالَ : صَلِّ حَتَّى أَرَاك كَيْفَ تُصَلِّي فَأَقْتَدِيَ بِك فَنَضَحُوا لَهُ طَرَفَ حَصِيرٍ لَهُمْ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قِيلَ لِأَنَسِ : أَكَانَ يُصَلِّي الْضُحَى ؟ فَقَالَ : لَمْ أَرَهُ صَلَّى إلَّا يَوْمَئِذٍ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزُورُ أُمَّ سُلَيْمٍ فَتُدْرِكُهُ الصَّلَاةُ أَحْيَانًا فَيُصَلِّي عَلَى بِسَاطٍ لَهَا وَهُوَ حَصِيرٌ تَنْضَحُهُ بِالْمَاءِ } وَلِمُسْلِمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري : " { أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

فَرَأَيْته يُصَلِّي عَلَى حَصِيرٍ يَسْجُدُ عَلَيْهِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " { كُنْت أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْت رِجْلَيَّ فَإِذَا قَامَ بَسَطْتهمَا قَالَتْ : وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ } وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ : " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ اعْتِرَاضَ الْجِنَازَةِ } وَفِي لَفْظٍ عَنْ عِرَاكٍ عَنْ عُرْوَةَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَعَائِشَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ عَلَى الْفِرَاشِ الَّذِي يَنَامَانِ عَلَيْهِ } . وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا لِلْبُخَارِيِّ اسْتَدَلُّوا بِهَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْفَرْشِ وَذُكِرَ اللَّفْظُ الْأَخِيرُ مُرْسَلًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّفْسِيرِ لِلْمُسْنَدِ أَنَّ عُرْوَةَ إنَّمَا سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا سَمِعَ مِنْهَا . وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ عَلَى الْمَفَارِشِ إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ كَالْخُمْرَةِ وَالْحَصِيرِ وَنَحْوِهِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ : كَالْأَنْطَاعِ الْمَبْسُوطَةِ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ وَكَالْبُسُطِ وَالزَّرَابِيِّ الْمَصْبُوغَةِ مِنْ الصُّوفِ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُرَخِّصُونَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ اسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ أَيْضًا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فَإِنَّ الْفِرَاشَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ

الْأَرْضِ وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ أَدِيمٍ أَوْ صُوفٍ . وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : " { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ وَعَلَى الْفَرْوَةِ الْمَدْبُوغَةِ } رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْمُغَيَّرَةِ . قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي : عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ مَجْهُولٌ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى بِسَاطٍ } رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه وَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : " { مَا أُبَالِي لَوْ صَلَّيْت عَلَى خُمْرَةٍ } . وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى مَا يُفْرَشُ - بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ - عُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا شَيْئًا يَسْجُدُونَ عَلَيْهِ يَتَّقُونَ بِهِ الْحَرَّ ؛ وَلَكِنْ طَلَبُوا مِنْهُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ يُؤَخِّرُهَا فَلَمْ يُجِبْهُمْ وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَّقِي الْحَرَّ إمَّا بِشَيْءِ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ وَإِمَّا بِمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ طَرَفِ ثَوْبِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَفِي حَدِيثِ الْخُمْرَةِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَتَّخِذُ السَّجَّادَةَ كَمَا قَدْ احْتَجَّ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ . قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ

دَائِمًا بَلْ أَحْيَانًا كَأَنَّهُ كَانَ إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ يَتَّقِي بِهَا الْحَرَّ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ مَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ رَأَى أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا حُجَّةٌ لِمَنْ يَتَّخِذُ السَّجَّادَةَ يُصَلِّي عَلَيْهَا دَائِمًا . وَالثَّانِي : قَدْ ذَكَرُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِمَوْضِعِ سُجُودِهِ لَمْ تَكُنْ بِمَنْزِلَةِ السَّجَّادَةِ الَّتِي تَسَعُ جَمِيعَ بَدَنِهِ كَأَنَّهُ كَانَ يَتَّقِي بِهَا الْحَرَّ هَكَذَا قَالَ : أَهْلُ الْغَرِيبِ . قَالُوا : " الْخُمْرَةُ " كَالْحَصِيرِ الصَّغِيرِ تُعْمَلُ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ وَتُنْسَجُ بِالسُّيُورِ وَالْخُيُوطِ وَهِيَ قَدْرُ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الْوَجْهِ وَالْأَنْفِ فَإِذَا كَبِرَتْ عَنْ ذَلِكَ فَهِيَ حَصِيرٌ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَتْرِهَا الْوَجْهَ وَالْكَعْبَيْنِ مِنْ حَرِّ الْأَرْضِ وَبَرْدِهَا . وَقِيلَ : لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ وَجْهَ الْمُصَلِّي أَيْ تَسْتُرُهُ . وَقِيلَ : لِأَنَّ خُيُوطَهَا مَسْتُورَةٌ بِسَعَفِهَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " { جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَأَخَذَتْ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا فَاحْتَرَقَ مِنْهَا مِثْلُ مَوْضِعِ دِرْهَمٍ } قَالَ : وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إطْلَاقِ الْخُمْرَةِ عَلَى الْكَبِيرِ مِنْ نَوْعِهَا لَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا تُعْلَمُ صِحَّتُهُ وَالْقُعُودُ عَلَيْهَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا طَوِيلَةٌ بِقَدْرِ مَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا ذَكَرُوهُ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْخُمْرَةَ لَمْ تَكُنْ لِأَجْلِ اتِّقَاءِ النَّجَاسَةِ أَوْ الِاحْتِرَازِ مِنْهَا

كَمَا يُعَلِّلُ بِذَلِكَ مَنْ يُصَلِّي عَلَى السَّجَّادَةِ وَيَقُولُ : إنَّهُ إنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ نَجَاسَةِ الْمَسْجِدِ أَوْ نَجَاسَةِ حُصْرِ الْمَسْجِدِ وَفُرُشِهِ لِكَثْرَةِ دَوْسِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ وَأَنَّهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي نَعْلَيْهِ وَهُمْ فِي نِعَالِهِمْ وَأَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ لِمُخَالَفَةِ الْيَهُودِ وَأَنَّهُ أَمَرَ إذَا كَانَ بِهَا أَذًى أَنْ تُدَلَّكَ بِالتُّرَابِ وَيُصَلَّى بِهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّعَالَ تُصِيبُ الْأَرْضَ وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ يُصَلِّي فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ الدَّلْكِ وَإِنْ أَصَابَهَا أَذًى . فَمَنْ تَكُونُ هَذِهِ شَرِيعَتُهُ وَسُنَّتُهُ كَيْفَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَائِلًا لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّ الْمَرَاتِبَ أَرْبَعٌ . أَمَّا الْغُلَاةُ : مِنْ الْمُوَسْوِسِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا عَلَى مَا يُفْرَشُ لِلْعَامَّةِ عَلَى الْأَرْضِ لَكِنْ عَلَى سَجَّادَةٍ وَنَحْوِهَا وَهَؤُلَاءِ كَيْفَ يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَذَلِكَ أَبْعَدُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّ النِّعَالَ قَدْ لَاقَتْ الطَّرِيقَ الَّتِي مَشَوْا فِيهَا ؛ وَاحْتَمَلَ أَنْ تَلْقَى النَّجَاسَةَ بَلْ قَدْ يَقْوَى ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَإِذَا كَانُوا لَا يُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ مُبَاشِرِينَ لَهَا بِأَقْدَامِهِمْ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ الْأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَلَا يُلَاقُونَهُ إلَّا وَقْتَ الصَّلَاةِ فَكَيْفَ بِالنِّعَالِ الَّتِي تَكَرَّرَتْ مُلَاقَاتُهَا لِلطُّرُقَاتِ الَّتِي تَمْشِي فِيهَا الْبَهَائِمُ وَالْآدَمِيُّونَ وَهِيَ مَظِنَّةُ النَّجَاسَةِ وَلِهَذَا هَؤُلَاءِ إذَا صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ وَضَعُوا أَقْدَامَهُمْ

عَلَى ظَاهِرِ النِّعَالِ ؛ لِئَلَّا يَكُونُوا حَامِلِينَ لِلنَّجَاسَةِ وَلَا مُبَاشِرِينَ لَهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَرَّعُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا فِي أَسْفَلِهِ نَجَاسَةٌ خِلَافًا مَعْرُوفًا فَيُفْرَشُ لِأَحَدِهِمْ مَفْرُوشٌ عَلَى الْأَرْضِ . وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَبْعَدُ الْمَرَاتِبِ عَنْ السُّنَّةِ . الثَّانِيَةُ : أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْحَصِيرِ وَنَحْوِهَا دُونَ الْأَرْضِ وَمَا يُلَاقِيهَا . الثَّالِثَةُ : أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا يُصَلِّيَ فِي النَّعْلِ الَّذِي تَكَرَّرَ مُلَاقَاتُهَا لِلطُّرُقَاتِ : فَإِنَّ طَهَارَةَ مَا يَتَحَرَّى الْأَرْضَ قَدْ يَكُونُ طَاهِرًا وَاحْتِمَالُ تَنْجِيسِهِ بَعِيدٌ بِخِلَافِ أَسْفَلِ النَّعْلِ . الرَّابِعَةُ : أَنْ يُصَلِّيَ فِي النَّعْلَيْنِ وَإِذَا وُجِدَ فِيهِمَا أَذًى دَلَكَهُمَا بِالتُّرَابِ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ . فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ سُنَّتُهُ هِيَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ : امْتَنَعَ أَنْ يُسْتَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَائِلًا مِنْ سَجَّادَةٍ وَغَيْرِهَا ؛ لِأَجْلِ الِاحْتِرَازِ مِنْ النَّجَاسَةِ . فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ حَدِيثِ الْخُمْرَةِ عَلَى أَنَّهُ وَضَعَهَا لِاتِّقَاءِ النَّجَاسَةِ فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا كَانَتْ لِاتِّقَاءِ الْحَرِّ فَهَذَا يُسْتَعْمَلُ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِذَلِكَ وَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ لَمْ يَفْعَلْ . الرَّابِعُ : أَنَّ الْخُمْرَةَ لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا الصَّحَابَةَ

وَلَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنْهُمْ يَتَّخِذُ لَهُ خُمْرَةً بَلْ كَانُوا يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَابِ وَالْحَصَى كَمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا أَوْ سُنَّةً لَفَعَلُوهُ وَلَأَمَرَهُمْ بِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ رُخْصَةً لِأَجْلِ الْحَاجَةِ إلَى مَا يَدْفَعُ الْأَذَى عَنْ الْمُصَلِّي وَهُمْ كَانُوا يَدْفَعُونَ الْأَذَى بِثِيَابِهِمْ وَنَحْوِهَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّحَابَةَ فِي عَهْدِهِ وَبَعْدَهُ أَفْضَلُ مِنَّا وَأَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَأَطْوَعُ لِأَمْرِهِ فَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ مَا يَقْصِدُهُ مُتَّخِذُو السَّجَّادَاتِ لَكَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ الْمَسْجِدَ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوشًا بَلْ كَانَ تُرَابًا وَحَصًى وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَصِيرِ وَفِرَاشِ امْرَأَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَمْ يُصَلِّ هُنَاكَ لَا عَلَى خُمْرَةٍ وَلَا سَجَّادَةٍ وَلَا غَيْرِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَفِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ وَعَائِشَةَ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ فِي بَيْتِهِ فَإِنَّهُ قَالَ : نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ . وَأَيْضًا فَفِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ الْمُتَقَدِّمِ مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ . قِيلَ : مَنْ اتَّخَذَ السَّجَّادَةِ لِيَفْرِشْهَا عَلَى حُصْرِ الْمَسْجِدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي هَذَا الْفِعْلِ حُجَّةٌ فِي السُّنَّةِ بَلْ كَانَتْ الْبِدْعَةُ فِي ذَلِكَ مُنْكَرَةٌ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَؤُلَاءِ يَتَّقِي أَحَدُهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْأَرْضِ حَذَرًا أَنْ

تَكُونَ نَجِسَةً مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْأَرْضِ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ } . وَلَا يَشْرَعُ اتِّقَاءُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا لِأَجْلِ هَذَا . بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : " { كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ } أَوْ كَمَا قَالَ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد " { تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ احْتَجَّ بِهِ مَنْ رَأَى أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا أَصَابَتْ الْأَرْضَ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِدَلْكِ النَّعْلِ النَّجِسِ بِالْأَرْضِ وَجَعَلَ التُّرَابَ لَهَا طَهُورًا فَإِذَا كَانَ طَهُورًا فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَأَنْ يَكُونَ طَهُورًا فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ يَقُولُ بِهِ مَنْ لَا يَقُولُ إنَّ النَّجَاسَةَ تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ فَإِنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد تَطْهُرُ بِذَلِكَ مَعَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ إنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ النَّجَاسَةَ تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَمَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهُوَ مَذْهَبُ

أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِمْ فَالْأَمْرُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَظْهَرُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّوْثَ النَّجِسَ إذَا صَارَ رَمَادًا وَنَحْوَهُ فَهُوَ طَاهِرٌ وَمَا يَقَعُ فِي الْمَلَّاحَةِ مِنْ دَمٍ وَمَيْتَةٍ وَنَحْوِهِمَا إذَا صَارَ مِلْحًا فَهُوَ طَاهِرٌ . وَقَدْ اتَّفَقُوا جَمِيعُهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ إذَا اسْتَحَالَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَصَارَتْ خَلًّا طَهُرَتْ . وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَسَائِرُ الْأَعْيَانِ إذَا انْقَلَبَتْ يَقِيسُونَهَا عَلَى الْخَمْرِ الْمُنْقَلِبَةِ . وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا يَعْتَذِرُ بِأَنَّ الْخَمْرَ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَطَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ كَانَ طَاهِرًا فَلَمَّا اسْتَحَالَ خَمْرًا نَجِسَ فَإِذَا اسْتَحَالَ خَلًّا طَهُرَ . وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ إنَّمَا نَجِسَتْ أَيْضًا بِالِاسْتِحَالَةِ ؛ فَإِنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ يَتَنَاوَلُهُ الْحَيَوَانُ طَاهِرًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ ثُمَّ يَمُوتُ فَيُنَجَّسُ وَكَذَلِكَ الْخِنْزِيرُ وَالْكَلْبُ وَالسِّبَاعُ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهَا إنَّمَا خُلِقَتْ مِنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ الطَّاهِرَيْنِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْخَلَّ وَالْمِلْحَ وَنَحْوَهُمَا أَعْيَانٌ طَيِّبَةٌ طَاهِرَةٌ دَاخِلَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } فَلِلْمُحَرَّمِ الْمُنَجَّسِ لَهَا أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ حَرَّمَهَا لِكَوْنِهَا دَاخِلَةً فِي الْمَنْصُوصِ أَوْ لِكَوْنِهَا فِي مَعْنَى الدَّاخِلَةِ فِيهِ فَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُنْتَفٍ ؛ فَإِنَّ النَّصَّ لَا يَتَنَاوَلُهَا

وَمَعْنَى النَّصِّ الَّذِي هُوَ الْخُبْثُ مُنْتَفٍ فِيهَا وَلَكِنْ كَانَ أَصْلُهَا نَجِسًا وَهَذَا لَا يَضُرُّ فَإِنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ الطَّيِّبَ مِنْ الْخَبِيثِ وَيُخْرِجُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْوَى فِي الْحُجَّةِ نَصًّا وَقِيَاسًا . وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ يَنْبَنِي طَهَارَةُ الْمَقَابِرِ . فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِنَجَاسَةِ الْمَقْبَرَةِ الْعَتِيقَةِ . يَقُولُونَ : إنَّهُ خَالَطَ التُّرَابَ صَدِيدُ الْمَوْتَى وَنَحْوُهُ وَاسْتَحَالَ عَنْ ذَلِكَ فَيُنَجِّسُونَهُ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الِاسْتِحَالَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ فَلَا يَكُونُ التُّرَابُ نَجِسًا وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ { أَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَائِطًا لِبَنِي النَّجَّارِ وَكَانَ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ وَخِرَبٌ وَنَخْلٌ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَتْ . وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ وَجُعِلَ قِبْلَةً لِلْمَسْجِدِ } . . . (1) فَهَذَا كَانَ مَقْبَرَةً لِلْمُشْرِكِينَ . ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ بِنَبْشِهِمْ لَمْ يَأْمُرْ بِنَقْلِ التُّرَابِ الَّذِي لَاقَاهُمْ وَغَيْرِهِ مِنْ تُرَابِ الْمَقْبَرَةِ وَلَا أَمَرَ بِالِاحْتِرَازِ مِنْ الْعُذْرَةِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَكِنَّ الْغَرَضَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْوَسْوَاسِ مِنْ تَوَقِّي الْأَرْضِ وَتَنْجِيسِهَا بَاطِلٌ بِالنَّصِّ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ فِيهِ نِزَاعٌ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَؤُلَاءِ يَفْتَرِشُ أَحَدُهُمْ السَّجَّادَةَ عَلَى مُصَلَّيَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْحُصْرِ وَالْبُسُطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْرَشُ فِي الْمَسَاجِدِ فَيَزْدَادُونَ بِدْعَةً عَلَى بِدْعَتِهِمْ . وَهَذَا الْأَمْرُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَكُونُ شُبْهَةً لَهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا ؛ بَلْ يُعَلِّلُونَ أَنَّ هَذِهِ الْحُصْرَ يَطَؤُهَا عَامَّةُ النَّاسِ وَلَعَلَّ أَحَدَهُمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَأَى أَوْ سَمِعَ أَنَّهُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بَالَ صَبِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى بَعْضِ حُصْرِ الْمَسْجِدِ أَوْ رَأَى عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ ذَرْقِ الْحَمَامِ . أَوْ غَيْرِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ حُجَّةً فِي الْوَسْوَاسِ . وَقَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مَا زَالَ يَطَأُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ وَهُنَاكَ مِنْ الْحَمَامِ مَا لَيْسَ بِغَيْرِهِ وَيَمُرُّ بِالْمَطَافِ مِنْ الْخَلْقِ مَا لَا يَمُرُّ بِمَسْجِدِ مِنْ الْمَسَاجِدِ فَتَكُونُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا أَقْوَى . ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ يُصَلِّي هُنَاكَ عَلَى حَائِلٍ وَلَا يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ هَذَا مُسْتَحَبًّا كَمَا زَعَمَهُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَرْكِ الْمُسْتَحَبِّ الْأَفْضَلِ . وَيَكُونُ هَؤُلَاءِ أَطْوَعَ لِلَّهِ وَأَحْسَنَ عَمَلًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّ هَذَا خِلَافَ مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَأَيْضًا فَقَدْ كَانُوا يَطَؤُونَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِنِعَالِهِمْ وَخِفَافِهِمْ وَيُصَلُّونَ فِيهِ مَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَلَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُمْ هَذَا الِاحْتِرَازُ الَّذِي ابْتَدَعَهُ هَؤُلَاءِ فَعُلِمَ خَطَؤُهُمْ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَقُولُوا : الْأَرْضُ تَطْهُرُ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَالِاسْتِحَالَةِ . دُونَ الْحَصِيرِ . فَيُقَالُ : هَذَا إذَا كَانَ حَقًّا فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ . وَذَلِكَ يَظْهَرُ بِ ( الْوَجْهِ الثَّالِثِ : وَهُوَ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا يُسْتَحَبُّ الْبَحْثُ عَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا وَلَا الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لِاحْتِمَالِ وَجُودِهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْمَشْكُوكِ فِيهِ مُطْلَقًا فَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ مَرَّ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ بِمَكَانِ فَسَقَطَ عَلَى صَاحِبِهِ مَاءٌ مِنْ مِيزَابٍ فَنَادَى صَاحِبُهُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ أَمَاؤُك طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ " فَنَهَى عُمَرُ عَنْ إخْبَارِهِ لِأَنَّهُ تَكَلَّفَ مِنْ السُّؤَالِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ . وَهَذَا قَدْ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ . وَهُوَ : أَنَّ النَّجَاسَةَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا مَعَ الْعِلْمِ فَلَوْ صَلَّى وَبِبَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَأَحْمَد فِي أَقْوَى الرِّوَايَتَيْنِ وَسَوَاءٌ كَانَ عَلِمَهَا ثُمَّ نَسِيَهَا أَوْ جَهِلَهَا ابْتِدَاءً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي نَعْلَيْهِ ثُمَّ خَلَعَهُمَا فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَمَّا أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ أَنَّ بِهِمَا أَذًى وَمَضَى فِي صَلَاتِهِ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْهَا مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَتَكَلُّفُهُ لِلْخَلْعِ فِي أَثْنَائِهَا مَعَ أَنَّهُ لَوْلَا الْحَاجَةُ لَكَانَ عَبَثًا أَوْ مَكْرُوهًا . . . (1) . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ مَعَ الْعِلْمِ وَمَظِنَّةٌ تَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهَا فِي حَالِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ أُمِّ جحدر الْعَامِرِيَّةِ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَتْ : " { كُنْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْنَا شِعَارُنَا وَقَدْ أَلْقَيْنَا فَوْقَهُ كِسَاءً فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْكِسَاءَ فَلَبِسَهُ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْغَدَاةَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ لَمْعَةٌ مِنْ دَمٍ فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَلِيهَا فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ مَصْرُورَةً فِي يَدِ غُلَامٍ فَقَالَ : اغْسِلِي هَذَا وأجفيها وَأَرْسِلِي بِهَا إلَيَّ فَدَعَوْت بِقَصْعَتِي فَغَسَلْتهَا ثُمَّ أَجَفَفْتهَا فَأَعَدْتهَا إلَيْهِ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفَ النَّهَارِ وَهِيَ عَلَيْهِ } . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَأْمُرْ الْمَأْمُومِينَ بِالْإِعَادَةِ وَلَا ذَكَرَ لَهُمْ أَنَّهُ يُعِيدُ وَأَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ وَلَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُعِدْ . وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ وَبَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ

مَعْفُوٌّ فِيهِ عَنْ الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي . كَمَا قَالَ فِي دُعَاءِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ . وَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ وَنَحْوَهُ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ يُعْفَى فِيهَا عَنْ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ وَنَحْوِهِ وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِي لَمَّا شَمَّتَ الْعَاطِسَ فِي الصَّلَاةِ وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي التَّشَهُّدِ لَمَّا كَانُوا يَقُولُونَ أَوَّلًا : السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّشَهُّدِ الْمَشْهُورِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا يُعْفَى فِيهَا عَنْ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالنَّجَاسَةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَا حَاجَةَ بِهِ حِينَئِذٍ عَنْ السُّؤَالِ عَنْ أَشْيَاءَ إنْ أُبْدِيَتْ سَاءَتْهُ قَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَبْلُغُ الْحَالُ بِأَحَدِهِمْ إلَى أَنْ يَكْرَهَ الصَّلَاةَ

إلَّا عَلَى سَجَّادَةٍ ؛ بَلْ قَدْ جَعَلَ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِهَا مُحَرَّمًا فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ امْتِنَاعَهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ . وَهَذَا فِيهِ مُشَابَهَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا لَا يُصَلُّونَ إلَّا فِي مَسَاجِدِهِمْ ؛ فَإِنَّ الَّذِي لَا يُصَلِّي إلَّا عَلَى مَا يُصْنَعُ لِلصَّلَاةِ مِنْ الْمَفَارِشِ شَبِيهٌ بِاَلَّذِي لَا يُصَلِّي إلَّا فِيمَا يَصْنَعُ لِلصَّلَاةِ مِنْ الْأَمَاكِنِ . وَأَيْضًا فَقَدْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ أَهْلِ الدِّينِ فَيَعُدُّونَ تَرْكَ ذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ الدِّينِ وَمِنْ قِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ فَيَجْعَلُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْهَدْيِ الَّذِي مَا أُنْزِلَ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ أَكْمَلَ مِنْ هَدْيِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ . وَرُبَّمَا تَظَاهَرَ أَحَدُهُمْ بِوَضْعِ السَّجَّادَةِ عَلَى مَنْكِبِهِ وَإِظْهَارِ الْمَسَابِحِ فِي يَدِهِ وَجَعْلِهِ مِنْ شِعَارِ الدِّينِ وَالصَّلَاةِ وَقَدْ عُلِمَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا شِعَارَهُمْ وَكَانُوا يُسَبِّحُونَ وَيَعْقِدُونَ عَلَى أَصَابِعِهِمْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { اعْقِدْنَ بِالْأَصَابِعِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ } وَرُبَّمَا عَقَدَ أَحَدُهُمْ التَّسْبِيحَ بِحَصَى أَوْ نَوَى . وَالتَّسْبِيحُ بِالْمَسَابِحِ مِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ : أَنَّ التَّسْبِيحَ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ التَّسْبِيحِ بِالْأَصَابِعِ وَغَيْرِهَا وَإِذَا كَانَ هَذَا مُسْتَحَبًّا يَظْهَرُ فَقَصْدُ إظْهَارِ ذَلِكَ وَالتَّمَيُّزُ بِهِ عَلَى النَّاسِ مَذْمُومٌ ؛ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ رِيَاءً فَهُوَ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الرِّيَاءِ إذْ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَصْنَعُ هَذَا يَظْهَرُ مِنْهُ الرِّيَاءُ وَلَوْ كَانَ رِيَاءً بِأَمْرِ مَشْرُوعٍ لَكَانَتْ إحْدَى الْمُصِيبَتَيْنِ ؛ لَكِنَّهُ رِيَاءٌ لَيْسَ

مَشْرُوعًا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } . قَالَ الْفُضَيْل ابْنُ عِيَاضٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ ؟ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ . وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفُضَيْل مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فِي الْعَمَلِ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا مَأْمُورًا بِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ . وَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا " . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ . مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَإِنِّي مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ بِهِ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ العرباض بْنِ سَارِيَةَ قَالَ : " { وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا فَقَالَ : أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ . وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ . فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } وَفِي لَفْظٍ " { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : " { إنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدِثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } .
وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ تَقْدِيمِ مَفَارِشَ إلَى الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا قَبْلَ ذَهَابِهِمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ مُحَرَّمٌ . وَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَفْرُوشِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ غَصَبَ بُقْعَةً فِي الْمَسْجِدِ بِفَرْشِ ذَلِكَ الْمَفْرُوشِ فِيهَا وَمَنَعَ غَيْرَهُ مِنْ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ يَسْبِقُونَهُ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَمَنْ صَلَّى فِي بُقْعَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ مَعَ مَنْعِ غَيْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا : فَهَلْ هُوَ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَفِي الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ

الْمَغْصُوبَةِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْمَقَاصِيرِ الَّتِي يَمْنَعُ الصَّلَاةَ فِيهَا عُمُومُ النَّاسِ . وَالْمَشْرُوعُ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّ النَّاسَ يُتِمُّونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَلَا تُصَفُّونَ كَمَا تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالَ : يُتِمُّونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يستهموا عَلَيْهِ لاستهموا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إلَيْهِ } . وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَنْ يَسْبِقَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ إلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا قَدَّمَ الْمَفْرُوشَ وَتَأَخَّرَ هُوَ فَقَدْ خَالَفَ الشَّرِيعَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ تَأَخُّرِهِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالتَّقَدُّمِ . وَمِنْ جِهَةِ غَصْبِهِ لِطَائِفَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ وَمَنْعِهِ السَّابِقِينَ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ وَأَنْ يُتِمُّوا الصَّفَّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ ثُمَّ إنَّهُ يَتَخَطَّى النَّاسَ إذَا حَضَرُوا . وَفِي الْحَدِيثِ . " { الَّذِي يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَتَّخِذُ جِسْرًا إلَى جَهَنَّمَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ : " { اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْت } . ثُمَّ إذَا فَرَشَ هَذَا فَهَلْ لِمَنْ سَبَقَ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ وَيُصَلِّي مَوْضِعَهُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ لِغَيْرِهِ رَفْعَهُ وَالصَّلَاةَ مَكَانَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا السَّابِقَ يَسْتَحِقُّ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِ هَذَا الْمَأْمُورِ وَاسْتِيفَاءِ هَذَا الْحَقِّ إلَّا بِرَفْعِ ذَلِكَ الْمَفْرُوشِ . وَمَا لَا يَتِمُّ الْمَأْمُورُ إلَّا بِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ . وَأَيْضًا فَذَلِكَ الْمَفْرُوشُ وَضَعَهُ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ الْغَصْبِ وَذَلِكَ مُنْكَرٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُؤَوَّلَ إلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْحَدِيثِ : " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى سَجَّادَةٍ } فَقَدْ أَوْرَدَ شَخْصٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَقَالَ : يَا عَائِشَةُ ائْتِينِي بِالْخُمْرَةِ فَأَتَتْ بِهِ . فَصَلَّى عَلَيْهِ } .
فَأَجَابَ :
لَفْظُ الْحَدِيثِ " { أَنَّهُ طَلَبَ الْخُمْرَةَ } وَالْخُمْرَةُ : شَيْءٌ يُصْنَعُ مِنْ الْخُوصِ

فَسَجَدَ عَلَيْهِ يَتَّقِي بِهِ حَرَّ الْأَرْضِ وَأَذَاهَا . فَإِنَّ حَدِيثَ الْخُمْرَةِ صَحِيحٌ . وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا كَبِيرَةً يُصَلِّي عَلَيْهَا يَتَّقِي بِهَا النَّجَاسَةَ وَنَحْوَهَا فَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّخِذُ سَجَّادَةً يُصَلِّي عَلَيْهَا وَلَا الصَّحَابَةُ ؛ بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ حُفَاةً وَمُنْتَعِلِينَ وَيُصَلُّونَ عَلَى التُّرَابِ وَالْحَصِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ : " { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ } وَقَالَ : " { إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ } وَصَلَّى مَرَّةً فِي نَعْلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ فِي نِعَالِهِمْ فَخَلَعَهُمَا فِي الصَّلَاةِ فَخَلَعُوا فَقَالَ : " { مَا لَكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ ؟ قَالُوا : رَأَيْنَاك خَلَعْت فَخَلَعْنَا . قَالَ : إنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا أَذًى فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا بِالتُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ } . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا يَخْلَعُونَهَا بَلْ يَطَئُونَ بِهَا عَلَى الْأَرْضِ وَيُصَلُّونَ فِيهَا فَكَيْفَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَانَ يَتَّخِذُ سَجَّادَةً يَفْرِشُهَا عَلَى حَصِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَيْهَا ؟ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَفْعَلُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَيُنْقَلُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَفَرَشَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَمَرَ بِحَبْسِهِ . وَقَالَ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ هَذَا فِي مَسْجِدِنَا بِدْعَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ تَحَجَّرَ مَوْضِعًا مِنْ الْمَسْجِدِ . بِسَجَّادَةِ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . هَلْ هُوَ حَرَامٌ ؟ وَإِذَا صَلَّى إنْسَانٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ هَلْ يُكْرَهُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَتَحَجَّرَ مِنْ الْمَسْجِدِ شَيْئًا لَا سَجَّادَةً يَفْرِشُهَا قَبْلَ حُضُورِهِ وَلَا بِسَاطًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ . وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لَكِنْ يَرْفَعُهَا وَيُصَلِّي مَكَانَهَا ؛ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ :
عَنْ دُخُولِ النَّصْرَانِيِّ أَوْ الْيَهُودِيِّ فِي الْمَسْجِدِ بِإِذْنِ الْمُسْلِمِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ يَتَّخِذُهُ طَرِيقًا . فَهَلْ يَجُوزُ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّخِذَ الْمَسْجِدَ طَرِيقًا فَكَيْفَ إذَا اتَّخَذَهُ الْكَافِرُ طَرِيقًا فَإِنَّ هَذَا يُمْنَعُ بِلَا رَيْبٍ .

وَأَمَّا إذَا كَانَ دَخَلَهُ ذِمِّيٌّ لِمَصْلَحَةِ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَفِي اشْتِرَاطِ إذْنِ الْمُسْلِمِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .
وَسُئِلَ :
هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ فِيهِ قَبْرٌ وَالنَّاسُ تَجْتَمِعُ فِيهِ لِصَلَاتَيْ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُمَهَّدُ الْقَبْرُ أَوْ يُعْمَلُ عَلَيْهِ حَاجِزٌ أَوْ حَائِطٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا يُبْنَى مَسْجِدٌ عَلَى قَبْرٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ . فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } .

وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْنُ مَيِّتٍ فِي مَسْجِدٍ . فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ قَبْلَ الدَّفْنِ غُيِّرَ : إمَّا بِتَسْوِيَةِ الْقَبْرِ وَإِمَّا بِنَبْشِهِ إنْ كَانَ جَدِيدًا . وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ بُنِيَ بَعْدَ الْقَبْرِ : فَإِمَّا أَنْ يُزَالَ الْمَسْجِدُ وَإِمَّا أَنْ تُزَالَ صُورَةُ الْقَبْرِ فَالْمَسْجِدُ الَّذِي عَلَى الْقَبْرِ لَا يُصَلَّى فِيهِ فَرْضٌ وَلَا نَفْلٌ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ جَمَاعَةٍ نَازِلِينَ فِي الْجَامِعِ مُقِيمِينَ لَيْلًا وَنَهَارًا وَأَكْلُهُمْ وَشُرْبُهُمْ وَنَوْمُهُمْ وَقُمَاشُهُمْ وَأَثَاثُهُمْ الْجَمِيعُ فِي الْجَامِعِ وَيَمْنَعُونَ مَنْ يَنْزِلُ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمْ وَحَكَرُوا الْجَامِعَ ثُمَّ إنَّ جَمَاعَةً دَخَلُوا بَعْضَ الْمَقَاصِيرِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ احْتِسَابًا فَمَنَعَهُمْ بَعْضُ الْمُجَاوِرِينَ وَقَالَ هَذَا مَوْضِعُنَا . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَخْتَصَّ بِشَيْءِ مِنْ الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْهُ دَائِمًا ؛ بَلْ قَدْ " { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إيطَانٍ كَإِيطَانِ الْبَعِيرِ } قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَعْنَاهُ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ مَكَانًا مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يُصَلِّي

إلَّا فِيهِ فَإِذَا كَانَ لَيْسَ لَهُ مُلَازَمَةُ مَكَانٍ بِعَيْنِهِ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ بِمَنْ يَتَحَجَّرُ بُقْعَةً دَائِمًا . هَذَا لَوْ كَانَ إنَّمَا يَفْعَلُ فِيهَا مَا يُبْنَى لَهُ الْمَسْجِدُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَيْفَ إذَا اتَّخَذَ الْمَسْجِدَ بِمَنْزِلَةِ الْبُيُوتِ فِيهِ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَنَوْمُهُ وَسَائِرُ أَحْوَالِهِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَمْ تُبْنَ الْمَسَاجِدُ لَهُ دَائِمًا ؛ فَإِنَّ هَذَا يُمْنَعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّمَا وَقَعَتْ الرُّخْصَةُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ لِذَوِي الْحَاجَةِ مِثْلِ مَا كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ : كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مُهَاجِرًا إلَى الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ لَهُ مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ فَيُقِيمُ بِالصُّفَّةِ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ لَهُ أَهْلٌ أَوْ مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ . وَمِثْلِ الْمِسْكِينَةِ الَّتِي كَانَتْ تَأْوِي إلَى الْمَسْجِدِ وَكَانَتْ تَقُمُّهُ . وَمِثْلِ مَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ عَزَبٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ يَأْوِي إلَيْهِ حَتَّى تَزَوَّجَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : لَمَّا تَقَاوَلَ هُوَ وَفَاطِمَةُ ذَهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ فَنَامَ فِيهِ . فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ الْيَسِيرِ وَذَوِي الْحَاجَاتِ وَبَيْنَ مَا يَصِيرُ عَادَةً وَيَكْثُرُ وَمَا يَكُونُ لِغَيْرِ ذَوِي الْحَاجَاتِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا تَتَّخِذُوا الْمَسْجِدَ مَبِيتًا وَمَقِيلًا . هَذَا وَلَمْ يَفْعَلْ فِيهِ إلَّا النَّوْمُ فَكَيْفَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأُمُورِ وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي الْمُعْتَكِفِ هَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْكُلَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِمُلَازَمَةِ الْمَسْجِدِ وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهُ إلَّا لِحَاجَةِ وَالْأَئِمَّةُ كَرِهُوا اتِّخَاذَ الْمَقَاصِيرَ فِي الْمَسْجِدِ لَمَّا أَحْدَثَهَا بَعْضُ الْمُلُوكِ ؛ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً وَأُولَئِكَ إنَّمَا

كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا خَاصَّةً . فَأَمَّا اتِّخَاذُهَا لِلسُّكْنَى وَالْمَبِيتِ وَحِفْظِ الْقُمَاشِ وَالْمَتَاعِ فِيهَا فَمَا عَلِمْت مُسْلِمًا تَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا يَجْعَلُ الْمَسْجِدَ بِمَنْزِلَةِ الْفَنَادِقِ الَّتِي فِيهَا مَسَاكِنُ مُتَحَجِّرَةٌ وَالْمَسْجِدُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَخْتَصُّ أَحَدٌ بِشَيْءِ مِنْهُ إلَّا بِمِقْدَارِ لُبْثِهِ لِلْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ فَمَنْ سَبَقَ إلَى بُقْعَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ لِصَلَاةِ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ تَعَلُّمِ عِلْمٍ أَوْ اعْتِكَافٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَقْضِيَ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَيْسَ لِأَحَدِ إقَامَتُهُ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَلَكِنْ يُوَسِّعُ وَيُفْسِحُ . وَإِذَا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ ثُمَّ عَادَ فَهُوَ أَحَقُّ بِمَكَانِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ ذَلِكَ قَالَ : " { إذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } وَأَمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمَقَامِ وَالسُّكْنَى فِيهِ كَمَا يَخْتَصُّ النَّاسُ بِمَسَاكِنِهِمْ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنْ الْمُقَامِ فِي الْمَسْجِدِ مُقَامُ الْمُعْتَكِفِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ يَحْتَجِرُ لَهُ حَصِيرًا فَيَعْتَكِفُ فِيهِ وَكَانَ يَعْتَكِفُ فِي قُبَّةٍ وَكَذَلِكَ كَانَ النَّاسُ يَعْتَكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وَيَضْرِبُونَ لَهُمْ فِيهِ الْقِبَابَ فَهَذَا مُدَّةُ الِاعْتِكَافِ خَاصَّةً وَالِاعْتِكَافُ عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَيْسَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَالْمَشْرُوعُ لَهُ

أَنْ لَا يَشْتَغِلَ إلَّا بِقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ وَاَلَّذِي يَتَّخِذُهُ سَكَنًا لَيْسَ مُعْتَكِفًا بَلْ يَشْتَمِلُ عَلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْمَشْرُوعِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْحَالِ مَنَعَ النَّاسَ مِنْ أَنْ يَفْعَلُوا فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ مَا بُنِيَ لَهُ الْمَسْجِدُ مِنْ صَلَاةٍ وَقِرَاءَةٍ وَذِكْرٍ كَمَا فِي الِاسْتِفْتَاءِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمْنَعُ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْقُرَّاءِ وَاَلَّذِي فَعَلَهُ هَذَا الظَّالِمُ مُنْكَرٌ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا اتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ مَبِيتًا وَمَقِيلًا وَسَكَنًا كَبُيُوتِ الْخَانَاتِ وَالْفَنَادِقِ .
وَالثَّانِي مَنْعُهُ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ حَيْثُ يُشْرَعُ .
وَالثَّالِثُ مَنْعُ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ فَإِنْ احْتَجَّ بِأَنَّ أُولَئِكَ يَقْرَءُونَ لِأَجْلِ الْوَقْفِ الْمَوْقُوف عَلَيْهِمْ وَهَذَا لَيْسَ مَنْ أَهْلِ الْوَقْفِ كَانَ هَذَا الْعُذْرُ أَقْبَحَ مِنْ الْمَنْعِ لِأَنَّ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مُحْتَسِبًا أَوْلَى بِالْمُعَاوَنَةِ مِمَّنْ يَقْرَؤُهُ لِأَجْلِ الْوَقْفِ وَلَيْسَ لِلْوَاقِفِ أَنْ يُغَيِّرَ دِينَ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمُجَرَّدِ وَقْفِهِ يَصِيرُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ فِي الْمَسْجِدِ حَقٌّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ الْوَاقِفُ أَنْ يَحْتَجِرَ بُقْعَةً مِنْ الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ وَقْفِهِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ عَيَّنَ بُقْعَةً مِنْ الْمَسْجِدِ لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ تَعْلِيمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ تَتَعَيَّنْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ كَمَا لَا تَتَعَيَّنُ فِي

النَّذْرِ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَعْتَكِفَ فِي بُقْعَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمْ تَتَعَيَّنْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ وَكَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَعْتَكِفَ فِي سَائِرِ بِقَاعِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَكِنْ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ فَلَا يُوجِبُونَ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ طَاعَةً بِدُونِ النَّذْرِ وَإِلَّا فَالنَّذْرُ لَا يَجْعَلُ مَا لَيْسَ بِعِبَادَةِ عِبَادَةً وَالنَّاذِرُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُوقِفَ إلَّا مَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } وَلِهَذَا لَوْ نَذَرَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ . وَفِي الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ أَوْجَبَهَا فِي الْمَشْهُورِ أَحْمَد وَلَمْ يُوجِبْهَا الثَّلَاثَةُ . وَكَذَلِكَ شَرْطُ الْوَاقِفِ وَالْبَائِعِ وَغَيْرِهِمَا . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } وَهَذَا كُلُّهُ

لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُغَيِّرَ شَرِيعَتَهُ الَّتِي بَعَثَ بِهَا رَسُولَهُ وَلَا يَبْتَدِعَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَا يُغَيِّرَ أَحْكَامَ الْمَسَاجِدِ عَنْ حُكْمِهَا الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْكَلَامِ وَالْمَشْيِ بِالنِّعَالِ فِي أَمَاكِنِ الصَّلَاةِ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا النَّوْمُ أَحْيَانًا لِلْمُحْتَاجِ مِثْلَ الْغَرِيبِ وَالْفَقِيرِ الَّذِي لَا مَسْكَنَ لَهُ فَجَائِزٌ وَأَمَّا اتِّخَاذُهُ مَبِيتًا وَمَقِيلًا فَيَنْهَوْنَ عَنْهُ . وَأَمَّا الْكَلَامُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي الْمَسْجِدِ فَحَسَنٌ وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا . وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ . وَيُكْرَهُ فِيهِ فُضُولُ الْمُبَاحِ . وَأَمَّا الْمَشْيُ بِالنِّعَالِ فَجَائِزٌ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَمْشُونَ بِنِعَالِهِمْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إذَا أَتَى الْمَسْجِدَ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْظُرَ فِي نَعْلَيْهِ فَإِنْ كَانَ بِهِمَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا بِالتُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .