الأربعاء، 20 أبريل 2022

ج 43. وج44. مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

 

43. مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)
 وَإِمَّا بِإِحْسَانِ وَرَغْبَةٍ وَفِي الْحَقِيقَةِ فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا . وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُوَلَّى الْقَضَاءُ ؛ إلَّا عَالِمٌ فَاسِقٌ أَوْ جَاهِلٌ دَيِّنٌ ؛ فَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ ؟ فَقَالَ : إنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الدَّيِّنِ أَكْثَرَ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ قُدِّمَ الدَّيِّنُ . وَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْعِلْمِ أَكْثَرَ لِخَفَاءِ الْحُكُومَاتِ قُدِّمَ الْعَالِمُ . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُقَدِّمُونَ ذَا الدِّينِ ؛ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمُتَوَلِّي مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ : هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا أَوْ الْوَاجِبُ تَوْلِيَةُ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَبُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْأَهْلِ لِلضَّرُورَةِ إذَا كَانَ أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ فَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ السَّعْيُ فِي إصْلَاحِ الْأَحْوَالِ حَقًّا يَكْمُلُ فِي النَّاسِ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ وَالْإِمَارَاتِ وَنَحْوِهَا ؛ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ السَّعْيُ فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَكَمَا يَجِبُ الِاسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي وَقْتِ سُقُوطِهِ لِلْعَجْزِ فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ بِخِلَافِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَا .

فَصْلٌ :
وَأَهَمُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ مَعْرِفَةُ الْأَصْلَحِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتِمُّ بِمَعْرِفَةِ مَقْصُودِ الْوِلَايَةِ وَمَعْرِفَةِ طَرِيقِ الْمَقْصُودِ ؛ فَإِذَا عُرِفَتْ الْمَقَاصِدُ وَالْوَسَائِلُ تَمَّ الْأَمْرُ . فَلِهَذَا لَمَّا غَلَبَ عَلَى أَكْثَرِ الْمُلُوكِ قَصْدُ الدُّنْيَا ؛ دُونَ الدِّينِ ؛ قَدَّمُوا فِي وِلَايَتِهِمْ مَنْ يُعِينُهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَقَاصِدِ وَكَانَ مَنْ يَطْلُبُ رِئَاسَةَ نَفْسِهِ يُؤْثِرُ تَقْدِيمَ مَنْ يُقِيمُ رِئَاسَتَهُ ؛ وَقَدْ كَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الَّذِي يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَيَخْطُبُ بِهِمْ : هُمْ أُمَرَاءُ الْحَرْبِ الَّذِينَ هُمْ نُوَّابُ ذِي السُّلْطَانِ عَلَى الْأَجْنَادِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ قَدَّمَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي إمَارَةِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى حَرْبٍ كَانَ هُوَ الَّذِي يُؤَمِّرُهُ لِلصَّلَاةِ بِأَصْحَابِهِ وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا نَائِبًا عَلَى مَدِينَةٍ كَمَا اسْتَعْمَلَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ وَعُثْمَانَ بْنَ أَبِي العاص عَلَى الطَّائِفِ وَعَلِيًّا وَمُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى عَلَى الْيَمَنِ وَعَمْرَو بْنَ حَزْمٍ عَلَى نَجْرَانَ : كَانَ نَائِبُهُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ وَيُقِيمُ

فِيهِمْ الْحُدُودَ وَغَيْرَهَا مِمَّا يَفْعَلُهُ أَمِيرُ الْحَرْبِ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُلُوكِ الْأُمَوِيِّينَ وَبَعْضِ الْعَبَّاسِيِّينَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهَمَّ أَمْرِ الدِّينِ الصَّلَاةُ وَالْجِهَادُ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَكَانَ إذَا عَادَ مَرِيضًا يَقُولُ : { اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَك يَشْهَدُ لَك صَلَاةً وَيَنْكَأُ لَك عَدُوًّا } . { وَلَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ : يَا مُعَاذُ إنَّ أَهَمَّ أَمْرِك عِنْدِي الصَّلَاةُ } . وَكَذَلِكَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ : " إنَّ أَهَمَّ أُمُورِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ ؛ فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا وَحَفِظَهَا حَفِظَ دِينَهُ وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا مِنْ عَمَلِهِ أَشَدَّ إضَاعَةٍ " { . وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : } الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ { . فَإِذَا أَقَامَ الْمُتَوَلِّي عِمَادَ الدِّينِ : فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَهِيَ الَّتِي تُعِينُ النَّاسَ عَلَى مَا سِوَاهَا مِنْ الطَّاعَاتِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } وَقَالَ لِنَبِيِّهِ : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } وَقَالَ

تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } . فَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلَايَاتِ : إصْلَاحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا ؛ وَإِصْلَاحُ مَا لَا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ . وَهُوَ نَوْعَانِ : قَسْمُ الْمَالِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ ؛ وَعُقُوبَاتُ الْمُعْتَدِينَ فَمَنْ لَمْ يَعْتَدِ أَصْلَحَ لَهُ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ : " إنَّمَا بَعَثْت عُمَّالِي إلَيْكُمْ لِيُعَلِّمُوكُمْ كِتَابَ رَبِّكُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَيَقْسِمُوا بَيْنَكُمْ فَيْأَكُمْ " } . فَلَمَّا تَغَيَّرَتْ الرَّعِيَّةُ مِنْ وَجْهِ وَالرُّعَاةِ مِنْ وَجْهٍ ؛ تَنَاقَضَتْ الْأُمُورُ . فَإِذَا اجْتَهَدَ الرَّاعِي فِي إصْلَاحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ زَمَانِهِ وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ فَقَدْ رُوِيَ : { يَوْمٌ مِنْ إمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً } وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَحَبُّ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ إمَامٌ عَادِلٌ وَأَبْغَضُهُمْ إلَيْهِ إمَامٌ جَائِرٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ : إمَامٌ عَادِلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ

عَيْنَاهُ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ : إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةِ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمُ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ : ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٍ وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ بِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ وَرَجُلٌ غَنِيٌّ عَفِيفٌ مُتَصَدِّقٌ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { السَّاعِي عَلَى الصَّدَقَةِ بِالْحَقِّ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا أَمَرَ بِالْجِهَادِ - : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } { وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَالْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَكَلِمَةُ اللَّهِ : اسْمٌ جَامِعٌ لِكَلِمَاتِهِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا كِتَابُهُ وَهَكَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } فَالْمَقْصُودُ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ خَلْقِهِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى :

{ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } . فَمَنْ عَدَلَ عَنْ الْكِتَابِ قُوِّمَ بِالْحَدِيدِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ الدِّينِ بِالْمُصْحَفِ وَالسَّيْفِ . وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَضْرِبَ بِهَذَا - يَعْنِي السَّيْفَ - مَنْ عَدَلَ عَنْ هَذَا - يَعْنِي الْمُصْحَفَ } - فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَإِنَّهُ يَتَوَسَّلُ إلَيْهِ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ وَيَنْظُرُ إلَى الرَّجُلَيْنِ أَيُّهُمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْمَقْصُودِ وَلِيَ ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْوِلَايَةُ مَثَلًا - إمَامَةَ صَلَاةٍ فَقَطْ ؛ قُدِّمَ مَنْ قَدَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَإِذَا تَكَافَأَ رَجُلَانِ ؛ وَخَفِيَ أَصْلَحُهُمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا كَمَا أَقْرَعَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ لَمَّا تَشَاجَرُوا عَلَى الْأَذَانِ ؛ مُتَابَعَةً لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يستهموا عَلَيْهِ لاستهموا } . فَإِذَا كَانَ التَّقْدِيمُ بِأَمْرِ اللَّهِ إذَا ظَهَرَ وَبِفِعْلِهِ - وَهُوَ مَا يُرَجِّحُهُ بِالْقُرْعَةِ إذَا خَفِيَ الْأَمْرُ - كَانَ الْمُتَوَلِّي قَدْ أَدَّى الْأَمَانَاتِ فِي الْوِلَايَاتِ إلَى أَهْلِهَا .

فَصْلٌ :
الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْأَمَانَاتِ : الْأَمْوَالُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الدُّيُونِ : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } . وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ : الْأَعْيَانُ وَالدُّيُونُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ : مِثْلَ رَدِّ الْوَدَائِعِ وَمَالِ الشَّرِيكِ وَالْمُوَكَّلِ وَالْمُضَارِبِ وَمَالِ الْمَوْلَى مِنْ الْيَتِيمِ وَأَهْلِ الْوَقْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ وَفَاءُ الدُّيُونِ مِنْ أَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ وَبَدَلُ الْقَرْضِ وَصَدَقَاتُ النِّسَاءِ وَأُجُورُ الْمَنَافِعِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } { إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا } { وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } { إلَّا الْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } { لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } أَيْ لَا تُخَاصِمْ عَنْهُمْ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَلِهِمْ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا

نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ } . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بَعْضُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَبَعْضُهُ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاهَا اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَوْجَبَ أَدَاءَ الْأَمَانَاتِ الَّتِي قُبِضَتْ بِحَقِّ ؛ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ أَدَاءِ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَظَالِمِ كَذَلِكَ أَدَاءُ الْعَارِيَةِ . وَقَدْ { خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ : الْعَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ ؛ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ } . وَهَذَا الْقِسْمُ يَتَنَاوَلُ الْوُلَاةَ وَالرَّعِيَّةَ فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا : أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الْآخَرِ مَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ إلَيْهِ فَعَلَى ذِي السُّلْطَانِ وَنُوَّابِهِ فِي الْعَطَاءِ أَنْ يُؤْتُوا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ . وَعَلَى جُبَاةِ الْأَمْوَالِ كَأَهْلِ الدِّيوَانِ أَنْ يُؤَدُّوا إلَى ذِي السُّلْطَانِ مَا يَجِبُ إيتَاؤُهُ إلَيْهِ ؛ كَذَلِكَ عَلَى الرَّعِيَّةِ الَّذِينَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْحُقُوقُ ؛ وَلَيْسَ لِلرَّعِيَّةِ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْ وُلَاةِ الْأَمْوَالِ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ فَيَكُونُونَ مِنْ جِنْسِ مَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ لِمَنْ تَكُونُ

بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . وَلَا لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا السُّلْطَانَ مَا يَجِبُ دَفْعُهُ إلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا ؛ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذُكِرَ جَوْرُ الْوُلَاةِ فَقَالَ : { أَدُّوا إلَيْهِمْ الَّذِي لَهُمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ } . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ وَيَكْثُرُونَ . قَالُوا : فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ فَقَالَ : أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ ؛ ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ } . وَفِيهِمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا قَالُوا : فَمَا تَأْمُرُنَا بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَدُّوا إلَيْهِمْ حَقَّهُمْ ؛ وَاسْأَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ } . وَلَيْسَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ يَقْسِمُوهَا بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ كَمَا يَقْسِمُ الْمَالِكُ مِلْكَهُ ؛ فَإِنَّمَا هُمْ أُمَنَاءُ وَنُوَّابٌ وَوُكَلَاءُ لَيْسُوا مُلَّاكًا ؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي - وَاَللَّهِ - لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا ؛ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُهُ . فَهَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَنْعُ وَالْعَطَاءُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمَالِكُ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ وَكَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمُلُوكُ الَّذِينَ يُعْطُونَ مَنْ أَحَبُّوا وَيَمْنَعُونَ مَنْ أَبْغَضُوا وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْسِمُ الْمَالَ بِأَمْرِهِ فَيَضَعُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَهَكَذَا قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ - لَوْ وَسَّعْت عَلَى نَفْسِك فِي النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَتَدْرِي مَا مَثَلِي وَمَثَلُ هَؤُلَاءِ ؟ كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَجَمَعُوا مِنْهُمْ مَالًا وَسَلَّمُوهُ إلَى وَاحِدٍ يُنْفِقُهُ عَلَيْهِمْ فَهَلْ يَحِلُّ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَسْتَأْثِرَ عَنْهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ؟ . وَحُمِلَ مَرَّةً إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَالٌ عَظِيمٌ مِنْ الْخُمُسِ ؛ فَقَالَ : إنَّ قَوْمًا أَدَّوْا الْأَمَانَةَ فِي هَذَا لِأُمَنَاءَ . فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ : إنَّك أَدَّيْت الْأَمَانَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَدَّوْا إلَيْك الْأَمَانَةَ وَلَوْ رَتَعْت لَرَتَعُوا . وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ كَالسُّوقِ مَا نَفَقَ فِيهِ جُلِبَ إلَيْهِ ؛ هَكَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . فَإِنْ نَفَقَ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْبِرُّ وَالْعَدْلُ وَالْأَمَانَةُ جُلِبَ إلَيْهِ ذَلِكَ ؛ وَإِنْ نَفَقَ فِيهِ الْكَذِبُ وَالْفُجُورُ

وَالْجَوْرُ وَالْخِيَانَةُ جُلِبَ إلَيْهِ ذَلِكَ . وَاَلَّذِي عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ وَيَضَعَهُ فِي حَقِّهِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ ؛ وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا بَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ نُوَّابِهِ ظَلَمَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ آمُرْهُمْ أَنْ يَظْلِمُوا خَلْقَك وَلَا يَتْرُكُوا حَقَّك .
فَصْلٌ :
الْأَمْوَالُ السُّلْطَانِيَّةُ الَّتِي أَصْلُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : الْغَنِيمَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْفَيْءُ . فَأَمَّا " الْغَنِيمَةُ " فَهِيَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي " سُورَةِ الْأَنْفَالِ " الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَسَمَّاهَا أَنْفَالًا ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } الْآيَةَ ؛ وَقَالَ : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي : نُصِرْت

بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ ؛ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي وَأُعْطِيت الشَّفَاعَةُ وَكَانَ النَّبِيُّ بُعِثَ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ } . رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ . فَالْوَاجِبُ فِي الْمَغْنَمِ تَخْمِيسُهُ وَصَرْفُ الْخُمُسِ إلَى مَنْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ وَقِسْمَةُ الْبَاقِي بَيْنَ الْغَانِمِينَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ . وَهُمْ الَّذِينَ شَهِدُوهَا لِلْقِتَالِ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا . وَيَجِبُ قَسَمُهَا بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ فَلَا يُحَابَى أَحَدٌ لَا لِرِيَاسَتِهِ وَلَا لِنَسَبِهِ وَلَا لِفَضْلِهِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ يَقْسِمُونَهَا . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : { أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ ؟ } وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَد { عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَكُونُ حَامِيَةَ الْقَوْمِ يَكُونُ سَهْمُهُ وَسَهْمُ غَيْرِهِ سَوَاءً ؟ قَالَ : ثَكِلَتْك أُمُّك ابْنَ أُمِّ سَعْدٍ ؛ وَهَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ

إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ ؟ } . وَمَا زَالَتْ الْغَنَائِمُ تُقْسَمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فِي دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ وَدَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ لَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَغْزُونَ الرُّومَ وَالتُّرْكَ وَالْبَرْبَرَ ؛ لَكِنْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ زِيَادَةُ نِكَايَةٍ : كَسَرِيَّةِ تَسَرَّتْ مِنْ الْجَيْشِ أَوْ رَجُلٍ صَعِدَ حِصْنًا عَالِيًا فَفَتَحَهُ أَوْ حَمَلَ عَلَى مُقَدَّمِ الْعَدُوِّ فَقَتَلَهُ فَهَزَمَ الْعَدُوَّ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاءَهُ كَانُوا يُنَفِّلُونَ لِذَلِكَ . وَكَانَ يُنَفِّلُ السِّرِّيَّةَ فِي الْبِدَايَةِ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثُ بَعْدَ الْخُمُسِ . وَهَذَا النَّفْلُ ؛ قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْخُمُسِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ يَكُونُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ ؛ لِئَلَّا يُفَضِّلَ بَعْضَ الْغَانِمِينَ عَلَى بَعْضٍ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَفْضِيلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِمَصْلَحَةِ دِينِيَّةٍ ؛ لَا لِهَوَى النَّفْسِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ . وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الشَّامِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَعَلَى هَذَا فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ وَالثُّلُثَ بِشَرْطِ وَغَيْرِ شَرْطٍ وَيُنَفِّلُ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ بِالشَّرْطِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : مَنْ دَلَّنِي عَلَى قَلْعَةٍ فَلَهُ كَذَا أَوْ مَنْ جَاءَنِي بِرَأْسِ فَلَهُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَقِيلَ : لَا يُنَفِّلُ زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثِ وَلَا يُنَفِّلُهُ إلَّا بِالشَّرْطِ . وَهَذَانِ قَوْلَانِ لِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . كَذَلِكَ - عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ -

لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ : مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ ؛ كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ . إذَا رَأَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً عَلَى الْمَفْسَدَةِ . وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَجْمَعُ الْغَنَائِمَ وَيَقْسِمُهَا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِ أَنْ يَغُلَّ مِنْهَا شَيْئًا { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَإِنَّ الْغُلُولَ خِيَانَةٌ . وَلَا تَجُوزُ النُّهْبَةُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا . فَإِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ الْجَمْعَ وَالْقِسْمَةَ وَأَذِنَ فِي الْأَخْذِ إذْنًا جَائِزًا : فَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا بِلَا عُدْوَانٍ حَلَّ لَهُ بَعْدَ تَخْمِيسِهِ وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى الْإِذْنِ فَهُوَ إذْنٌ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَأْذَنْ أَوْ أَذِنَ إذْنًا غَيْرَ جَائِزٍ : جَازَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ مَا يُصِيبُهُ بِالْقِسْمَةِ مُتَحَرِّيًا لِلْعَدْلِ فِي ذَلِكَ . وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَمْعَ الْغَنَائِمِ وَالْحَالُ هَذِهِ وَأَبَاحَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ فِيهَا ما يَشَاءُ : فَقَدْ تَقَابَلَ الْقَوْلَانِ تَقَابُلَ الطَّرَفَيْنِ وَدِينُ اللَّهِ وَسَطٌ . وَالْعَدْلُ فِي الْقِسْمَةِ : أَنْ يُقْسَمَ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ ذِي الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ ؛ هَكَذَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ : لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ . وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ ؛ وَلِأَنَّ الْفَرَسَ يَحْتَاجُ إلَى مَئُونَةِ نَفْسِهِ وَسَائِسِهِ - وَمَنْفَعَةُ الْفَارِسِ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ رَاجِلِينَ - وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يُسَوَّى بَيْنَ الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ وَالْهَجِينِ

فِي هَذَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ الْهَجِينُ يُسْهَمُ لَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ . وَالْفَرَسُ الْهَجِينُ : الَّذِي تَكُونُ أُمُّهُ نَبَطِيَّةٌ - وَيُسَمَّى الْبِرْذَوْنَ - وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ التتري سَوَاءٌ كَانَ حِصَانًا أَوْ خَصِيًّا وَيُسَمَّى الأكديش أَوْ رمكة وَهِيَ الْحِجْرُ ؛ كَانَ السَّلَفُ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ الْحِصَانَ لِقُوَّتِهِ وَحِدَّتِهِ وَلِلْإِغَارَةِ وَالْبَيَاتِ الْحِجْرَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا صَهِيلٌ يُنْذِرُ الْعَدُوَّ فَيَحْتَرِزُونَ وَلِلسَّيْرِ الْخَصِيُّ لِأَنَّهُ أَصْبَرُ عَلَى السَّيْرِ . وَإِذَا كَانَ الْمَغْنُومُ مَالًا - قَدْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ذَلِكَ : مِنْ عَقَارٍ أَوْ مَنْقُولٍ وَعَرَفَ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ - فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَيْهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَتَفَارِيعُ الْمَغَانِمِ وَأَحْكَامُهَا : فِيهَا آثَارٌ وَأَقْوَالٌ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَعْضِهَا وَتَنَازَعُوا فِي بَعْضِ ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا ؛ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ ذِكْرُ الْجُمَلِ الْجَامِعَةِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الصَّدَقَاتُ فَهِيَ لِمَنْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ؛ فَقَدْ رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَةِ بِقَسْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ ؛ وَلَكِنْ جَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ

كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك } . فَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ يَجْمَعُهَا مَعْنَى الْحَاجَةِ إلَى الْكِفَايَةِ ؛ فَلَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيِّ وَلَا لِقَوِيِّ مُكْتَسِبٍ ( وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ) هُمْ الَّذِينَ يَجْبُونَهَا وَيَحْفَظُونَهَا وَيَكْتُبُونَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . ( وَالْمُؤَلَّفَةُ )قُلُوبُهُمْ فَنَذْكُرُهُمْ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَالِ الْفَيْءِ . ( وَفِي الرِّقَابِ ) يَدْخُلُ فِيهِ إعَانَةُ الْمُكَاتِبِينَ وَافْتِدَاءُ الْأَسْرَى وَعِتْقُ الرِّقَابِ . هَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ فِيهَا . وَالْغَارِمِينَ هُمْ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ دُيُونٌ لَا يَجِدُونَ وَفَاءَهَا فَيُعْطُونَ وَفَاءَ دُيُونِهِمْ وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا إلَّا أَنْ يَكُونُوا غَرِمُوهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُعْطُونَ حَتَّى يَتُوبُوا . ( وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ) وَهُمْ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لَا يُعْطُونَ مِنْ مَالِ اللَّهِ مَا يَكْفِيهِمْ لِغَزْوِهِمْ فَيُعْطُونَ مَا يَغْزُونَ بِهِ ؛ أَوْ تَمَامَ مَا يَغْزُونَ بِهِ مِنْ خَيْلٍ وَسِلَاحٍ وَنَفَقَةٍ وَأُجْرَةٍ ؛ وَالْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَابْنُ السَّبِيلِ ) هُوَ الْمُجْتَازُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْفَيْءُ فَأَصْلُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ بَدْرٍ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ

عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى مَا وَصَفَ فَدَخَلَ فِي الصِّنْفِ الثَّالِثِ كُلُّ مَنْ جَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ كَمَا دَخَلُوا فِي قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . وَمَعْنَى قَوْلِهِ : { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } . أَيْ مَا

حَرَّكْتُمْ وَلَا سُقْتُمْ خَيْلًا وَلَا إبِلًا . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّ الْفَيْءَ هُوَ مَا أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ ؛ لِأَنَّ إيجَافَ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ هُوَ مَعْنَى الْقِتَالِ . وَسُمِّيَ فَيْئًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَفَاءَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَيْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَلَقَ الْأَمْوَالَ إعَانَةً عَلَى عِبَادَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ . فَالْكَافِرُونَ بِهِ أَبَاحَ أَنْفُسَهُمْ الَّتِي لَمْ يَعْبُدُوهُ بِهَا وَأَمْوَالَهُمْ الَّتِي لَمْ يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى عِبَادَتِهِ ؛ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ وَأَفَاءَ إلَيْهِمْ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ كَمَا يُعَادُ عَلَى الرَّجُلِ مَا غُصِبَ مِنْ مِيرَاثِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ وَهَذَا مِثْلُ الْجِزْيَةِ الَّتِي عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَالُ الَّذِي يُصَالِحُ عَلَيْهِ الْعَدُوَّ أَوْ يَهْدُونَهُ إلَى سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ كَالْحِمْلِ الَّذِي يُحْمَلُ مِنْ بِلَادِ النَّصَارَى وَنَحْوِهِمْ ؛ وَمَا يُؤْخَذُ مَنْ تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَهُوَ الْعُشْرُ وَمِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا اتَّجَرُوا فِي غَيْرِ بِلَادِهِمْ وَهُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ . هَكَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْخُذُ . وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ يَنْقُضُ الْعَهْدَ مِنْهُمْ وَالْخَرَاجِ الَّذِي كَانَ مَضْرُوبًا فِي الْأَصْلِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ . ثُمَّ إنَّهُ يَجْتَمِعُ مِنْ الْفَيْءِ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ الَّتِي لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ : كَالْأَمْوَالِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَالِكٌ مُعَيَّنٌ مِثْلَ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ ؛ وكالغصوب وَالْعَوَارِيِّ وَالْوَدَائِعِ :

الَّتِي تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ . فَهَذَا وَنَحْوُهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْفَيْءَ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَمُوتُ عَلَى عَهْدِهِ مَيِّتٌ إلَّا وَلَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ لِظُهُورِ الْأَنْسَابِ فِي أَصْحَابِهِ وَقَدْ مَاتَ مَرَّةً رَجُلٌ مِنْ قَبِيلَةٍ فَدَفَعَ مِيرَاثَهُ إلَى أَكْبَرِ رَجُلٍ مِنْ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ أَيْ : أَقْرَبِهِمْ نَسَبًا إلَى جَدِّهِمْ وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَحْمَدَ فِي قَوْلٍ مَنْصُوصٍ وَغَيْرِهِ وَمَاتَ رَجُلٌ لَمْ يُخَلِّفْ إلَّا عَتِيقًا لَهُ فَدَفَعَ مِيرَاثَهُ إلَى عَتِيقِهِ وَقَالَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ . وَدَفَعَ مِيرَاثَ رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ يَتَوَسَّعُونَ فِي دَفْعِ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ إلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ . وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا الصَّدَقَاتِ وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ؛ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ . وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَمْوَالِ الْمَقْبُوضَةِ وَالْمَقْسُومَةِ ؛ دِيوَانٌ جَامِعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلْ كَانَ يُقْسَمُ الْمَالُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَثُرَ الْمَالُ وَاتَّسَعَتْ الْبِلَادُ وَكَثُرَ النَّاسُ فَجَعَلَ دِيوَانَ الْعَطَاءِ لِلْمُقَاتِلَةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَدِيوَانُ الْجَيْشِ - فِي هَذَا الزَّمَانِ - مُشْتَمِلٌ عَلَى

أَكْثَرِهِ ؛ وَذَلِكَ الدِّيوَانُ هُوَ أَهَمُّ دَوَاوِينِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَانَ لِلْأَمْصَارِ دَوَاوِينُ الْخَرَاجِ وَالْفَيْءِ وَمَا يُقْبَضُ مِنْ الْأَمْوَالِ ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ يُحَاسِبُونَ الْعُمَّالَ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالْفَيْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَصَارَتْ الْأَمْوَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا قَبْلَهُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ يَسْتَحِقُّ الْإِمَامُ قَبْضَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَنَوْعٌ يَحْرُمُ أَخْذُهُ بِالْإِجْمَاعِ كَالْجِبَايَاتِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَجْلِ قَتِيلٍ قُتِلَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ أَوْ عَلَى حَدٍّ ارْتَكَبَهُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ وَكَالْمُكُوسِ الَّتِي لَا يَسُوغُ وَضْعُهَا اتِّفَاقًا . وَنَوْعٌ فِيهِ اجْتِهَادٌ وَتَنَازُعٌ كَمَالٍ مَنْ لَهُ ذُو رَحِمٍ وَلَيْسَ بِذِي فَرْضٍ وَلَا عَصَبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الظُّلْمُ مِنْهُ الْوُلَاةُ وَالرَّعِيَّةُ : هَؤُلَاءِ يَأْخُذُونَ مَا لَا يَحِلُّ وَهَؤُلَاءِ يَمْنَعُونَ مَا يَجِبُ كَمَا قَدْ يَتَظَالَمُ الْجُنْدُ وَالْفَلَّاحُونَ . وَكَمَا قَدْ يَتْرُكُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْجِهَادِ مَا يَجِبُ وَيَكْنِزُ الْوُلَاةُ مِنْ مَالِ اللَّهِ مَا لَا يَحِلُّ كَنْزُهُ . وَكَذَلِكَ الْعُقُوبَاتُ عَلَى أَدَاءِ الْأَمْوَالِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ مِنْهَا مَا يُبَاحُ أَوْ يَجِبُ ؛ وَقَدْ يَفْعَلُ مَا لَا يَحِلُّ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ : إنَّ كُلَّ مَنْ عَلَيْهِ مَالٌ يَجِبُ أَدَاؤُهُ ؛ كَرَجُلِ

عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَوْ مُضَارَبَةٌ أَوْ شَرِكَةٌ أَوْ مَالٌ لِمُوَكِّلِهِ أَوْ مَالُ يَتِيمٍ أَوْ مَالُ وَقْفٍ أَوْ مَالٌ لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ أَوْ عِنْدَهُ دَيْنٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ : مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ ؛ وَعَرَفَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ حَتَّى يُظْهِرَ الْمَالَ أَوْ يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِهِ . فَإِذَا عَرَفَ الْمَالَ وَصَبَرَ عَلَى الْحَبْسِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي الْحَقَّ مِنْ الْمَالِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ضَرْبِهِ وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَالِهِ وَمِنْ الْإِيفَاءِ ضُرِبَ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْحَقَّ أَوْ يُمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهِ . وَكَذَلِكَ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَ " اللَّيُّ " هُوَ الْمَطْلُ : وَالظَّالِمُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَالتَّعْزِيرَ . وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ : أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا أَوْ تَرَكَ وَاجِبًا اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ كَانَ تَعْزِيرًا يَجْتَهِدُ فِيهِ وَلِيُّ الْأَمْرِ فَيُعَاقِبُ الْغَنِيَّ الْمُمَاطِلَ بِالْحَبْسِ فَإِنْ أَصَرَّ عُوقِبَ بِالضَّرْبِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ : مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ { عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالسِّلَاحِ سَأَلَ بَعْضَ الْيَهُودِ - وَهُوَ سَعْيَةَ عَمَّ حيي بْنِ أَخْطَبَ - عَنْ كَنْزِ مَالِ حيي بْنِ أَخْطَبَ . فَقَالَ : أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ فَقَالَ : الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَدَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْيَةَ إلَى الزُّبَيْرِ فَمَسَّهُ بِعَذَابِ فَقَالَ : قَدْ رَأَيْت حييا يَطُوفُ فِي خَرِبَةٍ هَهُنَا فَذَهَبُوا فَطَافُوا فَوَجَدُوا الْمِسْكَ فِي الْخَرِبَةِ } وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ ذِمِّيًّا وَالذِّمِّيُّ لَا تَحِلُّ عُقُوبَتُهُ إلَّا بِحَقِّ ؛ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَتَمَ مَا يَجِبُ إظْهَارُهُ مِنْ دَلَالَةٍ وَاجِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ . وَمَا أَخَذَهُ الْعُمَّالُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ الْعَادِلِ اسْتِخْرَاجُهُ مِنْهُمْ ؛ كَالْهَدَايَا الَّتِي يَأْخُذُونَهَا بِسَبَبِ الْعَمَلِ . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ . وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ - فِي كِتَابِ الْهَدَايَا - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي حميد الساعدي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الأزد ؛ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللتبية عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَالُ الرَّجُلِ نَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا

وَلَّانَا اللَّهُ ؛ فَيَقُولُ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ ؟ فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ . فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا ؟ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ ؛ إنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عَفْرَتَيْ إبِطَيْهِ ؛ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت ؟ ثَلَاثًا } .
وَكَذَلِكَ مُحَابَاةُ الْوُلَاةِ فِي الْمُعَامَلَةِ مِنْ الْمُبَايَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ نَوْعِ الْهَدِيَّةِ ؛ وَلِهَذَا شَاطَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ عُمَّالِهِ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ وَدِينٌ لَا يُتَّهَمُ بِخِيَانَةِ ؛ وَإِنَّمَا شَاطَرَهُمْ لَمَّا كَانُوا خُصُّوا بِهِ لِأَجْلِ الْوِلَايَةِ مِنْ مُحَابَاةٍ وَغَيْرِهَا وَكَانَ الْأَمْرُ يَقْتَضِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ إمَامَ عَدْلٍ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ . فَلَمَّا تَغَيَّرَ الْإِمَامُ وَالرَّعِيَّةُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَفْعَلَ مِنْ الْوَاجِبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَتْرُكُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ وَلَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ . وَقَدْ يُبْتَلَى النَّاسُ مِنْ الْوُلَاةِ بِمَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ الْهَدِيَّةِ وَنَحْوِهَا ؛ لِيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَظَالِمِ مِنْهُمْ وَيَتْرُكُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ

فَيَكُونُ مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ عِوَضًا عَلَى كَفِّ ظُلْمٍ وَقَضَاءِ حَاجَةٍ مُبَاحَةٍ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ هَذَا ؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ وَأَخْسَرُ النَّاسِ صَفْقَةً مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ ؛ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ كَفُّ الظُّلْمِ عَنْهُمْ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ الَّتِي لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِهَا : مِنْ تَبْلِيغِ ذِي السُّلْطَانِ حَاجَاتِهِمْ وَتَعْرِيفِهِ بِأُمُورِهِمْ وَدَلَالَتِهِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَصَرْفِهِ عَنْ مَفَاسِدِهِمْ ؛ بِأَنْوَاعِ الطُّرُقِ اللَّطِيفَةِ وَغَيْرِ اللَّطِيفَةِ ؛ كَمَا يَفْعَلُ ذَوُو الْأَغْرَاضِ مِنْ الْكُتَّابِ وَنَحْوِهِمْ فِي أَغْرَاضِهِمْ . فَفِي حَدِيثِ هِنْدَ بْنِ أَبِي هَالَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : أَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبْلَاغَهَا ؛ فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ ذَا سُلْطَانٍ حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبْلَاغَهَا : ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ الْأَقْدَامُ } وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أمامة الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ عَلَيْهَا هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا } وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : السُّحْتُ أَنْ يَطْلُبَ الْحَاجَةَ لِلرَّجُلِ فَتُقْضَى لَهُ فَيُهْدَى إلَيْهِ هَدِيَّةٌ فَيَقْبَلُهَا وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مَسْرُوقٍ : أَنَّهُ كَلَّمَ ابْنَ زِيَادٍ فِي مَظْلِمَةٍ فَرَدَّهَا فَأَهْدَى لَهُ صَاحِبُهَا وَصِيفًا فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ : سَمِعْت ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ : مَنْ

رَدَّ عَنْ مُسْلِمٍ مَظْلِمَةً فَرَزَأَهُ عَلَيْهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا فَهُوَ سُحْتٌ ؛ فَقُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا كُنَّا نَرَى السُّحْتَ إلَّا الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ قَالَ : ذَاكَ كُفْرٌ . فَأَمَّا إذَا كَانَ وَلِيُّ الْأَمْرِ يَسْتَخْرِجُ مِنْ الْعُمَّالِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ هُوَ وَذَوُوه فَلَا يَنْبَغِي إعَانَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذْ كُلٌّ مِنْهَا ظَالِمٌ كَلِصِّ سَرَقَ مِنْ لِصّ وَكَالطَّائِفَتَيْن الْمُقْتَتِلَتَيْن عَلَى عَصَبَيْهِ وَرِئَاسَةٍ ؛ وَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ عَوْنًا عَلَى ظُلْمٍ ؛ فَإِنَّ التَّعَاوُنَ نَوْعَانِ : الْأَوَّلُ : تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى : مِنْ الْجِهَادِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَإِعْطَاءِ الْمُسْتَحَقِّينَ ؛ فَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَمَنْ أَمْسَكَ عَنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ فَقَدْ تَرَكَ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ أَوْ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ مُتَوَهِّمًا أَنَّهُ مُتَوَرِّعٌ . وَمَا أَكْثَرَ مَا يَشْتَبِهُ الْجُبْنُ وَالْفَشَلُ بِالْوَرَعِ إذْ كَلٌّ مِنْهُمَا كَفٌّ وَإِمْسَاكٌ . وَالثَّانِي : تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ كَالْإِعَانَةِ عَلَى دَمٍ مَعْصُومٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ مَعْصُومٍ أَوْ ضَرْبِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . نَعَمْ إذَا كَانَتْ الْأَمْوَالُ قَدْ أُخِذَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا إلَى أَصْحَابِهَا كَكَثِيرِ مِنْ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ ؛ فَالْإِعَانَةُ عَلَى صَرْفِ هَذِهِ

الْأَمْوَالِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدَادِ الثُّغُورِ وَنَفَقَةِ الْمُقَاتِلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ؛ إذْ الْوَاجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ - إذَا لَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا وَرَدُّهَا عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى وَرَثَتِهِمْ - أَنْ يَصْرِفَهَا - مَعَ التَّوْبَةِ إنْ كَانَ هُوَ الظَّالِمُ - إلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . هَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ أَخَذَهَا فَعَلَيْهِ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ بِهَا ذَلِكَ كَذَلِكَ لَوْ امْتَنَعَ السُّلْطَانُ مِنْ رَدِّهَا : كَانَتْ الْإِعَانَةُ عَلَى إنْفَاقِهَا فِي مَصَالِحِ أَصْحَابِهَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا بِيَدِ مَنْ يُضَيِّعُهَا عَلَى أَصْحَابِهَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } الْمُفَسِّرُ لِقَوْلِهِ : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } وَعَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ تَحْصِيلُ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلُهَا ؛ وَتَعْطِيلُ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلُهَا فَإِذَا تَعَارَضَتْ كَانَ تَحْصِيلُ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَدَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ مَعَ احْتِمَالِ أَدْنَاهَا : هُوَ الْمَشْرُوعُ . وَالْمُعِينُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مَنْ أَعَانَ الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ أَمَّا مَنْ

أَعَانَ الْمَظْلُومَ عَلَى تَخْفِيفِ الظُّلْمِ عَنْهُ أَوْ عَلَى أَدَاءِ الْمَظْلِمَةِ : فَهُوَ وَكِيلُ الْمَظْلُومِ ؛ لَا وَكِيلُ الظَّالِمِ ؛ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقْرِضُهُ أَوْ الَّذِي يَتَوَكَّلُ فِي حَمْلِ الْمَالِ لَهُ إلَى الظَّالِمِ . مِثَالُ ذَلِكَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَالْوَقْفِ إذَا طَلَبَ ظَالِمٌ مِنْهُ مَالًا فَاجْتَهَدَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ بِمَالِ أَقَلَّ مِنْهُ إلَيْهِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ فِي الدَّفْعِ ؛ فَهُوَ مُحْسِنٌ وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ . وَكَذَلِكَ وَكِيلُ الْمَالِكِ مِنْ الْمُنَادِينَ وَالْكُتَّابِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِي يَتَوَكَّلُ لَهُمْ فِي الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ وَدَفْعِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ ؛ لَا يَتَوَكَّلُ لِلظَّالِمِينَ فِي الْأَخْذِ . كَذَلِكَ لَوْ وُضِعَتْ مَظْلِمَةٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ أَوْ دَرْبٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَتَوَسَّطَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مُحْسِنٌ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ بِغَايَةِ الْإِمْكَانِ وَقَسَّطَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَلَا ارْتِشَاءٍ بَلْ تَوَكَّلَ لَهُمْ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ وَالْإِعْطَاءِ : كَانَ مُحْسِنًا ؛ لَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ يَكُونُ وَكِيلُ الظَّالِمِينَ مُحَابِيًا مُرْتَشِيًا مَخْفَرًا لِمَنْ يُرِيدُ وَآخِذًا مِمَّنْ يُرِيدُ . وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ هُمْ وَأَعْوَانُهُمْ وَأَشْبَاهُهُمْ ثُمَّ يُقْذَفُونَ فِي النَّارِ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْمَصَارِفُ : فَالْوَاجِبُ أَنْ يَبْدَأَ فِي الْقِسْمَةِ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ : كَعَطَاءِ مَنْ يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ . فَمِنْهُمْ الْمُقَاتِلَةُ : الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ النُّصْرَةِ وَالْجِهَادِ وَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْفَيْءِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِمْ ؛ حَتَّى اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَالِ الْفَيْءِ : هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ أَوْ مُشْتَرَكٌ فِي جَمِيعِ الْمَصَالِحِ ؟ وَأَمَّا سَائِرُ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ فَلِجَمِيعِ الْمَصَالِحِ وِفَاقًا إلَّا مَا خُصَّ بِهِ نَوْعٌ كَالصَّدَقَاتِ وَالْمَغْنَمِ . وَمِنْ الْمُسْتَحَقِّينَ ذَوُو الْوِلَايَاتِ عَلَيْهِمْ : كَالْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالسُّعَاةِ عَلَى الْمَالِ : جَمْعًا وَحِفْظًا وَقِسْمَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ . حَتَّى أَئِمَّةُ الصَّلَاةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَكَذَا صَرْفُهُ فِي الْأَثْمَانِ وَالْأُجُورِ لِمَا يَعُمُّ نَفْعُهُ : مِنْ سَدَادِ الثُّغُورِ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَعِمَارَةِ مَا يَحْتَاجُ إلَى عِمَارَتِهِ مِنْ طُرُقَاتِ النَّاسِ : كَالْجُسُورِ وَالْقَنَاطِرِ وَطُرُقَاتِ الْمِيَاهِ كَالْأَنْهَارِ . وَمِنْ الْمُسْتَحَقِّينَ : ذَوُو الْحَاجَاتِ ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ اخْتَلَفُوا هَلْ يُقَدَّمُونَ

فِي غَيْرِ الصَّدَقَاتِ مِنْ الْفَيْءِ وَنَحْوِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُقَدَّمُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمَالُ اُسْتُحِقَّ بِالْإِسْلَامِ فَيَشْتَرِكُونَ فِيهِ كَمَا يَشْتَرِكُ الْوَرَثَةُ فِي الْمِيرَاثِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ يُقَدَّمُونَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَدِّمُ ذَوِي الْحَاجَاتِ كَمَا قَدَّمَهُمْ فِي مَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ ؛ إنَّمَا هُوَ الرَّجُلُ وَسَابِقَتُهُ وَالرَّجُلُ وَغِنَاؤُهُ وَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ . فَجَعَلَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : ذَوُو السَّوَابِقِ الَّذِينَ بِسَابِقَتِهِمْ حَصَلَ الْمَالُ . الثَّانِي : مَنْ يُغْنِي عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ لَهُمْ كَوُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَجْتَلِبُونَ لَهُمْ مَنَافِعَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا . الثَّالِثُ : مَنْ يُبْلِي بَلَاءً حَسَنًا فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ كَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الْأَجْنَادِ وَالْعُيُونِ مِنْ الْقُصَّادِ وَالنَّاصِحِينَ وَنَحْوِهِمْ . الرَّابِعُ : ذَوُو الْحَاجَاتِ . وَإِذَا حَصَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ مُتَبَرِّعٌ فَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ بِهِ ؛ وَإِلَّا أُعْطِيَ مَا يَكْفِيهِ أَوْ قَدْرَ عَمَلِهِ . إذَا عَرَفْت أَنَّ الْعَطَاءَ يَكُونُ بِحَسَبِ مَنْفَعَةِ

الرَّجُلِ وَبِحَسَبِ حَاجَتِهِ فِي مَالِ الْمَصَالِحِ وَفِي الصَّدَقَاتِ أَيْضًا فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّجُلُ إلَّا كَمَا يَسْتَحِقُّهُ نُظَرَاؤُهُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا فِي غَنِيمَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ . وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ لِهَوَى نَفْسِهِ : مِنْ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ مَوَدَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعْطِيَهُ لِأَجْلِ مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ مِنْهُ كَعَطِيَّةِ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الصِّبْيَانِ المردان : الْأَحْرَارِ وَالْمَمَالِيكِ وَنَحْوِهِمْ وَالْبَغَايَا وَالْمُغَنِّينَ وَالْمَسَاخِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ أَوْ إعْطَاءِ الْعَرَّافِينَ مِنْ الْكُهَّانِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَنَحْوِهِمْ . لَكِنْ يَجُوزُ - بَلْ يَجِبُ - الْإِعْطَاءُ لِتَأْلِيفِ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى تَأْلِيفِ قَلْبِهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ ذَلِكَ كَمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْعَطَاءَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ الْفَيْءِ وَنَحْوِهِ وَهُمْ السَّادَةُ الْمُطَاعُونَ فِي عَشَائِرِهِمْ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ سَيِّدَ بَنِي تَمِيمٍ وعُيَيْنَة بْنَ حِصْنٍ سَيِّدَ بَنِي فَزَارَةَ وَزَيْدَ الْخَيْرِ الطَّائِيَّ سَيِّدَ بَنِي نَبْهَانَ وَعَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيَّ سَيِّدَ بَنِي كِلَابٍ وَمِثْلَ سَادَاتِ قُرَيْشٍ مِنْ الطُّلَقَاءِ : كَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَعَدَدٍ كَثِيرٍ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

{ بَعَثَ عَلِيٌّ وَهُوَ بِالْيَمَنِ بِذُهَيْبَةِ فِي تُرْبَتِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ : الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الحنظلي وعُيَيْنَة بْنِ حِصْنٍ الفزاري وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيِّ سَيِّدِ بَنِي كِلَابٍ وَزَيْدِ الْخَيْرِ الطَّائِيِّ سَيِّدِ بَنِي نَبْهَانَ . قَالَ : فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ فَقَالُوا : يُعْطِي صَنَادِيدَ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي إنَّمَا فَعَلْت ذَلِكَ لِتَأْلِيفِهِمْ فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فَقَالَ : اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ إنْ عَصَيْته ؟ أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي قَالَ : ثُمَّ أَدْبَرَ الرِّجْلُ فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فِي قَتْلِهِ وَيَرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } . وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ وعُيَيْنَة بْنَ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ :

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيدِ * * * بَيْنَ عُيَيْنَة وَالْأَقْرَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ * * * يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْت دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا * * * وَمَنْ يُخْفَضُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعُ
قَالَ : فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَ " الْعَبِيدُ " اسْمُ فَرَسٍ لَهُ .
وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ نَوْعَانِ : كَافِرٌ وَمُسْلِمٌ . فَالْكَافِرُ : إمَّا أَنْ يُرْجَى بِعَطِيَّتِهِ مَنْفَعَةٌ : كَإِسْلَامِهِ ؛ أَوْ دَفْعُ مَضَرَّتِهِ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِذَلِكَ . وَالْمُسْلِمُ الْمُطَاعُ يُرْجَى . بِعَطِيَّتِهِ الْمَنْفَعَةُ أَيْضًا كَحُسْنِ إسْلَامِهِ . أَوْ إسْلَامُ نَظِيرِهِ أَوْ جِبَايَةُ الْمَالِ مِمَّنْ لَا يُعْطِيهِ إلَّا لِخَوْفِ أَوْ النِّكَايَةِ فِي الْعَدُوِّ . أَوْ كَفُّ ضَرَرِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَنْكَفَّ إلَّا بِذَلِكَ . وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعَطَاءِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ إعْطَاءَ الرُّؤَسَاءِ وَتَرْكُ الضُّعَفَاءِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُلُوكُ ؛ فَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ؛ فَإِذَا كَانَ الْقَصْدُ بِذَلِكَ مَصْلَحَةَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ عَطَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادَ كَانَ مِنْ جِنْسِ عَطَاءِ فِرْعَوْنَ ؛ وَإِنَّمَا يُنْكِرُهُ ذَوُو الدِّينِ الْفَاسِدِ كَذِي الخويصرة الَّذِي أَنْكَرَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ فِيهِ مَا قَالَ وَكَذَلِكَ حِزْبُهُ الْخَوَارِجُ أَنْكَرُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا قَصَدَ

بِهِ الْمَصْلَحَةَ مِنْ التَّحْكِيمِ وَمَحْوِ اسْمِهِ وَمَا تَرَكَهُ مِنْ سَبْيِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَصِبْيَانِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ ؛ لِأَنَّ مَعَهُمْ دِينًا فَاسِدًا لَا يَصْلُحُ بِهِ دُنْيَا وَلَا آخِرَةٌ كَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ الْوَرَعُ الْفَاسِدُ بِالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا فِيهِ تَرْكٌ ؛ فَيَشْتَبِهُ تَرْكُ الْفَسَادِ ؛ لِخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَرْكِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ الْجِهَادِ وَالنَّفَقَةِ : جُبْنًا وَبُخْلًا ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . كَذَلِكَ قَدْ يَتْرُكُ الْإِنْسَانُ الْعَمَلَ ظَنًّا أَوْ إظْهَارًا أَنَّهُ وَرَعٌ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ كِبْرٌ وَإِرَادَةٌ لِلْعُلُوِّ ؛ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ كَامِلَةٌ فَإِنَّ النِّيَّةَ لِلْعَمَلِ كَالرُّوحِ لِلْجَسَدِ ؛ وَإِلَّا فَكَلُّ وَاحِدٍ مِنْ السَّاجِدِ لِلَّهِ وَالسَّاجِدِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ قَدْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ فَصُورَتُهُمَا وَاحِدَةٌ ؛ ثُمَّ هَذَا أَقْرَبُ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنْ اللَّهِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } . وَفِي الْأَثَرِ { أَفْضَلُ الْإِيمَانِ : السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ } . فَلَا تَتِمُّ رِعَايَةُ الْخَلْقِ وَسِيَاسَتُهُمْ إلَّا بِالْجُودِ الَّذِي هُوَ الْعَطَاءُ ؛ وَالنَّجْدَةُ الَّتِي هِيَ الشَّجَاعَةُ ؛ بَلْ لَا يَصْلُحُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا إلَّا بِذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ لَا يَقُومُ بِهِمَا سَلَبَهُ [ اللَّهُ ] (1) الْأَمْرَ وَنَقَلَهُ إلَى غَيْرِهِ ؛ كَمَا قَالَ

اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ } { إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } فَعَلَّقَ الْأَمْرَ بِالْإِنْفَاقِ الَّذِي هُوَ السَّخَاءُ وَالْقِتَالِ الَّذِي هُوَ الشَّجَاعَةُ ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : { وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . } وَبَيَّنَ أَنَّ الْبُخْلَ مِنْ الْكَبَائِرِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } الْآيَةَ . وَكَذَلِكَ الْجُبْنُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ

جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } وَفِي قَوْله تَعَالَى { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } . وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَرْضِ حَتَّى إنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْأَمْثَالِ الْعَامِّيَّةِ : " لَا طَعْنَةَ وَلَا جَفْنَةَ " وَيَقُولُونَ : " لَا فَارِسَ الْخَيْلِ وَلَا وَجْهَ الْعَرَبِ " . وَلَكِنْ افْتَرَقَ النَّاسُ هُنَا ثَلَاثَ فِرَقٍ : فَرِيقٌ غَلَبَ عَلَيْهِمْ حُبُّ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ فَلَمْ يَنْظُرُوا فِي عَاقِبَةِ الْمَعَادِ وَرَأَوْا أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَقُومُ إلَّا بِعَطَاءِ وَقَدْ لَا يَتَأَتَّى الْعَطَاءُ إلَّا بِاسْتِخْرَاجِ أَمْوَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا ؛ فَصَارُوا نَهَّابِينَ وَهَّابِينَ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَلَّى عَلَى النَّاسِ إلَّا مَنْ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ فَإِنَّهُ إذَا تَوَلَّى الْعَفِيفُ الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يُطْعِمُ سَخِطَ عَلَيْهِ الرُّؤَسَاءُ وَعَزَلُوهُ ؛ إنْ لَمْ يَضُرُّوهُ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ . وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ وَأَهْمَلُوا الْآجِلَ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ فَعَاقِبَتُهُمْ عَاقِبَةٌ رَدِيئَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مَا يُصْلِحُ عَاقِبَتَهُمْ مِنْ تَوْبَةٍ وَنَحْوِهَا . وَفَرِيقٌ عِنْدَهُمْ خَوْفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَدِينٌ يَمْنَعُهُمْ عَمَّا يَعْتَقِدُونَهُ قَبِيحًا مِنْ ظُلْمِ الْخَلْقِ وَفِعْلِ الْمَحَارِمِ . فَهَذَا حَسَنٌ وَاجِبٌ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَعْتَقِدُونَ مَعَ ذَلِكَ : أَنَّ السِّيَاسَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِمَا يَفْعَلُهُ أُولَئِكَ مِنْ الْحَرَامِ فَيَمْتَنِعُونَ عَنْهَا مُطْلَقًا ؛ وَرُبَّمَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ جُبْنٌ أَوْ بُخْلٌ أَوْ ضِيقُ خُلُقٍ يَنْضَمُّ إلَى مَا مَعَهُمْ مِنْ الدِّينِ فَيَقَعُونَ أَحْيَانًا فِي تَرْكِ وَاجِبٍ يَكُونُ تَرْكُهُ

أَضَرَّ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ يَقَعُونَ فِي النَّهْيِ عَنْ وَاجِبٍ يَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ . وَقَدْ يَكُونُونَ مُتَأَوِّلِينَ . وَرُبَّمَا اعْتَقَدُوا أَنَّ إنْكَارَ ذَلِكَ وَاجِبٌ وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقِتَالِ فَيُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَتْ الْخَوَارِجُ وَهَؤُلَاءِ لَا تَصْلُحُ بِهِمْ الدُّنْيَا وَلَا الدِّينُ الْكَامِلُ ؛ لَكِنْ قَدْ يَصْلُحُ بِهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ الدِّينِ وَبَعْضُ أُمُورِ الدُّنْيَا . وَقَدْ يُعْفَى عَنْهُمْ فِيمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ فَأَخْطَئُوا وَيُغْفَرُ لَهُمْ قُصُورُهُمْ . وَقَدْ يَكُونُونَ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ لَا يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ وَلَا يُعْطِي غَيْرَهُ وَلَا يَرَى أَنَّهُ يَتَأَلَّفُ النَّاسَ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ ؛ لَا بِمَالِ وَلَا بِنَفْعِ وَيَرَى أَنَّ إعْطَاءَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ نَوْعِ الْجَوْرِ وَالْعَطَاءِ الْمُحَرَّمِ . الْفَرِيقُ الثَّالِثُ : الْأُمَّةُ الْوَسَطُ وَهُمْ أَهْلُ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ وَخَاصَّتِهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ إنْفَاقُ الْمَالِ وَالْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ - وَإِنْ كَانُوا رُؤَسَاءَ - بِحَسَبِ الْحَاجَةِ إلَى صَلَاحِ الْأَحْوَالِ وَلِإِقَامَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الدِّينُ وَعِفَّتُهُ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَأْخُذُ مَالًا يَسْتَحِقُّهُ . فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ التَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } وَلَا تَتِمُّ السِّيَاسَةُ الدِّينِيَّةُ إلَّا بِهَذَا وَلَا يَصْلُحُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا إلَّا

بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُطْعِمُ النَّاسَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَى طَعَامِهِ وَلَا يَأْكُلُ هُوَ إلَّا الْحَلَالَ الطَّيِّبَ ثُمَّ هَذَا يَكْفِيهِ مِنْ الْإِنْفَاقِ أَقَلَّ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأَوَّلُ فَإِنَّ الَّذِي يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ تَطْمَعُ فِيهِ النُّفُوسُ مَا لَا تَطْمَعُ فِي الْعَفِيفِ وَيَصْلُحُ بِهِ النَّاسُ فِي دِينِهِمْ مَا لَا يَصْلُحُونَ بِالثَّانِي ؛ فَإِنَّ الْعِفَّةَ مَعَ الْقُدْرَةِ تُقَوِّي حُرْمَةَ الدِّينِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ : أَنَّ هِرَقْلَ مَلِكَ الرُّومِ سَأَلَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ ؟ قَالَ : يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ } . وَفِي الْأَثَرِ : { أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَى إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَا إبْرَاهِيمُ : أَتَدْرِي لِمَ اتَّخَذَتْك خَلِيلًا ؟ لِأَنِّي رَأَيْت الْعَطَاءَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ الْأَخْذِ } . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ الَّذِي هُوَ السَّخَاءُ وَبَذْلُ الْمَنَافِعِ نَظِيرُهُ فِي الصَّبْرِ وَالْغَضَبِ الَّذِي هُوَ الشَّجَاعَةُ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ . فَإِنَّ النَّاسَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَغْضَبُونَ لِنُفُوسِهِمْ وَلِرَبِّهِمْ . وَقِسْمٌ لَا يَغْضَبُونَ لِنُفُوسِهِمْ وَلَا لِرَبِّهِمْ . وَالثَّالِثُ - وَهُوَ الْوَسَطُ - الَّذِي يَغْضَبُ لِرَبِّهِ لَا لِنَفْسِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ : خَادِمًا لَهُ وَلَا امْرَأَةً . وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا

نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَإِذَا اُنْتُهِكَتْ حُرُمَاتُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ } . فَأَمَّا مَنْ يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ لَا لِرَبِّهِ أَوْ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ وَلَا يُعْطِي غَيْرَهُ . فَهَذَا الْقِسْمُ الرَّابِعُ شَرُّ الْحَلْقِ ؛ لَا يَصْلُحُ بِهِمْ دِينٌ وَلَا دُنْيَا . كَمَا أَنَّ الصَّالِحِينَ أَرْبَابُ السِّيَاسَةِ الْكَامِلَةِ هُمْ الَّذِينَ قَامُوا بِالْوَاجِبَاتِ وَتَرَكُوا الْحُرُمَاتِ وَهُمْ الَّذِينَ يُعْطُونَ مَا يُصْلِحُ الدِّينَ بِعَطَائِهِ وَلَا يَأْخُذُونَ إلَّا مَا أُبِيحَ لَهُمْ وَيَغْضَبُونَ لِرَبِّهِمْ إذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُهُ وَيَعْفُونَ عَنْ حُقُوقِهِمْ وَهَذِهِ أَخْلَاقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَذْلِهِ وَدَفْعِهِ وَهِيَ أَكْمَلُ الْأُمُورِ . وَكُلَّمَا كَانَ إلَيْهَا أَقْرَبُ كَانَ أَفْضَلَ . فَلْيَجْتَهِدْ الْمُسْلِمُ فِي التَّقَرُّبِ إلَيْهَا بِجُهْدِهِ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قُصُورٍ . أَوْ تَقْصِيرِهِ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ كَمَالَ مَا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدِّينِ فَهَذَا فِي قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } فَإِنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ يَكُونُ فِي الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ وَهُمَا قِسْمَانِ : فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ : الْحُدُودُ وَالْحُقُوقُ الَّتِي لَيْسَتْ لِقَوْمِ مُعَيَّنِينَ ؛ بَلْ مَنْفَعَتُهَا لِمُطْلَقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ نَوْعٍ مِنْهُمْ . وَكُلُّهُمْ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا . وَتُسَمَّى حُدُودَ اللَّهِ وَحُقُوقَ اللَّهِ : مِثْلَ حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالسُّرَّاقِ وَالزُّنَاةِ وَنَحْوِهِمْ وَمِثْلَ الْحُكْمِ فِي الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ وَالْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا الَّتِي لَيْسَتْ لِمُعَيَّنِ . فَهَذِهِ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ إمَارَةٍ : بَرَّةً كَانَتْ أَوْ فَاجِرَةً . فَقِيلَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْبَرَّةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا . فَمَا بَالُ الْفَاجِرَةِ ؟ فَقَالَ : يُقَامُ بِهَا الْحُدُودُ وَتَأْمَنُ بِهَا السُّبُلُ وَيُجَاهَدُ بِهَا الْعَدُوُّ وَيُقْسَمُ بِهَا الْفَيْءُ . وَهَذَا الْقِسْمُ يَجِبُ عَلَى الْوُلَاةِ الْبَحْثُ عَنْهُ وَإِقَامَتُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ بِهِ وَكَذَلِكَ تُقَامُ الشَّهَادَةُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ : هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى مُطَالَبَةِ الْمَسْرُوقِ بِمَا لَهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ لَكِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا

يَحْتَاجُ إلَى مُطَالَبَةِ الْمَسْرُوقِ بِالْحَدِّ وَقَدْ اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ الْمُطَالَبَةَ بِالْمَالِ ؛ لِئَلَّا يَكُونُ لِلسَّارِقِ فِيهِ شُبْهَةٌ . وَهَذَا الْقِسْمُ يَجِبُ إقَامَتُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ وَالضَّعِيفِ وَلَا يَحِلُّ تَعْطِيلُهُ ؛ لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا بِهَدِيَّةِ وَلَا بِغَيْرِهِمَا وَلَا تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ فِيهِ . وَمَنْ عَطَّلَهُ لِذَلِكَ - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إقَامَتِهِ - فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَهُوَ مِمَّنْ اشْتَرَى بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا . وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ . وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ . وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ دَيِّنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ . قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَا رَدْغَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ } فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكَمَاءَ وَالشُّهَدَاءَ وَالْخُصَمَاءَ وَهَؤُلَاءِ أَرْكَانُ الْحُكْمِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا : مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَ : يَا أُسَامَةُ : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ إنَّمَا هَلَكَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ

كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا } . فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَةٌ ؛ فَإِنَّ أَشْرَفَ بَيْتٍ كَانَ فِي قُرَيْشٍ بَطْنَانِ ؛ بَنُو مَخْزُومٍ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ . فَلَمَّا وَجَبَ عَلَى هَذِهِ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهَا - الَّتِي هِيَ جُحُودُ الْعَارِيَةِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَوْ سَرِقَةِ أُخْرَى غَيْرَهَا عَلَى قَوْلِ آخَرِينَ - وَكَانَتْ مِنْ أَكْبَرِ الْقَبَائِلِ وَأَشْرَفِ الْبُيُوتِ وَشَفَعَ فِيهَا حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةُ غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ دُخُولَهُ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ ثُمَّ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِسَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ - وَقَدْ بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ - فَقَالَ : { لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا } . وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ الَّتِي قُطِعَتْ يَدُهَا تَابَتْ وَكَانَتْ تَدْخُلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْضِي حَاجَتَهَا . فَقَدْ رُوِيَ : { إنَّ السَّارِقَ إذَا تَابَ سَبَقَتْهُ يَدُهُ إلَى الْجَنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ سَبَقَتْهُ يَدُهُ إلَى النَّارِ } . وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ : أَنَّ جَمَاعَةً أَمْسَكُوا لِصًّا لِيَرْفَعُوهُ إلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَلَقَّاهُمْ الزُّبَيْرُ فَشَفَعَ فِيهِ فَقَالُوا : إذَا رُفِعَ إلَى عُثْمَانَ فَاشْفَعْ فِيهِ عِنْدَهُ فَقَالَ : " إذَا بَلَغَتْ الْحُدُودُ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفَّعَ " . يَعْنِي الَّذِي يَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ . { وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ

أُمَيَّةَ نَائِمًا عَلَى رِدَاءٍ لَهُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ لِصٌّ فَسَرَقَهُ فَأَخَذَهُ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَعَلَى رِدَائِي تَقْطَعُ يَدَهُ ؟ أَنَا أَهَبُهُ لَهُ . فَقَالَ : فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ ثُمَّ قَطَعَ يَدَهُ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ يَعْنِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّك لَوْ عَفَوْت عَنْهُ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ لَكَانَ فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ رُفِعَ إلَيَّ فَلَا . فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْحَدِّ لَا بِعَفْوِ وَلَا بِشَفَاعَةِ وَلَا بِهِبَةِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ - فِيمَا أَعْلَمُ - عَلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ وَاللِّصَّ وَنَحْوَهُمَا إذَا رُفِعُوا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ ثُمَّ تَابُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ عَنْهُمْ ؛ بَلْ تَجِبُ إقَامَتُهُ وَإِنْ تَابُوا فَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي التَّوْبَةِ كَانَ الْحَدُّ كَفَّارَةً لَهُمْ كَانَ تَمْكِينُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ - بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْحُقُوقِ إلَى أَهْلِهَا ؛ وَالتَّمْكِينُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقَصَّاصِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَأَصْلُ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ إعَانَةُ الطَّالِبِ حَتَّى يَصِيرَ مَعَهُ شَفْعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ وِتْرًا فَإِنْ أَعَانَهُ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوَى كَانَتْ شَفَاعَةً حَسَنَةً وَإِنْ أَعَانَهُ عَلَى إثْمٍ وَعُدْوَانٍ كَانَتْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً وَالْبِرُّ مَا أَمَرْت بِهِ وَالْإِثْمُ مَا نَهَيْت عَنْهُ . وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ .

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَاسْتَثْنَى التَّائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَقَطْ فَالتَّائِبُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَاقٍ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِلْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ وَالتَّعْلِيلِ . هَذَا إذَا كَانَ قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ . فَأَمَّا إذَا كَانَ بِإِقْرَارِ وَجَاءَ مُقِرًّا بِالذَّنْبِ تَائِبًا : فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد : أَنَّهُ لَا تَجِبُ إقَامَةُ الْحَدِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ بَلْ إنْ طَلَبَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ أُقِيمَ وَإِنْ ذَهَبَ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ حَدٌّ . وَعَلَى هَذَا حُمِلَ { حَدِيثُ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ لَمَّا قَالَ : فَهَلَّا تَرَكْتُمُوهُ } وَحَدِيثُ الَّذِي قَالَ " أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ " مَعَ آثَارٍ أُخَرَ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَعَافَوْا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ } وَفِي سُنَنِ النَّسَائِي وَابْنِ مَاجَه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا } . وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبٌ لِنَقْصِ الرِّزْقِ وَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَإِذَا

أُقِيمَتْ الْحُدُودُ ظَهَرَتْ طَاعَةُ اللَّهِ وَنَقَصَتْ مَعْصِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَحَصَلَ الرِّزْقُ وَالنَّصْرُ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الزَّانِي أَوْ السَّارِقِ أَوْ الشَّارِبِ أَوْ قَاطِعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِمْ مَالٌ تَعَطَّلَ بِهِ الْحُدُودُ ؛ لَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا لِغَيْرِهِ . وَهَذَا الْمَالُ الْمَأْخُوذُ لِتَعْطِيلِ الْحَدِّ سُحْتٌ خَبِيثٌ وَإِذَا فَعَلَ وَلِيُّ الْأَمْرِ ذَلِكَ فَقَدْ جَمَعَ فَسَادَيْنِ عَظِيمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : تَعْطِيلُ الْحَدِّ وَالثَّانِي : أَكْلُ السُّحْتِ . فَتَرْكُ الْوَاجِبِ وَفِعْلُ الْمُحَرَّمِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ السُّحْتَ مِنْ الرِّشْوَةِ الَّتِي تُسَمَّى الْبِرْطِيلَ وَتُسَمَّى أَحْيَانًا الْهَدِيَّةَ وَغَيْرَهَا . وَمَتَى أَكَلَ السُّحْتَ وَلِيُّ الْأَمْرِ احْتَاجَ أَنْ يَسْمَعَ الْكَذِبَ مِنْ شَهَادَةِ الزُّورِ وَغَيْرِهَا . وَقَدْ { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ - الْوَاسِطَةُ - الَّذِي بَيْنَهُمَا } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ . فَقَالَ صَاحِبُهُ - وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ - نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وائذن لِي . فَقَالَ : قُلْ . فَقَالَ : إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا فِي أَهْلِ

هَذَا - يَعْنِي أَجِيرًا - فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَافْتَدَيْت مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ وَإِنِّي سَأَلْت رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمُ . فَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ : الْمِائَةُ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْك . وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَاغْدُ يَا أنيس عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَاسْأَلْهَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا . فَسَأَلَهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا } . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إنَّهُ لَمَّا بَذَلَ عَنْ الْمُذْنِبِ هَذَا الْمَالَ لِدَفْعِ الْحَدِّ عَنْهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُفَعِ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ وَأَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ لِلْمُسْلِمِينَ : مِنْ الْمُجَاهِدِينَ وَالْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ تَعْطِيلَ الْحَدِّ بِمَالِ يُؤْخَذُ أَوْ غَيْرِهِمْ لَا يَجُوزُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَالْمُحَارِبِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِتَعْطِيلِ الْحَدِّ مَالٌ سُحْتٌ خَبِيثٌ . كَثِيرٌ مِمَّا يُوجَدُ مِنْ فَسَادِ أُمُورِ النَّاسِ إنَّمَا هُوَ لِتَعْطِيلِ الْحَدِّ بِمَالِ أَوْ جَاهٍ وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ فَسَادُ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْقُرَى وَالْأَمْصَارِ : مِنْ الْأَعْرَابِ وَالتُّرْكُمَانِ وَالْأَكْرَادِ وَالْفَلَّاحِينَ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ كَقَيْسِ وَيَمَنَ وَأَهْلِ الْحَاضِرَةِ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّاسِ وَأَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ وَأُمَرَاءِ النَّاسِ وَمُقَدِّمِيهِمْ وَجُنْدِهِمْ وَهُوَ سَبَبُ سُقُوطِ حُرْمَةِ الْمُتَوَلِّي وَسُقُوطِ قَدْرِهِ مِنْ الْقُلُوبِ وَانْحِلَالِ أَمْرِهِ فَإِذَا ارْتَشَى وَتَبَرْطَلَ عَلَى تَعْطِيلِ حَدٍّ ضَعُفَتْ نَفْسُهُ أَنْ يُقِيمَ حَدًّا آخَرَ

وَصَارَ مِنْ جِنْسِ الْيَهُودِ الْمَلْعُونِينَ . وَأَصْلُ الْبِرْطِيلِ هُوَ الْحَجَرُ الْمُسْتَطِيلُ سُمِّيَتْ بِهِ الرِّشْوَةُ لِأَنَّهَا تُلْقِمُ الْمُرْتَشِيَ عَنْ التَّكَلُّمِ بِالْحَقِّ كَمَا يَلْقَمُهُ الْحَجَرُ الطَّوِيلُ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ : { إذَا دَخَلَتْ الرِّشْوَةُ مِنْ الْبَابِ خَرَجَتْ الْأَمَانَةُ مِنْ الْكُوَّةِ } . وَكَذَلِكَ إذَا أُخِذَ مَالٌ لِلدَّوْلَةِ عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ هَذَا السُّحْتِ الَّذِي يُسَمَّى التَّأْدِيبَاتِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَعْرَابَ الْمُفْسِدِينَ أَخَذُوا لِبَعْضِ النَّاسِ ثُمَّ جَاءُوا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ فَقَادُوا إلَيْهِ خَيْلًا يُقَدِّمُونَهَا لَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ كَيْفَ يَقْوَى طَمَعُهُمْ فِي الْفَسَادِ وَتَنْكَسِرُ حُرْمَةُ الْوِلَايَةِ وَالسَّلْطَنَةِ وَتَفْسُدُ الرَّعِيَّةُ ؟ كَذَلِكَ الْفَلَّاحُونَ وَغَيْرُهُمْ كَذَلِكَ شَارِبُ الْخَمْرِ إذَا أَخَذَ فَدَفَعَ بَعْضَ مَالِهِ : كَيْفَ يَطْمَعُ الْخَمَّارُونَ فَيَرْجُونَ إذَا أَمْسَكُوا أَنْ يَفْتَدُوا بِبَعْضِ أَمْوَالِهِمْ فَيَأْخُذُهَا ذَلِكَ الْوَالِي سُحْتًا لَا يُبَارَكُ فِيهَا وَالْفَسَادُ قَائِمٌ . وَكَذَلِكَ ذَوُو الْجَاهِ إذَا حَمُوا أَحَدًا أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ مِثْلَ أَنْ يَرْتَكِبَ بَعْضُ الْفَلَّاحِينَ جَرِيمَةً ثُمَّ يَأْوِي إلَى قَرْيَةِ نَائِبِ السُّلْطَانِ أَوْ أَمِيرِهِ فَيُحْمَى عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي حَمَاهُ مِمَّنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا } . فَكُلُّ مَنْ آوَى مُحْدِثًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُحْدِثِينَ

فَقَدْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : { إنَّ مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ } فَكَيْفَ بِمَنْ مَنَعَ الْحُدُودَ بِقُدْرَتِهِ وَيَدِهِ وَاعْتَاضَ عَنْ الْمُجْرِمِينَ بِسُحْتِ مِنْ الْمَالِ يَأْخُذُهُ لَا سِيَّمَا الْحُدُودُ عَلَى سُكَّانِ الْبَرِّ ؛ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ فَسَادِهِمْ حِمَايَةَ الْمُعْتَدِينَ مِنْهُمْ بِجَاهِ أَوْ مَالٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ لِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ لِلْوَالِي : سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً فَذَلِكَ جَمِيعُهُ مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مِثْلُ تَضْمِينِ الْحَانَاتِ وَالْخَمْرِ فَإِنَّ مَنْ مُكِّنَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَعَانَ أَحَدًا عَلَيْهِ بِمَالِ يَأْخُذُهُ مِنْهُ فَهُوَ مَنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ . وَالْمَالُ الْمَأْخُوذُ عَلَى هَذَا يُشْبِهُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَثَمَنِ الْكَلْبِ وَأُجْرَةِ الْمُتَوَسِّطِ فِي الْحَرَامِ : الَّذِي يُسَمَّى الْقَوَّادَ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ خَبِيثٌ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . فَمَهْرُ الْبَغِيِّ الَّذِي يُسَمَّى حُدُورَ الْقِحَابِ . وَفِي مَعْنَاهُ مَا يُعْطَاهُ الْمُخَنَّثُونَ الصِّبْيَانُ مِنْ الْمَمَالِيكِ أَوْ الْأَحْرَارِ عَلَى الْفُجُورِ بِهِمْ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ : مِثْلُ حَلَاوَةِ الْمُنَجِّمِ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُبَشِّرَةِ بِزَعْمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَوَلِيُّ الْأَمْرِ إذَا تَرَكَ إنْكَارَ الْمُنْكَرَاتِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهَا بِمَالِ يَأْخُذُهُ : كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُقَدِّمِ الْحَرَامِيَّةِ الَّذِي يُقَاسِمُ الْمُحَارِبِينَ عَلَى الْأَخِيذَةِ وَبِمَنْزِلَةِ الْقَوَّادِ الَّذِي يَأْخُذُ مَا يَأْخُذُهُ ؛ لِيَجْمَعَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَى فَاحِشَةٍ

وَكَانَ حَالُهُ شَبِيهًا بِحَالِ عَجُوزِ السُّوءِ امْرَأَةِ لُوطٍ الَّتِي كَانَتْ تُدِلُّ الْفُجَّارَ عَلَى ضَيْفِهِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلَّا امْرَأَتَكَ إنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ } . فَعَذَّبَ اللَّهُ عَجُوزَ السُّوءِ الْقَوَّادَةَ بِمِثْلِ مَا عَذَّبَ قَوْمَ السُّوءِ الَّذِينَ كَانُوا يَحْمِلُونَ الْخَبَائِثَ وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا جَمِيعَهُ أَخْذُ مَالٍ لِلْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَوَلِيُّ الْأَمْرِ إنَّمَا نُصِّبَ لِيَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الْوِلَايَةِ . فَإِذَا كَانَ الْوَالِي يُمْكِنُ مِنْ الْمُنْكَرِ بِمَالِ يَأْخُذُهُ كَانَ قَدْ أَتَى بِضِدِّ الْمَقْصُودِ مِثْلَ مَنْ نَصَّبْته لِيُعِينَك عَلَى عَدُوِّك فَأَعَانَ عَدُوَّك عَلَيْك . وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ مَالًا لِيُجَاهِدَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَاتَلَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ .
يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاحَ الْعِبَادِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ فَإِنَّ صَلَاحَ الْمَعَاشِ وَالْعِبَادِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَبِهِ صَارَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ : { كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ

عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } . فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَذَابَ لَمَّا نَزَلَ نَجَّى الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذَ الظَّالِمِينَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ . وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْ عِنْدِهِ } . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { إنَّ الْمَعْصِيَةَ إذَا خَفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ } . وَهَذَا الْقِسْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحُكْمِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَحُقُوقِهِ : مَقْصُودُهُ الْأَكْبَرُ : هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ . فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ : مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَالْوَاجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ جَمِيعَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَمْرِهِ وَيُعَاقِبُ التَّارِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ

فَإِنْ كَانَ التَّارِكُونَ طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً قُوتِلُوا عَلَى تَرْكِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِ الزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا وَعَلَى اسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا كَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَكُلُّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ مِنْ الْتِزَامِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يَجِبُ جِهَادُهَا حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَإِنْ كَانَ التَّارِكُ لِلصَّلَاةِ وَاحِدًا فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ حَتَّى يُصَلِّيَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَصَلَّى وَإِلَّا قُتِلَ . وَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا فَاسِقًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . وَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ كَافِرًا وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا أَمَّا إذَا جَحَدَ وُجُوبَهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ مَنْ جَحَدَ سَائِرَ الْوَاجِبَاتِ الْمَذْكُورَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَجِبُ الْقِتَالُ عَلَيْهَا . فَالْعُقُوبَةُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ هِيَ مَقْصُودُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ . { قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . قَالَ : لَا تَسْتَطِيعُهُ أَوْ لَا تُطِيقُهُ . قَالَ : أَخْبِرْنِي بِهِ ؟ قَالَ : هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ

وَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ ؟ قَالَ : وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : فَذَلِكَ الَّذِي يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَقَالَ : { إنَّ فِي الْجَنَّةِ لِمِائَةِ دَرَجَةٍ بَيْنَ الدَّرَجَةِ إلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ نَحْوَ سَبِيلِهِ } كِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }.
فَصْلٌ :
وَمِنْ ذَلِكَ عُقُوبَةُ الْمُحَارِبِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ : الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ النَّاسَ بِالسِّلَاحِ فِي الطُّرُقَاتِ وَنَحْوِهَا لِيَغْصِبُوهُمْ الْمَالَ مُجَاهَرَةً : مِنْ الْأَعْرَابِ وَالتُّرْكُمَانِ وَالْأَكْرَادِ وَالْفَلَّاحِينَ وَفَسَقَةِ الْجُنْدِ أَوْ مَرَدَةِ الْحَاضِرَةِ

أَوْ غَيْرِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ - : " إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِّلُوا وَصُلِّبُوا وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِّلُوا وَلَمْ يُصَلَّبُوا وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ وَإِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا نَفَوْا مِنْ الْأَرْضِ " . وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِمْ فَيَقْتُلُ مَنْ رَأَى قَتْلَهُ مَصْلَحَةً وَإِنْ كَانَ لَمْ يُقْتَلْ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ رَئِيسًا مُطَاعًا فِيهَا وَيَقْطَعُ مَنْ رَأَى قَطْعَهُ مَصْلَحَةً ؛ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ذَا جَلَدٍ وَقُوَّةٍ فِي أَخْذِ الْمَالِ . كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا الْمَالَ قُتِّلُوا وَقُطِّعُوا وَصُلِّبُوا . وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْأَكْثَرِ . فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُحَارِبِينَ قَدْ قَتَلَ فَإِنَّهُ يُقَتِّلُهُ الْإِمَامُ حَدَا لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ بِحَالِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ . ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَا يَكُونُ أَمْرُهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا لِعَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا أَوْ خُصُومَةٍ أَوْ نَحْوِ

ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا دَمُهُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا عَفَوْا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِغَرَضِ خَاصٍّ . وَأَمَّا الْمُحَارِبُونَ فَإِنَّمَا يَقْتُلُونَ لِأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ فَضَرَرُهُمْ عَامٌّ ؛ بِمَنْزِلَةِ السُّرَّاقِ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ حَدًّا لِلَّهِ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ غَيْرَ مُكَافِئٍ لِلْقَاتِلِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا أَوْ الْقَاتِلُ مُسْلِمًا وَالْمَقْتُولُ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُقْتَلُ فِي الْمُحَارَبَةِ ؟ وَالْأَقْوَى أَنَّهُ يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ لِلْفَسَادِ الْعَامِّ حَدًّا كَمَا يُقَطَّعُ إذَا أَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَكَمَا يُحْبَسُ بِحُقُوقِهِمْ .
وَإِذَا كَانَ الْمُحَارِبُونَ الْحَرَامِيَّةُ جَمَاعَةً فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ بَاشَرَ الْقَتْلَ بِنَفْسِهِ وَالْبَاقُونَ لَهُ أَعْوَانٌ وَرَدَّهُ لَهُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يُقْتَلُ الْمُبَاشِرُ فَقَطْ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ يُقْتَلُونَ وَلَوْ كَانُوا مِائَةً وَأَنَّ الرِّدَّةَ وَالْمُبَاشِرَ سَوَاءٌ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَ رَبِيئَةَ الْمُحَارِبِينَ . وَالرَّبِيئَةُ هُوَ النَّاظِرُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَى مَكَانٍ عَالٍ يَنْظُرُ مِنْهُ لَهُمْ مَنْ يَجِيءُ . وَلِأَنَّ الْمُبَاشِرَ إنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ بِقُوَّةِ الرَّدْءِ وَمَعُونَتِهِ . وَالطَّائِفَة إذَا انْتَصَرَ بَعْضُهَا بِبَعْضِ حَتَّى صَارُوا مُمْتَنِعِينَ فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ كَالْمُجَاهِدِينَ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَالَ : { الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَيَرُدُّ مُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ } . يَعْنِي أَنَّ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ إذَا تَسَرَّتْ مِنْهُ سَرِيَّةٌ فَغَنِمَتْ مَالًا فَإِنَّ الْجَيْشَ يُشَارِكُهَا فِيمَا غَنِمَتْ ؛ لِأَنَّهَا بِظَهْرِهِ وَقُوَّتِهِ تَمَكَّنَتْ ؛ لَكِنْ تُنَفَّلُ عَنْهُ نَفْلًا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّلُ السَّرِيَّةَ إذَا كَانُوا فِي بِدَايَتِهِمْ الرُّبُعُ بَعْدَ الْخُمُسِ فَإِذَا رَجَعُوا إلَى أَوْطَانِهِمْ وَتَسَرَّتْ سَرِيَّةٌ نَفَّلَهُمْ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ وَكَذَلِكَ لَوْ غَنِمَ الْجَيْشُ غَنِيمَةً شَارَكَتْهُ السَّرِيَّةُ لِأَنَّهَا فِي مَصْلَحَةِ الْجَيْشِ كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَلْحَةِ وَالزُّبَيْرِ يَوْمَ بَدْرٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ بَعَثَهُمَا فِي مَصْلَحَةِ الْجَيْشِ فَأَعْوَانُ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ وَأَنْصَارِهَا مِنْهَا فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ . وَهَكَذَا الْمُقْتَتِلُونَ عَلَى بَاطِلٍ لَا تَأْوِيلَ فِيهِ ؛ مِثْلَ الْمُقْتَتِلِينَ عَلَى عَصَبِيَّةِ وَدَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ ؛ كَقَيْسِ وَيُمَنِّ وَنَحْوِهِمَا ؛ هُمَا ظَالِمَتَانِ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ } . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَتَضَمَّنَ كُلُّ طَائِفَةٍ مَا أَتْلَفَتْهُ لِلْأُخْرَى مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ . وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ عَيْنَ الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْوَاحِدَةَ الْمُمْتَنِعَ بَعْضُهَا بِبَعْضِ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ وَفِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } .

وَأَمَّا إذَا أَخَذُوا الْمَالَ فَقَطْ وَلَمْ يَقْتُلُوا - كَمَا قَدْ يَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ كَثِيرًا - فَإِنَّهُ يُقَطَّعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ } . تُقَطَّعُ الْيَدُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَالرِّجْلُ الَّتِي يَمْشِي عَلَيْهَا وَتُحْسَمُ يَدُهُ وَرَجُلُهُ بِالزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ وَنَحْوِهِ ؛ لِيَنْحَسِمَ الدَّمُ فَلَا يَخْرُجُ فَيُفْضِي إلَى تَلَفِهِ وَكَذَلِكَ تُحْسَمُ يَدُ السَّارِقِ بِالزَّيْتِ . وَهَذَا الْفِعْلُ قَدْ يَكُونُ أزجر مِنْ الْقَتْلِ ؛ فَإِنَّ الْأَعْرَابَ وَفَسَقَةَ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ إذَا رَأَوْا دَائِمًا مَنْ هُوَ بَيْنَهُمْ مَقْطُوعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ ذَكَرُوا بِذَلِكَ جُرْمَهُ فَارْتَدَعُوا ؛ بِخِلَافِ الْقَتْلِ فَإِنَّهُ قَدْ يَنْسَى ؛ وَقَدْ يُؤْثِرُ بَعْضُ النُّفُوسِ الْأَبِيَّةِ قَتْلَهُ عَلَى قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ مِنْ خِلَافٍ فَيَكُونُ هَذَا أَشَدَّ تَنْكِيلًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ . وَأَمَّا إذَا شَهَرُوا السِّلَاحَ وَلَمْ يَقْتُلُوا نَفْسًا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا ثُمَّ أَغْمَدُوهُ أَوْ هَرَبُوا وَتَرَكُوا الْحِرَابَ فَإِنَّهُمْ يُنْفَوْنَ . فَقِيلَ : نَفْيُهُمْ تَشْرِيدُهُمْ فَلَا يَتْرُكُونَ يَأْوُونَ فِي بَلَدٍ . وَقِيلَ : هُوَ حَبْسُهُمْ . وَقِيلَ : هُوَ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ أَصْلَحَ مِنْ نَفْيٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . وَالْقَتْلُ الْمَشْرُوعُ : هُوَ ضَرْبُ الرَّقَبَةِ بِالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْوَحُ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ وَكَذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ قَتْلَ مَا يُبَاحُ قَتْلُهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ

إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ : { إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قَتَلَةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ } . وَأَمَّا الصَّلْبُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ رَفْعُهُمْ عَلَى مَكَانٍ عَالٍ لِيَرَاهُمْ النَّاسُ وَيَشْتَهِرَ أَمْرُهُمْ وَهُوَ بَعْدَ الْقَتْلِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُصَلَّبُونَ ثُمَّ يُقَتَّلُونَ وَهُمْ مُصَلَّبُونَ . وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَتْلَهُمْ بِغَيْرِ السَّيْفِ حَتَّى قَالَ : يُتْرَكُونَ عَلَى الْمَكَانِ الْعَالِي حَتَّى يَمُوتُوا حَتْفَ أُنُوفِهِمْ بِلَا قَتْلٍ .
فَأَمَّا التَّمْثِيلُ فِي الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ وَقَدْ { قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً إلَّا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ حَتَّى الْكُفَّارُ إذَا قَتَلْنَاهُمْ فَإِنَّا لَا نُمَثِّلُ بِهِمْ بَعْدَ الْقَتْلِ وَلَا نَجْدَعُ آذَانَهُمْ وَأُنُوفَهُمْ وَلَا نَبْقُرُ بُطُونَهُمْ إلَّا إنْ يَكُونُوا فَعَلُوا ذَلِكَ بِنَا فَنَفْعَلُ بِهِمْ مِثْلَ مَا فَعَلُوا } . وَالتَّرْكُ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ } قِيلَ إنَّهَا نَزَلَتْ لِمَا مَثَّلَ الْمُشْرِكُونَ بِحَمْزَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ شُهَدَاءَ أُحُدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَئِنْ أَظْفَرَنِي اللَّهُ بِهِمْ لَأُمَثِّلَنَّ بِضَعْفَيْ مَا مَثَّلُوا بِنَا } فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ - وَإِنْ كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ

مِثْلَ قَوْلِهِ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } وَقَوْلِهِ : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَكَّةَ ثُمَّ جَرَى بِالْمَدِينَةِ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْخِطَابَ فَأُنْزِلَتْ مَرَّةً ثَانِيَةً - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بَلْ نَصْبِرُ " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بريدة بْنِ الحصيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ يَقُولُ : اُغْزُوَا بِسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَلَا تَغْلُوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا } .
وَلَوْ شَهَرُوا السِّلَاحَ فِي الْبُنْيَانِ - لَا فِي الصَّحْرَاءِ - لِأَخْذِ الْمَالِ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُمْ لَيْسُوا مُحَارِبِينَ بَلْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ يُدْرِكُهُ الْغَوْثُ إذَا اسْتَغَاثَ بِالنَّاسِ . وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ : إنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْبُنْيَانِ وَالصَّحْرَاءِ وَاحِدٌ . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ - فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ - وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَد وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ بَلْ هُمْ فِي الْبُنْيَانِ أَحَقُّ بِالْعُقُوبَةِ مِنْهُمْ فِي الصَّحْرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ مَحَلُّ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ تَنَاصُرِ النَّاسِ وَتَعَاوُنِهِمْ فَإِقْدَامُهُمْ عَلَيْهِ يَقْتَضِي شِدَّةَ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَسْلُبُونَ الرَّجُلَ فِي دَارِهِ جَمِيعَ مَالِهِ وَالْمُسَافِرُ

لَا يَكُونُ مَعَهُ - غَالِبًا - إلَّا بَعْضُ مَالِهِ . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ؛ لَا سِيَّمَا هَؤُلَاءِ الْمُتَحَزِّبُونَ الَّذِينَ تُسَمِّيهِمْ الْعَامَّةُ فِي الشَّامِ وَمِصْرَ الْمِنْسَرَ وَكَانُوا يُسَمُّونَ بِبَغْدَادَ الْعَيَّارِينَ وَلَوْ حَارَبُوا بِالْعَصَا وَالْحِجَارَةِ الْمَقْذُوفَةِ بِالْأَيْدِي أَوْ الْمَقَالِيعِ وَنَحْوِهَا : فَهُمْ مُحَارِبُونَ أَيْضًا . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لَا مُحَارَبَةَ إلَّا بِالْمُحَدَّدِ . وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ : عَلَى أَنَّ الْمُحَارَبَةَ تَكُونُ بِالْمُحَدَّدِ وَالْمُثَقَّلِ . وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ . فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ مَنْ قَاتَلَ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِتَالِ فَهُوَ مُحَارِبٌ قَاطِعٌ كَمَا أَنَّ مَنْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِتَالِ فَهُوَ حَرْبِيٌّ وَمَنْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِسَيْفِ أَوْ رُمْحٍ أَوْ سَهْمٍ أَوْ حِجَارَةٍ أَوْ عَصًا فَهُوَ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ يَقْتُلُ النُّفُوسَ سِرًّا لِأَخْذِ الْمَالِ ؛ مِثْلَ الَّذِي يَجْلِسُ فِي خَانٍ يُكْرِيهِ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ فَإِذَا انْفَرَدَ بِقَوْمِ مِنْهُمْ قَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ . أَوْ يَدْعُو إلَى مَنْزِلِهِ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ لِخِيَاطَةِ أَوْ طِبٍّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَقْتُلُهُ وَيَأْخُذُ مَالَهُ وَهَذَا يُسَمَّى الْقَتْلُ غِيلَةً وَيُسَمِّيهِمْ بَعْضُ الْعَامَّةِ الْمُعَرِّجِينَ فَإِذَا كَانَ لِأَخْذِ الْمَالِ فَهَلْ هُمْ كَالْمُحَارِبِينَ أَوْ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْقَوَدِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ كَالْمُحَارِبِينَ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِالْحِيلَةِ كَالْقَتْلِ مُكَابَرَةً كِلَاهُمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ ضَرَرُ هَذَا أَشَدَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا

يَدْرِي بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُحَارِبَ هُوَ الْمُجَاهِرُ بِالْقِتَالِ ؛ وَأَنَّ هَذَا الْمُغْتَالَ يَكُونُ أَمْرُهُ إلَى وَلِيِّ الدَّمِ . وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ ضَرَرُ هَذَا أَشَدَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِهِ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِيمَنْ يَقْتُلُ السُّلْطَانُ كَقَتَلَةِ عُثْمَانَ . وَقَاتِلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَلْ هُمْ كَالْمُحَارِبِينَ فَيُقَتَّلُونَ حَدًّا أَوْ يَكُونُ أَمْرُهُمْ إلَى أَوْلِيَاءِ الدَّمِ - عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ - لِأَنَّ فِي قَتْلِهِ فَسَادًا عَامًّا .
فَصْلٌ :
وَهَذَا كُلُّهُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ . فَأَمَّا إذَا طَلَبَهُمْ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ بِلَا عُدْوَانٍ فَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ . وَمَتَى لَمْ يَنْقَادُوا إلَّا بِقِتَالِ يُفْضِي إلَى قَتْلِهِمْ كُلِّهِمْ قُوتِلُوا وَإِنْ أَفْضَى إلَى ذَلِكَ ؛ سَوَاءٌ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا أَوْ لَمْ يَقْتُلُوا . وَيُقَتَّلُونَ فِي الْقِتَالِ كَيْفَمَا أَمْكَنَ : فِي الْعُنُقِ وَغَيْرِهِ . وَيُقَاتَلُ مَنْ قَاتَلَ مَعَهُمْ مِمَّنْ يَحْمِيهِمْ وَيُعِينُهُمْ . فَهَذَا قِتَالٌ وَذَاكَ إقَامَةُ حَدٍّ . وَقِتَالُ هَؤُلَاءِ أَوْكَدُ مِنْ قَتْلِ الطَّوَائِفِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ .

فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ تَحَزَّبُوا لِفَسَادِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَهَلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ ؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ إقَامَةَ دِينٍ وَلَا مُلْكٍ . وَهَؤُلَاءِ كَالْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ يَأْوُونَ إلَى حِصْنٍ أَوْ مَغَارَةٍ أَوْ رَأْسِ جَبَلٍ أَوْ بَطْنِ وَادٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ : يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ وَإِذَا جَاءَهُمْ جُنْدُ وَلِيِّ الْأَمْرِ يَطْلُبُهُمْ لِلدُّخُولِ فِي طَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْجَمَاعَةِ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ : قَاتَلُوهُمْ وَدَفَعُوهُمْ ؛ مِثْلَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْحَاجِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الطُّرُقَاتِ أَوْ الْجَبَلِيَّةِ الَّذِينَ يَعْتَصِمُونَ بِرُءُوسِ الْجِبَالِ أَوْ الْمَغَارَاتِ ؛ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ . وَكَالْأَحْلَافِ الَّذِينَ تَحَالَفُوا لِقَطْعِ الطَّرِيقِ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " النهيضة " فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ كَمَا ذَكَرْنَا ؛ لَكِنْ قِتَالُهُمْ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الْكُفَّارِ إذَا لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا وَلَا تُؤْخَذُ أَمْوَالُهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانَهَا فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا أَخَذُوا وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ عَيْنَ الْآخِذِ . وَكَذَلِكَ لَوْ عُلِمَ عَيْنُهُ ؛ فَإِنَّ الرِّدْءَ وَالْمُبَاشِرَ سَوَاءٌ كَمَا قُلْنَاهُ ؛ لَكِنْ إذَا عُرِفَ عَيْنُهُ كَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَيَرُدُّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَإِنْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ كَانَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ : مِنْ رِزْقِ الطَّائِفَةِ الْمُقَاتِلَة لَهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ . بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْ قِتَالِهِمْ التَّمَكُّنُ مِنْهُمْ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَمَنْعِهِمْ مِنْ الْفَسَادِ فَإِذَا جُرِحَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ جُرْحًا مُثْخَنًا لَمْ يُجْهَزْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ

إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ . وَإِذَا هَرَبَ وَكَفَانَا شَرَّهُ لَمْ نَتَّبِعْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ نَخَافُ عَاقِبَتَهُ وَمَنْ أَسَرَّ مِنْهُمْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي يُقَامُ عَلَى غَيْرِهِ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُشَدِّدُ فِيهِمْ حَتَّى يَرَى غَنِيمَةَ أَمْوَالِهِمْ وَتَخْمِيسَهَا ؛ وَأَكْثَرُهُمْ يَأْبَوْنَ ذَلِكَ . فَأَمَّا إذَا تَحَيَّزُوا إلَى مَمْلَكَةِ طَائِفَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَأَعَانُوهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . قُوتِلُوا كَقِتَالِهِمْ .
وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ خِفَارَةً أَوْ ضَرِيبَةً مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ عَلَى الرُّءُوسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَحْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مكاس عَلَيْهِ عُقُوبَةُ المكاسين . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ قَتْلِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ؛ فَإِنَّ الطَّرِيقَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الغامدية : لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ } وَيَجُوزُ لِلْمَظْلُومِينَ - الَّذِينَ تُرَادُ أَمْوَالُهُمْ - قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا يَجِبُ أَنْ يُبْذَلَ لَهُمْ مِنْ الْمَالِ لَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ إذَا أَمْكَنَ قِتَالُهُمْ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمِنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } . وَهَذَا الَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ " الصَّائِلُ " وَهُوَ الظَّالِمُ بِلَا تَأْوِيلٍ

وَلَا وِلَايَةٍ فَإِذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْمَالَ جَازَ دَفْعُهُ بِمَا يُمْكِنُ فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا الْقِتَالُ قُوتِلَ وَإِنْ تَرَكَ الْقِتَالَ وَأَعْطَاهُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ جَازَ وَأَمَّا إذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْحُرْمَةَ - مِثْلَ أَنْ يَطْلُبَ الزِّنَا بِمَحَارِمِ الْإِنْسَانِ أَوْ يَطْلُبَ مِنْ الْمَرْأَةِ أَوْ الصَّبِيِّ الْمَمْلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ الْفُجُورَ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يُمْكِنُ وَلَوْ بِالْقِتَالِ وَلَا يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ بِحَالِ ؛ بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ جَائِزٌ وَبَذْلَ الْفُجُورِ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْحُرْمَةِ غَيْرُ جَائِزٍ . وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ قَتْلَ الْإِنْسَانِ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ . وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَهَذَا إذَا كَانَ لِلنَّاسِ سُلْطَانٌ فَأَمَّا إذَا كَانَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - فِتْنَةٌ مِثْلَ أَنْ يَخْتَلِفَ سُلْطَانَانِ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَقْتَتِلَانِ عَلَى الْمُلْكِ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ إذَا دَخَلَ أَحَدُهُمَا بَلَدَ الْآخَرِ وَجَرَى السَّيْفُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْفِتْنَةِ أَوْ يَسْتَسْلِمُ فَلَا يُقَاتِلُ فِيهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَإِذَا ظَفَرَ السُّلْطَانُ بِالْمُحَارِبِينَ الْحَرَامِيَّةِ - وَقَدْ أَخَذُوا الْأَمْوَالَ الَّتِي لِلنَّاسِ - فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَخْرِجْ مِنْهُمْ الْأَمْوَالَ الَّتِي لِلنَّاسِ وَيَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ مَعَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى أَبْدَانِهِمْ . وَكَذَلِكَ السَّارِقُ ؛ فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ إحْضَارِ الْمَالِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَلَيْهِمْ عَاقَبَهُمْ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ حَتَّى يُمَكَّنُوا مَنْ أَخْذِهِ بِإِحْضَارِهِ أَوْ تَوْكِيلِ مَنْ يَحْضُرُهُ أَوْ الْإِخْبَارِ بِمَكَانِهِ كَمَا يُعَاقَبُ كُلُّ مُمْتَنِعٍ

عَنْ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ لِلرَّجُلِ فِي كِتَابِهِ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ إذَا نَشَزَتْ فَامْتَنَعَتْ مِنْ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا حَتَّى تُؤَدِّيَهُ . فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَهَذِهِ الْمُطَالَبَةُ وَالْعُقُوبَةُ حَقٌّ لِرَبِّ الْمَالِ فَإِنْ أَرَادَ هِبَتَهُمْ الْمَالَ أَوْ الْمُصَالَحَةَ عَلَيْهِ أَوْ الْعَفْوَ عَنْ عُقُوبَتِهِمْ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ ؛ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْعَفْوِ عَنْهُ بِحَالِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلْزِمَ رَبَّ الْمَالِ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ . وَإِنْ كَانَتْ الْأَمْوَالُ قَدْ تَلِفَتْ بِالْأَكْلِ وَغَيْرِهِ عِنْدَهُمْ أَوْ عِنْدَ السَّارِقِ . فَقِيلَ : يَضْمَنُونَهَا لِأَرْبَابِهَا كَمَا يَضْمَنُ سَائِرُ الْغَارِمِينَ . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَتَبْقَى مَعَ الْإِعْسَارِ فِي ذِمَّتِهِمْ إلَى مَيْسَرَةٍ . وَقِيلَ : لَا يَجْتَمِعُ الْغُرْمُ وَالْقَطْعُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَقِيلَ : يَضْمَنُونَهَا مَعَ الْيَسَارِ فَقَطْ دُونَ الْإِعْسَارِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَلَا يَحِلُّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ جُعْلًا عَلَى طَلَبِ الْمُحَارِبِينَ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ وَارْتِجَاعِ أَمْوَالِ النَّاسِ مِنْهُمْ وَلَا عَلَى طَلَبِ السَّارِقِينَ لَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِلْجُنْدِ الَّذِينَ يُرْسِلُهُمْ فِي طَلَبِهِمْ ؛ بَلْ طَلَبُ هَؤُلَاءِ مَنْ نَوْعِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَخْرُجُ فِيهِ جُنْدُ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَخْرُجُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْغَزَوَاتِ الَّتِي تُسَمَّى البيكار . وَيُنْفِقُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ فِي هَذَا مِنْ الْمَالِ الَّذِي يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى سَائِرِ الْغُزَاةِ فَإِنْ كَانَ لَهُمْ إقْطَاعٌ أَوْ عَطَاءٌ يَكْفِيهِمْ وَإِلَّا أَعْطَاهُمْ تَمَامَ كِفَايَةِ غَزْوِهِمْ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ مِنْ الصَّدَقَاتِ ؛

فَإِنَّ هَذَا مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ . فَإِنْ كَانَ عَلَى أَبْنَاءِ السَّبِيلِ الْمَأْخُوذِينَ زَكَاةً مِثْلَ التُّجَّارِ الَّذِينَ قَدْ يُؤْخَذُونَ فَأَخَذَ الْإِمَامُ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَنَفَقَةِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ الْمُحَارِبِينَ جَازَ . وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ شَوْكَةٌ قَوِيَّةٌ تَحْتَاجُ إلَى تَأْلِيفٍ فَأَعْطَى الْإِمَامُ مِنْ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ وَالزَّكَاةِ لِبَعْضِ رُؤَسَائِهِمْ يُعِينُهُمْ عَلَى إحْضَارِ الْبَاقِينَ أَوْ لِتَرْكِ شَرِّهِ فَيَضْعُفُ الْبَاقُونَ وَنَحْوُ ذَلِكَ جَازَ وَكَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَقَدْ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ الْإِمَامُ مَنْ يَضْعُفُ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْحَرَامِيَّةِ وَلَا مَنْ يَأْخُذُ مَالًا مِنْ الْمَأْخُوذِينَ : التُّجَّارُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ ؛ بَلْ يُرْسِلُ مِنْ الْجُنْدِ الْأَقْوِيَاءَ الْأُمَنَاءَ ؛ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ ذَلِكَ فَيُرْسِلُ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ . فَإِنْ كَانَ بَعْضُ نُوَّابِ السُّلْطَانِ أَوْ رُؤَسَاءُ الْقُرَى وَنَحْوُهُمْ يَأْمُرُونَ الْحَرَامِيَّةَ بِالْأَخْذِ فِي الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ حَتَّى إذَا أَخَذُوا شَيْئًا قَاسَمَهُمْ وَدَافَعَ عَنْهُمْ وَأَرْضَى الْمَأْخُوذِينَ بِبَعْضِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ لَمْ يُرْضِهِمْ فَهَذَا أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ مُقَدَّمِ الْحَرَامِيَّةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِدُونِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ هَذَا . وَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ مَا يُقَالُ فِي الرِّدْءِ وَالْعَوْنِ لَهُمْ . فَإِنْ قَتَلُوا قُتِلَ هُوَ عَلَى قَوْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَكْثَرِ أَهْلِ

الْعِلْمِ . وَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ وَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ وَعَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُقْطَعُ وَيُقْتَلُ وَيُصْلَبُ . وَقِيلَ يُخَيَّرُ بَيْنَ هَذَيْنِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ ؛ لَكِنْ لَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِمْ قَاسَمَهُمْ الْأَمْوَالَ وَعَطَّلَ بَعْضَ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ .
وَمَنْ آوَى مُحَارِبًا أَوْ سَارِقًا أَوْ قَاتِلًا وَنَحْوَهُمْ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِآدَمِيِّ وَمَنَعَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ الْوَاجِبَ بِلَا عُدْوَانٍ فَهُوَ شَرِيكُهُ فِي الْجُرْمِ . وَقَدْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا } وَإِذَا ظَفَرَ بِهَذَا الَّذِي آوَى الْمُحْدِثَ فَإِنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ إحْضَارَهُ أَوْ الْإِعْلَامَ بِهِ فَإِنْ امْتَنَعَ عُوقِبَ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يُمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ الْحَدَثِ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُعَاقِبُ الْمُمْتَنِعَ مِنْ أَدَاءِ الْمَالِ الْوَاجِبِ . فَمَنْ وَجَبَ حُضُورُهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ يُعَاقِبُ مَنْ مَنَعَ حُضُورَهَا . وَلَوْ كَانَ رَجُلًا يَعْرِفُ مَكَانَ الْمَالِ الْمَطْلُوبِ بِحَقِّ أَوْ الرَّجُلَ الْمَطْلُوبَ بِحَقِّ وَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْلَامُ بِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ . وَلَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ . فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَذَلِكَ وَاجِبٌ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ النَّفْسُ أَوْ الْمَالُ مَطْلُوبًا بِبَاطِلِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ الْإِعْلَامُ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ؛ بَلْ يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ

نَصْرَ الْمَظْلُومِ وَاجِبٌ ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا . قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا . فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قَالَ : تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرُك إيَّاهُ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ نَحْوَهُ عَنْ جَابِرٍ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعِ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ : أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِفْشَاءَ الْسَّلَامِ وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ وَعَنْ الشُّرْبِ بِالْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالْقَسِّيِّ وَالدِّيبَاجِ وَالْإِسْتَبْرَقِ } . فَإِنْ امْتَنَعَ هَذَا الْعَالِمُ بِهِ مِنْ الْإِعْلَامِ بِمَكَانِهِ جَازَتْ عُقُوبَتُهُ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ حَتَّى يُخْبَرَ بِهِ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ حَقٍّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ . فَعُوقِبَ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا إذَا عَرَفَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِ . وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي مَا تَتَوَلَّاهُ الْوُلَاةُ وَالْقُضَاةُ وَغَيْرُهُمْ فِي كُلِّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ وَاجِبٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَلَيْسَ هَذَا بِمُطَالَبَةِ لِلرَّجُلِ بِحَقِّ وَجَبٍ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا عُقُوبَةٍ عَلَى جِنَايَةِ غَيْرِهِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَّا لَا يَجْنِي جَانٍ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ } . وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَطْلُبَ بِمَالِ قَدْ

وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ لَيْسَ وَكَيْلًا وَلَا ضَامِنًا وَلَا لَهُ عِنْدَهُ مَالٌ . أَوْ يُعَاقِبُ الرَّجُلُ بِجَرِيرَةِ قَرِيبِهِ أَوْ جَارِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَدْ أَذْنَبَ لَا بِتَرْكِ وَاجِبٍ وَلَا بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ فَهَذَا الَّذِي لَا يَحِلُّ . فَأَمَّا هَذَا فَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَنْبِ نَفْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ مَكَانَ الظَّالِمِ الَّذِي يَطْلُبُ حُضُورَهُ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ أَوْ يَعْلَمُ مَكَانَ الْمَالِ الَّذِي قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حُقُوقُ الْمُسْتَحِقِّينَ فَيَمْتَنِعُ مِنْ الْإِعَانَةِ وَالنُّصْرَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ إمَّا مُحَابَاةً أَوْ حَمِيَّةً لِذَلِكَ الظَّالِمُ كَمَا قَدْ يَفْعَلُ أَهْلُ الْعَصَبِيَّةِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَإِمَّا مُعَادَاةً أَوْ بُغْضًا لِلْمَظْلُومِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } . وَإِمَّا إعْرَاضًا - عَنْ الْقِيَامِ لِلَّهِ وَالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ - وَجُبْنًا وَفَشْلًا وَخِذْلَانًا لِدِينِهِ كَمَا يَفْعَلُ التَّارِكُونَ لِنَصْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ وَكِتَابِهِ الَّذِينَ إذَا قِيلَ لَهُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلُوا إلَى الْأَرْضِ . وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهَذَا الضَّرْبُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَمَنْ لَمْ يَسْلُكْ هَذِهِ السُّبُلَ عَطَّلَ الْحُدُودَ وَضَيَّعَ الْحُقُوقَ وَأَكَلَ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ . وَهُوَ يُشْبِهُ مَنْ عِنْدَهُ مَالُ الظَّالِمِ الْمُمَاطِلِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ وَقَدْ

امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ لِحَاكِمِ عَادِلٍ يُوَفِّي بِهِ دِينَهُ أَوْ يُؤَدِّي مِنْهُ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ لِأَهْلِهِ أَوْ أَقَارِبِهِ أَوْ مَمَالِيكِهِ أَوْ بَهَائِمِهِ . وَكَثِيرًا مَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ حَقٌّ بِسَبَبِ غَيْرِهِ كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ بِسَبَبِ حَاجَةِ قَرِيبِهِ وَكَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ . وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ التَّعْزِيرِ عُقُوبَةٌ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَالًا أَوْ نَفْسًا يَجِبُ إحْضَارُهُ وَهُوَ لَا يَحْضُرُهُ ؛ كَالْقُطَّاعِ وَالسُّرَّاقِ وَحُمَاتِهِمْ ؛ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ خَبِيرٌ بِهِ وَهُوَ لَا يُخْبِرُ بِمَكَانِهِ . فَأَمَّا إنْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِخْبَارِ وَالْإِحْضَارِ لِئَلَّا يَتَعَدَّى عَلَيْهِ الطَّالِبُ أَوْ يَظْلِمُهُ فَهَذَا مُحْسِنٌ . وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَيَجْتَمِعُ شُبْهَةٌ وَشَهْوَةٌ . وَالْوَاجِبُ تَمْيِيزُ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ . وَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا فِي الرُّؤَسَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ إذَا اسْتَجَارَ بِهِمْ مُسْتَجِيرٌ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ أَوْ صَدَاقَةٌ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ الْحَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْعِزَّةَ بِالْإِثْمِ وَالسُّمْعَةَ عِنْدَ الْأَوْبَاشِ : أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَهُ - وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا مُبْطِلًا - عَلَى الْحَقِّ الْمَظْلُومِ ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَظْلُومُ رَئِيسًا يُنَادِيهِمْ ويناويهم فَيَرَوْنَ فِي تَسْلِيمِ الْمُسْتَجِيرِ بِهِمْ إلَى مَنْ يناويهم ذُلًّا أَوْ عَجْزًا ؛ وَهَذَا - عَلَى الْإِطْلَاقِ - جَاهِلِيَّةٌ مَحْضَةٌ . وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا . وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ سَبَبَ كَثِيرٍ مِنْ حُرُوبِ الْأَعْرَابِ كَحَرْبِ الْبَسُوسِ الَّتِي كَانَتْ بَيْن بَنِي بَكْرٍ وَتَغْلِبَ إلَى نَحْوِ هَذَا وَكَذَلِكَ سَبَبُ دُخُولِ التُّرْكِ وَالْمَغُولِ دَارَ الْإِسْلَامِ

وَاسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَى مُلُوكِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَخُرَاسَانَ : كَانَ سَبَبُهُ نَحْوَ هَذَا . وَمَنْ أَذَلَّ نَفْسَهُ لِلَّهِ فَقَدْ أَعَزَّهَا وَمَنْ بَذَلَ الْحَقَّ مِنْ نَفْسِهِ فَقَدْ أَكْرَمَ نَفْسَهُ فَإِنَّ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ وَمَنْ اعْتَزَّ بِالظُّلْمِ : مِنْ مَنْعِ الْحَقِّ وَفِعْلِ الْإِثْمِ فَقَدْ أَذَلَّ نَفْسَهُ وَأَهَانَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ هَذَا الضَّرْبِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } . وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ اسْتَجَارَ بِهِ مُسْتَجِيرٌ - إنْ كَانَ مَظْلُومًا يَنْصُرُهُ وَلَا يَثْبُتُ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ ؛ فَطَالَمَا اشْتَكَى الرَّجُلُ وَهُوَ ظَالِمٌ ؛ بَلْ يَكْشِفُ خَبَرَهُ مِنْ خَصْمِهِ وَغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا رَدَّهُ عَنْ الظُّلْمِ بِالرِّفْقِ إنْ أَمْكَنَ ؛ إمَّا مِنْ صُلْحٍ أَوْ حُكْمٍ بِالْقِسْطِ وَإِلَّا فَبِالْقُوَّةِ . وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ ظَالِمًا مَظْلُومًا كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ قَيْس وَيُمَنِّ

وَنَحْوِهِمْ وَأَكْثَرِ الْمُتَدَاعِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْبَوَادِي أَوْ كَانَا جَمِيعًا غَيْرُ ظَالِمِينَ لِشُبْهَةِ أَوْ تَأْوِيلٍ أَوْ غَلَطٍ وَقَعَ فِيمَا بَيْنَهُمَا : سَعَى بَيْنَهُمَا بِالْإِصْلَاحِ أَوْ الْحُكْمِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَمِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ فِي الْحَقِّ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : وَلَكِنْ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ فِي الْبَاطِلِ } وَقَالَ : { خَيْرُكُمْ الدَّافِعُ عَنْ قَوْمِهِ مَا لَمْ يَأْثَمْ } . وَقَالَ : { مَثَلُ الَّذِي يَنْصُرُ قَوْمَهُ بِالْبَاطِلِ كَبَعِيرِ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَهُوَ يَجُرُّ بِذَنْبِهِ } . وَقَالَ : { مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَتَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بهن أَبِيهِ وَلَا تَكْنُوا } . وَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ : مِنْ نَسَبٍ أَوْ بَلَدٍ أَوْ جِنْسٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ : فَهُوَ مِنْ عَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ ؛ بَلْ { لَمَّا اخْتَصَمَ رَجُلَانِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَقَالَ المهاجري : يَا لِلْمُهَاجِرِينَ

وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : يَا لِلْأَنْصَارِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ } . وَغَضِبَ لِذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا السَّارِقُ فَيَجِبُ قَطْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَدِّ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ تَأْخِيرُهُ ؛ لَا بِحَبْسِ وَلَا مَالٍ يَفْتَدِي بِهِ وَلَا غَيْرِهِ ؛ بَلْ تُقْطَعُ يَدُهُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ وَغَيْرِهَا ؛ فَإِنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ بِعِبَادِهِ ؛ فَيَكُونُ الْوَالِي شَدِيدًا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ ؛ لَا تَأْخُذُهُ رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فَيُعَطِّلُهُ . وَيَكُونُ قَصْدُهُ رَحْمَةَ الْخَلْقِ بِكَفِّ النَّاسِ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ ؛ لِإِشْفَاءِ غَيْظِهِ وَإِرَادَةِ الْعُلُوِّ عَلَى الْخَلْقِ ؛ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ إذَا أَدَّبَ وَلَدَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَفَّ عَنْ تَأْدِيبِ وَلَدِهِ - كَمَا تُشِيرُ بِهِ الْأُمُّ رِقَّةً وَرَأْفَةً - لَفَسَدَ الْوَلَدُ وَإِنَّمَا يُؤَدِّبُهُ رَحْمَةً بِهِ وَإِصْلَاحًا لِحَالِهِ ؛ مَعَ أَنَّهُ يَوَدُّ وَيُؤْثِرُ أَنْ لَا يَحُوجَهُ إلَى تَأْدِيبٍ وَبِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ الَّذِي يَسْقِي الْمَرِيضَ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ وَبِمَنْزِلَةِ قَطْعِ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ وَالْحَجْمِ وَقَطْعِ

الْعُرُوقِ بِالْفِصَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ بَلْ بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الْإِنْسَانِ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ وَمَا يُدْخِلُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ لِيَنَالَ بِهِ الرَّاحَةَ . فَهَكَذَا شُرِّعَتْ الْحُدُودُ وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نِيَّةُ الْوَالِي فِي إقَامَتِهَا فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ قَصْدُهُ صَلَاحَ الرَّعِيَّةِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ بِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لَهُمْ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُمْ وَابْتَغَى بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَةَ أَمْرِهِ : أَلَانَ اللَّهُ لَهُ الْقُلُوبَ وَتَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ الْخَيْرِ وَكَفَاهُ الْعُقُوبَةَ الْبَشَرِيَّةَ وَقَدْ يَرْضَى الْمَحْدُودُ إذَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ . وَأَمَّا إذَا كَانَ غَرَضُهُ الْعُلُوَّ عَلَيْهِمْ وَإِقَامَةَ رِيَاسَتِهِ لِيُعَظِّمُوهُ أَوْ لِيَبْذُلُوا لَهُ مَا يُرِيدُ مِنْ الْأَمْوَالِ انْعَكَسَ عَلَيْهِ مَقْصُودُهُ . وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَ نَائِبًا لِلْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَدْ سَاسَهُمْ سِيَاسَةً صَالِحَةً فَقَدِمَ الْحَجَّاجُ مِنْ الْعِرَاقِ وَقَدْ سَامَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ فَسَأَلَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَنْ عُمَرَ . كَيْفَ هَيْبَتُهُ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَنْظُرَ إلَيْهِ . قَالَ : كَيْفَ مَحَبَّتُكُمْ لَهُ ؟ قَالُوا : هُوَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَهْلِنَا قَالَ : فَكَيْفَ أَدَبُهُ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الْأَسْوَاطِ إلَى الْعَشَرَةِ قَالَ : هَذِهِ هَيْبَتُهُ وَهَذِهِ مَحَبَّتُهُ وَهَذَا أَدَبُهُ هَذَا أَمْرٌ مِنْ السَّمَاءِ . وَإِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ حُسِمَتْ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ . فَإِنْ

سَرَقَ ثَانِيًا : قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى . فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا وَرَابِعًا : فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَحَدُهُمَا : تُقْطَعُ أَرْبَعَتُهُ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَالثَّانِي أَنَّهُ يُحْبَسُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْكُوفِيِّينَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى . وَإِنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ إذَا سَرَقَ نِصَابًا وَهُوَ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ . فَمَنْ سَرَقَ ذَلِكَ قُطِعَ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ { قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ } وَالْمِجَنُّ التُّرْسُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ : { لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا } . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ : { اقْطَعُوا فِي رُبُعِ دِينَارٍ وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ } وَكَانَ رُبُعُ الدِّينَارِ يَوْمئِذٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَالدِّينَارُ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا . وَلَا يَكُونُ السَّارِقُ سَارِقًا حَتَّى يَأْخُذَ الْمَالَ مِنْ حِرْزٍ . فَأَمَّا الْمَالُ

الضَّائِعُ مِنْ صَاحِبِهِ وَالثَّمَرُ الَّذِي يَكُونُ فِي الشَّجَرِ فِي الصَّحْرَاءِ بِلَا حَائِطٍ وَالْمَاشِيَةُ الَّتِي لَا رَاعِيَ عِنْدَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا قَطْعَ فِيهِ لَكِنْ يُعَزَّرُ الْآخِذُ وَيُضَاعَفُ عَلَيْهِ الْغُرْمُ كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي التَّضْعِيفِ وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ } وَالْكَثْرُ جُمَّارُ النَّخْلِ . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { سَمِعْت رَجُلًا مِنْ مزينة يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْت أَسْأَلُك عَنْ الضَّالَّةِ مِنْ الْإِبِلِ قَالَ : مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَأْكُلُ الشَّجَرَ وَتَرِدُ الْمَاءَ فَدَعْهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا بَاغِيهَا . قَالَ : فَالضَّالَّةُ مِنْ الْغَنَمِ ؟ قَالَ : لَك أَوْ لِأَخِيك أَوْ لِلذِّئْبِ تَجْمَعُهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا بَاغِيهَا : قَالَ : فَالْحَرِيسَةُ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مَرَاتِعِهَا ؟ قَالَ : فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ وَضَرْبٌ نَكَالٌ . وَمَا أُخِذَ مِنْ عَطَنِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ . قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : فَالثِّمَارُ وَمَا أُخِذَ مِنْهَا مِنْ أَكْمَامِهَا قَالَ : مَنْ أَخَذَ مِنْهَا بِفَمِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ احْتَمَلَ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ مَرَّتَيْنِ وَضَرْبٌ نَكَالٌ وَمَا أُخِذَ مِنْ أَجْرَانِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةٌ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ } . رَوَاهُ أَهْلُ

السُّنَنِ . لَكِنَّ هَذَا سِيَاقُ النَّسَائِي . وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ وَلَا عَلَى الْمُخْتَلِسِ وَلَا الْخَائِنِ قَطْعٌ } فَالْمُنْتَهِبُ الَّذِي يَنْهَبُ الشَّيْءَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ وَالْمُخْتَلِسُ الَّذِي يَجْتَذِبُ الشَّيْءَ فَيُعْلَمُ بِهِ قَبْلَ أَخْذِهِ وَأَمَّا الطَّرَّارُ وَهُوَ الْبَطَّاطُ الَّذِي يَبِطُ الْجُيُوبَ وَالْمَنَادِيلَ وَالْأَكْمَامَ وَنَحْوَهَا فَإِنَّهُ يُقْطَعُ عَلَى الصَّحِيحِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الزَّانِي : فَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا فَإِنَّهُ يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ كَمَا رَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الأسلمي وَرَجَمَ الغامدية وَرَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ وَرَجَمَ غَيْرَ هَؤُلَاءِ وَرَجَمَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يُجْلَدُ قَبْلَ الرَّجْمِ مِائَةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَ غَيْرُ مُحْصَنٍ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةُ جَلْدَةٍ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيُغَرَّبُ عَامًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَرَى وُجُوبَ التَّغْرِيبِ . وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ أَوْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ ؛ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْتَفِي بِشَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ

فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَسْقُطُ . وَالْمُحْصَنُ مَنْ وَطِئَ - وَهُوَ حُرٌّ مُكَلَّفٌ - لِمَنْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا فِي قُبُلِهَا وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً . وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ مُسَاوِيَةً لِلْوَاطِئِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . . وَهَلْ تُحْصَنُ الْمُرَاهِقَةُ لِلْبَالِغِ ؛ وَبِالْعَكْسِ ؟ فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ مُحْصَنُونَ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِهِ وَذَلِكَ أَوَّلُ رَجْمٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ إذَا وُجِدَتْ حُبْلَى وَلَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ وَلَمْ تَدَعْ شُبْهَةً فِي الْحَبَلِ . فَفِيهَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : لَا حَدَّ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَبِلَتْ مُكْرَهَةً أَوْ بِتَحَمُّلِ . أَوْ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ . وَقِيلَ : بَلْ تُحَدُّ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ؛ فَإِنَّ الِاحْتِمَالَاتِ النَّادِرُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا كَاحْتِمَالِ كَذِبِهَا وَكَذِبِ الشُّهُودِ .
وَأَمَّا اللِّوَاطُ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : حَدُّهُ كَحَدِّ الزِّنَا . وَقَدْ قِيلَ : دُونَ ذَلِكَ . وَالصَّحِيحُ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ : أَنْ يُقْتَلَ الِاثْنَانِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ . سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَنِ رَوَوْا عَنْ ابْنِ

عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْبِكْرِ يُوجَدُ عَلَى اللُّوطِيَّةِ . قَالَ : يُرْجَمُ . وَيُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُ ذَلِكَ . وَلَمْ تَخْتَلِفْ الصَّحَابَةُ فِي قَتْلِهِ ؛ وَلَكِنْ تَنَوَّعُوا فِيهِ . فَرُوِيَ عَنْ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَحْرِيقِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ قَتْلُهُ وَعَنْ بَعْضِهِمْ : أَنَّهُ يُلْقَى عَلَيْهِ جِدَارٌ حَتَّى يَمُوتَ تَحْتَ الْهَدْمِ وَقِيلَ : يُحْبَسَانِ فِي أَنْتَنِ مَوْضِعٍ حَتَّى يَمُوتَا . وَعَنْ بَعْضِهِمْ : أَنَّهُ يُرْفَعُ عَلَى أَعْلَى جِدَارٍ فِي الْقَرْيَةِ وَيُرْمَى مِنْهُ وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ كَمَا فَعَلَ اللَّهُ بِقَوْمِ لُوطٍ . وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى قَالَ : يُرْجَمُ . وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ السَّلَفِ . قَالُوا لِأَنَّ اللَّهَ رَجَمَ قَوْمَ لُوطٍ وَشَرَعَ رَجْمَ الزَّانِي تَشْبِيهًا بِرَجْمِ قَوْمِ لُوطٍ فَيُرْجَمُ الِاثْنَانِ سَوَاءٌ كَانَا حُرَّيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا وَالْآخَرُ حُرًّا إذَا كَانَا بَالِغَيْنِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ بَالِغٍ عُوقِبَ بِمَا دُونَ الْقَتْلِ وَلَا يُرْجَمُ إلَّا الْبَالِغُ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ : فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ } وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ جَلَدَ الشَّارِبَ غَيْرَ مَرَّةٍ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ . وَالْقَتْلُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مَنْسُوخٌ . وَقِيلَ : هُوَ مُحْكَمٌ . يُقَالُ : هُوَ تَعْزِيرٌ يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ عِنْدَ الْحَاجَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ أَرْبَعِينَ . وَضَرَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعِينَ وَضَرَبَ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ ثَمَانِينَ . وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْرِبُ مَرَّةً أَرْبَعِينَ وَمَرَّةً ثَمَانِينَ } . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : يَجِبُ ضَرْبُ الثَّمَانِينَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْوَاجِبُ أَرْبَعُونَ وَالزِّيَادَةُ يَفْعَلُهَا الْإِمَامُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إذَا أَدْمَنَ النَّاسُ الْخَمْرَ . أَوْ كَانَ الشَّارِبُ مِمَّنْ لَا يَرْتَدِعُ بِدُونِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ .

فَأَمَّا مَعَ قِلَّةِ الشَّارِبِينَ وَقُرْبِ أَمْرِ الشَّارِبِ فَتَكْفِي الْأَرْبَعُونَ . وَهَذَا أَوْجُهُ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا كَثُرَ الشُّرْبُ - زَادَ فِيهِ النَّفْيَ وَحَلْقَ الرَّأْسِ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ عَنْهُ فَلَوْ غُرِّبَ الشَّارِبُ مَعَ الْأَرْبَعِينَ لِيَنْقَطِعَ خَبَرُهُ أَوْ عَزْلُهُ عَنْ وِلَايَتِهِ كَانَ حَسَنًا ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلَغَهُ عَنْ بَعْضِ نُوَّابِهِ أَنَّهُ تَمَثَّلَ بِأَبْيَاتِ فِي الْخَمْرِ فَعَزَلَهُ . وَالْخَمْرُ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَلْدِ شَارِبِهَا كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ مِنْ أَيِّ أَصْلٍ كَانَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الثِّمَارِ كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالتِّينِ . أَوْ الْحُبُوبِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ . أَوْ الطُّلُولِ كَالْعَسَلِ . أَوْ الْحَيَوَانِ كَلَبَنِ الْخَيْلِ . بَلْ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ شَجَرُ عِنَبٍ وَإِنَّمَا كَانَتْ تُجْلَبُ مِنْ الشَّامِ كَانَ عَامَّةُ شَرَابِهِمْ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَمْرٌ . وَكَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ الْحُلْوَ وَهُوَ أَنْ يُنْبَذَ فِي الْمَاءِ تَمْرٌ وَزَبِيبٌ

أَيْ يُطْرَحُ فِيهِ وَالنُّبَذُ الطَّرْحُ - لِيَحْلُوَ الْمَاءُ لَا سِيَّمَا كَثِيرٌ مِنْ مِيَاهِ الْحِجَازِ فَإِنَّ فِيهِ مُلُوحَةً فَهَذَا النَّبِيذُ حَلَالٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْكِرُ ؛ كَمَا يَحِلُّ شُرْبُ عَصِيرِ الْعِنَبِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَاهُمْ أَنْ يَنْبِذُوا هَذَا النَّبِيذَ فِي أَوْعِيَةِ الْخَشَبِ أَوْ الجرى وَهُوَ مَا يُصْنَعُ مِنْ التُّرَابِ أَوْ الْقَرْعِ أَوْ الظُّرُوفِ الْمُزَفَّتَةِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْبِذُوا فِي الظُّرُوفِ الَّتِي تُرْبَطُ أَفْوَاهِهَا بِالْأَوْكِيَةِ ؛ لِأَنَّ الشِّدَّةَ تَدِبُّ فِي النَّبِيذِ دَبِيبًا خَفِيفًا وَلَا يَشْعُرُ الْإِنْسَانُ فَرُبَّمَا شَرِبَ الْإِنْسَانُ مَا قَدْ دَبَّتْ فِيهِ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ فَإِذَا كَانَ السِّقَاءُ مُوكًى انْشَقَّ الظَّرْفُ إذَا غَلَا فِيهِ النَّبِيذُ فَلَا يَقَعُ الْإِنْسَانُ فِي مَحْذُورٍ وَتِلْكَ الْأَوْعِيَةُ لَا تَنْشَقُّ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ بَعْدَ هَذَا فِي الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ وَقَالَ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ فَانْتَبَذُوا وَلَا تَشْرَبُوا الْمُسْكِرَ } فَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ . مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ أَوْ لَمْ يُثْبِتْهُ فَنَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ ثُبُوتَهُ وَأَنَّهُ نَاسِخٌ فَرَخَّصَ فِي الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ فَسَمِعَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ الْمُسْكِرُ فَتَرَخَّصُوا فِي شُرْبِ أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ . وَتَرَخَّصُوا فِي الْمَطْبُوخِ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا لَمْ يُسْكِرْ الشَّارِبَ .

وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ كُلَّ مُسْكِرِ خَمْرٍ يُجْلَدُ شَارِبُهُ وَلَوْ شَرِبَ مِنْهُ قَطْرَةً وَاحِدَةً لِتَدَاوٍ أَوْ غَيْرِ تَدَاوٍ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ يَتَدَاوَى بِهَا فَقَالَ : إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ . وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا } . وَالْحَدُّ وَاجِبٌ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ اعْتَرَفَ الشَّارِبُ ؛ فَإِنْ وُجِدَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ رُئِيَ وَهُوَ يتقيؤها وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَقَدْ قِيلَ : لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ شَرِبَ مَا لَيْسَ بِخَمْرِ أَوْ شَرِبَهَا جَاهِلًا بِهَا أَوْ مُكْرَهًا وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَقِيلَ : بَلْ يُجْلَدُ إذَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْكِرٌ . وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ : كَعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ ؛ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي يَصْلُحُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَأَحْمَد فِي غَالِبِ نُصُوصِهِ وَغَيْرِهِمَا . وَالْحَشِيشَةُ الْمَصْنُوعَةُ مِنْ وَرَقِ الْعِنَبِ حَرَامٌ أَيْضًا يُجْلَدُ صَاحِبُهَا كَمَا يُجْلَدُ شَارِبُ الْخَمْرِ وَهِيَ أَخْبَثُ مِنْ الْخَمْرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُفْسِدُ الْعَقْلَ وَالْمِزَاجَ حَتَّى يَصِيرَ فِي الرَّجُلِ تَخَنُّثٌ وَدِيَاثَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ وَالْخَمْرُ أَخْبَثُ ؛ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ وَكِلَاهُمَا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ الصَّلَاةِ . وَقَدْ تَوَقَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي حَدِّهَا وَرَأَى أَنَّ آكِلَهَا

يُعَزَّرُ بِمَا دُونَ الْحَدِّ ؛ حَيْثُ ظَنَّهَا تُغَيِّرُ الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِ طَرِبٍ بِمَنْزِلَةِ الْبَنْجِ وَلَمْ نَجِدْ لِلْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهَا كَلَامًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ آكِلُوهَا يَنْشَوْنَ عَنْهَا وَيَشْتَهُونَهَا كَشَرَابِ الْخَمْرِ وَأَكْثَرَ وَتَصُدُّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ إذَا أَكْثَرُوا مِنْهَا مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ الْأُخْرَى : مِنْ الدِّيَاثَةِ وَالتَّخَنُّثِ وَفَسَادِ الْمِزَاجِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ جَامِدَةً مَطْعُومَةً لَيْسَتْ شَرَابًا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَتِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَقِيلَ : هِيَ نَجِسَةٌ كَالْخَمْرِ الْمَشْرُوبَةِ وَهَذَا هُوَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ . وَقِيلَ : لَا ؛ لِجُمُودِهَا . وَقِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَ جَامِدِهَا وَمَائِعِهَا . وَبِكُلِّ حَالٍ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ لَفْظًا وَمَعْنًى . { قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ : الْبِتْعُ وَهُوَ مِنْ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ . وَالْمِزْرُ وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ قَالَ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعُ الْكَلِمِ وَخَوَاتِيمُهُ . فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ خَمْرًا وَمِنْ الشَّعِيرِ خَمْرًا وَمِنْ الزَّبِيبِ خَمْرًا وَمِنْ التَّمْرِ خَمْرًا وَمِنْ الْعَسَلِ خَمْرًا وَأَنَا أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ } . رَوَاهُ

أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ؛ وَلَكِنْ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ؛ أَنَّهُ خَطَبَ بِهِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ " وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي رِوَايَةٍ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَرَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } . وَصَحَّحَهُ الْحُفَّاظُ . وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَا : الْمِزْرُ فَقَالَ : أَمُسْكِرٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ؛ إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ : عِرْقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلّ مُخَمَّرٍ خَمْرٌ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أُوتِيَهُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ كُلَّ مَا غَطَّى الْعَقْلَ وَأَسْكَرَ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ وَلَا تَأْثِيرٍ لِكَوْنِهِ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا ؛ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ يَصْطَبِغُ بِهَا وَالْحَشِيشَةُ قَدْ تُذَابُ فِي الْمَاءِ وَتُشْرَبُ ؛ فَكُلُّ خَمْرٍ يُشْرَبُ وَيُؤْكَلُ وَالْحَشِيشَةُ تُؤْكَلُ وَتُشْرَبُ وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ ؛ وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي خُصُوصِهَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَدَثَ أَكْلُهَا مِنْ قَرِيبٍ فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ قَدْ أُحْدِثَتْ أَشْرِبَةٌ مُسْكِرَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْكَلِمِ الْجَوَامِعِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
فَصْلٌ :
وَمِنْ الْحُدُودِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ حَدُّ الْقَذْفِ فَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ مُحْصَنًا بِالزِّنَا أَوْ اللِّوَاطِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ثَمَانُونَ جَلْدَةً وَالْمُحْصَنُ هُنَا : هُوَ الْحُرُّ الْعَفِيفُ وَفِي بَابِ حَدِّ الزِّنَا هُوَ الَّذِي وَطِئَ وَطْئًا كَامِلًا فِي نِكَاحٍ تَامٍّ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ وَلَا كَفَّارَةٌ كَاَلَّذِي يُقَبِّلُ الصَّبِيَّ وَالْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ أَوْ يُبَاشِرُ بِلَا جِمَاعٍ أَوْ يَأْكُلُ مَا لَا يَحِلُّ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ أَوْ يَقْذِفُ النَّاسَ بِغَيْرِ الزِّنَا أَوْ يَسْرِقُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَلَوْ شَيْئًا يَسِيرًا أَوْ يَخُونُ أَمَانَتَهُ كَوُلَاةِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ الْوُقُوفِ وَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا خَانُوا فِيهَا وَكَالْوُكَلَاءِ وَالشُّرَكَاءِ إذَا خَانُوا أَوْ يَغُشُّ فِي مُعَامَلَتِهِ كَاَلَّذِينَ يَغُشُّونَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ يُطَفِّفُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ أَوْ يَشْهَدُ بِالزُّورِ أَوْ يُلَقِّنُ شَهَادَةَ الزُّورِ أَوْ يَرْتَشِي فِي حُكْمِهِ أَوْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَوْ يَعْتَدِي عَلَى رَعِيَّتِهِ أَوْ يَتَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ يُلَبِّي دَاعِيَ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ : فَهَؤُلَاءِ يُعَاقَبُونَ تَعْزِيرًا وَتَنْكِيلًا وَتَأْدِيبًا بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْوَالِي عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ ذَلِكَ الذَّنْبِ فِي النَّاسِ وَقِلَّتِهِ . فَإِذَا كَانَ كَثِيرًا زَادَ فِي الْعُقُوبَةِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَلِيلًا . وَعَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُذْنِبِ ؛ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُدْمِنِينَ عَلَى الْفُجُورِ زِيدَ فِي عُقُوبَتِهِ ؛ بِخِلَافِ الْمُقِلِّ مِنْ ذَلِكَ . وَعَلَى حَسَبِ كِبَرِ الذَّنْبِ وَصِغَرِهِ ؛ فَيُعَاقِبُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِنِسَاءِ النَّاسِ وَأَوْلَادِهِمْ بِمَا لَا يُعَاقَبُ مَنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَّا لِمَرْأَةِ

وَاحِدَةٍ أَوْ صَبِيٍّ وَاحِدٍ . وَلَيْسَ لِأَقَلِّ التَّعْزِيرِ حَدٌّ ؛ بَلْ هُوَ بِكُلِّ مَا فِيهِ إيلَامِ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَتَرْكِ قَوْلٍ وَتَرْكِ فِعْلٍ فَقَدْ يُعَزَّرُ الرَّجُلُ بِوَعْظِهِ وَتَوْبِيخِهِ وَالْإِغْلَاظِ لَهُ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِهَجْرِهِ وَتَرْكِ السَّلَامَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتُوبَ إذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَصْلَحَةِ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ " الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا " وَقَدْ يُعَزَّرُ بِعَزْلِهِ عَنْ وِلَايَتِهِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يُعَزِّرُونَ بِذَلِكَ ؛ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَرْكِ اسْتِخْدَامِهِ فِي جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ كَالْجُنْدِيِّ الْمُقَاتِلِ إذَا فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ ؛ فَإِنَّ الْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقَطْعَ أَجْرِهِ نَوْعُ تَعْزِيرٍ لَهُ وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ إذَا فَعَلَ مَا يُسْتَعْظَمُ فَعَزَلَهُ عَنْ إمَارَتِهِ تَعْزِيرًا لَهُ وَكَذَلِكَ قَدْ يُعَزَّرُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَسْوِيدِ وَجْهِهِ وَإِرْكَابِهِ عَلَى دَابَّةٍ مَقْلُوبًا ؛ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي شَاهِدِ الزُّورِ فَإِنَّ الْكَاذِبَ سَوَّدَ الْوَجْهَ فَسَوَّدَ وَجْهَهُ وَقَلَبَ الْحَدِيثَ فَقَلَبَ رُكُوبَهُ . وَأَمَّا أَعْلَاهُ ؛ فَقَدْ قِيلَ : " لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ " . وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ . ثُمَّ هُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : " لَا يَبْلُغُ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ " : لَا يَبْلُغُ بِالْحُرِّ أَدْنَى حُدُودِ الْحُرِّ وَهِيَ الْأَرْبَعُونَ أَوْ الثَّمَانُونَ وَلَا يَبْلُغُ بِالْعَبْدِ أَدْنَى حُدُودِ الْعَبْدِ وَهِيَ

الْعِشْرُونَ أَوْ الْأَرْبَعُونَ . وَقِيلَ ؛ بَلْ لَا يَبْلُغُ بِكُلِّ مِنْهُمَا حَدَّ الْعَبْدِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَبْلُغُ بِكُلِّ ذَنْبٍ حَدَّ جِنْسِهِ وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ جِنْسٍ آخَرَ فَلَا يَبْلُغُ بِالسَّارِقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ قَطْعَ الْيَدِ وَإِنْ ضُرِبَ أَكْثَرَ مَنْ حَدِّ الْقَاذِفِ وَلَا يَبْلُغُ بِمَنْ فَعَلَ مَا دُونَ الزِّنَا حَدَّ الزَّانِي وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ وَأَخَذَ بِذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ مِائَةَ ضَرْبَةٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِائَةَ ضَرْبَةٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِائَة ضَرْبَةٍ . وَرُوِيَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وُجِدَا فِي لِحَافٍ : " يُضْرَبَانِ مِائَةً " . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يَأْتِي جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ : إنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَهُ جُلِدَ مِائَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ : رُجِمَ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فَحُكِيَ عَنْهُ : أَنَّ مِنْ الْجَرَائِمِ مَا يَبْلُغُ بِهِ الْقَتْلَ . وَوَافَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي مِثْلِ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إذَا تَجَسَّسَ لِلْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَحْمَد تَوَقَّفَ فِي قَتْلِهِ وَجَوَّزَ مَالِكٌ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ - كَابْنِ عَقِيلٍ - قَتْلَهُ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى .

وَجَوَّزَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا : قَتْلَ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَقَالُوا : إنَّمَا جَوَّزَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ قَتْلَ الْقَدَرِيَّةِ لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ؛ لَا لِأَجْلِ الرِّدَّةِ ؛ وَكَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي قَتْلِ السَّاحِرِ ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا : إنَّ حَدَّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ . وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَحَفْصَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَتْلُهُ . فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لِأَجْلِ الْكُفْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ . لَكِنَّ جُمْهُورَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ قَتْلَهُ حَدًّا . وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ يُعَزَّرُ بِالْقَتْلِ فِيمَا تَكَرَّرَ مِنْ الْجَرَائِمِ إذَا كَانَ جِنْسُهُ يُوجِبُ الْقَتْلَ كَمَا يُقْتَلُ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ اللِّوَاطُ أَوْ اغْتِيَالُ النُّفُوسِ لِأَخْذِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْمُفْسِدَ مَتَى لَمْ يَنْقَطِعْ شَرُّهُ إلَّا بِقَتْلِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ : بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { عَنْ عرفجة الأشجعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ } وَفِي رِوَايَةٍ : { سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ . فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ } .

وَكَذَلِكَ قَدْ يُقَالُ فِي أَمْرِهِ بِقَتْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ { عَنْ دَيْلَمَ الْحِمْيَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّا بِأَرْضِ نُعَالِجُ بِهَا عَمَلًا شَدِيدًا وَأَنَّا نَتَّخِذُ شَرَابًا مِنْ الْقَمْحِ نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى أَعْمَالِنَا وَعَلَى بَرْدِ بِلَادِنَا . فَقَالَ : هَلْ يُسْكِرُ ؟ قُلْت نَعَمْ . قَالَ : فَاجْتَنِبُوهُ . قُلْت إنَّ النَّاسَ غَيْرُ تَارِكِيهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ فَاقْتُلُوهُمْ } . وَهَذَا لِأَنَّ الْمُفْسِدَ كَالصَّائِلِ . فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ الصَّائِلُ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ . وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا عَلَى ذَنْبٍ مَاضٍ جَزَاءٌ بِمَا كَسَبَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ كَجَلْدِ الشَّارِبِ وَالْقَاذِفِ وَقَطْعِ الْمُحَارِبِ وَالسَّارِقِ . وَالثَّانِي الْعُقُوبَةُ لِتَأْدِيَةِ حَقٍّ وَاجِبٍ وَتَرْكِ مُحَرَّمٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يُسْلِمَ فَإِنْ تَابَ ؛ وَإِلَّا قُتِلَ . وَكَمَا يُعَاقَبُ تَارِكُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ حَتَّى يُؤَدُّوهَا . فَالتَّعْزِيرُ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ . وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَضْرَبَ مَرَّةً بَعْد مَرَّةٍ حَتَّى يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ الْوَاجِبَةَ أَوْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ . عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ

أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ } قَدْ فَسَّرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِحُدُودِ اللَّهِ مَا حَرُمَ لِحَقِّ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ الْحُدُودَ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ : مِثْلَ آخِرِ الْحَلَالِ وَأَوَّلَ الْحَرَامِ . فَيُقَالُ فِي الْأَوَّلِ : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا } . وَيُقَالُ فِي الثَّانِي : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا } . وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْعُقُوبَةِ الْمُقَدَّرَةِ حَدًّا فَهُوَ عُرْفٌ حَادِثٌ . وَمُرَادُ الْحَدِيثِ : أَنَّ مَنْ ضُرِبَ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَضَرْبِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي النُّشُوزِ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرِ جَلَدَاتٍ . وَالْجَلْدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ : هُوَ الْجَلْدُ الْمُعْتَدِلُ بِالسَّوْطِ ؛ فَإِنَّ خِيَارَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " ضَرْبٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ وَسَوْطٍ بَيْنَ سَوْطَيْنِ " وَلَا يَكُونُ الْجَلْدُ بِالْعِصِيِّ وَلَا بِالْمُقَارِعِ وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالدِّرَّةِ ؛ بَلْ الدِّرَّةُ تُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْزِيرِ . أَمَّا الْحُدُودُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْجَلْدِ بِالسَّوْطِ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُؤَدِّبُ بِالدِّرَّةِ ؛ فَإِذَا جَاءَتْ الْحُدُودُ دَعَا بِالسَّوْطِ وَلَا تُجَرَّدُ ثِيَابُهُ كُلُّهَا ؛ بَلْ يُنْزَعُ عَنْهُ مَا يَمْنَعُ أَلَمَ الضَّرْبِ مِنْ الْحَشَايَا وَالْفِرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَا يُرْبَطُ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُضْرَبُ وَجْهُهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ

فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ وَلَا يَضْرِبْ مُقَاتِلَهُ } فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَأْدِيبُهُ لَا قَتْلُهُ وَيُعْطَى كُلُّ عُضْوٍ حَظُّهُ مِنْ الضَّرْبِ كَالظَّهْرِ وَالْأَكْتَافِ وَالْفَخِذَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
الْعُقُوبَاتُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : عُقُوبَةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَالثَّانِي : عِقَابُ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ كَاَلَّتِي لَا يُقْدَرُ عَلَيْهَا إلَّا بِقِتَالِ . فَأَصْلُ هَذَا هُوَ جِهَادُ الْكُفَّارِ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَكُلُّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُ { حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } . وَلِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَعَثَ نَبِيَّهُ وَأَمَرَهُ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إلَى دِينِهِ : لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي قَتْلِ أَحَدٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَا قِتَالِهِ حَتَّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ فَأَذِنَ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ

وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } . ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } . وَأَكَّدَ الْإِيجَابَ وَعَظَّمَ أَمْرَ الْجِهَادِ فِي عَامَّةِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ وَذَمَّ التَّارِكِينَ لَهُ وَوَصَفَهُمْ بِالنِّفَاقِ وَمَرَضِ الْقُلُوبِ فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ } { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } . فَهَذَا كَثِيرٌ

فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ تَعْظِيمُهُ وَتَعْظِيمُ أَهْلِهِ فِي " سُورَةِ الصَّفِّ " الَّتِي يَقُولُ فِيهَا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } { تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } . وقَوْله تَعَالَى { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . وقَوْله تَعَالَى { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ

بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } { وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . فَذَكَرَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَمَا يُبَاشِرُونَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ .
وَالْأَمْرُ بِالْجِهَادِ وَذِكْرُ فَضَائِلِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ . وَلِهَذَا كَانَ أَفْضَلَ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ وَكَانَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَمِنْ الصَّلَاةِ التَّطَوُّعِ وَالصَّوْمِ التَّطَوُّعِ . كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ } وَقَالَ : { إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ وَالدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ : { مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ . وَإِنْ مَاتَ أُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأَجْرِي عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي السُّنَنِ : { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ : عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرِصُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ

أَحْمَد : { حَرْسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ يُقَامُ لَيْلُهَا وَيُصَامُ نَهَارُهَا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِشَيْءِ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا تَسْتَطِيعُ . قَالَ : أَخْبِرْنِي بِهِ ؟ قَالَ : هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَصُومَ لَا تُفْطِرُ وَتَقُومَ لَا تَفْتُرُ ؟ قَالَ لَا . قَالَ : فَذَلِكَ الَّذِي يَعْدِلُ الْجِهَادَ } . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ سِيَاحَةٌ وَسِيَاحَةُ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَمْ يَرِدْ فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ وَفَضْلِهَا مِثْلُ مَا وَرَدَ فِيهِ . وَهُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَ الِاعْتِبَارِ فَإِنَّ نَفْعَ الْجِهَادِ عَامٌّ لِفَاعِلِهِ وَلِغَيْرِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَمُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فَإِنَّهُ مُشْتَمِلٌ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لَهُ وَالصَّبْرِ وَالزُّهْدِ وَذِكْرِ اللَّهِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ : عَلَى مَا لَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عَمَلٌ آخَرُ . وَالْقَائِمُ بِهِ مِنْ الشَّخْصِ وَالْأُمَّةِ بَيْنَ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ دَائِمًا . إمَّا النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَإِمَّا الشَّهَادَةُ وَالْجَنَّةُ . فَإِنَّ الْخَلْقَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَحْيَا وَمَمَاتٍ فَفِيهِ اسْتِعْمَالُ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ

فِي غَايَةِ سَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفِي تَرْكِهِ ذَهَابُ السَّعَادَتَيْنِ أَوْ نَقْصُهُمَا ؛ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَرْغَبُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّدِيدَةِ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا مَعَ قِلَّةِ مَنْفَعَتِهَا فَالْجِهَادُ أَنْفَعُ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ عَمَلٍ شَدِيدٍ وَقَدْ يَرْغَبُ فِي تَرْفِيهِ نَفْسِهِ حَتَّى يُصَادِفَهُ الْمَوْتُ فَمَوْتُ الشَّهِيدِ أَيْسَرُ مِنْ كُلِّ مِيتَةٍ وَهِيَ أَفْضَلُ الْمِيتَاتِ . وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْقِتَالِ الْمَشْرُوعِ هُوَ الْجِهَادُ وَمَقْصُودُهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ هَذَا قُوتِلَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمُمَانَعَةِ وَالْمُقَاتِلَةِ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرَّاهِبِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَنَحْوِهِمْ فَلَا يُقْتَلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ؛ إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَرَى إبَاحَةَ قَتْلِ الْجَمِيعِ لِمُجَرَّدِ الْكُفْرِ ؛ إلَّا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ ؛ لِكَوْنِهِمْ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ . وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ هُوَ لِمَنْ يُقَاتِلُنَا إذَا أَرَدْنَا إظْهَارَ دِينِ اللَّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ مَرَّ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ قَدْ وَقَفَ عَلَيْهَا النَّاسُ . فَقَالَ : مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ } { وَقَالَ لِأَحَدِهِمْ : الْحَقْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ : لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا } . وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا

طِفْلًا صَغِيرًا وَلَا امْرَأَةً } . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي صَلَاحِ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } . أَيْ أَنَّ الْقَتْلَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَرٌّ وَفَسَادٌ فَفِي فِتْنَةُ الْكُفَّارِ مِنْ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ فَمَنْ لَمْ يَمْنَعْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إقَامَةِ دِينٍ لِلَّهِ لَمْ تَكُنْ مَضَرَّةَ كُفْرِهِ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّ الدَّاعِيَةَ إلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُعَاقَبُ بِمَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ السَّاكِتُ . وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { أَنَّ الْخَطِيئَةَ إذَا أُخْفِيَتْ لَمْ تُضَرَّ إلَّا صَاحِبَهَا ؛ وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ } . وَلِهَذَا أَوْجَبَتْ الشَّرِيعَةُ قِتَالَ الْكُفَّارِ وَلَمْ تُوجِبْ قَتْلَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ ؛ بَلْ إذَا أُسِرَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْقِتَالِ أَوْ غَيْرِ الْقِتَالِ مِثْلَ أَنْ تُلْقِيَهُ السَّفِينَةُ إلَيْنَا أَوْ يَضِلَّ الطَّرِيقَ أَوْ يُؤْخَذَ بِحِيلَةِ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ فِيهِ الْإِمَامُ الْأَصْلَحَ مِنْ قَتْلِهِ أَوْ اسْتِعْبَادَهُ أَوْ الْمَنَّ عَلَيْهِ أَوْ مُفَادَاتَهُ بِمَالِ أَوْ نَفْسٍ عِنْدِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَإِنْ كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَرَى الْمَنَّ عَلَيْهِ وَمُفَادَاتَهُ مَنْسُوخًا .
فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ فَيُقَاتَلُونَ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ .

وَمَنْ سِوَاهُمْ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ إلَّا أَنَّ عَامَّتَهُمْ لَا يَأْخُذُونَهَا مِنْ الْعَرَبِ وَأَيُّمَا طَائِفَةٍ انْتَسَبَتْ إلَى الْإِسْلَامِ وَامْتَنَعَتْ مِنْ بَعْضِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ جِهَادُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ كَمَا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَكَانَ قَدْ تَوَقَّفَ فِي قِتَالِهِمْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ ثُمَّ اتَّفَقُوا حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا ؛ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا . وَاَللَّهُ لَوْ مَنَعُونِي عِنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَى مَنْعِهَا قَالَ عُمَرُ : فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ : فَعَلِمْت أَنَّهُ الْحَقُّ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ

مِنْ الرَّمِيَّةِ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ { عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءِ وَلَا صَلَاتُكُمْ إلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لَا تُجَاوِزُ قِرَاءَتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قَضَى لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ } وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : { يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ ؛ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ : { يَكُونُ أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي فَتُلْهِمَ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ } . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الحرورية . بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ الْمُفْتَرِقَتَيْن مِنْ أُمَّتِهِ وَأَنَّ أَصْحَابَ عَلِيٍّ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ وَلَمْ يُحَرِّضْ إلَّا عَلَى قِتَالِ أُولَئِكَ الْمَارِقِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ الْإِسْلَامِ وَفَارَقُوا الْجَمَاعَةَ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ . فَثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ يُقَاتِلُ مَنْ خَرَجَ عَنْ

شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّائِفَة الْمُمْتَنِعَةِ لَوْ تَرَكَتْ السُّنَّةَ الرَّاتِبَةَ كَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ هَلْ يَجُوزُ قِتَالُهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ وَالْمُحَرَّمَاتُ الظَّاهِرَةُ وَالْمُسْتَفِيضَةُ فَيُقَاتَلُ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى يَلْتَزِمُوا أَنْ يُقِيمُوا الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ وَيُؤَدُّوا الزَّكَاةَ وَيَصُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ وَيَحُجُّوا الْبَيْتَ وَيَلْتَزِمُوا تَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ : مِنْ نِكَاحِ الْأَخَوَاتِ وَأَكْلِ الْخَبَائِثِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقِتَالُ هَؤُلَاءِ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً بَعْدَ بُلُوغِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ بِمَا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ . فَأَمَّا إذَا بَدَءُوا الْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَكَّدُ قِتَالُهُمْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِتَالِ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ قُطَّاعِ الطُّرُقِ . وَأَبْلَغُ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ لِلْكَفَّارِ وَالْمُمْتَنِعِينَ عَنْ بَعْضِ الشَّرَائِعِ كَمَا نَعِي الزَّكَاةَ وَالْخَوَارِجَ وَنَحْوَهُمْ : يَجِبُ ابْتِدَاءً وَدَفْعًا . فَإِذَا كَانَ ابْتِدَاءً فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْبَاقِينَ كَانَ الْفَضْلُ لِمَنْ قَامَ بِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } الْآيَةَ . فَأَمَّا إذَا أَرَادَ الْعَدُوُّ الْهُجُومَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ دَفْعُهُ وَاجِبًا عَلَى الْمَقْصُودِينَ كُلِّهِمْ وَعَلَى غَيْرِ الْمَقْصُودِينَ ؛ لِإِعَانَتِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :

{ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } وَكَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنْصِرِ الْمُسْلِمِ وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ لِلْقِتَالِ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَهَذَا يَجِبُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مَعَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا قَصَدَهُمْ الْعَدُوُّ عَامَ الْخَنْدَقِ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ فِي تَرْكِهِ لِأَحَدِ كَمَا أَذِنَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ابْتِدَاءً لِطَلَبِ الْعَدُوِّ الَّذِي قَسَمَهُمْ فِيهِ إلَى قَاعِدٍ وَخَارِجٍ . بَلْ ذَمَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إنْ يُرِيدُونَ إلَّا فِرَارًا } . فَهَذَا دَفْعٌ عَنْ الدِّينِ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَنْفَسِ وَهُوَ قِتَالٌ اضْطِرَارٌ وَذَلِكَ قِتَالٌ اخْتِيَارٌ لِلزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ وَإِعْلَائِهِ وَلِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ كَغُزَاةِ تَبُوكَ وَنَحْوِهَا فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعُقُوبَةِ هُوَ لِلطَّوَائِفِ الْمُمْتَنِعَةِ . فَأَمَّا غَيْرُ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ أَهْلِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوِهِمْ فَيَجِبُ إلْزَامُهُمْ بِالْوَاجِبَاتِ الَّتِي هِيَ مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَمَنَّ كَانَ لَا يُصَلِّي مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ : مِنْ رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ فَإِنْ امْتَنَعَ عُوقِبَ حَتَّى يُصَلِّيَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يُوجِبُونَ قَتْلَهُ إذَا لَمْ يُصَلِّ فَيُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا أَوْ

مُرْتَدًّا أَوْ فَاسِقًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَكْثَرِ السَّلَفِ يَقْتَضِي كُفْرَهُ وَهَذَا مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْوُجُوبِ . فَأَمَّا مَنْ جَحَدَ الْوُجُوبَ فَهُوَ كَافِرٌ بِالِاتِّفَاقِ ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَأْمُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعًا وَيَضْرِبُوهُ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } وَكَذَلِكَ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الصَّلَاةُ مِنْ الطَّهَارَةِ الْوَاجِبَةِ وَنَحْوِهَا . وَمِنْ تَمَامِ ذَلِكَ تَعَاهُدُ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّتِهِمْ وَأَمْرُهُمْ بِأَنْ يُصَلُّوا بِهِمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . { وَصَلَّى مَرَّةً بِأَصْحَابِهِ عَلَى طَرَفِ الْمِنْبَرِ فَقَالَ : إنَّمَا فَعَلْت هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي } . وَعَلَى إمَامِ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا أَنْ يَنْظُرَ لَهُمْ فَلَا يَفُوتُهُمْ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ مِنْ كَمَالِ دِينِهِمْ ؛ بَلْ عَلَى كُلِّ إمَامٍ لِلصَّلَاةِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةً كَامِلَةً وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَجُوزُ لِلْمُنْفَرِدِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ مِنْ قَدْرِ الْإِجْزَاءِ إلَّا لِعُذْرِ ؛ وَكَذَلِكَ عَلَى إمَامِهِمْ فِي الْحَجِّ وَأَمِيرِهِمْ فِي الْحَرْبِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ وَالْوَلِيَّ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِمُوَكِّلِهِ وَلِمُوَلِّيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصْلَحِ لَهُ فِي مَالِهِ ؟ وَهُوَ فِي مَالِ نَفْسِهِ يُفَوِّتُ نَفْسَهُ مَا شَاءَ فَأَمْرُ

الدِّينِ أَهَمُّ وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْمَعْنَى . وَمَتَى اهْتَمَّتْ الْوُلَاةُ بِإِصْلَاحِ دِينِ النَّاسِ : صَلَاحٌ لِلطَّائِفَتَيْنِ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ ؛ وَإِلَّا اضْطَرَبَتْ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ . وَمِلَاكُ ذَلِكَ كُلِّهِ صَلَاحُ النِّيَّةِ لِلرَّعِيَّةِ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ . فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ وَالتَّوَكُّلَ جِمَاعُ صَلَاحِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ كَمَا أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ قَدْ قِيلَ : إنَّهُمَا يَجْمَعَانِ مَعَانِيَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ . وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَرَّةً فِي بَعْضِ مُغَازِيهِ فَقَالَ : يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فَجَعَلَتْ الرُّءُوسُ تَنْدُرُ عَنْ كَوَاهِلِهَا } وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } { وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ - يَقُولُ : اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك } .
وَأَعْظَمُ عَوْنٍ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ خَاصَّةً وَلِغَيْرِهِ عَامَّةً ثَلَاثَةُ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ . وَأَصْلُ ذَلِكَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ . الثَّانِي : الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ بِالنَّفْعِ وَالْمَالِ الَّذِي هُوَ الزَّكَاةُ . الثَّالِثُ : الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ وَغَيْرِهِ مِنْ النَّوَائِبِ . وَلِهَذَا يَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّبْرِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ

النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . وقَوْله تَعَالَى { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } وَكَذَلِكَ فِي " سُورَةِ ق " : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } . وَأَمَّا قَرْنُهُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي الْقُرْآنِ فَكَثِيرٌ جِدًّا . فَبِالْقِيَامِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّبْرِ يَصْلُحُ حَالُ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ إذَا عَرَفَ الْإِنْسَانُ مَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْجَامِعَةِ : يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَدُعَاؤُهُ وَتِلَاوَةُ كِتَابِهِ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ . وَفِي الزَّكَاةِ الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ بِالْمَالِ وَالنَّفْعِ : مِنْ نَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَقَضَاءِ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ } فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ إحْسَانٍ . وَلَوْ بِبَسْطِ الْوَجْهِ وَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تَرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى

إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ فَيَنْظُرُ أَمَامه فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةِ طَيِّبَةٍ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُحَقِّرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاك وَوَجْهَك إلَيْهِ مُنْبَسِطٌ وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِك فِي إنَاءِ الْمُسْتَقَى } . وَفِي السُّنَنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَثْقَلَ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ } . وَرُوِيَ { عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ : يَا أُمَّ سَلَمَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } . وَفِي الصَّبْرِ احْتِمَالُ الْأَذَى وَكَظْمُ الْغَيْظِ وَالْعَفْوُ عَنْ النَّاسِ وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى وَتْرُك الْأَشِرِ وَالْبَطَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } { إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي

هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } { وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ : إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ الْعَرْشِ : أَلَا لِيَقُمْ مَنْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَلَا يَقُومُ إلَّا مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ . فَلَيْسَ حُسْنُ النِّيَّةِ بِالرَّعِيَّةِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ : أَنْ يَفْعَلَ مَا يَهْوُونَهُ وَيَتْرُكَ مَا يَكْرَهُونَهُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } . وَقَالَ تَعَالَى لِلصَّحَابَةِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } . وَإِنَّمَا الْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ فِعْلُ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَلَوْ كَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْفُقَ بِهِمْ فِيمَا يَكْرَهُونَهُ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ قَالَ : { مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ وَلَا كَانَ الْعُنْفُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ } . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأُرِيدُ

أَنْ أُخْرِجَ لَهُمْ الْمُرَّةَ مِنْ الْحَقِّ فَأَخَافُ أَنْ يَنْفِرُوا عَنْهَا فَاصْبِرْ حَتَّى تَجِيءَ الْحُلْوَةُ مِنْ الدُّنْيَا فَأُخْرِجَهَا مَعَهَا فَإِذَا نَفَرُوا لِهَذِهِ سَكَنُوا لِهَذِهِ . وَهَكَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ لَمْ يَرُدَّهُ إلَّا بِهَا أَوْ بِمَيْسُورِ مِنْ الْقَوْلِ . { وَسَأَلَهُ مَرَّةً بَعْضُ أَقَارِبِهِ أَنْ يُوَلِّيَهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَيَرْزُقَهُ مِنْهَا فَقَالَ : إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدِ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ } . فَمَنَعَهُمْ إيَّاهَا وَعَوَّضَهُمْ مِنْ الْفَيْءِ . { وَتَحَاكَمَ إلَيْهِ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ فِي ابْنَةِ حَمْزَةَ فَلَمْ يَقْضِ بِهَا لِوَاحِدِ مِنْهُمْ ؛ وَلَكِنْ قَضَى بِهَا لِخَالَتِهَا ثُمَّ إنَّهُ طَيَّبَ قَلْبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكَلِمَةِ حَسَنَةٍ فَقَالَ لِعَلِيِّ : أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك . وَقَالَ لِجَعْفَرِ : أَشْبَهْت خَلْقِي وَخُلُقِي . وَقَالَ لِزَيْدِ : أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا } . فَهَكَذَا يَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْأَمْرِ فِي قَسَمِهِ وَحُكْمِهِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ دَائِمًا يَسْأَلُونَ وَلِيَّ الْأَمْرِ مَا لَا يُصْلِحُ بَذْلُهُ مِنْ الْوِلَايَاتِ وَالْأَمْوَالِ وَالْمَنَافِعِ وَالْأُجُورِ وَالشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُعَوِّضُهُمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنْ أَمْكَنَ أَوْ يَرُدُّهُمْ بِمَيْسُورِ مِنْ الْقَوْلِ مَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْإِغْلَاظِ ؛ فَإِنَّ رَدَّ السَّائِلِ يُؤْلِمُهُ خُصُوصًا مَنْ يَحْتَاجُ إلَى تَأْلِيفِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ

ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا } . وَإِذَا حَكَمَ عَلَى شَخْصٍ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَأَذَّى فَإِذَا طَيَّبَ نَفْسَهُ بِمَا يَصْلُحُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ كَانَ ذَلِكَ تَمَامَ السِّيَاسَةِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا يُعْطِيهِ الطَّبِيبُ لِلْمَرِيضِ ؛ مِنْ الطِّبِّ الَّذِي يَسُوغُ الدَّوَاءُ الْكَرِيهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أَرْسَلَهُ إلَى فِرْعَوْنَ - : { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } . { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ - : يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا } . { وَبَالَ مَرَّةً أَعْرَابِيٌّ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ أَصْحَابُهُ إلَيْهِ فَقَالَ : لَا تَزْرِمُوهُ أَيْ لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ ؛ ثُمَّ أَمَرَ بِدَلْوِ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ } وَالْحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الرَّجُلُ فِي سِيَاسَةِ نَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَرَعِيَّتِهِ ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ لَا تَقْبَلُ الْحَقَّ إلَّا بِمَا تَسْتَعِينُ بِهِ مِنْ حُظُوظِهَا الَّتِي هِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهَا فَتَكُونُ تِلْكَ الْحُظُوظُ عِبَادَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً لَهُ مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَاللِّبَاسَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِنْسَانِ ؟ حَتَّى لَوْ

اضْطَرَّ إلَى الْمَيْتَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ لَا تُؤَدَّى إلَّا بِهَذَا وَمَا لَا يَتِمَّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . وَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى غَيْرِهَا . فَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَصَدَّقُوا . فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ . فَقَالَ تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِك . قَالَ : عِنْدِي آخَرُ . قَالَ : تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِك . قَالَ : عِنْدِي آخَرُ . قَالَ تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِك . قَالَ : عِنْدِي آخَرُ . قَالَ تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِك . قَالَ عِنْدِي آخَرُ . قَالَ : أَنْتَ أَبْصَرُ بِهِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دِينَارٌ أَنْفَقْته فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْته فِي رَقَبَةٍ وَدِينَارٌ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَدِينَارٌ أَنْفَقْته عَلَى أَهْلِك . أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْته عَلَى أَهْلِك } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي أمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك إنْ تَبْذُلْ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَك وَإِنْ تُمْسِكْهُ شَرٌّ لَك وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ ؛ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ . وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى } . وَهَذَا تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } أَيْ الْفَضْلَ . وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفَقَةَ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فَرْضُ عَيْنٍ ؛ بِخِلَافِ

النَّفَقَةِ فِي الْغَزْوِ وَالْمَسَاكِينِ ؛ فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ إمَّا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَصِيرُ مُتَعَيَّنًا إذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ بِهِ ؛ فَإِنَّ إطْعَامَ الْجَائِعِ وَاجِبٌ ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { لَوْ صَدَقَ السَّائِلُ لَمَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُ } ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَذَكَرَ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ صِدْقَهُ وَجَبَ إطْعَامُهُ . وَقَدْ رَوَى أَبُو حَاتِمٍ البستي فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الطَّوِيلَ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ - وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ { حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَرْبَعُ سَاعَاتٍ : سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا بِأَصْحَابِهِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيُحَدِّثُونَهُ عَنْ ذَاتِ نَفْسِهِ وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا بِلَذَّتِهِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ ؛ فَإِنَّ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ عَوْنًا عَلَى تِلْكَ السَّاعَاتِ } . فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اللَّذَّاتِ الْمُبَاحَةِ الْجَمِيلَةِ فَإِنَّهَا تُعِينُ عَلَى تِلْكَ الْأُمُورِ . وَلِهَذَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ : أَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ ؛ بِاسْتِعْمَالِ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ وَتَجَنُّبِ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ . وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : إنِّي لَأَسْتَجِمُّ نَفْسِي بِالشَّيْءِ مِنْ الْبَاطِلِ لِأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى الْحَقِّ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا خَلَقَ اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ فِي الْأَصْلِ لِتَمَامِ مَصْلَحَةِ الْخَلْقِ ؛ فَإِنَّهُ بِذَلِكَ يَجْتَلِبُونَ مَا يَنْفَعُهُمْ كَمَا خَلَقَ الْغَضَبَ لِيَدْفَعُوا بِهِ

مَا يَضُرُّهُمْ وَحَرَّمَ مِنْ الشَّهَوَاتِ مَا يَضُرُّ تَنَاوُلُهُ وَذَمَّ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا .
فَأَمَّا مَنْ اسْتَعَانَ بِالْمُبَاحِ الْجَمِيلِ عَلَى الْحَقِّ فَهَذَا مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ ؟ قَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرٌ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : فَلِمَ تَحْتَسِبُونَ بِالْحَرَامِ وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْحَلَالِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : إنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةُ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِك } . وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ . فَالْمُؤْمِنُ إذَا كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ أَتَتْ عَلَى عَامَّةِ أَفْعَالِهِ وَكَانَتْ الْمُبَاحَاتُ مِنْ صَالِحِ أَعْمَالِهِ لِصَلَاحِ قَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ وَالْمُنَافِقُ - لِفَسَادِ قَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ - يُعَاقَبُ عَلَى مَا يُظْهِرُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ رِيَاءً فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } . وَكَمَا أَنَّ الْعُقُوبَاتِ شُرِّعَتْ دَاعِيَةً إلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَدْ شُرِّعَ أَيْضًا كُلُّ مَا يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ . فَيَنْبَغِي تَيْسِيرُ طَرِيقِ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ ؛ مِثْلَ أَنْ يَبْذُلَ

لِوَلَدِهِ وَأَهْلِهِ أَوْ رَعِيَّتِهِ مَا يُرَغِّبُهُمْ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ : مِنْ مَالٍ أَوْ ثَنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ ؛ وَلِهَذَا شُرِّعَتْ الْمُسَابَقَةُ بِالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْمُفَاضَلَةِ بِالسِّهَامِ وَأَخْذِ الْجُعْلِ عَلَيْهَا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّرْغِيبِ فِي إعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَابِقُ بَيْنَ الْخَيْلِ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ وَيُخْرِجُونَ الْأَسْبَاقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَكَذَلِكَ عَطَاءُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ فَقَدْ { رُوِيَ : أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُسْلِمُ أَوَّلَ النَّهَارِ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا فَلَا يَجِيءُ آخِرُ النَّهَارِ إلَّا وَالْإِسْلَامُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ } .
وَكَذَلِكَ الشَّرُّ وَالْمَعْصِيَةُ : يَنْبَغِي حَسْمُ مَادَّتِهِ وَسَدُّ ذَرِيعَتِهِ وَدَفْعُ مَا يُفْضِي إلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ . مِثَالُ ذَلِكَ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةِ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ } . وَقَالَ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إلَّا وَمَعَهَا زَوْجٌ أَوْ ذُو مَحْرَمٍ } . فَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالسَّفَرِ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى الشَّرِّ . وَرُوِيَ { عَنْ الشَّعْبِيِّ : أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِمْ غُلَامٌ ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ فَأَجْلَسَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ . وَقَالَ : إنَّمَا كَانَتْ خَطِيئَةُ دَاوُد النَّظَرُ } وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا كَانَ يَعُسُّ بِالْمَدِينَةِ فَسَمِعَ امْرَأَةً تَتَغَنَّى بِأَبْيَاتِ تَقُولُ فِيهَا :

هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... هل من سبيل إلى نصر بن حجاج
هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبَهَا * * * هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ
فَدَعَا بِهِ فَوَجَدَهُ شَابًّا حَسَنًا فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَازْدَادَ جَمَالًا فَنَفَاهُ إلَى الْبَصْرَةِ لِئَلَّا تَفْتَتِنُ بِهِ النِّسَاءُ . وَرُوِيَ عَنْهُ : أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا يَجْلِسُ إلَيْهِ الصِّبْيَانُ فَنَهَى عَنْ مُجَالَسَتِهِ . فَإِذَا كَانَ مِنْ الصِّبْيَانِ مَنْ تُخَافُ فِتْنَتُهُ عَلَى الرِّجَالِ أَوْ عَلَى النِّسَاءِ مَنَعَ وَلَيَّهُ مِنْ إظْهَارِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ تَحْسِينِهِ ؛ لَا سِيَّمَا بترييحه فِي الْحَمَّامَاتِ وَإِحْضَارِهِ مَجَالِسَ اللَّهْوِ وَالْأَغَانِي ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَنْبَغِي التَّعْزِيرُ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ الْفُجُورُ يُمْنَعُ مِنْ تَمَلُّكِ الْغِلْمَانِ الْمُرِدَّانِ الصُّبَاحِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَكَانَ قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُسُوقِ الْقَادِحَةِ فِي الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْرَحَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ فَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا . فَقَالَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ . ثُمَّ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ : وَجُبْت وَجَبَتْ . فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ . أَنْتُمْ

شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ } . مَعَ أَنَّهُ { كَانَ فِي زَمَانِهِ امْرَأَةٌ تُعْلِنُ الْفُجُورَ . فَقَالَ : لَوْ كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْت هَذِهِ } . فَالْحُدُودُ لَا تُقَامُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ . وَأَمَّا الْحَذَرُ مِنْ الرَّجُلِ فِي شَهَادَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْمُعَايَنَةِ ؛ بَلْ الِاسْتِفَاضَةُ كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ وَمَا هُوَ دُونَ الِاسْتِفَاضَةِ حَتَّى أَنَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِأَقْرَانِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : " اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ " . فَهَذَا لِدَفْعِ شَرِّهِ مِثْلَ الِاحْتِرَازِ مِنْ الْعَدُوِّ . وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " احْتَرِسُوا مِنْ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ " . فَهَذَا أَمْرُ عُمَرَ مَعَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عُقُوبَةُ الْمُسْلِمِ بِسُوءِ الظَّنِّ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْحُدُودُ وَالْحُقُوقُ الَّتِي لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ فَمِنْهَا النُّفُوسُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } { وَلَا تَقْرَبُوا

مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً } إلَى قَوْلِهِ : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ } . فَالْقَتْلُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا : الْعَمْدُ الْمَحْضُ وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ مَنْ يَعْلَمُهُ مَعْصُومًا بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا سَوَاءٌ كَانَ يَقْتُلُ بِحَدِّهِ كَالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ أَوْ بِثَقَلِهِ كَالسِّنْدَانِ وكوذين الْقَصَّارِ ؛ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَالتَّحْرِيقِ وَالتَّغْرِيقِ وَالْإِلْقَاءِ مِنْ مَكَانٍ شَاهِقٍ وَالْخَنْقِ ؛ وَإِمْسَاكِ الْخُصْيَتَيْنِ حَتَّى تَخْرُجَ الرُّوحُ وَغَمِّ الْوَجْهِ حَتَّى يَمُوتَ وَسَقْيِ السُّمُومِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ . فَهَذَا إذَا فَعَلَهُ وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ وَهُوَ أَنْ يُمَكَّنَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ مِنْ الْقَاتِلِ ؛ فَإِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا

وَإِنْ أَحَبُّوا عَفَوْا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ . وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا غَيْرَ قَاتِلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } . قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ : لَا يُقْتَلُ غَيْرُ قَاتِلِهِ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي شريح الخزاعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أُصِيبَ بِدَمِ أَوْ خَبَلٍ - الْخَبَلُ الْجِرَاحُ - فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ : فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ . أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يَعْفُوَ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ . فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَادَ فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا } . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَ الْعَفْوِ أَوْ أَخَذَ الدِّيَةَ فَهُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِمَّنْ قَتَلَ ابْتِدَاءً حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ حَدًّا وَلَا يَكُونُ أَمْرُهُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ تَغْلِي قُلُوبُهُمْ بِالْغَيْظِ حَتَّى يُؤْثِرُوا أَنْ يَقْتُلُوا الْقَاتِلَ وَأَوْلِيَاءَهُ وَرُبَّمَا لَمْ يَرْضَوْا بِقَتْلِ الْقَاتِلِ بَلْ يَقْتُلُونَ

كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ الْقَاتِلِ كَسَيِّدِ الْقَبِيلَةِ وَمُقَدَّمِ الطَّائِفَةِ فَيَكُونُ الْقَاتِلُ قَدْ اعْتَدَى فِي الِابْتِدَاءِ وَتَعَدَّى هَؤُلَاءِ فِي الِاسْتِيفَاءِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الْخَارِجُونَ عَنْ الشَّرِيعَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِنْ الْأَعْرَابِ وَالْحَاضِرَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ يَسْتَعْظِمُونَ قَتْلَ الْقَاتِلِ لِكَوْنِهِ عَظِيمًا أَشْرَفَ مِنْ الْمَقْتُولِ فَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ يَقْتُلُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَاتِلِ وَرُبَّمَا خَالَفَ هَؤُلَاءِ قَوْمًا وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ وَهَؤُلَاءِ قَوْمًا فَيُفْضِي إلَى الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَاتِ الْعَظِيمَةِ . وَسَبَبُ ذَلِكَ خُرُوجُهُمْ عَنْ سُنَنِ الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى فَكَتَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْقِصَاصَ - وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ وَالْمُعَادَلَةُ فِي الْقَتْلَى - وَأَخْبَرَ أَنَّ فِيهِ حَيَاةٌ ؛ فَإِنَّهُ يَحْقِنُ دَمَ غَيْرِ الْقَاتِلِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّجُلَيْنِ . وَأَيْضًا فَإِذَا عَلِمَ مَنْ يُرِيدُ الْقَتْلَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَفَّ عَنْ الْقَتْلِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ . أَلَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ } رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ - أَيْ تَتَسَاوَى وَتَتَعَادَلُ - فَلَا يُفَضَّلُ عَرَبِيٌّ عَلَى عَجَمِيٌّ وَلَا قُرَشِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ

الْمُسْلِمِينَ . وَلَا حُرٌّ أَصْلِيٌّ عَلَى مَوْلًى عَتِيقٍ وَلَا عَالِمٌ أَوْ أَمِيرٌ عَلَى أُمِّيٍّ أَوْ مَأْمُورٍ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ بِخِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَحُكَّامُ الْيَهُودِ فَإِنَّهُ كَانَ بِقُرْبِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِنْفَانِ مِنْ الْيَهُودِ : قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَكَانَتْ النَّضِيرُ تُفَضِّلُ عَلَى قُرَيْظَةَ فِي الدِّمَاءِ فَتَحَاكَمُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَفِي حَدِّ الزِّنَا فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ غَيَّرُوهُ مِنْ الرَّجْمِ إلَى التَّحْمِيمِ وَقَالُوا إنْ حَكَمَ بَيْنَكُمْ بِذَلِكَ كَانَ لَكُمْ حُجَّةٌ وَإِلَّا فَأَنْتُمْ قَدْ تَرَكْتُمْ حُكْمَ التَّوْرَاةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } . إلَى قَوْلِهِ : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ نُفُوسِهِمْ وَلَمْ يُفَضِّلْ مِنْهُمْ نَفْسًا عَلَى أُخْرَى كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ إلَى قَوْلِهِ { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ

مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } إلَى قَوْلِهِ : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } . فَحُكْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهَا كُلَّهَا سَوَاءٌ خِلَافَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ . وَأَكْثَرُ سَبَبِ الْأَهْوَاءِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْبَوَادِي وَالْحَوَاضِرِ إنَّمَا هُوَ الْبَغْيُ وَتَرْكُ الْعَدْلِ ؛ فَإِنَّ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ يُصِيبُ بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ الْأُخْرَى : دَمًا أَوْ مَالًا أَوْ تَعْلُو عَلَيْهِمْ بِالْبَاطِلِ وَلَا تُنْصِفُهَا وَلَا تَقْتَصِرُ الْأُخْرَى عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ؛ فَالْوَاجِبُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْحَكَمُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا بِالْقِسْطِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَحْوِ مَا كَانَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ وَإِذَا أَصْلَحَ مُصْلِحٌ بَيْنَهُمَا فَلْيُصْلِحْ بِالْعَدْلِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } . وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلَبَ الْعَفْوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ ؛ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } . { قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رُفِعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَمْرٌ فِيهِ الْقِصَاصُ إلَّا أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوِ إلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ } . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّكَافُؤِ : هُوَ فِي الْمُسْلِمِ الْحُرِّ مَعَ الْمُسْلِمِ الْحُرِّ . فَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْءِ لِلْمُسْلِمِ كَمَا أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ الَّذِي يَقْدَمُ مِنْ بِلَادِ الْكُفَّارِ رَسُولًا أَوْ تَاجِرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْءِ لَهُ وِفَاقًا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هُوَ كُفْءٌ لَهُ وَكَذَلِكَ النِّزَاعُ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي : الْخَطَأُ الَّذِي يُشْبِهُ الْعَمْدَ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنَّ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ فِي السَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا } . سَمَّاهُ شِبْهَ الْعُمَدِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْعُدْوَانَ عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ ؛ لَكِنَّهُ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا . فَقَدْ تَعَمَّدَ الْعُدْوَانَ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ مَا يَقْتُلُ . وَالثَّالِثُ : الْخَطَأُ الْمَحْضُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ : مِثْلَ أَنْ يَرْمِيَ صَيْدًا أَوْ هَدَفًا : فَيُصِيبُ إنْسَانًا بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَلَا قَصْدِهِ . فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ قَوَدٌ . وَإِنَّمَا فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَهُنَا مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَبَيْنَهُمْ .

فَصْلٌ :
وَالْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ أَيْضًا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ بِشَرْطِ الْمُسَاوَاةِ ؛ فَإِذَا قَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى مِنْ مَفْصِلٍ فَلَهُ أَنْ يُقْطَعَ يَدُهُ كَذَلِكَ . وَإِذَا قَلَعَ سِنَّهُ فَلَهُ أَنْ يُقْلَعَ سِنُّهُ . وَإِذَا شَجَّهُ فِي رَأْسِهِ أَوْ وَجْهِهِ فَأَوْضَحَ الْعَظْمَ فَلَهُ أَنْ يَشُجَّهُ كَذَلِكَ . وَإِذَا لَمْ تُمَكَّنْ الْمُسَاوَاةُ : مِثْلَ أَنْ يَكْسِرَ لَهُ عَظْمًا بَاطِنًا أَوْ يَشُجَّهُ دُونَ الْمُوضِحَةِ فَلَا يُشْرَعُ الْقِصَاصُ ؛ بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ الْمَحْدُودَةُ أَوْ الْأَرْشُ . وَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي الضَّرْبِ بِيَدِهِ أَوْ بِعَصَاهُ أَوْ سَوْطِهِ مِثْلَ أَنْ يَلْطِمَهُ أَوْ يَلْكُمَهُ أَوْ يَضْرِبَهُ بِعَصَا وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ ؛ بَلْ فِيهِ التَّعْزِيرُ لِأَنَّهُ لَا تُمَكَّنُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ . وَالْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : أَنَّ الْقِصَاصَ مَشْرُوعٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ نَصُّ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّوَابُ . قَالَ أَبُو فِرَاسٍ : خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَ حَدِيثًا قَالَ فِيهِ : أَلَا إنِّي وَاَللَّهِ مَا أُرْسِلُ عُمَّالِي إلَيْكُمْ لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ وَلَا

لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ ؛ وَلَكِنْ أُرْسِلُهُمْ إلَيْكُمْ لِيُعَلِّمُوكُمْ دِينَكُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّكُمْ . فَمَنْ فُعِلَ بِهِ سِوَى ذَلِكَ فَلْيَرْفَعْهُ إلَيَّ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إذًا لَأَقُصَّنَّهُ مِنْهُ فَوَثَبَ عَمْرُو بْنُ العاص فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ : إنْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُمِّرَ عَلَى رَعِيَّةٍ فَأَدَبَّ رَعِيَّتَهُ أَإِنَّك لَتَقُصَّهُ مِنْهُ ؟ قَالَ : إي وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إذًا لَأَقُصَّنَّهُ مِنْهُ وَقَدْ رَأَيْت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ مِنْ نَفْسِهِ . أَلَّا لَا تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ فَتُذِلُّوهُمْ وَلَا تَمْنَعُوهُمْ حُقُوقَهُمْ فَتُكَفِّرُوهُمْ . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ . وَمَعْنَى هَذَا إذَا ضَرَبَ الْوَالِي رَعِيَّتَهُ ضَرْبًا غَيْرَ جَائِزٍ . فَأَمَّا الضَّرْبُ الْمَشْرُوعُ فَلَا قِصَاصُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ إذْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ جَائِزٌ .
فَصْلٌ :
وَالْقِصَاصُ فِي الْأَعْرَاضِ مَشْرُوعٌ أَيْضًا : وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا لَعَنَ رَجُلًا أَوْ دَعَا عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا شَتَمَهُ : بِشَتْمَةِ لَا كَذِبَ فِيهَا . وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

{ الْمُسْتَبَّانِ : مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ } . وَيُسَمَّى هَذَا الِانْتِصَارُ . وَالشَّتِيمَةُ الَّتِي لَا كَذِبَ فِيهَا مِثْلَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْقَبَائِحِ أَوْ تَسْمِيَتِهِ بِالْكَلْبِ أَوْ الْحِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَأَمَّا إنْ افْتَرَى عَلَيْهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَفَّرَهُ أَوْ فَسَّقَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَهُ أَوْ يُفَسِّقَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ لَعَنَ أَبَاهُ أَوْ قَبِيلَتَهُ أَوْ أَهْلَ بَلَدِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى عَلَى أُولَئِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَظْلِمُوهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَلَّا يَحْمِلَهُمْ بُغْضُهُمْ لِلْكُفَّارِ عَلَى أَلَّا يَعْدِلُوا . وَقَالَ : { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } . فَإِنْ كَانَ الْعُدْوَانُ عَلَيْهِ فِي الْعِرْضِ مُحَرَّمًا لَحِقَهُ ؛ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْأَذَى جَازَ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ بِمِثْلِهِ كَالدُّعَاءِ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا دَعَاهُ ؛ وَأَمَّا إذَا كَانَ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالْكَذِبِ لَمْ يَجُزْ بِحَالِ وَهَكَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إذَا قَتَلَهُ بِتَحْرِيقِ أَوْ تَغْرِيقٍ أَوْ خَنْقٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ مَا لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ كَتَجْرِيعِ الْخَمْرِ وَاللِّوَاطِ بِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ إلَّا بِالسَّيْفِ . وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَدْلِ .

فَصْلٌ :
وَإِذَا كَانَتْ الْفِرْيَةُ وَنَحْوُهَا لَا قِصَاصَ فِيهَا ؛ فَفِيهَا الْعُقُوبَةُ بِغَيْرِ ذَلِكَ . فَمِنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ الثَّابِتِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . فَإِذَا رَمَى الْحُرُّ مُحْصَنًا بِالزِّنَا وَاللِّوَاطِ فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَهُوَ ثَمَانُونَ جَلْدَةً وَإِنْ رَمَاهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ عُوقِبَ تَعْزِيرًا . وَهَذَا الْحَدُّ يَسْتَحِقُّهُ الْمَقْذُوفُ فَلَا يَسْتَوْفِي إلَّا بِطَلَبِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . فَإِنْ عَفَا عَنْهُ سَقَطَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ كَالْقَصَّاصِ وَالْأَمْوَالِ . وَقِيلَ : لَا يَسْقُطُ تَغْلِيبًا لِحَقِّ اللَّهِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ . وَإِنَّمَا يَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْحُرُّ الْعَفِيفُ . فَأَمَّا الْمَشْهُورُ بِالْفُجُورِ فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَالرَّقِيقُ ؛

لَكِنْ يُعَزَّرُ الْقَاذِفُ ؛ إلَّا الزَّوْجَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْذِفَ امْرَأَتَهُ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تَحْبَلْ مِنْ الزِّنَا . فَإِنْ حَبَلَتْ مِنْهُ وَوَلَدَتْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْذِفَهَا وَيَنْفِيَ وَلَدَهَا ؛ لِئَلَّا يَلْحَقُ بِهِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ . وَإِذَا قَذَفَهَا فَإِمَّا أَنْ تُقِرَّ بِالزِّنَا وَإِمَّا أَنَّ تُلَاعِنُهُ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَلَوْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا فَعَلَيْهِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ وَكَذَلِكَ فِي جَلْدِ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْإِمَاءِ : { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْوَاجِبُ الْقَتْلَ أَوْ قَطْعَ الْيَدِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَصَّفُ .
فَصْلٌ :
وَمِنْ الْحُقُوقِ الْأَبْضَاعِ فَالْوَاجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفِ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانِ . فَيَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الْآخَرِ حُقُوقَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ ؛ فَإِنَّ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ حَقًّا فِي مَالِهِ وَهُوَ الصَّدَاقُ وَالنَّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ . وَحَقًّا فِي بَدَنِهِ وَهُوَ الْعِشْرَةُ وَالْمُتْعَةُ ؛ بِحَيْثُ لَوْ آلَى مِنْهَا اسْتَحَقَّتْ الْفُرْقَةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا لَا يُمْكِنُهُ جِمَاعُهَا فَلَهَا الْفُرْقَةُ ؛ وَوَطْؤُهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .

وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَا يَجِبُ اكْتِفَاءٌ بِالْبَاعِثِ الطَّبِيعِيِّ . وَالصَّوَابُ : أَنَّهُ وَاجِبٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْأُصُولُ . وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا رَآهُ يُكْثِرُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ - : إنَّ لِزَوْجِك عَلَيْك حَقًّا } . ثُمَّ قِيلَ : يَجِبُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا كُلَّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مُرَّةً . وَقِيلَ : يَجِبُ وَطْؤُهَا بِالْمَعْرُوفِ عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهِ وَحَاجَتِهَا . كَمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ كَذَلِكَ ؛ وَهَذَا أَشْبَهُ . وَلِلرَّجُلِ عَلَيْهَا أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْهَا مَتَى شَاءَ مَا لَمْ يَضُرَّ بِهَا أَوْ يَشْغَلْهَا عَنْ وَاجِبٍ . فَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ كَذَلِكَ . وَلَا تَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ أَوْ بِإِذْنِ الشَّارِعِ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ عَلَيْهَا خِدْمَةُ الْمَنْزِلِ كَالْفَرْشِ وَالْكَنْسِ وَالطَّبْخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؟ فَقِيلَ : يَجِبُ عَلَيْهَا . وَقِيلَ : لَا يَجِبُ . وَقِيلَ : يَجِبُ الْخَفِيفُ مِنْهُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيهَا بِالْعَدْلِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِثْلَ قَسْمِ الْمَوَارِيثِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ

الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي مَسَائِلَ مِنْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ الْمُبَايَعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْوِكَالَاتِ وَالْمُشَارَكَاتِ وَالْهِبَاتِ وَالْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعُقُودِ والقبوض ؛ فَإِنَّ الْعَدْلَ فِيهَا هُوَ قِوَامُ الْعَالَمِينَ لَا تَصْلُحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ إلَّا بِهِ . فَمِنْ الْعَدْلِ فِيهَا مَا هُوَ ظَاهِرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ بِعَقْلِهِ كَوُجُوبِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ عَلَى الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي وَتَحْرِيمِ تَطْفِيفِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَوُجُوبِ الصِّدْقِ وَالْبَيَانِ وَتَحْرِيمِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْغِشِّ وَأَنَّ جَزَاءَ الْقَرْضِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ . وَمِنْهُ مَا هُوَ خَفِيٌّ جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ أَوْ شَرِيعَتُنَا - أَهْلُ الْإِسْلَامِ - فَإِنَّ عَامَّةَ مَا نَهَى عَنْهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ يَعُودُ إلَى تَحْقِيقِ الْعَدْلِ وَالنَّهْيِ عَنْ الظُّلْمِ : دِقِّهِ وَجِلِّهِ ؛ مِثْلَ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ . وَجِنْسِهِ مِنْ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ . وَأَنْوَاعِ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ بَيْعِ الْغَرَرِ وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالْبَيْعِ إلَى أَجَلٍ غَيْرِ مُسَمًّى وَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَبَيْعِ الْمُدَلِّسِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَالنَّجْشِ وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُشَارَكَاتِ

الْفَاسِدَةِ . كَالْمُخَابَرَةِ بِزَرْعِ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ الْأَرْضِ . وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ لِخَفَائِهِ وَاشْتِبَاهِهِ فَقَدْ يُرَى هَذَا الْعَقْدُ وَالْقَبْضُ صَحِيحًا عَدْلًا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَرَى فِيهِ جَوْرًا يُوجِبُ فَسَادَهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا إلَّا مَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ كَمَا لَا يُشَرِّعُ لَهُمْ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللَّهِ إلَّا مَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى شَرْعِهِ ؛ إذْ الدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ ؛ بِخِلَافِ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ حَيْثُ حَرَّمُوا مِنْ دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَأَشْرَكُوا بِهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَشَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِأَنْ نَجْعَلَ الْحَلَالَ مَا حَلَّلْته وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمْته وَالدِّينَ مَا شَرَعْته .
فَصْلٌ :
لَا غِنَى لِوَلِيِّ الْأَمْرِ عَنْ الْمُشَاوَرَةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَعَالَى { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ

وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهَا نَبِيَّهُ لِتَأْلِيفِ قُلُوبِ أَصْحَابِهِ وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ وَلِيَسْتَخْرِجَ بِهَا مِنْهُمْ الرَّأْيَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ : مِنْ أَمْرِ الْحُرُوبِ وَالْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَغَيْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى بِالْمَشُورَةِ . وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } . وَإِذَا اسْتَشَارَهُمْ فَإِنْ بَيَّنَ لَهُ بَعْضُهُمْ مَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أَوْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعُ ذَلِكَ وَلَا طَاعَةَ لِأَحَدِ فِي خِلَافِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } . وَإِنْ كَانَ أَمْرًا قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ رَأْيَهُ وَوَجْهَ رَأْيِهِ فَأَيُّ الْآرَاءِ كَانَ أَشْبَهَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَمِلَ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ

إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } .
وَأُولُو الْأَمْرِ صِنْفَانِ : الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَهُمْ الَّذِينَ إذَا صَلَحُوا صَلَحَ النَّاسُ فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَرَّى بِمَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتِّبَاعَ كِتَابِ اللَّهِ . وَمَتَى أَمْكَنَ فِي الْحَوَادِثِ الْمُشْكِلَةِ مُعَرَّفَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَانَ هُوَ الْوَاجِبُ ؛ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ عَجْزِ الطَّالِبِ أَوْ تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ يَرْتَضِي عِلْمَهُ وَدِينَهُ . هَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ . وَقَدْ قِيلَ : لَيْسَ لَهُ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ حَالٍ وَقِيلَ : لَهُ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ حَالٍ . وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ مِنْ الشُّرُوطِ يَجِبُ فِعْلُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ؛ بَلْ وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّ ذَلِكَ وَاجِبٌ مَعَ الْقُدْرَةِ . فَأَمَّا مَعَ الْعَجْزِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا . وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ فَإِنْ عَدِمَهُ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ تَيَمَّمَ صَعِيدًا طَيِّبًا فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ مِنْهُ . { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَان بْنِ حُصَيْنٍ : صَلِّ قَائِمًا . فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ عَلَى أَيِّ حَالٍ أَمْكَنَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { حَافِظُوا

عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } . فَأَوْجَبَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى الْآمِنِ وَالْخَائِفِ وَالصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ وَخَفَّفَهَا عَلَى الْمُسَافِرِ وَالْخَائِفِ وَالْمَرِيضِ كَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَكَذَلِكَ أَوْجَبَ فِيهَا وَاجِبَاتٍ : مِنْ الطَّهَارَةِ وَالسِّتَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَأَسْقَطَ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ . فَلَوَا انْكَسَرَتْ سَفِينَةُ قَوْمٍ أَوْ سَلَبَهُمْ الْمُحَارِبُونَ ثِيَابَهُمْ صَلَّوْا عُرَاةً بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ وَقَامَ إمَامُهُمْ وَسَطَهُمْ ؛ لِئَلَّا يُرَى الْبَاقُونَ عَوْرَتَهُ . وَلَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ الْقِبْلَةُ اجْتَهَدُوا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا . فَلَوْ عَمِيَتْ الدَّلَائِلُ صَلَّوْا كَيْفَمَا أَمْكَنَهُمْ كَمَا قَدْ رَوَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَكَذَا الْجِهَادُ وَالْوِلَايَاتُ وَسَائِرُ أُمُورِ الدِّينِ وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْمَطَاعِمَ الْخَبِيثَةَ قَالَ : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ

حَرَجٍ } فَلَمْ يُوجِبْ مَا لَا يُسْتَطَاعُ وَلَمْ يُحَرِّمْ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ إذَا كَانَتْ الضَّرُورَةُ بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ مِنْ الْعَبْدِ .
فَصْلٌ :
يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ وِلَايَةَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ ؛ بَلْ لَا قِيَامَ لِلدِّينِ وَلَا لِلدُّنْيَا إلَّا بِهَا . فَإِنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ وَلَا بُدَّ لَهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ إلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ } فَأَوْجَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْقَلِيلِ الْعَارِضِ فِي السَّفَرِ تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الِاجْتِمَاعِ . وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِقُوَّةِ وَإِمَارَةٍ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْجِهَادِ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ . وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقُوَّةِ وَالْإِمَارَةِ ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ : { أَنَّ السُّلْطَانَ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ } .

وَيُقَالُ { سِتُّونَ سَنَةً مِنْ إمَامٍ جَائِرٍ أَصْلَحُ مِنْ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا سُلْطَانٍ } . وَالتَّجْرِبَةُ تُبَيِّنُ ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ - كالْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا - يَقُولُونَ : لَوْ كَانَ لَنَا دَعْوَةٌ مُجَابَةٌ لَدَعَوْنَا بِهَا لِلسُّلْطَانِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مِنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَالَ : { ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ : إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ } . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ . قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } . فَالْوَاجِبُ اتِّخَاذُ الْأَمَارَةِ دِينًا وَقُرْبَةً يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ ؛ فَإِنَّ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ فِيهَا بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ . وَإِنَّمَا يَفْسُدُ فِيهَا حَالُ أَكْثَرِ النَّاسِ لِابْتِغَاءِ الرِّيَاسَةِ أَوْ الْمَالِ بِهَا . وَقَدْ رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَأَخْبَرَ أَنَّ حِرْصَ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ

يُفْسِدُ دِينَهُ مِثْلَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ فَسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الَّذِي يُؤْتَى كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ أَنَّهُ يَقُولُ : { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ } { هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } . وَغَايَةُ مُرِيدِ الرِّيَاسَةِ أَنْ يَكُونَ كَفِرْعَوْنَ وَجَامِعُ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ كقارون وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حَالَ فِرْعَوْنَ وَقَارُونَ فَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } .
فَإِنَّ النَّاسَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ :
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : يُرِيدُونَ الْعُلُوَّ عَلَى النَّاسِ وَالْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ مَعْصِيَةُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ وَالرُّؤَسَاءُ الْمُفْسِدُونَ كَفِرْعَوْنَ وَحِزْبِهِ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ شِرَارُ الْخَلْقِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ

فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي حَسَنًا وَنَعْلِي حَسَنًا . أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَاكَ ؟ قَالَ : لَا ؛ إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسَ } فَبَطَرُ الْحَقِّ دَفْعُهُ وَجَحْدُهُ . وَغَمْطُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ وَهَذَا حَالُ مَنْ يُرِيدُ الْعُلُوَّ وَالْفَسَادَ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْفَسَادَ بِلَا عُلُوٍّ كَالسُّرَّاقِ وَالْمُجْرِمِينَ مِنْ سَفَلَةِ النَّاسِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : يُرِيدُونَ الْعُلُوَّ بِلَا فَسَادٍ كَاَلَّذِينَ عِنْدَهُمْ دِينٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْلُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : فَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ يَكُونُونَ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } وَقَالَ : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } . فَكَمْ مِمَّنْ يُرِيدُ الْعُلُوَّ وَلَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إلَّا سُفُولًا وَكَمْ مِمَّنْ جُعِلَ مِنْ الْأَعْلَيْنَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْعُلُوَّ وَلَا الْفَسَادَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ إرَادَةَ الْعُلُوِّ

عَلَى الْخَلْقِ ظُلْمٌ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَإِرَادَةُ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَعْلَى وَنَظِيرُهُ تَحْتَهُ ظُلْمٌ وَمَعَ أَنَّهُ ظُلْمٌ فَالنَّاسُ يُبْغِضُونَ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ وَيُعَادُونَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَادِلَ مِنْهُمْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مَقْهُورًا لِنَظِيرِهِ وَغَيْرُ الْعَادِلِ مِنْهُمْ يُؤْثِرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَاهِرُ ثُمَّ إنَّهُ مَعَ هَذَا لَا بُدَّ لَهُ - فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ - مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ لَا يَصْلُحُ إلَّا بِرَأْسِ . قَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } . فَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِصَرْفِ السُّلْطَانِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالسُّلْطَانِ وَالْمَالِ هُوَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ وَإِنْفَاقَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِهِ كَانَ ذَلِكَ صَلَاحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا . وَإِنْ انْفَرَدَ السُّلْطَانُ عَنْ الدِّينِ أَوْ الدِّينُ عَنْ السُّلْطَانِ فَسَدَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ وَإِنَّمَا يَمْتَازُ أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ عَنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ بِالنِّيَّةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } . وَلَمَّا غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ إرَادَةُ الْمَالِ وَالشَّرَفِ [ وَ ] (1) صَارُوا بِمَعْزِلِ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فِي وِلَايَتِهِمْ : رَأَى كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْإِمَارَةَ

تُنَافِي الْإِيمَانَ وَكَمَالَ الدِّينِ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ غَلَّبَ الدِّينَ وَأَعْرَضَ عَمًّا لَا يَتِمُّ الدِّينُ إلَّا بِهِ مِنْ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى حَاجَتَهُ إلَى ذَلِكَ ؛ فَأَخَذَهُ مُعْرِضًا عَنْ الدِّينِ ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُنَافٍ لِذَلِكَ وَصَارَ الدِّينُ عِنْدَهُ فِي مَحَلِّ الرَّحْمَةِ وَالذُّلِّ . لَا فِي مَحَلِّ الْعُلُوِّ وَالْعِزِّ . وَكَذَلِكَ لَمَّا غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الْعَجْزُ عَنْ تَكْمِيلِ الدِّينِ وَالْجَزَعِ لِمَا قَدْ يُصِيبُهُمْ فِي إقَامَتِهِ مِنْ الْبَلَاءِ : اسْتَضْعَفَ طَرِيقَتَهُمْ وَاسْتَذَلَّهَا مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا تَقُومُ مَصْلَحَتُهُ وَمَصْلَحَةُ غَيْرِهِ بِهَا . وَهَاتَانِ السَّبِيلَانِ الْفَاسِدَتَانِ - سَبِيلُ مَنْ انْتَسَبَ إلَى الَّذِينَ وَلَمْ يُكَمِّلْهُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْجِهَادِ وَالْمَالِ وَسَبِيلُ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى السُّلْطَانِ وَالْمَالِ وَالْحَرْبِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إقَامَةَ الدِّينِ - هُمَا سَبِيلُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ . الْأُولَى لِلضَّالِّينَ النَّصَارَى وَالثَّانِيَةُ لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الْيَهُودُ . وَإِنَّمَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ هِيَ سَبِيلُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبِيلُ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ . وَهُمْ { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ

الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ وُسْعِهِ ؛ فَمَنْ وَلِيَ وِلَايَةً يَقْصِدُ بِهَا طَاعَةَ اللَّهِ وَإِقَامَةَ مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ دِينِهِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَأَقَامَ فِيهَا مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ : لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ تَوْلِيَةَ الْأَبْرَارِ خَيْرٌ لِلْأُمَّةِ مِنْ تَوْلِيَةِ الْفُجَّارِ .
وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إقَامَةِ الدِّينِ بِالسُّلْطَانِ وَالْجِهَادِ فَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ النَّصِيحَةِ بِقَلْبِهِ وَالدُّعَاءِ لِلْأُمَّةِ وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ وَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ : لَمْ يُكَلَّفْ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ قِوَامَ الدِّينِ بِالْكِتَابِ الْهَادِي وَالْحَدِيدِ النَّاصِرِ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى . فَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ الِاجْتِهَادُ فِي اتِّفَاقِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيدُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِطَلَبِ مَا عِنْدَهُ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ فِي ذَلِكَ ؛ ثُمَّ الدُّنْيَا تَخْدِمُ الدِّينَ كَمَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا ابْنَ آدَمَ أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَى نَصِيبِك مِنْ الدُّنْيَا وَأَنْتَ إلَى نَصِيبِك مِنْ الْآخِرَةِ أَحْوَجُ فَإِنْ بَدَأْت بِنَصِيبِك مِنْ الْآخِرَةِ مُرْ بِنَصِيبِك مِنْ الدُّنْيَا فَانْتَظَمَهَا انْتِظَامًا وَإِنْ بَدَأْت بِنَصِيبِك مِنْ الدُّنْيَا فَاتَك نَصِيبُك مِنْ الْآخِرَةِ وَأَنْتَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى خَطَرٍ . وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَصْبَحَ وَالْآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ؛ وَمَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ

وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا كَتَبَ لَهُ } . وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } . فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ لَنَا وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا دَائِمًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ .

وَكَتَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ بَعْدَ وَقْعَةِ جَبَلِ كسروان بِسَبَبِ فُتُوحِ الْجَبَلِ :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ الدَّاعِي أَحْمَد ابْنِ تَيْمِيَّة إلَى سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ أَيَّدَ اللَّهُ فِي دَوْلَتِهِ الدِّينَ وَأَعَزَّ بِهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَمَعَ فِيهَا الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْخَوَارِجَ الْمَارِقِينَ . نَصَرَهُ اللَّهُ وَنَصَرَ بِهِ الْإِسْلَامَ وَأَصْلَحَ لَهُ وَبِهِ أُمُورَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَأَحْيَا بِهِ مَعَالِمَ الْإِيمَانِ وَأَقَامَ بِهِ شَرَائِعَ الْقُرْآنِ وَأَذَلَّ بِهِ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ . سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . أَمَّا بَعْدُ . فَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَأَعَزَّ جُنْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ . وَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى السُّلْطَانِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي دَوْلَتِهِ نِعَمًا لَمْ تُعْهَدْ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ . وَجَدَّدَ الْإِسْلَامَ فِي أَيَّامِهِ تَجْدِيدًا

بَانَتْ فَضِيلَتُهُ عَلَى الدُّوَلِ الْمَاضِيَةِ . وَتَحَقَّقَ فِي وِلَايَتِهِ خَبَرُ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ أَفْضَلُ الْأَوَّلِينَ والآخرين الَّذِي أَخْبَرَ فِيهِ عَنْ تَجْدِيدِ الدِّينِ فِي رُءُوسِ المئين . وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوزِعُهُ وَالْمُسْلِمِينَ شُكْرَ هَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَيُتِمُّهَا بِتَمَامِ النَّصْرِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْدَاءِ الْمَارِقِينَ . وَذَلِكَ : أَنَّ السُّلْطَانَ - أَتَمَّ اللَّهُ نِعْمَتَهُ - حَصَلَ لِلْأُمَّةِ بِيُمْنِ وِلَايَتِهِ وَحُسْنِ نِيَّتِهِ وَصِحَّةِ إسْلَامِهِ وَعَقِيدَتِهِ وَبَرَكَةِ إيمَانِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَفَضْلِ هِمَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَثَمَرَةِ تَعْظِيمِهِ لِلدِّينِ وَشِرْعَتِهِ وَنَتِيجَةِ اتِّبَاعِهِ كِتَابَ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ : مَا هُوَ شَبِيهٌ بِمَا كَانَ يَجْرِي فِي أَيَّامِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَا كَانَ يَقْصِدُهُ أَكَابِرُ الْأَئِمَّةِ الْعَادِلِينَ : مِنْ جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْمَارِقِينَ مِنْ الدِّينِ وَهُمْ صِنْفَانِ : أَهْلُ الْفُجُورِ وَالطُّغْيَانِ وَذَوُو الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ الْخَارِجُونَ عَنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ طَلَبًا لِلْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ وَتَرْكًا لِسَبِيلِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ التَّتَارُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ كُلِّ خَارِجٍ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ تَمَسَّكَ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَوْ بِبَعْضِ سِيَاسَةِ الْإِسْلَامِ . وَالصِّنْفُ الثَّانِي : أَهْلُ الْبِدَعِ الْمَارِقُونَ وَذَوُو الضَّلَالِ الْمُنَافِقُونَ الْخَارِجُونَ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْمُفَارِقُونَ لِلشِّرْعَةِ وَالطَّاعَةِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ

الَّذِينَ غَزَوْا بِأَمْرِ السُّلْطَانِ مَنْ أَهْلِ الْجَبَلِ وَالْجُرْد والكسروان . فَإِنَّ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ عَلَى هَؤُلَاءِ الطَّغَامِ هُوَ مِنْ عَزَائِمِ الْأُمُورِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى السُّلْطَانِ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ . وَذَلِكَ : أَنَّ هَؤُلَاءِ وَجِنْسَهُمْ مِنْ أَكَابِرِ الْمُفْسِدِينَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ . فَإِنَّ اعْتِقَادَهُمْ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَأَهْلَ بَدْرٍ وَبَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَجُمْهُورَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةَ الْإِسْلَامِ وَعُلَمَاءَهُمْ أَهْلَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبِعَةِ وَغَيْرَهُمْ وَمَشَايِخَ الْإِسْلَامِ وَعُبَّادَهُمْ وَمُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ وَأَجْنَادَهُمْ وَعَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَفْرَادَهُمْ . كُلُّ هَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ كُفَّارٌ مُرْتَدُّونَ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ لِأَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ عِنْدَهُمْ وَالْمُرْتَدُّ شَرٌّ مِنْ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ . وَلِهَذَا السَّبَبِ يُقَدِّمُونَ الفرنج وَالتَّتَارَ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ . وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ التَّتَارُ إلَى الْبِلَادِ وَفَعَلُوا بِعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْفَسَادِ وَأَرْسَلُوا إلَى أَهْلِ قُبْرُصَ فَمَلَكُوا بَعْضَ السَّاحِلِ وَحَمَلُوا رَايَةَ الصَّلِيبِ وَحَمَلُوا إلَى قُبْرُصَ مِنْ خَيْلِ الْمُسْلِمِينَ وَسِلَاحِهِمْ وَأَسْرَاهُمْ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ وَأُقِيمَ سُوقُهُمْ بِالسَّاحِلِ عِشْرِينَ يَوْمًا يَبِيعُونَ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ عَلَى أَهْلِ قُبْرُصَ وَفَرِحُوا بِمَجِيءِ التَّتَارِ هُمْ وَسَائِرُ أَهْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ الْمَلْعُونِ مِثْلَ أَهْلِ جَزَيْنَ وَمَا حَوَالَيْهَا . وَجَبَلِ عَامِلٍ وَنَوَاحِيهِ .

وَلَمَّا خَرَجَتْ الْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنْ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ظَهَرَ فِيهِمْ مِنْ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ مَا عَرَفَهُ النَّاسُ مِنْهُمْ . وَلَمَّا نَصَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ النُّصْرَةَ الْعُظْمَى عِنْدَ قُدُومِ السُّلْطَانِ كَانَ بَيْنَهُمْ شَبِيهُ بِالْعَزَاءِ . كُلُّ هَذَا وَأَعْظَمُ مِنْهُ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي خُرُوجِ جنكسخان إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَفِي اسْتِيلَاءِ هُولَاكُو عَلَى بَغْدَادَ وَفِي قُدُومِهِ إلَى حَلَبَ وَفِي نَهْبِ الصالحية وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَدَاوَةِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ . لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ . وَمَنْ اسْتَحَلَّ الْفُقَّاعَ فَهُوَ كَافِرٌ . وَمَنْ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَهُوَ عِنْدُهُمْ كَافِرٌ . وَمَنْ حَرَّمَ الْمُتْعَةَ فَهُوَ عِنْدُهُمْ كَافِرٌ . وَمَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ أَوْ تَرَضَّى عَنْهُمْ أَوْ عَنْ جَمَاهِيرِ الصَّحَابَةِ : فَهُوَ عِنْدُهُمْ كَافِرٌ . وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُنْتَظِرِهِمْ فَهُوَ عِنْدُهُمْ كَافِرٌ . وَهَذَا الْمُنْتَظَرُ صَبِيٌّ عُمْرُهُ سَنَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ أَوْ خَمْسٌ . يَزْعُمُونَ أَنَّهُ دَخَلَ السِّرْدَابَ بسامرا مِنْ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعمِائَةِ سَنَةٍ . وَهُوَ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ . وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ . فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ عِنْدُهُمْ كَافِرٌ . وَهُوَ شَيْءٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ . وَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْوُجُودِ قَطُّ . وَعِنْدَهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ . وَمَنْ قَالَ :

إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ حَقِيقَةً فَهُوَ كَافِرٌ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ فَهُوَ كَافِرٌ . وَمَنْ آمَنَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ اللَّهَ يُقَلِّبُ قُلُوبَ عِبَادِهِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ عِنْدُهُمْ كَافِرٌ . وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِحَقِيقَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ كَافِرٌ . هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي تُلَقِّنُهُ لَهُمْ أَئِمَّتُهُمْ . مِثْلَ بَنِي الْعُود ؛ فَإِنَّهُمْ شُيُوخُ أَهْلِ هَذَا الْجَبَلِ . وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا يَأْمُرُونَهُمْ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَيُفْتُونَهُمْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ . وَقَدْ حَصَلَ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ طَائِفَةٌ مِنْ كُتُبِهِمْ تَصْنِيفُ ابْنِ الْعُود وَغَيْرِهِ . وَفِيهَا هَذَا وَأَعْظَمُ مِنْهُ . وَهُمْ اعْتَرَفُوا لَنَا بِأَنَّهُمْ الَّذِينَ عَلَّمُوهُمْ وَأَمَرُوهُمْ لَكِنَّهُمْ مَعَ هَذَا يُظْهِرُونَ التَّقِيَّةَ وَالنِّفَاقَ . وَيَتَقَرَّبُونَ بِبَذْلِ الْأَمْوَالِ إلَى مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُمْ . وَهَكَذَا كَانَ عَادَةُ هَؤُلَاءِ الْجَبَلِيَّةِ ؛ فَإِنَّمَا أَقَامُوا بِجَبَلِهِمْ لَمَّا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ مِنْ النِّفَاقِ وَيَبْذُلُونَهُ مِنْ الْبِرْطِيلِ لِمَنْ يَقْصِدُهُمْ . وَالْمَكَانُ الَّذِي لَهُمْ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ . ذَكَرَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ ؛ وَلِهَذَا كَثُرَ فَسَادُهُمْ فَقَتَلُوا مِنْ النُّفُوسِ وَأَخَذُوا مِنْ الْأَمْوَالِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ .

وَلَقَدْ كَانَ جِيرَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِقَاعِ وَغَيْرِهَا مَعَهُمْ فِي أَمْرٍ لَا يُضْبَطُ شَرُّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَيَفْعَلُونَ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ . كَانُوا فِي قَطْعِ الطُّرُقَاتِ وَإِخَافَةِ سُكَّانِ الْبُيُوتَاتِ عَلَى أَقْبَحِ سِيرَةٍ عُرِفَتْ مِنْ أَهْلِ الْجِنَايَاتِ يَرُدُّ إلَيْهِمْ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ قُبْرُصَ فَيُضَيِّفُونَهُمْ وَيُعْطُونَهُمْ سِلَاحَ الْمُسْلِمِينَ وَيَقَعُونَ بِالرَّجُلِ الصَّالِحِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَإِمَّا أَنْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يَسْلُبُوهُ . وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ مَنْ يَفْلِتُ مِنْهُمْ بِالْحِيلَةِ . فَأَعَانَ اللَّهُ وَيَسَّرَ بِحُسْنِ نِيَّةِ السُّلْطَانِ وَهِمَّتِهِ فِي إقَامَةِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَعِنَايَتِهِ بِجِهَادِ الْمَارِقِينَ أَنْ غَزَوْا غَزْوَةً شَرْعِيَّةً كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَعْدَ أَنْ كُشِفَتْ أَحْوَالُهُمْ وَأُزِيحَتْ عِلَلُهُمْ وَأُزِيلَتْ شُبَهُهُمْ وَبَذَلَ لَهُمْ مِنْ الْعَدْلِ وَالْأَنْصَافِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَطْمَعُونَ بِهِ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ غَزْوَهُمْ اقْتِدَاءً بِسِيرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِتَالِ الحرورية الْمَارِقِينَ الَّذِينَ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ وَنَعَتَ حَالَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ . أَخْرَجَ مِنْهَا أَصْحَابُ الصَّحِيحِ عَشَرَةَ أَوْجُهٍ : مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري وَسَهْلِ بْنِ حنيف وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيّ وَرَافِعِ بْنِ عَمْرِو وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ فِيهِمْ : { يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ

وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ؛ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ . لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مَاذَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ . يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانَ . يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ . خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ } . وَأَوَّلُ مَا خَرَجَ هَؤُلَاءِ زَمَنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَكَانَ لَهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لِعُمُومِ الصَّحَابَةِ ؛ لَكِنْ كَانُوا خَارِجِينَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خباب وَأَغَارُوا عَلَى دَوَابِّ الْمُسْلِمِينَ . وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ كَانُوا أَقَلَّ صَلَاةً وَصِيَامًا . وَلَمْ نَجِدْ فِي جَبَلِهِمْ مُصْحَفًا وَلَا فِيهِمْ قَارِئًا لِلْقُرْآنِ ؛ وَإِنَّمَا عِنْدَهُمْ عَقَائِدُهُمْ الَّتِي خَالَفُوا فِيهَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَبَاحُوا بِهَا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ . وَهُمْ مَعَ هَذَا فَقَدْ سَفَكُوا مِنْ الدِّمَاءِ وَأَخَذُوا مِنْ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى . فَإِذَا كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَدْ أَبَاحَ لِعَسْكَرِهِ أَنْ يَنْهَبُوا مَا فِي عَسْكَرِ الْخَوَارِجِ مَعَ أَنَّهُ قَتَلَهُمْ جَمِيعَهُمْ كَانَ هَؤُلَاءِ أَحَقَّ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ . وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ

بِمَنْزِلَةِ الْمُتَأَوِّلِينَ الَّذِينَ نَادَى فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ الْجَمْلِ : أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ مُدْبِرَهُمْ وَلَا يُجْهِزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَا يَغْنَمُ لَهُمْ مَالًا وَلَا يَسْبِي لَهُمْ ذُرِّيَّةً . لِأَنَّ مِثْلَ أُولَئِكَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ وَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ . وَمِثْلَ أُولَئِكَ إنَّمَا يَكُونُونَ خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ . وَهَؤُلَاءِ خَرَجُوا عَنْ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ . وَهُمْ شَرٌّ مِنْ التَّتَارِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ ؛ لَكِنَّ التتر أَكْثَرُ وَأَقْوَى . فَلِذَلِكَ يَظْهَرُ كَثْرَةُ شَرِّهِمْ . وَكَثِيرٌ مِنْ فَسَادِ التتر هُوَ لِمُخَالَطَةِ هَؤُلَاءِ لَهُمْ كَمَا كَانَ فِي زَمَنِ قازان وَهُولَاكُوَ وَغَيْرِهِمَا ؛ فَإِنَّهُمْ أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ أَضْعَافَ مَا أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ . وَأَرْضِهِمْ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ . وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ الرَّافِضَةَ لَا حَقَّ لَهُمْ مِنْ الْفَيْءِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا جَعَلَ الْفَيْءَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } فَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ سَلِيمًا لَهُمْ وَلِسَانُهُ مُسْتَغْفِرًا لَهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ . وَقُطِعَتْ أَشْجَارُهُمْ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَاصَرَ بَنِي النَّضِيرِ قَطَعَ أَصْحَابُهُ نَخْلَهُمْ وَحَرَّقُوهُ . فَقَالَ الْيَهُودُ : هَذَا فَسَادٌ . وَأَنْتَ

يَا مُحَمَّدُ تَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } } . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ قَطْعِ الشَّجَرِ وَتَخْرِيبِ الْعَامِرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ . فَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَمَا أَمْكَنَ غَيْرُ ذَلِكَ . فَإِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَحْضُرُوا كُلُّهُمْ مِنْ الْأَمَاكِنِ الَّتِي اخْتَفَوْا فِيهَا وأيسوا مِنْ الْمَقَامِ فِي الْجَبَلِ إلَّا حِينَ قُطِعَتْ الْأَشْجَارُ . وَإِلَّا كَانُوا يَخْتَفُونَ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِمْ . وَمَا أَمْكَنَ أَنْ يَسْكُنَ الْجَبَلَ غَيْرُهُمْ ؛ لِأَنَّ التُّرْكُمَانَ إنَّمَا قَصْدُهُمْ الرَّعْيُ وَقَدْ صَارَ لَهُمْ مَرْعًى وَسَائِرُ الْفَلَّاحِينَ لَا يَتْرُكُونَ عِمَارَةَ أَرْضِهِمْ وَيَجِيئُونَ إلَيْهِ . فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَسَّرَ هَذَا الْفَتْحَ فِي دَوْلَةِ السُّلْطَانِ بِهِمَّتِهِ وَعَزْمِهِ وَأَمْرِهِ وَإِخْلَاءِ الْجَبَلِ مِنْهُمْ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ . وَهُمْ يُشْبِهُونَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } { وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ } { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ

اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } . وأيضا فَإِنَّهُ بِهَذَا قَدْ انْكَسَرَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالنِّفَاقِ بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ مَا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَاتِ السُّلْطَانِ وَيَعِزُّ بِهِ أَهْلَ الْإِيمَانِ .
فَصْلٌ :
تَمَامُ هَذَا الْفَتْحِ وَبَرَكَتُهُ تُقَدِّمُ مَرَاسِمَ السُّلْطَانِ بِحَسْمِ مَادَّةِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ فِي الْبِلَادِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَهُمْ مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْإِخْوَانِ فِي قُرًى كَثِيرَةٍ مَنْ يَقْتَدُونَ بِهِمْ وَيَنْتَصِرُونَ لَهُمْ . وَفِي قُلُوبِهِمْ غِلٌّ عَظِيمٌ وَإِبْطَانُ مُعَادَاةٍ شَدِيدَةٍ لَا يُؤْمِنُونَ مَعَهَا عَلَى مَا يُمْكِنُهُمْ . وَلَوْ أَنَّهُ مباطنة الْعَدُوِّ . فَإِذَا أَمْسَكَ رُءُوسَهُمْ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ - مِثْلَ بَنِي الْعُود - زَالَ بِذَلِكَ مِنْ الشَّرِّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَيَتَقَدَّمُ إلَى قُرَاهُمْ . وَهِيَ قُرًى مُتَعَدِّدَةٌ بِأَعْمَالِ دِمَشْقَ وَصَفْدَ ؛ وَطَرَابُلُس ؛ وَحَمَاةَ وَحِمْصَ وَحَلَبَ : بِأَنْ يُقَامَ فِيهِمْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ . وَالْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَيَكُونُ لَهُمْ خُطَبَاءُ وَمُؤَذِّنُونَ

كَسَائِرِ قُرَى الْمُسْلِمِينَ وَتُقْرَأُ فِيهِمْ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ وَتُنْشَرُ فِيهِمْ الْمَعَالِمُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَيُعَاقَبُ مَنْ عُرِفَ مِنْهُمْ بِالْبِدْعَةِ وَالنِّفَاقِ بِمَا تُوجِبُهُ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ وَأَمْثَالَهُمْ قَالُوا : نَحْنُ قَوْمٌ جُهَّالٌ . وَهَؤُلَاءِ كَانُوا يُعَلِّمُونَنَا وَيَقُولُونَ لَنَا : أَنْتُمْ إذًا قَاتَلْتُمْ هَؤُلَاءِ تَكُونُونَ مُجَاهِدِينَ وَمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ فَهُوَ شَهِيدٌ . وَفِي هَؤُلَاءِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُقِرُّونَ بِصَلَاةِ وَلَا صِيَامٍ وَلَا حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ وَلَا يُحَرِّمُونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ . مِنْ جِنْسِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَالْحَاكِمِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَهُمْ كُفَّارٌ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . فَتَقَدَّمَ الْمَرَاسِيمُ السُّلْطَانِيَّةُ بِإِقَامَةِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ : مِنْ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَبْلِيغِ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُرَى هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَالِحِ الْإِسْلَامِيَّةِ . وَأَبْلَغِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَذَلِكَ سَبَبٌ لِانْقِمَاعِ مَنْ يباطن الْعَدُوَّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَدُخُولهمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَهُوَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يُعِينُ اللَّهُ بِهَا عَلَى قَمْعِ الْأَعْدَاءِ . فَإِنَّ مَا فَعَلُوهُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي أَرْضِ " سِيسَ " نَوْعٌ مِنْ غَدْرِهِمْ الَّذِي بِهِ يَنْصُرُ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ . وَفِي ذَلِكَ لِلَّهِ حِكْمَةٌ

عَظِيمَةٌ وَنُصْرَةٌ لِلْإِسْلَامِ جَسِيمَةٌ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إلَّا أُدِيلَ عَلَيْهِمْ الْعَدُوُّ . وَلَوْلَا هَذَا وَأَمْثَالُهُ مَا حَصَلَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعَزْمِ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَلِلْعَدُوِّ مِنْ الْخِذْلَانِ مَا يَنْصُرُ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُذِلُّ بِهِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ . وَاَللَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يَتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَى سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ خَاصَّةً وَعَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً . وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .

وَكَتَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
لَمَّا قَدِمَ الْعَدُوُّ مِنْ التَّتَارِ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ إلَى حَلَبَ وَانْصَرَفَ عَسْكَرُ مِصْرَ وَبَقِيَ عَسْكَرُ الشَّامِ . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلَى مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ بَاطِنَةً وَظَاهِرَةً وَنَصَرَهُمْ نَصْرًا عَزِيزًا وَفَتَحَ عَلَيْهِمْ فَتْحًا كَبِيرًا وَجَعَلَ لَهُمْ مِنْ لَدُنْه سُلْطَانًا نَصِيرًا وَجَعَلَهُمْ مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ مُهْتَدِينَ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ - سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى صَفْوَتِهِ مِنْ خَلِيقَتِهِ وَخَيْرَتِهِ مِنْ بَرِّيَّتِهِ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا وَجَعَلَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ مِنْ النَّاسِ أَجْمَعِينَ وَجَعَلَ كِتَابَهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ

عَلَيْهِ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ وَمُصَدِّقًا لَهَا وَجَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ : يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ فَهُمْ يُوفُونَ سَبْعِينَ فِرْقَةً هُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ وَقَدْ أَكْمَلَ لَهُمْ دِينَهُمْ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ وَرَضِيَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا . فَلَيْسَ دِينٌ أَفْضَلَ مِنْ دِينِهِمْ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُهُمْ وَلَا كِتَابٌ أَفْضَلَ مِنْ كِتَابِهِمْ وَلَا أُمَّةٌ خَيْرًا مِنْ أُمَّتِهِمْ . بَلْ كِتَابُنَا وَنَبِيُّنَا وَدِينُنَا وَأُمَّتُنَا أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ كِتَابٍ وَدِينٍ وَنَبِيٍّ وَأُمَّةٍ . فَاشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ . { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } وَاحْفَظُوا هَذِهِ الَّتِي بِهَا تَنَالُونَ نَعِيمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا مِمَّنْ بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا فَتُعْرِضُونَ عَنْ حِفْظِ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَرِعَايَتِهَا فَيَحِيقُ بِكُمْ مَا حَاقَ بِمَنْ انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَاشْتَغَلَ بِمَا لَا يَنْفَعُهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا عَمَّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنْ مَصْلَحَةِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَخَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ . فَقَدْ سَمِعْتُمْ مَا نَعَتَ اللَّهُ بِهِ الشَّاكِرِينَ وَالْمُنْقَلِبِينَ حَيْثُ يَقُولُ : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } . أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ لَمَّا انْكَسَرَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،

وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ خِيَارِ الْأُمَّةِ " وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ طَائِفَةٍ يَسِيرَةٍ حَتَّى خَلَصَ إلَيْهِ الْعَدُوُّ فَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَشَجُّوا وَجْهَهُ وَهَشَّمُوا الْبَيْضَةَ عَلَى رَأْسِهِ وَقُتِلَ وَجُرِحَ دُونَهُ طَائِفَةٌ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِهِ لِذَبِّهِمْ عَنْهُ وَنَعَقَ الشَّيْطَانُ فِيهِمْ : أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ . فَزَلْزَلَ ذَلِكَ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ حَتَّى انْهَزَمَ طَائِفَةٌ وَثَبَّتَ اللَّهُ آخَرِينَ حَتَّى ثَبَتُوا . وَكَذَلِكَ لَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَلْزَلَتْ الْقُلُوبُ وَاضْطَرَبَ حَبَلُ الدِّينِ وَغَشِيَتْ الذِّلَّةُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ النَّاسِ حَتَّى خَرَجَ عَلَيْهِمْ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَقَرَأَ قَوْلَهُ : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } فَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَسْمَعُوهَا حَتَّى تَلَاهَا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا يُوجَدُ مِنْ النَّاسِ إلَّا مَنْ يَتْلُوهَا . وَارْتَدَّ بِسَبَبِ مَوْتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الضَّعْفِ جَمَاعَاتٌ مِنْ النَّاسِ : قَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنْ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ . وَقَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنْ بَعْضِهِ فَقَالُوا : نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي . وَقَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنْ إخْلَاصِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَآمَنُوا مَعَ مُحَمَّدٍ

بِقَوْمٍ مِنْ النَّبِيِّينَ الْكَذَّابِينَ كمسيلمة الْكَذَّابِ وطليحة الأسدي وَغَيْرِهِمَا فَقَامَ إلَى جِهَادِهِمْ الشَّاكِرُونَ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى الدِّينِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالطُّلَقَاءِ وَالْأَعْرَابِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } هُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ جَاهَدُوا الْمُنْقَلِبِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا . وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ آيَةٍ إلَّا وَقَدْ عَمِلَ بِهَا قَوْمٌ وَسَيَعْمَلُ بِهَا آخَرُونَ . فَمَنْ كَانَ مِنْ الشَّاكِرِينَ الثَّابِتِينَ عَلَى الدِّينِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنَّهُ يُجَاهِدُ الْمُنْقَلِبِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَنْ الدِّينِ وَيَأْخُذُونَ بَعْضَهُ وَيَدَعُونَ بَعْضَهُ كَحَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَتَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَتَسَمَّى بِالْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ شَرِيعَتِهِ ؛ فَإِنَّ عَسْكَرَهُمْ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعِ طَوَائِفَ : كَافِرَةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى كُفْرِهَا : مِنْ الكرج وَالْأَرْمَنِ وَالْمَغُولِ . وَطَائِفَةٍ كَانَتْ مُسْلِمَةً فَارْتَدَتْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَانْقَلَبَتْ عَلَى عَقِبَيْهَا : مِنْ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَالرُّومِ وَغَيْرِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ جُرْمًا عِنْدَ اللَّهِ

وَعِنْدَ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَجِبُ قَتْلُهُمْ حَتْمًا مَا لَمْ يَرْجِعُوا إلَى مَا خَرَجُوا عَنْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ لَهُمْ ذِمَّةٌ وَلَا هُدْنَةٌ وَلَا أَمَانٌ وَلَا يُطْلَقُ أَسِيرُهُمْ وَلَا يُفَادَى بِمَالِ وَلَا رِجَالٍ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ وَلَا يسترقون ؛ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى الرِّدَّةِ بِالِاتِّفَاقِ . وَيُقْتَلُ مَنْ قَاتَلَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ ؛ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ وَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَا نِسَاؤُهُمْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَالْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدُ لَهُ أَمَانٌ وَهُدْنَةٌ وَيَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِ وَالْمُفَادَاةُ بِهِ إذَا كَانَ أَسِيرًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَيَجُوزُ إذَا كَانَ كِتَابِيًّا أَنْ يُعْقَدُ لَهُ ذِمَّةٌ وَيُؤْكَلُ طَعَامُهُمْ وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ وَلَا تُقْتَلُ نِسَاؤُهُمْ إلَّا أَنْ يُقَاتِلْنَ بِقَوْلِ أَوْ عَمَلٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ لَا يُقْتَلُ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ . فَالْكَافِرُ الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالًا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ الْكَافِرِ الْمُسْتَمِرِّ عَلَى كُفْرِهِ . وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ فِيهِمْ مِنْ الْمُرْتَدَّةِ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ . فَهَذَانِ صِنْفَانِ . وَفِيهِمْ أَيْضًا مَنْ كَانَ كَافِرًا فَانْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَلْتَزِمْ شَرَائِعَهُ ؛ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَالْكَفِّ عَنْ دِمَاءِ

الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَالْتِزَامِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَضَرْب الْجِزْيَةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْر ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ يَجِبُ قِتَالُهُمْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَاتَلَ الصِّدِّيقُ مَانِعِي الزَّكَاةِ ؛ بَلْ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْهُمْ مِنْ وُجُوهٍ وَكَمَا قَاتَلَ الصَّحَابَةُ أَيْضًا مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْخَوَارِجَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَصْفِهِمْ : { تُحَقِّرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ مَاذَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ } وَقَالَ : { هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ } . فَهَؤُلَاءِ مَعَ كَثْرَةِ صِيَامِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ . أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ وَقَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ مَعَهُ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ فِي قِتَالِهِمْ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالشَّامِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ أُولَئِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ ؛ فَإِنَّ مَعَهُمْ مَنْ يُوَافِقُ رَأْيُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ رَأْيَ الْخَوَارِجِ . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ . وَفِيهِمْ صِنْفٌ رَابِعٌ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ . وَهُمْ قَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنْ شَرَائِعِ

الْإِسْلَامِ وَبَقُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِالِانْتِسَابِ إلَيْهِ . فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُرْتَدُّونَ وَالدَّاخِلُونَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ لِشَرَائِعِهِ وَالْمُرْتَدُّونَ عَنْ شَرَائِعِهِ لَا عَنْ سَمْتِهِ : كُلُّهُمْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَحَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَحَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ - الَّتِي هِيَ كِتَابُهُ وَمَا فِيهِ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَخَبَرِهِ - هِيَ الْعُلْيَا . هَذَا إذَا كَانُوا قَاطِنِينَ فِي أَرْضِهِمْ فَكَيْفَ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى أَرَاضِي الْإِسْلَامِ : مِنْ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْجَزِيرَةِ وَالرُّومِ فَكَيْفَ إذَا قَصَدُوكُمْ وَصَالُوا عَلَيْكُمْ بَغْيًا وَعُدْوَانًا { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . وَاعْلَمُوا - أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ } وَثَبَتَ أَنَّهُمْ بِالشَّامِ . فَهَذِهِ الْفِتْنَةُ قَدْ تُفَرِّقُ النَّاسُ فِيهَا ثَلَاثَ فِرَقٍ : الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ وَهُمْ الْمُجَاهِدُونَ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ . وَالطَّائِفَةُ الْمُخَالِفَةُ وَهُمْ هَؤُلَاءِ

الْقَوْمُ وَمَنْ تَحَيَّزَ إلَيْهِمْ مِنْ خبالة الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ . وَالطَّائِفَةُ الْمُخَذِّلَةُ وَهُمْ الْقَاعِدُونَ عَنْ جِهَادِهِمْ ؛ وَإِنْ كَانُوا صَحِيحِي الْإِسْلَامِ . فَلْيَنْظُرْ الرَّجُلُ أَيَكُونُ مِنْ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ أَمْ مِنْ الْخَاذِلَةِ أَمْ مِنْ الْمُخَالِفَةِ ؟ فَمَا بَقِيَ قِسْمٌ رَابِعٌ . وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجِهَادَ فِيهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفِي تَرْكِهِ خَسَارَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلَّا إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } يَعْنِي : إمَّا النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَإِمَّا الشَّهَادَةُ وَالْجَنَّةُ فَمَنْ عَاشَ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ كَانَ كَرِيمًا لَهُ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَحُسْنُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ . وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ أَوْ قُتِلَ فَإِلَى الْجَنَّةِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُعْطَى الشَّهِيدُ سِتُّ خِصَالٍ يُغْفَرُ لَهُ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ وَيُرَى مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُكْسَى حُلَّةً مِنْ الْإِيمَانِ وَيُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ وَيُوقَى فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَيُؤْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ . مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَعَدَّهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ } فَهَذَا ارْتِفَاعُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِ الْجِهَادِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَثَلُ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ } { وَقَالَ رَجُلٌ : أَخْبِرْنِي بِعَمَلِ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا تَسْتَطِيعُهُ . قَالَ :

أَخْبِرْنِي بِهِ ؟ قَالَ : هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَصُومَ لَا تُفْطِرُ وَتَقُومَ لَا تَفْتُرُ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَذَلِكَ الَّذِي يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا . وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ - فِيمَا أَعْلَمُ - عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّطَوُّعَاتِ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ . فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَأَفْضَلُ مِنْ الصَّوْمِ التَّطَوُّعِ وَأَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ التَّطَوُّعِ . وَالْمُرَابَطَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَأَنْ أُرَابِطُ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوَافِقَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ . فَقَدْ اخْتَارَ الرِّبَاطَ لَيْلَةً عَلَى الْعِبَادَةِ فِي أَفْضَلِ اللَّيَالِي عِنْدَ أَفْضَلِ الْبِقَاعِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يُقِيمُونَ بِالْمَدِينَةِ دُونَ مَكَّةَ ؛ لَمَعَانٍ مِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُرَابِطِينَ بِالْمَدِينَةِ . فَإِنَّ الرِّبَاطَ هُوَ الْمَقَامُ بِمَكَانِ يُخِيفُهُ الْعَدُوُّ وَيُخِيفُ الْعَدُوَّ فَمَنْ أَقَامَ فِيهِ بِنِيَّةِ دَفْعِ الْعَدُوِّ فَهُوَ مُرَابِطٌ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحُوهُ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ سَلْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا أُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ } يَعْنِي مُنْكَرًا وَنَكِيرًا . فَهَذَا فِي الرِّبَاطِ فَكَيْفَ الْجِهَادُ .

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانٌ جَهَنَّمَ فِي وَجْهِ عَبْدٍ أَبَدًا } وَقَالَ { مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ } فَهَذَا فِي الْغُبَارِ الَّذِي يُصِيبُ الْوَجْهَ وَالرِّجْلَ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَشَقُّ مِنْهُ ؛ كَالثَّلْجِ وَالْبَرْدِ وَالْوَحْلِ . وَلِهَذَا عَابَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَعَلَّلُونَ بِالْعَوَائِقِ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ . فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } وَهَكَذَا الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا تَنْفِرُوا فِي الْبَرْدِ فَيُقَالُ : نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ بَرْدًا . كَمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اشْتَكَتْ النَّارُ إلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ : رَبِّي أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأْذَنْ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَأَشُدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَهُوَ مِنْ زَمْهَرِيرِ جَهَنَّمَ } فَالْمُؤْمِنُ يَدْفَعُ بِصَبْرِهِ عَلَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّ جَهَنَّمَ وَبَرْدَهَا وَالْمُنَافِقُ يَفِرُّ مِنْ حَرِّ الدُّنْيَا وَبَرْدِهَا حَتَّى يَقَعَ فِي حَرِّ جَهَنَّمَ وَزَمْهَرِيرِهَا . وَاعْلَمُوا - أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ - أَنَّ النُّصْرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ . وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مَقْهُورُونَ مَقْمُوعُونَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَاصِرُنَا عَلَيْهِمْ وَمُنْتَقِمٌ لَنَا مِنْهُمْ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ . فَأَبْشِرُوا بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِحُسْنِ

عَاقِبَتِهِ { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ تَيَقَّنَّاهُ وَتَحَقَّقْنَاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } { تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } . وَاعْلَمُوا - أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ - أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَى مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا أَنْ أَحْيَاهُ إلَى هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي يُجَدِّدُ اللَّهُ فِيهِ الدِّينَ وَيُحْيِي فِيهِ شِعَارَ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ حَتَّى يَكُونَ شَبِيهًا بِالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . فَمَنْ قَامَ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِذَلِكَ كَانَ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ الَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْمِحْنَةِ الَّتِي

حَقِيقَتُهَا مِنْحَةٌ كَرِيمَةٌ مِنْ اللَّهِ وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي فِي بَاطِنِهَا نِعْمَةٌ جَسِيمَةٌ حَتَّى وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ - حَاضِرِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِهِمْ جِهَادُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ . وَلَا يَفُوتُ مِثْلُ هَذِهِ الْغُزَاةِ إلَّا مَنْ خَسِرَتْ تِجَارَتُهُ وَسَفَّهَ نَفْسَهُ وَحُرِمَ حَظًّا عَظِيمًا مِنْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ عَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى كَالْمَرِيضِ وَالْفَقِيرِ وَالْأَعْمَى وَغَيْرِهِمْ وَإِلَّا فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَهُوَ عَاجِزٌ بِبَدَنِهِ فَلْيَغْزُ بِمَالِهِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا } وَمَنْ كَانَ قَادِرًا بِبَدَنِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ فَلْيَأْخُذْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَتَجَهَّزُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ زَكَاةً أَوْ صِلَةً أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ الرَّجُلُ قَدْ حَصَلَ بِيَدِهِ مَالٌ حَرَامٌ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ إلَى أَصْحَابِهِ لِجَهْلِهِ بِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ كَانَ بِيَدِهِ وَدَائِعُ أَوْ رُهُونٌ أَوْ عَوَارٍ قَدْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا فَلْيُنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَصْرِفُهَا . وَمَنْ كَانَ كَثِيرَ الذُّنُوبِ فَأَعْظَمُ دَوَائِهِ الْجِهَادُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِرُ ذُنُوبَهُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } . وَمَنْ أَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ الْحَرَامِ وَالتَّوْبَةَ وَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى أَصْحَابِهِ فَلْيُنْفِقْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَنْ أَصْحَابِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ حَسَنَةٌ إلَى

خَلَاصِهِ مَعَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ أَجْرِ الْجِهَادِ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ فِي دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَحَمِيَّتِهَا فَعَلَيْهِ بِالْجِهَادِ ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ يَتَعَصَّبُونَ لِلْقَبَائِلِ وَغَيْرِ الْقَبَائِلِ - مِثْلَ قَيْسٍ وَيُمَنِّ وَهِلَالٍ وَأَسَدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ - كُلُّ هَؤُلَاءِ إذَا قُتِلُوا فَإِنَّ الْقَاتِلَ وَالْمَقْتُولَ فِي النَّارِ كَذَلِكَ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ : إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عمية : يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةِ وَيَدْعُو لِعَصَبِيَّةٍ فَهُوَ فِي النَّارِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بهن أَبِيهِ وَلَا تَكْنُوا فَسَمِعَ أَبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَجُلًا يَقُولُ : يَا لِفُلَانِ فَقَالَ : اعْضَضْ أَيْرَ أَبِيك فَقَالَ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ ؛ مَا كُنْت فَاحِشًا . فَقَالَ بِهَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ : { مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ } يَعْنِي يَعْتَزِي بِعِزْوَاتِهِمْ وَهِيَ الِانْتِسَابُ إلَيْهِمْ فِي الدَّعْوَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ : يَا لِقَيْسِ يَا ليمن وَيَا لِهِلَالِ وَيَا لِأَسَدِ فَمَنْ تَعَصَّبَ لِأَهْلِ بَلْدَتِهِ أَوْ مَذْهَبِهِ أَوْ طَرِيقَتِهِ أَوْ قَرَابَتِهِ أَوْ لِأَصْدِقَائِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ وَكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ . فَإِنَّ

كِتَابَهُمْ وَاحِدٌ وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ وَرَبُّهُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْفُرْقَةِ وَالْبِدْعَةِ . فَاَللَّهَ ؛ اللَّهَ . عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ ؛ يَجْمَعْ اللَّهُ قُلُوبَكُمْ وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَحْصُلْ لَكُمْ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . أَعَانَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَصَرَفَ عَنَّا وَعَنْكُمْ سَبِيلَ مَعْصِيَتِهِ وَآتَانَا وَإِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَوَقَانَا عَذَابَ النَّارِ وَجَعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُ جَنَّاتِ النَّعِيمِ إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .

وَقَالَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إلَى مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ .
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ؛ فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى صَفْوَتِهِ مِنْ خَلِيقَتِهِ وَخَيْرَتِهِ مِنْ بَرِيَّتِهِ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . أَمَّا بَعْدُ : فَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَأَعَزَّ جُنْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } وَاَللَّهُ تَعَالَى يُحَقِّقُ لَنَا التَّمَامَ بِقَوْلِهِ : { وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا } { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا } .

فَإِنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ الَّتِي اُبْتُلِيَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مَعَ هَذَا الْعَدُوِّ الْمُفْسِدِ الْخَارِجِ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ : قَدْ جَرَى فِيهَا شَبِيهٌ بِمَا جَرَى لِلْمُسْلِمِينَ مَعَ عَدُوِّهِمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُغَازِي الَّتِي أَنَزَلَ اللَّهُ فِيهَا كُتُبَهُ وَابْتَلَى بِهَا نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ : مِمَّا هُوَ أُسْوَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ فَإِنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اللَّذَيْنِ هَمَّا دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَنَاوَلَانِ عُمُومَ الْخَلْقِ بِالْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ أَوْ بِالْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ . وَعُهُودُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ تَنَالُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا نَالَتْ أَوَّلَهَا . وَإِنَّمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا قِصَصَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ لِتَكُونَ عِبْرَةً لَنَا . فَنُشَبِّهُ حَالَنَا بِحَالِهِمْ وَنَقِيسُ أَوَاخِرَ الْأُمَمِ بِأَوَائِلِهَا . فَيَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ شَبَهٌ بِمَا كَانَ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ . وَيَكُونُ لِلْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ شَبَهٌ بِمَا كَانَ لِلْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَمَّا قَصَّ قِصَّةَ يُوسُفَ مُفَصَّلَةً وَأَجْمَلَ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ . ثُمَّ قَالَ : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } أَيْ هَذِهِ الْقَصَصُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا يُفْتَرَى مِنْ الْقَصَصِ الْمَكْذُوبَةِ كَنَحْوِ مَا يُذْكَرُ فِي الْحُرُوبِ مِنْ السِّيَرِ الْمَكْذُوبَةِ . وَقَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ فِرْعَوْنَ : { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ

وَالْأُولَى } { إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } وَقَالَ فِي سِيرَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَعْدَائِهِ بِبَدْرِ وَغَيْرِهَا : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي مُحَاصَرَتِهِ لِبَنِي النَّضِيرِ : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } . فَأَمَرَنَا أَنْ نَعْتَبِرَ بِأَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمِمَّنْ قَبْلَهَا مِنْ الْأُمَمِ . وَذَكَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : أَنَّ سُنَّتَهُ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ مُطَّرِدَةٌ وَعَادَتُهُ مُسْتَمِرَّةٌ . فَقَالَ تَعَالَى : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } { مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا } { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } . وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ دَأْبَ الْكَافِرِينَ مِنْ الْمُسْتَأْخِرِينَ كَدَأْبِ الْكَافِرِينَ مِنْ الْمُسْتَقْدِمِينَ .

فَيَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ أَنْ يَعْتَبِرُوا بِسُنَّةِ اللَّهِ وَأَيَّامِهِ فِي عِبَادِهِ . وَدَأْبُ الْأُمَمِ وَعَادَاتُهُمْ لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي طَبَّقَ الْخَافِقَيْنِ خَبَرَهَا وَاسْتَطَارَ فِي جَمِيعِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ شَرَرُهَا وَأَطْلَعَ فِيهَا النِّفَاقُ نَاصِيَةَ رَأْسِهِ وَكَشَّرَ فِيهَا الْكُفْرُ عَنْ أَنْيَابِهِ وَأَضْرَاسِهِ وَكَادَ فِيهِ عَمُودُ الْكِتَابِ أَنْ يَجْتَثَّ وَيَخْتَرِمَ . وَحَبْلُ الْإِيمَانِ أَنْ يَنْقَطِعَ وَيَصْطَلِمَ . وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَحِلَّ بِهَا الْبَوَارُ . وَأَنْ يَزُولَ هَذَا الدِّينُ بِاسْتِيلَاءِ الْفَجَرَةِ التَّتَارِ . وَظَنَّ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا . وَأَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ حِزْبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا ظَنَّ السَّوْءِ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا وَنَزَلَتْ فِتْنَةٌ تَرَكَتْ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ وَأَنْزَلَتْ الرَّجُلَ الصَّاحِيَ مَنْزِلَةَ السَّكْرَانِ وَتَرَكَتْ الرَّجُلَ اللَّبِيبَ لِكَثْرَةِ الْوَسْوَاسِ لَيْسَ بِالنَّائِمِ وَلَا الْيَقِظَانِ وَتَنَاكَرَتْ فِيهَا قُلُوبُ الْمَعَارِفِ وَالْإِخْوَانِ حَتَّى بَقِيَ لِلرَّجُلِ بِنَفْسِهِ شُغْلٌ عَنْ أَنْ يُغِيثَ اللَّهْفَانَ . وَمَيَّزَ اللَّهُ فِيهَا أَهْلَ الْبَصَائِرِ وَالْإِيقَانَ مِنْ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَوْ نِفَاقٌ وَضَعْفُ إيمَانٍ وَرَفَعَ بِهَا أَقْوَامًا إلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ كَمَا خَفَضَ بِهَا أَقْوَامًا إلَى الْمَنَازِلِ الْهَاوِيَةِ وَكَفَّرَ بِهَا عَنْ آخَرِينَ أَعْمَالَهُمْ الْخَاطِئَةَ وَحَدَثَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلْوَى مَا جَعَلَهَا قِيَامَةُ مُخْتَصَرَةً مِنْ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى . فَإِنَّ النَّاسَ تَفَرَّقُوا فِيهَا مَا بَيْنَ شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ كَمَا يَتَفَرَّقُونَ كَذَلِكَ

فِي الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَفَرَّ الرَّجُلُ فِيهَا مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ؛ إذْ كَانَ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ شَأْنٌ يُغْنِيهِ . وَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَقْصَى هِمَّتِهِ النَّجَاةُ بِنَفْسِهِ لَا يَلْوِي عَلَى مَالِهِ وَلَا وَلَدِهِ وَلَا عُرْسِهِ . كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ فِيهِ قُوَّةٌ عَلَى تَخْلِيصِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ . وَآخَر فِيهِ زِيَادَةُ مَعُونَةٍ لِمَنْ هُوَ مِنْهُ بِبَالِ . وَآخَرُ مَنْزِلَتُهُ مَنْزِلَةُ الشَّفِيعِ الْمُطَاعِ . وَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالدِّفَاعِ . وَلَمْ تَنْفَعْ الْمَنْفَعَةُ الْخَالِصَةُ مِنْ الشَّكْوَى إلَّا الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْبِرَّ وَالتَّقْوَى . وَبُلِيَتْ فِيهَا السَّرَائِرُ . وَظَهَرَتْ الْخَبَايَا الَّتِي كَانَتْ تُكِنُّهَا الضَّمَائِرُ . وَتُبَيِّنُ أَنَّ الْبَهْرَجَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ يَخُونُ صَاحِبَهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إلَيْهِ فِي الْمَآلِ . وَذَمَّ سَادَتَهُ وَكُبَرَاءَهُ مَنْ أَطَاعَهُمْ فَأَضَلُّوهُ السَّبِيلَا . كَمَا حَمِدَ رَبَّهُ مِنْ صِدْقٍ فِي إيمَانِهِ فَاِتَّخَذَ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا . وَبَانَ صِدْقُ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ النَّبَوِيَّةُ مِنْ الْأَخْبَارِ بِمَا يَكُونُ . وَوَاطَأَتْهَا قُلُوبُ الَّذِينَ هُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مُحَدِّثُونَ كَمَا تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ الْمُبَشِّرَاتُ الَّتِي أُرِيهَا الْمُؤْمِنُونَ وَتَبَيَّنَ فِيهَا الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الظَّاهِرَةُ عَلَى الدِّينِ الَّذِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . حَيْثُ تَحَزَّبَتْ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَحْزَابٍ : حِزْبٌ مُجْتَهِدٌ فِي نَصْرِ الدِّينِ . وَآخَرُ خَاذِلٌ لَهُ . وَآخَرُ خَارِجٌ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ . وَانْقَسَمَ النَّاسُ مَا بَيْنَ مَأْجُورٍ وَمَعْذُورٍ . وَآخَرُ قَدْ غَرَّهُ بِاَللَّهِ الْغَرُورُ . وَكَانَ هَذَا الِامْتِحَانُ تَمْيِيزًا مِنْ اللَّهِ وَتَقْسِيمًا . { لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ

بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } . وَوَجْهُ الِاعْتِبَارِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْعَظِيمَةِ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَشَرَعَ لَهُ الْجِهَادَ إبَاحَةً لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ إيجَابًا لَهُ ثَانِيًا لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَصَارَ لَهُ فِيهَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ فَغَزَا بِنَفْسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةَ مَقَامِهِ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَهُوَ نَحْوُ عَشْرِ سِنِينَ : بِضْعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً . أَوَّلُهَا غَزْوَةُ بَدْرٍ وَآخِرُهَا غَزْوَةُ تَبُوكَ : أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ مُغَازِيهِ " سُورَةَ الْأَنْفَالِ " وَفِي آخِرِهَا " سُورَةَ بَرَاءَةَ " . وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُصْحَفِ ؛ لِتَشَابُهِ أَوَّلِ الْأَمْرِ وَآخِرِهِ كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْقِرَانِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِالْبَسْمَلَةِ . وَكَانَ الْقِتَالُ مِنْهَا فِي تِسْعِ غَزَوَاتٍ . فَأَوَّلُ غَزَوَاتِ الْقِتَالِ : بَدْرٌ وَآخِرُهَا حنين وَالطَّائِفُ . وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا مَلَائِكَتَهُ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ وَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ يَجْمَعُونَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَوْلِ وَإِنْ تَبَاعَدَ مَا بَيْنَ الْغَزْوَتَيْنِ مَكَانًا وَزَمَانًا ؛ فَإِنَّ بَدْرًا كَانَتْ فِي رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ شَامِيَّ مَكَّةَ وَغَزْوَةُ حنين فِي آخِرِ شَوَّالَ مِنْ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ . وحنين وَادٍ قَرِيبٌ مِنْ الطَّائِفِ شَرْقِيَّ مَكَّةَ . ثُمَّ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

غَنَائِمَهَا بِالْجِعْرَانَةِ وَاعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ . ثُمَّ حَاصَرَ الطَّائِفَ فَلَمْ يُقَاتِلْهُ أَهْلُ الطَّائِفِ زَحْفًا وَصُفُوفًا وَإِنَّمَا قَاتَلُوهُ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ . فَآخِرُ غَزْوَةٍ كَانَ فِيهَا الْقِتَالُ زَحْفًا وَاصْطِفَافًا : هِيَ غَزْوَةُ حنين . وَكَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ أَوَّلَ غَزْوَةٍ ظَهَرَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى صَنَادِيدِ الْكُفَّارِ . وَقَتَلَ اللَّهُ أَشْرَافَهُمْ وَأَسَرَ رُءُوسَهُمْ مَعَ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَضَعْفِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ لَيْسَ مَعَهُمْ إلَّا فَرَسَانِ وَكَانَ يَعْتَقِبُ الِاثْنَانِ وَالَثْلَاثَةُ عَلَى الْبَعِيرِ الْوَاحِدِ . وَكَانَ عَدُوُّهُمْ بِقَدْرِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ فِي قُوَّةٍ وَعِدَّةٍ وَهَيْئَةٍ وَخُيَلَاءَ . فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ غَزَا الْكُفَّارُ الْمَدِينَةَ وَفِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ . فَخَرَجَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي نَحْوٍ مِنْ رُبُعِ الْكُفَّارِ وَتَرَكُوا عِيَالَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ يَنْقُلُوهُمْ إلَيَّ مَوْضِعٍ آخَرَ . وَكَانَتْ أَوَّلًا الْكَرَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ صَارَتْ لِلْكُفَّارِ . فَانْهَزَمَ عَامَّةُ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا نَفَرًا قَلِيلًا حَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ وَمِنْهُمْ مَنْ جُرِحَ . وَحَرَصُوا عَلَى قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَشَجُّوا جَبِينَهُ وَهَشَّمُوا الْبَيْضَةَ عَلَى رَأْسِهِ . وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا شَطْرًا مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ قَوْلِهِ : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } وَقَالَ فِيهَا : { إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ

بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } وَقَالَ فِيهَا : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ فِيهَا : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وَكَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ نَعَقَ فِي النَّاسِ : أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ فَمِنْهُمْ مَنْ تَزَلْزَلَ لِذَلِكَ فَهَرَبَ . وَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ فَقَاتَلَ . فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } . وَكَانَ هَذَا مَثَلَ حَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا انْكَسَرُوا فِي الْعَامِ الْمَاضِي . وَكَانَتْ هَزِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي بِذُنُوبِ ظَاهِرَةٍ وَخَطَايَا وَاضِحَةٍ : مِنْ فَسَادِ النِّيَّاتِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ وَالْبَغْيِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَالرُّومِ وَكَانَ عَدُوُّهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ رَاضِيًا مِنْهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ وَالْمُسَالَمَةِ شَارِعًا فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ .

وَكَانَ مُبْتَدِئًا فِي الْإِيمَانِ وَالْأَمَانِ وَكَانُوا هُمْ قَدْ أَعْرَضُوا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ . فَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْمُؤْمِنِينَ أَنْ ابْتَلَاهُمْ بِمَا ابْتَلَاهُمْ بِهِ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيُنِيبُوا إلَى رَبِّهِمْ وَلِيَظْهَرَ مِنْ عَدُوِّهِمْ مَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ الْبَغْيِ وَالْمَكْرِ وَالنَّكْثِ وَالْخُرُوجِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَيَقُومُ بِهِمْ مَا يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ النَّصْرَ وَبِعَدُوِّهِمْ مَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الِانْتِقَامَ . فَقَدْ كَانَ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ مُقَاتِلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَرَعِيَّتِهِمْ مِنْ الشَّرِّ الْكَبِيرِ مَا لَوْ يَقْتَرِنُ بِهِ ظَفَرٌ بِعَدُوِّهِمْ - الَّذِي هُوَ عَلَى الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ - لَأَوْجَبَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا لَا يُوصَفُ . كَمَا أَنَّ نَصْرَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ رَحْمَةً وَنِعْمَةً وَهَزِيمَتُهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ نِعْمَةً وَرَحْمَةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا . وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدِ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ اللَّهَ كَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ } . فَلَمَّا كَانَتْ حَادِثَةُ الْمُسْلِمِينَ عَامَ أَوَّلٍ شَبِيهَةً بِأُحُدٍ . وَكَانَ بَعْدَ أُحُدٍ بِأَكْثَرِ مِنْ سَنَةٍ - وَقِيلَ بِسَنَتَيْنِ - قَدْ اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ عَامَ الْخَنْدَقِ . كَذَلِكَ فِي هَذَا الْعَامِ اُبْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ بِعَدُوِّهِمْ كَنَحْوِ مَا اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ

مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْخَنْدَقِ وَهِيَ غَزْوَةُ الْأَحْزَابِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا " سُورَةَ الْأَحْزَابِ " وَهِيَ سُورَةٌ تَضَمَّنَتْ ذِكْرَ هَذِهِ الْغُزَاةِ الَّتِي نَصَرَ اللَّهُ فِيهَا عَبْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعَزَّ فِيهَا جُنْدَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ - الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَيْهِ - وَحْدَهُ بِغَيْرِ قِتَالٍ ؛ بَلْ بِثَبَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِإِزَاءِ عَدُوِّهِمْ . ذَكَرَ فِيهَا خَصَائِصَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُقُوقَهُ وَحُرْمَتَهُ وَحُرْمَةَ أَهْلِ بَيْتِهِ لَمَّا كَانَ هُوَ الْقَلْبُ الَّذِي نَصَرَهُ اللَّهُ فِيهَا بِغَيْرِ قِتَالٍ . كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَتِنَا هَذِهِ سَوَاءً . وَظَهَرَ فِيهَا سِرُّ تَأْيِيدِ الدِّينِ كَمَا ظَهَرَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ . وَانْقَسَمَ النَّاسُ فِيهَا كَانْقِسَامِهِمْ عَامَ الْخَنْدَقِ .
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْذُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعَزَّهُ بِالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ صَارَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمًا مُؤْمِنِينَ وَهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا .
وَقِسْمًا كُفَّارًا وَهُمْ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ بِهِ .
وَقِسْمًا مُنَافِقِينَ وَهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا . وَلِهَذَا افْتَتَحَ " سُورَةَ الْبَقَرَةِ " بِأَرْبَعِ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ . وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ . وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ لَهُ دَعَائِمُ وَشُعَبٌ . كَمَا

دَلَّتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَمَا فَسَّرَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ عَنْهُ فِي الْإِيمَانِ وَدَعَائِمِهِ وَشُعَبِهِ . فَمِنْ النِّفَاقِ مَا هُوَ أَكْبَرُ وَيَكُونُ صَاحِبُهُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ ؛ كَنِفَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي وَغَيْرِهِ ؛ بِأَنْ يُظْهِرَ تَكْذِيبَ الرَّسُولِ أَوْ جُحُودَ بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ أَوْ بُغْضَهُ أَوْ عَدَمَ اعْتِقَادِ وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ أَوْ الْمَسَرَّةِ بِانْخِفَاضِ دَيْنِهِ أَوْ الْمُسَاءَةِ بِظُهُورِ دِينِهِ . وَنَحْوِ ذَلِكَ : مِمَّا لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ إلَّا عَدُوًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَهَذَا الْقَدْرُ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا زَالَ بَعْدَهُ ؛ بَلْ هُوَ بَعْدَهُ أَكْثَرُ مِنْهُ عَلَى عَهْدِهِ ؛ لِكَوْنِ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ عَلَى عَهْدِهِ أَقْوَى . فَإِذَا كَانَتْ مَعَ قُوَّتِهَا وَكَانَ النِّفَاقُ مَعَهَا مَوْجُودًا فَوُجُودُهُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ أَوْلَى . وَكَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْلَمُ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ وَلَا يَعْلَمُ بَعْضَهُمْ كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } كَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ وَوَرَثَتُهُ : قَدْ يَعْلَمُونَ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ وَلَا يَعْلَمُونَ بَعْضَهُمْ . وَفِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ عَامَّةِ الطَّوَائِفِ مُنَافِقُونَ كَثِيرُونَ فِي الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ . وَيُسَمَّوْنَ " الزَّنَادِقَةَ " . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ فِي الظَّاهِرِ لِكَوْنِ ذَلِكَ لَا

يُعْلَمُ إذْ هُمْ دَائِمًا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ . وَهَؤُلَاءِ يَكْثُرُونَ فِي الْمُتَفَلْسِفَةِ : مِنْ الْمُنَجِّمِينَ وَنَحْوِهِمْ . ثُمَّ فِي الْأَطِبَّاءِ . ثُمَّ فِي الْكُتَّابِ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ . وَيُوجِدُونَ فِي الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَفِي الْمُقَاتِلَة وَالْأُمَرَاءِ وَفِي الْعَامَّةِ أَيْضًا . وَلَكِنْ يُوجِدُونَ كَثِيرًا فِي نِحَلِ أَهْلِ الْبِدَعِ ؛ لَا سِيَّمَا الرَّافِضَةُ . فَفِيهِمْ مِنْ الزَّنَادِقَةِ وَالْمُنَافِقِينَ مَا لَيْسَ فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النِّحَلِ . وَلِهَذَا كَانَتْ الخرمية وَالْبَاطِنِيَّةُ وَالْقَرَامِطَةُ والْإسْماعيليَّةُ وَالْنُصَيْرِيَّة وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ : مُنْتَسِبَةٍ إلَى الرَّافِضَةِ . وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِكَثِيرِ مِنْهُمْ مَيْلٌ إلَى دَوْلَةِ هَؤُلَاءِ التَّتَارِ ؛ لِكَوْنِهِمْ لَا يُلْزِمُونَهُمْ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ يَتْرُكُونَهُمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ . وَبَعْضُهُمْ إنَّمَا يَنْفِرُونَ عَنْ التَّتَارِ لِفَسَادِ سِيرَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الْأَمْوَالِ وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَى الدِّمَاءِ وَالسَّبْيِ ؛ لَا لِأَجْلِ الدِّينِ . فَهَذَا ضَرْبُ النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ .
وَأَمَّا النِّفَاقُ الْأَصْغَرُ : فَهُوَ النِّفَاقُ فِي الْأَعْمَالِ وَنَحْوِهَا : مِثْلَ أَنْ يَكْذِبَ إذَا حَدَّثَ وَيُخْلِفَ إذَا وَعَدَ وَيَخُونَ إذَا اُؤْتُمِنَ أَوْ يَفْجُرَ إذَا خَاصَمَ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ { وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ . وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ . وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ . وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ : الْإِعْرَاضُ عَنْ الْجِهَادِ . فَإِنَّهُ مِنْ خِصَالِ الْمُنَافِقِينَ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ " سُورَةَ بَرَاءَةَ " الَّتِي تُسَمَّى الْفَاضِحَةَ ؛ لِأَنَّهَا فَضَحَتْ الْمُنَافِقِينَ . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : هِيَ الْفَاضِحَةُ مَا زَالَتْ تَنْزِلُ ( وَمِنْهُمْ ( وَمِنْهُمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إلَّا ذُكِرَ فِيهَا . وَعَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ : هِيَ " سُورَةُ الْبُحُوثِ " لِأَنَّهَا بَحَثَتْ عَنْ سَرَائِرِ الْمُنَافِقِينَ . وَعَنْ قتادة قَالَ : هِيَ الْمُثِيرَةُ ؛ لِأَنَّهَا أَثَارَتْ مَخَازِي الْمُنَافِقِينَ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : هِيَ الْمُبَعْثِرَةُ . وَالْبَعْثَرَةُ وَالْإِثَارَةُ مُتَقَارِبَانِ . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهَا المقشقشة . لِأَنَّهَا تُبْرِئُ مِنْ مَرَضِ النِّفَاقِ . يُقَالُ : تَقَشْقَشَ الْمَرِيضُ إذَا بَرَأَ : قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : وَكَانَ يُقَالُ لِسُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ : المقشقشتان ؛ لِأَنَّهُمَا يُبَرِّئَانِ مِنْ النِّفَاقِ .

وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي آخِرِ مَغَازِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةِ تَبُوكَ عَامَ تِسْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَقَدْ عَزَّ الْإِسْلَامُ وَظَهَرَ . فَكَشَفَ اللَّهُ فِيهَا أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ وَوَصَفَهُمْ فِيهَا بِالْجُبْنِ وَتَرْكِ الْجِهَادِ . وَوَصَفَهُمْ بِالْبُخْلِ عَنْ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالشُّحِّ عَلَى الْمَالِ . وَهَذَانِ دَاءَانِ عَظِيمَانِ : الْجُبْنُ وَالْبُخْلُ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ } حَدِيثٌ صَحِيحٌ ؛ وَلِهَذَا قَدْ يَكُونَانِ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ تَعَالَى . { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . وَأَمَّا وَصْفُهُمْ بِالْجُبْنِ وَالْفَزَعِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ وَإِنْ حَلَفُوا إنَّهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا هُمْ مِنْهُمْ ؛ وَلَكِنْ يَفْزَعُونَ مِنْ الْعَدُوِّ . فـ { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً } يَلْجَئُونَ إلَيْهِ مِنْ الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ الَّتِي يَفِرُّ إلَيْهَا مَنْ يَتْرُكُ الْجِهَادَ أَوْ ( مَغَارَاتٍ وَهِيَ جَمْعُ مَغَارَةٍ . وَمَغَارَاتٌ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الدَّاخِلَ يَغُورُ فِيهَا أَيْ يَسْتَتِرُ ؛ كَمَا يَغُورُ الْمَاءُ . أَوْ مُدَّخَلًا

وَهُوَ الَّذِي يَتَكَلَّفُ الدُّخُولَ إلَيْهِ إمَّا لِضِيقِ بَابِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ . أَيْ مَكَانًا يَدْخُلُونَ إلَيْهِ . وَلَوْ كَانَ الدُّخُولُ بِكُلْفَةِ وَمَشَقَّةٍ ( لَوَلَّوْا عَنْ الْجِهَادِ { إلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } أَيْ يُسْرِعُونَ إسْرَاعًا لَا يَرُدُّهُمْ شَيْءٌ كَالْفَرَسِ الْجَمُوحِ الَّذِي إذَا حَمَلَ لَا يَرُدُّهُ اللِّجَامُ . وَهَذَا وَصْفٌ مُنْطَبِقٌ عَلَى أَقْوَامٍ كَثِيرِينَ فِي حَادِثَتِنَا وَفِيمَا قَبْلَهَا مِنْ الْحَوَادِثِ وَبَعْدَهَا . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي " سُورَةِ مُحَمَّدٍ " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ } أَيْ فَبُعْدًا لَهُمْ { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى . { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } فَحَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ آمَنَ وَجَاهَدَ . وَقَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } { إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } . فَهَذَا إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَسْتَأْذِنُ الرَّسُولَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ؛ وَإِنَّمَا يَسْتَأْذِنُهُ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ فَكَيْفَ بِالتَّارِكِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَجَدَ نَظَائِرَ هَذَا مُتَضَافِرَةً عَلَى هَذَا الْمَعْنَى .

وَقَالَ فِي وَصْفِهِمْ بِالشُّحِّ : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } . فَهَذِهِ حَالُ مَنْ أَنْفَقَ كَارِهًا فَكَيْفَ بِمَنْ تَرَكَ النَّفَقَةَ رَأْسًا وَقَالَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } وَقَالَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } . وَقَالَ فِي السُّورَةِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } . فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَالَ مَنْ أَخَذَ الْمَالَ بِغَيْرِ حَقِّهِ أَوْ مَنَعَهُ مِنْ مُسْتَحَقِّهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ ؛ فَإِنَّ الْأَحْبَارَ هُمْ الْعُلَمَاءُ وَالرُّهْبَانُ هُمْ الْعِبَادُ . وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ - أَيْ يُعْرِضُونَ وَيَمْنَعُونَ . يُقَالُ : صَدَّ عَنْ الْحَقِّ صُدُودًا وَصَدَّ غَيْرَهُ صَدًّا . وَهَذَا يَنْدَرِجُ فِيهِ مَا يُؤْكَلُ بِالْبَاطِلِ : مِنْ وَقْفٍ أَوْ عَطِيَّةٍ عَلَى

الدِّينِ كَالصَّلَاةِ وَالنُّذُورِ الَّتِي تُنْذِرُ لِأَهْلِ الدِّينِ وَمِنْ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ كَأَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا فِيمَنْ يَأْكُلُ الْمَالَ بِالْبَاطِلِ بِشُبْهَةِ دِينٍ . ثُمَّ قَالَ : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَهَذَا يَنْدَرِجُ فِيهِ مَنْ كَنَزَ الْمَالَ عَنْ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَالْجِهَادُ أَحَقُّ الْأَعْمَالِ بِاسْمِ سَبِيلِ اللَّهِ سَوَاءٌ كَانَ مَلِكًا أَوْ مُقَدَّمًا أَوْ غَنِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . وَإِذَا دَخَلَ فِي هَذَا مَا كُنِزَ مِنْ الْمَالِ الْمَوْرُوثِ وَالْمَكْسُوبِ فَمَا كُنِزَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا عُمُومُ الْأُمَّةِ - وَمُسْتَحَقُّهَا : مَصَالِحُهُمْ - أَوْلَى وَأَحْرَى .
فَصْلٌ :
فَإِذَا تَبَيَّنَ بَعْضُ مَعْنَى الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ . فَإِذَا قَرَأَ الْإِنْسَانُ " سُورَةَ الْأَحْزَابِ " وَعَرَفَ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْمَغَازِي : كَيْفَ كَانَتْ صِفَةُ الْوَاقِعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ ثُمَّ اعْتَبَرَ هَذِهِ الْحَادِثَةَ بِتِلْكَ : وُجِدَ مِصْدَاقُ مَا ذَكَرْنَا . وَأَنَّ النَّاسَ انْقَسَمُوا فِي هَذِهِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ إلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ . كَمَا انْقَسَمُوا فِي تِلْكَ . وَتَبَيَّنَ لَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ .

افْتَتَحَ اللَّهُ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا قَوْلَهُ : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا } { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } ثُمَّ قَالَ : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } . فَأَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ مَا أَوْحَى إلَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ - الَّتِي هِيَ سُنَّتُهُ - وَبِأَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ . فَبِالْأَوْلَى يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ } . وَبِالثَّانِيَةِ يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلُهُ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } . وهذا وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي جَمِيعِ الدِّينِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ أَوْكَدُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ؛ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِتَأْيِيدِ قَوِيٍّ مِنْ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ سَنَامَ الْعَمَلِ وَانْتَظَمَ سَنَامُ جَمِيعِ الْأَحْوَالِ الشَّرِيفَةِ . فَفِيهِ سَنَامُ الْمَحَبَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } . وَفِيهِ سَنَامُ التَّوَكُّلِ وَسَنَامُ الصَّبْرِ ؛ فَإِنَّ الْمُجَاهِدَ أَحْوَجُ النَّاسِ إلَى الصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى

رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وَقَالَ { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } . وَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ وَالْيَقِينُ - اللَّذَيْنِ هَمَّا أَصْلُ التَّوَكُّلِ - يُوجِبَانِ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } . وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ مُوجِبًا لِلْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ مُحِيطَةٌ بِأَبْوَابِ الْعِلْمِ . كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } فَجَعَلَ لِمَنْ جَاهَدَ فِيهِ هِدَايَةَ جَمِيعِ سُبُلِهِ تَعَالَى ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا : إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ فَانْظُرُوا مَاذَا عَلَيْهِ أَهْلُ الثَّغْرُ فَإِنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } . وَفِي الْجِهَادِ أَيْضًا : حَقِيقَةُ الزُّهْدِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الدَّارِ الدُّنْيَا . وَفِيهِ أَيْضًا : حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ . فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا فِي سَبِيلِ الرِّيَاسَةِ وَلَا فِي سَبِيلِ الْمَالِ وَلَا فِي سَبِيلِ الْحَمِيَّةِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ قَاتَلَ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا . وَأَعْظَمُ مَرَاتِبِ الْإِخْلَاصِ : تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَالْمَالِ لِلْمَعْبُودِ كَمَا قَالَ

تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } . وَ ( الْجَنَّةُ اسْمٌ لِلدَّارِ الَّتِي حَوَتْ كُلَّ نَعِيمٍ ) . أَعْلَاهُ النَّظَرُ إلَى اللَّهِ إلَى مَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ مِمَّا قَدْ نَعْرِفُهُ وَقَدْ لَا نَعْرِفُهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } . فَقَدْ تَبَيَّنَ بَعْضُ أَسْبَابِ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ بِهَذَا . ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } . كَانَ مُخْتَصَرُ الْقِصَّةِ : أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَحَزَّبَ عَلَيْهِمْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَوْلَهُمْ وَجَاءُوا بِجُمُوعِهِمْ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَسْتَأْصِلُوا الْمُؤْمِنِينَ . فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ وَحُلَفَاؤُهَا مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَأَشْجَعَ وَفَزَارَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قَبَائِلِ نَجْدٍ . وَاجْتَمَعَتْ أَيْضًا الْيَهُودُ : مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ . فَإِنَّ بَنِي النَّضِيرِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجْلَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْحَشْرِ " . فَجَاءُوا فِي الْأَحْزَابِ إلَى قُرَيْظَةَ وَهْم مُعَاهِدُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُجَاوِرُونَ لَهُ قَرِيبًا مِنْ

الْمَدِينَةِ - فَلَمْ يَزَالُوا بِهِمْ حَتَّى نَقَضَتْ قُرَيْظَةُ الْعَهْدَ وَدَخَلُوا فِي الْأَحْزَابِ . فَاجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَحْزَابُ الْعَظِيمَةُ وَهُمْ بِقَدْرِ الْمُسْلِمِينَ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ . فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي آطَامِّ الْمَدِينَةِ وَهِيَ مِثْلُ الجواسق وَلَمْ يَنْقُلْهُمْ إلَى مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَجَعَلَ ظَهْرَهُمْ إلَى سَلْعٍ - وَهُوَ الْجَبَلُ الْقَرِيبُ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ وَالشَّامِ - وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ خَنْدَقًا . وَالْعَدُوُّ قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ الْعَالِيَةِ وَالسَّافِلَةِ . وَكَانَ عَدُوًّا شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَتْ نِكَايَتُهُ فِيهِمْ أَعْظَمَ النِّكَايَاتِ . وَفِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ تَحَزَّبَ هَذَا الْعَدُوُّ مِنْ مَغُولٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ التُّرْكِ وَمِنْ فُرْسٍ وَمُسْتَعْرِبَةٍ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَجْنَاسِ الْمُرْتَدَّةِ وَمِنْ نَصَارَى الْأَرْمَنِ وَغَيْرِهِمْ . وَنَزَلَ هَذَا الْعَدُوُّ بِجَانِبِ دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ بَيْنَ الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ مَعَ قِلَّةِ مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَمَقْصُودُهُمْ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الدَّارِ وَاصْطِلَامُ أَهْلِهَا . كَمَا نَزَلَ أُولَئِكَ بِنُوَاحِي الْمَدِينَةِ بِإِزَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَدَامَ الْحِصَارُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَامَ الْخَنْدَقِ - عَلَى مَا قِيلَ - بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً . وَقِيلَ : عِشْرِينَ لَيْلَةً . وَهَذَا الْعَدُوُّ عَبَرَ الْفُرَاتَ سَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَكَانَ أَوَّلُ

انْصِرَافِهِ رَاجِعًا عَنْ حَلَبَ لَمَّا رَجَعَ مُقَدِّمُهُمْ الْكَبِيرُ قازان بِمَنْ مَعَهُ : يَوْمَ الِاثْنَيْنِ حَادِي أَوْ ثَانِي عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى يَوْمَ دَخَلَ الْعَسْكَرُ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ إلَى مِصْرَ الْمَحْرُوسَةِ . وَاجْتَمَعَ بِهِمْ الدَّاعِي وَخَاطَبَهُمْ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ . وَكَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَلْقَى مِنْ الِاهْتِمَامِ وَالْعَزْمِ : أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِ عَدُوِّهِمْ الرَّوْعَ وَالِانْصِرَافَ . وَكَانَ عَامَ الْخَنْدَقِ بَرْدٌ شَدِيدٌ وَرِيحٌ شَدِيدَةٌ مُنْكِرَةٌ بِهَا صَرَفَ اللَّهُ الْأَحْزَابَ عَنْ الْمَدِينَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } . وَهَكَذَا هَذَا الْعَامُ أَكْثَرَ اللَّهُ فِيهِ الثَّلْجَ وَالْمَطَرَ وَالْبَرْدَ عَلَى خِلَافِ أَكْثَرِ الْعَادَاتِ . حَتَّى كَرِهَ أَكْثَرُ النَّاسِ ذَلِكَ . وَكُنَّا نَقُولُ لَهُمْ : لَا تَكْرَهُوا ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ لِلَّهِ فِيهِ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ . وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي صَرَفَ اللَّهُ بِهِ الْعَدُوَّ ؛ فَإِنَّهُ كَثُرَ عَلَيْهِمْ الثَّلْجُ وَالْمَطَرُ وَالْبَرْدُ حَتَّى هَلَكَ مِنْ خَيْلِهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ . وَهَلَكَ أَيْضًا مِنْهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ . وَظَهَرَ فِيهِمْ وَفِي بَقِيَّةِ خَيْلِهِمْ مِنْ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ بِسَبَبِ الْبَرْدِ وَالْجُوعِ مَا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ مَعَهُ بِقِتَالِ . حَتَّى بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ كِبَارِ الْمُقْدِمِينَ فِي أَرْضِ الشَّامِ أَنَّهُ قَالَ : لَا بَيَّضَ اللَّهُ وُجُوهَنَا : أَعَدَوْنَا فِي الثَّلْجِ إلَى شَعَرِهِ وَنَحْنُ قُعُودٌ لَا نَأْخُذُهُمْ ؟ وَحَتَّى عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا صَيْدًا لِلْمُسْلِمِينَ لَوْ يَصْطَادُونَهُمْ ؛ لَكِنْ فِي تَأْخِيرِ اللَّهِ اصْطِيَادَهُمْ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ .

وَقَالَ اللَّهُ فِي شَأْنِ الْأَحْزَابِ : { إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } . وَهَكَذَا هَذَا الْعَامُ . جَاءَ الْعَدُوُّ مِنْ نَاحِيَتِي عُلُوِّ الشَّامِ وَهُوَ شَمَالُ الْفُرَاتِ . وَهُوَ قِبْلِيِّ الْفُرَاتِ . فَزَاغَتْ الْأَبْصَارُ زَيْغًا عَظِيمًا وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ؛ لِعَظْمِ الْبَلَاءِ ؛ لَا سِيَّمَا لَمَّا اسْتَفَاضَ الْخَبَرُ بِانْصِرَافِ الْعَسْكَرِ إلَى مِصْرَ وَتَقَرَّبَ الْعَدُوُّ وَتَوَجَّهَهُ إلَى دِمَشْقَ . وَظَنَّ النَّاسُ بِاَللَّهِ الظَّنُونَا . هَذَا يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَقِفُ قُدَّامَهُمْ أَحَدٌ مِنْ جُنْدِ الشَّامِ حَتَّى يصطلموا أَهْلَ الشَّامِ . وَهَذَا يَظُنُّ أَنَّهُمْ لَوْ وَقَفُوا لَكَسَرُوهُمْ كَسْرَةً وَأَحَاطُوا بِهِمْ إحَاطَةَ الْهَالَةِ بِالْقَمَرِ . وَهَذَا يَظُنُّ أَنَّ أَرْضَ الشَّامِ مَا بَقِيَتْ تُسْكَنُ وَلَا بَقِيَتْ تَكُونُ تَحْتَ مَمْلَكَةِ الْإِسْلَامِ . وَهَذَا يَظُنُّ إنَّهُمْ يَأْخُذُونَهَا ثُمَّ يَذْهَبُونَ إلَى مِصْرَ فَيَسْتَوْلُونَ عَلَيْهَا فَلَا يَقِفُ قُدَّامَهُمْ أَحَدٌ فَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالْفِرَارِ إلَى الْيَمَنِ وَنَحْوِهَا . وَهَذَا - إذَا أَحْسَنَ ظَنَّهُ - قَالَ : إنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا الْعَامَ كَمَا مَلَكُوهَا عَامَ هُولَاكُو سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ . ثُمَّ قَدْ يَخْرُجُ الْعَسْكَرُ مِنْ مِصْرَ فَيَسْتَنْقِذُهَا مِنْهُمْ كَمَا خَرَجَ ذَلِكَ الْعَامَ . وَهَذَا ظَنُّ خِيَارِهِمْ . وَهَذَا يَظُنُّ أَنَّ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ أَهْلُ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَأَهْلُ التَّحْدِيثِ وَالْمُبَشِّرَاتُ أَمَانِي كَاذِبَةٌ وَخُرَافَاتٌ لَاغِيَةٌ . وَهَذَا قَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الرُّعْبُ وَالْفَزَعُ حَتَّى يَمُرَّ الظَّنُّ بِفُؤَادِهِ مَرَّ السَّحَابِ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ

يَتَفَهَّمُ وَلَا لِسَانٌ يَتَكَلَّمُ . وَهَذَا قَدْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَمَارَاتُ وَتَقَابَلَتْ عِنْدَهُ الْإِرَادَاتُ ؛ لَا سِيَّمَا وَهُوَ لَا يُفَرِّقُ مِنْ الْمُبَشِّرَاتِ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ . وَلَا يُمَيِّزُ فِي التَّحْدِيثِ بَيْنَ الْمُخْطِئِ وَالصَّائِبِ . وَلَا يَعْرِفُ النُّصُوصَ الْأَثَرِيَّةَ مَعْرِفَةَ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهَا وَقَدْ سَمِعَهَا سَمَاعَ الْعِبَرِ ثُمَّ قَدْ لَا يَتَفَطَّنُ لِوُجُوهِ دَلَالَتِهَا الْخَفِيَّةِ وَلَا يَهْتَدِي لِدَفْعِ مَا يَتَخَيَّلُ أَنَّهُ مُعَارِضٌ لَهَا فِي بَادِئِ الرَّوِيَّةِ . فَلِذَلِكَ اسْتَوْلَتْ الْحِيرَةُ عَلَى مَنْ كَانَ مُتَّسِمًا بِالِاهْتِدَاءِ وَتَرَاجَمَتْ بِهِ الْآرَاءُ تَرَاجِمَ الصِّبْيَانِ بِالْحَصْبَاءِ . { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } . ابْتَلَاهُمْ اللَّهُ بِهَذَا الِابْتِلَاءِ الَّذِي يُكَفِّرُ بِهِ خَطِيئَاتِهِمْ وَيَرْفَعُ بِهِ دَرَجَاتِهِمْ وَزُلْزِلُوا بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الرَّجَفَاتِ مَا اسْتَوْجَبُوا بِهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا } . وَهَكَذَا قَالُوا فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ فِيمَا وَعَدَهُمْ أَهْلُ الْوِرَاثَةِ النَّبَوِيَّةِ وَالْخِلَافَةُ الرسالية وَحِزْبُ اللَّهِ الْمُحَدِّثُونَ عَنْهُ . حَتَّى حَصَلَ لِهَؤُلَاءِ التَّأَسِّي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } . فَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ مَضَى التَّنْبِيهُ عَلَيْهِمْ .

وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ . فَذَكَرُوا هُنَا وَفِي قَوْلِهِ : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } وَفِي قَوْلِهِ : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } . وَذَكَرَ اللَّهُ مَرَضَ الْقَلْبِ فِي مَوَاضِعَ . فَقَالَ تَعَالَى : { إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ } . وَالْمَرَضُ فِي الْقَلْبِ كَالْمَرَضِ فِي الْجَسَدِ فَكَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ إحَالَةٌ عَنْ الصِّحَّةِ وَالِاعْتِدَالِ مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ فَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ مَرَضٌ يُحِيلُهُ عَنْ الصِّحَّةِ وَالِاعْتِدَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمُوتَ الْقَلْبُ سَوَاءٌ أَفْسَدَ إحْسَاسَ الْقَلْبِ وَإِدْرَاكَهُ أَوْ أَفَسَدَ عَمَلَهُ وَحَرَكَتَهُ . وَذَلِكَ - كَمَا فَسَّرُوهُ - : هُوَ مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ ؛ إمَّا بِضَعْفِ عِلْمِ الْقَلْبِ وَاعْتِقَادِهِ وَإِمَّا بِضَعْفِ عَمَلِهِ وَحَرَكَتِهِ . فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ ضَعُفَ تَصْدِيقُهُ وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْجُبْنُ وَالْفَزَعُ ؛ فَإِنَّ أَدْوَاءَ الْقَلْبِ مِنْ الشَّهْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْحَسَدِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّهَا أَمْرَاضٌ . وَكَذَلِكَ الْجَهْلُ وَالشُّكُوكُ وَالشُّبُهَاتُ الَّتِي فِيهِ . وَعَلَى هَذَا فَقَوْلٌ : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } هُوَ إرَادَةُ الْفُجُورِ وَشَهْوَةُ الزِّنَا كَمَا فَسَّرُوهُ بِهِ . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

{ وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ } . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى كِتَابَهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ } . وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَدْوَاءِ } . وَلَنْ يَخَافَ الرَّجُلُ غَيْرَ اللَّهِ إلَّا لِمَرَضِ فِي قَلْبِهِ كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ خَوْفَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُلَاةِ فَقَالَ : لَوْ صَحَحْت لَمْ تَخَفْ أَحَدًا . أَيْ خَوْفُك مِنْ أَجْلِ زَوَالِ الصِّحَّةِ مِنْ قَلْبِك . وَلِهَذَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ لَا يَخَافُوا حِزْبَ الشَّيْطَانِ ؛ بَلْ لَا يَخَافُونَ غَيْرَهُ تَعَالَى فَقَالَ : { إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أَيْ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ . وَقَالَ لِعُمُومِ بَنِي إسْرَائِيلَ تَنْبِيهًا لَنَا : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } . وَقَالَ : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } وَقَالَ : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } وَقَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } . وَقَالَ : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ } وَقَالَ : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ

اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ } وَقَالَ : { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ } . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ - وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } - عَلَى أَنَّ الْمَرَضَ وَالنِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ يُوجِبُ الرَّيْبَ فِي الْأَنْبَاءِ الصَّادِقَةِ الَّتِي تُوجِبُ أَمْنَ الْإِنْسَانِ : مِنْ الْخَوْفِ حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهَا كَانَتْ غُرُورًا لَهُمْ كَمَا وَقَعَ فِي حَادِثَتِنَا هَذِهِ سَوَاءٌ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَسْكَرَ بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَ سَلْعٍ وَجَعَلَ الْخَنْدَقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : لَا مُقَامَ لَكُمْ هُنَا ؛ لِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ . فَارْجِعُوا إلَى الْمَدِينَةِ . وَقِيلَ : لَا مُقَامَ لَكُمْ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ فَارْجِعُوا إلَى دِينِ الشِّرْكِ . وَقِيلَ : لَا مُقَامَ لَكُمْ عَلَى الْقِتَالِ فَارْجِعُوا إلَى الِاسْتِئْمَانِ وَالِاسْتِجَارَةِ بِهِمْ . وَهَكَذَا لَمَّا قَدِمَ هَذَا الْعَدُوُّ كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ قَالَ : مَا بَقِيَتْ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَقُومُ فَيَنْبَغِي الدُّخُولُ فِي دَوْلَةِ التَّتَارِ . وَقَالَ بَعْضُ الْخَاصَّةِ : مَا بَقِيَتْ أَرْضُ الشَّامِ تُسْكَنُ ؛ بَلْ نَنْتَقِلُ عَنْهَا إمَّا إلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَإِمَّا إلَى مِصْرَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ الْمَصْلَحَةُ الِاسْتِسْلَامُ لِهَؤُلَاءِ كَمَا قَدْ

اسْتَسْلَمَ لَهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَالدُّخُولُ تَحْتَ حُكْمِهِمْ . فَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ الثَّلَاثُ قَدْ قِيلَتْ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ . كَمَا قِيلَتْ فِي تِلْكَ . وَهَكَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لِأَهْلِ دِمَشْقَ خَاصَّةً وَالشَّامِ عَامَّةً : لَا مُقَامَ لَكُمْ بِهَذِهِ الْأَرْضِ . وَنَفْيُ الْمُقَامِ بِهَا أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْمُقَامِ . وَإِنْ كَانَتْ قَدْ قُرِئَتْ بِالضَّمِّ أَيْضًا . فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَقُومَ بِالْمَكَانِ فَكَيْفَ يُقِيمُ بِهِ ؟ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إنْ يُرِيدُونَ إلَّا فِرَارًا } . وَكَانَ قَوْمٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْمُومِينَ يَقُولُونَ - وَالنَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ سَلْعٍ دَاخِلُ الْخَنْدَقِ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فِي آطَامِّ الْمَدِينَةِ - : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ . أَيْ مَكْشُوفَةٌ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَدُوِّ حَائِلٌ . - وَأَصْلُ الْعَوْرَةِ : الْخَالِي الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى حِفْظٍ وَسِتْرٍ . يُقَالُ : اعْوَرَّ مَجْلِسُك إذَا ذَهَبَ سِتْرُهُ أَوْ سَقَطَ جِدَارُهُ . وَمِنْهُ عَوْرَةُ الْعَدُوِّ - . وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحُسْنُ : أَيْ ضَائِعَةٌ تُخْشَى عَلَيْهَا السُّرَّاقُ . وَقَالَ قتادة : قَالُوا : بُيُوتُنَا مِمَّا يَلِي الْعَدُوَّ فَلَا نَأْمَنُ عَلَى أَهْلِنَا فائذن لَنَا أَنْ

نَذْهَبَ إلَيْهَا لِحِفْظِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } لِأَنَّ اللَّهَ يَحْفَظُهَا { إنْ يُرِيدُونَ إلَّا فِرَارًا } فَهُمْ يَقْصِدُونَ الْفِرَارَ مِنْ الْجِهَادِ وَيَحْتَجُّونَ بِحُجَّةِ الْعَائِلَةِ . وَهَكَذَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْغُزَاةِ . صَارُوا يَفِرُّونَ مِنْ الثَّغْرِ إلَى الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ وَإِلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ كَمِصْرِ . وَيَقُولُونَ : مَا مَقْصُودُنَا إلَّا حِفْظَ الْعِيَالِ وَمَا يُمْكِنُ إرْسَالُهُمْ مَعَ غَيْرِنَا . وَهُمْ يَكْذِبُونَ فِي ذَلِكَ . فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ جَعْلُهُمْ فِي حِصْنِ دِمَشْقَ لَوْ دَنَا الْعَدُوُّ . كَمَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ إرْسَالُهُمْ وَالْمُقَامُ لِلْجِهَادِ . فَكَيْفَ بِمَنْ فَرَّ بَعْدَ إرْسَالِ عِيَالِهِ ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلَّا يَسِيرًا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ الْمَدِينَةُ مِنْ جَوَانِبِهَا ثُمَّ طَلَبَتْ مِنْهُمْ الْفِتْنَةَ - وَهِيَ الِافْتِتَانُ عَنْ الدِّينِ بِالْكُفْرِ أَوْ النِّفَاقِ - لَأُعْطُوا الْفِتْنَةَ . وَلَجَئُوهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ . وَهَذِهِ حَالُ أَقْوَامٍ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْعَدُوُّ الْمُنَافِقُ الْمُجْرِمُ . ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُمْ مُوَافَقَتَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ - وَتِلْكَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ - لَكَانُوا مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ . كَمَا سَاعَدَهُمْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي أَقْوَامٌ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا بَيْنَ تَرْكِ وَاجِبَاتٍ وَفِعْلِ مُحَرَّمَاتٍ إمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ وَإِمَّا فِي حَقِّ الْعِبَادِ . كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَشُرْبِ

الْخُمُورِ وَسَبِّ السَّلَفِ وَسَبِّ جُنُودِ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّجَسُّسِ لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَدَلَّالَتِهِمْ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَحَرِيمِهِمْ . وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَتَعْذِيبِهِمْ وَتَقْوِيَةِ دَوْلَتِهِمْ الْمَلْعُونَةِ وَإِرْجَافِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِتْنَةِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا } وَهَذِهِ حَالُ أَقْوَامٍ عَاهَدُوا ثُمَّ نَكَثُوا قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ . فَإِنَّ فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَفِي هَذَا الْعَامِ : فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانَ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ مَنْ عَاهَدَ عَلَى أَنْ يُقَاتِلَ وَلَا يَفِرَّ ثُمَّ فَرَّ مُنْهَزِمًا لَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ . ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إلَّا قَلِيلًا } فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْفِرَارَ لَا يَنْفَعُ لَا مِنْ الْمَوْتِ وَلَا مِنْ الْقَتْلِ . فَالْفِرَارُ مِنْ الْمَوْتِ كَالْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ . وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا وَقَعَ بِأَرْضِ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ } وَالْفِرَارُ مِنْ الْقَتْلِ كَالْفِرَارِ مِنْ الْجِهَادِ . وَحَرْفُ " لَنْ " يَنْفِي الْفِعْلَ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ . وَالْفِعْلُ نَكِرَةٌ . وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِهَا . فَاقْتَضَى ذَلِكَ : أَنَّ الْفِرَارَ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَبَدًا . وَهَذَا خَبَرُ اللَّهِ الصَّادِقِ . فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ فَقَدْ كَذَبَ اللَّهَ فِي خَبَرِهِ .

وَالتَّجْرِبَةُ تَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَرُّوا فِي هَذَا الْعَامِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ فِرَارُهُمْ ؛ بَلْ خَسِرُوا الدِّينَ وَالدُّنْيَا وَتَفَاوَتُوا فِي الْمَصَائِبِ . وَالْمُرَابِطُونَ الثَّابِتُونَ نَفَعَهُمْ ذَلِكَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا حَتَّى الْمَوْتُ الَّذِي فَرُّوا مِنْهُ كَثُرَ فِيهِمْ . وَقَلَّ فِي الْمُقِيمِينَ . فَمَا مَنَعَ الْهَرَبُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ . وَالطَّالِبُونَ لِلْعَدُوِّ وَالْمُعَاقِبُونَ لَهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَا قُتِلَ ؛ بَلْ الْمَوْتُ قَلَّ فِي الْبَلَدِ مِنْ حِينِ خَرَجَ الْفَارُّونَ . وَهَكَذَا سُنَّةُ اللَّهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إلَّا قَلِيلًا } يَقُولُ : لَوْ كَانَ الْفِرَارُ يَنْفَعُكُمْ لَمْ يَنْفَعْكُمْ إلَّا حَيَاةً قَلِيلَةً ثُمَّ تَمُوتُونَ . فَإِنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْحَمْقَى أَنَّهُ قَالَ : فَنَحْنُ نُرِيدُ ذَلِكَ الْقَلِيلَ . وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُ بِمَعْنَى الْآيَةِ . فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ : إنَّهُمْ يُمَتَّعُونَ بِالْفِرَارِ قَلِيلًا . لَكِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَبَدًا . ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابًا ثَانِيًا . أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَنْفَعُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا مَتَاعٌ قَلِيلٌ . ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّ الْفَارَّ يَأْتِيهِ مَا قُضِيَ لَهُ مِنْ الْمَضَرَّةِ وَيَأْتِي الثَّابِتُ مَا قُضِيَ لَهُ مِنْ الْمَسَرَّةِ . فَقَالَ : { قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } . وَنَظِيرُهُ : قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ آيَاتِ الْجِهَادِ : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } الْآيَةَ وَقَوْلُهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . فَمَضْمُونُ الْأَمْرِ : أَنَّ الْمَنَايَا مَحْتُومَةٌ فَكَمْ مَنْ حَضَرَ الصُّفُوفَ فَسَلَّمَ وَكَمْ مِمَّنْ فَرَّ مِنْ الْمَنِيَّةِ فَصَادَفَتْهُ كَمَا قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - لَمَّا اُحْتُضِرَ - لَقَدْ حَضَرْت كَذَا وَكَذَا صَفًّا وَأَنَّ بِبَدَنِي بِضْعًا وَثَمَانِينَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِسَيْفِ وَطَعْنَةٍ بِرُمْحِ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمِ . وهأنذا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي كَمَا يَمُوتُ الْبَعِيرُ . فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا } . قَالَ الْعُلَمَاءُ : كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَرْجِعُ مِنْ الْخَنْدَقِ فَيَدْخُلُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا جَاءَهُمْ أَحَدٌ قَالُوا لَهُ : وَيْحَك اجْلِسْ فَلَا تَخْرُجْ . وَيَكْتُبُونَ بِذَلِكَ إلَى إخْوَانِهِمْ الَّذِينَ بِالْعَسْكَرِ : أَنْ ائْتُونَا بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّا نَنْتَظِرُكُمْ . يُثَبِّطُونَهُمْ عَنْ الْقِتَالِ . وَكَانُوا لَا يَأْتُونَ الْعَسْكَرَ إلَّا أَلَّا يَجِدُوا بُدًّا . فَيَأْتُونَ الْعَسْكَرَ لِيَرَى النَّاسُ وُجُوهَهُمْ . فَإِذَا غَفَلَ عَنْهُمْ عَادُوا إلَى الْمَدِينَةِ . فَانْصَرَفَ بَعْضُهُمْ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَعِنْدَهُ شِوَاءٌ وَنَبِيذٌ . فَقَالَ : أَنْتَ هَهُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ ؟ فَقَالَ : هَلُمَّ إلَيَّ فَقَدْ أُحِيطَ بِك وَبِصَاحِبِك .

فَوَصَفَ الْمُثَبِّطِينَ عَنْ الْجِهَادِ - وَهُمْ صِنْفَانِ - بِأَنَّهُمْ إمَّا أَنْ يَكُونُوا فِي بَلَدِ الْغُزَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهِ فَإِنْ كَانُوا فِيهِ عَوَّقُوهُمْ عَنْ الْجِهَادِ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْعَمَلِ أَوْ بِهِمَا . وَإِنْ كَانُوا فِي غَيْرِهِ رَاسَلُوهُمْ أَوْ كَاتَبُوهُمْ : بِأَنْ يَخْرُجُوا إلَيْهِمْ مِنْ بَلَدِ الْغُزَاةِ لِيَكُونُوا مَعَهُمْ بِالْحُصُونِ أَوْ بِالْبُعْدِ . كَمَا جَرَى فِي هَذِهِ الْغُزَاةِ . فَإِنَّ أَقْوَامًا فِي الْعَسْكَرِ وَالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمَا صَارُوا يُعَوِّقُونَ مَنْ أَرَادَ الْغَزْوَ وَأَقْوَامًا بُعِثُوا مِنْ الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ وَغَيْرِهَا إلَى إخْوَانِهِمْ : هَلُمَّ إلَيْنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أَيّ بُخَلَاءَ عَلَيْكُمْ بِالْقِتَالِ مَعَكُمْ وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : بُخَلَاءُ عَلَيْكُمْ بِالْخَيْرِ وَالظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ . وَهَذِهِ حَالُ مَنْ بَخِلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ أَوْ شَحَّ عَلَيْهِمْ بِفَضْلِ اللَّهِ : مِنْ نَصْرِهِ وَرِزْقِهِ الَّذِي يُجْرِيهِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ . فَإِنَّ أَقْوَامًا يَشُحُّونَ بِمَعْرُوفِهِمْ وَأَقْوَامًا يَشُحُّونَ بِمَعْرُوفِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ . وَهُمْ الْحُسَّادُ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ يُشْبِهُونَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَقْتَ النَّزْعِ . فَإِنَّهُ يَخَافُ وَيُذْهِلُ عَقْلَهُ وَيَشْخَصُ بَصَرُهُ وَلَا يَطْرِفُ . فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ الْقَتْلَ . { فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } وَيُقَالُ فِي اللُّغَةِ

" صَلَقُوكُمْ " وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْكَلَامِ الْمُؤْذِي . وَمِنْهُ " الصَّالِقَةُ " وَهِيَ الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالْمُصِيبَةِ . يُقَالُ : صَلَقَهُ وَسَلَقَهُ - وَقَدْ قَرَأَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ بِهَا ؛ لَكِنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ الْمُصْحَفِ - إذَا خَاطَبَهُ خِطَابًا شَدِيدًا قَوِيًّا . وَيُقَالُ : خَطِيبٌ مِسْلَاقٌ : إذَا كَانَ بَلِيغًا فِي خُطْبَتِهِ ؛ لَكِنَّ الشِّدَّةَ هُنَا فِي الشَّرِّ لَا فِي الْخَيْرِ . كَمَا قَالَ { بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } وَهَذَا السَّلْقُ بِالْأَلْسِنَةِ الْحَادَّةِ يَكُونُ بِوُجُوهِ : تَارَةً يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ : هَذَا الَّذِي جَرَى عَلَيْنَا بِشُؤْمِكُمْ ؛ فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ الَّذِينَ دَعَوْتُمْ النَّاسَ إلَى هَذَا الدِّينِ وَقَاتَلْتُمْ عَلَيْهِ وَخَالَفْتُمُوهُمْ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ مَقَالَةُ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَتَارَةً يَقُولُونَ : أَنْتُمْ الَّذِينَ أَشَرْتُمْ عَلَيْنَا بِالْمُقَامِ هُنَا وَالثَّبَاتِ بِهَذَا الثَّغْرِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ وَإِلَّا فَلَوْ كُنَّا سَافَرْنَا قَبْلَ هَذَا لَمَا أَصَابَنَا هَذَا . وَتَارَةً يَقُولُونَ - أَنْتُمْ مَعَ قِلَّتِكُمْ وَضَعْفِكُمْ - تُرِيدُونَ أَنْ تَكْسِرُوا الْعَدُوَّ وَقَدْ غَرَّكُمْ دِينُكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . وَتَارَةً يَقُولُونَ : أَنْتُمْ مَجَانِينُ لَا . عقل لَكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُهْلِكُوا

أَنْفُسَكُمْ وَالنَّاسُ مَعَكُمْ . وَتَارَةً يَقُولُونَ : أَنْوَاعًا مِنْ الْكَلَامِ الْمُؤْذِي الشَّدِيدِ . وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَشِحَّةٌ عَلَى الْخَيْرِ أَيْ حُرَّاصٌ عَلَى الْغَنِيمَةِ وَالْمَالِ الَّذِي قَدْ حَصَلَ لَكُمْ . قَالَ قتادة : إنْ كَانَ وَقْتَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ بَسَطُوا أَلْسِنَتَهُمْ فِيكُمْ . يَقُولُونَ : أَعْطُونَا فَلَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا . فَأَمَّا عِنْدَ الْبَأْسِ فَأَجْبَنُ قَوْمٍ وَأَخْذَلُهُمْ لِلْحَقِّ . وَأَمَّا عِنْدَ الْغَنِيمَةِ فأشح قَوْمٍ . وَقِيلَ : أَشِحَّةٌ عَلَى الْخَيْرِ أَيْ بُخَلَاءُ بِهِ لَا يَنْفَعُونَ لَا بِنُفُوسِهِمْ وَلَا بِأَمْوَالِهِمْ . وَأَصْلُ الشُّحِّ : شِدَّةُ الْحِرْصِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ عَنْهُ الْبُخْلُ وَالظُّلْمُ : مَنْ مَنَعَ الْحَقَّ وَأَخَذَ الْبَاطِلَ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ . أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا } ؟ فَهَؤُلَاءِ أَشِحَّاءُ عَلَى إخْوَانِهِمْ أَيْ بُخَلَاءُ عَلَيْهِمْ وَأَشِحَّاءُ عَلَى الْخَيْرِ أَيْ حُرَّاصٌ عَلَيْهِ . فَلَا يُنْفِقُونَهُ . كَمَا قَالَ : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إلَّا قَلِيلًا } . فَوَصَفَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ .

أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ لِفَرْطِ خَوْفِهِمْ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَنْصَرِفُوا عَنْ الْبَلَدِ . وَهَذِهِ حَالُ الْجَبَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ . فَإِنَّ قَلْبَهُ يُبَادِرُ إلَى تَصْدِيقِ الْخَبَرِ الْمُخَوِّفِ وَتَكْذِيبِ خَبَرِ الْأَمْنِ . الْوَصْفُ الثَّانِي : أَنَّ الْأَحْزَابَ إذَا جَاءُوا تَمَنَّوْا أَنْ لَا يَكُونُوا بَيْنَكُمْ ؛ بَلْ يَكُونُونَ فِي الْبَادِيَةِ بَيْنَ الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ : إيش خَبَرُ الْمَدِينَةِ ؟ وإيش جَرَى لِلنَّاسِ ؟ . وَالْوَصْفُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْأَحْزَابَ إذَا أَتَوْا وَهُمْ فِيكُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا إلَّا قَلِيلًا . وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَيَعْرِفُهُ مِنْهُمْ مِنْ خَبَرِهِمْ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الَّذِينَ يُبْتَلَوْنَ بِالْعَدُوِّ كَمَا اُبْتُلِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُمْ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ حَيْثُ أَصَابَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُ . فَلْيَتَأَسَّوْا بِهِ فِي التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ وَلَا يَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ نِقَمٌ لِصَاحِبِهَا وَإِهَانَةٌ لَهُ . فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا اُبْتُلِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الْخَلَائِقِ ؛ بَلْ بِهَا يُنَالُ الدَّرَجَاتُ الْعَالِيَةُ وَبِهَا يُكَفِّرُ اللَّهُ الْخَطَايَا لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا . وَإِلَّا فَقَدْ يُبْتَلَى بِذَلِكَ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ

فَيَكُونُ فِي حَقِّهِ عَذَابًا . كَالْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلَّا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا } . قَالَ الْعُلَمَاءُ : كَانَ اللَّهُ قَدْ أَنْزَلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ - مُنْكِرًا عَلَى مَنْ حَسَبَ خِلَافَ ذَلِكَ - أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُبْتَلَوْا مِثْلُ هَذِهِ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ بـ " الْبَأْسَاءِ " وَهِيَ الْحَاجَةُ وَالْفَاقَةُ . وَ " الضَّرَّاءُ " وَهِيَ الْوَجَعُ وَالْمَرَضُ . وَ " الزِّلْزَالُ " وَهِيَ زَلْزَلَةُ الْعَدُوِّ . فَلَمَّا جَاءَ الْأَحْزَابُ عَامَ الْخَنْدَقِ فَرَأَوْهُمْ . قَالُوا : { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ ابْتَلَاهُمْ بِالزِّلْزَالِ . وَأَتَاهُمْ مِثْلَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا زَادَهُمْ إلَّا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا لِحُكْمِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ . وَهَذِهِ حَالُ أَقْوَامٍ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ : قَالُوا ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } أَيْ عَهْدَهُ الَّذِي عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ أَوْ عَاشَ . وَ " النَّحْبُ " النَّذْرُ وَالْعَهْدُ . وَأَصْلُهُ مِنْ النَّحِيبِ . وَهُوَ

الصَّوْتُ . وَمِنْهُ : الِانْتِحَابُ فِي الْبُكَاءِ وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْعَهْدِ . ثُمَّ لَمَّا كَانَ عَهْدُهُمْ هُوَ نَذْرُهُمْ الصِّدْقُ فِي اللِّقَاءِ - وَمَنْ صَدَقَ فِي اللِّقَاءِ فَقَدْ يُقْتَلُ - صَارَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ { قَضَى نَحْبَهُ } أَنَّهُ اُسْتُشْهِدَ . لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ النَّحْبُ : نَذْرُ الصِّدْقِ فِي جَمِيعِ الْمُوَاطِنِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِيهِ إلَّا بِالْمَوْتِ . وَقَضَاءُ النَّحْبِ هُوَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } أَيْ أَكْمَلَ الْوَفَاءَ . وَذَلِكَ لِمَنْ كَانَ عَهْدُهُ مُطْلَقًا : بِالْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ . { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } قَضَاءَهُ إذَا كَانَ قَدْ وَفَى الْبَعْضَ فَهُوَ يَنْتَظِرُ تَمَامَ الْعَهْدِ . وَأَصْلُ الْقَضَاءِ : الْإِتْمَامُ وَالْإِكْمَالُ . { لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } . بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَتَى بِالْأَحْزَابِ لِيَجْزِيَ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ حَيْثُ صَدَقُوا فِي إيمَانِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . فَحَصَرَ الْإِيمَانَ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ هُمْ الصَّادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ : آمَنَّا ؛ لَا مَنْ قَالَ كَمَا قَالَتْ الْأَعْرَابُ : آمَنَّا وَالْإِيمَانُ لَمْ يَدْخُلْ فِي قُلُوبِهِمْ ؛ بَلْ انْقَادُوا وَاسْتَسْلَمُوا . وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وَإِمَّا أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ . فَهَذَا حَالُ النَّاسِ فِي الْخَنْدَقِ وَفِي هَذِهِ الْغَزَاةِ .

وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَى النَّاسَ بِهَذِهِ الْفِتْنَةِ لِيَجْزِيَ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَهُمْ الثَّابِتُونَ الصَّابِرُونَ لِيَنْصُرُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ . وَنَحْنُ نَرْجُو مِنْ اللَّهِ أَنْ يَتُوبَ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْمُومِينَ ؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ نَدِمَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ . وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ لِلتَّوْبَةِ بَابًا مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ عَرْضُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً . لَا يُغْلِقُهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا .
وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْمَغَازِي - مِنْهُمْ ابْنُ إسْحَاقَ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْخَنْدَقِ : { الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا } فَمَا غَزَتْ قُرَيْشٌ وَلَا غطفان وَلَا الْيَهُودُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهَا ؛ بَلْ غَزَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ : فَفَتَحُوا خَيْبَرَ ثُمَّ فَتَحُوا مَكَّةَ . كَذَلِكَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - هَؤُلَاءِ الْأَحْزَابُ مَنَّ الْمَغُولِ وَأَصْنَافِ التُّرْكِ وَمِنْ الْفُرْسِ والمستعربة وَالنَّصَارَى وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ : الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا . وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَالَطَ قُلُوبَهُمْ مَرَضٌ أَوْ نِفَاقٌ بِأَنْ يُنِيبُوا إلَى رَبِّهِمْ وَيُحْسِنَ ظَنُّهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَتَقْوَى عَزِيمَتُهُمْ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ . فَقَدْ أَرَاهُمْ اللَّهُ مِنْ الْآيَاتِ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَبْصَارِ كَمَا قَالَ : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } .

فَإِنَّ اللَّهَ صَرَفَ الْأَحْزَابَ عَامَ الْخَنْدَقِ بِمَا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ رِيحِ الصبا : رِيحٌ شَدِيدَةٌ بَارِدَةٌ . وَبِمَا فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ حَتَّى شَتَّتَ شَمْلَهُمْ وَلَمْ يَنَالُوا خَيْرًا . إذْ كَانَ هَمُّهُمْ فَتْحُ الْمَدِينَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا وَعَلَى الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ كَمَا كَانَ هَمَّ هَذَا الْعَدُوُّ فَتْحَ الشَّامِ وَالِاسْتِيلَاءَ عَلَى مَنْ بِهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَرَدَّهُمْ اللَّهُ بِغَيْظِهِمْ حَيْثُ أَصَابَهُمْ مِنْ الثَّلْجِ الْعَظِيمِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَالرِّيحِ الْعَاصِفِ وَالْجُوعِ الْمُزْعِجِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ . وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَكْرَهُ تِلْكَ الثُّلُوجَ وَالْأَمْطَارَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الْعَامِ حَتَّى طَلَبُوا الاستصحاء غَيْرَ مَرَّةٍ . وَكُنَّا نَقُولُ لَهُمْ : هَذَا فِيهِ خَيْرَةٌ عَظِيمَةٌ . وَفِيهِ لِلَّهِ حِكْمَةٌ وَسِرٌّ فَلَا تَكْرَهُوهُ . فَكَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ : أَنَّهُ فِيمَا قِيلَ : أَصَابَ قازان وَجُنُودَهُ حَتَّى أَهْلَكَهُمْ وَهُوَ كَانَ فِيمَا قِيلَ : سَبَبُ رَحِيلِهِمْ . وَابْتُلِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ مِمَّنْ يَفِرُّ عَنْ طَاعَتِهِ وَجِهَادِ عَدُوِّهِ . وَكَانَ مَبْدَأُ رَحِيلِ قازان فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَأَرَاضِي حَلَبَ : يَوْمَ الِاثْنَيْنِ حَادِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى يَوْمَ دَخَلَتْ مِصْرَ عَقِيبَ الْعَسْكَرِ وَاجْتَمَعَتْ بِالسُّلْطَانِ وَأُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الِاهْتِمَامِ بِالْجِهَادِ مَا أَلْقَاهُ . فَلَمَّا ثَبَّتَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ صَرَفَ الْعَدُوَّ جَزَاءً مِنْهُ وَبَيَانًا أَنَّ النِّيَّةَ الْخَالِصَةَ وَالْهِمَّةَ الصَّادِقَةَ يَنْصُرُ اللَّهُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ وَإِنْ تَبَاعَدَتْ الدِّيَارُ .

وَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنَ قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْمَغُولِ وَالْكَرَجِ وَأَلْقَى بَيْنَهُمْ تَبَاغُضًا وَتَعَادِيًا كَمَا أَلْقَى سُبْحَانَهُ عَامَ الْأَحْزَابِ بَيْنَ قُرَيْشٍ وغطفان وَبَيْنَ الْيَهُودِ . كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَغَازِي . فَإِنَّهُ لَمْ يَتَّسِعْ هَذَا الْمَكَانُ لِأَنْ نَصِفَ فِيهِ قِصَّةَ الْخَنْدَقِ . بَلْ مَنْ طَالَعَهَا عَلِمَ صِحَّةَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْمَغَازِي . مِثْلَ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالزُّهْرِيِّ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَسَعِيدِ بْنِ يَحْيَى الْأُمَوِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَائِذٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ والواقدي وَغَيْرِهِمْ . ثُمَّ تَبَقَّى بِالشَّامِ مِنْهُمْ بَقَايَا سَارَ إلَيْهِمْ مِنْ عَسْكَرِ دِمَشْقَ أَكْثَرُهُمْ مُضَافًا إلَى عَسْكَرِ حَمَاةَ وَحَلَبَ وَمَا هُنَالِكَ . وَثَبَتَ الْمُسْلِمُونَ بِإِزَائِهِمْ . وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِكَثِيرِ ؛ لَكِنْ فِي ضَعْفٍ شَدِيدٍ وَتَقَرَّبُوا إلَى حَمَاةَ وَأَذَلَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ يَقْدَمُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَطُّ . وَصَارَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُرِيدُ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ فَجَرَتْ مُنَاوَشَاتٌ صِغَارٌ كَمَا جَرَى فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ حَيْثُ قَتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ الْعَامِرِيَّ لَمَّا اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ هُوَ وَنَفَرٌ قَلِيلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . كَذَلِكَ صَارَ يَتَقَرَّبُ بَعْضُ الْعَدُوِّ فَيَكْسِرُهُمْ الْمُسْلِمُونَ مَعَ كَوْنِ الْعَدُوِّ الْمُتَقَرِّبِ أَضْعَافَ مَنْ قَدْ سَرَى إلَيْهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَمَا مِنْ مَرَّةٍ إلَّا وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ مستظهرين عَلَيْهِمْ . وَسَاقَ الْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُمْ فِي آخِرِ

النَّوْبَاتِ فَلَمْ يُدْرِكُوهُمْ إلَّا عِنْدَ عُبُورِ الْفُرَاتِ . وَبَعْضُهُمْ فِي جَزِيرَةٍ فِيهَا . فَرَأَوْا أَوَائِلَ الْمُسْلِمِينَ فَهَرَبُوا مِنْهُمْ وَخَالَطُوهُمْ ؛ وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضَهُمْ . وَقِيلَ : إنَّهُ غَرِقَ بَعْضُهُمْ . وَكَانَ عُبُورُهُمْ وَخُلُوُّ الشَّامِ مِنْهُمْ فِي أَوَائِلِ رَجَبٍ بَعْدَ أَنْ جَرَى - مَا بَيْنَ عُبُورِ قازان أَوَّلًا وَهَذَا الْعُبُورُ - رَجَفَاتٌ وَوَقَعَاتٌ صِغَارٌ وَعَزَمْنَا عَلَى الذَّهَابِ إلَى حَمَاةَ غَيْرَ مَرَّةٍ لِأَجْلِ الْغَزَاةِ ؛ لَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُونَ غَزْوَ الَّذِينَ بَقُوا . وَثَبَتَ بِإِزَائِهِمْ الْمُقَدَّمُ الَّذِي بِحَمَاةِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ الْعَسْكَرِ وَمَنْ أَتَاهُ مِنْ دِمَشْقَ وَعَزَمُوا عَلَى لِقَائِهِمْ وَنَالُوا أَجْرًا عَظِيمًا . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُمْ كَانُوا عِدَّةَ كمانات ؛ إمَّا ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ . فَكَانَ مِنْ الْمُقَدَّرِ : أَنَّهُ إذَا عَزَمَ الْأَمْرُ وَصَدَقَ الْمُؤْمِنُونَ اللَّهَ يُلْقِي فِي قُلُوبِ عَدُوِّهِمْ الرُّعْبَ فَيَهْرُبُونَ لَكِنْ أَصَابُوا مِنْ البليدات بِالشَّمَالِ مِثْلَ " تِيزِينِ " وَ " الْفَوْعَةَ " وَ " مَعَرَّةِ مِصْرَيْنِ " وَغَيْرِهَا مَا لَمْ يَكُونُوا وَطِئُوهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي . وَقِيلَ : إنَّ كَثِيرًا مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ كَانَ فِيهِمْ مَيْلٌ إلَيْهِمْ ؛ بِسَبَبِ الرَّفْضِ وَأَنَّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَرَامِينَ مِنْهُمْ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ ظَلَمَةٌ وَمَنْ أَعَانَ ظَالِمًا بُلِيَ بِهِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } . وَقَدْ ظَاهَرُوهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ : الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ

أَهْلِ " سِيسَ " وَالْإِفْرِنْجِ . فَنَحْنُ نَرْجُو مِنْ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَهُمْ مِنْ صَيَاصِيِهِمْ وَهِيَ الْحُصُونُ - وَيُقَالُ لِلْقُرُونِ : الصَّيَاصِي - وَيَقْذِفُ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ . وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ تِلْكَ الْبِلَادَ . وَنَغْزُوهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَنَفْتَحُ أَرْضَ الْعِرَاقِ وَغَيْرَهَا وَتَعْلُو كَلِمَةُ اللَّهِ وَيَظْهَرُ دِينُهُ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ كَانَ فِيهَا أُمُورٌ عَظِيمَةٌ جَازَتْ حَدَّ الْقِيَاسِ . وَخَرَجَتْ عَنْ سُنَنِ الْعَادَةِ . وَظَهَرَ لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ مِنْ تَأْيِيدِ اللَّهِ لِهَذَا الدِّينِ وَعِنَايَتِهِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَحِفْظِهِ لِلْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ - بَعْدَ أَنْ كَادَ الْإِسْلَامُ أَنْ يَنْثَلِمَ وَكَرَّ الْعَدُوُّ كَرَّةً فَلَمْ يَلْوِ عَنْ . . . (1) وَخُذِلَ النَّاصِرُونَ فَلَمْ يَلْوُوا عَلَى . . . وَتَحَيَّرَ السَّائِرُونَ فَلَمْ يَدْرُوا مَنْ . . . وَلَا إلَى . . . وَانْقَطَعَتْ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ . وَأَهْطَعَتْ الْأَحْزَابُ الْقَاهِرَةَ وَانْصَرَفَتْ الْفِئَةُ النَّاصِرَةُ وَتَخَاذَلَتْ الْقُلُوبُ الْمُتَنَاصِرَةُ وَثَبَتَتْ الْفِئَةُ النَّاصِرَةُ وَأَيْقَنَتْ بِالنَّصْرِ الْقُلُوبُ الطَّاهِرَةُ وَاسْتَنْجَزَتْ مِنْ اللَّهِ وَعْدَهُ الْعِصَابَةُ الْمَنْصُورَةُ الظَّاهِرَةُ فَفَتَحَ اللَّهُ أَبْوَابَ سَمَوَاتِهِ لِجُنُودِهِ الْقَاهِرَةِ وَأَظْهَرَ عَلَى الْحَقِّ آيَاتِهِ الْبَاهِرَةَ وَأَقَامَ عَمُودَ الْكِتَابِ بَعْدَ مَيْلِهِ وَثَبَتَ لِوَاءُ الدِّينِ بِقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ وَأَرْغَمَ مَعَاطِسَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ إلَى يَوْمِ التلاق . فَاَللَّهُ يُتِمُّ هَذِهِ النِّعْمَةَ بِجَمْعِ قُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الطُّغْيَانِ وَيَجْعَلُ هَذِهِ الْمِنَّةَ الْجَسِيمَةَ مَبْدَأً لِكُلِّ مِنْحَةٍ كَرِيمَةٍ وَأَسَاسًا

لِإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ الْقَوِيمَةِ وَيَشْفِي صُدُورَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُعَادِيهِمْ وَيُمَكِّنُهُمْ مِنْ دَانِيهِمْ وَقَاصِيهِمْ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَتَبْت أَوَّلَ هَذَا الْكِتَابِ بَعْدَ رَحِيلِ قازان وَجُنُودِهِ لَمَّا رَجَعْت مِنْ مِصْرَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ وَأَشَاعُوا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ . ثُمَّ لَمَّا بَقِيَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ اشْتَغَلْنَا بِالِاهْتِمَامِ بِجِهَادِهِمْ وَقَصْدَ الذَّهَابِ إلَى إخْوَانِنَا بِحَمَاةِ وَتَحْرِيضِ الْأُمَرَاءِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جَاءَنَا الْخَبَرُ بِانْصِرَافِ الْمُتَبَقِّينَ مِنْهُمْ . فَكَتَبْته فِي رَجَبٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى أَشْرَفِ الْخَلْقِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ :
عَمَّنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِمَامَ الْحَقَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى إمَامَتِهِ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ ظَلَمُوهُ وَمَنَعُوهُ حَقَّهُ وَأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ . فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ ؟ وَيَكْفُرُونَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . فَلَوْ قَالُوا : نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي أَوْ نُصَلِّي الْخَمْسَ وَلَا نُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَلَا الْجَمَاعَةَ أَوْ نَقُومُ بِمَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ وَلَا نُحَرِّمُ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ أَوْ لَا نَتْرُكُ الرِّبَا وَلَا الْخَمْرَ وَلَا الْمَيْسِرَ أَوْ نَتَّبِعُ الْقُرْآنَ وَلَا نَتَّبِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْمَلُ بِالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ أَوْ نَعْتَقِدُ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى خَيْرٌ مِنْ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ قَدْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مُؤْمِنٌ إلَّا طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ

أَوْ قَالُوا : إنَّا لَا نُجَاهِدُ الْكُفَّارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ وَمَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّهُ يَجِبُ جِهَادُ هَذِهِ الطَّوَائِفِ جَمِيعِهَا كَمَا جَاهَدَ الْمُسْلِمُونَ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَجَاهَدُوا الْخَوَارِجَ وَأَصْنَافَهُمْ وَجَاهَدُوا الخرمية وَالْقَرَامِطَةَ وَالْبَاطِنِيَّةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَصْنَافِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } . فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الدِّينِ لِلَّهِ وَبَعْضُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } فَلَمْ يَأْمُرْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ إلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَبَعْدَ إقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُمْتَنِعَةَ إذَا لَمْ تَنْتَهِ عَنْ الرِّبَا فَقَدْ حَارَبَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالرِّبَا آخِرُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فَمَا حَرَّمَهُ قَبْلَهُ أَوْكَدُ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } .

فَكُلُّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَهْلِ الشَّوْكَةِ عَنْ الدُّخُولِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ عَمِلَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فَقَدْ سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ؛ وَلِهَذَا تَأَوَّلَ السَّلَفُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْكُفَّارِ وَعَلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ ؛ حَتَّى أَدْخَلَ عَامَّةُ الْأَئِمَّةِ فِيهَا قُطَّاعَ الطَّرِيقِ الَّذِينَ يُشْهِرُونَ السِّلَاحَ لِمُجَرَّدِ أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَجَعَلُوهُمْ بِأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْقِتَالِ مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ سَاعِينَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا . وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ مَا فَعَلُوهُ وَيُقِرُّونَ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَاَلَّذِي يَعْتَقِدُ حِلَّ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَيَسْتَحِلُّ قِتَالَهُمْ . أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا مِنْ هَؤُلَاءِ . كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ الَّذِي يَسْتَحِلُّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَيَرَى جَوَازَ قِتَالِهِمْ : أَوْلَى بِالْمُحَارَبَةِ مِنْ الْفَاسِقِ الَّذِي يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الْمُبْتَدِعُ الَّذِي خَرَجَ عَنْ بَعْضِ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ وَاسْتَحَلَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرِيعَتِهِ وَأَمْوَالِهِمْ : هُوَ أَوْلَى بِالْمُحَارَبَةِ مِنْ الْفَاسِقِ وَإِنْ اتَّخَذَ ذَلِكَ دِينًا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ . كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى تَتَّخِذُ مُحَارَبَةَ الْمُسْلِمِينَ دِينًا تَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبِدَعَ الْمُغَلَّظَةَ شَرٌّ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي يَعْتَقِدُ أَصْحَابُهَا أَنَّهَا ذُنُوبٌ . وَبِذَلِكَ مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ عَنْ السُّنَّةِ وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ وَظُلْمِهِمْ وَالصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ مَعَ ذُنُوبِهِمْ وَشَهِدَ لِبَعْضِ الْمُصِرِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنَهَى عَنْ لَعْنَتِهِ وَأَخْبَرَ عَنْ ذِي الخويصرة وَأَصْحَابِهِ - مَعَ عِبَادَتِهِمْ وَوَرَعِهِمْ - أَنَّهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . فَكَلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرِيعَتِهِ فَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَرْضَى بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَا يَشْجُرُ بَيْنَهُمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَحَتَّى لَا يَبْقَى فِي قُلُوبِهِمْ حَرَجٌ مِنْ حُكْمِهِ . وَدَلَائِلُ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ . وَبِذَلِكَ جَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : " لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدَّ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ : كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ

وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَلَمْ يَقُلْ إلَّا بِحَقِّهَا ؟ فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا . وَاَللَّهُ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَى مَنْعِهَا . فَقَالَ عُمَرُ : فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَلِمْت أَنَّهُ الْحَقُّ " . فَاتَّفَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِ أَقْوَامٍ يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ إذَا امْتَنَعُوا عَنْ بَعْضِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَكَاةِ أَمْوَالِهِمْ . وَهَذَا الِاسْتِنْبَاطُ مِنْ صِدِّيقِ الْأُمَّةِ قَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُؤَدُّوا هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ . وَهَذَا مُطَابِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ . وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَأَخْرَجَ مِنْهَا أَصْحَابُ الصَّحِيحِ عَشَرَةَ أَوْجُهٍ ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْبُخَارِيُّ غَيْرَ وَجْهٍ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ - : صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ . قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ

مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ . يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مَاذَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ } . وَفِي رِوَايَةٍ { لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } وَفِي رِوَايَةٍ : { شَرَّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ . خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ } . وَهَؤُلَاءِ أَوَّلُ مَنْ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَهُمْ بحرورا لَمَّا خَرَجُوا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ قَتَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خباب وَأَغَارُوا عَلَى مَاشِيَةِ الْمُسْلِمِينَ . فَقَامَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَخَطَبَ النَّاسَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ فَاسْتَحَلَّ قِتَالَهُمْ وَفَرِحَ بِقَتْلِهِمْ فَرَحًا عَظِيمًا وَلَمْ يَفْعَلْ فِي خِلَافَتِهِ أَمْرًا عَامًّا كَانَ أَعْظَمَ عِنْدَهُ مِنْ قِتَالِ الْخَوَارِجِ . وَهُمْ كَانُوا يُكَفِّرُونَ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى كَفَّرُوا عُثْمَانَ وَعَلِيًّا . وَكَانُوا يَعْمَلُونَ بِالْقُرْآنِ فِي زَعْمِهِمْ وَلَا يَتَّبِعُونَ سُنَّةَ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا تُخَالِفُ الْقُرْآنَ . كَمَا يَفْعَلُهُ سَائِرُ أَهْلِ الْبِدَعِ - مَعَ كَثْرَةِ عِبَادَتِهِمْ وَوَرَعِهِمْ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا أَنَّهُ قَالَ : خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا : أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ . وَثَبَتَ عَنْهُ

أَنَّهُ حَرَّقَ غَالِيَةَ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ . وَرُوِيَ عَنْهُ بِأَسَانِيدَ جَيِّدَةٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا أَوُتَى بِأَحَدِ يَفْضُلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي . وَعَنْهُ أَنَّهُ طَلَبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لِيَقْتُلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ . وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِرَجُلِ فَضَّلَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُجْلَدَ لِذَلِكَ . وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِصَبِيغِ بْنِ عِسْلٍ ؛ لَمَّا ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ الْخَوَارِجِ : لَوْ وَجَدْتُك مَحْلُوقًا لَضَرَبْت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك . فَهَذِهِ سُنَّةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ قَدْ أَمَرَ بِعُقُوبَةِ الشِّيعَةِ : الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ وَأَخَفُّهُمْ الْمُفَضِّلَةُ . فَأَمَرَ هُوَ وَعُمَرُ بِجِلْدِهِمْ . وَالْغَالِيَةُ يُقْتَلُونَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ الْإِلَهِيَّةَ وَالنُّبُوَّةَ فِي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِثْلَ الْنُصَيْرِيَّة والْإسْماعيليَّةُ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ : بَيْتُ صَادٍ وَبَيْتُ سِينٍ وَمَنْ دَخَلَ فِيهِمْ مِنْ الْمُعَطِّلَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الصَّانِعِ أَوْ يُنْكِرُونَ الْقِيَامَةَ أَوْ يُنْكِرُونَ ظَوَاهِرَ الشَّرِيعَةِ : مِثْلَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَيَتَأَوَّلُونَ ذَلِكَ عَلَى مَعْرِفَةِ أَسْرَارِهِمْ وَكِتْمَانِ أَسْرَارِهِمْ وَزِيَارَةِ شُيُوخِهِمْ . وَيَرَوْنَ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ لَهُمْ وَنِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ حَلَالٌ لَهُمْ . فَإِنَّ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَنْ أَحَدِهِمْ

ذَلِكَ كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَمَنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ مِنْ الْكَافِرِينَ كُفْرًا . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا بِجِزْيَةِ وَلَا ذِمَّةٍ وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ مِنْ شَرِّ الْمُرْتَدِّينَ . فَإِنْ كَانُوا طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً وَجَبَ قِتَالُهُمْ كَمَا يُقَاتَلُ الْمُرْتَدُّونَ كَمَا قَاتَلَ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ أَصْحَابَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَإِذَا كَانُوا فِي قُرَى الْمُسْلِمِينَ فُرِّقُوا وَأُسْكِنُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَأُلْزِمُوا بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَلَيْسَ هَذَا مُخْتَصًّا بِغَالِيَةِ الرَّافِضَةِ بَلْ مَنْ غَلَا فِي أَحَدٍ مِنْ الْمَشَايِخِ وَقَالَ : إنَّهُ يَرْزُقُهُ أَوْ يُسْقِطُ عَنْهُ الصَّلَاةَ أَوْ أَنَّ شَيْخَهُ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ أَوْ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ لَهُ إلَى اللَّهِ طَرِيقًا غَيْرَ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمَشَايِخِ يَكُونُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ الْخَضِرُ مَعَ مُوسَى . وَكُلُّ هَؤُلَاءِ كُفَّارٌ يَجِبُ قِتَالُهُمْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَتْلُ الْوَاحِدِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْهُمْ . وَأَمَّا الْوَاحِدُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا - أَعْنِي عُمَرَ وَعَلِيًّا - قَتْلُهُمَا أَيْضًا . وَالْفُقَهَاءُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي قَتْلِ الْوَاحِدِ

الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ قَتْلِهِمْ إذَا كَانُوا مُمْتَنِعِينَ . فَإِنَّ الْقِتَالَ أَوْسَعُ مِنْ الْقَتْلِ كَمَا يُقَاتَلُ الصَّائِلُونَ الْعُدَاةُ وَالْمُعْتَدُونَ الْبُغَاةُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ لَمْ يُعَاقَبْ إلَّا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ . وَهَذِهِ النُّصُوصُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوَارِجِ قَدْ أَدْخَلَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ لَفْظًا أَوْ مَعْنَى مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ بَعْضُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِج الحرورية ؛ مِثْلُ الخرمية وَالْقَرَامِطَةِ وَالْنُصَيْرِيَّة وَكُلِّ مِنْ اعْتَقَدَ فِي بَشَرٍ أَنَّهُ إلَهٌ أَوْ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَقَاتَلَ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ : فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِج الحرورية . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا ذَكَرَ الْخَوَارِجَ الحرورية لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ خَرَجُوا بَعْدَهُ ؛ بَلْ أَوَّلُهُمْ خَرَجَ فِي حَيَاتِهِ . فَذَكَرَهُمْ لِقُرْبِهِمْ مِنْ زَمَانِهِ كَمَا خَصَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَشْيَاءَ بِالذِّكْرِ لِوُقُوعِهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِثْلَ قَوْلِهِ : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } . وَقَوْلُهُ : { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَمِثْلَ تَعْيِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَائِلَ مِنْ الْأَنْصَارِ وَتَخْصِيصَهُ أَسْلَمَ وَغِفَارَ وَجُهَيْنَةَ وَتَمِيمًا وَأَسَدًا وغطفان وَغَيْرَهُمْ بِأَحْكَامِ ؛ لِمَعَانٍ قَامَتْ بِهِمْ وَكُلُّ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ تِلْكَ الْمَعَانِي أُلْحِقَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّ

التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَمْ يَكُنْ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْحُكْمِ ؛ بَلْ لِحَاجَةِ الْمُخَاطَبِينَ إذْ ذَاكَ إلَى تَعْيِينِهِمْ ؛ هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ أَلْفَاظُهُ شَامِلَةً لَهُمْ . وَهَؤُلَاءِ الرَّافِضَةُ إنْ لَمْ يَكُونُوا شَرًّا مِنْ الْخَوَارِج المنصوصين فَلَيْسُوا دُونَهُمْ ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ إنَّمَا كَفَّرُوا عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَأَتْبَاعَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فَقَطْ ؛ دُونَ مَنْ قَعَدَ عَنْ الْقِتَالِ أَوْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ . وَالرَّافِضَةُ كَفَّرَتْ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَامَّةَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ الَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَكَفَّرُوا جَمَاهِيرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين . فَيُكَفِّرُونَ كُلَّ مَنْ اعْتَقَدَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الْعَدَالَةَ أَوْ تَرَضَّى عَنْهُمْ كَمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَلِهَذَا يُكَفِّرُونَ أَعْلَامَ الْمِلَّةِ : مِثْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي مُسْلِمٍ الخولاني وَأُوَيْسٍ الْقَرْنِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي وَمِثْلِ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِي وَأَبِي حَنِيفَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي والْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ . وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ مَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ وَيُسَمُّونَ مَذْهَبَهُمْ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ كَمَا يُسَمِّيهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَنَحْوُهُمْ بِذَلِكَ

وَكَمَا تُسَمِّيهِ الْمُعْتَزِلَةُ مَذْهَبَ الْحَشْوِ وَالْعَامَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ . وَيَرَوْنَ فِي أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ وَالْمَغْرِبِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ وَسَائِرِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ هَؤُلَاءِ وَلَا ذَبَائِحُهُمْ وَأَنَّ الْمَائِعَاتِ الَّتِي عِنْدَهُمْ مِنْ الْمِيَاهِ وَالْأَدْهَانِ وَغَيْرِهَا نَجِسَةٌ وَيَرَوْنَ أَنَّ كُفْرَهُمْ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . لِأَنَّ أُولَئِكَ عِنْدَهُمْ كُفَّارٌ أَصْلِيُّونَ وَهَؤُلَاءِ . مُرْتَدُّونَ وَكُفْرُ الرِّدَّةِ أَغْلَظُ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ . وَلِهَذَا السَّبَبِ يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى الْجُمْهُورِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيُعَاوِنُونَ التَّتَارَ عَلَى الْجُمْهُورِ . وَهُمْ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي خُرُوجِ جنكيزخان مَلِكِ الْكُفَّارِ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَفِي قُدُومِ هُولَاكُو إلَى بِلَادِ الْعِرَاقِ ؛ وَفِي أَخْذِ حَلَبَ وَنَهْبِ الصالحية وَغَيْرِ ذَلِكَ بِخُبْثِهِمْ وَمَكْرِهِمْ ؛ لَمَّا دَخَلَ فِيهِ مَنْ تَوَزَّرَ مِنْهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرُ مَنْ تَوَزَّرَ مِنْهُمْ . وَبِهَذَا السَّبَبِ نَهَبُوا عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا مَرَّ عَلَيْهِمْ وَقْتُ انْصِرَافِهِ إلَى مِصْرَ فِي النَّوْبَةِ الْأُولَى . وَبِهَذَا السَّبَبِ يَقْطَعُونَ الطُّرُقَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَبِهَذَا السَّبَبِ ظَهَرَ فِيهِمْ مِنْ مُعَاوَنَةِ التَّتَارِ وَالْإِفْرِنْجِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْكَآبَةِ الشَّدِيدَةِ بِانْتِصَارِ الْإِسْلَامِ مَا ظَهَرَ وَكَذَلِكَ لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ السَّاحِلَ - عَكَّةَ وَغَيْرَهَا - ظَهَرَ فِيهِمْ مِنْ الِانْتِصَارِ لِلنَّصَارَى وَتَقْدِيمِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَدْ سَمِعَهُ النَّاسُ مِنْهُمْ . وَكُلُّ هَذَا الَّذِي وَصَفْت بَعْضَ أُمُورِهِمْ وَإِلَّا فَالْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ .

وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَحْوَالِ ؛ أَنَّ أَعْظَمَ السُّيُوفِ الَّتِي سُلَّتْ عَلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهَا وَأَعْظَمَ الْفَسَادِ الَّذِي جَرَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ : إنَّمَا هُوَ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبَةِ إلَيْهِمْ . فَهُمْ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَى الدِّينِ وَأَهْلِهِ وَأَبْعَدُ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْخَوَارِجِ الحرورية وَلِهَذَا كَانُوا أَكْذَبَ فِرَقِ الْأُمَّةِ . فَلَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبَةِ إلَى الْقِبْلَةِ أَكْثَرُ كَذِبًا وَلَا أَكْثَرُ تَصْدِيقًا لِلْكَذِبِ وَتَكْذِيبًا لِلصِّدْقِ مِنْهُمْ وَسِيَّمَا النِّفَاقُ فِيهِمْ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي سَائِرِ النَّاسِ ؛ وَهِيَ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } وَفِي رِوَايَةٍ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَكُلُّ مَنْ جَرَّبَهُمْ يَعْرِفُ اشْتِمَالَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ ؛ وَلِهَذَا يَسْتَعْمِلُونَ التَّقِيَّةَ الَّتِي هِيَ سِيمَا الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ ويَسْتَعْمِلونها مَعَ الْمُسْلِمِينَ { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } وَيَحْلِفُونَ مَا قَالُوا وَقَدْ قَالُوا وَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لِيَرْضَوْا الْمُؤْمِنِينَ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يَرْضَوْهُ . وَقَدْ أَشْبَهُوا الْيَهُودَ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ لَا سِيَّمَا السَّامِرَةُ مِنْ الْيَهُودِ ؛ فَإِنَّهُمْ أَشْبَهُ بِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ : يُشَبِّهُونَهُمْ فِي دَعْوَى الْإِمَامَةِ فِي

شَخْصٍ أَوْ بَطْنٍ بِعَيْنِهِ وَالتَّكْذِيبِ لِكُلِّ مَنْ جَاءَ بِحَقِّ غَيْرِهِ يَدْعُونَهُ وَفِي اتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ أَوْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَأْخِيرِ الْفِطْرِ وَصَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتَحْرِيمِ ذَبَائِحِ غَيْرِهِمْ . وَيُشْبِهُونَ النَّصَارَى فِي الْغُلُوِّ فِي الْبَشَرِ وَالْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ وَفِي الشِّرْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهُمْ يُوَالُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهَذِهِ شِيَمُ الْمُنَافِقِينَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } . وَلَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ وَلَا دِينٌ صَحِيحٌ وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً - وَالْخَوَارِجُ كَانُوا يُصَلُّونَ جُمُعَةً وَجَمَاعَةً - وَهُمْ لَا يَرَوْنَ جِهَادَ الْكُفَّارِ مَعَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الصَّلَاةَ خَلْفَهُمْ وَلَا طَاعَتَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَلَا تَنْفِيذَ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِمْ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَسُوغُ إلَّا خَلَفَ إمَامٍ مَعْصُومٍ . وَيَرَوْنَ أَنَّ الْمَعْصُومَ قَدْ دَخَلَ فِي السِّرْدَابِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً . وَهُوَ إلَى الْآنِ لَمْ يَخْرُجْ وَلَا رَآهُ أَحَدٌ وَلَا عَلَّمَ أَحَدًا دِينًا وَلَا

حَصَلَ بِهِ فَائِدَةٌ بَلْ مَضَرَّةٌ . وَمَعَ هَذَا فَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا أَتْبَاعُهُ : مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ الضُّلَّالِ مِنْ سُكَّانِ الْجِبَالِ وَالْبَوَادِي أَوْ مَنْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ بِالْبَاطِلِ : مِثْلُ ابْنِ الْعُود وَنَحْوِهِ مِمَّنْ قَدْ كَتَبَ خَطَّهُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ . مِنْ الْمُخَازِي عَنْهُمْ وَصَرَّحَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُمْ وَبِأَكْثَرَ مِنْهُ . وَهُمْ مَعَ هَذَا الْأَمْرِ يُكَفِّرُونَ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلِّ مَنْ آمَنَ بِقَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ : فَآمَنَ بِقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ وَمَشِيئَتِهِ الشَّامِلَةِ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ . وَأَكْثَرُ مُحَقِّقِيهِمْ عِنْدَهُمْ - يَرَوْنَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَكْثَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ؛ مَا آمَنُوا بِاَللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ الْكَفْرُ عِنْدَهُمْ يَكُونُ بَاطِلًا مِنْ أَصْلِهِ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ فَرْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي جَامَعَ بِهِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ لِيُطَهَّرَ بِذَلِكَ مِنْ وَطْءِ الْكَوَافِرِ عَلَى زَعْمِهِمْ ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الْكَوَافِرِ حَرَامٌ عِنْدِهِمْ . وَمَعَ هَذَا يَرُدُّونَ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِثْلَ أَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَيَرَوْنَ أَنَّ شِعْرَ شُعَرَاءِ الرَّافِضَةِ : مِثْلُ الْحِمْيَرِيِّ وكوشيار الدَّيْلَمِيَّ وَعِمَارَةَ الْيَمَنِيِّ خَيْرًا

مِنْ أَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ . وَقَدْ رَأَيْنَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَابَتِهِ وَقَرَابَتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا رَأَيْنَا مِنْ الْكَذِبِ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ . وَهُمْ مَعَ هَذَا يُعَطِّلُونَ الْمَسَاجِدَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فَلَا يُقِيمُونَ فِيهَا جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً وَيَبْنُونَ عَلَى الْقُبُورِ الْمَكْذُوبَةِ وَغَيْرِ الْمَكْذُوبَةِ مَسَاجِدَ يَتَّخِذُونَهَا مَشَاهِدَ . وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اتَّخَذَ الْمَسَاجِدَ عَلَى الْقُبُورِ وَنَهَى أُمَّتَهُ عَنْ ذَلِكَ . وَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ . أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ؛ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَيَرَوْنَ أَنَّ حَجَّ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ الْمَكْذُوبَةِ وَغَيْرِ الْمَكْذُوبَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ حَتَّى أَنَّ مِنْ مَشَايِخِهِمْ مَنْ يُفَضِّلُهَا عَلَى حَجِّ الْبَيْتِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَوَصْفُ حَالِهِمْ يَطُولُ . فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ شَرٌّ مِنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَأَحَقُّ بِالْقِتَالِ مِنْ الْخَوَارِجِ . وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِيمَا شَاعَ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ : أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ هُمْ الرَّافِضَةُ : فَالْعَامَّةُ شَاعَ عِنْدَهَا أَنَّ ضِدَّ السُّنِّيِّ هُوَ الرافضي فَقَطْ لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُ مُعَانَدَةً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَائِعِ دِينِهِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ .

وَأَيْضًا فَالْخَوَارِجُ كَانُوا يَتَّبِعُونَ الْقُرْآنَ بِمُقْتَضَى فَهْمِهِمْ وَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يَتَّبِعُونَ الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ عِنْدَهُمْ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ . فَمُسْتَنَدُ الْخَوَارِجِ خَيْرٌ مِنْ مُسْتَنَدِهِمْ . وَأَيْضًا فَالْخَوَارِجُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ زِنْدِيقٌ وَلَا غَالٍ وَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مِنْ الزَّنَادِقَةِ وَالْغَالِيَةِ مَنْ لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ . وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ مَبْدَأَ الرَّفْضِ إنَّمَا كَانَ مِنْ الزِّنْدِيقِ : عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ ؛ فَإِنَّهُ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ الْيَهُودِيَّةَ وَطَلَبَ أَنْ يُفْسِدَ الْإِسْلَامَ كَمَا فَعَلَ بولص النَّصْرَانِيُّ الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا فِي إفْسَادِ دِينِ النَّصَارَى . وَأَيْضًا فَغَالِبُ أَئِمَّتِهِمْ زَنَادِقَةٌ ؛ إنَّمَا يُظْهِرُونَ الرَّفْضَ . لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا فَعَلَتْهُ أَئِمَّةُ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا بِأَرْضِ أَذْرَبِيجَانَ فِي زَمَنِ الْمُعْتَصِمِ مَعَ بَابك الخرمي وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ " الخرمية " وَ " الْمُحَمِّرَةَ " " وَالْقَرَامِطَةَ الْبَاطِنِيَّةَ " الَّذِينَ خَرَجُوا بِأَرْضِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَأَخَذُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَبَقِيَ مَعَهُمْ مُدَّةً . كَأَبِي سَعِيدٍ الجنابي وَأَتْبَاعِهِ . وَاَلَّذِينَ خَرَجُوا بِأَرْضِ الْمَغْرِبِ ثُمَّ جَاوَزُوا إلَى مِصْرَ وَبَنَوْا الْقَاهِرَةَ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ فَاطِمِيُّونَ مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَنْسَابِ أَنَّهُمْ بَرِيئُونَ مِنْ نَسَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ نَسَبَهُمْ مُتَّصِلٌ بِالْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ وَاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِدِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ أَبْعَدُ عَنْ دِينِهِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . بَلْ الْغَالِيَةُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ

إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ وَالْأَئِمَّةِ . وَمِنْ أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ أَهْلِ دُورِ الدَّعْوَةِ : الَّذِينَ كَانُوا بِخُرَاسَانَ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ مَنْ أَعَانَ التَّتَارَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ : بِالْمُؤَازَرَةِ وَالْوِلَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِمُبَايَنَةِ قَوْلِهِمْ لِقَوْلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَلِكُ الْكُفَّارِ هُولَاكُو " يُقَرِّرُ أَصْنَامَهُمْ . وَأَيْضًا فَالْخَوَارِجُ كَانُوا مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ وَأَوْفَاهُمْ بِالْعَهْدِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَكْذَبِ النَّاسِ وأنقضهم لِلْعَهْدِ . وَأَمَّا ذِكْرُ الْمُسْتَفْتِي أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا عَيْنُ الْكَذِبِ ؛ بَلْ كَفَرُوا مِمَّا جَاءَ بِهِ بِمَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ : فَتَارَةً يُكَذِّبُونَ بِالنُّصُوصِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ . وَتَارَةً يُكَذِّبُونَ بِمَعَانِي التَّنْزِيلِ . وَمَا ذَكَرْنَاهُ وَمَا لَمْ نُذْكَرْهُ مِنْ مَخَازِيهِمْ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالرِّضْوَانِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ مَا هُمْ كَافِرُونَ بِحَقِيقَتِهِ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْجُمُعَةِ وَالْأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَبِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ مُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُوَادَّتِهِمْ وَمُؤَاخَاتِهِمْ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ مَا هُمْ عَنْهُ خَارِجُونَ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَمُوَادَّتِهِمْ مَا هُمْ خَارِجُونَ

عَنْهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَحْرِيمِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَتَحْرِيمِ الْغِيبَةِ وَالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ : مَا هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ اسْتِحْلَالًا لَهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَالنَّهْيِ عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ مَا هُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَحَبَّتِهِ وَاتِّبَاعِ حُكْمِهِ مَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ حُقُوقِ أَزْوَاجِهِ مَا هُمْ بَرَاءٌ مِنْهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَإِخْلَاصِ الْمُلْكِ لَهُ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ . فَإِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ كَمَا جَاءَ فِيهِمْ الْحَدِيثُ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلْمَقَابِرِ الَّتِي اُتُّخِذَتْ أَوْثَانًا مِنْ دُونِ اللَّهِ . وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ وَصْفُهُ . وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَا هُمْ كَافِرُونَ بِهِ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالنَّهْيِ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ مَا هُمْ كَافِرُونَ بِهِ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ : مَا هُمْ كَافِرُونَ بِهِ . وَلَا تَحْتَمِلُ الْفَتْوَى إلَّا الْإِشَارَةَ الْمُخْتَصَرَةَ . وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ إيمَانَ الْخَوَارِجِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِنْ إيمَانِهِمْ . فَإِذَا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ قَتَلَهُمْ وَنَهَبَ عَسْكَرَهُ مَا فِي عَسْكَرِهِمْ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالْأَمْوَالِ فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى أَنْ يُقَاتَلُوا وَتُؤْخَذَ أَمْوَالُهُمْ كَمَا أَخَذَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ

أَبِي طَالِبٍ أَمْوَالَ الْخَوَارِجِ . وَمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّ قِتَالَ هَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْإِمَامِ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ كَقِتَالِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِأَهْلِ الْجَمَلِ وصفين : فَهُوَ غالط جَاهِلٌ بِحَقِيقَةِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَتَخْصِيصِهِ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْهَا . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ سَاسُوا الْبِلَادَ الَّتِي يَغْلِبُونَ عَلَيْهَا بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ كَانُوا مُلُوكًا كَسَائِرِ الْمُلُوكِ ؛ وَإِنَّمَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْ نَفْسِ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ شَرًّا مِنْ خُرُوجِ الْخَوَارِجِ الحرورية وَلَيْسَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ ؛ فَإِنَّ التَّأْوِيلَ السَّائِغَ هُوَ الْجَائِزُ الَّذِي يُقِرُّ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ جَوَابٌ كَتَأْوِيلِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَنَازِعِينَ فِي مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ . وَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَكِنَّ لَهُمْ تَأْوِيلٌ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَتَأْوِيلُهُمْ شَرُّ تَأْوِيلَاتِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ . وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَقِّهَةِ لَمْ يَجِدُوا تَحْقِيقَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُخْتَصَرَاتِهِمْ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُصَنَّفِينَ فِي الشَّرِيعَةِ لَمْ يَذْكُرُوا فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ قِتَالَ الْخَارِجِينَ عَنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ كَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ إلَّا مِنْ جِنْسِ قِتَالِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْإِمَامِ كَأَهْلِ

الْجَمَل وصفين . وَهَذَا غَلَطٌ ؛ بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ . وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَتْ النُّصُوصُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَشْمَلُهُمْ وَغَيْرَهُمْ ؛ مِثْلَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ : { مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ثُمَّ مَاتَ : مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عمية ؛ يَغْضَبُ لِلْعَصَبِيَّةِ وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبِيَّةِ : فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدِهَا فَلَيْسَ مِنِّي } فَقَدْ ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبُغَاةَ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ وَعَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَذَكَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا مَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ عَلَيْهِمْ أَئِمَّةً ؛ بَلْ كُلُّ طَائِفَةٍ تُغَالِبُ الْأُخْرَى . ثُمَّ ذَكَرَ قِتَالَ أَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ كَاَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْأَنْسَابِ مِثْلَ قَيْسٍ وَيُمَنِّ وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ قُتِلَ تَحْتَ هَذِهِ الرَّايَاتِ فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِهِ ثُمَّ ذَكَرَ قِتَالَ الْعُدَاةِ الصَّائِلِينَ وَالْخَوَارِجَ وَنَحْوَهُمْ وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَلَيْسَ مِنْهُ . وَهَؤُلَاءِ جَمَعُوا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَوْصَافَ وَزَادُوا عَلَيْهَا . فَإِنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنْ الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ : يَقْتُلُونَ الْمُؤْمِنَ وَالْمُعَاهِدَ لَا يَرَوْنَ لِأَحَدِ مِنْ وُلَاةِ

الْمُسْلِمِينَ طَاعَةً سَوَاءٌ كَانَ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا ؛ إلَّا لِمَنْ لَا وُجُودَ لَهُ . وَهُمْ يُقَاتِلُونَ لِعَصَبِيَّةٍ شَرٍّ مِنْ عَصَبِيَّةِ ذَوِي الْأَنْسَابِ : وَهِيَ الْعَصَبِيَّةُ لِلدِّينِ الْفَاسِدِ ؛ فَإِنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِلِّ وَالْغَيْظِ عَلَى كِبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَصِغَارِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ وَغَيْرِ صَالِحِيهِمْ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِ أَحَدٍ . وَأَعْظَمُ عِبَادَتِهِمْ عِنْدَهُمْ لَعْنُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ : مُسْتَقْدِمُهُمْ وَمُسْتَأْخِرُهُمْ . وَأَمْثَلُهُمْ عِنْدَهُمْ الَّذِي لَا يَلْعَنُ وَلَا يَسْتَغْفِرُ . وَأَمَّا خُرُوجُهُمْ يَقْتُلُونَ الْمُؤْمِنَ وَالْمُعَاهِدَ : فَهَذَا أَيْضًا حَالُهُمْ ؛ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَسَائِرُ الْأُمَّةِ كُفَّارٌ . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شريح قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ سَتَكُونُ هناة وهناة فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَفِي لَفْظٍ : فَاقْتُلُوهُ } وَفِي لَفْظٍ : { مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ وَيُفَرِّقُ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ } . وَهَؤُلَاءِ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى تَفْرِيقِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ لِوَلِيِّ أَمْرٍ بِطَاعَةِ سَوَاءٌ كَانَ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا ؛ وَلَا يُطِيعُونَهُ لَا فِي طَاعَةٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا ؛ بَلْ أَعْظَمُ أُصُولِهِمْ عِنْدَهُمْ التَّكْفِيرُ وَاللَّعْنُ وَالسَّبُّ لِخِيَارِ وُلَاةِ الْأُمُورِ ؛ كَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَشَايِخِهِمْ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ فَمَا آمَنَ

بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَإِنَّمَا كَانَ هَؤُلَاءِ شَرًّا مِنْ الْخَوَارِج الحرورية وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لِاشْتِمَالِ مَذَاهِبِهِمْ عَلَى شَرٍّ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبُ الْخَوَارِجِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ الحرورية كَانُوا أَوَّلَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ خُرُوجًا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؛ مَعَ وُجُودِ بَقِيَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَبَقَايَا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَظُهُورِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَدْلِ فِي الْأُمَّةِ وَإِشْرَاقِ نُورِ النُّبُوَّةِ وَسُلْطَانِ الْحُجَّةِ وَسُلْطَانِ الْقُدْرَةِ ؛ حَيْثُ أَظْهَرَ اللَّهُ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ بِالْحُجَّةِ وَالْقُدْرَةِ . وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِمْ مَا فَعَلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَمَنْ مَعَهُمَا مِنْ الْأَنْوَاعِ الَّتِي فِيهَا تَأْوِيلٌ فَلَمْ يَحْتَمِلُوا ذَلِكَ وَجَعَلُوا مَوَارِدَ الِاجْتِهَادِ . بَلْ الْحَسَنَاتِ ذُنُوبًا وَجَعَلُوا الذُّنُوبَ كُفْرًا وَلِهَذَا لَمْ يَخْرُجُوا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ لِانْتِفَاءِ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ وَضَعْفِهِمْ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كُلَّمَا ظَهَرَ نُورُ النُّبُوَّةِ كَانَتْ الْبِدْعَةُ الْمُخَالِفَةُ أَضْعَفَ فَلِهَذَا كَانَتْ الْبِدْعَةُ الْأَوْلَى أَخَفَّ مِنْ الثَّانِيَةِ والمستأخرة تَتَضَمَّنُ مَنْ جِنْسِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأُولَى وَزِيَادَةً عَلَيْهَا . كَمَا أَنَّ السُّنَّةَ كُلَّمَا كَانَ أَصْلُهَا أَقْرَبَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أَفْضَلَ . فَالسُّنَنُ ضِدُّ الْبِدَعِ فَكُلُّ مَا قَرُبَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّا

تَأَخَّرَ كَسِيرَةِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالْبِدَعُ بِالضِّدِّ كُلُّ مَا بَعُدَ عَنْهُ كَانَ شَرًّا مِمَّا قَرُبَ مِنْهُ وَأَقْرَبُهَا مِنْ زَمَنِهِ الْخَوَارِجُ . فَإِنَّ التَّكَلُّمَ بِبِدْعَتِهِمْ ظَهَرَ فِي زَمَانِهِ ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَجْتَمِعُوا وَتَصِيرُ لَهُمْ قُوَّةٌ إلَّا فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . ثُمَّ ظَهَرَ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ التَّكَلُّمُ بِالرَّفْضِ ؛ لَكِنْ لَمْ يَجْتَمِعُوا وَيَصِيرُ لَهُمْ قُوَّةٌ إلَّا بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلْ لَمْ يَظْهَرْ اسْمُ الرَّفْضِ إلَّا حِينَ خُرُوجِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بَعْدَ الْمِائَةِ الْأُولَى لَمَّا أَظْهَرَ التَّرَحُّمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَفَضَتْهُ الرَّافِضَةُ فَسُمُّوا " رَافِضَةً " وَاعْتَقَدُوا أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ هُوَ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ . وَاتَّبَعَهُ آخَرُونَ فَسُمُّوا " زَيْدِيَّةً " نِسْبَةً إلَيْهِ . ثُمَّ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ نَبَغَ التَّكَلُّمُ بِبِدْعَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ فَرَدَّهَا بَقَايَا الصَّحَابَةِ ؛ كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي سَعِيدٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَلَمْ يَصِرْ لَهُمْ سُلْطَانٌ وَاجْتِمَاعٌ حَتَّى كَثُرَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْمُرْجِئَةُ بَعْدَ ذَلِكَ . ثُمَّ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ ظَهَرَ التَّكَلُّمُ بِبِدْعَةِ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ اجْتِمَاعٌ وَسُلْطَانٌ إلَّا بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ فِي إمَارَةِ أَبَى الْعَبَّاسِ الْمُلَقَّبِ بِالْمَأْمُونِ ؛ فَإِنَّهُ أَظْهَرَ التَّجَهُّمَ وَامْتَحَنَ النَّاسَ عَلَيْهِ وَعَرَّبَ كُتُبَ

الْأَعَاجِمِ : مِنْ الرُّومِ واليونانيين وَغَيْرِهِمْ . وَفِي زَمَنِهِ ظَهَرَتْ " الخرمية " . وَهُمْ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَتَفَرَّعُوا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ والْإِسْماعيليَّة . وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ يَنْتَحِلُونَ الرَّفْضَ فِي الظَّاهِرِ . وَصَارَتْ الرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ فِي زَمَنِ بَنِي بويه بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ فِيهِمْ عَامَّةً هَذِهِ الْأَهْوَاءُ الْمُضِلَّةُ : فِيهِمْ الْخُرُوجُ وَالرَّفْضُ وَالْقَدَرُ وَالتَّجَهُّمُ . وَإِذَا تَأَمَّلَ الْعَالِمُ مَا نَاقَضُوهُ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ . فَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ فِيهِمْ مَا فِي الْخَوَارِج الحرورية وَزِيَادَاتٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْخَوَارِج الحرورية كَانُوا يَنْتَحِلُونَ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ بِآرَائِهِمْ وَيَدَّعُونَ اتِّبَاعَ السُّنَنِ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُخَالِفُ الْقُرْآنَ . وَالرَّافِضَةُ تَنْتَحِلُ اتِّبَاعِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَتَزْعُمُ أَنَّ فِيهِمْ الْمَعْصُومَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ وَلَا يُخْطِئُ . لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا وَلَا رُشْدًا . وَاتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ ؛ بَلْ هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَهُدَى اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ وَكَذَلِكَ أَهْلُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجِبُ مَحَبَّتُهُمْ " وَمُوَالَاتُهُمْ وَرِعَايَةُ حَقِّهِمْ . وَهَذَانِ الثَّقَلَان اللَّذَانِ وَصَّى بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ { زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَدِيرِ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ؛ إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ } - وَفِي رِوَايَةٍ { أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنْ الْآخَرِ - كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى

وَالنُّورُ } فَرَغِبَ فِي كِتَابِ اللَّهِ " وَفِي رِوَايَةٍ : { هُوَ حَبْلُ اللَّهِ مَنْ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى الضَّلَالَةِ وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي . أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي } . فَقِيلَ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ : مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ ؟ قَالَ : أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حَرَّمَ الصَّدَقَةَ : آلُ الْعَبَّاسِ وَآلُ عَلِيٍّ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ . وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ أَنَّ تُذْكَرَ هُنَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ حِسَانٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ مِنْ أَجْلِي } وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ بِالصَّلَاةِ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَطَهَّرَهُمْ مِنْ الصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ وَجَعَلَ لَهُمْ حَقًّا فِي الْخُمُسِ وَالْفَيْءِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى بَنِي إسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَة وَاصْطَفَى بَنِي هَاشِمٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَأَنَا خَيْرُكُمْ نَفْسًا وَخَيْرَكُمْ نَسَبًا } . وَلَوْ ذَكَرْنَا مَا رُوِيَ فِي حُقُوقِ الْقَرَابَةِ وَحُقُوقِ الصَّحَابَةِ لَطَالَ الْخِطَابُ فَإِنَّ دَلَائِلَ هَذَا كَثِيرَةٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِ الصَّحَابَةِ وَالْقَرَابَةِ وَتَبَرَّءُوا مِنْ النَّاصِبَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَيُفَسِّقُونَهُ

وَيَنْتَقِصُونَ بِحُرْمَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ ؛ مِثْلَ مَنْ كَانَ يُعَادِيهِمْ عَلَى الْمُلْكِ أَوْ يُعْرِضُ عَنْ حُقُوقِهِمْ الْوَاجِبَةِ أَوْ يَغْلُو فِي تَعْظِيمِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِغَيْرِ الْحَقِّ . وَتَبَرَّءُوا مِنْ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يَطْعَنُونَ عَلَى الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَيُكَفِّرُونَ عَامَّةَ صَالِحِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ . وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ ذَنْبًا وَضَلَالًا مِنْ أُولَئِكَ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الرَّافِضَةَ الْمُحَارِبِينَ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِجِ وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ انْتَحَلَتْ إحْدَى الثَّقَلَيْنِ ؛ لَكِنَّ الْقُرْآنَ أَعْظَمُ . فَلِهَذَا كَانَتْ الْخَوَارِجُ أَقَلَّ ضَلَالًا مِنْ الرَّوَافِضِ ؛ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُخَالَفَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمُخَالَفَةٌ لِصَحَابَتِهِ وَقَرَابَتِهِ وَمُخَالِفُونَ لِسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَلِعِتْرَتِهِ أَهْلِ بَيْتِهِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي إجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ وَفِي إجْمَاعِ الْعِتْرَةِ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ كِلَيْهِمَا حُجَّةٌ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ } وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي السُّنَنِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ : كِتَابُ اللَّهِ وَعِتْرَتِي وَأَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَى الْحَوْضِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَفِيهِ نَظَرٌ . وَكَذَلِكَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ الْمُحَارِبِينَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ نَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِهِمْ وَرَغَّبَ فِيهِ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَارِفِينَ بِحَقِيقَتِهِ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَمَلَ الْجَمِيعَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُمْ دَخَلُوا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ وَالْفَحْوَى أَوْ مِنْ بَابِ كَوْنِهِمْ فِي مَعْنَاهُمْ . فَإِنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ بِأَلْفَاظِ مُتَنَوِّعَةٍ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ - وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ - عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَوَاَللَّهِ لَأَنْ أَخِرُّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ و إذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حِدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : " عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِينَ سَارُوا إلَى الْخَوَارِجِ . فَقَالَ عَلِيٌّ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءِ وَلَا صَلَاتُكُمْ إلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءِ وَلَا صِيَامُكُمْ إلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءِ . يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ

لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ لَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ } . وَاَللَّهُ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النَّاسِ . فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ . وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا " عَنْ عُبَيدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ كَاتِبِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الحرورية لَمَّا خَرَجَتْ وَهُوَ مَعَ عَلِيٍّ قَالُوا : لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ . فَقَالَ عَلِيٌّ : كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ . إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ نَاسًا إنِّي لَأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لَا يُجَاوِزُ هَذَا مِنْهُمْ وَأَشَارَ إلَى حَلْقه مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إحْدَى يَدَيْهِ طُبْيُ شَاةٍ أَوْ حَلَمَةُ ثَدْيٍ . فَلَمَّا قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ طَالِبٍ قَالَ : اُنْظُرُوا . فَنَطَرُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا . فَقَالَ : ارْجِعُوا فَوَاَللَّهِ مَا كَذَبْت وَلَا كَذَبْت - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي خَرِبَةٍ فَأَتَوْا بِهِ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ " . وَهَذِهِ الْعَلَامَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ عَلَامَةُ أَوَّلِ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهُمْ لَيْسُوا مَخْصُوصِينَ بِأُولَئِكَ الْقَوْمِ . فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ

فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ إلَى زَمَنِ الدَّجَّالِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْخَوَارِجَ لَيْسُوا مُخْتَصِّينَ بِذَلِكَ الْعَسْكَرِ . وَأَيْضًا فَالصِّفَاتُ الَّتِي وَصَفَهَا تَعُمُّ غَيْرَ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَرْوُونَ الْحَدِيثَ مُطْلَقًا مِثْلَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ : أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ فَسَأَلَاهُ عَنْ الحرورية : هَلْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُهَا ؟ قَالَ : لَا أَدْرِي ؛ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ - وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا - قَوْمٌ تُحَقِّرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ أَوْ حُلُوقَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ فَيَنْظُرُ الرَّامِي إلَى سَهْمِهِ إلَى نَصْلِهِ إلَى رِصَافِهِ : فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَةِ هَلْ عَلِقَ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الدَّمِ } اللَّفْظُ لِمُسْلِمِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : { بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ ذُو الخويصرة التَّمِيمِيُّ - وَفِي رِوَايَةٍ أَتَاهُ ذُو الخويصرة رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ - فَقَالَ : اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ : وَيْلك مَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ قَدْ خِبْت وَخَسِرْت إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ . قَالَ : دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَنْظُرُ إلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ

ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى نَضْيِهِ - وَهُوَ قَدَحُهُ - فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ . قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ } . وَذَكَرَ مَا فِي الْحَدِيثِ . فَهَؤُلَاءِ أَصْلُ ضَلَالِهِمْ : اعْتِقَادُهُمْ فِي أَئِمَّةِ الْهُدَى وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنْ الْعَدْلِ وَأَنَّهُمْ ضَالُّونَ وَهَذَا مَأْخَذُ الْخَارِجِينَ عَنْ السُّنَّةِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ ثُمَّ يَعُدُّونَ مَا يَرَوْنَ أَنَّهُ ظُلْمٌ عِنْدَهُمْ كُفْرًا . ثُمَّ يُرَتَّبُونَ عَلَى الْكُفْرِ أَحْكَامًا ابْتَدَعُوهَا . فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ لِلْمَارِقِينَ مِنْ الحرورية وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ . فِي كُلِّ مَقَامٍ تَرَكُوا بَعْضَ أُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ حَتَّى مَرَقُوا مِنْهُ كَمَا مَرَقَ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ : { يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ ؛ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلُهُمْ قَتْلَ عَادٍ } وَهَذَا نَعْتُ سَائِرِ الْخَارِجِينَ كَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِلُّونَ مِنْ دِمَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُرْتَدِّينَ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ شَرٌّ مَنْ غَيْرِهِ . وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ : أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ قَوْمًا يَكُونُونَ فِي أُمَّتِهِ : يَخْرُجُونَ فِي فِرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ . قَالَ : هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ أَوْ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ تَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } وَهَذِهِ السِّيمَا سِيمَا أَوَّلِهِمْ كَمَا كَانَ ذُو الثدية ؛ لِأَنَّ هَذَا وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُمْ .

وَأَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثَهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حنيف بِهَذَا الْمَعْنَى وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَرَافِعِ بْنِ عَمْرٍو وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمْ وَرَوَى النِّسَائِيُّ { عَنْ أَبِي بَرْزَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : هَلْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْخَوَارِجَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُذُنِي وَرَأَيْته بِعَيْنِي : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِمَالِ فَقَسَمَهُ فَأَعْطَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَمَنْ عَنْ شِمَالِهِ ؛ وَلَمْ يُعْطِ مَنْ وَرَاءَهُ شَيْئًا . فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ وَرَائِهِ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ؛ مَا عَدَلْت فِي الْقِسْمَةِ - رَجُلٌ أَسْوَدُ مَطْمُومُ الشَّعْرِ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَبْيَضَانِ - فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ لَهُ : وَاَللَّهِ لَا تَجِدُونَ بَعْدِي رَجُلًا هُوَ أَعْدَلُ مِنِّي ثُمَّ قَالَ : يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ كَأَنَّ هَذَا مِنْهُمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ لَا يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ الدَّجَّالِ . فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ . هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي - أَوْ سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي - قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ } . قَالَ ابْنُ الصَّامِتِ : فَلَقِيت

رَافِعَ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ أَخَا الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ قُلْت : مَا حَدِيثٌ سَمِعْته مِنْ أَبِي ذَرٍّ كَذَا وَكَذَا ؟ فَذَكَرْت لَهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ : وَأَنَا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَهَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةٌ فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي غَيْرِهِمْ . وَإِنَّمَا قَوْلُنَا : إنَّ عَلِيًّا قَاتَلَ الْخَوَارِجَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا يُقَالُ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَ الْكُفَّارَ أَيْ قَاتَلَ جِنْسَ الْكُفَّارِ وَإِنْ كَانَ الْكُفْرُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً . وَكَذَلِكَ الشِّرْكُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْآلِهَةُ الَّتِي كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْبُدُهَا هِيَ الَّتِي تَعْبُدُهَا الْهِنْدُ وَالصِّينُ وَالتُّرْكُ ؛ لَكِنْ يَجْمَعُهُمْ لَفْظُ الشِّرْكِ وَمَعْنَاهُ . وَكَذَلِكَ الْخُرُوجُ وَالْمُرُوقُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي مَعْنَى أُولَئِكَ وَيَجِبُ قِتَالُهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَجَبَ قِتَالُ أُولَئِكَ . وَإِنْ كَانَ الْخُرُوجُ عَنْ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ خُرُوجَ الرَّافِضَةِ وَمُرُوقَهُمْ أَعْظَمُ بِكَثِيرِ .
فَأَمَّا قَتْلُ الْوَاحِدِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ الْخَوَارِجِ ؛ كالحرورية وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ : فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ ؛ كَالدَّاعِيَةِ إلَى مَذْهَبِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّنْ فِيهِ

فَسَادٌ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } وَقَالَ : { لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } وَقَالَ عُمَرُ لِصَبِيغِ بْنِ عِسْلٍ : لَوْ وَجَدْتُك مَحْلُوقًا لَضَرَبْت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك . وَلِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ طَلَبَ أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ أَوَّلَ الرَّافِضَةِ حَتَّى هَرَبَ مِنْهُ . وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ . فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ فَسَادُهُمْ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلُوا وَلَا يَجِبُ قَتْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا لَمْ يَظْهَرْ هَذَا الْقَوْلُ أَوْ كَانَ فِي قَتْلِهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ . وَلِهَذَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ ذَلِكَ الْخَارِجِيِّ ابْتِدَاءً لِئَلَّا يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ " وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ فِيهِ فَسَادٌ عَامٌّ ؛ وَلِهَذَا تَرَكَ عَلِيٌّ قَتْلَهُمْ أَوَّلَ مَا ظَهَرُوا لِأَنَّهُمْ كَانُوا خَلْقًا كَثِيرًا وَكَانُوا دَاخِلِينَ فِي الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ظَاهِرًا لَمْ يُحَارِبُوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ وَلَمْ يَكُنْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّهُمْ هُمْ .
وَأَمَّا تَكْفِيرُهُمْ وَتَخْلِيدُهُمْ : فَفِيهِ أَيْضًا لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ : وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَالْقَوْلَانِ فِي الْخَوَارِجِ وَالْمَارِقِينَ مِنْ الحرورية وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الَّتِي يَقُولُونَهَا الَّتِي يُعْلَمُ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كُفْرٌ وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِ الْكُفَّارِ بِالْمُسْلِمِينَ هِيَ كُفْرٌ أَيْضًا . وَقَدْ ذَكَرْت دَلَائِلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لَكِنْ تَكْفِيرُ الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ مِنْهُمْ وَالْحُكْمُ بِتَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ مَوْقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِ شُرُوطِ التَّكْفِيرِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ . فَإِنَّا نُطْلِقُ

الْقَوْلَ بِنُصُوصِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَلَا نَحْكُمُ لِلْمُعَيَّنِ بِدُخُولِهِ فِي ذَلِكَ الْعَامِّ حَتَّى يَقُومَ فِيهِ الْمُقْتَضَى الَّذِي لَا مَعَارِضَ لَهُ . وَقَدْ بَسَطْت هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فِي " قَاعِدَةِ التَّكْفِيرِ " . وَلِهَذَا لَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُفْرِ الَّذِي قَالَ : إذَا أَنَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَأَنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ مَعَ شَكِّهِ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِعَادَتِهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُكَفِّرُ الْعُلَمَاءُ مِنْ اسْتَحَلَّ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ لِنَشْأَتِهِ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ ؛ فَإِنَّ حُكْمَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ . وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَكُونُ قَدْ بَلَغَتْهُ النُّصُوصُ الْمُخَالِفَةُ لِمَا يَرَاهُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ بَعَثَ بِذَلِكَ فَيُطْلِقُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُفْرٌ وَيُكَفِّرُ مَتَى قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا ؛ دُونَ غَيْرِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؟ .
مَا تَقُولُ الْفُقَهَاءُ أَئِمَّةِ الدِّينِ :
فِي هَؤُلَاءِ التَّتَارِ الَّذِينَ قَدِمُوا سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ وَفَعَلُوا مَا اشْتَهَرَ مَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ بَعْضِ الذَّرَارِيِّ وَالنَّهْبِ لِمَنْ وَجَدُوهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهَتَكُوا حُرُمَاتِ الدِّينِ مِنْ إذْلَالِ الْمُسْلِمِينَ وَإِهَانَةِ الْمَسَاجِدِ لَا سِيَّمَا " بَيْتُ الْمَقْدِسِ " وَأَفْسَدُوا فِيهِ

وَأَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ الْحِمْلَ الْعَظِيمَ وَأَسَرُوا مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ الْجَمَّ الْغَفِيرَ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ أَوْطَانِهِمْ . وَادَّعَوْا مَعَ ذَلِكَ التَّمَسُّكَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَادَّعَوْا تَحْرِيمَ قِتَالِ مُقَاتِلِهِمْ لَمَّا زَعَمُوا مِنْ اتِّبَاعِ أَصْلِ الْإِسْلَامِ وَلِكَوْنِهِمْ عَفَوْا عَنْ اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ . فَهَلْ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ أَوْ يَجِبُ وَأَيُّمَا كَانَ فَمِنْ أَيِّ الْوُجُوهِ جَوَازُهُ أَوْ وُجُوبُهُ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، كُلُّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ الْتِزَامِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ؛ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَهُ وَإِنْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ نَاطِقِينَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَمُلْتَزِمِينَ بَعْضَ شَرَائِعِهِ كَمَا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَانِعِي الزَّكَاةَ . وَعَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَهُمْ بَعْدَ سَابِقَةِ مُنَاظَرَةِ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . فَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى الْقِتَالِ عَلَى حُقُوقِ الْإِسْلَامِ عَمَلًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ الْحَدِيثُ عَنْ الْخَوَارِجِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ مَعَ قَوْلِهِ : { تُحَقِّرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ } فَعُلِمَ أَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِصَامِ بِالْإِسْلَامِ مَعَ عَدَمِ الْتِزَامِ شَرَائِعِهِ لَيْسَ بِمُسْقِطِ لِلْقِتَالِ . فَالْقِتَالُ وَاجِبٌ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَحَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ . فَمَتَى كَانَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ

فَالْقِتَالُ وَاجِبٌ . فَأَيُّمَا طَائِفَةٍ امْتَنَعَتْ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ أَوْ الصِّيَامِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ عَنْ الْتِزَامِ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالْمَيْسِرِ أَوْ عَنْ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أَوْ عَنْ الْتِزَامِ جِهَادِ الْكُفَّارِ أَوْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وَاجِبَاتِ الدِّينِ وَمُحَرَّمَاتِهِ - الَّتِي لَا عُذْرَ لِأَحَدِ فِي جُحُودِهَا وَتَرْكِهَا - الَّتِي يَكْفُرُ الْجَاحِدُ لِوُجُوبِهَا . فَإِنَّ الطَّائِفَةَ الْمُمْتَنِعَةَ تُقَاتَلُ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ مُقِرَّةٌ بِهَا . وَهَذَا مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ إذَا أَصَرَّتْ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ السُّنَنِ كَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ - عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِوُجُوبِهَا - وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الشَّعَائِرِ . هَلْ تُقَاتَلُ الطَّائِفَةُ الْمُمْتَنِعَةُ عَلَى تَرْكِهَا أَمْ لَا ؟ فَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ وَالْمُحَرَّمَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَنَحْوُهَا فَلَا خِلَافَ فِي الْقِتَالِ عَلَيْهَا . وَهَؤُلَاءِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ ؛ كَأَهْلِ الشَّامِ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . فَإِنَّ أُولَئِكَ خَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ أَوْ خَارِجُونَ عَلَيْهِ لِإِزَالَةِ وِلَايَتِهِ . وَأَمَّا الْمَذْكُورُونَ فَهُمْ خَارِجُونَ عَنْ

الْإِسْلَامِ ؛ بِمَنْزِلَةِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَبِمَنْزِلَةِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَلِهَذَا افْتَرَقَتْ سِيرَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِتَالِهِ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَفِي قِتَالِهِ لِأَهْلِ النهروان : فَكَانَتْ سِيرَتُهُ مَعَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالشَّامِيِّينَ سِيرَةَ الْأَخِ مَعَ أَخِيهِ وَمَعَ الْخَوَارِجِ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَثَبَتَتْ النُّصُوصُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مِنْ قِتَالِ الصِّدِّيقِ وَقِتَالِ الْخَوَارِجِ ؛ بِخِلَافِ الْفِتْنَةِ الْوَاقِعَةِ مَعَ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ ؛ فَإِنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ فِيهَا بِمَا دَلَّتْ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ اخْتَلَفُوا فِيهَا . عَلَى أَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْأَئِمَّةِ مَنْ يَرَى أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ الَّذِينَ يَجِبُ قِتَالُهُمْ هُمْ الْخَارِجُونَ عَلَى الْإِمَامِ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ ؛ لَا الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ . وَآخَرُونَ يَجْعَلُونَ الْقِسْمَيْنِ بُغَاةً وَبَيْنَ الْبُغَاةِ وَالتَّتَارِ فَرْقٌ بَيِّنٌ . فَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَلْتَزِمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ ؛ فَلَا أَعْلَمُ فِي وُجُوبِ قِتَالِهِمْ خِلَافًا . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الْمَسْئُولُ عَنْهُمْ عَسْكَرُهُمْ مُشْتَمِلٌ عَلَى قَوْمٍ كُفَّارٍ مِنْ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَعَلَى قَوْمٍ مُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ - وَهُمْ جُمْهُورُ الْعَسْكَرِ - يَنْطِقُونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ إذَا طُلِبَتْ مِنْهُمْ وَيُعَظِّمُونَ الرَّسُولَ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُصَلِّي إلَّا قَلِيلًا جِدًّا وَصَوْمُ رَمَضَانَ أَكْثَرُ فِيهِمْ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْمُسْلِمُ عِنْدَهُمْ أَعْظَمُ مِنْ غَيْرِهِ

وَلِلصَّالِحِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُمْ قَدْرٌ وَعِنْدَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ بَعْضُهُ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ ؛ لَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّتُهُمْ وَاَلَّذِي يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ مُتَضَمِّنٌ لِتَرْكِ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرِهَا ؛ فَإِنَّهُمْ أَوَّلًا يُوجِبُونَ الْإِسْلَامَ وَلَا يُقَاتِلُونَ مَنْ تَرَكَهُ ؛ بَلْ مَنْ قَاتَلَ عَلَى دَوْلَةِ الْمَغُولِ عَظَّمُوهُ وَتَرَكُوهُ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا عَدُوًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَكُلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ دَوْلَةِ الْمَغُولِ أَوْ عَلَيْهَا اسْتَحَلُّوا قِتَالَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ . فَلَا يُجَاهِدُونَ الْكُفَّارَ وَلَا يُلْزِمُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ وَلَا يَنْهَوْنَ أَحَدًا مِنْ عَسْكَرِهِمْ أَنْ يَعْبُدَ مَا شَاءَ مِنْ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ بَلْ الظَّاهِرُ مِنْ سِيرَتِهِمْ أَنَّ الْمُسْلِمَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَدْلِ أَوْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ أَوْ الْمُتَطَوِّعِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْفَاسِقِ فِي الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِمَنْزِلَةِ تَارِكِ التَّطَوُّعِ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا عَامَّتُهُمْ لَا يُحَرِّمُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ ؛ إلَّا أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْهَا سُلْطَانُهُمْ أَيْ لَا يَلْتَزِمُونَ تَرْكَهَا وَإِذَا نَهَاهُمْ عَنْهَا أَوْ عَنْ غَيْرِهَا أَطَاعُوهُ لِكَوْنِهِ سُلْطَانًا لَا بِمُجَرَّدِ الدِّينِ . وَعَامَّتُهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَ أَدَاءَ الْوَاجِبَاتِ ؛ لَا مِنْ الصَّلَاةِ وَلَا مِنْ الزَّكَاةِ وَلَا مِنْ الْحَجِّ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَلَا يَلْتَزِمُونَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ اللَّهِ ؛ بَلْ يَحْكُمُونَ بِأَوْضَاعِ لَهُمْ تُوَافِقُ الْإِسْلَامَ تَارَةً وَتُخَالِفُهُ أُخْرَى . وَإِنَّمَا كَانَ الْمُلْتَزِمُ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الشيزبرون وَهُوَ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مَا اسْتَفَاضَ عِنْدَ النَّاسِ . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَدَخَلُوا فِيهِ وَمَا الْتَزَمُوا شَرَائِعَهُ .

وَقِتَالُ هَذَا الضَّرْبِ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ مَنْ عَرَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَعَرَفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَذَا السِّلْمَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ وَدِينَ الْإِسْلَامِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا . وَإِذَا كَانَ الْأَكْرَادُ وَالْأَعْرَابُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي الَّذِينَ لَا يَلْتَزِمُونَ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ يَجِبُ قِتَالُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ ضَرَرُهُمْ إلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ فَكَيْفَ بِهَؤُلَاءِ . نَعَمْ يَجِبُ أَنْ يُسْلَكَ فِي قِتَالِهِ الْمَسْلَكُ الشَّرْعِيُّ مِنْ دُعَائِهِمْ إلَى الْتِزَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ إنْ لَمْ تَكُنْ الدَّعْوَةُ إلَى الشَّرَائِعِ قَدْ بَلَغَتْهُمْ كَمَا كَانَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ يُدْعَى أَوَّلًا إلَى الشَّهَادَتَيْنِ إنْ لَمْ تَكُنْ الدَّعْوَةُ قَدْ بَلَغَتْهُ . فَإِنْ اتَّفَقَ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْكَامِلِ فَهُوَ الْغَايَةُ فِي رِضْوَانِ اللَّهِ وَإِعْزَازِ كَلِمَتِهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ فِيهِ فُجُورٌ وَفَسَادُ نِيَّةٍ بِأَنْ يَكُونَ يُقَاتِلُ عَلَى الرِّيَاسَةِ أَوْ يَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَكَانَتْ مَفْسَدَةُ تَرْكِ قِتَالِهِمْ أَعْظَمُ عَلَى الدِّينِ مِنْ مَفْسَدَةِ قِتَالِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ : كَانَ الْوَاجِبُ أَيْضًا قِتَالَهُمْ دَفْعًا لِأَعْظَمِ الْمُفْسِدَتَيْنِ بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهَا . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْغَزْوُ مَعَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَّفِقْ الْغَزْوُ إلَّا مَعَ الْأُمَرَاءِ الْفُجَّارِ أَوْ مَعَ عَسْكَرٍ كَثِيرِ الْفُجُورِ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ

أَمْرَيْنِ : إمَّا تَرْكُ الْغَزْوِ مَعَهُمْ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِيلَاءُ الْآخَرِينَ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ ضَرَرًا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَإِمَّا الْغَزْوُ مَعَ الْأَمِيرِ الْفَاجِرِ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ دَفْعُ الْأَفْجَرِينَ وَإِقَامَةُ أَكْثَرِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ ؛ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إقَامَةُ جَمِيعِهَا . فَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَكُلِّ مَا أَشْبَهَهَا ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْغَزْوِ الْحَاصِلِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَقَعْ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ : الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ } فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْغَزْوُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ } وَمَا اسْتَفَاضَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا فِي جِهَادِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْجِهَادَ مَعَ الْأُمَرَاءِ أَبْرَارِهِمْ وَفُجَّارِهِمْ ؛ بِخِلَافِ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ الْخَارِجِينَ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . هَذَا مَعَ إخْبَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ { سَيَلِي أُمَرَاءُ ظَلَمَةٌ خَوَنَةٌ فَجَرَةٌ . فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْت مِنْهُ

وَلَا يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ . وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ . وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ } . فَإِذَا أَحَاطَ الْمَرْءُ عِلْمًا بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِهَادِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْأُمَرَاءُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبِمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ إعَانَةِ الظَّلَمَةِ عَلَى ظُلْمِهِمْ : عَلِمَ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْوُسْطَى الَّتِي هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْمَحْضِ جِهَادُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْجِهَادَ كَهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ وَطَائِفَةٍ هِيَ أَوْلَى بِالْإِسْلَامِ مِنْهُمْ إذَا لَمْ يُمْكِنْ جِهَادُهُمْ إلَّا كَذَلِكَ وَاجْتِنَابُ إعَانَةِ الطَّائِفَةِ الَّتِي يَغْزُو مَعَهَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ ؛ بَلْ يُطِيعُهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَلَا يُطِيعُهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ إذْ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا . وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ . وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ طَرِيقِ الحرورية وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ يسلك مَسْلَكَ الْوَرِعِ الْفَاسِدِ النَّاشِئِ عَنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طَرِيقَةِ الْمُرْجِئَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ يَسْلُكُ مَسْلَكَ طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَبْرَارًا . وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .

مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَأَعَانَهُمْ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ الْمُبِينِ وَكَشْفِ غَمَرَاتِ الْجَاهِلِينَ وَالزَّائِغِينَ :
فِي هَؤُلَاءِ التَّتَارِ الَّذِينَ يَقْدَمُونَ إلَى الشَّامِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَتَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ وَانْتَسَبُوا إلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَبْقَوْا عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ أَمْ لَا ؟ وَمَا الْحُجَّةُ عَلَى قِتَالِهِمْ ؟ وَمَا مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِمَّنْ يَفِرُّ إلَيْهِمْ مِنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ : الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ ؟ وَمَا حُكْمُ مِنْ قَدْ أَخْرَجُوهُ مَعَهُمْ مُكْرَهًا ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ يَكُونُ مَعَ عَسْكَرِهِمْ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْفَقْرِ وَالتَّصَوُّفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؟ وَمَا يُقَالُ فِيمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَالْمُقَاتِلُونَ لَهُمْ مُسْلِمُونَ وَكِلَاهُمَا ظَالِمٌ فَلَا يُقَاتَلُ مَعَ أَحَدِهِمَا . وَفِي قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ كَمَا تُقَاتَلُ الْبُغَاةُ الْمُتَأَوِّلُونَ ؟ وَمَا الْوَاجِبُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَأَهْلِ الْقِتَالِ وَأَهْلِ الْأَمْوَالِ فِي أَمْرِهِمْ ؟ أَفْتُونَا فِي ذَلِكَ بِأَجْوِبَةِ مَبْسُوطَةٍ شَافِيَةٍ فَإِنَّ أَمْرَهُمْ قَدْ أُشْكِلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ عَلَى أَكْثَرِهِمْ . تَارَةً لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِهِمْ . وَتَارَةً لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِحُكْمِ اللَّهِ

تَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَثَلِهِمْ . وَاَللَّهُ الْمُيَسِّرُ لِكُلِّ خَيْرٍ بِقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ؛ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ حَسَبُنَا وَنَعِمَ الْوَكِيلُ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَعَمْ يَجِبُ قِتَالُ هَؤُلَاءِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ؛ وَاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْمَعْرِفَةُ بِحَالِهِمْ . وَالثَّانِي مَعْرِفَةُ حُكْمِ اللَّهِ فِي مَثَلِهِمْ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكُلُّ مَنْ بَاشَرَ الْقَوْمَ يَعْلَمُ حَالَهُمْ وَمَنْ لَمْ يُبَاشِرْهُمْ يَعْلَمُ ذَلِكَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَأَخْبَارِ الصَّادِقِينَ . وَنَحْنُ نَذْكُرُ جُلَّ أُمُورِهِمْ بَعْدَ أَنْ نُبَيِّنَ الْأَصْلَ الْآخَرَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَنَقُولُ :
كُلُّ طَائِفَةٍ خَرَجَتْ عَنْ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛
وَإِنْ تَكَلَّمَتْ بِالشَّهَادَتَيْنِ . فَإِذَا أَقَرُّوا بِالشَّهَادَتَيْنِ وَامْتَنَعُوا عَنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُصَلُّوا . وَإِنْ امْتَنَعُوا عَنْ الزَّكَاةِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُؤَدُّوا الزَّكَاةَ . وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ حَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ . وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ أَوْ الزِّنَا أَوْ الْمَيْسِرِ أَوْ الْخَمْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الشَّرِيعَةِ . وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ الْحُكْمِ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَبْضَاعِ وَنَحْوِهَا بِحُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ

إنْ امْتَنَعُوا عَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَجِهَادِ الْكُفَّارِ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا وَيُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ . وَكَذَلِكَ إنْ أَظْهَرُوا الْبِدَعَ الْمُخَالِفَةَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ؛ مِثْلَ أَنْ يُظْهِرُوا الْإِلْحَادَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ أَوْ التَّكْذِيبَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَوْ التَّكْذِيبَ بِقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ أَوْ التَّكْذِيبَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ الطَّعْنِ فِي السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ أَوْ مُقَاتَلَةَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي طَاعَتِهِمْ الَّتِي تُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْأُمُورِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الدِّينِ لِلَّهِ وَبَعْضُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَجَبَ الْقِتَالُ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } . وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ وَكَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا وَصَلَّوْا وَصَامُوا لَكِنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا . وَقَالَ : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَقَدْ قُرِئَ ( فَأْذَنُوا ) وَآذِنُوا وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ . وَالرِّبَا

آخِرُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مَالٌ يُؤْخَذُ بِتَرَاضِي الْمُتَعَامِلِينَ . فَإِذَا كَانَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْهُ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي هِيَ أَسْبَقُ تَحْرِيمًا وَأَعْظَمُ تَحْرِيمًا . وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحَادِيثُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَقَدْ رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ : حَدِيثَ عَلِيٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري وَسَهْلِ بْنِ حنيف . وَفِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ طُرُقُ أُخَرُ مُتَعَدِّدَةٌ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَتِهِمْ { يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } . وَهَؤُلَاءِ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا ؛ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي قِتَالِهِمْ كَمَا تَنَازَعُوا فِي الْقِتَالِ يَوْمَ الْجَمَلِ وصفين . فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : قَوْمٌ قَاتَلُوا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَقَوْمٌ قَاتَلُوا مَعَ مَنْ قَاتَلَهُ . وَقَوْمٌ قَعَدُوا عَنْ الْقِتَالِ لَمْ يُقَاتِلُوا الْوَاحِدَةَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ . وَأَمَّا الْخَوَارِجُ

فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا نَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ } . وَفِي لَفْظٍ { أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } فَبِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ . وَإِنَّ تِلْكَ الْمَارِقَةَ الَّتِي مَرَقَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ لَيْسَ حُكْمُهَا حُكْمَ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ؛ بَلْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ هَذِهِ الْمَارِقَةِ وَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِقِتَالِهَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا أَمَرَ بِقِتَالِ هَذِهِ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لِلْحَسَنِ : { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَمَدَحَ الْحَسَنَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا أَصْلَحَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ حِينَ تَرَكَ الْقِتَالَ وَقَدْ بُويِعَ لَهُ وَاخْتَارَ الْأَصْلَحَ وَحَقَنَ الدِّمَاءَ مَعَ نُزُولِهِ عَنْ الْأَمْرِ . فَلَوْ كَانَ الْقِتَالُ مَأْمُورًا بِهِ لَمْ يَمْدَحْ الْحَسَنَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِتَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ . وَالْعُلَمَاءُ لَهُمْ فِي قِتَالِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقِتَالَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ طَرِيقَانِ : مِنْهُمْ مَنْ يَرَى قِتَالًا عَلَى يَوْمِ حَرُورَاءَ وَيَوْمِ الْجَمَلِ وصفين كُلُّهُ مِنْ بَابِ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَكَذَلِكَ يَجْعَلُ قِتَالَ أَبِي بَكْرٍ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ وَكَذَلِكَ قِتَالُ سَائِرِ مَنْ قُوتِلَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ

مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَيْسُوا فُسَّاقًا بَلْ هُمْ عُدُولٌ : فَقَالُوا إنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ عُدُولٌ مَعَ قِتَالِهِمْ وَهُمْ مُخْطِئُونَ خَطَأَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ . وَخَالَفَتْ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ فَذَهَبُوا إلَى تَفْسِيقِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا إلَى مَنْ عَدُّوهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغِيِّ فِي زَمَنِهِمْ فَرَأَوْهُمْ فُسَّاقًا وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَا يُدْخِلُونَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ - وَإِنَّمَا يُفَسِّقُ الصَّحَابَةَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ كَمَا يُكَفِّرُهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - وَلَا يَقُولُونَ إنَّ أَمْوَالَهُمْ مَعْصُومَةٌ كَمَا كَانَتْ وَمَا كَانَ ثَابِتًا بِعَيْنِهِ رَدٌّ إلَى صَاحِبِهِ وَمَا أُتْلِفَ فِي حَالِ الْقِتَالِ لَمْ يَضْمَنْ حَتَّى أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : لَا يَضْمَنُ لَا هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ فَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ مَالٍ أَوْ دَمٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ هَدَرٌ . وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَانَ بِسِلَاحِهِمْ فِي حَرْبِهِمْ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : فِي مَذْهَبِ أَحْمَد يَجُوزُ وَالْمَنْعُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالرُّخْصَةُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ أَسِيرِهِمْ وَاتِّبَاعِ مُدْبِرَهُمْ وَالتَّذْفِيفِ عَلَى جَرِيحِهِمْ

إذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ يَلْجَئُونَ إلَيْهَا . فَجَوَّزَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَفِي مَذْهَبِهِ وَجْهٌ : أَنَّهُ يَتْبَعُ مُدْبَرَهُمْ فِي أَوَّلِ الْقِتَالِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ فَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ كَمَا رَوَاهُ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ : خَرَجَ صَارِخٌ لِعَلِيِّ يَوْمَ الْجَمَلِ لَا يُقْتَلَنَّ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ . فَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فَقَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ التَّتَارَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ الْمُتَأَوِّلِينَ وَيُحْكَمُ فِيهِمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ كَمَا أَدْخَلَ مَنْ أَدْخَلَ فِي هَذَا الْحُكْمِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجَ . وَسَنُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا التَّوَهُّمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : إنَّ قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ لَيْسَ كَقِتَالِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ فِي اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَالِكِ وَغَيْرِهِ وَمَذْهَبِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ نَصُّوا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَتَّى فِي الْأَمْوَالِ . فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَ غَنِيمَةَ أَمْوَالِ الْخَوَارِجِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي حرورية كَانَ لَهُمْ سَهْمٌ فِي قَرْيَةٍ فَخَرَجُوا

يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَأَرْضُهُمْ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَيُقْسَمُ خُمُسُهُ عَلَى خَمْسَةٍ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلَّذِينَ قَاتَلُوا يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ أَوْ يَجْعَلُ الْأَمِيرُ الْخَرَاجَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُقْسَمُ مِثْلُ مَا أَخَذَ عُمَرُ السَّوَادَ عَنْوَةً وَوَقَفَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . فَجَعَلَ أَحْمَد الْأَرْضَ الَّتِي لِلْخَوَارِجِ إذَا غُنِمَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا غُنِمَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ . فَإِنَّ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَسِيرَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَفَرُّقٌ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . فَإِنَّهُ قَاتَلَ الْخَوَارِجَ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ وَفَرِحَ بِذَلِكَ وَلَمْ يُنَازِعْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَأَمَّا الْقِتَالُ يَوْمَ صفين فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ كَرَاهَتِهِ وَالذَّمِّ عَلَيْهِ مَا ظَهَرَ . وَقَالَ فِي أَهْلِ الْجَمَلِ وَغَيْرِهِمْ : إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا طَهَّرَهُمْ السَّيْفُ وَصَلَّى عَلَى قَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ . وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حِدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِّيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ : يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِي

كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ الَّذِينَ سَارُوا إلَى الْخَوَارِجِ فَقَالَ عَلِيٌّ : أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءِ وَلَا صَلَاتُكُمْ إلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءِ وَلَا صِيَامُكُمْ إلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ . يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِمْ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ لَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ } . قَالَ فَيَذْهَبُونَ إلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ وَيَتْرُكُونَ هَؤُلَاءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِي ذَرَارِيِّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ . وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النَّاسِ فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ . قَالَ : فَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَعَلَى الْخَوَارِجِ يَوْمئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ رَئِيسًا . فَقَالَ لَهُمْ : أَلْقُوا الرِّمَاحَ وَسُلُّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ حَقْوَتِهَا فَإِنِّي أُنَاشِدُكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ . فَرَجَعُوا فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ وَسَلُّوا السُّيُوفَ وَسَحَرَهُمْ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ . قَالَ : وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَمَا أُصِيبَ مِنْ النَّاسِ يَوْمئِذٍ إلَّا رَجُلَانِ . فَقَالَ عَلِيٌّ : الْتَمِسُوا فِيهِمْ الْمُخْدَجَ . فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ . فَقَامَ عَلَى سَيْفِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ . قَالَ : أَخِّرُوهُمْ . فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ . فَكَبَّرَ ثُمَّ قَالَ : صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ . قَالَ : فَقَامَ إلَيْهِ عبيدة السلماني . فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . اللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا

هُوَ أَسَمِعْت هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ : إي وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلَاثًا وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ أَيْضًا . فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَمِّ الْخَوَارِجِ وَتَضْلِيلِهِمْ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي تَكْفِيرِهِمْ . عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا نِزَاعٌ فِي كُفْرِهِمْ . وَلِهَذَا كَانَ فِيهِمْ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى : أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ بُغَاةٌ . وَالثَّانِي أَنَّهُمْ كُفَّارٌ كَالْمُرْتَدِّينَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ ابْتِدَاءً وَقَتْلُ أَسِيرِهِمْ وَاتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ اُسْتُتِيبَ كَالْمُرْتَدِّ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ : كَمَا أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ إذَا قَاتَلُوا الْإِمَامَ عَلَيْهَا هَلْ يَكْفُرُونَ مَعَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ قِتَالَ الصِّدِّيقِ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ وَقِتَالَ عَلِيٍّ لِلْخَوَارِجِ لَيْسَ مِثْلَ الْقِتَالِ يَوْمَ الْجَمَلِ وصفين . فَكَلَامُ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ فِي الْخَوَارِجِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَيْسُوا كُفَّارًا كَالْمُرْتَدِّينَ عَنْ أَصْلِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَلَيْسُوا مَعَ ذَلِكَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين بَلْ هُمْ نَوْعٌ ثَالِثٌ . وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيهِمْ .

وَمِمَّنْ قَاتَلَهُمْ الصَّحَابَةُ - مَعَ إقْرَارِهِمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - مَانِعِي الزَّكَاةُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا . فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : أَلَمْ يَقُلْ لَك : إلَّا بِحَقِّهَا . فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا . وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَى مَنْعِهَا . قَالَ عُمَرُ : فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَلِمْت أَنَّهُ الْحَقُّ " . وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانُوا يُصَلُّونَ الْخَمْسَ وَيَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ . وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُبْهَةٌ سَائِغَةٌ فَلِهَذَا كَانُوا مُرْتَدِّينَ وَهُمْ يُقَاتَلُونَ عَلَى مَنْعِهَا وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْوُجُوبِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَقَدْ سَقَطَتْ بِمَوْتِهِ . وَكَذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ الَّذِينَ لَا يَنْتَهُونَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ .
وَأَمَّا الْأَصْلُ الْآخَرُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ أَحْوَالِهِمْ . فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ

الْقَوْمَ جَازُوا عَلَى الشَّامِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى : عَامَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ وَأَعْطَوْا النَّاسَ الْأَمَانَ وَقَرَءُوهُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِدِمَشْقَ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ سَبَوْا مِنْ ذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ مَا يُقَالُ إنَّهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ وَفَعَلُوا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبِجَبَلِ الصالحية ونابلس وَحِمْصَ وَدَارِيَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ حَتَّى يُقَالَ إنَّهُمْ سَبَوْا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ وَجَعَلُوا يَفْجُرُونَ بِخِيَارِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا كَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَالْأُمَوِيِّ وَغَيْرِهِ وَجَعَلُوا الْجَامِعَ الَّذِي بالعقيبة دَكًّا . وَقَدْ شَاهَدْنَا عَسْكَرَ الْقَوْمِ فَرَأَيْنَا جُمْهُورَهُمْ لَا يُصَلُّونَ وَلَمْ نَرَ فِي عَسْكَرِهِمْ مُؤَذِّنًا وَلَا إمَامًا وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَذَرَارِيِّهِمْ وَخَرَّبُوا مِنْ دِيَارِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي دَوْلَتِهِمْ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ . إمَّا زِنْدِيقٌ مُنَافِقٌ لَا يَعْتَقِدُ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي الْبَاطِنِ وَإِمَّا مَنْ هُوَ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة والاتحادية وَنَحْوِهِمْ وَأَمَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَفْجَرِ النَّاسِ وَأَفْسَقِهِمْ . وَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ لَا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُصَلِّي وَيَصُومُ فَلَيْسَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ إقَامَ الصَّلَاةِ وَلَا إيتَاءَ الزَّكَاةِ . وَهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَى مُلْكِ جنكسخان . فَمَنْ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِمْ جَعَلُوهُ

وَلِيًّا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَمَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ جَعَلُوهُ عَدُوًّا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا يُقَاتِلُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَضَعُونَ الْجِزْيَةَ وَالصَّغَارَ . بَلْ غَايَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَنْ أَكَابِرِ أُمَرَائِهِمْ وَوُزَرَائِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ عِنْدَهُمْ كَمَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَا قَالَ أَكْبَرُ مُقَدِّمِيهِمْ الَّذِينَ قَدِمُوا إلَى الشَّامِ وَهُوَ يُخَاطِبُ رُسُلَ الْمُسْلِمِينَ وَيَتَقَرَّبُ إلَيْهِمْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ . فَقَالَ هَذَانِ آيَتَانِ عَظِيمَتَانِ جَاءَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ وجنكسخان . فَهَذَا غَايَةُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ أَكْبَرُ مُقَدِّمِيهِمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ وَخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَبَيْنَ مَلِكٍ كَافِرٍ مُشْرِكٍ مِنْ أَعْظَمِ الْمُشْرِكِينَ كُفْرًا وَفَسَادًا وَعُدْوَانًا مِنْ جِنْسِ بُخْتِ نَصَّرَ وَأَمْثَالِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ اعْتِقَادَ هَؤُلَاءِ التَّتَارِ كَانَ فِي جنكسخان عَظِيمًا فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ مِنْ جِنْسِ مَا يَعْتَقِدُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَيَقُولُونَ إنَّ الشَّمْسَ حَبَّلَتْ أُمَّهُ وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي خَيْمَةٍ فَنَزَلَتْ الشَّمْسُ مِنْ كُوَّةِ الْخَيْمَةِ فَدَخَلَتْ فِيهَا حَتَّى حَبِلَتْ . وَمَعْلُومٌ عِنْد كُلِّ ذِي دِينٍ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَلَدُ زِنًا وَأَنَّ أَمَّهُ زَنَتْ فَكَتَمَتْ زِنَاهَا وَادَّعَتْ هَذَا حَتَّى تَدْفَعَ عَنْهَا مَعَرَّةَ الزِّنَا وَهُمْ مَعَ هَذَا يَجْعَلُونَهُ أَعْظَمَ رَسُولٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي تَعْظِيمِ مَا سَنَّهُ لَهُمْ وَشَرَعَهُ بِظَنِّهِ وَهَوَاهُ حَتَّى

يَقُولُوا لِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْمَالِ . هَذَا رِزْقُ جنكسخان وَيَشْكُرُونَهُ عَلَى أَكْلِهِمْ وَشُرْبِهِمْ وَهُمْ يَسْتَحِلُّونَ قَتْلَ مَنْ عَادَى مَا سَنَّهُ لَهُمْ هَذَا الْكَافِرُ الْمَلْعُونُ الْمُعَادِي لِلَّهِ وَلِأَنْبِيَائِهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ مُقَدِّمِيهِمْ كَانَ غَايَتُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَجْعَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ هَذَا الْمَلْعُونِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ كَانَ أَقَلَّ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا وَادَّعَى أَنَّهُ شَرِيكُ مُحَمَّدٍ فِي الرِّسَالَةِ وَبِهَذَا اسْتَحَلَّ الصَّحَابَةُ قِتَالَهُ وَقِتَالَ أَصْحَابِهِ الْمُرْتَدِّينَ . فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ فِيمَا يُظْهِرُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ يَجْعَلُ مُحَمَّدًا كجنكسخان وَإِلَّا فَهُمْ مَعَ إظْهَارِهِمْ لِلْإِسْلَامِ يُعَظِّمُونَ أَمْرَ جنكسخان عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ وَلَا يُقَاتِلُونَ أُولَئِكَ الْمُتَّبِعِينَ لِمَا سَنَّهُ جنكسخان كَمَا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ أَعْظَمُ . أُولَئِكَ الْكُفَّارِ يَبْذُلُونَ لَهُ الطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ وَيَحْمِلُونَ إلَيْهِ الْأَمْوَالَ وَيُقِرُّونَ لَهُ بِالنِّيَابَةِ وَلَا يُخَالِفُونَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ إلَّا كَمَا يُخَالِفُ الْخَارِجُ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ لِلْإِمَامِ . وَهُمْ يُحَارِبُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيُعَادُونَهُمْ أَعْظَمَ مُعَادَاةٍ وَيَطْلُبُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الطَّاعَةَ لَهُمْ وَبَذْلَ الْأَمْوَالِ وَالدُّخُولَ فِيمَا وَضَعَهُ لَهُمْ ذَلِكَ الْمَلِكُ الْكَافِرُ الْمُشْرِكُ الْمُشَابِهُ لِفِرْعَوْنَ أَوْ النمروذ وَنَحْوِهِمَا ؛ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ مِنْهُمَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ

وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } . وَهَذَا الْكَافِرُ عَلَا فِي الْأَرْضِ : يَسْتَضْعِفُ أَهْلَ الْمِلَلِ كُلِّهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ خَالَفَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِقَتْلِ الرِّجَالِ وَسَبِّي الْحَرِيمِ وَبِأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَبَهْلِك الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ . وَيَرُدُّ النَّاسَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ إلَى أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا ابْتَدَعَهُ مِنْ سُنَّتِهِ الْجَاهِلِيَّةِ وَشَرِيعَتِهِ الكفرية . فَهُمْ يَدَّعُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَيُعَظِّمُونَ دِينَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ عَلَى دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَيُطِيعُونَهُمْ وَيُوَالُونَهُمْ أَعْظَمَ بِكَثِيرِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحُكْمُ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَ أَكَابِرِهِمْ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَكَذَلِكَ الْأَكَابِرُ مِنْ وُزَرَائِهِمْ وَغَيْرِهِمْ يَجْعَلُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ كَدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا طُرُقٌ إلَى اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبِعَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ دِينَ الْيَهُودِ أَوْ دِينَ النَّصَارَى وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْقَوْلُ فَاشٍ غَالِبٌ فِيهِمْ حَتَّى فِي فُقَهَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ لَا سِيَّمَا الْجَهْمِيَّة مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ الْفَلْسَفَةُ . وَهَذَا مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ وَعَلَى

هَذَا كَثِيرٌ مِنْ النَّصَارَى أَوْ أَكْثَرُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْ الْيَهُودِ أَيْضًا ؛ بَلْ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ : إنَّ غَالِبَ خَوَاصِّ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ وَالْعِبَادِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لِمَا أَبْعَدَ . وَقَدْ رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ وَسَمِعْت مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ . وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَبِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ سَوَّغَ اتِّبَاعَ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ اتِّبَاعَ شَرِيعَةٍ غَيْرِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ كَكُفْرِ مَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } . وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضِ . وَمَنْ تَفَلْسَفَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَبْقَى كُفْرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ . وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ وُزَرَائِهِمْ الَّذِينَ يُصْدِرُونَ عَنْ رَأْيِهِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ فَإِنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا مُتَفَلْسِفًا ثُمَّ انْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ وَالتَّفَلْسُفِ وَضَمَّ إلَى ذَلِكَ الرَّفْضَ . فَهَذَا هُوَ أَعْظَمُ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَوِي الْأَفْلَامِ وَذَاكَ أَعْظَمُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَوِي السَّيْفِ . فَلْيَعْتَبِرْ الْمُؤْمِنُ بِهَذَا . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا مِنْ نِفَاقٍ وَزَنْدَقَةٍ وَإِلْحَادٍ إلَّا وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي اتِّبَاعِ التَّتَارِ ؛

لِأَنَّهُمْ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ وَأَقَلِّهِمْ مَعْرِفَةً بِالدِّينِ وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ اتِّبَاعِهِ وَأَعْظَمِ الْخَلْقِ اتِّبَاعًا لِلظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ . وَقَدْ قَسَّمُوا النَّاسَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : يال وَبَاعَ وداشمند وطاط - أَيْ صَدِيقُهُمْ وَعَدُوُّهُمْ وَالْعَالِمُ وَالْعَامِّيُّ - فَمَنْ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِمْ الْجَاهِلِيَّةِ وَسُنَّتِهِمْ الكفرية كَانَ صَدِيقَهُمْ . وَمَنْ خَالَفَهُمْ كَانَ عَدُوَّهُمْ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَأَوْلِيَائِهِ . وَكُلُّ مَنْ انْتَسَبَ إلَى عِلْمٍ أَوْ دِينٍ سَمَّوْهُ " داشمند " كَالْفَقِيهِ وَالزَّاهِدِ وَالْقِسِّيسِ وَالرَّاهِبِ وَدَنَّانِ الْيَهُودِ وَالْمُنَجِّمِ وَالسَّاحِرِ وَالطَّبِيبِ وَالْكَاتِبِ وَالْحَاسِبِ فَيُدْرِجُونَ سَادِنَ الْأَصْنَامِ . فَيُدْرِجُونَ فِي هَذَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَيَجْعَلُونَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ نَوْعًا وَاحِدًا . بَلْ يَجْعَلُونَ الْقَرَامِطَةَ الْمَلَاحِدَةَ الْبَاطِنِيَّةَ الزَّنَادِقَةَ الْمُنَافِقِينَ كالطوسي وَأَمْثَالِهِ هُمْ الْحُكَّامُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ انْتَسَبَ إلَى عِلْمٍ أَوْ دِينٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَكَذَلِكَ وَزِيرُهُمْ السَّفِيهُ الْمُلَقَّبُ بِالرَّشِيدِ يَحْكُمُ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَيُقَدِّمُ شِرَارَ الْمُسْلِمِينَ كَالرَّافِضَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ عَلَى خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ حَتَّى تَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَيْثُ تَكُونُ مُوَافَقَتُهُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ وَالرَّافِضَةِ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِ .

وَيَتَظَاهَرُ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ لِأَجْلِ مَنْ هُنَاكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . حَتَّى أَنَّ وَزِيرَهُمْ هَذَا الْخَبِيثَ الْمُلْحِدَ الْمُنَافِقَ صِنْفٌ مُصَنَّفًا ؛ مَضْمُونُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَنَّهُ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُذَمُّونَ وَلَا يُنْهَوْنَ عَنْ دِينِهِمْ وَلَا يُؤْمَرُونَ بِالِانْتِقَالِ إلَى الْإِسْلَامِ . وَاسْتَدَلَّ الْخَبِيثُ الْجَاهِلُ بِقَوْلِهِ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } وَزَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَرْضَى دِينَهُمْ قَالَ : وَهَذِهِ الْآيَةُ مَحْكَمَةٌ ؛ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً . وَجَرَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ أُمُورٌ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا جَهْلٌ مِنْهُ . فَإِنَّ قَوْلَهُ : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ دِينُ الْكُفَّارِ حَقًّا وَلَا مَرْضِيًّا لَهُ ؛ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَبَرُّئِهِ مِنْ دِينِهِمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ : { إنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ } كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } فَقَوْلُهُ : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } كَقَوْلِهِ : { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } وَقَدْ اتَّبَعَ ذَلِكَ بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ حَيْثُ قَالَ : { أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِتَرْكِ دِينِهِمْ فَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ

الْإِسْلَامِ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ أَمَرَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَأَنَّهُ جَاءَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَافِرُونَ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ . وَقَدْ أَظْهَرُوا الرَّفْضَ وَمَنَعُوا أَنْ نَذْكُرَ عَلَى الْمَنَابِرِ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَذَكَرُوا عَلِيًّا وَأَظْهَرُوا الدَّعْوَةَ لِلِاثْنَيْ عَشَرَ ؛ الَّذِينَ تَزْعُمُ الرَّافِضَةُ أَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ مَعْصُومُونَ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كُفَّارٌ وَفُجَّارٌ ظَالِمُونَ ؛ لَا خِلَافَةَ لَهُمْ وَلَا لِمَنْ بَعْدَهُمْ . وَمَذْهَبُ الرَّافِضَةِ شَرٌّ مِنْ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ ؛ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ غَايَتُهُمْ تَكْفِيرُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَشِيعَتِهِمَا . وَالرَّافِضَةُ تَكْفِيرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَجُمْهُورِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَتَجْحَدُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِمَّا جَحَدَ بِهِ الْخَوَارِجُ وَفِيهِمْ مِنْ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْغُلُوِّ وَالْإِلْحَادِ مَا لَيْسَ فِي الْخَوَارِجِ وَفِيهِمْ مِنْ مُعَاوَنَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا لَيْسَ فِي الْخَوَارِجِ . وَالرَّافِضَةِ تُحِبُّ التَّتَارَ وَدَوْلَتَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ بِهَا مِنْ الْعِزِّ مَا لَا يَحْصُلُ بِدَوْلَةِ الْمُسْلِمِينَ . وَالرَّافِضَةُ هُمْ مُعَاوِنُونَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي دُخُولِ التَّتَارِ قَبْلَ إسْلَامِهِمْ إلَى أَرْضِ الْمَشْرِقِ بِخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَكَانُوا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مُعَاوَنَةً لَهُمْ عَلَى أَخْذِهِمْ لِبِلَادِ الْإِسْلَامِ وَقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ

وَسَبْيِ حَرِيمِهِمْ . وَقَضِيَّةُ ابْنِ العلقمي وَأَمْثَالِهِ مَعَ الْخَلِيفَةِ وَقَضِيَّتِهِمْ فِي حَلَبَ مَعَ صَاحِبِ حَلَبَ : مَشْهُورَةٌ يَعْرِفُهَا عُمُومُ النَّاسِ . وَكَذَلِكَ فِي الْحُرُوبِ الَّتِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ النَّصَارَى بِسَوَاحِلِ الشَّامِ : قَدْ عَرَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ الرَّافِضَةَ تَكُونُ مَعَ النَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ عَاوَنُوهُمْ عَلَى أَخْذِ الْبِلَادِ لَمَّا جَاءَ التَّتَارُ وَعَزَّ عَلَى الرَّافِضَةِ فَتْحُ عُكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ السَّوَاحِلِ وَإِذَا غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ كَانَ ذَلِكَ غُصَّةً عِنْد الرَّافِضَةِ وَإِذَا غَلَبَ الْمُشْرِكُونَ وَالنَّصَارَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ ذَلِكَ عِيدًا وَمَسَرَّةً عِنْدَ الرَّافِضَةِ . وَدَخَلَ فِي الرَّافِضَةِ أَهْلُ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ مِنْ " الْنُصَيْرِيَّة " وَ " الإسْماعيليَّة " وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ " الْقَرَامِطَةِ " وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ بِخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَالرَّافِضَةُ جهمية قَدَرِيَّةٌ وَفِيهِمْ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبِدَعِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ فِيهِمْ مِنْ الرِّدَّةِ عَنْ شَرَائِعِ الدِّينِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ . وَمِنْ أَعْظَمِ مَا ذَمَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوَارِجَ قَوْلُهُ فِيهِمْ : { يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ } كَمَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : { بَعَثَ عَلِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِذُهَيْبَةِ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ - يَعْنِي مِنْ أُمَرَاءِ نَجْدٍ - فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ . قَالُوا : يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا . قَالَ : إنَّمَا أَتَأَلَّفَهُمْ . فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ اتَّقِ اللَّهَ . فَقَالَ : مَنْ يُطِعْ اللَّهَ إذَا عَصَيْته أَيَأْمَنُنِي اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي ؟ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَتْلَهُ فَمَنَعَهُ . فَلَمَّا وَلَّى قَالَ : إنَّ مِنْ ضئضئ هَذَا - أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا - قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ ؛ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ { : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقْسِمُ قَسَمًا - أَتَاهُ ذُو الخويصرة - وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ . فَقَالَ : وَيْلك فَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلُ قَدْ خِبْت وَخَسِرْت إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْذَنُ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ ؟ فَقَالَ : دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ . يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَنْظُرُ إلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى نَضْيِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ . آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إحْدَى

عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبِضْعَةِ . يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ } قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : فَأَشْهَدْ أَنِّي سَمِعْت هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ . فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتَمَسَ فَأَتَى بِهِ حَتَّى نَظَرْت إلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي نَعَتَهُ . فَهَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ مِنْ أَعْظَمِ مَا ذَمَّهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ وَذَكَرَ : أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ وَالْخَوَارِجُ مَعَ هَذَا لَمْ يَكُونُوا يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالرَّافِضَةِ يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْكُفَّارِ فَكَانُوا أَعْظَمَ مُرُوقًا عَنْ الدِّينِ مِنْ أُولَئِكَ الْمَارِقِينَ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَنَحْوِهِمْ إذَا فَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَيْفَ إذَا ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْمُشْرِكِينَ - كنائسا - وجنكسخان مَلِكِ الْمُشْرِكِينَ : مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُضَادَّةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَكُلُّ مَنْ قَفَزَ إلَيْهِمْ مِنْ أُمَرَاءِ الْعَسْكَرِ وَغَيْرُ الْأُمَرَاءِ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ وَفِيهِمْ مِنْ الرِّدَّةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِقَدْرِ مَا ارْتَدَّ عَنْهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ . وَإِذَا كَانَ السَّلَفُ

قَدْ سَمَّوْا مَانِعِي الزَّكَاةِ مُرْتَدِّينَ - مَعَ كَوْنِهِمْ يَصُومُونَ . وَيُصَلُّونَ وَلَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ - فَكَيْفَ بِمَنْ صَارَ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَاتِلًا لِلْمُسْلِمِينَ مَعَ أَنَّهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لَوْ اسْتَوْلَى هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُحَادُّونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُعَادُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى أَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ لَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى زَوَالِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدُرُوسِ شَرَائِعِهِ . أَمَّا الطَّائِفَةُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَنَحْوِهِمَا فَهُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُقَاتِلُونَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ دُخُولًا فِي الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ : { لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ } وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ بِمَدِينَتِهِ النَّبَوِيَّةِ فَغَرْبُهُ مَا يَغْرُبُ عَنْهَا وَشَرْقُهُ مَا يَشْرُقُ عَنْهَا ؛ فَإِنَّ التَّشْرِيقَ وَالتَّغْرِيبَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ ؛ إذْ كَلُّ بَلَدٍ لَهُ شَرْقٌ وَغَرْبٌ ؛ وَلِهَذَا إذَا قَدِمَ الرَّجُلُ إلَى الإسْكَنْدَريَّة مِنْ الْغَرْبِ يَقُولُونَ : سَافَرَ إلَى الشَّرْقِ وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ أَهْلَ الشَّامِ : أَهْلَ الْغَرْبِ وَيُسَمُّونَ أَهْلَ نَجْدٍ وَالْعِرَاقِ : أَهْلَ الشَّرْقِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَدِمَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا وَفِي

رِوَايَةٍ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ - وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : " أَهْلُ الْغَرْبِ " هُمْ أَهْلُ الشَّامِ - يَعْنِي هُمْ أَهْلُ الْغَرْبِ - كَمَا أَنَّ نَجْدًا وَالْعِرَاقَ أَوَّلُ الشَّرْقِ وَكُلُّ مَا يَشْرُقُ عَنْهَا فَهُوَ مِنْ الشَّرْقِ وَكُلُّ مَا يَغْرُبُ عَنْ الشَّامِ مِنْ مِصْرَ وَغَيْرِهَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْغَرْبِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ : فِي الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ : وَهُمْ بِالشَّامِ . فَإِنَّهَا أَصْلُ الْمَغْرِبِ وَهُمْ فَتَحُوا سَائِرَ الْمَغْرِبِ كَمِصْرِ وَالْقَيْرَوَانَ وَالْأَنْدَلُسَ وَغَيْرَ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ غَرْبُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ مَا يَغْرُبُ عَنْهَا فَالْبِيرَةُ وَنَحْوُهَا عَلَى مُسَامَتَةِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا أَنَّ حَرَّانَ وَالرَّقَّةَ وسميساط وَنَحْوَهَا عَلَى مُسَامَتَةِ مَكَّةَ فَمَا يَغْرُبُ عَنْ الْبِيرَةِ فَهُوَ مِنْ الْغَرْبِ الَّذِينَ وَعَدَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي صِفَةِ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ { أَنَّهُمْ بِأَكْنَافِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ } وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ هِيَ الَّتِي بِأَكْنَافِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ الْيَوْمَ . وَمَنْ يَتَدَبَّرُ أَحْوَالَ الْعَالَمِ فِي هَذَا الْوَقْتِ يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ هِيَ أَقْوَمُ الطَّوَائِفِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ : عِلْمًا وَعَمَلًا وَجِهَادًا عَنْ شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا ؛ فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ أَهْلَ الشَّوْكَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَمُغَازِيهِمْ مَعَ النَّصَارَى وَمَعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ التُّرْكِ وَمَعَ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ الدَّاخِلِينَ فِي الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ كالإسْماعيليَّة وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ مَعْرُوفَةٌ : مَعْلُومَةٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا . وَالْعِزُّ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ بِمَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا هُوَ بِعِزِّهِمْ وَلِهَذَا لَمَّا هَزَمُوا

سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ دَخَلَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ الذُّلِّ وَالْمُصِيبَةِ بِمَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَالْحِكَايَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا . وَذَلِكَ أَنَّ سُكَّانَ الْيَمَنِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ضِعَافٌ عَاجِزُونَ عَنْ الْجِهَادِ أَوْ مُضَيِّعُونَ لَهُ ؛ وَهُمْ مُطِيعُونَ لِمَنْ مَلَكَ هَذِهِ الْبِلَادَ حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِهَؤُلَاءِ وَمَلِكُ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا جَاءَ إلَى حَلَبَ جَرَى بِهَا مِنْ الْقَتْلِ مَا جَرَى . وَأَمَّا سُكَّانُ الْحِجَازِ فَأَكْثَرُهُمْ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ خَارِجُونَ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَفِيهِمْ مِنْ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالْفُجُورِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ فِيهِمْ مُسْتَضْعَفُونَ عَاجِزُونَ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْقُوَّةُ وَالْعِزَّةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِغَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْبِلَادِ فَلَوْ ذَلَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - لَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْحِجَازِ مِنْ أَذَلِّ النَّاسِ ؛ لَا سِيَّمَا وَقَدْ غَلَبَ فِيهِمْ الرَّفْضُ وَمُلْكُ هَؤُلَاءِ التَّتَارِ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْآنَ مَرْفُوضٌ فَلَوْ غَلَبُوا لَفَسَدَ الْحِجَازُ بِالْكُلِّيَّةِ . وَأَمَّا بِلَادُ إفْرِيقِيَّةَ فَأَعْرَابُهَا غَالِبُونَ عَلَيْهَا وَهُمْ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ ؛ بَلْ هُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِلْجِهَادِ وَالْغَزْوِ . وَأَمَّا الْمَغْرِبُ الْأَقْصَى فَمَعَ اسْتِيلَاءِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى أَكْثَرِ بِلَادِهِمْ لَا يَقُومُونَ بِجِهَادِ النَّصَارَى هُنَاكَ ؛ بَلْ فِي عَسْكَرِهِمْ مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الصُّلْبَانَ خَلْقٌ عَظِيمٌ . لَوْ اسْتَوْلَى التَّتَارُ عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ لَكَانَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ مَعَهُمْ مِنْ أَذَلِّ النَّاسِ لَا سِيَّمَا وَالنَّصَارَى

تَدْخُلُ مَعَ التَّتَارِ فَيَصِيرُونَ حِزْبًا عَلَى أَهْلِ الْمَغْرِبِ . فَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الْعِصَابَةَ الَّتِي بِالشَّامِ وَمِصْرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ هُمْ كَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ وَعِزُّهُمْ عِزُّ الْإِسْلَامِ وَذُلُّهُمْ ذُلُّ الْإِسْلَامِ . فَلَوْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ التَّتَارُ لَمْ يَبْقَ لِلْإِسْلَامِ عِزٌّ وَلَا كَلِمَةٌ عَالِيَةٌ وَلَا طَائِفَةٌ ظَاهِرَةٌ عَالِيَةٌ يَخَافُهَا أَهْلُ الْأَرْضِ تُقَاتِلُ مِنْهُ . فَمَنْ قَفَزَ عَنْهُمْ إلَى التَّتَارِ كَانَ أَحَقَّ بِالْقِتَالِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ التَّتَارِ ؛ فَإِنَّ التَّتَارَ فِيهِمْ الْمُكْرَهُ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ وَقَدْ اسْتَقَرَّتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ عُقُوبَةَ الْمُرْتَدِّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ . مِنْهَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ وَلَا يُضْرَبُ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ وَلَا تُعْقَدُ لَهُ ذِمَّةٌ ؛ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ . وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْقِتَالِ ؛ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ وَلَا يُنَاكِحُ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ . وَإِذَا كَانَتْ الرِّدَّةُ عَنْ أَصْلِ الدِّينِ أَعْظَمَ مِنْ الْكُفْرِ بِأَصْلِ الدِّينِ فَالرِّدَّةُ عَنْ شَرَائِعِهِ أَعْظَمُ مِنْ خُرُوجِ الْخَارِجِ الْأَصْلِيِّ عَنْ شَرَائِعِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مُؤْمِنٍ يَعْرِفُ أَحْوَالَ التَّتَارِ وَيَعْلَمُ أَنَّ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ فِيهِمْ

مِنْ الْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ شَرٌّ مِنْ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ مِنْ التُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ وَهُمْ بَعْدَ أَنْ تَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ تَرْكِهِمْ لِكَثِيرِ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ خَيْرٌ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ الْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِمَّنْ كَانَ مُسْلِمَ الْأَصْلِ هُوَ شَرٌّ مِنْ التُّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا كُفَّارًا ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْأَصْلِيَّ إذَا ارْتَدَّ عَنْ بَعْضِ شَرَائِعِهِ كَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ مِثْلَ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ قَاتَلَهُمْ الصِّدِّيقُ . وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ عَنْ بَعْضِ الشَّرَائِعِ مُتَفَقِّهًا أَوْ مُتَصَوِّفًا أَوْ تَاجِرًا أَوْ كَاتِبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ التُّرْكِ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ وَأَصَرُّوا عَلَى الْإِسْلَامِ . وَلِهَذَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ضَرَرِ هَؤُلَاءِ عَلَى الدِّينِ مَا لَا يَجِدُونَهُ مِنْ ضَرَرِ أُولَئِكَ وَيَنْقَادُونَ لِلْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمُ مِنْ انْقِيَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ بَعْضِ الدِّينِ وَنَافَقُوا فِي بَعْضِهِ وَإِنْ تَظَاهَرُوا بِالِانْتِسَابِ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ . وَغَايَةُ مَا يُوجَدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَكُونُ مُلْحِدًا : نصيريا أَوْ إسْمَاعِيلِيًّا أَوْ رافضيا . وَخِيَارُهُمْ يَكُونُ جهميا اتِّحَادِيًّا أَوْ نَحْوَهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْضَمُّ إلَيْهِمْ طَوْعًا مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ إلَّا مُنَافِقٌ أَوْ زِنْدِيقٌ أَوْ فَاسِقٌ فَاجِرٌ . وَمَنْ أَخْرَجُوهُ مَعَهُمْ مُكْرَهًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ عَلَى نِيَّتِهِ . وَنَحْنُ عَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَ الْعَسْكَرَ جَمِيعَهُ إذْ لَا يَتَمَيَّزُ الْمُكْرَهُ مِنْ غَيْرِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :

{ يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ مِنْ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ إذْ خُسِفَ بِهِمْ . فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ فِيهِمْ الْمُكْرَهَ فَقَالَ : يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ } . وَالْحَدِيثُ مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَخْرَجَهُ أَرْبَابُ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ . فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ فَيُبْعَثُ إلَيْهِ بَعْثٌ فَإِذْ كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ . فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا . قَالَ : يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ ؛ وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { عَبَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ . فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْت شَيْئًا فِي مَنَامِك لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ . فَقَالَ : الْعَجَبُ أَنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ هَذَا الْبَيْتَ بِرَجُلِ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَدْ لَجَأَ إلَى الْبَيْتِ حَتَّى إذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَتْ بِهِمْ . فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ . قَالَ : نَعَمْ ؛ فِيهِمْ الْمُسْتَنْصِرُ وَالْمَجْنُونُ وَابْنُ السَّبِيلِ فَيَهْلَكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا ؛ وَيُصْدِرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نِيَّاتِهِمْ } وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ . قَالَتْ : قُلْت : يَا رَسُولَ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ قَالَ : يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ }

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حَفْصَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : سَيَعُوذُ بِهَذَا الْبَيْتِ - يَعْنِي الْكَعْبَةَ - قَوْمٌ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا عَدَدٌ وَلَا عِدَّةٌ يُبْعَثُ إلَيْهِمْ جَيْشٌ يَوْمئِذٍ حَتَّى إذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ } . قَالَ يُوسُفُ بْنُ مَاهِكٍ : وَأَهْلُ الشَّامِ يَوْمئِذٍ يَسِيرُونَ إلَى مَكَّةَ . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ : أَمَّا وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِهَذَا الْجَيْشِ . فَاَللَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ الْجَيْشَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَنْتَهِكَ حُرُمَاتِهِ - الْمُكْرَهُ فِيهِمْ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ - مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمْ مَعَ أَنَّهُ يَبْعَثُهُمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ أَنْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَغَيْرِهِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ بَلْ لَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ خَرَجَ مُكْرَهًا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ كَمَا رُوِيَ : { أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت مُكْرَهًا . فَقَالَ : أَمَّا ظَاهِرُك فَكَانَ عَلَيْنَا وَأَمَّا سَرِيرَتُك فَإِلَى اللَّهِ } . بَلْ لَوْ كَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ وَلَمْ يُمْكِنْ قِتَالُهُمْ إلَّا بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ لَقُتِلُوا أَيْضًا فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمِينَ وَخِيفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يُقَاتِلُوا ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ نَرْمِيَهُمْ وَنَقْصِدَ الْكُفَّارَ . وَلَوْ لَمْ نَخَفْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَازَ رَمْيُ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَمَنْ قُتِلَ لِأَجْلِ الْجِهَادِ الَّذِي

أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ - هُوَ فِي الْبَاطِنِ مَظْلُومٌ - كَانَ شَهِيدًا وَبُعِثَ عَلَى نِيَّتِهِ وَلَمْ يَكُنْ قَتْلُهُ أَعْظَمَ فَسَادًا مِنْ قَتْلِ مَنْ يُقْتَلَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ . وَإِذَا كَانَ الْجِهَادُ وَاجِبًا وَإِنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَا شَاءَ اللَّهُ . فَقَتْلُ مَنْ يُقْتَلُ فِي صَفِّهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِحَاجَةِ الْجِهَادِ لَيْسَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا ؛ بَلْ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُكْرَهَ فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ بِكَسْرِ سَيْفِهِ . وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ ؛ وَإِنْ قُتِلَ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ أَلَا ثَمَّ تَكُونُ فِتَنٌ أَلَا ثَمَّ تَكُونُ فِتَنٌ : الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي . أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ - أَوْ وَقَعَتْ - فَمَنْ كَانَ لَهُ إبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ ؟ قَالَ : يَعْمِدُ إلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرِ ثُمَّ لِيَنْجُ إنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاةَ . اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت . اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت . اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت . فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ . أَرَأَيْت إنْ أُكْرِهْت حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إلَى إحْدَى الصَّفَّيْنِ أَوْ - إحْدَى الْفِئَتَيْنِ - فَيَضْرِبُنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أَوْ بِسَهْمِهِ فَيَقْتُلُنِي ؟ قَالَ : يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِك وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } .

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ ؛ بَلْ أَمَرَ بِمَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْقِتَالُ مِنْ الِاعْتِزَالِ أَوْ إفْسَادِ السِّلَاحِ الَّذِي يُقَاتِلُ بِهِ وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمُكْرَهُ وَغَيْرُهُ . ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُكْرَهَ إذَا قُتِلَ ظُلْمًا كَانَ الْقَاتِلُ قَدْ بَاءَ بِإِثْمِهِ وَإِثْمَ الْمَقْتُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ عَنْ الْمَظْلُومِ : { إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا صَالَ صَائِلٌ عَلَى نَفْسِهِ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ بِالْقِتَالِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : ( إحْدَاهُمَا يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ لَمْ يَحْضُرْ الصَّفَّ . وَ ( الثَّانِيَةُ يَجُوزُ لَا الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ . وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ فَلَا يَجُوزُ بِلَا رَيْبٍ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ ؛ بَلْ عَلَيْهِ إفْسَادُ سِلَاحِهِ وَأَنْ يَصْبِرْ حَتَّى يُقْتَلَ مَظْلُومًا فَكَيْفَ بِالْمُكْرَهِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الطَّائِفَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَنَحْوِهِمْ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْحُضُورِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ وَإِنْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ عَلَى حُضُورِ صَفِّهِمْ لِيُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ وَكَمَا لَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ مَعْصُومٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِالْقَتْلِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ حِفْظُ نَفْسِهِ بِقَتْلِ ذَلِكَ الْمَعْصُومِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ .

فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ فَيَقْتُلُهُ لِئَلَّا يُقْتَلَ هُوَ ؛ بَلْ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرَهِ جَمِيعًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَفِي الْآخَرِ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ فَقَطْ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ . وَقِيلَ : الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ الْمُبَاشِرِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زُفَرَ . وَأَبُو يُوسُفَ يُوجِبُ الضَّمَانَ بِالدِّيَةِ بَدَلَ الْقَوَدِ وَلَمْ يُوجِبْهُ . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ وَفِيهَا : { أَنَّ الْغُلَامَ أُمِرَ بِقَتْلِ نَفْسِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ ظُهُورِ الدِّينِ } وَلِهَذَا جَوَّزَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبِعَةُ أَنْ يَنْغَمِسَ الْمُسْلِمُ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ ؛ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَفْعَلُ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْجِهَادِ مَعَ أَنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِهِ لِغَيْرِهِ : كَانَ مَا يُفْضِي إلَى قَتْلِ غَيْرِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ وَدَفْعِ ضَرَرِ الْعَدُوِّ الْمُفْسِدِ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا الَّذِي لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ أَوْلَى . وَإِذَا كَانَتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ مُتَّفِقَيْنِ عَلَى أَنَّ الصَّائِلَ الْمُسْلِمَ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ صَوْلُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الَّذِي يَأْخُذُهُ قِيرَاطًا مِنْ دِينَارٍ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ حَرَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } فَكَيْفَ

بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِينَ صُوَلُهُمْ وَبَغْيُهُمْ أَقَلُّ مَا فِيهِمْ . فَإِنَّ قِتَالَ الْمُعْتَدِينَ الصَّائِلِينَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَهَؤُلَاءِ مُعْتَدُونَ صَائِلُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ : فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَحَرَمِهِمْ وَدِينِهِمْ . وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ يُبِيحُ قِتَالَ الصَّائِلِ عَلَيْهَا . وَمَنْ قُتِلَ دُونَهَا فَهُوَ شَهِيدٌ فَكَيْفَ بِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا كُلِّهَا وَهُمْ مِنْ شَرِّ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ الظَّالِمِينَ . لَكِنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ كَمَا تُقَاتَلُ الْبُغَاةُ الْمُتَأَوِّلُونَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً قَبِيحًا وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ؛ فَإِنَّ أَقَلَّ مَا فِي الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ خَرَجُوا بِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ الْإِمَامَ يُرَاسِلُهُمْ فَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً بَيَّنَهَا وَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً أَزَالَهَا . فَأَيُّ شُبْهَةٍ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ السَّاعِينَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا الْخَارِجِينَ عَنْ شَرَائِعِ الدِّينِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ إنَّهُمْ أَقْوَمُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَعَمَلًا مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ ؛ بَلْ هُمْ مَعَ دَعْوَاهُمْ الْإِسْلَامَ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ أَعْلَمُ بِالْإِسْلَامِ مِنْهُمْ وَأَتْبَعُ لَهُ مِنْهُمْ . وَكُلُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُنْذِرُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ شُبْهَةٌ بَيِّنَةٌ يَسْتَحِلُّونَ بِهَا قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ وَهَمَ قَدْ سَبُّوا غَالِبَ حَرِيمِ الرَّعِيَّةِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى أَنَّ النَّاسَ قَدْ رَأَوْهُمْ يُعَظِّمُونَ الْبُقْعَةَ وَيَأْخُذُونَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ وَيُعَظِّمُونَ الرَّجُلَ

وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِ وَيَسْلُبُونَهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ وَيَسُبُّونَ حَرِيمَهُ وَيُعَاقِبُونَهُ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي لَا يُعَاقَبُ بِهَا إلَّا أَظْلَمُ النَّاسِ وَأَفْجَرُهُمْ وَالْمُتَأَوِّلُ تَأْوِيلًا دِينِيًّا لَا يُعَاقَبُ إلَّا مَنْ يَرَاهُ عَاصِيًا لِلدِّينِ وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مَنْ يُعَاقِبُونَهُ فِي الدِّينِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ أَطْوَعُ لِلَّهِ مِنْهُمْ . فَأَيُّ تَأْوِيلٍ بَقِيَ لَهُمْ ثُمَّ لَوْ قَدَرَ أَنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ لَمْ يَكُنْ تَأْوِيلُهُمْ سَائِغًا ؛ بَلْ تَأْوِيلُ الْخَوَارِجِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ أَوْجَهُ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ . أَمَّا الْخَوَارِجُ فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ وَإِنَّ مَا خَالَفَهُ مِنْ السُّنَّةِ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ . وَأَمَّا مَانَعُوا الزَّكَاةِ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَهَذَا خِطَابٌ لِنَبِيِّهِ فَقَطْ فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَدْفَعَهَا لِغَيْرِهِ . فَلَمْ يَكُونُوا يَدْفَعُونَهَا لِأَبِي بَكْرٍ وَلَا يُخْرِجُونَهَا لَهُ . وَالْخَوَارِجُ لَهُمْ عِلْمٌ وَعِبَادَةٌ وَلِلْعُلَمَاءِ مَعَهُمْ مُنَاظَرَاتٌ كَمُنَاظَرَتِهِمْ مَعَ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَا يُنَاظَرُونَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَوْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَأْوِيلٌ يَقُولُهُ ذُو عَقْلٍ . وَقَدْ خَاطَبَنِي بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ : مَلِكُنَا مَلِكٌ ابْنُ مَلِكٍ ابْنُ مَلِكٍ إلَى سَبْعَةِ أَجْدَادٍ وَمَلِكِكُمْ ابْنُ مَوْلًى . فَقُلْت لَهُ : آبَاءُ ذَلِكَ الْمَلِكِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ وَلَا فَخْرَ بِالْكَافِرِ ؛ بَلْ الْمَمْلُوكُ الْمُسْلِمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَلِكِ الْكَافِرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } . فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا حُجَجُهُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ مُسَلِّمًا وَجَبَ

عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ الْمُسْلِمَ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا وَلَا يُطِيعَ الْكَافِرَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ وَدِينَ الْإِسْلَامِ } . إنَّمَا يُفَضَّلُ الْإِنْسَانُ بِإِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ ؛ لَا بِآبَائِهِ ؛ وَلَوْ كَانُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا وَخَلَقَ النَّارَ لِمَنْ عَصَاهُ وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى . النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِقَبِيلَةِ قَرِيبَةٍ مِنْهُ : { إنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي إنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُوَالَاتَهُ لَيْسَتْ بِالْقَرَابَةِ وَالنَّسَبِ ؛ بَلْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي قَرَابَةِ الرَّسُولِ فَكَيْفَ بِقُرَابَةِ جنكسخان الْكَافِرِ الْمُشْرِكِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ إيمَانًا وَتَقْوَى كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَسْوَدَ حَبَشِيًّا وَالثَّانِي عَلَوِيًّا أَوْ عَبَّاسِيًّا .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ - :
عَنْ أَجْنَادٍ يَمْتَنِعُونَ عَنْ قِتَالِ التَّتَارِ وَيَقُولُونَ : إنَّ فِيهِمْ مَنْ يَخْرُجُ مُكْرَهًا مَعَهُمْ وَإِذَا هَرَبَ أَحَدُهُمْ هَلْ يُتْبَعُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قِتَالُ التَّتَارِ الَّذِينَ قَدِمُوا إلَى بِلَادِ الشَّامِ وَاجِبٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَالدِّينُ هُوَ الطَّاعَةُ فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الدِّينِ لِلَّهِ وَبَعْضُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَجَبَ الْقِتَالُ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ لَمَّا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَالْتَزَمُوا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ ؛ لَكِنْ امْتَنَعُوا مِنْ تَرْكِ الرِّبَا . فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ لَهُ وَلِرَسُولِهِ إذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الرِّبَا . وَالرِّبَا هُوَ آخِرُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَهُوَ مَالٌ يُؤْخَذُ بِرِضَا صَاحِبِهِ . فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ يَجِبُ جِهَادُهُمْ فَكَيْفَ بِمَنْ يَتْرُكُ كَثِيرًا مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرَهَا كَالتَّتَارِ.

وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ الطَّائِفَةَ الْمُمْتَنِعَةَ إذَا امْتَنَعَتْ عَنْ بَعْضِ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا إذَا تَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ وَامْتَنَعُوا عَنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَوْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ حَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَوْ عَنْ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ عَنْ تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ أَوْ الْخَمْرِ أَوْ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أَوْ عَنْ اسْتِحْلَالِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ الرِّبَا أَوْ الْمَيْسِرِ أَوْ عَنْ الْجِهَادِ لِلْكُفَّارِ أَوْ عَنْ ضَرْبِهِمْ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا نَاظَرَ أَبَا بَكْرٍ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : كَيْفَ لَا أُقَاتِلُ مَنْ تَرَكَ الْحُقُوقَ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ كَالزَّكَاةِ وَقَالَ لَهُ : فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا . وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَى مَنْعِهَا . قَالَ عُمَرُ : فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَلِمْت أَنَّهُ الْحَقُّ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْخَوَارِجَ وَقَالَ فِيهِمْ : { يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ : يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ

فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } . وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ . وَأَوَّلُ مَنْ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُقَاتِلُونَ فِي صَدْرِ خِلَافَةِ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنْي الْعَبَّاسِ مَعَ الْأُمَرَاءِ وَإِنْ كَانُوا ظَلْمَةً وَكَانَ الْحَجَّاجُ وَنُوَّابَهُ مِمَّنْ يُقَاتِلُونَهُمْ . فَكُلُّ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُونَ بِقِتَالِهِمْ . وَالتَّتَارُ وَأَشْبَاهُهُمْ أَعْظَمُ خُرُوجًا عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ الَّذِينَ امْتَنَعُوا عَنْ تَرْكِ الرِّبَا . فَمَنْ شَكَّ فِي قِتَالِهِمْ فَهُوَ أَجْهَلُ النَّاسِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَحَيْثُ وَجَبَ قِتَالُهُمْ قُوتِلُوا وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ الْمُكْرَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ لَمَّا أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي خَرَجْت مُكْرَهًا . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَّا ظَاهِرُك فَكَانَ عَلَيْنَا وَأَمَّا سَرِيرَتُك فَإِلَى اللَّهِ } . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ جَيْشَ الْكُفَّارِ إذَا تَتَرَّسُوا بِمَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَخِيفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الضَّرَرَ إذَا لَمْ يُقَاتِلُوا فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ ؛ وَإِنْ أَفْضَى ذَلِكَ إلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَتَرَّسُوا بِهِمْ . وَإِنْ

لَمْ يُخَفْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَفِي جَوَازِ الْقِتَالِ الْمُفْضِي إلَى قَتْلِ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ إذَا قُتِلُوا كَانُوا شُهَدَاءَ وَلَا يُتْرَكُ الْجِهَادُ الْوَاجِبُ لِأَجْلِ مَنْ يُقْتَلُ شَهِيدًا . فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا قَاتَلُوا الْكُفَّارَ فَمَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ شَهِيدًا وَمَنْ قُتِلَ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ كَانَ شَهِيدًا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ مِنْ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ إذْ خُسِفَ بِهِمْ . فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِيهِمْ الْمُكْرَهُ . فَقَالَ : يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ } فَإِذَا كَانَ الْعَذَابُ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللَّهُ بِالْجَيْشِ الَّذِي يَغْزُو الْمُسْلِمِينَ يُنْزِلُهُ بِالْمُكْرَهِ وَغَيْرِ الْمُكْرَهِ فَكَيْفَ بِالْعَذَابِ الَّذِي يُعَذِّبُهُمْ اللَّهُ بِهِ أَوْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلَّا إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } . وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الْمُكْرَهَ وَلَا نَقْدِرُ عَلَى التَّمْيِيزِ . فَإِذَا قَتَلْنَاهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ كُنَّا فِي ذَلِكَ مَأْجُورِينَ وَمَعْذُورِينَ وَكَانُوا هُمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ فَمَنْ كَانَ مُكْرَهًا لَا يَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ عَلَى نِيَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِذَا قُتِلَ لِأَجْلِ قِيَامِ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ قَتْلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا إذَا هَرَبَ أَحَدُهُمْ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ قِتَالَهُمْ بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ .

وَهَؤُلَاءِ إذَا كَانَ لَهُمْ طَائِفَةٌ مُمْتَنِعَةٌ . فَهَلْ يَجُوزُ اتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ وَقَتْلُ أَسِيرِهِمْ وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ مَشْهُورَيْنِ . فَقِيلَ : لَا يُفْعَلُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مُنَادِيَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَادَى يَوْمَ الْجَمَلِ لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ . وَقِيلَ : بَلْ يُفْعَلُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَوْمَ الْجَمَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَائِفَةٌ مُمْتَنِعَةٌ . وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْقِتَالِ دَفْعُهُمْ فَلَمَّا انْدَفَعُوا لَمْ يَكُنْ إلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ ؛ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِ الصَّائِلِ . وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّهُ يَوْمَ الْجَمَلِ وصفين كَانَ أَمْرُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ . فَمَنْ جَعَلَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ جَعَلَ فِيهِمْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ . وَالصَّوَابُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ جِنْسِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَأَهْلِ الطَّائِفِ والخرمية وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ قُوتِلُوا عَلَى مَا خَرَجُوا عَنْهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ . وَهَذَا مَوْضِعٌ اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْفُقَهَاءِ ؛ فَإِنَّ الْمُصَنِّفِينَ فِي " قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ " جَعَلُوا قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَقِتَالَ الْخَوَارِجِ وَقِتَالَ عَلِيٍّ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقِتَالَهُ لمعاوية وَأَتْبَاعِهِ : مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَفَرَّعُوا مَسَائِلَ ذَلِكَ تَفْرِيعَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ وَقَدْ غَلِطُوا ؛ بَلْ الصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ ؛ كالأوزاعي وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ

وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . فَقِتَالُ عَلِيٍّ لِلْخَوَارِجِ ثَابِتٌ بِالنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا الْقِتَالُ " يَوْمَ صفين " وَنَحْوِهِ فَلَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ؛ بَلْ صَدَّ عَنْهُ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ ؛ مِثْلَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مسلمة وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ . وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْعَسْكَرَيْنِ مِثْلَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ . وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ تينك الطَّائِفَتَيْنِ ؛ لَا الِاقْتِتَالُ بَيْنَهُمَا كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ وَالْجَيْشَ مَعَهُ فَقَالَ : { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } فَأَصْلَحَ اللَّهُ بِالْحَسَنِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الشَّامِ : فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِصْلَاحَ بِهِ مِنْ فَضَائِلِ الْحَسَنِ مَعَ أَنَّ الْحَسَنَ نَزَلَ عَنْ الْأَمْرِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ إلَى مُعَاوِيَةَ . فَلَوْ كَانَ الْقِتَالُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ دُونَ تَرْكِ الْخِلَافَةِ وَمُصَالَحَةِ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَمْدَحْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ مَا أَمَرَ بِهِ وَفَعَلَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَا مَدَحَهُ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى وَفَعَلَ الْأَدْنَى . فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْحَسَنُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ لَا الْقِتَالَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضَعُهُ وَأُسَامَةَ عَلَى فَخِذَيْهِ وَيَقُولُ : { اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ

مَنْ يُحِبُّهُمَا } وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ مَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا بِكَرَاهَتِهِمَا الْقِتَالَ فِي الْفِتْنَةِ ؛ فَإِنَّ أُسَامَةَ امْتَنَعَ عَنْ الْقِتَالِ مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ وَكَذَلِكَ الْحَسَنُ كَانَ دَائِمًا يُشِيرُ عَلَى عَلِيٍّ بِأَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ وَلَمَّا صَارَ الْأَمْرُ إلَيْهِ فَعَلَ مَا كَانَ يُشِيرُ بِهِ عَلَى أَبِيهِ . رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينَ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ } فَهَذِهِ الْمَارِقَةُ هُمْ الْخَوَارِجُ وَقَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ . وَهَذَا يَصْدُقُهُ بَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ قَتْلَهُمْ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ مَعَ عَلِيٍّ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ مَعَ كَوْنِهِمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ . فَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِتَالِ لِوَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ ؛ بَلْ مَدَحَ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرَاهَةِ الْقِتَالِ فِي الْفِتَنِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا . مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ كَقَوْلِهِ : { سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي } وَقَالَ : { يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ } .

فَالْفِتَنُ مِثْلُ الْحُرُوبِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَطَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُلْتَزِمَةٌ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ . مِثْلَ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَمَلِ وصفين ؛ وَإِنَّمَا اقْتَتَلُوا لِشَبَهِ وَأُمُورٍ عَرَضَتْ . وَأَمَّا قِتَالُ الْخَوَارِجِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَأَهْلِ الطَّائِفِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يُحَرِّمُونَ الرِّبَا فَهَؤُلَاءِ يُقَاتَلُونَ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الشَّرَائِعِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَؤُلَاءِ إذَا كَانَ لَهُمْ طَائِفَةٌ مُمْتَنِعَةٌ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ أَسِيرِهِمْ وَاتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ بِبِلَادِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْصِدُوهُمْ فِي بِلَادِهِمْ لِقِتَالِهِمْ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ التَّتَارَ لَا يُقَاتَلُونَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ يُقَاتِلُونَ النَّاسَ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي طَاعَتِهِمْ فَمَنْ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِمْ كُفُّوا عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ كَانَ عَدُوًّا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا أَعْدَاءَهُ الْكُفَّارَ وَيُوَالُوا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ . فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ جُنْدِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْيَمَنِ وَالْمَغْرِبِ جَمِيعِهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُتَعَاوِنِينَ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ وَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يُقَاتِلَ بَعْضًا بِمُجَرَّدِ الرِّيَاسَةِ وَالْأَهْوَاءِ . فَهَؤُلَاءِ التَّتَارُ أَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلُوا مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَأَنْ يَكُفُّوا عَنْ قِتَالِ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيَتَعَاوَنُونَ هُمْ وَهُمْ عَلَى

قِتَالِ الْكُفَّارِ . وَأَيْضًا لَا يُقَاتِلُ مَعَهُمْ غَيْرُ مُكْرَهٍ إلَّا فَاسِقٌ أَوْ مُبْتَدِعٌ أَوْ زِنْدِيقٌ كَالْمَلَاحِدَةِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَكَالرَّافِضَةِ السَّبَّابَةِ وكالْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ مِنْ الْنُّفَاةِ الْحُلُولِيَّةِ وَمَعَهُمْ مِمَّنْ يُقَلِّدُونَهُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُمْ ؛ فَإِنَّ التَّتَارَ جُهَّالٌ يُقَلِّدُونَ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ بِهِ الظَّنَّ وَهُمْ لِضَلَالِهِمْ وَغَيِّهِمْ يَتْبَعُونَهُ فِي الضَّلَالِ الَّذِي يَكْذِبُونَ بِهِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُبَدِّلُونَ دِينَ اللَّهِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ . وَلَوْ وَصَفْت مَا أَعْلَمُهُ مِنْ أُمُورِهِمْ لَطَالَ الْخِطَابُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَذْهَبُهُمْ وَدِينُ الْإِسْلَامِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَوْ أَظْهَرُوا دِينَ الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِيَّ الَّذِي بَعَثَ رَسُولَهُ بِهِ لَاهْتَدَوْا وَأَطَاعُوا : مِثْلَ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ } وَأَوَّلُ الْغَرْبِ مَا يُسَامِتُ الْبِيرَةَ وَنَحْوَهَا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فَمَا يَغْرُبُ عَنْهَا فَهُوَ غَرْبٌ كَالشَّامِ وَمِصْرَ . وَمَا شَرَقَ عَنْهَا فَهُوَ شَرْقٌ كَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ . وَكَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الشَّامِ " أَهْلَ الْمَغْرِبِ " . وَيُسَمُّونَ أَهْلَ الْعِرَاقِ " أَهْلَ الْمَشْرِقِ " . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي ذَكَرْتهَا فِيهَا

مِنْ الْآثَارِ وَالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ رَعِيَّةِ الْبِلَادِ كَانُوا يَرَوْنَ مَذْهَبَ الْنُصَيْرِيَّة ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيهِ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ إلَهٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - يَعْنُونَ الْمَهْدِيَّ - وَأَمَرُوا مَنْ وَجَدَهُ بِالسُّجُودِ لَهُ وَأَعْلَنُوا بِالْكُفْرِ بِذَلِكَ وَسَبِّ الصَّحَابَةِ وَأَظْهَرُوا الْخُرُوجَ عَنْ الطَّاعَةِ وَعَزَمُوا عَلَى الْمُحَارَبَةِ . فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُ مُقَاتَلَتِهِمْ ؟ وَهَلْ تُبَاحُ ذَرَارِيُّهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَؤُلَاءِ يَجِبُ قِتَالُهُمْ مَا دَامُوا مُمْتَنِعِينَ حَتَّى يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الْنُصَيْرِيَّة مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا بِدُونِ اتِّبَاعِهِمْ لِمِثْلِ هَذَا الدَّجَّالِ فَكَيْفَ إذَا اتَّبَعُوا مِثْلَ هَذَا الدَّجَّالِ . وَهُمْ مُرْتَدُّونَ مِنْ أَسْوَأِ النَّاسِ رِدَّةً : تُقْتَلُ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتَغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ . وَسَبْيُ الذَّرِّيَّةِ فِيهِ نِزَاعٌ ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ تُسْبَى الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْتَدِّينَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سِيرَةُ الصِّدِّيقِ فِي قِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ . وَكَذَلِكَ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِرْقَاقِ الْمُرْتَدِّةِ : فَطَائِفَةٌ تَقُولُ : إنَّهَا تُسْتَرَقُّ

كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَطَائِفَةٍ تَقُولُ لَا تُسْتَرَقُّ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ الْأَوَّلُ وَأَنَّهُ تُسْتَرَقُّ مِنْهُ الْمُرْتَدَّاتُ نِسَاءُ الْمُرْتَدِّينَ ؛ فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ الَّتِي تَسَرَّى بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُمَّ ابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالصَّحَابَةُ لَمَّا بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي قِتَالِهِمْ . وَ " الْنُصَيْرِيَّة " لَا يَكْتُمُونَ أَمْرَهُمْ ؛ بَلْ هُمْ مَعْرُوفُونَ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَا يَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ ؛ وَلَا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ وَلَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ وَلَا يُقِرُّونَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ وَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِلَهَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَيَقُولُونَ :
نَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا * * * حيدرة الْأَنْزَعُ الْبَطِينُ
وَلَا حِجَابَ عَلَيْهِ إلَّا * * * مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ الْأَمِينُ
وَلَا طَرِيقَ إلَيْهِ إلَّا * * * سَلْمَانُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
وَأَمَّا إذَا لَمْ يُظْهِرُوا الرَّفْضَ وَأَنَّ هَذَا الْكَذَّابَ هُوَ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ وَامْتَنَعُوا ؛ فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ أَيْضًا ؛ لَكِنْ يُقَاتَلُونَ كَمَا يُقَاتَلُ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَا يُقَاتَلُ الْمُرْتَدُّونَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . فَهَؤُلَاءِ يُقَاتَلُونَ مَا دَامُوا مُمْتَنِعِينَ وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَلَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ الَّتِي لَمْ يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى الْقِتَالِ . وَأَمَّا مَا اسْتَعَانُوا بِهِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ خَيْلٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَفِي أَخْذِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ نَهَبَ عَسْكَرُهُ مَا فِي عَسْكَرِ الْخَوَارِجِ . فَإِنْ رَأَى وَلِيُّ الْأَمْرِ أَنْ يَسْتَبِيحَ مَا فِي عَسْكَرِهِمْ مِنْ الْمَالِ كَانَ هَذَا سَائِغًا . هَذَا مَا دَامُوا مُمْتَنِعِينَ . فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفَرِّقَ شَمْلَهُمْ وَتُحْسَمَ مَادَّةُ شَرِّهِمْ وَإِلْزَامُهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَقَتْلُ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الرِّدَّةِ مِنْهُمْ . وَأَمَّا قَتْلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ كُفْرًا مِنْهُ وَهُوَ الْمُنَافِقُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ " الزِّنْدِيقُ " : فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ تَابَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرْ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَمَنْ كَانَ دَاعِيًا مِنْهُمْ إلَى الضَّلَالِ لَا يَنْكَفُّ شَرُّهُ إلَّا بِقَتْلِهِ قُتِلَ أَيْضًا ؛ وَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ كَأَئِمَّةِ الرَّفْضِ الَّذِينَ يُضِلُّونَ النَّاسَ كَمَا قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ غَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ وَالْجَعْدَ بْنَ دِرْهَمٍ وَأَمْثَالَهُمَا مِنْ الدُّعَاةِ . فَهَذَا الدَّجَّالُ يُقْتَلُ مُطْلَقًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ الشَّيْخُ :
عَنْ قَوْمٍ ذَوِي شَوْكَةٍ مُقِيمِينَ بِأَرْضِ وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَسْجِدٌ وَلَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ وَإِنْ صَلَّى أَحَدُهُمْ صَلَّى الصَّلَاةَ غَيْرَ الْمَشْرُوعَةِ . وَلَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ مَعَ كَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ مِنْ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ . وَهُمْ يَقْتَتِلُونَ فَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَنْهَبُونَ مَالَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَيَقْتُلُونَ الْأَطْفَالَ وَقَدْ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ لَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَلَا غَيْرِهَا وَإِذَا أَسَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بَاعُوا أَسْرَاهُمْ لِلْإِفْرِنْجِ . وَيَبِيعُونَ رَقِيقَهُمْ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لِلْإِفْرِنْجِ عَلَانِيَةً وَيَسُوقُونَهُمْ كَسُوقِ الدَّوَابِّ . وَيَتَزَوَّجُونَ الْمَرْأَةَ فِي عِدَّتِهَا . وَلَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ . وَلَا يَنْقَادُونَ لِحَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِذَا دُعِيَ أَحَدُهُمْ إلَى الشَّرْعِ قَالَ : إنَّا الشَّرْعُ . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ . فَهَلْ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟ وَكَيْفَ الطَّرِيقُ إلَى دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ مَا ذُكِرَ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، يَجُوزُ ؛ بَلْ يَجِبُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ

الْمُتَوَاتِرَةِ ؛ مِثْلُ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ إلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَوْ عَنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ الَّذِينَ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ سَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ لَا يَتَحَاكَمُونَ بَيْنَهُمْ بِالشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ وَكَمَا قَاتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوَارِجَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } . وَالرِّبَا آخِرُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا . وَيُدْعَوْنَ قَبْلَ الْقِتَالِ إلَى الْتِزَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ الْتَزَمُوهَا اسْتَوْثَقَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَكْتَفِ مِنْهُمْ بِمُجَرَّدِ الْكَلَامِ . كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ بِمَنْ قَاتَلَهُمْ بَعْدَ إنْ أَذَلَّهُمْ وَقَالَ : اخْتَارُوا ؛ إمَّا الْحَرْبُ الْمُجَلِّيَةُ وَإِمَّا السِّلْمُ الْمُخْزِيَةُ وَقَالَ : أَنَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالُوا : هَذِهِ الْحَرْبُ الْمُجَلِّيَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا السِّلْمُ

الْمُخْزِيَةُ ؟ قَالَ : تَشْهَدُونَ أَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ وَنَنْزِعُ مِنْكُمْ الْكُرَاعَ - يَعْنِي الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ - حَتَّى يَرَى خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ أَمْرًا بَعْدُ . فَهَكَذَا الْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ إذَا أَظْهَرُوا الطَّاعَةَ يُرْسَلُ إلَيْهِمْ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَيُقِيمُ بِهِمْ الصَّلَوَاتِ وَمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ . وَإِمَّا أَنْ يَسْتَخْدِمَ بَعْضُ الْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ فِي جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ وَيَجْعَلُهُمْ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِمَّا بِأَنْ يَنْزِعَ مِنْهُمْ السِّلَاحَ الَّذِي يُقَاتِلُونَ بِهِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ . وَإِمَّا أَنَّهُمْ يَضَعُوهُ حَتَّى يَسْتَقِيمُوا ؛ وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُمْ مِنْ الْتِزَامِ الشَّرِيعَةِ . وَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فِيمَ اسْتَقَرَّ إطْلَاقُهُ مِنْ الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَإِلَى الْآنِ : مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْقُرُبَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْمُرَتَّبِ لِلْمُرْتَزَقِينَ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ . فَمِنْهُمْ الْفَقِيرُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ عَائِلَةٌ كَثِيرَةٌ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ وَكَسْبُهُ لَا يَقُومُ بِكُلْفَتِهِمْ . وَمِنْهُمْ الْمُنْقَطِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ يَتَسَبَّبُ بِهِ [ وَ ] (1) لَا يُحْسِنُ صَنْعَةً يَصْنَعُهَا . وَمِنْهُمْ الْعَاجِزُ عَنْ

الْحَرَكَةِ لِكِبَرِ أَوْ ضَعْفٍ . وَمِنْهُمْ الصَّغِيرُ دُونَ الْبَالِغِ وَالنِّسَاءُ الْأَرَامِلُ وَذَوُو الْعَاهَاتِ . وَمِنْهُمْ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْعِلْمِ الشَّرِيفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمِنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِمْ نَفْعٌ عَامٌّ وَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ نَصِيبٌ . وَمِنْهُمْ أَرْبَابُ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ الْمُتَجَرِّدُونَ لِلْعِبَادَةِ وَتَلَقِّي الْوَارِدِينَ : مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ . وَمِنْهُمْ أَيْتَامُ الْمُسْتَشْهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَوْلَادِ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُخْلِفْ لَهُ مَا يَكْفِيهِ وَمِمَّنْ يَسْأَلُ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ فَأَحْيَاهَا أَوْ اسْتَصْلَحَ أَحْرَاسًا عَالِيَةً لِتَكُونَ لَهُ مُسْتَمِرَّةً بَعْدَ إصْلَاحِهَا فَاسْتَخْرَجَهَا فِي مُدَّةِ سِنِينَ عَدِيدَةٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ عَلَى جَارِي الْعَوَائِدِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ . فَهَلْ تَكُونُ هَذِهِ الْأَسْبَابُ الَّتِي اتَّصَفُوا بِهَا مُسَوِّغَةً لَهُمْ تَنَاوُلَ مَا نَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْلَقَهُ لَهُمْ مُلُوكُ الْإِسْلَامِ وَنُوَّابُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَاسْتَقَرَّ بِأَيْدِيهِمْ إلَى الْآنِ أَمْ لَا ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ يُنْزِلُهُمْ بِعَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَتَقَرَّبَ إلَى السُّلْطَانِ بِالسَّعْيِ بِقَطْعِ أَرْزَاقِهِمْ الْمُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ الزَّوَايَا وَمُعْظَمِ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ الَّتِي يَرْتَفِقُ بِهَا أَبْنَاءُ السَّبِيلِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُجَرَّدِينَ وَيَقُومُ بِهَا شِعَارُ الْإِسْلَامِ . هَلْ يَكُونُ بِذَلِكَ آثِمًا عَاصِيًا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ أَنْ يُكَلَّفَ هَؤُلَاءِ إثْبَاتُ اسْتِحْقَاقِهِمْ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ قِبَلِ أُولِي الْأَمْرِ . وَلَوْ كُلِّفُوا ذَلِكَ : فَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ إثْبَاتُهُ عِنْدَ حَاكِمٍ بِعَيْنِهِ

غَرِيبٍ مِنْ بِلَادِهِمْ مُتَظَاهِرٍ بِمُنَافِرَتِهِمْ مَعَ وُجُودِ عِدَّةٍ مِنْ الْحُكَّامِ غَيْرِهِ فِي بِلَادِهِمْ أَوْ لَا ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ عَجَزَ مِنْهُمْ عَنْ الْإِثْبَاتِ لِضَعْفِهِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ ؟ لَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَالُ مِنْ أَنَّ شُهُودَ هَذَا الزَّمَانِ لَا يُؤَدُّونَ شَهَادَةً إلَّا بِأُجْرَةِ تُرْضِيهِمْ وَقَدْ يَعْجِزُ الْفَقِيرُ عَنْ مِثْلِهَا وَكَذَلِكَ النِّسْوَةُ اللَّاتِي لَا يَعْلَمُ الشُّهُودُ أَحْوَالَهُنَّ غَالِبًا . وَإِذَا سَأَلَ الْإِمَامُ حَاكِمًا عَنْ اسْتِحْقَاقِ مَنْ ذُكِرَ . فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ إلَّا الْأَعْمَى وَالْمُكَسَّحَ وَالزَّمِنَ لَا غَيْرُ وَاضْرِبْ عَمًّا سِوَاهُمْ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعٍ عَلَى حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ . هَلْ يَكُونُ بِذَلِكَ آثِمًا عَاصِيًا أَمْ لَا ؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ؟ وَإِذَا سَأَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ . هَلْ يَسْتَحِقُّ مَنْ هُوَ بِهَا مَا هُوَ مُرَتَّبٌ لَهُمْ . فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ الزَّوَايَا وَالرَّبْطَ دَكَاكِينُ وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيهِمْ الصُّلَحَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَحَمَلَةُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالْمُنْقَطِعِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . هَلْ يَكُونُ مُؤْذِيًا لَهُمْ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَمَا حُكْمُ هَذَا الْقَوْلِ الْمُطْلَقِ فِيهِمْ - مَعَ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِجَمِيعِهِمْ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ إذَا تَبَيَّنَ سُقُوطُهُ وَبُطْلَانُهُ - هَلْ تَسْقُطُ بِذَلِكَ رِوَايَتُهُ وَمَا عَدَاهَا مِنْ أَخْبَارِهِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ لِلْمَقْذُوفِينَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّعْنِ عَلَيْهِمْ الْمُؤَدِّي عِنْدَ الْمُلُوكِ إلَى قَطْعِ أَرْزَاقِهِمْ وَأَنْ يُكَلَّفُوهُ إثْبَاتُ ذَلِكَ . وَإِذَا عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِهِ فَهَلْ لَهُمْ مُطَالَبَتُهُ

بِمُقْتَضَاهُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا عَجَزَ عَنْ ثُبُوتِ ذَلِكَ هَلْ يَكُونُ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ وَجَرْحِهِ : يَنْعَزِلُ بِهَا عَنْ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ أَمْ لَا ؟ وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ وَهُمْ لَهُ فِي غَايَةِ الْكَرَاهَةِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ بِهِمْ وَقَدْ جَاءَ : { لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ قَوْمًا أَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ } ؟ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذِهِ الْمَسَائِلُ تَحْتَاجُ إلَى تَقْرِيرِ أَصْلٍ جَامِعٍ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ بَعْدَهُ أَشْيَاءَ : الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتِعْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَقُوَّةٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ لَيْسَ لِأَحَدِ تَغْيِيرُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي رَأْيِ مَنْ خَالَفَهَا ؛ مَنْ اهْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ وَمَنْ اسْتَنْصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ . وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعَمَلُ مِنْ ذَلِكَ

بِمَا عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرَتْكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ } . وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ مُخْتَصَرًا فَنَقُولُ : الْأَمْوَالُ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّتِي يَتَوَلَّى قَسْمَهَا وُلَاةُ الْأَمْرِ ثَلَاثَةٌ : " مَالُ الْمَغَانِمِ " . وَهَذَا لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ؛ إلَّا الْخُمُسَ فَإِنَّ مَصْرِفَهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ } وَ " الْمَغَانِمُ " مَا أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ . فَهَذِهِ الْمَغَانِمُ وَخُمُسُهَا . وَ " الثَّانِي الْفَيْءُ " . وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْحَشْرِ " حَيْثُ قَالَ : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } وَمَعْنَى قَوْلِهِ : { فَمَا أَوْجَفْتُمْ } أَيْ مَا حَرَّكْتُمْ وَلَا أَعْمَلْتُمْ وَلَا سُقْتُمْ . يُقَالُ وَجَفَ الْبَعِيرُ يَجِفُ وُجُوفًا وأوجفته : إذَا سَارَ نَوْعًا مِنْ السَّيْرِ . فَهَذَا هُوَ الْفَيْءُ الَّذِي أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَهُوَ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ

الْقِتَال أَيْ مَا قَاتَلْتُمْ عَلَيْهِ . فَمَا قَاتَلُوا عَلَيْهِ كَانَ لِلْمُقَاتِلَةِ وَمَا لَمْ يُقَاتِلُوا عَلَيْهِ فَهُوَ فَيْءٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَفَاءَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَأَحَلَّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ لِيَأْكُلُوا طَيِّبًا وَيَعْمَلُوا صَالِحًا . وَالْكُفَّارُ عَبَدُوا غَيْرَهُ فَصَارُوا غَيْرَ مُسْتَحِقِّينَ لِلْمَالِ . فَأَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَأَنْ يَسْتَرِقُّوا أَنْفُسَهُمْ وَأَنْ يَسْتَرْجِعُوا الْأَمْوَالَ مِنْهُمْ . فَإِذَا أَعَادَهَا اللَّهُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فَقَدْ فَاءَتْ أَيْ رَجَعَتْ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا . وَهَذَا الْفَيْءُ يَدْخُلُ فِيهِ جِزْيَةُ الرُّءُوس الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مِنْ الْعُشُورِ ؛ وَأَنْصَافِ الْعُشُورِ وَمَا يُصَالَحُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ مِنْ الْمَالِ كَاَلَّذِي يَحْمِلُونَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا جَلَوْا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا " سُورَةَ الْحَشْرِ " وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } { وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ } وَهَؤُلَاءِ أَجْلَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا يَسْكُنُونَ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فَأَجْلَاهُمْ بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهُمْ وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ .

وَذَكَرَ مَصَارِفَ الْفَيْءِ بِقَوْلِهِ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } فَهَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَكِيمٍ النهرواني مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : أَنَّ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْفَيْءِ نَصِيبٌ . وَمِنْ الْفَيْءِ مَا ضَرَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي فَتَحَهَا عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْهَا ؛ كَأَرْضِ مِصْرَ وَأَرْضِ الْعِرَاقِ - إلَّا شَيْئًا يَسِيرًا مِنْهَا - وَبَرِّ الشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذَا الْفَيْءُ لَا خُمُسَ فِيهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد . وَإِنَّمَا يَرَى تَخْمِيسَهُ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ

أَصْحَابِ أَحْمَد وَذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْهُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ فِي الْفَيْءِ خُمُسًا كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ . وَهَذَا الْفَيْءُ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَانَ مِلْكًا لَهُ . وَأَمَّا مَصْرِفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ فَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ يَصْرِفَ مِنْهُ أَرْزَاقَ الْجُنْدِ الْمُقَاتِلِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ ؛ فَإِنَّ تَقْوِيَتَهُمْ تُذِلُّ الْكُفَّارَ فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْفَيْءُ . وَتَنَازَعُوا هَلْ يُصْرَفُ فِي سَائِرِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ تُخْتَصُّ بِهِ الْمُقَاتِلَةُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد ؛ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي مَذْهَبِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ : أَنَّهُ لَا يُخْتَصُّ بِهِ الْمُقَاتِلَةُ ؛ بَلْ يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ كُلِّهَا . وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ : يُعْطَى مَنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ لِأَهْلِ الْفَيْءِ ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ مَنْ فِي الْبُلْدَانِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ وَهُوَ مَنْ بَلَغَ وَيُحْصِي الذَّرِّيَّةَ وَهِيَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ وَالنِّسَاءَ . إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ يُعْطِي الْمُقَاتِلَةَ فِي كُلِّ عَامٍ عَطَاءَهُمْ وَيُعْطِي الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ مَا يَكْفِيهِمْ لِسَنَتِهِمْ . قَالَ : وَالْعَطَاءُ مِنْ الْفَيْءِ لَا يَكُونُ إلَّا لِبَالِغِ يُطِيقُ الْقِتَالَ . قَالَ : وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِمَّنْ لَقِيَهُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ فِي الْعَطَاءِ حَقٌّ وَلَا لِلْأَعْرَابِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الصَّدَقَةِ . قَالَ : فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الْفَيْءِ شَيْءٌ وَضَعَهُ الْإِمَامُ فِي أَهْلِ الْحُصُونِ وَالِازْدِيَادِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَكُلِّ مَا

يَقْوَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ . فَإِنْ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ وَحَصَلَتْ كُلُّ مَصْلَحَةٍ لَهُمْ فَرَّقَ مَا يَبْقَى عَنْهُمْ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ . قَالَ : وَيُعْطِي مِنْ الْفَيْءِ رِزْقَ الْعُمَّالِ وَالْوُلَاةِ وَكُلَّ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ الْفَيْءِ : مِنْ وَالٍ وَحَاكِمٍ وَكَاتِبٍ وَجُنْدِيٍّ مِمَّنْ لَا غِنَى لِأَهْلِ الْفَيْءِ عَنْهُ . وَهَذَا مُشْكِلٌ مَعَ قَوْلِهِ : إنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْ الْفَيْءِ صَبِيٌّ وَلَا مَجْنُونٌ وَلَا عَبْدٌ وَلَا امْرَأَةٌ وَلَا ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ ؛ لِأَنَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ . وَهَذَا إذَا كَانَ لِلْمَصَالِحِ فَيَصْرِفُ مِنْهُ إلَى كُلِّ مَنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ كَالْمُجَاهِدِينَ وَكَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ : مِنْ وُلَاةِ الْحَرْبِ وَوُلَاةِ الدِّيوَانِ وَوُلَاةِ الْحُكْمِ وَمَنْ يُقْرِئُهُمْ الْقُرْآنَ وَيُفْتِيهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ وَيَؤُمُّهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ وَيُؤَذِّنُ لَهُمْ . وَيَصْرِفُ مِنْهُ فِي سَدَادِ ثُغُورِهِمْ وَعِمَارَةِ طُرُقَاتِهِمْ وَحُصُونِهِمْ وَيَصْرِفُ مِنْهُ إلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْهُمْ أَيْضًا وَيَبْدَأُ فِيهِ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ : فَيُقَدَّم ذَوُو الْمَنَافِعِ الَّذِينَ يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِمْ . هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يَصْرِفُ فِي الْمَصَالِحِ مَا يَسُدُّ بِهِ الثُّغُورَ مِنْ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ وَيُعْطِي قُضَاةَ الْمُسْلِمِينَ مَا يَكْفِيهِمْ وَيَدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقَ الْمُقَاتِلَةِ وَذَوُو الْحَاجَاتِ يُعْطُونَ مِنْ الزِّكْوَاتِ وَنَحْوِهَا . وَمَا فَضَلَ عَنْ

مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ قُسِمَ بَيْنَهُمْ ؛ لَكِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد : أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِمْ فِيهِ حَقٌّ إذَا فَضَلَ الْمَالُ وَاتَّسَعَ عَنْ حَاجَاتِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا كَثُرَ الْمَالُ أَعَطَا مِنْهُمْ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ لِجَمِيعِ أَصْنَافِ الْمُسْلِمِينَ فَرْضٌ فِي دِيوَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ؛ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ ؛ لَكِنْ كَانَ أَهْلُ الدِّيوَانِ نَوْعَيْنِ : مُقَاتِلَةٌ وَهُمْ الْبَالِغُونَ . وَذَرِّيَّةٌ وَهُمْ الصِّغَارُ وَالنِّسَاءُ الَّذِينَ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ؛ وَمَعَ هَذَا فَالْوَاجِبُ تَقْدِيمُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِمْ فَلَا يُعْطَى غَنِيٌّ شَيْئًا حَتَّى يَفْضُلَ عَنْ الْفُقَرَاءِ . هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَمَالِكِ وَأَحْمَد فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - كَمَا تَقَدَّمَ - تَخْصِيصُ الْفُقَرَاءِ بِالْفَاضِلِ . وَأَمَّا " الْمَالُ الثَّالِثُ " فَهُوَ الصَّدَقَاتُ الَّتِي هِيَ زَكَاةُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ : زَكَاةُ الْحَرْثِ وَهِيَ الْعُشُورُ وَأَنْصَافُ الْعُشُورِ : الْمَأْخُوذَةُ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ . وَزَكَاةُ الْمَاشِيَةِ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ . وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ . وَزَكَاةُ النَّقْدَيْنِ . فَهَذَا الْمَالُ مَصْرِفُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وَفِي السُّنَنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَاتِ .

فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَاتِ بِقِسْمَةِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ ؛ وَلَكِنْ جَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك } . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرَجَ بِالصَّدَقَاتِ عَنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا الْأَصْلُ . فَنَذْكُرُ أَصْلًا آخَرَ وَنَقُولُ : أَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ هِيَ أَصْنَافٌ : صِنْفٌ مِنْهَا هُوَ مِنْ الْفَيْءِ أَوْ الصَّدَقَاتِ أَوْ الْخُمُسِ . فَهَذَا قَدْ عُرِفَ حُكْمُهُ . وَصِنْفٌ صَارَ إلَى بَيْتِ الْمَالِ بِحَقِّ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ . مِثْلَ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا وَارِثَ لَهُ . وَمِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ نِزَاعٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَصِنْفٌ قُبِضَ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ بِتَأْوِيلِ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ إذَا أَمْكَنَ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ . مِثْلَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ مُصَادَرَاتِ الْعُمَّالِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ أَخَذُوا مِنْ الْهَدَايَا وَأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ فَاسْتَرْجَعَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ تَرِكَاتِهِمْ وَلَمْ يَعْرِفْ مُسْتَحِقَّهُ . وَمِثْلَ مَا قُبِضَ مِنْ الْوَظَائِفِ الْمُحْدَثَةِ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ إلَى أَصْحَابِهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ الَّتِي تَعَذَّرَ رَدُّهَا إلَى أَهْلِهَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِمْ مَثَلًا هِيَ مِمَّا يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ لَا يَعْرِفُ صَاحِبَهُ كَالْغَاصِبِ التَّائِبِ وَالْخَائِنِ التَّائِبِ وَالْمُرَابِي التَّائِبِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ صَارَ بِيَدِهِ مَالٌ لَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَعْرِفُ صَاحِبَهُ ؛ فَإِنَّهُ

يَصْرِفُهُ إلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . إذَا تَبَيَّنَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ . فَنَقُولُ : مَنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ : كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ فَهَؤُلَاءِ يَجُوزُ ؛ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعْطُوا مِنْ الزَّكَوَاتِ وَمِنْ الْأَمْوَالِ الْمَجْهُولَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ يُعْطُوا مِنْ الْفَيْءِ مِمَّا فَضَلَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ . سَوَاءٌ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ الْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا وَسَوَاءٌ كَانُوا فِي زَوَايَا أَوْ رَبْطٍ أَوْ لَمْ يَكُونُوا ؛ لَكِنْ مَنْ كَانَ مُمَيَّزًا بِعِلْمِ أَوْ دِينٍ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ . وَأَحَقُّ هَذَا الصِّنْفِ مَنْ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا } فَمَنْ كَانَ مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّذِي أُحْصِرَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ مَنَعَهُ الْكَسْبَ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ . وَيُعْطَى قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاؤُهُمْ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ وَيَدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقَ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ لَا سِيَّمَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الطالبيين والعباسيين وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَتَعَيَّنُ إعْطَاؤُهُمْ مِنْ الْخُمُسِ وَالْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ ؛ لِكَوْنِ الزَّكَاةِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ . وَالْفَقِيرُ الشَّرْعِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ مِنْ الزَّكَاةِ وَالْمَصَالِحِ وَنَحْوِهِمَا لَيْسَ هُوَ الْفَقِيرُ الِاصْطِلَاحِيِّ الَّذِي يَتَقَيَّدُ بِلُبْسَةِ

مُعَيَّنَةٍ وَطَرِيقَةٍ مُعَيَّنَةٍ ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ لَيْسَ لَهُ كِفَايَةٌ تَكْفِيهِ وَتَكْفِي عِيَالَهُ فَهُوَ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ الْفَقِيرُ أَشَدُّ حَاجَةً أَوْ الْمِسْكِينُ ؟ أَوْ الْفَقِيرُ مَنْ يَتَعَفَّفُ وَالْمِسْكِينُ مَنْ يَسْأَلُ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ لَهُمْ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ فَإِنَّهُ يُعْطَى مَا يَكْفِيهِ سَوَاءٌ كَانَ لُبْسُهُ لُبْسَ الْفَقِيرِ الِاصْطِلَاحِيِّ أَوْ لِبَاسَ الْجُنْدِ وَالْمُقَاتِلَةِ أَوْ لُبْسَ الشُّهُودِ أَوْ لُبْسَ التُّجَّارِ أَوْ الصُّنَّاعِ أَوْ الْفَلَّاحِينَ فَالصَّدَقَةُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا صِنْفٌ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ لَيْسَ لَهُ كِفَايَةٌ تَامَّةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ : مِثْلُ الصَّانِعِ الَّذِي لَا تَقُومُ صَنْعَتُهُ بِكِفَايَتِهِ وَالتَّاجِرِ الَّذِي لَا تَقُومُ تِجَارَتُهُ بِكِفَايَتِهِ وَالْجُنْدِيِّ الَّذِي لَا يَقُومُ إقْطَاعُهُ بِكِفَايَتِهِ . وَالْفَقِيرِ وَالصُّوفِيِّ الَّذِي لَا يَقُومُ مَعْلُومُهُ مِنْ الْوَقْفِ بِكِفَايَتِهِ وَالشَّاهِدِ وَالْفَقِيهِ الَّذِي لَا يَقُومُ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِكِفَايَتِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي رِبَاطٍ أَوْ زَاوِيَةٍ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ كِفَايَتِهِ . فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مُسْتَحِقُّونَ . وَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا ؛ فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ : { لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانُوا مِنْ أَصْنَافِ الْقِبْلَةِ . وَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مُنَافِقًا أَوْ مُظْهِرًا لِبِدْعَةِ تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ بِدَعِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ ؛ فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ . وَمِنْ عُقُوبَتِهِ أَنْ يُحْرَمَ حَتَّى يَتُوبَ .

وَأَمَّا مَنْ كَانَ زِنْدِيقًا كَالْحُلُولِيَّةِ والمباحية وَمَنْ يُفَضِّلُ مَتْبُوعَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ اتِّبَاعُ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَنَّهُ إذَا حَصَلَتْ لَهُ الْمَعْرِفَةُ وَالتَّحْقِيقُ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ أَوْ أَنَّ الْعَارِفَ الْمُحَقِّقَ يَجُوزُ لَهُ التَّدَيُّنُ بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مُنَافِقُونَ زَنَادِقَةٌ وَإِذَا ظَهَرَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَإِنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ كَثِيرُونَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ . وَعَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ مَعَ إعْطَاءِ الْفُقَرَاءِ ؛ بَلْ وَالْأَغْنِيَاءِ : بِأَنْ يُلْزِمُوا هَؤُلَاءِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يُمَكِّنُوا أَحَدًا مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ ادَّعَى مِنْ الدَّعَاوَى مَا ادَّعَاهُ وَلَوْ زَعَمَ أَنَّهُ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ . وَمَنْ كَانَ مِنْ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَمْ تَشْغَلُهُمْ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ الْكَسْبِ قَادِرًا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَجَوَّزَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيِّ وَلَا لَقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ } وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ مَنْ يَصْنَعُ بِهَا دَعْوَةً وَضِيَافَةً لِلْفُقَرَاءِ وَلَا يُقِيمُ بِهَا سِمَاطًا ؛ لَا لِوَارِدِ وَلَا غَيْرِ وَارِدٍ ؛ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعْطِيَ مُلْكًا لِلْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ ؛ بِحَيْثُ يُنْفِقُهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فِي بَيْتِهِ إنْ شَاءَ وَيَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ وَيَصْرِفُهَا

فِي حَاجَاتِهِ . وَلَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُنْكِرُ صَرْفَ الصَّدَقَاتِ وَفَاضِلِ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ . وَمَنْ نَقَلَ عَنْهُ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالْعِلْمِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا بِالدِّينِ ؛ بَلْ بِسَائِرِ الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ أَوْ يَكُونُ النَّقْلُ عَنْهُ كَذِبًا أَوْ مُحَرَّفًا . فَإِمَّا مَنْ هُوَ مُتَوَسِّطٌ فِي عِلْمٍ وَدِينٍ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ . وَلَكِنْ قَدْ اخْتَلَطَ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْمُرَتَّبَةِ السُّلْطَانِيَّةِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ . فَأَقْوَامٌ كَثِيرُونَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَالدِّينِ وَالْعِلْمِ لَا يُعْطَى أَحَدُهُمْ كِفَايَتَهُ وَيَتَمَزَّقُ جَوْعًا وَهُوَ لَا يَسْأَلُ وَمَنْ يَعْرِفُهُ فَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِ . وَأَقْوَامٌ كَثِيرُونَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ . وَقَوْمٌ لَهُمْ رَوَاتِبُ أَضْعَافُ حَاجَاتِهِمْ . وَقَوْمٌ لَهُمْ رَوَاتِبُ مَعَ غِنَاهُمْ وَعَدَمِ حَاجَاتِهِمْ . وَقَوْمٌ يَنَالُونَ جِهَاتٍ كَمَسَاجِدَ وَغَيْرِهَا فَيَأْخُذُونَ مَعْلُومَهَا وَيَسْتَثْنُونَ مَنْ يُعْطُونَ شَيْئًا يَسِيرًا . وَأَقْوَامٌ فِي الرَّبْطِ وَالزَّوَايَا يَأْخُذُونَ مَالًا يَسْتَحِقُّونَ وَيَأْخُذُونَ فَوْقَ حَقِّهِمْ وَيَمْنَعُونَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُمْ حَقَّهُ أَوْ تَمَامَ حَقِّهِ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . وَلَا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ أَنَّ السَّعْيَ فِي تَمْيِيزِ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ غَيْرِهِ وَإِعْطَاءَ الْوِلَايَاتِ وَالْأَرْزَاقِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا وَالْعَدْلَ بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ

وَفِعْلَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ : هُوَ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ وُلَاةِ الْأُمُورِ ؛ بَلْ وَمِنْ أَوْجَبِهَا عَلَيْهِمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْعَدْلُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ . وَكَمَا أَنَّ النَّظَرَ فِي الْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ وَالتَّعْدِيلَ بَيْنَهُمْ ؛ وَزِيَادَةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ وَنُقْصَانَ مَنْ يَسْتَحِقُّ النُّقْصَانَ وَإِعْطَاءَ الْعَاجِزِ عَنْ الْجِهَادِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : هُوَ مِنْ أَحْسَنِ أَفْعَالِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَأُوجِبْهَا فَكَذَلِكَ النَّظَرُ فِي حَالِ سَائِرِ الْمُرْتَزَقِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْمَصَالِحِ وَالْوُقُوفِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ وَإِعْطَاءِ الْمُسْتَحِقِّ تَمَامَ كِفَايَتِهِ وَمَنْعِ مَنْ دَخَلَ فِي الْمُسْتَحِقِّينَ وَلَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ أَنْ يُزَاحِمَهُمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ . وَإِذَا ادَّعَى الْفَقْرَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْغِنَى وَطَلَبِ الْأَخْذِ مِنْ الصَّدَقَاتِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِلَا بَيِّنَةٍ بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيِّ وَلَا لَقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ ؛ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلَانِ مِنْ الصَّدَقَةِ فَلَمَّا رَآهُمَا جَلْدَيْنِ صَعِدَ فِيهَا النَّظَرَ وَصَوَّبَهُ . فَقَالَ : إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيِّ وَلَا لَقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ } . وَأَمَّا إنْ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ عِيَالًا . فَهَلْ يَفْتَقِرُ إلَى بَيِّنَةٍ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ مَشْهُورَانِ : هُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ فِيهِ : يَفْتَقِرُ إلَى بَيِّنَةٍ . فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ مِنْ الشُّهُودِ الْمُعَدِّلِينَ ؛ بَلْ يَجِبُ أَنَّهُمْ لَمْ يَرْتَزِقُوا

عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ إذَا أَخَذُوا عَلَيْهَا رِزْقًا لَا سِيَّمَا مَعَ الْعِلْمِ بِكَثْرَةِ مَنْ يَشْهَدُ بِالزُّورِ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الشُّهُودَ فِي الشَّامِ الْمُرْتَزِقَةَ بِالشَّهَادَةِ لَا يَشْهَدُونَ فِي الاجتهاديات كَالْأَعْشَارِ وَالرُّشْدِ وَالْعَدَالَةِ وَالْأَهْلِيَّةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ بَلْ يَشْهَدُونَ بِالْحِسِّيَّاتِ كَاَلَّذِي سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ ؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ بالاجتهاديات يَدْخُلُهَا التَّأْوِيلُ وَالتُّهَمُ فَالْجُعْلُ يُسَهِّلُ الشَّهَادَةَ فِيهَا بِغَيْرِ تَحَرٍّ ؛ بِخِلَافِ الْحِسِّيَّاتِ ؛ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا كَذِبٌ صَرِيحٌ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ يُقَدَّمُ عَلَى صَرِيحِ الزُّورِ . وَهَؤُلَاءِ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِهِمْ ؛ بَلْ إذَا أَتَى الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِمَنْ يُعْرَفُ صِدْقُهُ مِنْ جِيرَانِهِ وَمَعَارِفِهِ وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ . وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ بِالرَّبْطِ وَالزَّوَايَا غَيْرُ مُسْتَحِقِّينَ بَاطِلٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ . كَمَا أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ فِيهِمْ مُسْتَحِقٌّ لِمَا يَأْخُذُهُ هُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا فَلَا هَذَا وَلَا هَذَا ؛ بَلْ فِيهِمْ الْمُسْتَحِقُّ الَّذِي يَأْخُذُ حَقَّهُ . وَفِيهِمْ مَنْ يَأْخُذُ فَوْقَ حَقِّهِ . وَفِيهِمْ مَنْ لَا يُعْطَى إلَّا دُونَ حَقِّهِ . وَفِيهِمْ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ . حَتَّى إنَّهُمْ فِي الطَّعَامِ الَّذِي يَشْتَرِكُونَ فِيهِ يُعْطَى أَحَدُهُمْ أَفْضَلَ مِمَّا يُعْطَى الْآخَرُ وَإِنْ كَانَ أَغْنَى مِنْهُ ؛ خِلَافَ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْعَدْلِ الَّذِينَ يُسَوُّونَ فِي الطَّعَامِ بِالْعَدْلِ كَمَا يُعْمَلُ فِي رِبَاطَاتِ أَهْلِ الْعَدْلِ . وَأَمَرَ وَلِيُّ الْأَمْرِ هَؤُلَاءِ بِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ وَأَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ .

وَمَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْحُكَّامِ : مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَّا الْأَعْمَى وَالْمُكَسَّحَ وَالزَّمِنَ . قَوْلٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُولَ هَذَا حَاكِمٌ مِمَّنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ أَوْ أَفْجَرِهِمْ . فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جُرْحِهِ كَمَا أَنَّهُ إنْ كَانَ النَّاقِلُ لِهَذَا عَنْ حَاكِمٍ قَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تُرْدِعُهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ الْمُفْتَرِينَ عَلَى النَّاسِ . وَعُقُوبَةُ الْإِمَامِ لِلْكَذَّابِ الْمُفْتَرِي عَلَى النَّاسِ وَالْمُتَكَلِّمِ فِيهِمْ وَفِي اسْتِحْقَاقِهِمْ لِمَا يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ : لَا يَحْتَاجُ إلَى دَعْوَاهُمْ ؛ بَلْ الْعُقُوبَةُ فِي ذَلِكَ جَائِزَةٌ بِدُونِ دَعْوَى أَحَدٍ كَعُقُوبَتِهِ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ : فَيَحْدُثُ بِلَا عِلْمٍ وَيُفْتِي بِلَا عِلْمٍ وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ يُعَاقَبُونَ . فَعُقُوبَةُ كُلِّ هَؤُلَاءِ جَائِزَةٌ بِدُونِ دَعْوَى . فَإِنَّ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَالتَّكَلُّمَ فِي الدِّينِ وَفِي النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ : كَثِيرٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الْأَعْمَى وَالزَّمِنُ وَالْمُكَسَّحُ . فَقَدْ أَخْطَأَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إنَّ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا مُسْتَحِقَّةٌ لِأَصْنَافِ : مِنْهُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إطْلَاقُ كِفَايَتِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ : فَقَدْ أَخْطَأَ ؛ بَلْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الزِّكْوَاتِ بِلَا رَيْبٍ . وَأَمَّا مِنْ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ

الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ - وَلَوْ قَدَرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِنْ الزَّكَوَاتِ مَا يَكْفِيهِمْ وَأَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُسْتَغْرَقَةٌ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَانَ إعْطَاءُ الْعَاجِزِ مِنْهُمْ عَنْ الْكَسْبِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ . فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا أَنْ يُطْعِمُوا الْجَائِعَ وَيَكْسُوا الْعَارِيَ وَلَا يَدْعُوا بَيْنَهُمْ مُحْتَاجًا . وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ الْفَاضِلِ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا . وَأَمَّا مَنْ يَأْخُذُ بِمَصْلَحَةِ عَامَّةٍ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مَعَ حَاجَتِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَ الْغَنِيِّ - كَالْقَاضِي وَالشَّاهِدِ وَالْمُفْتِي وَالْحَاسِبِ وَالْمُقْرِي وَالْمُحْدِثِ إذَا كَانَ غَنِيًّا ؟ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَزِقَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَعَ غِنَاهُ ؟ - قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ عِنَايَةَ الْإِمَامِ بِأَهْلِ الْحَاجَاتِ تَجِبُ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ عِنَايَتِهِ بِأَهْلِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهَا فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ كَالْجِهَادِ وَالْوِلَايَةِ وَالْعِلْمِ : لَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ أَنْ يُقَدَّمَ أَهْلُ الْمَنْفَعَةِ الْعَامَّةِ . وَأَمَّا مَالُ الصَّدَقَاتِ فَيَأْخُذُهُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَأْخُذُ بِحَاجَتِهِ : كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ لِمَصْلَحَةِ أَنْفُسِهِمْ وَابْنِ السَّبِيلِ . وَقَوْمٌ يَأْخُذُونَ لِمَنْفَعَتِهِمْ : كَالْعَامِلِينَ وَالْغَارِمِينَ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ . كَمَنَ فِيهِ نَفْعٌ عَامٌّ : كَالْمُقَاتِلَةِ وَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ وَفِي سَبِيلِ

اللَّهِ . وَلَيْسَ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ أَحَقَّ مِنْ الْآخَرِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ هَذَا وَهَذَا . الثَّانِي : أَنَّ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْقَائِمَيْنِ بِالْمَصَالِحِ مِنْ الْجِهَادِ وَالْوِلَايَاتِ وَالْعِلْمِ مِنْ فَسَادِ النِّيَّةِ مُعَارَضٌ بِمَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْ الْفِسْقِ وَالزَّنْدَقَةِ . وَكَمَا أَنَّ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ صَالِحِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ فَفِي الْمُجَاهِدِينَ وَالْعُلَمَاءِ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ ؛ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانُوا . وَمَنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَالْعِلْمِ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ . فَإِنَّ سَادَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانُوا كَذَلِكَ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ الْيَوْمَ فِي زَمَانِنَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ وَالْعُلَمَاءِ إنَّمَا يَتَّخِذُونَ الْجِهَادَ وَالْقِتَالَ وَالِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ مَعِيشَةً دُنْيَوِيَّةً يُحَامُونَ بِهَا عَنْ الْجَاهِ وَالْمَالِ وَأَنَّهُمْ عُصَاةٌ بِقِتَالِهِمْ وَاشْتِغَالِهِمْ مَعَ انْضِمَامِ مَعَاصٍ وَمَصَائِبَ أُخْرَى لَا يَتَّسِعُ الْحَالُ لَهَا . وَالْمُجَاهِدُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَالْمُعَلِّمُ لِيَكُونَ التَّعَلُّمُ مَحْضَ التَّقَرُّبِ : قَلِيلُ الْوُجُودِ أَوْ مَفْقُودٌ . فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْإِخْلَاصَ وَاتِّبَاعَ السُّنَّةِ فِيمَنْ لَا يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّنْ يَأْكُلُ الْأَمْوَالَ بِذَلِكَ ؛ بَلْ وَالزَّنْدَقَةُ . . . نُعَارِضُهُ بِمَا هُوَ أَصْدَقُ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الرَّبْطِ وَالزَّوَايَا والمتظاهرين لِلنَّاسِ بِالْفَقْرِ إنَّمَا يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ مَعِيشَةً دُنْيَوِيَّةً هَذَا مَعَ انْضِمَامِ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَمَصَائِبَ لَا يَتَّسِعُ الْحَالُ لِقَوْلِهَا ؛ بِمِثْلِ دَعْوَى الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي

الْعِبَادِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ . وَكَذَلِكَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ بَارٌّ وَفَاجِرٌ وَصِدِّيقٌ وَزِنْدِيقٌ . وَالْوَاجِبُ مُوَالَاةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَبُغْضُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَالْفَاسِقُ الْمَلِيُّ يُعْطَى مِنْ الْمُوَالَاةِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَيُعْطَى مِنْ الْمُعَادَاةِ بِقَدْرِ فِسْقِهِ ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الْفَاسِقَ الْمَلِيَّ لَهُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ إذَا لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ . وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مِنْ الْفُسَّاقِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ . بَلْ يُخَلَّدُ فِيهَا الْمُنَافِقُونَ كَمَا يُخَلَّدُ فِيهَا الْمُتَظَاهِرُونَ بِالْكُفْرِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ : غَالِبُ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْجُنْدِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهِمْ مَحَاوِيجُ أَيْضًا ؛ بَلْ غَالِبُهُمْ لَيْسَ لَهُ رِزْقٌ إلَّا الْعَطَاءَ . وَمَنْ يَأْخُذُ لِلْمَنْفَعَةِ وَالْحَاجَةُ أَوْلَى مِمَّنْ يَأْخُذُ بِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يُقَالَ : الْعَطَاءُ إذَا كَانَ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُنْظَرْ إلَى الْآخِذِ هَلْ هُوَ صَالِحُ النِّيَّةِ أَوْ فَاسِدُهَا . وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ أَعْطَى ذَوِي الْحَاجَاتِ الْعَاجِزِينَ عَنْ الْقِتَالِ وَتَرَكَ إعْطَاءَ الْمُقَاتِلَةِ حَتَّى يُصْلِحُوا نِيَّاتِهِمْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ لَاسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْعَطَايَا

فِي الْقُلُوبِ مُتَعَذَّرٌ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ } وَقَالَ : { إنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا وَأَدَعُ رِجَالًا وَاَلَّذِينَ أَدَعُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الَّذِينَ أُعْطِي . أُعْطِي رِجَالًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ وَأَكِلُ رِجَالًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ } وَقَالَ : { إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ ؟ قَالَ يَأْبُونَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ } . وَلَمَّا كَانَ عَامَ حنين قَسَمَ غَنَائِمَ حنين بَيْنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ وَالطُّلَقَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ كعُيَيْنَة بْنِ حِصْنٍ وَالْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَأَمْثَالِهِمْ . وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَصَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةَ بْن أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَابْنِهِ مُعَاوِيَةَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الطُّلَقَاءِ الَّذِينَ أَطْلَقَهُمْ عَامَ الْفَتْحِ وَلَمْ يُعْطِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ شَيْئًا . أَعْطَاهُمْ لِيَتَأَلَّفَ بِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَتَأْلِيفُهُمْ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ . وَاَلَّذِينَ لَمْ يُعْطِهِمْ هُمْ أَفْضَلُ عِنْدِهِ وَهُمْ سَادَاتٌ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَأَفْضَلُ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ بَعْد النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَاَلَّذِينَ أَعْطَاهُمْ مِنْهُمْ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَعَامَّتُهُمْ أَغْنِيَاءُ لَا فُقَرَاءُ . فَلَوْ كَانَ الْعَطَاءُ لِلْحَاجَةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَطَاءِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لَمْ يُعْطِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَؤُلَاءِ الْأَغْنِيَاءَ السَّادَةَ الْمُطَاعِينَ فِي عَشَائِرِهِمْ وَيَدَعُ عَطَاءَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ ===

44. مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)

===الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ هُمْ أَحْوَجُ مِنْهُمْ وَأَفْضَلُ . وَبِمِثْلِ هَذَا طَعَنَ الْخَوَارِجُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { وَقَالَ لَهُ أَوَّلُهُمْ : يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ فَإِنَّك لَمْ تَعْدِلْ وَقَالَ : إنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى . حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيْحُك وَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ لَقَدْ خِبْت وَخَسِرْت إنْ لَمْ أَعْدِلْ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا . فَقَالَ : إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ . يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } . وَهَؤُلَاءِ خَرَجُوا عَلَى عَهْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَتَلَ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ جَمِيعَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ صَوْمِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ . فَأُخْرِجُوا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَهُمْ قَوْمٌ لَهُمْ عِبَادَةٌ وَوَرَعٌ وَزُهْدٌ ؛ لَكِنْ بِغَيْرِ عِلْمٍ . فَاقْتَضَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَطَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا لِذَوِي الْحَاجَاتِ وَأَنَّ إعْطَاءَ السَّادَةِ الْمُطَاعِينَ الْأَغْنِيَاءِ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهِ بِزَعْمِهِمْ . وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ ؛ فَإِنَّ الْعَطَاءَ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَصْلَحَةِ دِينِ اللَّهِ . فَكُلَّمَا كَانَ لِلَّهِ أَطْوَعَ وَلِدِينِ اللَّهِ أَنْفَعَ كَانَ الْعَطَاءُ فِيهِ أَوْلَى . وَعَطَاءٌ

مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فِي إقَامَةِ الدِّينِ وَقَمْعِ أَعْدَائِهِ وَإِظْهَارِهِ وَإِعْلَائِهِ أَعْظَمُ مِنْ إعْطَاءِ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَحْوَجَ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ أَنَّ هَذِهِ الْقُيُودَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ دُونَ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَمَا نَقَلَهُ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ . فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ بِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ فِي الْعَطَاءِ . وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً فَفِيهَا لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ يَجِبُ قَسْمُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ إلَّا أَنْ يَسْتَطِيبَ أَنْفُسُهُمْ فَيَقِفُهَا وَذُكِرَ فِي " الْأُمِّ " أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِوَقْفِهَا مِنْ غَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ نُقِضَ حُكْمُهُ ؛ لَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ؛ لَكِنَّ جُمْهُورَ الْأَئِمَّةِ خَالَفُوا الشَّافِعِيَّ فِي ذَلِكَ وَرَأَوْا أَنَّ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ جَعْلِ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً فَيْئًا حَسَنٌ جَائِزٌ وَأَنَّ عُمَرَ حَبَسَهَا بِدُونِ اسْتِطَابَةِ أَنْفُسِ الْغَانِمِينَ . وَلَا نِزَاعَ أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ فَتَحَهَا عُمَرُ بِالشَّامِ عَنْوَةً . وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا لَمْ يُقَسِّمْهَا عُمَرُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَإِنَّمَا قَسَمَ الْمَنْقُولَاتِ لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ - وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي - أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ . وَقَدْ صَنَّفَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ إمَامُ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ بِمَا نَازَعَ بِهِ الشَّافِعِيَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَكَلَّمَ عَلَى حُجَجِهِ . وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد كَالْقَوْلَيْنِ ؛ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي مَذْهَبِهِ هُوَ الْقَوْلُ

الثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ ؛ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ : وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ يَفْعَلُ فِيهَا مَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَسْمِهَا أَوْ حَبْسِهَا ؛ فَإِنْ رَأَى قَسْمَهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ فَعَلَ وَإِنْ رَأَى أَنْ يَدَعَهَا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ فَعَلَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ وَكَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ بِنِصْفِ خَيْبَرَ وَأَنَّهُ قَسَمَ نِصْفَهَا وَحَبَسَ نِصْفَهَا لِنَوَائِبِهِ وَأَنَّهُ فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ . فَعُلِمَ أَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ يَجُوزُ قَسَمُهَا وَيَجُوزُ تَرْكُ قَسْمِهَا . وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا كَبِيرًا . إذَا عُرِفَ ذَلِكَ : فَمِصْرُ هِيَ مِمَّا فُتِحَ عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْهَا عُمَرُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ : مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ؛ لَكِنْ تَنَقَّلَتْ أَحْوَالُهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا تَنَقَّلَتْ أَحْوَالُ الْعِرَاقِ . فَإِنَّ خُلَفَاءَ بَنِي الْعَبَّاسِ نَقَلُوهُ إلَى الْمُقَاسَمَةِ بَعْدَ الْمُخَارَجَةِ وَهَذَا جَائِزٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ مِصْرُ رُفِعَ عَنْهَا الْخَرَاجُ مِنْ مُدَّةٍ لَا أَعْلَمُ ابْتِدَاءَهَا وَصَارَتْ الرَّقَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا جَائِزٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا مَذْهَبُ عُمَرَ فِي الْفَيْءِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِيهِ حَقًّا ؛ لَكِنَّهُ يُقَدِّمُ الْفُقَرَاءَ وَأَهْلَ الْمَنْفَعَةِ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ إنَّمَا هُوَ الرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ وَالرَّجُلُ وَغِنَاؤُهُ

وَالرَّجُلُ وَسَابِقَتُهُ وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ . فَكَانَ يُقَدِّمُ فِي الْعَطَاءِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَكَانَتْ سِيرَتُهُ التَّفْضِيلَ فِي الْعَطَاءِ بِالْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ . وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَاءِ إذَا اسْتَوَوْا فِي الْحَاجَةِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ فِي دِينِهِ . وَقَالَ : إنَّمَا أَسْلَمُوا لِلَّهِ وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا بَلَاغٌ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : اسْتَوَى فِيهِمْ إيمَانُهُمْ - يَعْنِي أَنَّ حَاجَتَهُمْ إلَى الدُّنْيَا وَاحِدَةٌ - فَأُعْطِيهِمْ لِذَلِكَ ؛ لَا لِلسَّابِقَةِ وَالْفَضِيلَةِ فِي الدِّينِ ؛ فَإِنَّ أَجْرَهُمْ يَبْقَى عَلَى اللَّهِ . فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي الْحَاجَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَاءِ . وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ قَالَ : لَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأَجْعَلَنَّ النَّاسَ ببانا وَاحِدًا . أَيْ : ماية وَاحِدَةً . أَيْ : صِنْفًا وَاحِدًا . وَتَفْضِيلُهُ كَانَ بِالْأَسْبَابِ الْأَرْبِعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا : الرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ وَهُوَ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ . وَالرَّجُلُ وَغِنَاؤُهُ . وَهُوَ الَّذِي يُغْنِي عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مَصَالِحِهِمْ لِوُلَاةِ أُمُورِهِمْ وَمُعَلِّمِيهِمْ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ . وَالرَّجُلُ وَسَابِقَتُهُ . وَهُوَ مَنْ كَانَ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يُفَضِّلُهُمْ فِي الْعَطَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ . وَالرَّجُلُ وَفَاقَتُهُ . فَإِنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ الْفُقَرَاءَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَهَذَا ظَاهِرٌ ؛ فَإِنَّهُ مَعَ وُجُودِ الْمُحْتَاجِينَ كَيْفَ يُحْرِمُ بَعْضَهُمْ وَيُعْطِي لِغَنِيِّ لَا حَاجَةَ لَهُ وَلَا مَنْفَعَةَ بِهِ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا ضَاقَتْ أَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ عَنْ إعْطَاءِ كُلِّ الْمُسْلِمِينَ غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ . فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْغَنِيَّ الَّذِي

لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ عَامٌّ وَيَحْرِمُ الْفَقِيرَ الْمُحْتَاجَ بَلْ الْفَقِيرُ النَّافِعُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَعْطَى مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَكَانَتْ لِلْمُهَاجِرِينَ لِفَقِيرِهِمْ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا شَيْئًا لِغِنَاهُمْ ؛ إلَّا أَنَّهُ أَعْطَى بَعْضَ الْأَنْصَارِ لِفَقْرِهِ } . وَفِي السُّنَنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَتَاهُ مَالٌ أَعْطَى الْآهِلَ قِسْمَيْنِ وَالْعَزَبَ قَسَمًا } فَيُفَضِّلُ الْمُتَأَهِّلَ عَلَى الْمُتَعَزِّبِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ . وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَفْظُهُ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَتَاهُ الْفَيْءُ قَسَمَهُ مِنْ يَوْمِهِ فَأَعْطَى الْآهِلَ حَظَّيْنِ وَأَعْطَى الْعَزَبَ حَظًّا } . وَحَدِيثُ عُمَرَ رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد . وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ : ذَكَرَ عُمَرُ يَوْمًا الْفَيْءَ فَقَالَ : مَا أَنَا بِأَحَقَّ بِهَذَا الْفَيْءِ مِنْكُمْ وَمَا أَحَدٌ مِنَّا بِأَحَقَّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا أَنَا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ . الرَّجُلُ وَقَدَمُهُ وَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ وَالرَّجُلُ وَغِنَاؤُهُ وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ . وَلَفْظُ أَحْمَد قَالَ : كَانَ عُمَرُ يَحْلِفُ عَلَى أَيْمَانٍ ثَلَاثٍ : وَاَللَّهِ مَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ وَمَا أَنَا أَحَقَّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ ووالله مَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبٌ إلَّا عَبْدًا مَمْلُوكًا وَلَكِنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ . فَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالرَّجُلُ

وَقَدَمُهُ وَالرَّجُلُ وَغِنَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ . وَاَللَّهِ لَئِنْ بَقِيت لَهُمْ لأوتين الرَّاعِيَ بِجَبَلِ صَنْعَاءَ حَظُّهُ فِي هَذَا الْمَالِ وَهُوَ يَرْعَى مَكَانَهُ " . فَهَذَا كَلَامُ عُمَرَ الَّذِي يَذْكُرُ فِيهِ بِأَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ حَقًّا . يَذْكُرُ فِيهِ تَقْدِيمَ أَهْلِ الْحَاجَاتِ . وَلَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنَّ يُعْطِيَ الْأَغْنِيَاءَ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ لَهُمْ وَيُحْرِمُ الْفُقَرَاءَ ؛ فَإِنَّ هَذَا مُضَادٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } فَإِذَا جَعَلَ الْفَيْءَ مُتَدَاوَلًا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ فَهَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَأَمَّا نَقْلُ النَّاقِلِ مَذْهَبَ مَالِكٍ بِأَنَّ فِي " الْمُدَوَّنَةِ " وَجِزْيَةُ جَمَاجِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَخَرَاجُ الْأَرْضِينَ مَا كَانَ مِنْهَا عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا . فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ جِزْيَةٌ . وَالْجِزْيَةُ عِنْدَهُ فَيْءٌ . قَالَ : وَيُعْطَى هَذَا الْفَيْءُ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ افْتَتَحُوهَا عَنْوَةً أَوْ صَالَحُوا عَلَيْهَا فَيُقْسِمُ عَلَيْهِمْ وَيُفَضِّلُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ مِنْ الْفَيْءِ وَيَبْدَأُ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ حَتَّى يَغْنَوْا مِنْهُ وَلَا يَخْرُجَ إلَى غَيْرِهِمْ إلَّا أَنْ يَنْزِلَ بِقَوْمِ حَاجَةٌ فَيُنْقَلُ إلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَ أَهْلَهُ مِنْهُ مَا يُغْنِيهِمْ ؛ عَنْ الِاحْتِيَاجِ . وَقَالَ أَيْضًا : قَالَ مَالِكٌ : وَأَمَّا جِزْيَةُ الْأَرْضِ فَمَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ يُصْنَعُ فِيهَا إلَّا أَنَّ عُمَرَ قَدْ أَقَرَّ الْأَرْضَ فَلَمْ يَقْسِمْهَا بَيْنَ الَّذِينَ افْتَتَحُوهَا . وَأَرَى لِمَنْ يَنْزِلُ ذَلِكَ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ

مَنْ يَرْضَاهُ فَإِنْ وُجِدَ عَالِمًا يَسْتَفْتِيهِ وَإِلَّا اجْتَهَدَ هُوَ وَمَنْ بِحَضْرَتِهِ رَأْسًا . وَأَمَّا إحْيَاءُ الْمَوَاتِ فَجَائِزٌ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ الْعُمْرَانِ بِحَيْثُ لَا تُبَاحُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى إذْنِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا قَرُبَ مِنْ الْعُمْرَانِ وَيُبَاحُ النَّاسُ فِيهِ افْتَقَرَ إلَى إذْنِهِ . لَكِنْ إنْ كَانَ الْإِحْيَاءُ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ . فَهَلْ يُمَلَّكُ بِالْأَحْيَاءِ وَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ أَوْ يَكُونُ بِيَدِهِ وَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَأَمَّا مَنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ فَإِنَّهُ تُرْزَقُ امْرَأَتُهُ وَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ . وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَغَيْرِهِمَا فَيُنْفَقُ عَلَى امْرَأَتِهِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَعَلَى ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَعَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَبْلُغَ . ثُمَّ يُجْعَلُ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ إنْ كَانَ يَصْلُحُ لِلْقِتَالِ ؛ وَإِلَّا إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَاَلَّذِينَ يُعْطُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ وَفَاضِلُ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ : أُعْطِيَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا .

وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
إذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مُسْتَقِيمًا أَمْرُهُ ؛ بِحَيْثُ لَا يُوضَعُ مَالُهُ إلَّا فِي حَقِّهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ . فَمَنْ صَرَّفَ بَعْضَ أَعْيَانِهِ أَوْ مَنَافِعِهِ فِي جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي هِيَ مَصَارِفُ بَيْتِ الْمَالِ ؛ كَعِمَارَةِ طَرِيقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَقَدْ تَعَدَّى بِذَلِكَ ؛ إذْ وِلَايَتُهُ إلَى الْإِمَامِ ثُمَّ الْإِمَامُ يَفْعَلُ الْأَصْلَحَ فَإِنْ كَانَ نَقْضُ ذَلِكَ أَصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ نَقَضَ التَّصَرُّفَ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ إقْرَارَهُ أَقَرَّهُ . وَكَذَلِكَ إنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْوَقْفِ وَالْيَتِيمِ بِغَيْرِ إذْنِ النَّاظِرِ تَصَرُّفًا مِنْ جِنْسِ التَّصَرُّفِ الْمَشْرُوعِ كَأَنْ يُعَمِّرَ بِأَعْيَانِ مَالِهِ حَانُوتًا أَوْ دَارًا فِي عَرْصَةِ الْوَقْفِ أَوْ الْيَتِيمِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ أَمَرَ بَيْتَ الْمَالِ مُضْطَرِبًا . فَقَالَ الْفُقَهَاءُ : مَنْ صَرَّفَ بَعْضَ أَعْيَانِهِ أَوْ مَنَافِعِهِ فِي جِهَةِ بَعْضِ الْمَصَالِحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ ؛ بَلْ كَانَ التَّصَرُّفُ وَاقِعًا عَلَى جِهَةِ الْمَصْلَحَةِ . فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ نَقْضُ التَّصَرُّفِ وَلَا تَضْمِينُ الْمُتَصَرِّفِ ؛ مَعَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ مَعْصِيَةُ الْإِمَامِ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا ؛ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ . وَحُكْمُهُ أَوْ قَسْمُهُ إذَا وَافَقَ الْحَقَّ نَافِذٌ : بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا . وَأَمَّا إذَا تَصَرَّفَ

الرَّجُلُ تَصَرُّفًا يُتَّهَمُ فِيهِ . مِثْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمَالَ لِنَفْسِهِ مُتَأَوِّلًا : إنَّ لِي حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَإِنِّي لَا أُعْطِي حَقِّي . فَهَذَا . . . (1) .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَقْوَامٍ لَهُمْ أَمْلَاكُ إرْثٍ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ وَهِيَ لِلسُّلْطَانِ مُقَاسَمَةُ الثُّلُثِ ثُلُثِ الْمُغَلِّ . وَأَنَّ شَخْصًا ضَامِنًا اشْتَرَى مَا يَخُصُّ السُّلْطَانَ مِنْ الثُّلُث وَأَخَذَ الْمِلْكَ الَّذِي لَهُمْ جَمِيعُهُ بِالْيَدِ الْقَوِيَّةِ . فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟.
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْزِعَ أَمْلَاكَ النَّاسِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ بِمَا ذُكِرَ . وَلَا يَجُوزُ رَفْعُ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ الثَّابِتَةِ عَلَى حُقُوقِهِمْ بِمَا ذُكِرَ ؛ إذْ الْأَرْضُ الخراجية كَالسَّوَادِ وَغَيْرِهِ نُقِلَتْ مِنْ الْمُخَارَجَةِ إلَى الْمُقَاسَمَةِ كَمَا فَعَلَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ وَأُقِرَّتْ بِيَدِ أَهْلِهَا . وَهِيَ تَنْتَقِلُ عَنْ أَهْلِهَا إلَى ذُرِّيَّتِهِمْ وَغَيْرِ ذُرِّيَّتِهِمْ بِالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ إذْ حُكْمُهَا بِيَدِ الْمُشْتَرِي كَحُكْمِهَا بِيَدِ الْبَائِعِ وَلَيْسَ هَذَا تَبَعًا لِلْوَقْفِ الَّذِي لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ كَمَا غَلِطَ فِي ذَلِكَ مَنْ مَنَعَ بَيْعَ أَرْضِ السَّوَادِ مُعْتَقِدًا أَنَّهَا كَالْوَقْفِ الَّذِي لَا يَجُوزُ

بَيْعُهُ مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُورَثَ وَيُوهَبَ ؛ إذْ لَا خِلَافَ فِي هَذَا . بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعَ مَا لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِينَ . وَمَا لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَرَاجِ . وَقِيلَ : لِاتِّبَاعِ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَسُئِلَ :
إذَا دَخَلَ التَّتَارُ الشَّامَ وَنَهَبُوا أَمْوَالَ النَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ ثُمَّ نَهَبَ الْمُسْلِمُونَ التَّتَارَ وَسَلَبُوا الْقَتْلَى مِنْهُمْ . فَهَلْ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَسَلَبِهِمْ حَلَالٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ التَّتَارِ يُخَمَّسُ وَيُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ فَقِيرٌ مُلَازِمٍ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ غَرِيبٍ . فَهَلْ إذَا حَصَلَ لَهُ مِنْ السُّلْطَانِ رَاتِبٌ يَتَقَوَّتُ بِهِ وَيَسْتَغْنِي عَنْ السُّؤَالِ يَكُونُ مَأْثُومًا ؟ وَهَلْ يَحْصُلُ لَهُ الْمُسَامَحَةُ ؟ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : نَعَمْ ، إذَا أَعْطَى وَلِيُّ الْأَمْرِ لِمِثْلِ هَذَا مَا يَكْفِيهِ مِنْ أَمْوَالِ

بَيْتِ الْمَالِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا . وَمَالُ الدِّيوَانِ الْإِسْلَامِيِّ لَيْسَ كُلُّهُ وَلَا أَكْثَرُهُ حَرَامًا . حَتَّى يُقَالَ فِيهِ ذَلِكَ . بَلْ فِيهِ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ وَالْفَيْءِ وَأَمْوَالِ الْمَصَالِحِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ وَفِيهِ مَا هُوَ حَرَامٌ أَوْ شُبْهَةٌ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي أَعْطَاهُ مِنْ الْحَرَامِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخَذَ ذَلِكَ وَإِنْ جَهِلَ الْحَالَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَعْطَاهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ إقْطَاعًا وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْمُكَوَّسِ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهَا أَوْ يَقْطَعُهَا لِأَجْنَادِهِ أَوْ يَصْرِفُهَا فِي عَلَفِ خُيُولِهِ وجامكية الْغِلْمَانِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْجِهَاتِ فَلَا يَخْلُو عَنْ شُبْهَةٍ وَلَيْسَ كُلُّهُ حَرَامًا مَحْضًا ؛ بَلْ فِيهِ مَا هُوَ حَرَامٌ وَفِيهِ مَا يُؤْخَذُ بِحَقِّ وَبَعْضُهُ أَخَفُّ مِنْ بَعْضٍ . فَمَا عَلَى السَّاحِلِ وَإِقْطَاعِهِ أَخَفُّ مِمَّا عَلَى بَيْعِ الْعَقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ السِّلَعِ وَمِمَّا عَلَى سُوقِ الْغَزْلِ وَنَحْوِهِ . فَإِنَّ هَذَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَإِنَّهُ ظُلْمٌ بَيِّنٌ . وَكَذَلِكَ ضَمَانُ الْإِفْرَاجِ فَإِنَّهُ قَدْ يُؤْخَذُ إمَّا مِنْ الْفَوَاحِشِ الْمُحَرَّمَةِ وَإِمَّا مِنْ الْمُنَاكِحِ الْمُبَاحَةِ فَهَذَا ظُلْمٌ وَذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى الْفَوَاحِشِ الَّتِي

تُسَمَّى " مَغَانِيَ الْعَرَبِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ هَذَا فِيهِ ضَمَانُ الْحَانَةِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ . فَهَذَا أَقْبَحُ مَا يَكُونُ بِخِلَافِ سَاحِلِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ قَدْ يُظْلَمُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . لَكِنَّ أَهْلَ الْإِقْطَاعَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّذِينَ أَقْطَعُوا أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ إذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا بَعْضُ الزِّيَادَةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا ظُلْمًا وَإِقْطَاعُهُ أَصْلُهَا زَكَاةٌ لَكِنْ زِيدَ فِيهَا ظُلْمٌ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ كَانَ فِي إقْطَاعِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَجْعَلْ الْحَلَالَ الطَّيِّبَ لِأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ ثُمَّ الَّذِي لِلنَّاسِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ يَجْعَلُ لِعَلَفِ الْجِمَالِ وَيَكُونُ عَلَفُ الْخَيْلِ أَطْيَبَ مِنْهَا فَإِنَّهَا أَشْرَفُ وَيُعْطِي الَّذِي يَلِيهِ لِلدَّبَادِبِ وَالْبُوقَاتِ والبازيات وَنَحْوِهِمْ . فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَعَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَمَا لَمْ يُمْكِنْ إزَالَتُهُ مِنْ الشَّرِّ يُخَفَّفُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ الرُّسُلَ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجْهَلُ مُسْتَحِقُّهَا مُطْلَقًا أَوْ مُبْهَمًا .
الْجَوَابُ
فَإِنَّ هَذِهِ عَامَّةُ النَّفْعِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَحْصُلُ فِي أَيْدِيهِمْ أَمْوَالٌ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ لِحَقِّ الْغَيْرِ ؛ إمَّا لِكَوْنِهَا قُبِضَتْ ظُلْمًا كَالْغَصْبِ وَأَنْوَاعِهِ مِنْ الْجِنَايَاتِ وَالسَّرِقَةِ وَالْغُلُولِ . وَإِمَّا لِكَوْنِهَا قُبِضَتْ بِعَقْدِ فَاسِدٍ مِنْ رِبًا أَوْ مَيْسِرٍ وَلَا يُعْلَمُ عَيْنُ الْمُسْتَحِقِّ لَهَا . وَقَدْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ أَحَدُ رَجُلَيْنِ وَلَا يُعْلَمُ عَيْنُهُ ؛ كَالْمِيرَاثِ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ لِإِحْدَى الزَّوْجَيْنِ الْبَاقِيَةِ دُونَ الْمُطَلَّقَةِ وَالْعَيْنُ الَّتِي يَتَدَاعَاهَا اثْنَانِ فَيُقَرِّبُهَا ذُو الْيَدِ لِأَحَدِهِمَا . فَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَعَامَّةِ السَّلَفِ إعْطَاءُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ لِأَوْلَى النَّاسِ بِهَا . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُحْفَظُ مُطْلَقًا وَلَا تُنْفَقُ بِحَالِ فَيَقُولُ فِيمَا جَهِلَ مَالِكُهُ مِنْ الغصوب وَالْعَوَارِيِّ وَالْوَدَائِعِ : إنَّهَا تُحْفَظُ حَتَّى يَظْهَرَ أَصْحَابُهَا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ . وَيَقُولُ فِي الْعَيْنِ الَّتِي عُرِفَتْ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ : يُوقِفُ الْأَمْرَ حَتَّى يَصْطَلِحَا . وَمَذْهَبُ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا جَهِلَ مَالِكُهُ أَنَّهُ يُصْرَفُ عَنْ أَصْحَابِهِ فِي الْمَصَالِحِ :

كَالصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَفِيمَا اسْتَبْهَمَ مَالِكُهُ الْقَرْعَةُ عِنْدَ أَحْمَد وَالْقِسْمَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَلْفٌ مِنْ الْمَسَائِلِ النَّافِعَةِ الْوَاقِعَةِ . وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَمَّا فَرَضَهُ أَبُو الْمَعَالِي فِي كِتَابِهِ " الغياثي " وَتَبِعَهُ مَنْ تَبِعَهُ : إذَا طَبَقَ الْحَرَامُ الْأَرْضَ وَلَمْ يَبْقَ سَبِيلٌ إلَى الْحَلَالِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِلنَّاسِ قَدْرُ الْحَاجَةِ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْحَاجَةُ أَوْسَعُ مِنْ الضَّرُورَةِ . وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ يُتَصَوَّرُ إذَا اسْتَوْلَتْ الظَّلَمَةُ مِنْ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَمْوَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَبَثَّتْهَا فِي النَّاسِ وَإِنَّ زَمَانَهُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ فَكَيْفَ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَزْمَانِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فَرْضٌ مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ ؛ لِمَا ذَكَرْته مِنْ هَذِهِ " الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ " : فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ قِسْمَانِ : مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ كَالنَّجَاسَاتِ : مِنْ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ . وَمُحَرَّمٌ لِحَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ مَا جِنْسُهُ مُبَاحٌ : مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ وَالنُّقُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَتَحْرِيمُ هَذِهِ جَمِيعِهَا يَعُودُ إلَى الظُّلْمِ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَحْرُمُ لِسَبَبَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا قَبْضُهَا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِ صَاحِبِهَا وَلَا إذْنِ الشَّارِعِ . وَهَذَا هُوَ الظُّلْمُ الْمَحْضُ ؛ كَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْغَصْبِ الظَّاهِرِ . وَهَذَا أَشْهَرُ الْأَنْوَاعِ بِالتَّحْرِيمِ .

وَالثَّانِي قَبْضُهَا بِغَيْرِ إذْنِ الشَّارِعِ وَإِنْ أَذِنَ صَاحِبُهَا وَهِيَ الْعُقُودُ والقبوض الْمُحَرَّمَةُ كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ حَصَلَتْ بِيَدِهِ رَدُّهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللُّقَطَةِ : { فَإِنْ وَجَدْت صَاحِبَهَا فَارْدُدْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللُّقَطَةَ الَّتِي عَرَفَ أَنَّهَا مِلْكٌ لِمَعْصُومِ وَقَدْ خَرَجَتْ عَنْهُ بِلَا رِضَاهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ فَقَدْ آتَاهَا اللَّهُ لِمَنْ سَلَّطَهُ عَلَيْهَا بِالِالْتِقَاطِ الشَّرْعِيِّ . وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ مَعْلُومٌ فَمَالُهُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي غَالِبِ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عُصْبَةٌ بَعِيدٌ ؛ لَكِنْ جُهِلَتْ عَيْنُهُ وَلَمْ تُرْجَ مَعْرِفَتُهُ . فَجُعِلَ كَالْمَعْدُومِ . وَهَذَا ظَاهِرٌ وَلَا دَلِيلَانِ قِيَاسِيَّانِ قَطْعِيَّانِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . فَإِنَّ مَا لَا يُعْلَمُ بِحَالِ أَوَّلًا يُقَدَّرُ عَلَيْهِ بِحَالِ هُوَ فِي حَقِّنَا بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ فَلَا نُكَلَّفُ إلَّا بِمَا نَعْلَمُهُ وَنَقْدِرُ عَلَيْهِ . وَكَمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَقِّنَا بَيْنَ فِعْلٍ لَمْ نُؤْمَرْ بِهِ وَبَيْنَ فِعْلٍ أُمِرْنَا بِهِ جُمْلَةً عِنْدِ فَوْتِ الْعِلْمِ أَوْ الْقُدْرَةِ - كَمَا فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ وَالْعَاجِزِ - كَذَلِكَ لَا فَرْقَ فِي حَقِّنَا بَيْنَ مَالٍ لَا مَالِكَ لَهُ أُمِرْنَا بِإِيصَالِهِ إلَيْهِ وَبَيْنَ مَا أُمِرْنَا بِإِيصَالِهِ إلَى مَالِكِهِ جُمْلَةً ؛ إذَا فَاتَ الْعِلْمُ بِهِ أَوْ الْقُدْرَةُ

عَلَيْهِ . وَالْأَمْوَالُ كَالْأَعْمَالِ سَوَاءٌ . وَهَذَا النَّوْعُ إنَّمَا حُرِّمَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ فَإِذَا كَانَ الْغَيْرُ مَعْدُومًا أَوْ مَجْهُولًا بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ مَعْجُوزًا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ سَقَطَ حَقُّ تَعَلُّقِهِ بِهِ مُطْلَقًا كَمَا يَسْقُطُ تَعَلُّقُ حَقِّهِ بِهِ إذَا رُجِيَ الْعِلْمُ بِهِ أَوْ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ إلَى حِينِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا فِي اللُّقَطَةِ سَوَاءٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } فَإِنَّهُ لَوْ عَدِمَ الْمَالِكَ انْتَقَلَ الْمِلْكُ عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ إذَا عَدِمَ الْعِلْمَ بِهِ إعْدَامًا مُسْتَقِرًّا وَإِذَا عَجَزَ عَنْ الْإِيصَالِ إلَيْهِ إعْجَازًا مُسْتَقِرًّا . فَالْإِعْدَامُ ظَاهِرُ وَالْإِعْجَازِ مِثْلُ الْأَمْوَالِ الَّتِي قَبَضَهَا الْمُلُوكُ - كَالْمُكُوسِ وَغَيْرِهَا - مِنْ أَصْحَابِهَا وَقَدْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُنَا إعَادَتُهَا إلَى أَصْحَابِهَا فَإِنْفَاقُهَا فِي مَصَالِحِ أَصْحَابِهَا مِنْ الْجِهَادِ عَنْهُمْ أَوْلَى مِنْ إبْقَائِهَا بِأَيْدِي الظَّلَمَةِ يَأْكُلُونَهَا وَإِذَا أُنْفِقَتْ كَانَتْ لِمَنْ يَأْخُذُهَا بِالْحَقِّ مُبَاحَةً كَمَا أَنَّهَا عَلَى مَنْ يَأْكُلُهَا بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمَةٌ . وَالدَّلِيلُ الثَّانِي " الْقِيَاسُ " - مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ - أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تُحْبَسَ وَإِمَّا أَنْ تُتْلَفَ وَإِمَّا أَنْ تُنْفَقَ . فَأَمَّا إتْلَافُهَا فَإِفْسَادٌ لَهَا { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وَهُوَ إضَاعَةٌ لَهَا

وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ تَجْوِيزُ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ : تَارَةً بِالْأَخْذِ . وَتَارَةً بِالْإِتْلَافِ كَمَا يَقُولُهُ أَحْمَد فِي مَتَاعِ الْغَالِّ وَكَمَا يَقُولُهُ أَحْمَد وَمَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَوْعِيَةِ الْخَمْرِ وَمَحَلِّ الْخَمَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ بِإِتْلَافِ بَعْضِ الْأَمْوَالِ أَحْيَانًا كَالْعُقُوبَةِ بِإِتْلَافِ بَعْضِ النُّفُوسِ أَحْيَانًا . وَهَذَا يَجُوزُ إذَا كَانَ فِيهِ مِنْ التَّنْكِيلِ عَلَى الْجَرِيمَةِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ مَا شُرِعَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي إتْلَافِ النَّفْسِ وَالطَّرْفِ وَكَمَا أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ يَحْرُمُ إلَّا بِنَفْسِ أَوْ فَسَادٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ } وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } فَكَذَلِكَ إتْلَافُ الْمَالِ إنَّمَا يُبَاحُ قِصَاصًا أَوْ لِإِفْسَادِ مَالِكِهِ كَمَا أَبَحْنَا مِنْ إتْلَافِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ الَّذِي لِأَهْلِ الْحَرْبِ مِثْلَ مَا يَفْعَلُونَ بِنَا بِغَيْرِ خِلَافٍ . وَجَوَّزْنَا لِإِفْسَادِ مَالِكِهِ مَا جَوَّزْنَا . وَلِهَذَا لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ قَالَ : إنَّ الْأَمْوَالَ الْمُحْتَرَمَةَ الْمَجْهُولَةَ الْمَالِكُ تُتْلَفُ وَإِنَّمَا يُحْكَى ذَلِكَ عَنْ بَعْضٍ الغالطين مِنْ الْمُتَوَرِّعَةِ : أَنَّهُ أَلْقَى شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فِي الْبَحْرِ أَوْ أَنَّهُ تَرَكَهُ فِي الْبَرِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَؤُلَاءِ تَجِدُ مِنْهُمْ حُسْنَ الْقَصْدِ وَصِدْقَ الْوَرَعِ ؛ لَا صَوَابَ الْعَمَلِ . وَإِمَّا حَبْسُهَا دَائِمًا أَبَدًا إلَى غَيْرِ غَايَةٍ مُنْتَظَرَةٍ ؛ بَلْ مَعَ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا

يُرْجَى مَعْرِفَةُ صَاحِبِهَا وَلَا الْقُدْرَةُ عَلَى إيصَالِهَا إلَيْهِ فَهَذَا مِثْلُ إتْلَافِهَا ؛ فَإِنَّ الْإِتْلَافَ إنَّمَا حَرُمَ لِتَعْطِيلِهَا عَنْ انْتِفَاعِ الْآدَمِيِّينَ بِهَا وَهَذَا تَعْطِيلٌ أَيْضًا ؛ بَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلنُّفُوسِ بِإِبْقَاءِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ انْتِفَاعٍ بِهِ .
الثَّانِي أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ الظَّلَمَةِ بَعْدَ هَذَا إذَا لَمْ يُنْفِقْهَا أَهْلُ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ فَيَكُونُ حَبْسُهَا إعَانَةً لِلظَّلَمَةِ وَتَسْلِيمًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَى الظَّلَمَةِ ؛ فَيَكُونُ قَدْ مَنَعَهَا أَهْلَ الْحَقِّ وَأَعْطَاهَا أَهْلَ الْبَاطِلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ فِي هَذَا ؛ فَإِنَّ مَنْ وَضَعَ إنْسَانًا بِمَسْبَعَةِ فَقَدْ قَتَلَهُ وَمَنْ أَلْقَى اللَّحْمَ بَيْنَ السِّبَاعِ فَقَدْ أَكَلَهُ وَمَنْ حَبَسَ الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ لِمَنْ يَسْتَوْلِي عَلَيْهَا مِنْ الظَّلَمَةِ فَقَدْ أَعْطَاهُمُوهَا . فَإِذَا كَانَ إتْلَافُهَا حَرَامًا وَحَبْسُهَا أَشَدَّ مِنْ إتْلَافِهَا تَعَيَّنَ إنْفَاقُهَا وَلَيْسَ لَهَا مَصْرِفٌ مُعَيَّنٌ فَتُصْرَفُ فِي جَمِيعِ جِهَاتِ الْبِرِّ وَالْقُرْبِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَخَلَقَ لَهُمْ الْأَمْوَالَ لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى عِبَادَتِهِ فَتُصْرَفُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ حَقٌّ فِي بَيْتِ الْمَالِ إمَّا لِمَنْفَعَةِ فِي الْجِهَادِ أَوْ لِوِلَايَتِهِ فَأُحِيلَ بِبَعْضِ حَقِّهِ عَلَى بَعْضِ الْمَظَالِمِ .
فَأَجَابَ :
لَا تَسْتَخْرِجْ أَنْتَ هَذَا وَلَا تُعِنْ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ لَكِنْ اُطْلُبْ حَقَّك مِنْ الْمَالِ الْمُحَصَّلِ عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّ مَا اجْتَمَعَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَمْ يُرَدَّ إلَى أَصْحَابِهِ فَصَرَفَهُ فِي مَصَالِحِ أَصْحَابِهِ وَالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ أَصْحَابَهُ أَوْ فِيمَا يَضُرُّهُ - وَقَدْ كَتَبْت نَظِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ - وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَلَطًا فَلَا يَبْقَى مَحْكُومًا بِتَحْرِيمِهِ بِعَيْنِهِ مَعَ كَوْنِ الصَّرْفِ إلَى مِثْلِ هَذَا وَاجِبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّ الْوُلَاةَ يَظْلِمُونَ تَارَةً فِي اسْتِخْرَاجِ الْأَمْوَالِ وَتَارَةً فِي صَرْفِهَا فَلَا تَحِلُّ إعَانَتُهُمْ عَلَى الظُّلْمِ فِي الِاسْتِخْرَاجِ وَلَا أَخْذُ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ . وَأَمَّا مَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ الِاسْتِخْرَاجِ وَالصَّرْفِ فَلِمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ . وَأَمَّا مَا لَا يَسُوغُ فِيهِ اجْتِهَادٌ مِنْ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ فَلَا يُعَاوَنُونَ

لَكِنْ إذَا كَانَ الْمَصْرُوفُ إلَيْهِ مُسْتَحِقًّا بِمِقْدَارِ الْمَأْخُوذِ جَازَ أَخْذُهُ مِنْ كُلِّ مَالٍ يَجُوزُ صَرْفُهُ كَالْمَالِ الْمَجْهُولِ مَالِكُهُ إذَا وَجَبَ صَرْفُهُ . فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ إعَادَتِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ فَهَلْ الْأَوْلَى إقْرَارُهُ بِأَيْدِي الظَّلَمَةِ أَوْ السَّعْيُ فِي صَرْفِهِ فِي مَصَالِحِ أَصْحَابِهِ وَالْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ السَّاعِي فِي ذَلِكَ مِمَّنْ يَكْرَهُ أَصْلَ أَخْذِهِ وَلَمْ يُعِنْ عَلَى أَخْذِهِ بَلْ سَعَى فِي مَنْعِ أَخْذِهِ ؟ فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ حَسَنَةٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا وَإِلَّا دَخَلَ الْإِنْسَانُ فِي فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ فِي تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ . فَإِنَّ الْإِعَانَةَ عَلَى الظُّلْمِ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ . وَإِذَا لَمْ تُمْكِنُ الْوَاجِبَاتُ إلَّا بِالصَّرْفِ الْمَذْكُورِ كَانَ تَرْكُهُ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ . وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا إقْرَارُهُ بِيَدِ الظَّالِمِ أَوْ صَرْفُهُ فِي الْمَصَالِحِ كَانَ النَّهْيُ عَنْ صَرْفِهِ فِي الْمَصَالِحِ إعَانَةً عَلَى زِيَادَةِ الظُّلْمِ الَّتِي هِيَ إقْرَارُهُ بِيَدِ الظَّالِمِ . فَكَمَا يَجِبُ إزَالَةُ الظُّلْمِ يَجِبُ تَقْلِيلُهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ إزَالَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ . فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الشُّبُهَاتِ يَنْبَغِي صَرْفُهَا فِي الْأَبْعَدِ عَنْ الْمَنْفَعَةِ فَالْأَبْعَدُ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ بِأَنْ يُطْعِمَهُ الرَّقِيقَ وَالنَّاضِحَ فَالْأَقْرَبُ مَا دَخَلَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَنَحْوِهِ ثُمَّ مَا وَلَّى الظَّاهِرَ مِنْ اللِّبَاسِ ثُمَّ مَا سُتِرَ مَعَ الِانْفِصَالِ مِنْ الْبِنَاءِ ثُمَّ مَا عُرِضَ مِنْ الرُّكُوبِ وَنَحْوِهِ . فَهَكَذَا تَرْتِيبُ الِانْتِفَاعِ بِالرِّزْقِ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُنَا يَفْعَلُونَ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَهْدَى إلَى مَلِكٍ عَبْدًا ثُمَّ إنَّ الْمُهْدَى إلَيْهِ مَاتَ وَوَلِيَ مَكَانَهُ مَلِكٌ آخَرُ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ عِتْقُ ذَلِكَ .
فَأَجَابَ :
الْأَرِقَّاءُ الَّذِينَ يُشْتَرَوْنَ بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ كَالْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ الَّذِي يُشْتَرَى بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يُهْدَى لِمُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ . مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِمْ الْمَلِكُ الثَّانِي بِعِتْقِ أَوْ إعْطَاءٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْأَوَّلِ لَهُ . وَهَلْ بِالْإِعْتَاقِ وَالْإِعْطَاءِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الثَّانِي كَمَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْأَوَّلِ ؟ نَعَمْ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ سُبِيَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ دُونَ الْبُلُوغِ وَاشْتَرَاهُ النَّصَارَى وَكَبُرَ الصَّبِيُّ وَتَزَوَّجَ وَجَاءَهُ أَوْلَادٌ نَصَارَى وَمَاتَ هُوَ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ أُسِرَ دُونَ الْبُلُوغِ لَكِنَّهُمْ مَا عَلِمُوا مَنْ سَبَاهُ هَلْ السَّابِي لَهُ كِتَابِيٌّ أَمْ مُسْلِمٌ . فَهَلْ يُلْحَقُ أَوْلَادُهُ بِالْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا ؟

فَأَجَابَ : أَمَّا إنْ كَانَ السَّابِي لَهُ مُسْلِمًا حُكِمَ بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ وَإِذَا كَانَ السَّابِي لَهُ كَافِرًا أَوْ لَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ بِأَحَدِهِمَا لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ وَأَوْلَادِهِ تَبَعٌ لَهُ فِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مِنْ أَحْمَد ابْنِ تَيْمِيَّة إلَى سرجوان عَظِيمِ أَهْلِ مِلَّتِهِ وَمَنْ تَحُوطُ بِهِ عِنَايَتُهُ مِنْ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَعُظَمَاءِ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْكُتَّابِ وَأَتْبَاعِهِمْ . سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى . أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إلَهَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ . وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى عِبَادِهِ الْمُصْطَفِينَ وَأَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ . وَيَخُصُّ بِصَلَاتِهِ وَسَلَامِهِ أُولِي الْعَزْمِ الَّذِينَ هُمْ سَادَةُ الْخَلْقِ وَقَادَةُ الْأُمَمِ . الَّذِينَ خُصُّوا بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ وَهُمْ : نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ . كَمَا سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ

الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } { لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا } وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَخُصَّ بِشَرَائِفِ صَلَاتِهِ وَسَلَامِهِ خَاتَمَ الْمُرْسَلِينَ وَخَطِيبَهُمْ إذَا وَفَدُوا عَلَى رَبِّهِمْ وَإِمَامَهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا شَفِيعَ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيَّ الْمَلْحَمَةِ الْجَامِعَ مَحَاسِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ الَّتِي أَلْقَاهَا إلَى الصِّدِّيقَةِ الطَّاهِرَةِ الْبَتُولِ الَّتِي لَمْ يَمَسَّهَا بَشَرٌ قَطُّ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ " ذَلِكَ مَسِيحُ الْهُدَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الْوَجِيهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْمُقَرَّبُ عِنْدَ اللَّهِ الْمَنْعُوتُ بِنُعُوتِ الْجَمَالِ وَالرَّحْمَةِ لَمَّا أَنْجَرَ بَنُو إسْرَائِيلَ فِيمَا بَعَثَ بِهِ مُوسَى مِنْ نَعْتِ الْجَلَالِ وَالشِّدَّةِ - وَبَعَثَ الْخَاتَمَ الْجَامِعَ بِنَعْتِ الْكَمَالِ ؛ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الشِّدَّةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالرَّحْمَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ . وَالْمُحْتَوِيَ عَلَى مَحَاسِنِ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ . وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ وَأَظْهَرَ فِيهِمْ آثَارَ مَشِيئَتِهِ

وَحِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَجَعَلَ الْمَقْصُودَ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ هُوَ عِبَادَتُهُ . وَأَصْلُ ذَلِكَ هُوَ مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ . فَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ آتَاهُ رَحْمَةً وَعِلْمًا وَمَعْرِفَةً بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَرَزَقَهُ الْإِنَابَةَ إلَيْهِ وَالْوَجَلَ لِذِكْرِهِ وَالْخُشُوعَ لَهُ وَالتَّأَلُّهَ لَهُ : فَحَنَّ إلَيْهِ حَنِينَ النُّسُورِ إلَى أَوْكَارِهَا . وَكُلِّفَ بِحُبِّهِ تَكَلُّفَ الصَّبِيِّ بِأُمِّهِ لَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً وَمَحَبَّةً وَأَخْلَصَ دِينَهُ لِمَنْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ لَهُ رَبِّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ . مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ . خَالِقِ مَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الَّذِي أَمَرَهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ . لَمْ يَتَّخِذْ مَنْ دُونِهِ أَنْدَادًا كَاَلَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَمْ يُشْرِكْ بِرَبِّهِ أَحَدًا وَلَمْ يَتَّخِذْ مِنْ دُونِهِ وَلِيًّا وَلَا شَفِيعًا ؛ لَا مَلِكًا وَلَا نَبِيًّا وَلَا صَدِيقًا ؛ فَإِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا . فَهُنَالِكَ اجْتَبَاهُ مَوْلَاهُ وَاصْطَفَاهُ وَآتَاهُ رُشْدَهُ . وَهَدَاهُ لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ؛ فَإِنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بَعْدَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَبْلَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَبُوهُمْ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى ابْتَدَعُوا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ - بِدْعَةً مِنْ تِلْقَاءِ

أَنْفُسِهِمْ - لَمْ يَنْزِلْ اللَّهُ بِهَا كِتَابًا وَلَا أَرْسَلَ بِهَا رَسُولًا ؛ بِشُبُهَاتٍ زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ مِنْ جِهَةِ الْمَقَايِيسِ الْفَاسِدَةِ . وَالْفَلْسَفَةِ الْحَائِدَةِ . قَوْمٌ مِنْهُمْ زَعَمُوا أَنَّ التَّمَاثِيلَ طَلَاسِمُ الْكَوَاكِبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالدَّرَجَاتُ الْفَلَكِيَّةِ وَالْأَرْوَاحُ الْعُلْوِيَّةِ . وَقَوْمٌ اتَّخَذُوهَا عَلَى صُورَةِ مَنْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَقَوْمٌ جَعَلُوهَا لِأَجْلِ الْأَرْوَاحِ السُّفْلِيَّةِ مِنْ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ . وَقَوْمٌ عَلَى مَذَاهِبَ أُخَرَ . وَأَكْثَرُهُمْ لِرُؤَسَائِهِمْ مُقَلِّدُونَ وَعَنْ سَبِيلِ الْهُدَى نَاكِبُونَ . فَابْتَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ ؛ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُمْ لِيَتَقَرَّبُوا بِهِمْ إلَى اللَّهِ زُلْفَى وَيَتَّخِذُوهُمْ شُفَعَاءَ . فَمَكَثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًّا فَلَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِك إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ دَعَا عَلَيْهِمْ فَأَغْرَقَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْأَرْضِ بِدَعْوَتِهِ وَجَاءَتْ الرُّسُلُ بَعْدَهُ تَتْرَى . إلَى أَنْ عَمَّ الْأَرْضَ دِينُ الصَّابِئَةِ وَالْمُشْرِكِينَ ؛ لَمَّا كَانَتْ النماردة وَالْفَرَاعِنَةُ مُلُوكَ الْأَرْضِ شَرْقًا وَغَرْبًا . فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إمَامَ الْحُنَفَاءِ وَأَسَاسَ الْمِلَّةِ الْخَالِصَةِ وَالْكَلِمَةِ الْبَاقِيَةِ : إبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ . فَدَعَا الْخَلْقَ مِنْ الشِّرْكِ إلَى الْإِخْلَاصِ . وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَقَالَ : { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ لِقَوْمِهِ :

{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } وَقَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ مَعَهُ لِقَوْمِهِمْ : { إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } . فَجَعَلَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَجَعَلَ لِكُلِّ مِنْهُمْ خَصَائِصَ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ . وَآتَى كُلًّا مِنْهُمْ مِنْ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ . فَجَعَلَ لِمُوسَى الْعَصَا حَيَّةً حَتَّى ابْتَلَعَتْ مَا صَنَعَتْ السَّحَرَةُ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ وَكَانَتْ شَيْئًا كَثِيرًا وَفَلَقَ لَهُ الْبَحْرَ حَتَّى صَارَ يَابِسًا وَالْمَاءُ وَاقِفًا حَاجِزًا بَيْنَ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا عَلَى عَدَدِ الْأَسْبَاطِ وَأَرْسَلَ مَعَهُ الْقَمْلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ وَظَلَّلَ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْمِهِ الْغَمَامَ الْأَبْيَضَ يَسِيرُ مَعَهُمْ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ صَبِيحَةَ كُلِّ يَوْمٍ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَإِذَا عَطِشُوا ضَرَبَ مُوسَى بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ . وَبَعَثَ بَعْدَهُ أَنْبِيَاءَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ : مِنْهُمْ مَنْ أَحْيَا اللَّهُ عَلَى يَدِهِ الْمَوْتَى . وَمِنْهُمْ مَنْ شَفَى اللَّهُ عَلَى يَدِهِ الْمَرْضَى . وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَعَهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ سَخَّرَ لَهُ الْمَخْلُوقَاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ بَعَثَهُ

بِأَنْوَاعِ الْمُعْجِزَاتِ . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْمِلَلِ وَفِي الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالنُّبُوَّاتِ الَّتِي عِنْدَهُمْ وَأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مِثْلَ شعياء وأرمياء وَدَانْيَالَ وحبقوق ودَاوُد وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ وَكِتَابِ " سِفْرِ الْمُلُوكِ " وَغَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ : مَا فِيهِ مُعْتَبَرٌ . وَكَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ أُمَّةً قَاسِيَةً عَاصِيَةً : تَارَةً يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ . وَتَارَةً يَعْبُدُونَ اللَّهَ . وَتَارَةً يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ . وَتَارَةً يَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ . فَلُعِنُوا أَوَّلًا عَلَى لِسَانِ دَاوُد ؛ وَكَانَ مِنْ خُرَّابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ كُلِّهِمْ . ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولًا قَدْ خَلَتْ مَنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَجَعَلَهُ وَأَمَّهُ آيَةً لِلنَّاسِ ؛ حَيْثُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ ؛ إظْهَارًا لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَشُمُولِ كَلِمَتِهِ حَيْثُ قَسَمَ النَّوْعَ الْإِنْسَانِيَّ الْأَقْسَامَ الْأَرْبِعَةَ . فَجَعَلَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى . وَخَلَقَ زَوْجَهُ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى . وَخَلَقَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ . وَخَلَقَ سَائِرَهُمْ مِنْ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى . وَآتَى عَبْدَهُ الْمَسِيحَ مِنْ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَا جَرَتْ بِهِ سُنَّتُهُ : فَأَحْيَا الْمَوْتَى وَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأَنْبَأَ النَّاسَ بِمَا يَأْكُلُونَ وَمَا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَدَعَا إلَى اللَّهِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ مُتَّبَعًا سُنَّةَ

إخْوَانِهِ الْمُرْسَلِينَ مُصَدِّقًا لِمَنْ قَبْلَهُ وَمُبَشِّرًا بِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ . وَكَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ قَدْ عَتَوْا وَتَمَرَّدُوا وَكَانَ غَالِبُ أَمْرِهِ اللِّينَ وَالرَّحْمَةَ وَالْعَفْوَ وَالصَّفْحَ وَجَعَلَ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَجَعَلَ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا . فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْحَوَارِيِّينَ ثَلَاثَةَ أَحْزَابٍ : قَوْمٌ كَذَّبُوهُ وَكَفَرُوا بِهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ ابْنُ بَغْيٍ وَرَمَوْا أُمَّهُ بِالْفِرْيَةِ وَنَسَبُوهُ إلَى يُوسُفَ النَّجَّارِ وَزَعَمُوا أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْسَخْ مَا شَرَعَهُ بَعْدَ مَا فَعَلُوهُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْآصَارِ فِي النَّجَاسَاتِ وَالْمَطَاعِمِ . وَقَوْمٌ غَلَوْا فِيهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ اللَّهُ أَوْ ابْنُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّاهُوتَ تَدَرَّعَ النَّاسُوتُ وَأَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ وَأَنْزَلَ ابْنَهُ لِيُصْلَبَ وَيُقْتَلَ ؛ فِدَاءً لِخَطِيئَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلُوا الْإِلَهَ الْأَحَدَ الصَّمَدَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . قَدْ وَلَدَ وَاِتَّخَذَ وَلَدًا ؛ وَأَنَّهُ إلَهٌ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ وَأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهَا أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ وَهِيَ الْعِلْمُ [ وَ ] (1) هِيَ تَدَرَّعَتْ النَّاسُوتُ الْبَشَرِيُّ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يُمْكِنُ انْفِصَالُهُ عَنْ الْآخَرِينَ ؛ إلَّا إذَا جَعَلُوهُ ثَلَاثَةَ إلَهَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ . وَذَلِكَ مَا لَا يَقُولُونَهُ .

وَتَفَرَّقُوا فِي التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ تَفَرُّقًا وَتَشَتَّتُوا تَشَتُّتًا ؛ لَا يُقِرُّ بِهِ عَاقِلٌ . وَلَمْ يَجِئْ نَقْلٌ إلَّا كَلِمَاتٌ مُتَشَابِهَاتٌ فِي الْإِنْجِيلِ وَمَا قَبْلَهُ مِنْ الْكُتُبِ قَدْ بَيَّنَتْهَا كَلِمَاتٌ مُحْكَمَاتٌ فِي الْإِنْجِيلِ وَمَا قَبْلَهُ كُلُّهَا تَنْطِقُ بِعُبُودِيَّةِ الْمَسِيحِ وَعِبَادَتِهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَدُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ . وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ الدِّينِ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا قَالَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ } وَقَالَ : { لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } كَانَ أَمْرُ الدِّينِ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَالْإِقْرَارَ بِرُسُلِهِ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّابِئُونَ وَالْمُشْرِكُونَ كالبراهمة وَنَحْوِهِمْ مِنْ مُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ مُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ فِي إقْرَارِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ وَفَاسِدِي الِاعْتِقَادِ فِي رُسُلِهِ . فَأَرْبَابُ التَّثْلِيثِ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ وَالِاتِّحَادِ فِي الرِّسَالَةِ قَدْ دَخَلَ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ مِنْ الْفَسَادِ مَا هُوَ بَيِّنٌ بِفِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا وَبِكُتُبِ اللَّهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا . وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ رُؤَسَائِهِمْ - مِنْ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهِمْ مِنْ الْبَطَارِقَةِ وَالْمَطَارِنَةِ وَالْأَسَاقِفَةِ - إذَا صَارَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فَاضِلًا مُمَيَّزًا فَإِنَّهُ يَنْحَلُّ عَنْ دِينِهِ وَيَصِيرُ مُنَافِقًا لِمُلُوكِ أَهْلِ دِينِهِ وَعَامَّتِهِمْ

رَضِيَ بِالرِّيَاسَةِ عَلَيْهِمْ وَبِمَا يَنَالُهُ مِنْ الْحُظُوظِ ؛ كَاَلَّذِي كَانَ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ " ابْنُ الْبُورِيِّ " وَاَلَّذِي كَانَ بِدِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ لَا " ابْنُ الْقُفِّ " وَاَلَّذِي بقسطنطينية وَهُوَ " الْبَابَا " عِنْدَهُمْ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ كِبَارِ الْبَابَاوَاتِ وَالْمَطَارِنَةِ وَالْأَسَاقِفَةِ لَمَّا خَاطَبَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ أَقَرُّوا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى عَقِيدَةِ النَّصَارَى ؛ وَإِنَّمَا بَقَاؤُهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْعَادَةِ وَالرِّيَاسَةِ كَبَقَاءِ الْمُلُوكِ وَالْأَغْنِيَاءِ عَلَى مُلْكِهِمْ وَغِنَاهُمْ وَلِهَذَا تَجِدُ غَالِبَ فُضَلَائِهِمْ إنَّمَا هِمَّةُ أَحَدِهِمْ نَوْعٌ مِنْ الْعِلْمِ الرِّيَاضِيِّ . كَالْمَنْطِقِ وَالْهَيْئَةِ وَالْحِسَابِ وَالنُّجُومِ ؛ أَوْ الطَّبِيعِيِّ كَالطِّبِّ وَمَعْرِفَةِ الْأَرْكَانِ أَوْ التَّكَلُّمِ فِي الْإِلَهِيِّ عَلَى طَرِيقَةِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ نَبَذُوا دِينَ الْمَسِيحِ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَحَفِظُوا رُسُومَ الدِّينِ لِأَجْلِ الْمُلُوكِ وَالْعَامَّةِ . وَأَمَّا الرُّهْبَانُ فَأَحْدَثُوا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَكْرِ وَالْحِيَلِ بِالْعَامَّةِ مَا يَظْهَرُ لِكُلِّ عَاقِلٍ ؛ حَتَّى صَنَّفَ الْفُضَلَاءُ فِي حِيَلِ الرُّهْبَانِ كُتُبًا : مِثْلَ النَّارِ الَّتِي كَانَتْ تُصْنَعُ بِقُمَامَةِ . يَدْهُنُونَ خَيْطًا دَقِيقًا بسندروس وَيُلْقُونَ النَّارَ عَلَيْهِ بِسُرْعَةِ فَتَنْزِلُ . فَيَعْتَقِدُ الْجُهَّالُ أَنَّهَا نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاءِ وَيَأْخُذُونَهَا إلَى الْبَحْرِ وَهِيَ صَنْعَةُ ذَلِكَ الرَّاهِبِ يَرَاهُ النَّاسُ عِيَانًا وَقَدْ اعْتَرَفَ هُوَ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمْ يَصْنَعُونَهَا . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عِبَادَةُ اللَّهِ

تَعَالَى بِشَيْءِ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ . وَقَدْ يَظُنُّ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ مَا يُنْقَلُ عَنْ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ مِنْ جِنْسِ النَّارِ الْمَصْنُوعَةِ . وَكَذَلِكَ حِيَلُهُمْ فِي تَعْلِيقِ الصَّلِيبِ وَفِي بُكَاءِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي يُصَوِّرُونَهَا عَلَى صُورَةِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَغَيْرِهِمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ : كُلُّ ذَلِكَ يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ إفْكٌ مُفْتَرًى وَأَنَّ جَمِيعَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَصَالِحِي عِبَادِهِ بُرَآءُ مِنْ كُلِّ زُورٍ وَبَاطِلٍ وَإِفْكٍ كَبَرَاءَتِهِمْ مِنْ سِحْرِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ . ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ عَمِدُوا إلَى الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِهَا فَنَاقَضُوا الْأَوَّلِينَ مِنْ الْيَهُودِ فِيهَا ؛ مَعَ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالتَّمَسُّكِ بِالتَّوْرَاةِ ؛ إلَّا مَا نَسَخَهُ الْمَسِيحُ . قَصَرَ هَؤُلَاءِ فِي الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى قَتَلُوهُمْ . وَغَلَا هَؤُلَاءِ فِيهِمْ حَتَّى عَبَدُوهُمْ وَعَبَدُوا تَمَاثِيلَهُمْ . وَقَالَ أُولَئِكَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أَمَرَ بِهِ فَيَفْسَخُهُ ؛ لَا فِي وَقْتٍ آخَرَ وَلَا عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ آخَرَ . وَقَالَ هَؤُلَاءِ : بَلْ الْأَحْبَارُ وَالْقِسِّيسُونَ يُغَيِّرُونَ مَا شَاءُوا وَيُحَرِّمُونَ مَا رَأَوْا وَمَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَضَعُوا عَلَيْهِ مَا رَأَوْا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَغَفَرُوا لَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْفُخُ فِي الْمَرْأَةِ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ فَيَجْعَلُ الْبَخُورَ قُرْبَانًا . وَقَالَ أُولَئِكَ : حَرَّمَ عَلَيْنَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً . وَقَالَ هَؤُلَاءِ : مَا بَيْنَ الْبَقَّةِ وَالْفِيلِ حَلَالٌ : كُلْ مَا شِئْت وَدَعْ مَا شِئْت . وَقَالَ أُولَئِكَ : النَّجَاسَاتُ مُغَلَّظَةٌ ؛ حَتَّى إنَّ الْحَائِضَ لَا يُقْعَدُ مَعَهَا وَلَا يُؤْكَلُ مَعَهَا . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : مَا عَلَيْك شَيْءٌ نَجِسٌ وَلَا يَأْمُرُونَ بِخِتَانِ وَلَا غُسْلٍ مِنْ

جَنَابَةٍ وَلَا إزَالَةِ نَجَاسَةٍ ؛ مَعَ أَنَّ الْمَسِيحَ وَالْحَوَارِيِّينَ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ . ثُمَّ إنَّ الصَّلَاةَ إلَى الْمَشْرِقِ لَمْ يَأْمُرْ بِهَا الْمَسِيحُ وَلَا الْحَوَارِيُّونَ ؛ وَإِنَّمَا ابْتَدَعَهَا قُسْطَنْطِينَ أَوْ غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ الصَّلِيبُ إنَّمَا ابْتَدَعَهُ قُسْطَنْطِينُ بِرَأْيِهِ وَبِمَنَامِ زَعَمَ أَنَّهُ رَآهُ . وَأَمَّا الْمَسِيحُ وَالْحَوَارِيُّونَ فَلَمْ يَأْمُرُوا بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ . وَالدِّينُ الَّذِي يَتَقَرَّبُ الْعِبَادُ بِهِ إلَى اللَّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَمَرَ بِهِ وَشَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ ؛ وَإِلَّا فَالْبِدَعُ كُلُّهَا ضَلَالَةٌ وَمَا عُبِدَتْ الْأَوْثَانُ إلَّا بِالْبِدَعِ . وَكَذَلِكَ إدْخَالُ الْأَلْحَانِ فِي الصَّلَوَاتِ لَمْ يَأْمُرْ بِهَا الْمَسِيحُ وَلَا الْحَوَارِيُّونَ . وَبِالْجُمْلَةِ فَعَامَّةُ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْيَادِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا لَمْ يُنْزِلْ بِهَا اللَّهُ كِتَابًا وَلَا بَعَثَ بِهَا رَسُولًا ؛ لَكِنَّ فِيهِمْ رَأْفَةٌ وَرَحْمَةٌ وَهَذَا مِنْ دِينِ اللَّهِ ؛ بِخِلَافِ الْأَوَّلِينَ ؛ فَإِنَّ فِيهِمْ قَسْوَةً وَمَقْتًا وَهَذَا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ الْأَوَّلُونَ لَهُمْ تَمْيِيزٌ وَعَقْلٌ مَعَ الْعِنَادِ وَالْكِبْرِ . وَالْآخَرُونَ فِيهِمْ ضَلَالٌ عَنْ الْحَقِّ وَجَهْلٌ بِطَرِيقِ اللَّهِ .

ثُمَّ إنَّ هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ تَفَرَّقَتَا أَحْزَابًا كَثِيرَةً فِي أَصْلِ دِينِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ فِي مَعْبُودِهِمْ وَرَسُولِهِمْ . هَذَا يَقُولُ : إنَّ جَوْهَرَ اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ صَارَا جَوْهَرًا وَاحِدًا وَطَبِيعَةً وَاحِدَةً وَأُقْنُومًا وَاحِدًا . وَهُمْ الْيَعْقُوبِيَّةُ . وَهَذَا يَقُولُ : بَلْ هُمَا جَوْهَرَانِ وَطَبِيعَتَانِ وَأُقْنُومَانِ . وَهُمْ النسطورية . وَهَذَا يَقُولُ بِالِاتِّحَادِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَهُمْ الملكانية . وَقَدْ آمَنَ جَمَاعَاتٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَهَاجَرُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَصَنَّفُوا فِي كُتُبِ اللَّهِ مِنْ دَلَالَاتِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ مَوَاضِعَ لَمْ يُدَبِّرُوهَا وَكَذَلِكَ الْحَوَارِيُّونَ . فَلَمَّا اخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ هَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ فَبَعَثَ النَّبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ دَاعِيًا إلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَدِينِ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ وَطَهَّرَ الْأَرْضَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَنَزَّهَ الدِّينَ عَنْ الشِّرْكِ : دِقَّهُ وَجُلَّهُ ؛ بَعْدَ مَا كَانَتْ الْأَصْنَامُ تُعْبَدُ فِي أَرْضِ الشَّامِ وَغَيْرِهَا فِي دَوْلَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَدَوْلَةِ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّا نَصَارَى . وَأَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفَرْقَانِ . وَبِجَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ مِنْ آدَمَ إلَى مُحَمَّدٍ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ

بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } . وَأَمَرَ اللَّهُ ذَلِكَ الرَّسُولَ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إلَى تَوْحِيدِهِ بِالْعَدْلِ فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَأَمَرَهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاتَهُ وَحَجَّهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ الَّذِي بَنَاهُ خَلِيلُهُ إبْرَاهِيمُ أَبُو الْأَنْبِيَاءِ وَإِمَامُ الْحُنَفَاءِ . وَجَعَلَ أُمَّتَهُ وَسَطًا فَلَمْ يَغْلُوا فِي

الْأَنْبِيَاءِ كَغُلُوِّ مَنْ عَدَلَهُمْ بِاَللَّهِ . وَجَعَلَ فِيهِمْ شَيْئًا مِنْ الْإِلَهِيَّةِ وَعَبَدَهُمْ وَجَعَلَهُمْ شُفَعَاءَ . وَلَمْ يَجْفُوا جَفَاءَ مَنْ آذَاهُمْ وَاسْتَخَفَّ بِحُرُمَاتِهِمْ وَأَعْرَضَ عَنْ طَاعَتِهِمْ ؛ بَلْ عَزَّرُوا الْأَنْبِيَاءَ - أَيْ عَظَّمُوهُمْ وَنَصَرُوهُمْ - وَآمَنُوا بِمَا جَاءُوا بِهِ وَأَطَاعُوهُمْ وَاتَّبَعُوهُمْ وَائْتَمُّوا بِهِمْ وَأَحَبُّوهُمْ وَأَجْلَوْهُمْ وَلَمْ يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ فَلَمْ يَتَّكِلُوا إلَّا عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَعِينُوا إلَّا بِهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ . وَكَذَلِكَ فِي الشَّرَائِعِ . قَالُوا مَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ أَطَعْنَاهُ وَمَا نَهَانَا عَنْهُ انْتَهَيْنَا وَإِذَا نَهَانَا عَمَّا كَانَ أَحَلَّهُ - كَمَا نَهَى بَنِي إسْرَائِيلَ عَمَّا كَانَ أَبَاحَهُ لِيَعْقُوبَ - أَوْ أَبَاحَ لَنَا مَا كَانَ حَرَامًا - كَمَا أَبَاحَ الْمَسِيحُ بَعْضَ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ - سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا . وَأَمَّا غَيْرُ رُسُلِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُبَدِّلُوا دِينَ اللَّهِ وَلَا يَبْتَدِعُوا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . وَالرُّسُلُ إنَّمَا قَالُوا تَبْلِيغًا عَنْ اللَّهِ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فَكَمَا لَا يَخْلُقُ غَيْرُهُ لَا يَأْمُرُ غَيْرُهُ { إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . وَتَوَسَّطَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ . وَفِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَفِي الْأَخْلَاقِ . وَلَمْ يُجَرِّدُوا الشِّدَّةَ كَمَا فَعَلَهُ الْأَوَّلُونَ وَلَمْ يُجَرِّدُوا الرَّأْفَةَ

كَمَا فَعَلَهُ الْآخَرُونَ بَلْ عَامَلُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ بِالشِّدَّةِ وَعَامَلُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَقَالُوا فِي الْمَسِيحِ مَا قَالَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَا قَالَهُ الْمَسِيحُ وَالْحَوَارِيُّونَ ؛ لَا مَا ابْتَدَعَهُ الْغَالُونَ وَالْجَافُونَ . وَقَدْ أَخْبَرَ الْحَوَارِيُّونَ عَنْ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ أَنَّهُ يُبْعَثُ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ وَأَنَّهُ يُبْعَثُ بِقَضِيبِ الْأَدَبِ وَهُوَ السَّيْفُ . وَأَخْبَرَ الْمَسِيحُ أَنَّهُ يَجِيءُ بِالْبَيِّنَاتِ وَالتَّأْوِيلِ . وَأَنَّ الْمَسِيحَ جَاءَ بِالْأَمْثَالِ . وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ شَرْحُهُ . وَإِنَّمَا نَبَّهَ الدَّاعِي لِعَظِيمِ مِلَّتِهِ وَأَهْلِهِ لَمَّا بَلَغَنِي مَا عِنْدَهُ مِنْ الدِّيَانَةِ وَالْفَضْلِ وَمَحَبَّةِ الْعِلْمِ وَطَلَبِ الْمُذَاكَرَةِ وَرَأَيْت الشَّيْخَ أَبَا الْعَبَّاسِ المقدسي شَاكِرًا مِنْ الْمَلِكِ : مِنْ رِفْقِهِ وَلُطْفِهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ وَشَاكِرًا مِنْ الْقِسِّيسِينَ وَنَحْوِهِمْ . وَنَحْنُ قَوْمٌ نُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَنُحِبُّ أَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ لَكُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ فَإِنَّ أَعْظَمَ مَا عُبِدَ اللَّهُ بِهِ نَصِيحَةُ خَلْقِهِ وَبِذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ وَلَا نَصِيحَةَ أَعْظَمُ مِنْ النَّصِيحَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ وَلَا بُدَّ أَنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُ عَبْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } . وَأَمَّا الدُّنْيَا فَأَمْرُهَا حَقِيرٌ وَكَبِيرُهَا صَغِيرٌ . وَغَايَةُ أَمْرِهَا يَعُودُ إلَى الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ . وَغَايَةُ ذِي الرِّيَاسَةِ أَنْ يَكُونَ كَفِرْعَوْنَ الَّذِي أَغْرَقَهُ

اللَّهُ فِي الْيَمِّ انْتِقَامًا مِنْهُ . وَغَايَةُ ذِي الْمَالِ أَنْ يَكُونَ كقارون الَّذِي خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . لَمَّا آذَى نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى . وَهَذِهِ وَصَايَا الْمَسِيحِ وَمَنْ قَبْلَهُ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ كُلُّهَا تَأْمُرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَالتَّجَرُّدِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا . وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الدُّنْيَا خَسِيسًا رَأَيْت أَنَّ أَعْظَمَ مَا يُهْدَى لِعَظِيمِ قَوْمِهِ الْمُفَاتَحَةُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ : بِالْمُذَاكَرَةِ فِيمَا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ . وَالْكَلَامُ فِي الْفُرُوعِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأُصُولِ . وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يَكُونُ بِهَوَى النَّفْسِ وَلَا بِعَادَاتِ الْآبَاءِ وَأَهْلِ الْمَدَنِيَّةِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ الْعَاقِلُ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَفِي مَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَيُعَامِلُ اللَّهَ تَعَالَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُظْهِرَ كُلَّ مَا فِي نَفْسِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ : فَيَنْتَفِعُ هُوَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ . وَإِنْ رَأَيْت مِنْ الْمُلْكِ رَغْبَةً فِي الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ كَاتَبْته وَجَاوَبْته عَنْ مَسَائِلَ يَسْأَلُهَا وَقَدْ كَانَ خَطَرَ لِي أَنْ أَجِيءَ إلَى قُبْرُصَ لِمَصَالِحَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا ؛ لَكِنْ إذَا رَأَيْت مِنْ الْمَلِكِ مَا فِيهِ رِضَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَامَلْته بِمَا يَقْتَضِيهِ عَمَلُهُ ؛ فَإِنَّ الْمَلِكَ وَقَوْمَهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَظْهَرَ مِنْ مُعْجِزَاتِ

رُسُلِهِ عَامَّةً وَمُحَمَّدٍ خَاصَّةً : مَا أَيَّدَ بِهِ دِينَهُ وَأَذَلَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ . وَلَمَّا قَدِمَ مُقَدِّمُ الْمَغُولِ غازان وَأَتْبَاعُهُ إلَى دِمَشْقَ وَكَانَ قَدْ انْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ ؛ لَكِنْ لَمْ يَرْضَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِمَا فَعَلُوهُ ؛ حَيْثُ لَمْ يَلْتَزِمُوا دِينَ اللَّهِ وَقَدْ اجْتَمَعَتْ بِهِ وَبِأُمَرَائِهِ وَجَرَى لِي مَعَهُمْ فُصُولٌ يَطُولُ شَرْحُهَا ؛ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قَدْ بَلَغَتْ الْمَلِكَ ؛ فَأَذَلَّهُ اللَّهُ وَجُنُودَهُ لَنَا حَتَّى بَقِينَا نَضْرِبُهُمْ بِأَيْدِينَا وَنَصْرُخُ فِيهِمْ بِأَصْوَاتِنَا . وَكَأَنَّ مَعَهُمْ صَاحِبَ سَيَسَ مِثْلُ أَصْغَرِ غُلَامٍ يَكُونُ حَتَّى كَانَ بَعْضَ الْمُؤَذِّنِينَ الَّذِينَ مَعَنَا يَصْرُخُ عَلَيْهِ وَيَشْتُمُهُ وَهُوَ لَا يَجْتَرِئُ أَنْ يُجَاوِبَهُ حَتَّى إنَّ وُزَرَاءَ غازان ذَكَرُوا مَا يَنُمُّ عَلَيْهِ مِنْ فَسَادِ النِّيَّةِ لَهُ وَكُنْت حَاضِرًا لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُكُمْ إلَى نَاحِيَةِ السَّاحِلِ وَأَخْبَرَنِي التَّتَارُ بِالْأَمْرِ الَّذِي أَرَادَ صَاحِبُ سِيسَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ فِيهِ حَيْثُ مَنَاكُمْ بِالْغُرُورِ وَكَانَ التَّتَارُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ شَتِيمَةٍ لِصَاحِبِ سِيسَ وَإِهَانَةٍ لَهُ ؛ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّا كُنَّا نُعَامِلُ أَهْلَ مِلَّتِكُمْ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ . وَقَدْ عَرَفَ النَّصَارَى كُلُّهُمْ أَنِّي لَمَّا خَاطَبْت التَّتَارَ فِي إطْلَاقِ الْأَسْرَى وَأَطْلَقَهُمْ غازان وقطلو شاه وَخَاطَبْت مَوْلَايَ فِيهِمْ فَسَمَحَ بِإِطْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ لِي : لَكِنَّ مَعَنَا نَصَارَى أَخَذْنَاهُمْ مِنْ الْقُدْسِ فَهَؤُلَاءِ لَا يُطْلِقُونَ . فَقُلْت لَهُ : بَلْ جَمِيعُ مَنْ مَعَك مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ ذِمَّتِنَا ؛ فَإِنَّا نُفْتِكَهُمْ وَلَا نَدَعُ أَسِيرًا لَا مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ

وَلَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَأَطْلَقْنَا مِنْ النَّصَارَى مَنْ شَاءَ اللَّهُ . فَهَذَا عَمَلُنَا وَإِحْسَانُنَا وَالْجَزَاءُ عَلَى اللَّهِ . وَكَذَلِكَ السَّبْيُ الَّذِي بِأَيْدِينَا مِنْ النَّصَارَى يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ إحْسَانَنَا وَرَحْمَتَنَا وَرَأْفَتَنَا بِهِمْ ؛ كَمَا أَوْصَانَا خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ : { الصَّلَاةُ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } . وَمَعَ خُضُوعِ التَّتَارِ لِهَذِهِ الْمِلَّةِ وَانْتِسَابِهِمْ إلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ ؛ فَلَمْ نُخَادِعْهُمْ وَلَمْ نُنَافِقْهُمْ ؛ بَلْ بَيَّنَّا لَهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْفَسَادِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْإِسْلَامِ الْمُوجِبِ لِجِهَادِهِمْ وَأَنَّ جُنُودَ اللَّهِ الْمُؤَيَّدَةَ وَعَسَاكِرَهُ الْمَنْصُورَةَ الْمُسْتَقِرَّةَ بِالدِّيَارِ الشَّامِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ : مَا زَالَتْ مَنْصُورَةٌ عَلَى مَنْ نَاوَأَهَا . مُظَفَّرَةً عَلَى مَنْ عَادَاهَا . وَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لَمَّا شَاعَ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ التَّتَارَ مُسْلِمُونَ أَمْسَكَ الْعَسْكَرَ عَنْ قِتَالِهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَلَمْ يَقْتُلْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِائَتَانِ . فَلَمَّا انْصَرَفَ الْعَسْكَرُ إلَى مِصْرَ وَبَلَغَهُ مَا عَلَيْهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمَلْعُونَةُ مِنْ الْفَسَادِ وَعَدَمِ الدِّينِ : خَرَجَتْ جُنُودُ اللَّهِ وَلِلْأَرْضِ مِنْهَا وَئِيدٌ قَدْ مَلَأَتْ السَّهْلَ وَالْجَبَلَ ؛ فِي كَثْرَةٍ وَقُوَّةٍ وَعِدَّةٍ وَإِيمَانٍ وَصِدْقٍ . قَدْ بَهَرَتْ الْعُقُولَ وَالْأَلْبَابَ . مَحْفُوفَةٌ بِمَلَائِكَةِ اللَّهِ الَّتِي مَا زَالَ يُمَدُّ بِهَا الْأُمَّةَ الْحَنِيفِيَّةَ الْمُخْلِصَةَ لِبَارِئِهَا : فَانْهَزَمَ الْعَدُوُّ بَيْنَ أَيْدِيهَا وَلَمْ يَقِفْ لِمُقَابَلَتِهَا . ثُمَّ أَقْبَلَ الْعَدُوُّ ثَانِيًا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِ مِنْ

الْعَذَابِ مَا أَهْلَكَ النُّفُوسَ وَالْخَيْلَ وَانْصَرَفَ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَصَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ . وَهُوَ الْآنُ فِي الْبَلَاءِ الشَّدِيدِ والتعكيس الْعَظِيمِ وَالْبَلَاءِ الَّذِي أَحَاطَ بِهِ . وَالْإِسْلَامُ فِي عِزٍّ مُتَزَايِدٍ وَخَيْرٍ مُتَرَافِدٍ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا } . وَهَذَا الدِّينُ فِي إقْبَالٍ وَتَجْدِيدٍ . وَأَنَا نَاصِحٌ لِلْمَلِكِ وَأَصْحَابِهِ - وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالْفُرْقَانَ . وَيَعْلَمُ الْمَلِكُ أَنَّ وَفْدَ نجران - وَكَانُوا نَصَارَى كُلَّهُمْ فِيهِمْ الْأَسْقُفُ وَغَيْرُهُ - لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ : خَاطَبُوهُ فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ وَنَاظَرُوهُ فَلَمَّا قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ جَعَلُوا يُرَاوِغُونَ فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْمُبَاهَلَةِ كَمَا قَالَ : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } . فَلَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ استشوروا بَيْنَهُمْ فَقَالُوا : تَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَّهُ مَا بَاهَلَ أَحَدٌ نَبِيًّا فَأَفْلَحَ . فَأَدَّوْا إلَيْهِ الْجِزْيَةَ وَدَخَلُوا فِي الذِّمَّةِ وَاسْتَعْفَوْا مِنْ الْمُبَاهَلَةِ . وَكَذَلِكَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابَهُ إلَى قَيْصَرَ الَّذِي كَانَ مَلِكَ النَّصَارَى بِالشَّامِ وَالْبَحْرِ إلَى قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَغَيْرِهَا وَكَانَ مَلِكًا

فَاضِلًا . فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ وَسَأَلَ عَنْ عَلَامَتِهِ : عَرَفَ أَنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ وَعَدَ اللَّهُ بِهِ إبْرَاهِيمَ فِي ابْنِهِ إسْمَاعِيلَ وَجَعَلَ يَدْعُو قَوْمَهُ النَّصَارَى إلَى مُتَابَعَتِهِ وَأَكْرَمَ كِتَابَهُ وَقَبَّلَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَقَالَ : وَدِدْت أَنِّي أَخْلُصُ إلَيْهِ حَتَّى أَغْسِلَ عَنْ قَدَمَيْهِ وَلَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنْ الْمُلْكِ لَذَهَبْت إلَيْهِ . وَأَمَّا النَّجَاشِيُّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ النَّصْرَانِيُّ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ هَاجَرُوا إلَيْهِ : آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَبَعَثَ إلَيْهِ ابْنَهُ وَأَصْحَابَهُ مُهَاجِرِينَ . وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ لَمَّا مَاتَ . وَلَمَّا سَمِعَ سُورَةَ { كهيعص } بَكَى . وَلَمَّا أَخْبَرُوهُ عَمَّا يَقُولُونَ فِي الْمَسِيحِ قَالَ : وَاَللَّهِ مَا يَزِيدُ عِيسَى عَلَى هَذَا مِثْلَ هَذَا الْعُودِ . وَقَالَ : إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ . وَكَانَتْ سِيرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مِنْ النَّصَارَى صَارَ مِنْ أُمَّتِهِ لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ . وَكَانَ لَهُ أَجْرَانِ : أَجْرٌ عَلَى إيمَانِهِ بِالْمَسِيحِ وَأَجْرٌ عَلَى إيمَانِهِ بِمُحَمَّدِ . وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْ الْأُمَمِ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِقِتَالِهِ كَمَا قَالَ فِي كِتَابِهِ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .

فَمَنْ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ بَلْ يَسُبُّ اللَّهَ وَيَقُولُ : إنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَأَنَّهُ صُلِبَ . وَلَا يُؤْمِنُ بِرُسُلِهِ ؛ بَلْ يَزْعُمُ أَنَّ الَّذِي حَمَلَ وَوَلَدَ وَكَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَتَغَوَّطُ وَيَنَامُ : هُوَ اللَّهُ وَابْنُ اللَّهِ . وَأَنَّ اللَّهَ أَوْ ابْنَهُ حَلَّ فِيهِ وَتَدَرَّعَهُ وَيَجْحَدُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ وَيُحَرِّفُ نُصُوصَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ؛ فَإِنَّ فِي الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبِعَةِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَوْجَبَهُ مَا فِيهَا وَلَا يَدِينُ الْحَقَّ . وَدِينُ الْحَقِّ هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَوْجَبَهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَلَا يُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ مِنْ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ الَّذِي مَا زَالَ حَرَامًا مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبَاحَهُ نَبِيٌّ قَطُّ ؛ بَلْ عُلَمَاءُ النَّصَارَى يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَمَا يَمْنَعُ بَعْضَهُمْ مِنْ إظْهَارِ ذَلِكَ إلَّا الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ . وَبَعْضُهُمْ يَمْنَعُهُ الْعِنَادُ وَالْعَادَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ؛ لِأَنَّ عَامَّتَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِقِيَامَةِ الْأَبْدَانِ ؛ لَكِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ وَالنَّعِيمِ وَالْعَذَابِ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ؛ بَلْ غَايَةُ مَا يُقِرُّونَ بِهِ مِنْ النَّعِيمِ السَّمَاعُ وَالشَّمُّ . وَمِنْهُمْ مُتَفَلْسِفَةٌ يُنْكِرُونَ مَعَادَ الْأَجْسَادِ وَأَكْثَرُ عُلَمَائِهِمْ زَنَادِقَةٌ وَهُمْ يُضْمِرُونَ ذَلِكَ وَيَسْخَرُونَ بِعَوَامِّهِمْ ؛ لَا سِيَّمَا بِالنِّسَاءِ والمترهبين مِنْهُمْ : بِضَعْفِ الْعُقُولِ . فَمَنْ هَذَا حَالُهُ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِجِهَادِهِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي دِينِ اللَّهِ أَوْ يُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ وَهَذَا دِينُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ الْمَسِيحُ لَمْ يَأْمُرْ بِجِهَادِ ؛ لَا سِيَّمَا بِجِهَادِ الْأُمَّةِ

الْحَنِيفِيَّةِ وَلَا الْحَوَارِيُّونَ بَعْدَهُ . فَيَا أَيُّهَا الْمَلِكُ كَيْفَ تَسْتَحِلُّ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَسَبْيَ الْحَرِيمِ وَأَخْذَ الْأَمْوَالِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مِنْ اللَّهِ وَرُسُلِهِ . ثُمَّ أَمَا يَعْلَمُ الْمَلِكُ أَنَّ بِدِيَارِنَا مِنْ النَّصَارَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْأَمَانِ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ وَمُعَامَلَتُنَا فِيهِمْ مَعْرُوفَةٌ فَكَيْفَ يُعَامِلُونَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي لَا يَرْضَى بِهَا ذُو مُرُوءَةٍ وَلَا ذُو دِينٍ لَسْت أَقُولُ عَنْ الْمَلِكِ وَأَهْلِ بَيْته وَلَا إخْوَتِهِ ؛ فَإِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ شَاكِرٌ لِلْمَلِكِ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ كَثِيرًا مُعْتَرِفًا بِمَا فَعَلُوهُ مَعَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَإِنَّمَا أَقُولُ عَنْ عُمُومِ الرَّعِيَّةِ . أَلَيْسَ الْأَسْرَى فِي رَعِيَّةِ الْمَلِكِ أَلَيْسَتْ عُهُودُ الْمَسِيحِ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ تُوَصِّي بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ . فَأَيْنَ ذَلِكَ . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ إنَّمَا أُخِذُوا غَدْرًا وَالْغَدْرُ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ وَالسِّيَاسَاتِ فَكَيْفَ تَسْتَحِلُّونَ أَنْ تَسْتَوْلُوا عَلَى مَنْ أَخَذَ غَدْرًا أَفَتَأْمَنُونَ مَعَ هَذَا أَنْ يُقَابِلَكُمْ الْمُسْلِمُونَ بِبَعْضِ هَذَا وَتَكُونُونَ مَغْدُورِينَ وَاَللَّهُ نَاصِرُهُمْ وَمُعِينُهُمْ ؛ لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَالْأُمَّةُ قَدْ امْتَدَّتْ لِلْجِهَادِ . وَاسْتَعَدَّتْ لِلْجَلَّادِ . وَرَغِبَ الصَّالِحُونَ وَأَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ فِي طَاعَتِهِ وَقَدْ تَوَلَّى الثُّغُورَ السَّاحِلِيَّةَ أُمَرَاءُ ذَوُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَقَدْ ظَهَرَ بَعْضُ أَثَرِهِمْ وَهُمْ فِي ازْدِيَادٍ . ثُمَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الرِّجَالِ الفداوية الَّذِينَ يَغْتَالُونَ الْمُلُوكَ فِي

فُرُشِهَا وَعَلَى أَفْرَاسِهَا : مَنْ قَدْ بَلَغَ الْمَلِكُ خَبَرُهُمْ ؛ قَدِيمًا وَحَدِيثًا . وَفِيهِمْ الصَّالِحُونَ الَّذِينَ لَا يَرُدُّ اللَّهُ دَعَوَاتِهِمْ وَلَا يُخَيِّبُ طَلَبَاتِهِمْ الَّذِينَ يَغْضَبُ الرَّبُّ لِغَضَبِهِمْ وَيَرْضَى لِرِضَاهُمْ . وَهَؤُلَاءِ التَّتَارُ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَانْتِسَابِهِمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ لَمَّا غَضِبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ الْبَلَاءِ مَا يَعْظُمُ عَنْ الْوَصْفِ . فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَيُّهَا الْمَلِكُ بِقَوْمِ يُجَاوِرُونَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَكْثَرِ الْجِهَاتِ أَنْ يُعَامِلُوهُمْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ الَّتِي لَا يَرْضَاهَا عَاقِلٌ ؛ لَا مُسْلِمٌ وَلَا مُعَاهَدٌ . هَذَا وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا ذَنْبَ لَهُمْ أَصْلًا ؛ بَلْ هُمْ الْمَحْمُودُونَ عَلَى مَا فَعَلُوهُ ؛ فَإِنَّ الَّذِي أَطْبَقَتْ الْعُقَلَاءُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِفَضْلِهِ هُوَ دِينُهُمْ حَتَّى الْفَلَاسِفَةُ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَطْرُقْ الْعَالَمَ دِينٌ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا الدِّينِ . فَقَدْ قَامَتْ الْبَرَاهِينُ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَتِهِ . ثُمَّ هَذِهِ الْبِلَادُ مَا زَالَتْ بِأَيْدِيهِمْ السَّاحِلُ ؛ بَلْ وَقُبْرُصُ أَيْضًا مَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ إلَّا مِنْ أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ وَقَدْ وَعَدَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . فَمَا يُؤْمِنُ الْمَلِكُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى الْمَظْلُومِينَ بِبَلْدَتِهِ يَنْتَقِمُ لَهُمْ رَبُّ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ كَمَا يَنْتَقِمُ لِغَيْرِهِمْ وَمَا يُؤَمِّنُهُ أَنْ تَأْخُذَ الْمُسْلِمِينَ حَمِيَّةُ إسْلَامِهِمْ فَيَنَالُوا مِنْهَا مَا نَالُوا مِنْ غَيْرِهَا وَنَحْنُ إذَا رَأَيْنَا مِنْ الْمَلِكِ وَأَصْحَابِهِ مَا يَصْلُحُ عَامَلْنَاهُمْ بِالْحُسْنَى وَإِلَّا فَمَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ .

وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَيْسَرِ الْأُمُورِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَأَنَا مَا غَرَضِي السَّاعَةَ إلَّا مُخَاطَبَتُكُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَالْمُعَاوَنَةُ عَلَى النَّظَرِ فِي الْعِلْمِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَفِعْلِ مَا يَجِبُ . فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْمَلِكِ مَنْ يَثِقُ بِعَقْلِهِ وَدِينِهِ فَلْيَبْحَثْ مَعَهُ عَنْ أُصُولِ الْعِلْمِ وَحَقَائِقِ الْأَدْيَانِ وَلَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ ؛ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ ؛ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا . وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنْ تَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ وَتَسْأَلَهُ الْهِدَايَةَ وَتَقُولَ : اللَّهُمَّ أَرِنِي الْحَقَّ حَقًّا وَأَعِنِّي عَلَى اتِّبَاعِهِ . وَأَرِنِي الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَأَعِنِّي عَلَى اجْتِنَابِهِ وَلَا تَجْعَلْهُ مُشْتَبَهًا عَلَيَّ فَأَتَّبِعَ الْهَوَى فَأَضِلَّ . وَقُلْ اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ : اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَالْكِتَابُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَسْطَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا ؛ لَكِنَّ أَنَا مَا أُرِيدَ لِلْمَلِكِ إلَّا مَا يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُمَا شَيْئَانِ . ( أَحَدُهُمَا لَهُ خَاصَّةً وَهُوَ مَعْرِفَتُهُ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ وَانْكِشَافِ الْحَقِّ وَزَوَالِ الشُّبْهَةِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ كَمَا أَمَرَ . فَهَذَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا . وَهُوَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْمَسِيحَ وَعَلَّمَهُ الْحَوَارِيِّينَ . ( الثَّانِي لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُسَاعَدَتُهُ لِلْأَسْرَى الَّذِينَ فِي بِلَادِهِ وَإِحْسَانُهُ إلَيْهِمْ وَأَمْرُ رَعِيَّتِهِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ

وَالْمُعَاوَنَةُ لَنَا عَلَى خَلَاصِهِمْ ؛ فَإِنَّ فِي الْإِسَاءَةِ إلَيْهِمْ دَرْكًا عَلَى الْمَلِكِ فِي دِينِهِ وَدِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَرْكًا مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي الْمُعَاوَنَةِ عَلَى خَلَاصِهِمْ حَسَنَةٌ لَهُ فِي دِينِهِ وَدِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَكَانَ الْمَسِيحُ أَعْظَمَ النَّاسِ تَوْصِيَةً بِذَلِكَ . وَمِنْ الْعَجَبِ كُلَّ الْعَجَبِ أَنْ يَأْسِرَ النَّصَارَى قَوْمًا غَدْرًا أَوْ غَيْرَ غَدْرٍ وَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ وَالْمَسِيحُ يَقُولُ : " مَنْ لَطَمَك عَلَى خَدِّك الْأَيْمَنِ فَأَدِرْ لَهُ خَدَّك الْأَيْسَرَ وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَك فَأَعْطِهِ قَمِيصَك " وَكُلَّمَا كَثُرَتْ الْأَسْرَى عِنْدَكُمْ كَانَ أَعْظَمَ لِغَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ عِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَكَيْفَ يُمْكِنُ السُّكُوتُ عَلَى أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي قُبْرُصَ سِيَّمَا وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى قَوْمٌ فُقَرَاءُ وَضُعَفَاءُ لَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَسْعَى فِيهِمْ . وَهَذَا أَبُو الْعَبَّاسِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ عِبَادِ الْمُسْلِمِينَ وَلَهُ عِبَادَةٌ وَفَقْرٌ وَفِيهِ مَشْيَخَةٌ وَمَعَ هَذَا فَمَا كَادَ يَحْصُلُ لَهُ فِدَاؤُهُ إلَّا بِالشِّدَّةِ . وَدِينُ الْإِسْلَامِ يَأْمُرُنَا أَنْ نُعِينَ الْفَقِيرَ وَالضَّعِيفَ . فَالْمَلِكُ أَحَقُّ أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ؛ لَا سِيَّمَا وَالْمَسِيحُ يُوصِي بِذَلِكَ فِي الْإِنْجِيلِ وَيَأْمُرُ بِالرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَيْرِ الشَّامِلِ كَالشَّمْسِ وَالْمَطَرِ . وَالْمَلِكُ وَأَصْحَابُهُ إذَا عَاوَنُونَا عَلَى تَخْلِيصِ الْأَسْرَى وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ كَانَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَى ذَلِكَ وَيَأْجُرُ عَلَيْهِ وَهَذَا مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْمَسِيحِيِّينَ

الَّذِينَ لَا يَتَّبِعُونَ الْهَوَى ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَأَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّهُمْ أُسِرُوا بِغَيْرِ حَقٍّ لَا سِيَّمَا مَنْ أُخِذَ غَدْرًا وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ الْمَسِيحَ وَلَا أَحَدًا مِنْ الْحَوَارِيِّينَ وَلَا مَنْ اتَّبَعَ الْمَسِيحَ عَلَى دِينِهِ ؛ لَا بِأَسْرِ أَهْلِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَلَا بِقَتْلِهِمْ . وَكَيْفَ وَعَامَّةُ النَّصَارَى يُقِرُّونَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ دِينٍ اتَّبَعُوا رَسُولَهُمْ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هُمْ قَاتَلُونَا أَوَّلَ مَرَّةٍ . قِيلَ : هَذَا بَاطِلٌ فِيمَنْ غَدَرْتُمْ بِهِ وَمَنْ بَدَأْتُمُوهُ بِالْقِتَالِ . وَأَمَّا مَنْ بَدَأَكُمْ مِنْهُمْ فَهُوَ مَعْذُورٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَرَسُولُهُ بَلْ الْمَسِيحُ وَالْحَوَارِيُّونَ أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمَوَاثِيقَ بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَوِي مَنْ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَدَعَا إلَى عِبَادَتِهِ وَدِينِهِ وَأَقَرَّ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَقَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَلِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَمَنْ قَاتَلَ فِي هَوَى نَفْسِهِ وَطَاعَةِ شَيْطَانِهِ عَلَى خِلَافِ أَمْرِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ . وَمَا زَالَ فِي النَّصَارَى مِنْ الْمُلُوكِ وَالْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ وَالْعَامَّةِ مَنْ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالدِّينِ ؛ فَيَعْرِفُ بَعْضَ الْحَقِّ وَيَنْقَادُ لِكَثِيرِ مِنْهُ وَيَعْرِفُ مِنْ قَدْرِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مَا يَجْهَلُهُ غَيْرُهُ فَيُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةً تَكُونُ نَافِعَةً لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . ثُمَّ فِي فِكَاكِ الْأَسِيرِ وَثَوَابِ الْعِتْقِ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ لِمَنْ طَلَبَهُ فَمَهْمَا عَمِلَ الْمَلِكُ مَعَهُمْ وَجَدَ ثَمَرَتَهُ .

وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَقْدَرُ عَلَى الْمُكَافَأَةِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَمَنْ حَارَبُوهُ فَالْوَيْلُ كُلَّ الْوَيْلِ لَهُ وَالْمَلِكُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ السَّيْرَ وَبَلَغَهُ أَنَّهُ مَا زَالَ فِي الْمُسْلِمِينَ النَّفَرُ الْقَلِيلُ مِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً مِنْ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ فَكَيْفَ إذَا كَانُوا أَضْعَافَهُمْ وَقَدْ بَلَغَهُ الْمَلَاحِمُ الْمَشْهُورَةُ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ : مِثْلَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا يَغْلِبُونَ مِنْ النَّصَارَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعمِائَةِ أَلْفٍ أَكْثَرُهُمْ فَارِسٌ . وَمَا زَالَ الْمُرَابِطُونَ بِالثُّغُورِ مَعَ قِلَّتِهِمْ وَاشْتِغَالِ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ عَنْهُمْ يَدْخُلُونَ بِلَادَ النَّصَارَى فَكَيْفَ وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ وَكَثْرَةِ جُيُوشِهِمْ وَبَأْسِ مُقَدِّمِيهِمْ وَعُلُوِّ هِمَمِهِمْ وَرَغْبَتِهِمْ فِيمَا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْمُطَوَّعَةِ وَتَصْدِيقِهِمْ بِمَا وَعَدَهُمْ نَبِيُّهُمْ حَيْثُ قَالَ : { يُعْطَى الشَّهِيدُ سِتُّ خِصَالٍ : يُغْفَرُ لَهُ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ . وَيَرَى مَقْعَدَهُ فِي الْجَنَّةِ . وَيُكْسَى حُلَّةَ الْإِيمَانِ . وَيُزَوَّجُ بِاثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ . وَيُوقَى فِتْنَةَ الْقَبْرِ . وَيُؤْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . ثُمَّ إنَّ فِي بِلَادِهِمْ مِنْ النَّصَارَى أَضْعَافَ مَا عِنْدَكُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ فِيهِمْ مِنْ رُءُوسِ النَّصَارَى مَنْ لَيْسَ فِي الْبَحْرِ مِثْلُهُمْ إلَّا قَلِيلٌ . وَأَمَّا أُسَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَلَا مَنْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَإِنَّمَا نَسْعَى فِي تَخْلِيصِهِمْ لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى رَحْمَةً لَهُمْ وَتَقَرُّبًا إلَيْهِ يَوْمَ يَجْزِي

اللَّهُ الْمُصَدِّقِينَ وَلَا يُضَيِّعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . وَأَبُو الْعَبَّاسِ حَامِلُ هَذَا الْكِتَابِ قَدْ بَثَّ مَحَاسِنَ الْمَلِكِ وَإِخْوَتَهُ عِنْدَنَا وَاسْتَعْطَفَ قُلُوبَنَا إلَيْهِ ؛ فَلِذَلِكَ كَاتَبْت الْمَلِكَ لَمَّا بَلَغَتْنِي رَغْبَتُهُ فِي الْخَيْرِ وَمَيْلُهُ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَأَنَا مِنْ نُوَّابِ الْمَسِيحِ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي مُنَاصَحَةِ الْمَلِكِ وَأَصْحَابِهِ وَطَلَبِ الْخَيْرِ لَهُمْ ؛ فَإِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يُرِيدُونَ لِلْخَلْقِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيَدْعُونَهُمْ إلَى اللَّهِ وَيُعِينُونَهُمْ عَلَى مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ . وَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ قَدْ بَلَغَهُ بَعْضُ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا طَعْنٌ عَلَى بَعْضِهِمْ أَوْ طَعْنٌ عَلَى دِينِهِمْ ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ كَاذِبًا أَوْ مَا فَهِمَ التَّأْوِيلَ وَكَيْفَ صُورَةُ الْحَالِ . وَإِنْ كَانَ صَادِقًا عَنْ بَعْضِهِمْ بِنَوْعِ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ : فَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ؛ بَلْ الَّذِي يُوجَدُ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ الشَّرِّ أَقَلُّ مِمَّا فِي غَيْرِهِمْ بِكَثِيرِ وَاَلَّذِي فِيهِمْ مِنْ الْخَيْرِ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهِمْ . وَالْمَلِكُ وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْرِفُ أَنَّ أَكْثَرَ النَّصَارَى خَارِجُونَ عَنْ وَصَايَا الْمَسِيحِ وَالْحَوَارِيِّينَ وَرَسَائِلِ بُولِصَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقِدِّيسِينَ ؛ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَا مَعَهُمْ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْلُ الْخِنْزِيرِ وَتَعْظِيمُ الصَّلِيبِ وَنَوَامِيسُ مُبْتَدَعَةٌ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ يَسْتَحِلُّ بَعْضَ مَا حَرَّمَتْهُ الشَّرِيعَةُ النَّصْرَانِيَّةُ . هَذَا فِيمَا يُقِرُّونَ لَهُ . وَأَمَّا

مُخَالَفَتُهُمْ لِمَا لَا يُقِرُّونَ بِهِ فَكُلُّهُمْ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا عَنْ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يَنْزِلُ عِنْدَنَا بِالْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ فِي دِمَشْقَ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ مَلَكَيْنِ فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ إلَّا الْإِسْلَامَ وَيَقْتُلُ مَسِيحَ الضَّلَالَةِ الْأَعْوَرَ الدَّجَّالَ الَّذِي يَتْبَعُهُ الْيَهُودُ وَيُسَلِّطُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْيَهُودِ حَتَّى يَقُولَ الشَّجَرُ وَالْحَجَرُ : يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ . وَيَنْتَقِمُ اللَّهُ لِلْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ مَسِيحِ الْهُدَى مِنْ الْيَهُودِ مَا آذَوْهُ وَكَذَّبُوهُ لَمَّا بُعِثَ إلَيْهِمْ } . وَأَمَّا مَا عِنْدَنَا فِي أَمْرِ النَّصَارَى وَمَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ إدَالَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَتَسْلِيطِهِ عَلَيْهِمْ : فَهَذَا مِمَّا لَا أُخْبِرُ بِهِ الْمَلِكَ ؛ لِئَلَّا يَضِيقَ صَدْرُهُ ؛ وَلَكِنَّ الَّذِي أَنْصَحُهُ بِهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَسْلَفَ إلَى الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا وَمَالَ إلَيْهِمْ كَانَتْ عَاقِبَتُهُ مَعَهُمْ حَسَنَةً بِحَسَبِ مَا فَعَلَهُ مِنْ الْخَيْرِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } . وَاَلَّذِي أَخْتِمُ بِهِ الْكِتَابَ الْوَصِيَّةَ بِالشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْرَى وَالْمُسَاعَدَةِ لَهُمْ وَالرِّفْقِ بِمَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ تَغْيِيرِ دِينِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَسَوْفَ يَرَى الْمَلِكُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ . وَنَحْنُ نَجْزِي الْمَلِكَ عَلَى ذَلِكَ بِأَضْعَافِ مَا فِي نَفْسِهِ . وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي قَاصِدٌ لِلْمَلِكِ الْخَيِّرَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ وَشَرَعَ لَنَا أَنْ نُرِيدَ الْخَيْرَ لِكُلِّ

أَحَدٍ وَنَعْطِفْ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَنَدْعُوهُمْ إلَى اللَّهِ وَإِلَى دِينِهِ وَنَدْفَعُ عَنْهُمْ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُعِينَ الْمَلِكَ عَلَى مَصْلَحَتِهِ الَّتِي هِيَ عِنْدَ اللَّهِ الْمَصْلَحَةُ وَأَنْ يُخَيَّرُ لَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَيَخْتِمُ لَهُ بِخَاتِمَةِ خَيْرٍ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَوَاتُهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ . وَلَا سِيَّمَا مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
وَسُئِلَ :
هَلْ الْمَدِينَةُ مِنْ الشَّامِ ؟
فَأَجَابَ :
مَدِينَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحِجَازِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ أَنَّ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ مِنْ الشَّامِ وَإِنَّمَا يَقُولُ هَذَا جَاهِلٌ بِحَدِّ الشَّامِ وَالْحِجَازِ جَاهِلٌ بِمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ وَأَهْلُ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُمْ . وَلَكِنْ يُقَالُ الْمَدِينَةُ شَامِيَّةٌ وَمَكَّةُ يَمَانِيَةٌ : أَيْ الْمَدِينَةُ أَقْرَبُ إلَى الشَّامِ وَمَكَّةُ أَقْرَبُ إلَى الْيَمَنِ وَلَيْسَتْ مَكَّةُ مِنْ الْيَمَنِ وَلَا الْمَدِينَةُ مِنْ الشَّامِ . وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : أَنْ تَخْرُجَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ - وَهِيَ الْحِجَازُ - فَأَخْرَجَهُمْ عُمَرُ

بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ وَيَنْبُعَ وَالْيَمَامَةِ وَمَخَالِيفِ هَذِهِ الْبِلَادِ ؛ وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ مِنْ الشَّامِ ؛ بَلْ لَمَّا فَتَحَ الشَّامَ أَقَرَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ وَغَيْرِهِمَا كَمَا أَقَرَّهُمْ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا . وَتُرْبَةُ الشَّامِ تُخَالِفُ تُرْبَةَ الْحِجَازِ كَمَا يُوجَدُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْمُنْحَنَى الَّذِي يُسَمَّى عَقَبَةَ الصُّوَانِ . فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَجِدُ تِلْكَ التُّرْبَةَ مُخَالِفَةً لِهَذِهِ التُّرْبَةِ كَمَا تَخْتَلِفُ تُرْبَةُ الشَّامِ وَمِصْرَ . فَمَا كَانَ دُونَ وَادِي الْمُنْحَنَى فَهُوَ مِنْ الشَّامِ : مِثْلَ مَعَانٍ . وَأَمَّا الْعُلَى وَتَبُوكَ وَنَحْوُهُمَا : فَهُوَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ :
فِي الْكَنَائِسِ الَّتِي بِالْقَاهِرَةِ وَغَيْرِهَا الَّتِي أُغْلِقَتْ بِأَمْرِ وُلَاةِ الْأُمُورِ إذَا ادَّعَى أَهْلُ الذِّمَّةِ أَنَّهَا أُغْلِقَتْ ظُلْمًا وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ فَتْحَهَا وَطَلَبُوا ذَلِكَ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَنَصَرَهُ فَهَلْ تُقْبَلُ دَعْوَاهُمْ ؟ وَهَلْ تَجِبُ إجَابَتُهُمْ أَمْ لَا ؟ . وَإِذَا قَالُوا : إنَّ هَذِهِ الْكَنَائِسَ كَانَتْ قَدِيمَةً مِنْ زَمَنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ مِنْ خُلَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَأَنَّ إغْلَاقَهَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ . فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ مَقْبُولٌ مِنْهُمْ أَوْ مَرْدُودٌ ؟ . وَإِذَا ذَهَبَ أَهْلُ الذِّمَّةِ إلَى مَنْ يَقْدَمُ مِنْ بِلَادِ الْحَرْبِ مِنْ رَسُولٍ أَوْ غَيْرِهِ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَسْأَلَ وَلِيَّ الْأَمْرِ فِي فَتْحِهَا أَوْ كَاتَبُوا مُلُوكَ الْحَرْبِ لِيَطْلُبُوا ذَلِكَ مِنْ وَلِيِّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ . فَهَلْ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ : أَنَّهُمْ إنْ لَمْ يُجَابُوا إلَى ذَلِكَ حَصَلَ لِلْمُسْلِمِينَ ضَرَرٌ

إمَّا بِالْعُدْوَانِ عَلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ الْأَسْرَى وَالْمَسَاجِدِ وَإِمَّا بِقَطْعِ مَتَاجِرِهِمْ عَنْ دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَإِمَّا بِتَرْكِ مُعَاوَنَتِهِمْ لِوَلِيِّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا يَعْتَمِدُهُ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ ؟ بَيِّنُوا ذَلِكَ مَبْسُوطًا مَشْرُوحًا . وَإِذَا كَانَ فِي فَتْحِهَا تَغَيُّرُ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا ؛ وَحُصُولُ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ بَيْنَهُمْ وَتَغَيُّرُ قُلُوبِ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالدِّينِ وَعُمُومِ الْجُنْدِ وَالْمُسْلِمِينَ : عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ ؛ لِأَجْلِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ وَظُهُورِ عِزِّهِمْ وَفَرَحِهِمْ وَسُرُورِهِمْ بِمَا يُظْهِرُونَهُ وَقْتَ فَتْحِ الْكَنَائِسِ مِنْ الشُّمُوعِ وَالْجُمُوعِ وَالْأَفْرَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا فِيهِ تَغَيُّرُ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى إنَّهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَنْ تَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ وَأَعَانَ عَلَيْهِ . فَهَلْ لِأَحَدِ أَنْ يُشِيرَ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ بِذَلِكَ ؟ . وَمَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ هَلْ يَكُونُ نَاصِحًا لِوَلِيِّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ غَاشًّا ؟ . وَأَيُّ الطُّرُقِ هُوَ الْأَفْضَلُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا سَلَكَهُ نَصَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَعْدَائِهِ . بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ وَأَبْسِطُوهُ بَسْطًا شَافِيًا مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ الصَّحَابَةِ الْمُكَرَّمِينَ

وَعَنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ ظَلَمُوهُمْ فِي إغْلَاقِهَا فَهَذَا كَذِبٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبِعَةِ : مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ . كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ هَدَمَ كُلَّ كَنِيسَةٍ بِأَرْضِ الْعَنْوَةِ ؛ كَأَرْضِ مِصْرَ وَالسَّوَادِ بِالْعِرَاقِ وَبَرِّ الشَّامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مُجْتَهِدًا فِي ذَلِكَ وَمُتَّبِعًا فِي ذَلِكَ لِمَنْ يَرَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظُلْمًا مِنْهُ ؛ بَلْ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ وَمُسَاعَدَتُهُ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ يَرَى ذَلِكَ . وَإِنْ امْتَنَعُوا عَنْ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ كَانُوا نَاقِضِينَ الْعَهْدَ وَحَلَّتْ بِذَلِكَ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ هَذِهِ الْكَنَائِسَ قَائِمَةٌ مِنْ عَهْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ أَقَرُّوهُمْ عَلَيْهَا . فَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْكَذِبِ ؛ فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ الْقَاهِرَةَ بُنِيَتْ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ بُنِيَتْ بَعْدَ بَغْدَادَ وَبَعْدَ الْبَصْرَةِ ؛ وَالْكُوفَةِ وَوَاسِطَ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا بَنَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمَدَائِنِ لَمْ يَكُنْ

لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُحَدِّثُوا فِيهَا كَنِيسَةً ؛ مِثْلَ مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا وَأَبْقَوْا لَهُمْ كَنَائِسَهُمْ الْقَدِيمَةَ ؛ بَعْدَ أَنْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ فِيهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يُحْدِثُوا كَنِيسَةً فِي أَرْضِ الصُّلْحِ فَكَيْفَ فِي مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ إذَا كَانَ لَهُمْ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْعَنْوَةِ كَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَبَنَى الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةً عَلَيْهَا فَإِنَّ لَهُمْ أَخْذَ تِلْكَ الْكَنِيسَةِ ؛ لِئَلَّا تُتْرَكَ فِي مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ كَنِيسَةٌ بِغَيْرِ عَهْدٍ ؛ فَإِنَّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ بِأَرْضِ وَلَا جِزْيَةٌ عَلَى مُسْلِمٍ } . وَالْمَدِينَةُ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْقَرْيَةُ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ وَفِيهَا مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ شَعَائِرِ الْكُفْرِ ؛ لَا كَنَائِسَ ؛ وَلَا غَيْرَهَا ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَهْدٌ فَيُوَفَّى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ . فَلَوْ كَانَ بِأَرْضِ الْقَاهِرَةِ وَنَحْوِهَا كَنِيسَةٌ قَبْلَ بِنَائِهَا لَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَخْذُهَا ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ عَنْوَةٌ فَكَيْفَ وَهَذِهِ الْكَنَائِسُ مُحْدَثَةٌ أَحْدَثَهَا النَّصَارَى فَإِنَّ الْقَاهِرَةَ بَقِيَ وُلَاةُ أُمُورِهَا نَحْوَ مِائَتَيْ سَنَةٍ عَلَى غَيْرِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ؛ وَكَانُوا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ رَافِضَةٌ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ : إسْمَاعِيلِيَّةٌ ونصيرية وَقَرَامِطَةٌ بَاطِنِيَّةٌ كَمَا قَالَ فِيهِمْ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ : ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ . وَاتَّفَقَ طَوَائِفُ الْمُسْلِمِينَ : عُلَمَاؤُهُمْ وَمُلُوكُهُمْ وَعَامَّتُهُمْ مِنْ

الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ : عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا خَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ قِتَالَهُمْ كَانَ جَائِزًا ؛ بَلْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ نَسَبَهُمْ كَانَ بَاطِلًا وَأَنَّ جَدَّهُمْ كَانَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ لَمْ يَكُنْ مِنْ آلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَصَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ . وَشَهِدَ بِذَلِكَ مِثْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ القدوري إمَامِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الإسفرائيني إمَامِ الشَّافِعِيَّةِ وَمِثْلِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى إمَامِ الْحَنْبَلِيَّةِ وَمِثْلِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ إمَامِ الْمَالِكِيَّةِ . وَصَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الطَّيِّبِ فِيهِمْ كِتَابًا فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَسَمَّاهُ " كَشْفَ الْأَسْرَارِ وَهَتْكُ الْأَسْتَارِ " فِي مَذْهَبِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ . وَاَلَّذِينَ يُوجَدُونَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ الإسْماعيليَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَالدُّرْزِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ . وَهُمْ الَّذِينَ أَعَانُوا التَّتَارَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ وَزِيرُ هُولَاكُو " النَّصِيرَ الطوسي مِنْ أَئِمَّتِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَمُلُوكِهِمْ ثُمَّ الرَّافِضَةُ بَعْدَهُمْ . فَالرَّافِضَةُ يُوَالُونَ مَنْ حَارَبَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةَ وَيُوَالُونَ التَّتَارَ وَيُوَالُونَ النَّصَارَى . وَقَدْ كَانَ بِالسَّاحِلِ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَبَيْنَ الفرنج مُهَادَنَةٌ حَتَّى صَارَتْ الرَّافِضَةُ تَحْمِلُ إلَى قُبْرُصَ خَيْلَ الْمُسْلِمِينَ وَسِلَاحَهُمْ وَغِلْمَانَ السُّلْطَانِ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْجُنْدِ وَالصِّبْيَانِ . وَإِذَا انْتَصَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى التَّتَارِ أَقَامُوا الْمَآتِمَ وَالْحُزْنَ وَإِذَا انْتَصَرَ التَّتَارُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَقَامُوا

الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ . وَهُمْ الَّذِينَ أَشَارُوا عَلَى التَّتَارِ بِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ وَقَتْلِ أَهْلِ بَغْدَادَ . وَوَزِيرِ بَغْدَادَ ابْنِ العلقمي الرَّافِضِي هُوَ الَّذِي خَامَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَاتَبَ التَّتَارَ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ أَرْضَ الْعِرَاقِ بِالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَنَهَى النَّاسَ عَنْ قِتَالِهِمْ . وَقَدْ عَرَفَ الْعَارِفُونَ بِالْإِسْلَامِ : أَنَّ الرَّافِضَةَ تَمِيلُ مَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ . وَلَمَّا كَانُوا مُلُوكَ الْقَاهِرَةِ كَانَ وَزِيرُهُمْ مَرَّةً يَهُودِيًّا وَمَرَّةً نَصْرَانِيًّا أَرْمِينِيًّا وَقَوِيَتْ النَّصَارَى بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّصْرَانِيِّ الْأَرْمِينِيِّ وَبَنَوْا كَنَائِسَ كَثِيرَةً بِأَرْضِ مِصْرَ فِي دَوْلَةِ أُولَئِكَ الرَّافِضَةِ الْمُنَافِقِينَ وَكَانُوا يُنَادُونَ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ : مَنْ لَعَنَ وَسَبَّ فَلَهُ دِينَارٌ وَإِرْدَبٌّ . وَفِي أَيَّامِهِمْ أَخَذَتْ النَّصَارَى سَاحِلَ الشَّامِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى فَتَحَهُ نُورُ الدِّينِ وَصَلَاحُ الدِّينِ . وَفِي أَيَّامِهِمْ جَاءَتْ الفرنج إلَى بلبيس وَغَلَبُوا مِنْ الفرنج ؛ فَإِنَّهُمْ مُنَافِقُونَ وَأَعَانَهُمْ النَّصَارَى وَاَللَّهُ لَا يَنْصُرُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ يُوَالُونَ النَّصَارَى فَبَعَثُوا إلَى نُورِ الدِّينِ يَطْلُبُونَ النَّجْدَةَ فَأَمَدَّهُمْ بِأَسَدِ الدِّينِ وَابْنِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ . فَلَمَّا جَاءَتْ الْغُزَاةُ الْمُجَاهِدُونَ إلَى دِيَارِ مِصْرَ قَامَتْ الرَّافِضَةُ مَعَ النَّصَارَى فَطَلَبُوا قِتَالَ الْغُزَاةِ الْمُجَاهِدِينَ الْمُسْلِمِينَ وَجَرَتْ فُصُولٌ يَعْرِفُهَا النَّاسُ حَتَّى قَتَلَ صَلَاحُ الدِّينِ مُقَدِّمَهُمْ شَاوَرَ . وَمِنْ حِينَئِذٍ ظَهَرَتْ بِهَذِهِ الْبِلَادِ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ وَصَارَ يُقْرَأُ فِيهَا أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْبُخَارِيِّ

وَمُسْلِمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَيُذْكَرُ فِيهَا مَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ وَيَتَرَضَّى فِيهَا عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ؛ وَإِلَّا كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ . فِيهِمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَرْصُدُونَهَا وَفِيهِمْ قَوْمٌ زَنَادِقَةٌ دَهْرِيَّةٌ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ وَلَا يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَخَيْرُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ الرَّافِضَةُ وَالرَّافِضَةُ شَرُّ الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ . فَبِهَذَا السَّبَبِ وَأَمْثَالِهِ كَانَ إحْدَاثُ الْكَنَائِسِ فِي الْقَاهِرَةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ كَانَ فِي بَرِّ مِصْرَ كَنَائِسُ قَدِيمَةٌ ؛ لَكِنْ تِلْكَ الْكَنَائِسِ أَقَرَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا حِينَ فَتَحُوا الْبِلَادَ ؛ لِأَنَّ الْفَلَّاحِينَ كَانُوا كُلُّهُمْ نَصَارَى وَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْجُنْدُ خَاصَّةً وَأَقَرُّوهُمْ كَمَا أَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ عَلَى خَيْبَرَ لَمَّا فَتَحَهَا ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا فَلَّاحِينَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ مُشْتَغِلِينَ بِالْجِهَادِ . ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَاسْتَغْنَوْا عَنْ الْيَهُودِ أَجْلَاهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ خَيْبَرَ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { أَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي خَيْبَرَ يَهُودِيٌّ . وَهَكَذَا الْقَرْيَةُ الَّتِي يَكُونُ أَهْلُهَا نَصَارَى وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مُسْلِمُونَ وَلَا مَسْجِدٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا أَقَرَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كَنَائِسِهِمْ الَّتِي فِيهَا جَازَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ : وَأَمَّا إذَا سَكَنَهَا الْمُسْلِمُونَ

وَبَنَوْا بِهَا مَسَاجِدَهُمْ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ بِأَرْضِ } وَفِي أَثَرٍ آخَرَ : { لَا يَجْتَمِعُ بَيْتُ رَحْمَةٍ وَبَيْتُ عَذَابٍ } . وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ كَثُرُوا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَعَمُرَتْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى صَارَ أَهْلُهَا بِقَدْرِ مَا كَانُوا فِي زَمَنِ صَلَاحِ الدِّينِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَصَلَاحِ الدِّينِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ مَا كَانُوا يُوَالُونَ النَّصَارَى وَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَعْمِلُونَ مِنْهُمْ أَحَدًا فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا ؛ وَلِهَذَا كَانُوا مُؤَيِّدِينَ مَنْصُورِينَ عَلَى الْأَعْدَاءِ مَعَ قِلَّةِ الْمَالِ وَالْعَدَدِ ؛ وَإِنَّمَا قَوِيَتْ شَوْكَةُ النَّصَارَى وَالتَّتَارِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَادِلِ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ حَتَّى إنَّ بَعْضَ الْمُلُوكِ أَعْطَاهُمْ بَعْضَ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ وَحَدَثَ حَوَادِثُ بِسَبَبِ التَّفْرِيطِ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } . فَكَانَ وُلَاةُ الْأُمُورِ الَّذِينَ يَهْدِمُونَ كَنَائِسَهُمْ وَيُقِيمُونَ أَمْرَ اللَّهِ فِيهِمْ كَعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهَارُونَ الرَّشِيدِ وَنَحْوِهِمَا : مُؤَيِّدِينَ مَنْصُورِينَ . وَكَانَ الَّذِينَ هُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ مَغْلُوبِينَ مَقْهُورِينَ . وَإِنَّمَا كَثُرَتْ الْفِتَنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَفَرَّقُوا عَلَى مُلُوكِهِمْ مِنْ حِينِ دَخَلَ

النَّصَارَى مَعَ وُلَاةِ الْأُمُورِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ؛ فِي دَوْلَةِ الْمُعِزِّ وَوِزَارَةِ الْفَائِزِ وَتَفَرُّقِ الْبَحْرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } { إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } . وَكُلُّ مَنْ عَرَفَ سَيْرَ النَّاسِ وَمُلُوكَهُمْ رَأَى كُلَّ مَنْ كَانَ أَنْصَرَ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَأَعْظَمَ جِهَادًا لِأَعْدَائِهِ وَأَقْوَمَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ : أَعْظَمَ نُصْرَةً وَطَاعَةً وَحُرْمَةً : مِنْ عَهْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِلَى الْآنَ . وَقَدْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ كَنَائِسَ كَثِيرَةً مِنْ أَرْضِ الْعَنْوَةِ بَعْدَ أَنْ أَقَرُّوا عَلَيْهَا فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَلَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ . فَعُلِمَ أَنَّ هَدْمَ كَنَائِسِ الْعَنْوَةِ جَائِزٌ ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . فَإِعْرَاضُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ كَانَ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ كَمَا أَعْرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إجْلَاءِ الْيَهُودِ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُكَاتِبُوا أَهْلَ دِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَا يُخْبِرُوهُمْ بِشَيْءِ مِنْ أَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَطْلُبُ مِنْ رَسُولِهِمْ أَنْ يُكَلِّفَ وَلِيَّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَجَبَتْ عُقُوبَتُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ قَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَحَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ . وَمَنْ قَالَ إنَّ الْمُسْلِمِينَ يَحْصُلُ لَهُمْ ضَرَرٌ إنْ لَمْ يُجَابُوا إلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ فَتَحُوا سَاحِلَ الشَّامِ وَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ الْمَصَائِبِ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَلْزَمُوهُمْ بِلَبْسِ الْغِيَارِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عَلَيْهِمْ ؛ بَلْ التَّتَارُ فِي بِلَادِهِمْ خَرَّبُوا جَمِيعَ كَنَائِسِهِمْ وَكَانَ نَوْرُوزُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَلْزَمُوهُمْ بِلَبْسِ الْغِيَارِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ . . . فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عَلَيْهِمْ وَمَعَ هَذَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ إلَّا كُلُّ خَيْرٍ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَغْنُونَ عَنْهُمْ وَهُمْ إلَى مَا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أَحْوَجُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَا فِي بِلَادِهِمْ ؛ بَلْ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ لَا تَقُومُ إلَّا بِمَا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمُونَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ أَغْنِيَاءُ عَنْهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ . فَأَمَّا نَصَارَى الْأَنْدَلُسِ فَهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِمْ وَإِنَّمَا يَتْرُكُونَهُمْ خَوْفًا مِنْ التَّتَارِ . فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ التَّتَارِ أَعَزُّ مِنْ النَّصَارَى وَأَكْرَمُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ

قَادِرُونَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَالْمُسْلِمُونَ أَقْدَرُ عَلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ النَّصَارَى . وَالنَّصَارَى الَّذِينَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ مِنْ البتاركة وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى وَرُهْبَانِهِمْ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ أُولَئِكَ النَّصَارَى وَلَيْسَ عِنْدَ النَّصَارَى مُسْلِمٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ مَعَ أَنَّ فِكَاكَ الْأَسَارَى مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ وَبَذْلَ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَكُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَتَّجِرُونَ إلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا لِأَغْرَاضِهِمْ ؛ لَا لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ مَنَعَهُمْ مُلُوكُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ حِرْصُهُمْ عَلَى الْمَالِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الطَّاعَةِ فَإِنَّهُمْ أَرْغَبُ النَّاسِ فِي الْمَالِ وَلِهَذَا يَتَقَامَرُونَ فِي الْكَنَائِسِ . وَهُمْ طَوَائِفُ مُخْتَلِفُونَ وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَضَادُّ الْأُخْرَى . وَلَا يُشِيرُ عَلَى وَلِيِّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا فِيهِ إظْهَارُ شَعَائِرِهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ تَقْوِيَةُ أَمْرِهِمْ - بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ - إلَّا رَجُلٌ مُنَافِقٌ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَهُوَ مِنْهُمْ فِي الْبَاطِنِ أَوْ رَجُلٌ لَهُ غَرَضٌ فَاسِدٌ مِثْلَ أَنْ يَكُونُوا بَرْطَلُوهُ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ بِرَغْبَةِ أَوْ رَهْبَةٍ أَوْ رَجُلٌ جَاهِلٌ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ لَا يَعْرِفُ السِّيَاسَةَ الشَّرْعِيَّةَ الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي تَنْصُرُ سُلْطَانَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ الدِّينِ ؛ وَإِلَّا فَمَنْ كَانَ عَارِفًا نَاصِحًا لَهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ نَصْرَهُ وَثَبَاتَهُ وَتَأْيِيدَهُ وَاجْتِمَاعَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَمَحَبَّتَهُمْ لَهُ وَدُعَاءَ النَّاسِ لَهُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا . وَهَذَا كُلُّهُ

إنَّمَا يَكُونُ بِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ وَإِظْهَارِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَإِذْلَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى . وَلْيَعْتَبِرْ الْمُعْتَبِرُ بِسِيرَةِ نُورِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الدِّينِ ثُمَّ الْعَادِلِ ؛ كَيْفَ مَكَّنَهُمْ اللَّهُ وَأَيَّدَهُمْ وَفَتَحَ لَهُمْ الْبِلَادَ وَأَذَلَّ لَهُمْ الْأَعْدَاءَ ؛ لَمَّا قَامُوا مِنْ ذَلِكَ بِمَا قَامُوا بِهِ . وَلْيَعْتَبِرْ بِسِيرَةِ مَنْ وَالَى النَّصَارَى كَيْفَ أَذَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَبَتَهُ . وَلَيْسَ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجِينَ إلَيْهِمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . فَقَدْ كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ : " إنَّ بِالشَّامِ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا لَا يَقُومُ خَرَاجُ الشَّامِ إلَّا بِهِ " فَكَتَبَ إلَيْهِ : " لَا تَسْتَعْمِلْهُ " . فَكَتَبَ : " إنَّهُ لَا غِنَى بِنَا عَنْهُ " فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ " لَا تَسْتَعْمِلْهُ " فَكَتَبَ إلَيْهِ " إذَا لَمْ نُوَلِّهْ ضَاعَ الْمَالُ " فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ " . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُشْرِكًا لَحِقَهُ لِيُقَاتِلَ مَعَهُ فَقَالَ لَهُ : إنِّي لَا أَسْتَعِينُ بِمُشْرِكِ } وَكَمَا أَنَّ اسْتِخْدَامَ الْجُنْدِ الْمُجَاهِدِينَ إنَّمَا يَصْلُحُ إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ : فَكَذَلِكَ الَّذِينَ يُعَاوِنُونَ الْجُنْدَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ إنَّمَا تَصْلُحُ بِهِمْ أَحْوَالُهُمْ إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ وَفِي الْمُسْلِمِينَ كِفَايَةٌ فِي جَمِيعِ مَصَالِحِهِمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . وَدَخَلَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَرَضَ عَلَيْهِ حِسَابَ الْعِرَاقِ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَقَالَ : " اُدْعُ كَاتِبَك يَقْرَؤُهُ عَلَيَّ " فَقَالَ : " إنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ " قَالَ : " وَلِمَ ؟ " قَالَ : " لِأَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ " فَضَرَبَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالدِّرَّةِ فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ ثُمَّ قَالَ : لَا تُعِزُّوهُمْ بَعْدَ أَنْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ وَلَا تَأْمَنُوهُمْ بَعْدَ أَنْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ وَلَا تُصَدِّقُوهُمْ بَعْدَ أَنْ أَكْذَبَهُمْ اللَّهُ . وَالْمُسْلِمُونَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا قُلُوبُهُمْ وَاحِدَةٌ مُوَالِيَةٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مُعَادِيَةٌ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَعْدَاءِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَقُلُوبُهُمْ الصَّادِقَةُ وَأَدْعِيَتُهُمْ الصَّالِحَةُ هِيَ الْعَسْكَرُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ وَالْجُنْدُ الَّذِي لَا يُخْذَلُ فَإِنَّهُمْ هُمْ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } { هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ

وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } . وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْعَزِيزَةُ فِيهَا عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهَا بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَنْ كَانَ لَهُ عِزٌّ وَمَنَعَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَقْوَامٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُمْ ضَعْفُ يَقِينٍ وَإِيمَانٍ وَفِيهِمْ مُنَافِقُونَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ : مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ وَأَمْثَالِهِ وَكَانُوا يَخَافُونَ أَنْ تَكُونَ لِلْكُفَّارِ دَوْلَةٌ فَكَانُوا يُوَالُونَهُمْ ويباطنونهم . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أَيْ نِفَاقٌ وَضَعْفُ إيمَانٍ { يُسَارِعُونَ فِيهِمْ }

أَيْ فِي مُعَاوَنَتِهِمْ { يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا } أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُوَالُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ { عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ } . فَقَدْ عَرَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُنَافِقِينَ يُكَاتِبُونَ أَهْلَ دِينِهِمْ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَبِمَا يَطَّلِعُونَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَسْرَارِهِمْ حَتَّى أُخِذَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِ التَّتَارِ وَسَبْي وَغَيْرُ ذَلِكَ ؛ بِمُطَالَعَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَهْلِ دِينِهِمْ . وَمِنْ الْأَبْيَاتِ الْمَشْهُورَةِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ :
كُلُّ الْعَدَاوَاتِ تُرْجَى مَوَدَّتُهَا * * * إلَّا عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاك فِي الدِّينِ
وَلِهَذَا وَغَيْرِهِ مُنِعُوا أَنْ يَكُونُوا عَلَى وِلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَى مَصْلَحَةِ مَنْ يُقَوِّيهِمْ أَوْ يَفْضُلُ عَلَيْهِمْ فِي الْخِبْرَةِ وَالْأَمَانَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ اسْتِعْمَالُ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ فِي الْكِفَايَةِ أَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَالْقَلِيلُ مِنْ الْحَلَالِ يُبَارَكُ فِيهِ وَالْحَرَامُ الْكَثِيرُ يَذْهَبُ وَيَمْحَقُهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .

وَسُئِلَ :
عَنْ نَصْرَانِيٍّ قِسِّيسٍ بِجَانِبِ دَارِهِ سَاحَةٌ بِهَا كَنِيسَةٌ خَرَابٌ لَا سَقْفَ لَهَا وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَقْتَ خَرَابِهَا . فَاشْتَرَى الْقِسِّيسُ السَّاحَةَ وَعَمَّرَهَا وَأَدْخَلَ الْكَنِيسَةَ فِي الْعِمَارَةِ وَأَصْلَحَ حِيطَانَهَا وَعَمَّرَهَا وَبَقِيَ يَجْمَعُ النَّصَارَى فِيهَا وَأَظْهَرُوا شِعَارَهُمْ وَطَلَبَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ فَتَقَوَّى وَاعْتَضَدَ بِبَعْضِ الْأَعْرَابِ وَأَظْهَرَ الشَّرَّ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْكَنِيسَةِ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ آثَارُ كَنِيسَةٍ قَدِيمَةٍ بِبَرِّ الشَّامِ فَإِنَّ بَرَّ الشَّامِ فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً وَمَلَكُوا تِلْكَ الْكَنَائِسَ ؛ وَجَازَ لَهُمْ تَخْرِيبُهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ تَخْرِيبِهَا . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُعَاوِنَهُ عَلَى إحْدَاثِ ذَلِكَ وَيَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ أَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا الْمُحْدِثُ لِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ وَيُبَاحُ دَمُهُ وَمَالُهُ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ الشُّرُوطَ الَّتِي شَرَطَهَا عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَشَرَطُوا عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنْ نَقَضَهَا فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ مِنْهَا مَا يُبَاحُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قَدْ قِيلَ : إنَّهَا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَتَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ لَمَّا بَعَثَهُ عَامِلًا عَلَى نَجْرَانَ وَكِتَابُ عَمْرٍو فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالدِّيَاتُ وَالسُّنَنُ الْوَاجِبَةُ بِالشَّرْعِ . وَقَوْلُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا مُبَايَعَتُهُ لِلْأَنْصَارِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاثَقَهُمْ عَلَى مَا هُوَ وَاجِبٌ بِأَمْرِ اللَّهِ مِنْ السَّمْعِ لَهُ وَالطَّاعَةِ وَذَكَّرَهُمْ اللَّهُ ذَلِكَ الْمِيثَاقَ لِيُوفُوا بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ إلَّا مَا كَانَ وَاجِبًا بِأَمْرِ اللَّهِ . وَهَذِهِ الْآيَةُ أَمَرَهُمْ فِيهَا بِذِكْرِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَذِكْرِ مِيثَاقِهِ . فَذَكَرَ سَبَبَيْ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ الثَّابِتَ بِالشَّرْعِ ثَابِتٌ بِإِيجَابِ الرُّبُوبِيَّةِ وَهِيَ إنْعَامُهُ عَلَيْهِمْ ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ } . وَلِهَذَا كَانَ عَادَةُ الْمُصَنِّفِينَ فِي " أُصُولِ الدِّينِ " أَوَّلَ مَا يَذْكُرُونَ أَوَّلَ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَأَوَّلَ مَا وَجَبَ عَلَى عِبَادِهِ وَيَذْكُرُونَ

" مَسْأَلَةَ وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ " هَلْ وَجَبَ مَعَ الشَّرْعِ بِالْعَقْلِ أَمْ لَا وَلِهَذَا كَانَتْ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ تَذْكِيرُ الْعِبَادِ بِآلَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي شُكْرُهُمْ لَهُ وَهُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتُ الشَّرْعِيَّةِ . وَقَوْلُهُ : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } الْآيَةَ . إلَى قَوْلِهِ : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } وَالْمِيثَاقُ عَلَى مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ مِنْ إقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَتَعْزِيرِهِمْ . وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ بِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَأَقْسَى قُلُوبِهِمْ ؛ لَا بِمُجَرَّدِ الْمَعْصِيَةِ لِلْأَمْرِ فَكَانَ فِي هَذَا أَنَّ عُقُوبَةَ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ الْمُوَثَّقَةِ بِالْعُهُودِ مِنْ جِهَةِ النَّقْضِ أَوْكَدُ . وَقَوْلُهُ : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } وَالْأَمْرُ فِيهِمْ كَذَلِكَ . وقَوْله تَعَالَى { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } { فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } فَإِنَّ كَوْنَهُ فِي الصَّالِحِينَ

وَاجِبٌ وَالصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ وَاجِبَةٌ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا هِيَ الْمَنْذُورَةُ . وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ يَجِبُ بِالنَّذْرِ مَا كَانَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ فَإِذَا تَرَكَهُ عُوقِبَ لِإِخْلَافِ الْوَعْدِ الَّذِي هُوَ النَّذْرُ فَإِنَّ النَّذْرَ وَعْدٌ مُؤَكَّدٌ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ الْعَرَبِ وَهَذِهِ الْآيَةُ تُسَمَّى النَّذْرَ وَعْدًا . وَقَوْلُهُ : { لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِي مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } وَرَدُّهُ إلَى أَبِيهِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ بِلَا مَوْثِقٍ . وَمِنْ الْحَرْبِ الْمُبَاحَةِ دَفْعُ الظَّالِمِ عَنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ الْمَعْصُومَةِ . وَإِنَّمَا جَاءَتْ الرُّخْصَةُ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ خَاصَّةً لِأَنَّ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ مَبْنَاهُمَا عَلَى تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ وَتَنْفِيرِهَا فَإِذَا تَأَلَّفَتْ فَهِيَ الْمُسَالَمَةُ وَإِذَا تَنَافَرَتْ فَهِيَ الْمُحَارَبَةُ وَالتَّأْلِيفُ وَالتَّنْفِيرُ يَحْصُلُ بِالتَّوَهُّمَاتِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحَقَائِقِ ؛ وَلِهَذَا يُؤْثَرُ قَوْلُ الشِّعْرِ فِي التَّأْلِيفِ وَالتَّنْفِيرِ بِحَيْثُ يُحَرِّكُ النُّفُوسَ شَهْوَةً وَنُفْرَةً تَحْرِيكًا عَظِيمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ مُنْطَبِقًا عَلَى الْحَقِّ ؛ لَكِنْ لِأَجْلِ تَخْيِيلٍ أَوْ تَمْثِيلٍ . فَلَمَّا كَانَتْ الْمُسَالَمَةُ وَالْمُحَارَبَةُ الشَّرْعِيَّةُ يَقُومُ فِيهَا التَّوَهُّم لِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ مُقَامَ تَوَهُّمِ مَا لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَعَارِضِ إلَّا الْإِيهَامُ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَالنَّاطِقُ لَمْ يَعْنِ إلَّا الْحَقَّ صَارَ ذَلِكَ حَقًّا وَصِدْقًا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ وَمُوهِمًا لِلْمُسْتَمِعِ تَوَهُّمًا يُؤَلِّفُهُ تَأْلِيفًا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ يُنَفِّرُهُ تَنْفِيرًا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِمَنْزِلَةِ تَأْلِيفِهِ وَتَنْفِيرِهِ بِالْأَشْعَارِ الَّتِي فِيهَا تَخْيِيلٌ وَتَمْثِيلٌ وَبِمَنْزِلَةِ

الْحِكَايَاتِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ . فَإِنَّ الْأَمْثَالَ الْمَنْظُومَةَ وَالْمَنْثُورَةَ إذَا كَانَتْ حَقًّا مُطَابِقًا فَهِيَ مِنْ الشِّعْرِ الَّذِي هُوَ حِكْمَةٌ وَإِنْ كَانَ فِيهَا تَشْبِيهَاتٌ شَدِيدَةٌ وَتَخْيِيلَاتٌ عَظِيمَةٌ أَفَادَتْ تَأْلِيفًا وَتَنْفِيرًا .
وَقَالَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
فِي شُرُوطِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّتِي شَرَطَهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وشارطهم بِمَحْضَرِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي ؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } لِأَنَّ هَذَا صَارَ إجْمَاعًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ عَلَى مَا نَقَلُوهُ وَفَهِمُوهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مَرْوِيَّةٌ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَصَرَةٍ وَمَبْسُوطَةٍ . مِنْهَا مَا رَوَاهُ

سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عتبة قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ كِتَابًا وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ فِيهِ : أَنْ لَا يُحْدِثُوا فِي مُدُنِهِمْ وَلَا مَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا صَوْمَعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا قلاية لِرَاهِبِ وَلَا يُجَدِّدُوا مَا خُرِّبَ وَلَا يَمْنَعُوا كَنَائِسَهُمْ أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَ لَيَالٍ يُطْعِمُونَهُمْ وَلَا يَأْوُوا جَاسُوسًا وَلَا يَكْتُمُوا غِشَّ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُعَلِّمُوا أَوْلَادَهُمْ الْقُرْآنَ وَلَا يُظْهِرُوا شِرْكًا وَلَا يَمْنَعُوا ذَوِي قَرَابَتِهِمْ مِنْ الْإِسْلَامِ إنْ أَرَادُوهُ وَأَنْ يُوَقِّرُوا الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَقُومُوا لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِهِمْ إذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ : مِنْ قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْقِ شِعْرٍ وَلَا يَتَكَنَّوْا بِكُنَاهُمْ وَلَا يَرْكَبُوا سُرُجًا وَلَا يَتَقَلَّدُوا سَيْفًا وَلَا يَتَّخِذُوا شَيْئًا مِنْ سِلَاحِهِمْ وَلَا يَنْقُشُوا خَوَاتِيمَهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَبِيعُوا الْخُمُورَ وَأَنْ يَجُزُّوا مقادم رُءُوسِهِمْ وَأَنْ يَلْزَمُوا زِيَّهُمْ حَيْثُ مَا كَانُوا وَأَنْ يَشُدُّوا الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ وَلَا يُظْهِرُوا صَلِيبًا وَلَا شَيْئًا مِنْ كُتُبِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُجَاوِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَاهُمْ وَلَا يَضْرِبُوا بِالنَّاقُوسِ إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا وَلَا يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِقِرَاءَتِهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ فِي شَيْءٍ فِي حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَخْرُجُوا شَعَانِينَ وَلَا يَرْفَعُوا مَعَ مَوْتَاهُمْ أَصْوَاتَهُمْ وَلَا يُظْهِرُوا النِّيرَانَ مَعَهُمْ وَلَا يَشْتَرُوا مِنْ الرَّقِيقِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ خَالَفُوا شَيْئًا مِمَّا اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَقَدْ حَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ

مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ . وَأَمَّا مَا يَرْوِيهِ بَعْضُ الْعَامَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَقَدْ آذَانِي " فَهَذَا كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَكَيْفَ ذَلِكَ وَأَذَاهُمْ قَدْ يَكُونُ بِحَقِّ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ حَقٍّ بَلْ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } فَكَيْفَ يُحَرِّمُ أَذَى الْكُفَّارِ مُطْلَقًا ؟ وَأَيُّ ذَنْبٍ أَعْظَمَ مِنْ الْكُفْرِ ؟ . وَلَكِنْ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ العرباض بْنِ سَارِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا بِإِذْنِ وَلَا ضَرْبَ أَبِشَارِّهِمْ وَلَا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ إذَا أَعْطَوْكُمْ الَّذِي عَلَيْهِمْ } وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : أَذِلُّوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ . وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آبَائِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ حَقَّهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ . فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظبيان عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : قَالَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ وَلَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ بِأَرْضِ } . وَهَذِهِ الشُّرُوطُ قَدْ ذَكَرَهَا أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعَةِ وَغَيْرِهَا فِي كُتُبِهِمْ وَاعْتَمَدُوهَا ؛ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُلْزِمَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِالتَّمَيُّزِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَشُعُورِهِمْ وَكُنَاهُمْ وَرُكُوبِهِمْ : بِأَنْ يَلْبِسُوا أَثْوَابًا تُخَالِفُ ثِيَابَ الْمُسْلِمِينَ : كَالْعَسَلِيِّ وَالْأَزْرَقِ وَالْأَصْفَرِ وَالْأَدْكَنِ وَيَشُدُّوا الْخِرَقَ فِي قَلَانِسِهِمْ وَعَمَائِمِهِمْ وَالزَّنَانِيرِ فَوْقَ ثِيَابِهِمْ . وَقَدْ أَطْلَقَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ بِاللَّبْسِ وَشَدِّ الزَّنَانِيرِ جَمِيعًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذَا يَجِبُ إذَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِرَاطُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا حَيْثُ قَالَ : وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ فِي قَلَنْسُوَةٍ وَلَا غَيْرِهَا : مِنْ عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ . إلَى أَنْ قَالَ : وَيُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ حَيْثُ مَا كَانُوا وَيَشُدُّوا الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ . وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مَا زَالَ يُجَدِّدُهَا عَلَيْهِمْ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا جَدَّدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي خِلَافَتِهِ وَبَالَغَ فِي اتِّبَاعِ سُنَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

حَيْثُ كَانَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَالْقِيَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَيَّزَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَجَدَّدَهَا هَارُونُ الرَّشِيدُ وَجَعْفَرٌ الْمُتَوَكِّلُ وَغَيْرُهُمَا وَأَمَرُوا بِهَدْمِ الْكَنَائِسِ الَّتِي يَنْبَغِي هَدْمُهَا كَالْكَنَائِسِ الَّتِي بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ كُلِّهَا فَفِي وُجُوبِ هَدْمِهَا قَوْلَانِ : وَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ هَدْمِ مَا كَانَ بِأَرْضِ الْعَنْوَةِ إذَا فُتِحَتْ . وَلَوْ أَقَرَّتْ بِأَيْدِيهِمْ لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ الْوَطَنِ كَمَا أَقَرَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كَنَائِسَ بِالشَّامِ وَمِصْرَ ثُمَّ ظَهَرَتْ شَعَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَعْدُ بِتِلْكَ الْبِقَاعِ بِحَيْثُ بُنِيَتْ فِيهَا الْمَسَاجِدُ : فَلَا يَجْتَمِعُ شَعَائِرُ الْكُفْرِ مَعَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَجْتَمِعُ قِبْلَتَانِ بِأَرْضِ } وَلِهَذَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنْ لَا يُظْهِرُوا شَعَائِرَ دِينِهِمْ . وَأَيْضًا فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَرْضَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُحْبَسَ عَلَى الدِّيَارَاتِ وَالصَّوَامِعِ وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا بَلْ لَوْ وَقَفَهَا ذِمِّيٌّ وَتَحَاكَمَ إلَيْنَا لَمْ نَحْكُمْ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ . فَكَيْفَ بِحَبْسِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَعَابِدِ الْكُفَّارِ الَّتِي يُشْرَكُ فِيهَا بِالرَّحْمَنِ وَيُسَبُّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهَا أَقْبَحَ سَبٍّ . وَكَانَ مِنْ سَبَبِ إحْدَاثِ هَذِهِ الْكَنَائِسِ وَهَذِهِ الْأَحْبَاسِ عَلَيْهَا

شَيْئَانِ . " أَحَدُهُمَا " : أَنَّ بَنِي عُبَيْدٍ الْقَدَّاحَ - الَّذِينَ كَانَ ظَاهِرُهُمْ الرَّفْضَ وَبَاطِنُهُمْ النِّفَاقَ - يستوزرون تَارَةً يَهُودِيًّا وَتَارَةً نَصْرَانِيًّا وَاجْتَلَبَ ذَلِكَ النَّصْرَانِيُّ خَلْقًا كَثِيرًا وَبَنَى كَنَائِسَ كَثِيرَةً . " وَالثَّانِي " : اسْتِيلَاءُ الْكُتَّابِ مِنْ النَّصَارَى عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَيُدَلِّسُونَ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا يَشَاءُونَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
تَعْلَمُونَ أَنَّا بِحَمْدِ اللَّهِ فِي نِعَمٍ عَظِيمَةٍ وَمِنَنٍ جَسِيمَةٍ وَآلَاءٍ مُتَكَاثِرَةٍ وَأَيَادٍ مُتَظَاهِرَةٍ . لَمْ تَكُنْ تَخْطُرُ لِأَكْثَرِ الْخَلْقِ بِبَالِ وَلَا تَدُورُ لَهُمْ فِي خَيَالٍ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى . إلَى أَنْ قَالَ : وَالْحَقُّ دَائِمًا فِي انْتِصَارٍ وَعُلُوٍّ وَازْدِيَادٍ وَالْبَاطِلُ فِي انْخِفَاضٍ وَسَفَالٍ وَنَفَادٍ . وَقَدْ أَخْضَعَ اللَّهُ رِقَابَ الْخُصُومِ وَأَذَلَّهُمْ غَايَةَ الذُّلِّ وَطَلَبَ أَكَابِرُهُمْ مِنْ السِّلْمِ وَالِانْقِيَادِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ . وَنَحْنُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - قَدْ اشْتَرَطْنَا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ مَا فِيهِ عِزُّ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةُ وَانْقِمَاعُ الْبَاطِلِ وَالْبِدْعَةِ وَقَدْ دَخَلُوا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَامْتَنَعْنَا حَتَّى يَظْهَرُوا ذَلِكَ إلَى الْفِعْلِ . فَلَمْ نَثِقْ لَهُمْ بِقَوْلِ

وَلَا عَهْدٍ وَلَمْ نُجِبْهُمْ إلَى مَطْلُوبِهِمْ . حَتَّى يَصِيرَ الْمَشْرُوطُ مَعْمُولًا وَالْمَذْكُورُ مَفْعُولًا وَيَظْهَرُ مِنْ عِزِّ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مَا يَكُونُ مِنْ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو سَيِّئَاتِهِمْ . وَقَدْ أَمَدَّ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي فِيهَا عِزُّ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ وَقَمَعَ الْكُفْرَ وَالْبِدْعَةَ : بِأُمُورِ يَطُولُ وَصْفُهَا فِي كِتَابٍ . وَكَذَلِكَ جَرَى مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ عِزُّ الْإِسْلَامِ وَقَمَعَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدْ اسْتَطَالُوا وَحَصَلَتْ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَأَعَانَهُمْ مَنْ أَعَانَهُمْ عَلَى أَمْرٍ فِيهِ ذُلٌّ كَبِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَلَطَفَ اللَّهُ بِاسْتِعْمَالِنَا فِي بَعْضِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَجَرَى فِي ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ عِزُّ الْمُسْلِمِينَ . وَتَأْلِيفُ قُلُوبِهِمْ وَقِيَامُهُمْ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَذَلَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ مِمَّا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ . وَوَصْفُ هَذَا يَطُولُ . وَقَدْ أَرْسَلْت إلَيْكُمْ كِتَابًا أَطْلُبُ مَا صَنَّفْته فِي أَمْرِ الْكَنَائِسِ وَهِيَ كَرَارِيسُ بِخَطِّي قِطَعُ النِّصْفِ الْبَلَدِيِّ . فَتُرْسِلُونَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَسْتَعِينُونَ عَلَى ذَلِكَ بِالشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ المزي فَإِنَّهُ يُقَلِّبُ الْكُتُبَ وَيُخْرِجُ الْمَطْلُوبَ . وَتُرْسِلُونَ أَيْضًا مِنْ تَعْلِيقِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى الَّذِي بِخَطِّ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ إنْ أَمْكَنَ الْجَمِيعُ وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ مُجَلَّدًا وَإِلَّا فَمَنْ أَوَّلُهُ مُجَلَّدًا أَوْ مُجَلَّدَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً . وَذَكَرَ كُتُبًا يَطْلُبُهَا مِنْهُمْ .

مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ : (*)
فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أُلْزِمُوا بِلِبَاسِ غَيْرِ لِبَاسِهِمْ الْمُعْتَادِ وَزِيٍّ غَيْرِ زِيِّهِمْ الْمَأْلُوفِ وَذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ أَلْزَمَهُمْ بِتَغْيِيرِ عَمَائِمِهِمْ وَأَنْ تَكُونَ خِلَافَ عَمَائِمِ الْمُسْلِمِينَ فَحَصَلَ بِذَلِكَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فِي الطَّرَقَاتِ وَالْفَلَوَاتِ وَتَجَرَّأَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِهِ السُّفَهَاءُ وَالرَّعَاعُ وَآذَوْهُمْ غَايَةَ الْأَذَى وَطَمِعَ بِذَلِكَ فِي إهَانَتِهِمْ وَالتَّعَدِّي عَلَيْهِمْ . فَهَلْ يَسُوغُ لِلْإِمَامِ رَدُّهُمْ إلَى زِيِّهِمْ الْأَوَّلِ وَإِعَادَتِهِمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مَعَ حُصُولِ التَّمْيِيزِ بِعَلَامَةِ يُعْرَفُونَ بِهَا ؟ وَهَلْ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ أَمْ لَا ؟ .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ :
فَأَجَابَهُمْ مِنْ مَنْعِ التَّوْفِيقِ وَصَدٍّ عَنْ الطَّرِيقِ بِجَوَازِ ذَلِكَ وَأَنَّ لِلْإِمَامِ إعَادَتَهُمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ . قَالَ شَيْخُنَا : فَجَاءَتْنِي الْفَتْوَى . فَقُلْت : لَا تَجُوزُ إعَادَتُهُمْ وَيَجِبُ إبْقَاؤُهُمْ عَلَى الزِّيِّ الَّذِي يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ . فَذَهَبُوا ثُمَّ غَيَّرُوا الْفُتْيَا ثُمَّ جَاءُوا بِهَا فِي قَالَبٍ آخَرَ فَقُلْت : لَا تَجُوزُ إعَادَتُهُمْ . فَذَهَبُوا ثُمَّ أَتَوْا بِهَا فِي قَالِبٍ آخَرَ فَقُلْت : هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُعَيَّنَةُ وَإِنْ خَرَجَتْ فِي عِدَّةِ قَوَالِبَ . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : ثُمَّ ذَهَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إلَى السُّلْطَانِ وَتَكَلَّمَ عِنْدَهُ بِكَلَامِ عَجِبَ مِنْهُ الْحَاضِرُونَ فَأَطْبَقَ الْقَوْمُ عَلَى إبْقَائِهِمْ . وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ يُشَارِكُونَ النَّاسَ فِي غَالِبِ الدُّنْيَا : فَيَتَّجِرُونَ وَيَتَّخِذُونَ الْمَزَارِعَ وَأَبْرَاجَ الْحَمَامِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَّخِذُهَا سَائِرُ النَّاسِ فِيمَا هُمْ فِيهِ الْآنَ . وَإِنَّمَا تَرَهَّبَ أَحَدُهُمْ فِي اللِّبَاسِ وَتَرَكَ النِّكَاحَ وَأَكَلَ اللَّحْمَ وَالتَّعَبُّدَ بِالنَّجَاسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَدْ صَارَ مَنْ يُرِيدُ إسْقَاطَ الْجِزْيَةِ مِنْ النَّصَارَى يَتَرَهَّبُ هَذَا التَّرَهُّبَ لِسُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَنْهُ وَيَأْخُذُونَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمَحْبُوسَةِ وَالْمَنْذُورَةِ مَا يَأْخُذُونَ . فَهَلْ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ إسْكَانُهُمْ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ رَفْعِ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الرُّهْبَانُ الَّذِينَ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَتْلِهِمْ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ : هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ عَنْ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا بَعَثَهُ أَمِيرًا عَلَى فَتْحِ الشَّامِ فَقَالَ لَهُ فِي وَصِيَّتِهِ : وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا قَدْ

حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ فَذَرُوهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا قَدْ فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ فَاضْرِبُوا مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } . وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ هَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ مُنْقَطِعُونَ عَنْ النَّاسِ مَحْبُوسُونَ فِي الصَّوَامِعِ يُسَمَّى أَحَدُهُمْ حَبِيسًا لَا يُعَاوِنُونَ أَهْلَ دِينِهِمْ عَلَى أَمْرٍ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا وَلَا يُخَالِطُونَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ ؛ وَلَكِنْ يَكْتَفِي أَحَدُهُمْ بِقَدْرِ مَا يَتَبَلَّغُ بِهِ . فَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَتْلِهِمْ كَتَنَازُعِهِمْ فِي قَتْلِ مَنْ لَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ لَا بِيَدِهِ وَلَا لِسَانِهِ ؛ كَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَنَحْوِهِ ؛ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . فَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : لَا يُقْتَلُ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ الْمُعَاوِنِينَ لَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِلَّا كَانَ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ مُجَرَّدُ الْكُفْرِ هُوَ الْمُبِيحُ لِلْقَتْلِ وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَمْوَالٌ . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي أَخْذُ الْجِزْيَةِ . وَأَمَّا الرَّاهِبُ الَّذِي يُعَاوِنُ أَهْلَ دِينِهِ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ رَأْيٌ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ فِي الْقِتَالِ أَوْ نَوْعٍ مِنْ التَّحْضِيضِ : فَهَذَا يُقْتَلُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَإِنْ كَانَ حَبِيسًا مُنْفَرِدًا فِي مُتَعَبَّدِهِ . فَكَيْفَ بِمَنْ هُمْ كَسَائِرِ النَّصَارَى فِي مَعَايِشِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ النَّاسَ وَاكْتِسَابِ الْأَمْوَالِ بِالتِّجَارَاتِ وَالزِّرَاعَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ ؛

وَاِتِّخَاذِ الدِّيَارَاتِ الْجَامِعَاتِ لِغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا تَمَيَّزُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِمَا يُغَلِّظُ كُفْرَهُمْ وَيَجْعَلُهُمْ أَئِمَّةً فِي الْكُفْرِ مِثْلَ التَّعَبُّدِ بِالنَّجَاسَاتِ وَتَرْكِ النِّكَاحِ وَاللَّحْمِ وَاللِّبَاسِ الَّذِي هُوَ شِعَارُ الْكُفْرِ لَا سِيَّمَا وَهُمْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ دِينَ النَّصَارَى بِمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي صَنَّفَ الْفُضَلَاءُ فِيهَا مُصَنَّفَاتٍ وَمِنْ الْعِبَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَقَبُولِ نُذُورِهِمْ وَأَوْقَافِهِمْ . وَالرَّاهِبُ عِنْدَهُمْ شَرْطُهُ تَرْكُ النِّكَاحِ فَقَطْ وَهُمْ مَعَ هَذَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَكُونَ بتركا وبطرقا وَقِسِّيسًا وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ الَّذِينَ يُصْدِرُونَ عَنْ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ ؛ وَلَهُمْ أَنْ يَكْتَسِبُوا الْأَمْوَالَ كَمَا لِغَيْرِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ . فَهَؤُلَاءِ لَا يَتَنَازَعُ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّهُمْ مِنْ أَحَقِّ النَّصَارَى بِالْقَتْلِ عِنْدَ الْمُحَارَبَةِ وَبِأَخْذِ الْجِزْيَةِ عِنْدَ الْمُسَالَمَةِ وَأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا قَالَ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } . وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ قَالَ : { إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . فَهَلْ يَقُولُ عَالِمٌ : إنَّ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَوَامَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ

اللَّهِ وَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَرْضَوْنَ بِأَنْ يَتَّخِذُوا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ : لَا يُقَاتَلُونَ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ ؛ مَعَ كَوْنِهَا تُؤْخَذُ مِنْ الْعَامَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَقَلُّ مِنْهُمْ ضَرَرًا فِي الدِّينِ وَأَقَلُّ أَمْوَالًا . لَا يَقُولُهُ مَنْ يَدْرِي مَا يَقُولُ . وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ لِمَا فِي لَفْظِ الرَّاهِبِ مِنْ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِرَاكِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَثَرَ الْوَارِدَ مُقَيَّدٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ يُبَيِّنُ الْمَرْفُوعَ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ هُوَ مَا بَيَّنَّاهُ . فَهَؤُلَاءِ الْمَوْصُوفُونَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ بِلَا رَيْبٍ وَلَا نِزَاعٍ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَنْتَزِعُ مِنْهُمْ وَلَا يَحِلُّ أَنْ يُتْرَكَ شَيْءٌ مِنْ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي فَتَحُوهَا عَنْوَةً وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهَا ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ : مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعَةِ : مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : أَنَّ أَرْضَ مِصْرَ كَانَتْ خراجية وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ؛ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنَعَتْ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا وَمَنَعَتْ الشَّامُ مُدَّهَا وَدِينَارَهَا وَمَنَعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّهَا وَدِرْهَمَهَا وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ } لَكِنْ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا كَثُرُوا نَقَلُوا أَرْضَ السَّوَادِ فِي أَوَائِلِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ مِنْ الْمُخَارَجَةِ إلَى الْمُقَاسَمَةِ وَلِذَلِكَ نَقَلُوا مِصْرَ إلَى أَنْ اسْتَغَلُّوهَا هُمْ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ الْيَوْمَ وَلِذَلِكَ رُفِعَ عَنْهَا الْخَرَاجُ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تُجْعَلَ حَبْسًا عَلَى

مِثْلِ هَؤُلَاءِ يَسْتَغِلُّونَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ . فَعُلِمَ أَنَّ انْتِزَاعَ هَذِهِ الْأَرْضِينَ مِنْهُمْ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنَّمَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا بِكَثْرَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ فِي الدَّوْلَةِ الرافضية وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ وَبِسَبَبِ كَثْرَةِ الْكُتَّابِ وَالدَّوَاوِينِ مِنْهُمْ وَمِنْ الْمُنَافِقِينَ : يَتَصَرَّفُونَ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِمِثْلِ هَذَا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ عَمَلِ الدَّوَاوِينِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ . وَلِهَذَا يُوجَدُ لِمَعَابِدِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مِنْ الْأَحْبَاسِ مَا لَا يُوجَدُ لِمَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَمَسَاكِنِهِمْ : لِلْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ ؛ مَعَ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ خراجية بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ وَمَنْ لَبِسُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ وُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِذَا عَرَفَ وُلَاةُ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ الْحَالَ عَمِلُوا فِي ذَلِكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ مَعَهُ كِتَابٌ يَدَّعِي أَنَّهُ خَطُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَمْتَنِعُ بِهِ عَنْ الْجِزْيَةِ وَلَهُ مُدَّةٌ لَمْ يُعْطَهَا .
فَأَجَابَ :
كَلُّ كِتَابٍ تَدَّعِيهِ الْيَهُودُ بِإِسْقَاطِ الْجِزْيَةِ مِنْ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ كَذِبٌ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ مَعَ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ الْمَاضِيَةُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إذَا اتَّخَذُوا خُمُورًا . هَلْ يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ إرَاقَتُهَا عَلَيْهِمْ وَكَسْرُ أَوَانِيهِمْ وَهَجْمُ بُيُوتِهِمْ لِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ هَجْمُ بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ إذَا عُلِمَ أَوْ ظُنَّ أَنَّ بِهَا خَمْرًا ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِتُرَاقَ وَتُكْسَرَ الْأَوَانِي وَيُتَجَسَّسَ عَلَى مَوَاضِعِهِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى الْفَاعِلِ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ إذَا كَانَ مَأْمُورًا مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ بِذَلِكَ ؟ أَمْ يَكُونُ مَعْذُورًا بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ دُونَ الْإِكْرَاهِ ؟ . وَإِذَا

خَشِيَ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وُقُوعُ مَحْذُورٍ بِهِ فَهَلْ يَكُونُ عُذْرًا لَهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَقَرُّوا عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ فِي دِينِهِمْ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا الْمُسْلِمَ خَمْرًا وَلَا يَهْدُونَهَا إلَيْهِ وَلَا يُعَاوِنُوهُ عَلَيْهَا بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْصِرُوهَا لِمُسْلِمِ وَلَا يَحْمِلُوهَا لَهُ وَلَا يَبِيعُوهَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا ذِمِّيٍّ . وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا هُوَ مَشْرُوطٌ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ وَمَتَى فَعَلُوا ذَلِكَ اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ الَّتِي تُرْدِعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ ذَلِكَ . وَهَلْ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ وَتُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِجَاهِ أَحَدٍ مِمَّنْ يَخْدِمُونَهُ أَوْ مِمَّنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مِنْهُمْ . أَوْ غَيْرِهِمَا عَلَى إظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ ؛ بَلْ كَمَا تَجِبُ عُقُوبَتُهُمْ تَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ يُعِينُهُمْ بِجَاهِهِ أَوْ غَيْرِ جَاهِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ . وَإِذَا شَرِبَ الذِّمِّيُّ الْخَمْرَ . فَهَلْ يُحَدُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ . قِيلَ : يُحَدُّ . وَقِيلَ : لَا يُحَدُّ . وَقِيلَ يُحَدُّ إنْ سَكِرَ . وَهَذَا إذَا أَظْهَرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا مَا يَخْتَفُونَ بِهِ فِي بُيُوتِهِمْ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالْمُسْلِمِينَ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ . وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانُوا لَا يَنْتَهُونَ عَنْ إظْهَارِ الْخَمْرِ أَوْ مُعَاوَنَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا أَوْ بَيْعِهَا وَهَدْيِهَا لِلْمُسْلِمِينَ إلَّا بِإِرَاقَتِهَا

عَلَيْهِمْ فَإِنَّهَا تُرَاقُ عَلَيْهِمْ ؛ مَعَ مَا يُعَاقَبُونَ بِهِ ؛ إمَّا بِمَا يُعَاقَبُ بِهِ نَاقِضُ الْعَهْدِ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْيَهُودِ بِمِصْرِ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَثُرَ مِنْهُمْ بَيْعُ الْخَمْرِ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَبِيعُوهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَمَتَى فَعَلُوا ذَلِكَ حَلَّ مِنْهُمْ مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ . فَمَاذَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْعُقُوبَةِ ؟ وَهَلْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ الْأَمْوَالَ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، يَسْتَحِقُّونَ عَلَى ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تُرْدِعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَيَنْتَقِضُ بِذَلِكَ عَهْدُهُمْ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَإِذَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ وَحَلَّ مِنْهُمْ مَا يَحِلُّ مِنْ الْمُحَارِبِينَ الْكُفَّارِ وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ الَّتِي قَبَضُوهَا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا يَرُدُّهَا إلَى مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ الْخَمْرَ فَإِنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَمْنُوعِينَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا وَبَيْعِهَا فَاشْتَرَوْهَا كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَبِيعُ الْخَمْرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ بَاعَ خَمْرًا لَمْ يَمْلِكْ ثَمَنَهُ . فَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَخَذَ الْخَمْرَ فَشَرِبَهَا لَمْ

يُجْمَعْ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ ؛ بَلْ يُؤْخَذُ هَذَا الْمَالُ فَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قِيلَ فِي مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ عِوَضٌ عَنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ إذَا كَانَ الْعَاصِي قَدْ اسْتَوْفَى الْعِوَضَ . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاع ذِمِّيٌّ لِذِمِّيِّ خَمْرًا سِرًّا فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا تَقَابَضَا جَازَ أَنْ يُعَامِلَهُ الْمُسْلِمُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا مِنْهُمْ أَثْمَانَهَا ؛ بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخَرِّبَ الْمَكَانَ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ كَالْحَانُوتِ وَالدَّارِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَيْثُ أَخْرَبَ حَانُوتَ رُوَيْشِدٍ الثَّقَفِيِّ وَقَالَ : إنَّمَا أَنْتَ فُوَيْسِقٌ لَسْت بِرُوَيْشِدِ وَكَمَا أَحْرَقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَرْيَةً كَانَ يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ .

وَسُئِلَ :
عَنْ يَهُودِيٍّ قَالَ : هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ الْكِلَابُ أَبْنَاءُ الْكِلَابِ يَتَعَصَّبُونَ عَلَيْنَا وَكَانَ قَدْ خَاصَمَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ .
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
إذَا كَانَ أَرَادَ بِشَتْمِهِ طَائِفَةً مُعَيَّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَأَمَّا إنْ ظَهَرَ مِنْهُ قَصْدُ الْعُمُومِ فَإِنَّهُ يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ وَيَجِبُ قَتْلُهُ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ

الْجُزْءُ الْتَاسِعُ وَالْعِشْرُونَ
كِتَابُ الفِقْهِ
الْجُزْءُ التَاسِعُ : البَيْعُ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَأَمَّا الْعُقُودُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ والْنِكَاحِيَة وَغَيْرِهَا فَنَذْكُرُ فِيهَا قَوَاعِدَ جَامِعَةً عَظِيمَةَ الْمَنْفَعَةِ ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي الْعِبَادَاتِ . فَمِنْ ذَلِكَ " صِفَةُ الْعُقُودِ " فَالْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِالصِّيغَةِ وَهِيَ الْعِبَارَاتُ الَّتِي قَدْ يَخُصُّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِاسْمِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْهِبَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْعِتْقُ وَالْوَقْفُ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد - يَكُونُ تَارَةً رِوَايَةً مَنْصُوصَةً فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ ، كَالْبَيْعِ وَالْوَقْفِ وَيَكُونُ تَارَةً رِوَايَةً مُخَرَّجَةً ، كَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ يُقِيمُونَ الْإِشَارَةَ مَقَامَ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهَا كَمَا فِي إشَارَةِ الْأَخْرَسِ وَيُقِيمُونَ أَيْضًا الْكِتَابَةَ فِي مَقَامِ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ

وَقَدْ يَسْتَثْنُونَ مَوَاضِعَ دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى جَوَازِهَا إذَا مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا كَمَا فِي الْهَدْيِ إذَا عَطَبَ دُونَ مَحَلِّهِ فَإِنَّهُ يُنْحَرُ ثُمَّ يُضَمَّخُ نَعْلُهُ الْمُعَلَّقُ فِي عُنُقِهِ بِدَمِهِ عَلَامَةً لِلنَّاسِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ مَلَكَهُ وَكَذَلِكَ الْهَدِيَّةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . لَكِنْ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ هُوَ اللَّفْظُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ هُوَ التَّرَاضِي الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَقَوْلُهُ : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا } وَالْمَعَانِي الَّتِي فِي النَّفْسِ لَا تَنْضَبِطُ إلَّا بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي قَدْ جُعِلَتْ لِإِبَانَةِ مَا فِي الْقَلْبِ إذْ الْأَفْعَالُ مِنْ الْمُعَاطَاةِ وَنَحْوِهَا تَحْتَمِلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً ؛ وَلِأَنَّ الْعُقُودَ مِنْ جِنْسِ الْأَقْوَالِ فَهِيَ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ . الْقَوْلُ الثَّانِي : إنَّهَا تَصِحُّ بِالْأَفْعَالِ فِيمَا كَثُرَ عَقْدُهُ بِالْأَفْعَالِ كَالْمَبِيعَاتِ بِالْمُعَاطَاةِ وَكَالْوَقْفِ فِي مِثْلِ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ أَوْ سَبَّلَ أَرْضًا لِلدَّفْنِ فِيهَا أَوْ بَنَى مَطْهَرَةً وَسَبَّلَهَا لِلنَّاسِ وَكَبَعْضِ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ : كَمَنْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى غَسَّالٍ أَوْ خَيَّاطٍ يَعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ أَوْ رَكِبَ سَفِينَةَ مَلَّاحٍ وَكَالْهَدِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَوْ لَمْ تَنْعَقِدْ بِالْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا لَفَسَدَتْ أُمُورُ النَّاسِ ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى يَوْمِنَا مَا زَالُوا يَتَعَاقَدُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِلَا لَفْظٍ ؛ بَلْ بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى الْمَقْصُودِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أُصُولِ

أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِخِلَافِ الْمُعَاطَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الْجَلِيلَةِ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَلَمْ يَجْرِ بِهِ الْعُرْفُ . الْقَوْلُ الثَّالِثُ : إنَّهَا تَنْعَقِدُ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ، فَكُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا وَإِجَارَةً فَهُوَ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ ؛ وَإِنْ اخْتَلَفَ اصْطِلَاحُ النَّاسِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَفْعَالِ انْعَقَدَ الْعَقْدُ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ بِمَا يَفْهَمُونَهُ بَيْنَهُمْ مِنْ الصِّيَغِ وَالْأَفْعَالِ وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُسْتَمِرٌّ ؛ لَا فِي شَرْعٍ وَلَا فِي لُغَةٍ . بَلْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ اصْطِلَاحِ النَّاسِ كَمَا تَتَنَوَّعُ لُغَاتُهُمْ . فَإِنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَيْسَ هُوَ اللَّفْظَ الَّذِي فِي لُغَةِ الْفُرْسِ أَوْ الرُّومِ أَوْ التُّرْكِ أَوْ الْبَرْبَرِ أَوْ الْحَبَشَةِ ؛ بَلْ قَدْ تَخْتَلِفُ أَنْوَاعُ اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ الْتِزَامُ نَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ التَّعَاقُدُ بِغَيْرِ مَا يَتَعَاقَدُ بِهِ غَيْرُهُمْ ؛ إذَا كَانَ مَا تَعَاقَدُوا بِهِ دَالًّا عَلَى مَقْصُودِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسْتَحَبُّ بَعْضُ الصِّفَاتِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أُصُولِ مَالِكٍ ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَلِهَذَا يَصِحُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ بَيْعُ الْمُعَاطَاةِ مُطْلَقًا ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ

وُجِدَ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْفِعْلُ مِنْ الْآخَرِ ؛ بِأَنْ يَقُولَ : خُذْ هَذَا لِلَّهِ فَيَأْخُذَهُ . أَوْ يَقُولَ : أَعْطِنِي خُبْزًا بِدِرْهَمٍ فَيُعْطِيَهُ . أَوْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظٌ مِنْ أَحَدِهِمَا ؛ بِأَنْ يَضَعَ الثَّمَنَ وَيَقْبِضَ جِرْزَةَ الْبَقْلِ أَوْ الْحَلْوَاءَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . كَمَا يَتَعَامَلُ بِهِ غَالِبُ النَّاسِ ، أَوْ يَضَعُ الْمَتَاعَ لِيُوضَعَ لَهُ بَدَلُهُ فَإِذَا وَضَعَ الْبَدَلَ الَّذِي يَرْضَى بِهِ أَخَذَهُ كَمَا يَجْلُبُهُ التُّجَّارُ عَلَى عَادَةِ بَعْضِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ . فَكُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ ، وَكَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ مِثْلُ الْهَدِيَّةِ ، وَمِثْلُ تَجْهِيزِ الزَّوْجَةِ بِمَالٍ يُحْمَلُ مَعَهَا إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِأَنَّهُ عَطِيَّةٌ لَا عَارِيَةٌ . وَكَذَلِكَ الْإِجَارَاتُ : مِثْلُ رُكُوبِ سَفِينَةِ الْمَلَّاحِ الْمُكَارِي وَرُكُوبِ دَابَّةِ الْجَمَّالِ ؛ أَوْ الْحَمَّارِ أَوْ الْبَغَّالِ الْمُكَارِي عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ أَنَّهُ إجَارَةٌ وَمِثْلُ الدُّخُولِ إلَى حَمَّامِ الحمامي : يَدْخُلُهَا النَّاسُ بِالْأُجْرَةِ وَمِثْلُ دَفْعِ الثَّوْبِ إلَى غَسَّالٍ أَوْ خَيَّاطٍ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ أَوْ دَفْعِ الطَّعَامِ إلَى طَبَّاخٍ أَوْ شَوَّاءٍ يَطْبُخُ أَوْ يَشْوِي لِلْآخَرِ سَوَاءٌ شَوَى اللَّحْمَ مَشْرُوحًا أَوْ غَيْرَ مَشْرُوحٍ . حَتَّى اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ هَلْ يَقَعُ الْخُلْعُ بِالْمُعَاطَاةِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ اخْلَعْنِي بِهَذِهِ الْأَلْفِ أَوْ بِهَذَا الثَّوْبِ فَيَقْبِضُ الْعِوَضَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ أَنَّهُ رَضِيَ مِنْهُ بِالْمُعَاوَضَةِ فَذَهَبَ العكبريون : كَأَبِي حَفْصٍ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ شِهَابٍ إلَى أَنَّ ذَلِكَ خُلْعٌ صَحِيحٌ وَذَكَرُوا مِنْ كَلَامِ أَحْمَد وَمِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ

مِنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ ، وَلَعَلَّهُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى نُصُوصِهِ ؛ بَلْ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ ، وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ بِالْكِتَابِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } قَالَ : وَإِذَا كَتَبَ فَقَدْ عَمِلَ . وَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ الَّذِينَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ : أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إلَّا بِالْكَلَامِ وَذَكَرُوا مِنْ كَلَامِ أَحْمَد مَا اعْتَمَدُوهُ فِي ذَلِكَ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ فَسْخُ النِّكَاحِ وَالنِّكَاحُ يَفْتَقِرُ إلَى لَفْظٍ ، فَكَذَلِكَ فَسْخُهُ . وَأَمَّا النِّكَاحُ : فَقَالَ هَؤُلَاءِ كَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ مِثْلَ أَبِي الْخَطَّابِ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ : إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ وَالشَّهَادَةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى النِّيَّةِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ . وَمَنَعُوا مِنْ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ أَوْ الْعَطِيَّةِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ . وَقَالَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ - كَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي والمتأخرين - إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ يُحْسِنُهَا فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَعَلُّمِهَا انْعَقَدَ بِمَعْنَاهَا الْخَاصِّ بِكُلِّ لِسَانٍ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَعَلُّمِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛

بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ وَأَنَّ فِيهِ شَوْبَ التَّعَبُّدِ . وَهَذَا - مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْصُوصًا عَنْ أَحْمَد - فَهُوَ مُخَالِفٌ لِأُصُولِهِ وَلَمْ يَنُصَّ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ وَلَا نَقَلُوا عَنْهُ نَصًّا فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَقَلُوا قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ : إذَا وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِرَجُلٍ فَلَيْسَ بِنِكَاحِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } وَهَذَا إنَّمَا هُوَ نَصٌّ عَلَى مَنْعِ مَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ مَهْرٍ ؛ بَلْ قَدْ نَصَّ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ لِأَمَتِهِ : أَعْتَقْتُك وَجَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك . وَبِقَوْلِهِ : جَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك أَوْ صَدَاقَك عِتْقَك ذَكَرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ جَوَابَاتِهِ . فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَأَمَّا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ : فَطَرَدَ قِيَاسَهُ وَقَالَ : لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَقُولَ : تَزَوَّجْتهَا أَوْ نَكَحْتهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ قَطُّ بِالْعَرَبِيَّةِ إلَّا بِهَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ . وَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ : فَجَعَلُوا هَذِهِ الصُّورَةَ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْقِيَاسِ الَّذِي وَافَقُوا عَلَيْهِ ابْنَ حَامِدٍ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِحْسَانِ . وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ قَوْلًا فِي الْمَذْهَبِ : أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ؛ لِنَصِّ أَحْمَد بِهَذَا . وَهَذَا أَشْبَهُ بِنُصُوصِ أَحْمَد وَأُصُولِهِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِمَذْهَبِهِ . فَإِنَّ أَصْحَابَ مَالِكٍ اخْتَلَفُوا : هَلْ يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ؟ عَلَى

قَوْلَيْنِ . وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ مَنْعُ مَا اخْتَصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هِبَةِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ مَهْرٍ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَإِنْ وَهَبَ ابْنَتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ إنْكَاحَهَا فَلَا أَحْفَظُهُ عَنْ مَالِكٍ . فَهُوَ عِنْدِي جَائِزٌ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد مِنْ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ بَعِيدٌ عَنْ أُصُولِهِمَا ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ كِنَايَةٌ وَأَنَّ الْكِنَايَةَ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ ، وَمَذْهَبُهُمَا الْمَشْهُورُ : أَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ فِي الْكِنَايَاتِ تَجْعَلُهَا صَرِيحَةً وَتَقُومُ مَقَامَ إظْهَارِ النِّيَّةِ ؛ وَلِهَذَا جَعَلَا الْكِنَايَاتِ فِي الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِهِمَا مَعَ دَلَالَةِ الْحَالِ كَالصَّرِيحِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَلَالَاتِ الْأَحْوَالِ فِي النِّكَاحِ مَعْرُوفَةٌ : مِنْ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِذَلِكَ وَالتَّحَدُّثِ بِمَا اجْتَمَعُوا لَهُ فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : مَلَّكْتُكهَا لَك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ . عَلِمَ الْحَاضِرُونَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِنْكَاحُ . وَقَدْ شَاعَ هَذَا اللَّفْظُ فِي عُرْفِ النَّاسِ حَتَّى سَمَّوْا عَقْدَهُ : إمْلَاكًا وَمَلَاكًا ، وَلِهَذَا رَوَى النَّاسُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَاطِبِ الْوَاهِبَةِ - الَّذِي الْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ - رَوَوْهُ تَارَةً : " { أَنْكَحْتُكهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } وَتَارَةً : " مَلَّكْتُكهَا " وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى " مَلَّكْتُكهَا " ؛ بَلْ إمَّا أَنَّهُ قَالَهُمَا جَمِيعًا أَوْ قَالَ أَحَدَهُمَا ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ اللَّفْظَانِ عِنْدَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ سَوَاءً

رَوَوْا الْحَدِيثَ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا . ثُمَّ تَعْيِينُ اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنْ أُصُولِ أَحْمَد وَنُصُوصِهِ وَعَنْ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ إذْ النِّكَاحُ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قُرْبَةً فَإِنَّمَا هُوَ كَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ لَفْظٌ ؛ لَا عَرَبِيٌّ وَلَا عَجَمِيٌّ . وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْوَقْفُ وَالْهِبَةُ لَا يَتَعَيَّنُ لَهَا لَفْظٌ عَرَبِيٌّ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ الْعَجَمِيُّ إذَا تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ فِي الْحَالِ قَدْ لَا يَفْهَمُ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ كَمَا يَفْهَمُهُ مِنْ اللُّغَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا . نَعَمْ لَوْ قِيلَ : تُكْرَهُ الْعُقُودُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَمَا يُكْرَهُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ : لَكَانَ مُتَوَجِّهًا كَمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ اعْتِيَادِ الْمُخَاطَبَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ . وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُ أَحْمَد ؛ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ والمتأخرين : أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي نِكَاحِ الْكُفَّارِ إلَى عَادَتِهِمْ . فَمَا اعْتَقَدُوهُ نِكَاحًا بَيْنَهُمْ جَازَ إقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ إذَا أَسْلَمُوا وَتَحَاكَمُوا إلَيْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مُشْتَمِلًا عَلَى مَانِعٍ وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَجُزْ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ حَتَّى قَالُوا : لَوْ قَهَرَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيَّةً فَوَطِئَهَا

أَوْ طَاوَعَتْهُ وَاعْتَقَدَاهُ نِكَاحًا أُقِرَّا عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَوْنَ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِ الْعَقْدِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْلِمُ دُونَ الْكَافِرِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْمُسْلِمُ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ فِي النِّكَاحِ بِأَنْ يُمَيَّزَ عَنْ السِّفَاحِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } وَقَالَ : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } فَأَمَرَ بِالْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي تَمْيِيزِهِ عَنْ السِّفَاحِ وَصِيَانَةً لِلنِّسَاءِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْبَغَايَا حَتَّى شَرَعَ فِيهِ الضَّرْبَ بِالدُّفِّ وَالْوَلِيمَةَ الْمُوجِبَةَ لِشُهْرَتِهِ ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : " { الْمَرْأَةُ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا } فَإِنَّ الْبَغِيَّ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا وَأَمَرَ فِيهِ بِالْإِشْهَادِ أَوْ بِالْإِعْلَانِ أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا : ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِشْهَادِ عَلَّلَهُ بِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْإِعْلَانُ الْمُمَيِّزُ لَهُ عَنْ السِّفَاحِ وَبِأَنَّهُ يَحْفَظُ النَّسَبَ عِنْدَ التجاحد . فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ حِكْمَتُهَا بَيِّنَةٌ . فَأَمَّا الْتِزَامُ لَفْظٍ مَخْصُوصٍ فَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا نَظَرٌ . وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْجَامِعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ أَنَّ الْعُقُودَ تَصِحُّ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا أُصُولُ الشَّرِيعَةِ ، وَهِيَ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْقُلُوبُ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ :

{ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } وَقَالَ : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وَقَالَ : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَقَالَ : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } وَقَالَ : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَقَالَ : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَقَالَ : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } - إلَى قَوْلِهِ - { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } وَقَالَ : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } وَقَالَ : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } وَقَالَ : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } . وَقَالَ : { إنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ } . وَقَالَ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } . وَقَالَ : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } . وَقَالَ : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا هَذِهِ الْعُقُودُ : إمَّا أَمْرًا وَإِمَّا إبَاحَةً وَالْمَنْهِيُّ فِيهَا عَنْ بَعْضِهَا كَالرِّبَا ؛ فَإِنَّ الدَّلَالَةَ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ اكْتَفَى بِالتَّرَاضِي فِي الْبَيْعِ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَبِطِيبِ النَّفْسِ فِي التَّبَرُّعِ فِي قَوْلِهِ { فَإِنْ طِبْنَ

لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } فَتِلْكَ الْآيَةُ فِي جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي جِنْسِ التَّبَرُّعَاتِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ لَفْظًا مُعَيَّنًا وَلَا فِعْلًا مُعَيَّنًا يَدُلُّ عَلَى التَّرَاضِي وَعَلَى طِيبِ النَّفْسِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ التَّرَاضِيَ وَطِيبَ النَّفْسِ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ . وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ فِي غَالِبِ مَا يَعْتَادُ مِنْ الْعُقُودِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي بَعْضِهَا وَإِذَا وُجِدَ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِمَا بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ . وَبَعْضُ النَّاسِ قَدْ يَحْمِلُهُ اللَّدَدُ فِي نَصْرِهِ لِقَوْلِ مُعَيَّنٍ عَلَى أَنْ يَجْحَدَ مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِنْ التَّرَاضِي وَطِيبِ النَّفْسِ ، فَلَا عِبْرَةَ بِجَحْدِ مِثْلِ هَذَا ؛ فَإِنَّ جَحْدَ الضَّرُورِيَّاتِ قَدْ يَقَعُ كَثِيرًا عَنْ مُوَاطَأَةٍ وَتَلْقِينٍ فِي الْأَخْبَارِ وَالْمَذَاهِبِ ، فَالْعِبْرَةُ بِالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي لَمْ يُعَارِضْهَا مَا يُغَيِّرُهَا ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ يَحْصُلُ بِهَا الْعِلْمُ حَيْثُ لَا تَوَاطُؤَ عَلَى الْكَذِبِ ؛ لِأَنَّ الْفِطَرَ السَّلِيمَةَ لَا تَتَّفِقُ عَلَى الْكَذِبِ . فَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ وَالِاتِّفَاقِ فَقَدْ يَتَّفِقُ جَمَاعَاتٌ عَلَى الْكَذِبِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ جَاءَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُعَلَّقًا بِهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَكُلُّ اسْمٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَدٍّ ، فَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ . وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِالشَّرْعِ كَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ وَكَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ

وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ . وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ : فَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ كَالْقَبْضِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ وَالْهِبَةَ وَنَحْوَهَا لَمْ يَحُدَّ الشَّارِعُ لَهَا حَدًّا ؛ لَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا نُقِلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُ عَيَّنَ لِلْعُقُودِ صِفَةً مُعَيَّنَةً مِنْ الْأَلْفَاظِ أَوْ غَيْرِهَا أَوْ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : مِنْ أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِالصِّيَغِ الْخَاصَّةِ ؛ بَلْ قَدْ قِيلَ : إنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِمَّا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ الْقَدِيمَ وَإِنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ . وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِحَيْثُ يُقَالُ : إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُسَمُّونَ هَذَا بَيْعًا وَلَا يُسَمُّونَ هَذَا بَيْعًا حَتَّى يَدْخُلَ أَحَدُهُمَا فِي خِطَابِ اللَّهِ وَلَا يَدْخُلُ الْآخَرُ ؛ بَلْ تَسْمِيَةُ أَهْلِ الْعُرْفِ مِنْ الْعَرَبِ هَذِهِ الْمُعَاقَدَاتِ بَيْعًا : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا فِي لُغَتِهِمْ تُسَمَّى بَيْعًا ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللُّغَةِ وَتَقْرِيرُهَا ؛ لَا نَقْلُهَا وَتَغْيِيرُهَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ كَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ . فَمَا سَمَّوْهُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ وَمَا سَمَّوْهُ هِبَةً فَهُوَ هِبَةٌ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْعِبَادِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ نَوْعَانِ : عِبَادَاتٌ يَصْلُحُ بِهَا دِينُهُمْ وَعَادَاتٌ يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا فِي دُنْيَاهُمْ ، فَبِاسْتِقْرَاءِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ نَعْلَمُ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ أَوْ أَحَبَّهَا لَا يَثْبُتُ الْأَمْرُ بِهَا إلَّا بِالشَّرْعِ . وَأَمَّا الْعَادَاتُ فَهِيَ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ فِي دُنْيَاهُمْ مِمَّا

يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الْحَظْرِ فَلَا يَحْظُرُ مِنْهُ إلَّا مَا حَظَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ هُمَا شَرْعُ اللَّهِ وَالْعِبَادَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا ، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ كَيْفَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَمَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ الْعِبَادَاتِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَيْفَ يُحْكَمُ عَلَى أَنَّهُ مَحْظُورٌ وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ : إنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ التَّوْقِيفُ فَلَا يُشْرَعُ مِنْهَا إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَإِلَّا دَخَلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } . وَالْعَادَاتُ الْأَصْلُ فِيهَا الْعَفْوُ فَلَا يَحْظُرُ مِنْهَا إلَّا مَا حَرَّمَهُ وَإِلَّا دَخَلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا } وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } { وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ

اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } فَذَكَرَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَمِنْ التَّحْرِيمَاتِ ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } . وَهَذِهِ " قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ نَافِعَةٌ " . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ . فَنَقُولُ : الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ وَغَيْرُهَا هِيَ مِنْ الْعَادَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا فِي مَعَاشِهِمْ - كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ - فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ جَاءَتْ فِي هَذِهِ الْعَادَاتِ بِالْآدَابِ الْحَسَنَةِ فَحَرَّمَتْ مِنْهَا مَا فِيهِ فَسَادٌ وَأَوْجَبَتْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَكَرَّهَتْ مَا لَا يَنْبَغِي وَاسْتَحَبَّتْ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ فِي أَنْوَاعِ هَذِهِ الْعَادَاتِ وَمَقَادِيرِهَا وَصِفَاتِهَا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَيَسْتَأْجِرُونَ كَيْفَ شَاءُوا مَا لَمْ تُحَرِّمْ الشَّرِيعَةُ . كَمَا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ كَيْفَ شَاءُوا مَا لَمْ تُحَرِّمْ الشَّرِيعَةُ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ قَدْ يُسْتَحَبُّ أَوْ يَكُونُ مَكْرُوهًا وَمَا لَمْ تَحُدَّ الشَّرِيعَةُ فِي ذَلِكَ حَدًّا فَيَبْقَوْنَ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْأَصْلِيِّ . وَأَمَّا السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ : فَمَنْ تَتَبَّعَ مَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُؤَاجَرَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ :

عُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ الصِّيغَةَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ . وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا ، إذْ الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْقَوَاعِدِ . وَإِلَّا فَالْكَلَامُ فِي أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا . فَمِنْ ذَلِكَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى مَسْجِدَهُ وَالْمُسْلِمُونَ بَنَوْا الْمَسَاجِدَ عَلَى عَهْدِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا أَنْ يَقُولَ : وَقَفْت هَذَا الْمَسْجِدَ وَلَا مَا يُشْبِهُ هَذَا اللَّفْظَ ؛ بَلْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِنَفْسِ بِنَائِهِ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى الْجَمَلَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : هُوَ لَك يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ } وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْ ابْنِ عُمَرَ لَفْظُ قَبُولٍ . وَكَانَ يُهْدِي وَيُهْدَى لَهُ ، فَيَكُونُ قَبْضُ الْهَدِيَّةِ قَبُولَهَا . وَلَمَّا نَحَرَ الْبَدَنَاتِ قَالَ : " { مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ } مَعَ إمْكَانِ قِسْمَتِهَا . فَكَانَ هَذَا إيجَابًا وَكَانَ الِاقْتِطَاعُ هُوَ الْقَبُولَ . وَكَانَ يُسْأَلُ فَيُعْطِي أَوْ يُعْطِي مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَيَقْبِضُ الْمُعْطَى . وَيَكُونُ الْإِعْطَاءُ هُوَ الْإِيجَابَ وَالْأَخْذُ هُوَ الْقَبُولُ : فِي قَضَايَا كَثِيرَةٍ جِدًّا ؛ وَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُ الْآخِذِينَ بِلَفْظِ وَلَا يَلْتَزِمُ أَنْ يَتَلَفَّظَ لَهُمْ بِصِيغَةِ كَمَا فِي إعْطَائِهِ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَلِلْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِمْ . وَجَعَلَ إظْهَارَ الصِّفَاتِ فِي الْمَبِيعِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِهَا بِاللَّفْظِ فِي مِثْلِ الْمُصَرَّاةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمُدَلِّسَاتِ .

وَأَيْضًا : فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ جِنْسَانِ : عُقُودٌ وقبوض . كَمَا جَمَعَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : " { رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إذَا بَاعَ سَمْحًا إذَا اشْتَرَى سَمْحًا إذَا قَضَى سَمْحًا إذَا اقْتَضَى } وَيَقُولُ النَّاسُ : الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْأَخْذُ وَالْعَطَاءُ . وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْعُقُودِ : إنَّمَا هُوَ الْقَبْضُ وَالِاسْتِيفَاءُ ؛ فَإِنَّ الْمُعَاقَدَاتِ تُفِيدُ وُجُوبَ الْقَبْضِ أَوْ جَوَازَهُ ؛ بِمَنْزِلَةِ إيجَابِ الشَّارِعِ . ثُمَّ التَّقَابُضُ وَنَحْوُهُ وَفَاءٌ بِالْعُقُودِ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ . وَالْقَبْضُ يَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ كَالْعَقْدِ ، وَتَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِالْقَبْضِ ، فَإِذَا كَانَ الْمَرْجِعُ فِي الْقَبْضِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ : فَكَذَلِكَ الْعُقُودُ ، وَإِنْ حُرِّرَتْ عِبَارَتُهُ . قُلْت : أَحَدُ نَوْعَيْ التَّصَرُّفَاتِ ، فَكَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى عَادَةِ النَّاسِ كَالنَّوْعِ الْآخَرِ . وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِهَذَا : أَنَّ الْإِذْنَ الْعُرْفِيَّ فِي الْإِبَاحَةِ أَوْ التَّمْلِيكِ أَوْ التَّصَرُّفِ بِطَرِيقِ الْوِكَالَةِ : كَالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ . فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوِكَالَةِ وَالْإِبَاحَةِ يَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَالْعِلْمُ بِرِضَى الْمُسْتَحِقِّ يَقُومُ مَقَامَ إظْهَارِهِ لِلرِّضَى . وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مُبَايَعَةُ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانِ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَكَانَ غَائِبًا وَإِدْخَالُهُ أَهْلَ الْخَنْدَقِ إلَى مَنْزِل أَبِي طَلْحَةَ وَمَنْزِلِ جَابِرٍ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِمَا ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّهُمَا رَاضِيَانِ بِذَلِكَ . وَلَمَّا دَعَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّحَّامُ سَادِسُ سِتَّةٍ : اتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ فَلَمْ يُدْخِلْهُ حَتَّى اسْتَأْذَنَ اللَّحَّامُ الدَّاعِيَ . وَكَذَلِكَ مَا يُؤْثَرُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : أَنَّ أَصْحَابَهُ لَمَّا دَخَلُوا مَنْزِلَهُ وَأَكَلُوا طَعَامَهُ قَالَ : ذَكَّرْتُمُونِي أَخْلَاقَ قَوْمٍ قَدْ مَضَوْا . وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي جَعْفَرٍ : إنَّ الْإِخْوَانَ مَنْ يُدْخِلُ أَحَدُهُمْ يَدَهُ فِي جَيْبِ صَاحِبِهِ . فَيَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ اسْتَوْهَبَهُ كُبَّةَ شَعْرٍ " { أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : فَقَدْ وَهَبْته لَك } . وَكَذَلِكَ إعْطَاؤُهُ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ أَعْطَاهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ . وَعَلَى هَذَا خَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَد بَيْعَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ لَمَّا وَكَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاءِ شَاةٍ بِدِينَارِ فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ وَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارِ ؛ فَإِنَّ التَّصَرُّفَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ خَاصٍّ : تَارَةً بِالْمُعَاوَضَةِ وَتَارَةً بِالتَّبَرُّعِ وَتَارَةً بِالِانْتِفَاعِ مَأْخَذُهُ : إمَّا إذْنٌ عُرْفِيٌّ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ .

فَصْلٌ :
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْعُقُودِ حَلَالُهَا وَحَرَامُهَا
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ فِي كِتَابِهِ أَكْلَ أَمْوَالِنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ . وَذَمَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَذَمَّ الْيَهُودَ عَلَى أَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ . وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ مَا يُؤْكَلُ بِالْبَاطِلِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ وَمَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ رِضَا الْمُسْتَحِقِّ وَالِاسْتِحْقَاقِ . وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فِي الْمُعَاوَضَةِ نَوْعَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ هُمَا : الرِّبَا وَالْمَيْسِرُ . فَذَكَرَ تَحْرِيمَ الرِّبَا الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّدَقَةِ فِي آخِرِ " سُورَةِ الْبَقَرَةِ " " وَسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ " " وَالرُّومِ " " وَالْمُدَّثِّرِ " . وَذَمَّ الْيَهُودَ عَلَيْهِ فِي " سُورَةِ النِّسَاءِ " وَذَكَرَ تَحْرِيمَ الْمَيْسِرِ فِي " سُورَةِ الْمَائِدَةِ " . ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَّلَ مَا جَمَعَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ . فَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ . كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَالْغَرَرُ : هُوَ الْمَجْهُولُ الْعَاقِبَةِ . فَإِنَّ بَيْعَهُ مِنْ الْمَيْسِرِ الَّذِي هُوَ الْقِمَارُ . وَذَلِكَ : أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَبَقَ

أَوْ الْفَرَسَ أَوْ الْبَعِيرَ إذَا شَرَدَ ؛ فَإِنَّ صَاحِبَهُ إذَا بَاعَهُ فَإِنَّمَا يَبِيعُهُ مُخَاطَرَةً فَيَشْتَرِيهِ الْمُشْتَرِي بِدُونِ ثَمَنِهِ بِكَثِيرِ . فَإِنْ حَصَلَ لَهُ قَالَ الْبَائِعُ : قمرتني وَأَخَذْت مَالِي بِثَمَنِ قَلِيلٍ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ قَالَ الْمُشْتَرِي : قمرتني وَأَخَذْت الثَّمَنَ مِنِّي بِلَا عِوَضٍ فَيُفْضِي إلَى مَفْسَدَةِ الْمَيْسِرِ : الَّتِي هِيَ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنْ الظُّلْمِ . فَفِي بَيْعِ الْغَرَرِ ظُلْمٌ وَعَدَاوَةٌ وَبَغْضَاءُ . وَمِنْ نَوْعِ الْغَرَرِ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ والملاقيح وَالْمَضَامِينِ وَمِنْ بَيْعِ السِّنِينَ وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَبَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : كُلُّهُ مِنْ نَوْعِ الْغَرَرِ . وَأَمَّا الرِّبَا : فَتَحْرِيمُهُ فِي الْقُرْآنِ أَشَدُّ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَبَائِرِ كَمَا خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الَّذِينَ هَادُوا طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ . وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَمْحَقُ الرِّبَا كَمَا يُرْبِي الصَّدَقَاتِ . وَكِلَاهُمَا أَمْرٌ مُجَرَّبٌ عِنْدَ النَّاسِ .

وَذَلِكَ : أَنَّ الرِّبَا أَصْلُهُ إنَّمَا يَتَعَامَلُ بِهِ الْمُحْتَاجُ وَإِلَّا فَالْمُوسِرُ لَا يَأْخُذُ أَلْفًا حَالَّةً بِأَلْفِ وَمِائَتَيْنِ مُؤَجَّلَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَاجَةٌ لِتِلْكَ الْأَلْفِ . وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الْمَالَ بِمِثْلِهِ وَزِيَادَةً إلَى أَجَلٍ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَتَقَعُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ ظُلْمًا لِلْمُحْتَاجِ بِخِلَافِ الْمَيْسِرِ ، فَإِنَّ الْمَظْلُومَ فِيهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ وَلَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْعَقْدِ . وَقَدْ تَخْلُو بَعْضُ صُوَرِهِ عَنْ الظُّلْمِ إذَا وُجِدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْمَبِيعُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ظَنَّاهَا وَالرِّبَا فِيهِ ظُلْمٌ مُحَقَّقٌ لِلْمُحْتَاجِ ، وَلِهَذَا كَانَ ضِدَّ الصَّدَقَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَدَعْ الْأَغْنِيَاءَ حَتَّى أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ إعْطَاءَ الْفُقَرَاءِ ؛ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَا تَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ ، فَإِذَا أَرْبَى مَعَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَمَنَعَهُ دَيْنَهُ وَظَلَمَهُ زِيَادَةً أُخْرَى وَالْغَرِيمُ مُحْتَاجٌ إلَى دَيْنِهِ . فَهَذَا مِنْ أَشَدِّ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ ؛ وَلِعَظَمَتِهِ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَهُ وَهُوَ الْآخِذُ وَمُوكِلَهُ وَهُوَ الْمُحْتَاجُ الْمُعْطَى لِلزِّيَادَةِ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ لِإِعَانَتِهِمْ عَلَيْهِ . ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ أَشْيَاءَ مِمَّا يَخْفَى فِيهَا الْفَسَادُ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْفَسَادِ الْمُحَقَّقِ - كَمَا حَرَّمَ قَلِيلَ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا - مِثْلُ رِبَا الْفَضْلِ ؛ فَإِنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ قَدْ تَخْفَى إذْ الْعَاقِلُ لَا يَبِيعُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ؛ إلَّا لِاخْتِلَافِ الصِّفَاتِ . مِثْلَ : كَوْنِ الدِّرْهَم صَحِيحًا ، وَالدِّرْهَمَيْنِ مَكْسُورَيْنِ أَوْ كَوْنِ الدِّرْهَمِ مَصُوغًا أَوْ مِنْ نَقْدٍ نَافِقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ وَلِذَلِكَ خَفِيَتْ حِكْمَةُ تَحْرِيمِهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ

وَغَيْرِهِمَا فَلَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا حَتَّى أَخْبَرَهُمْ الصَّحَابَةُ الْأَكَابِرُ - كعبادة بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمَا - بِتَحْرِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرِبَا الْفَضْلِ .
وَأَمَّا الْغَرَرُ : فَإِنَّهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ . إمَّا الْمَعْدُومُ كَحَبَلِ الْحَبَلَةِ وَبَيْعِ السِّنِينَ . وَإِمَّا الْمَعْجُوزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ.
وَإِمَّا الْمَجْهُولُ الْمُطْلَقُ أَوْ الْمُعَيَّنُ الْمَجْهُولُ جِنْسُهُ أَوْ قَدْرُهُ ، كَقَوْلِهِ : بِعْتُك عَبْدًا أَوْ بِعْتُك مَا فِي بَيْتِي أَوْ بِعْتُك عَبِيدِي . فَأَمَّا الْمُعَيَّنُ الْمَعْلُومُ جِنْسُهُ وَقَدْرُهُ الْمَجْهُولُ نَوْعُهُ أَوْ صِفَتُهُ كَقَوْلِهِ : بِعْتُك الثَّوْبَ الَّذِي فِي كُمِّي أَوْ الْعَبْدَ الَّذِي أَمْلِكُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ . وَتَغْلِبُ مَسْأَلَةُ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ وَعَنْ أَحْمَد فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ إحْدَاهُنَّ : لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِحَالِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ . وَالثَّانِيَةُ : يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُوصَفْ وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إذَا رَآهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَد : لَا خِيَارَ لَهُ . وَالثَّالِثَةُ - وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ - أَنَّهُ يَصِحُّ بِالصِّفَةِ وَلَا يَصِحُّ بِدُونِ الصِّفَةِ كَالْمُطْلَقِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ . وَمَفْسَدَةُ الْغَرَرِ أَقَلُّ مِنْ الرِّبَا ؛ فَلِذَلِكَ رَخَّصَ فِيمَا تَدْعُو إلَيْهِ

الْحَاجَةُ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ كَوْنِهِ غَرَرًا مِثْلَ بَيْعِ الْعَقَارِ جُمْلَةً وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ دَوَاخِلُ الْحِيطَانِ وَالْأَسَاسُ . وَمِثْلَ بَيْعِ الْحَيَوَانِ الْحَامِلِ أَوْ الْمُرْضِعِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ الْحَمْلِ أَوْ اللَّبَنِ وَإِنْ كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَمَلِ مُفْرَدًا ، وَكَذَلِكَ اللَّبَنُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ . وَكَذَلِكَ بَيْعُ الثَّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ؛ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مُسْتَحِقٌّ الْإِبْقَاءَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ . كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَإِنْ كَانَتْ الْأَجْزَاءُ الَّتِي يَكْمُلُ الصَّلَاحُ بِهَا لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ . وَجَوَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ : أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ ثَمَرَتَهَا ، فَيَكُونُ قَدْ اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ؛ لَكِنْ كُلُّ وَجْهِ الْبَيْعِ لِلْأَصْلِ . فَظَهَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ ضِمْنًا وَتَبَعًا مَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ . وَلَمَّا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى الْعَرَايَا أَرْخَصَ فِي بَيْعِهَا بِالْخَرْصِ ، وَلَمْ يُجَوِّزْ الْمُفَاضَلَةَ الْمُتَيَقَّنَةَ ؛ بَلْ سَوَّغَ الْمُسَاوَاةَ بِالْخَرْصِ فِي الْقَلِيلِ الَّذِي تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ وَهُوَ قَدْرُ النِّصَابِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَوْ مَا دُونَ النِّصَابِ . عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد مَا دُونَ النِّصَابِ ، إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ ، فَأَصُولُ مَالِكٍ فِي الْبُيُوعِ أَجْوَدُ مِنْ أُصُولِ غَيْرِهِ ؛

فَإِنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الَّذِي كَانَ يُقَالُ : هُوَ أَفْقَهُ النَّاسِ فِي الْبُيُوعِ . كَمَا كَانَ يُقَالُ : عَطَاءٌ أَفْقَهُ النَّاسِ فِي الْمَنَاسِكِ وَإِبْرَاهِيمُ أَفْقَهُهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَسَنُ أَجْمَعُهُمْ لِذَلِكَ كُلِّهِ . وَلِهَذَا وَافَقَ أَحْمَد كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ فِي أَغْلَبِ مَا فُضِّلَ فِيهِ لِمَنْ اسْتَقْرَأَ ذَلِكَ مِنْ أَجْوِبَتِهِ ، وَالْإِمَامُ أَحْمَد مُوَافِقٌ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ ؛ فَإِنَّهُمَا يُحَرِّمَانِ الرِّبَا وَيُشَدِّدَانِ فِيهِ حَقَّ التَّشْدِيدِ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شِدَّةِ تَحْرِيمِهِ وَعِظَمِ مَفْسَدَتِهِ وَيَمْنَعَانِ الِاحْتِيَالَ عَلَيْهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ حَتَّى يَمْنَعَا الذَّرِيعَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حِيلَةً وَإِنْ كَانَ مَالِكٌ يُبَالِغُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ مَا لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَد فِيهِ ؛ أَوْ لَا يَقُولُهُ ؛ لَكِنَّهُ يُوَافِقُهُ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ عَلَى مَنْعِ الْحِيَلِ كُلِّهَا .
وَجِمَاعُ الْحِيَلِ نَوْعَانِ : إمَّا أَنْ يَضُمُّوا إلَى أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودِ أَوْ يَضُمُّوا إلَى الْعَقْدِ عَقْدًا لَيْسَ بِمَقْصُودِ . فَالْأَوَّلُ مَسْأَلَةُ " مُدِّ عَجْوَةٍ " وَضَابِطُهَا : أَنْ يَبِيعَ رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ وَمَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُمَا بَيْعَ فِضَّةٍ بِفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَضُمُّ إلَى الْفِضَّةِ الْقَلِيلَةِ عِوَضًا آخَرَ حَتَّى يَبِيعَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي مِنْدِيلٍ بِأَلْفَيْ دِينَارٍ . فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا حَرُمَتْ مَسْأَلَةُ " مُدِّ عَجْوَةٍ " بِلَا خِلَافٍ عِنْد مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَإِنَّمَا يُسَوِّغُ مِثْلَ هَذَا مَنْ جَوَّزَ الْحِيَلَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَإِنْ

كَانَ قُدَمَاءُ الْكُوفِيِّينَ يُحَرِّمُونَ هَذَا . وَأَمَّا إنْ كَانَ كِلَاهُمَا مَقْصُودًا كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ أَوْ مُدَّيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد ، وَالْمَنْعُ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَالْجَوَازُ : قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ غَيْرَ الْجِنْسِ الرِّبَوِيِّ كَبَيْعِ شَاةٍ ذَاتِ صُوفٍ أَوْ لَبَنٍ بِصُوفٍ أَوْ لَبَنٍ : فَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد الْجَوَازُ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْحِيَلِ : أَنْ يَضُمَّا إلَى الْعَقْدِ الْمُحَرَّمِ عَقْدًا غَيْرَ مَقْصُودٍ مِثْلَ أَنْ يَتَوَاطَآ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ الذَّهَبَ بِخَرَزِهِ ثُمَّ يَبْتَاعُ الْخَرَزَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الذَّهَبِ أَوْ يُوَاطِئَا ثَالِثًا عَلَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا عَرَضًا ثُمَّ يَبِيعُهُ الْمُبْتَاعُ لِمُعَامِلِهِ الْمُرَابِي ثُمَّ يَبِيعُهُ الْمُرَابِي لِصَاحِبِهِ . وَهِيَ الْحِيلَةُ الْمُثَلَّثَةُ أَوْ يُقْرِنُ بِالْقَرْضِ مُحَابَاةً : فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ مُسَاقَاةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُقْرِضَهُ أَلْفًا وَيَبِيعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي عَشَرَةً بِمِائَتَيْنِ أَوْ يَكْرِيَهُ دَارًا تُسَاوِي ثَلَاثِينَ بِخَمْسَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ الْحِيَلِ لَا تَزُولُ بِهِ الْمَفْسَدَةُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ أَجْلِهَا الرِّبَا وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ : " { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا

رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنُ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ حِيَلِ الْيَهُودِ ، فَإِنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَحَلُّوا الرِّبَا بِالْحِيَلِ وَيُسَمُّونَهُ المشكند وَقَدْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا ثَمَنَهَا } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ - وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ - فَلَيْسَ قِمَارًا وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ - وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ - فَهُوَ قِمَارٌ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : " { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ } .
وَدَلَائِلُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ كَثِيرَةٌ ذَكَرْنَا مِنْهَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ دَلِيلًا فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي ذَلِكَ وَذَكَرْنَا مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُجَوِّزُهَا كَيَمِينِ أَيُّوبَ وَحَدِيثِ تَمْرِ خَيْبَرَ وَمَعَارِيضِ

السَّلَفِ ، وَذَكَرْنَا جَوَابَ ذَلِكَ . وَمِنْ ذَرَائِعِ ذَلِكَ : " مَسْأَلَةُ الْعِينَةِ " وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبْتَاعُهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ . فَهَذَا مَعَ التَّوَاطُؤِ يُبْطِلُ الْبَيْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا حِيلَةٌ . وَقَدْ رَوَى أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادَيْنِ جَيِّدَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَرْفَعُهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَرَاجَعُوا دِينَكُمْ } . وَإِنْ لَمْ يَتَوَاطَآ فَإِنَّهُمَا يُبْطِلَانِ الْبَيْعَ الثَّانِيَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . وَلَوْ كَانَتْ عَكْسَ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ : فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ حَالًّا ثُمَّ يَبْتَاعَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مُؤَجَّلًا . وَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ فَرِبًا مُحْتَالٌ عَلَيْهِ . وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي الدِّرْهَمَ وَابْتَاعَ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ لِيَبِيعَهَا وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا . فَهَذَا يُسَمَّى : " التَّوَرُّقَ " . فَفِي كَرَاهَتِهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَالْكَرَاهَةُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٍ فِيمَا أَظُنُّ ؛ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي الَّذِي غَرَضُهُ التِّجَارَةُ أَوْ غَرَضُهُ الِانْتِفَاعُ أَوْ الْقِنْيَةُ فَهَذَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ إلَى أَجَلٍ بِالِاتِّفَاقِ . فَفِي الْجُمْلَةِ : أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ مَانِعُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا مَنْعًا مُحْكَمًا مُرَاعِينَ لِمَقْصُودِ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا . وَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ

الَّذِي يُؤْثَرُ مِثْلُهُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَأَمَّا الْغَرَرُ : فَأَشَدُّ النَّاسِ فِيهِ قَوْلًا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَّا الشَّافِعِيُّ : فَإِنَّهُ يُدْخِلُ فِي هَذَا الِاسْمِ مِنْ الْأَنْوَاعِ مَا لَا يُدْخِلُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ ؛ مِثْلَ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ فِي قِشْرِهِ الَّذِي لَيْسَ بِصَوَّانِ : كَالْبَاقِلَاءِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ الْأَخْضَرِ وَكَالْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ فَإِنَّ الْقَوْلَ الْجَدِيدَ عِنْدَهُ : أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ اشْتَرَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بَاقِلَاءَ أَخْضَرَ فَخَرَجَ ذَلِكَ لَهُ قَوْلًا وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي سَعِيدٍ الإصطخري ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ } فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ وَإِنْ كَانَ فِي سُنْبُلِهِ . فَقَالَ : إنْ صَحَّ هَذَا أَخْرَجْته مِنْ الْعَامِّ أَوْ كَلَامًا قَرِيبًا مِنْ هَذَا ، وَكَذَلِكَ ذُكِرَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : جَوَازُ ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً لَا يَجُوزُ ثُمَّ بَلَغَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَرَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ بِهِ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَعْدِلُ عَنْ الْقَوْلِ بِهِ . وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَهُ قَوْلَيْنِ وَإِنَّ الْجَوَازَ هُوَ الْقَدِيمُ . حَتَّى مَنَعَ

مِنْ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِصِفَةٍ وَغَيْرِ صِفَةٍ مُتَأَوِّلًا أَنَّ بَيْعَ الْغَائِبِ غَرَرٌ وَإِنْ وُصِفَ حَتَّى اشْتَرَطَ فِيمَا فِي الذِّمَّةِ - كَدَيْنِ السَّلَمِ - مِنْ الصِّفَاتِ وَضَبْطِهَا مَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ غَيْرُهُ . وَلِهَذَا يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَى النَّاسِ الْمُعَامَلَةُ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ . وَقَاسَ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ جَمِيعَ الْعُقُودِ ؛ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ فَاشْتَرَطَ فِي أُجْرَةِ الْأَجِيرِ وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَصُلْحِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ وَجِزْيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ : مَا اشْتَرَطَهُ فِي الْبَيْعِ عَيْنًا وَدَيْنًا ؛ وَلَمْ يُجَوِّزْ فِي ذَلِكَ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً إلَّا مَا يُجَوِّزُ مِثْلَهُ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ لَا تَبْطُلُ بِفَسَادِ أَعْوَاضِهَا أَوْ يُشْتَرَطُ لَهَا شُرُوطٌ أُخَرُ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ : فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْبَاقِلَاءِ وَنَحْوَهُ فِي الْقَشِرَيْنِ وَيُجَوِّزُ إجَارَةَ الْأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ وَيُجَوِّزُ أَنْ تَكُونَ جَهَالَةُ الْمَهْرِ كَجَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَيُجَوِّزُ بَيْعَ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِلَا صِفَةٍ مَعَ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ يَرَى وَقْفَ الْعُقُودِ ؛ لَكِنَّهُ يُحَرِّمُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ مُطْلَقًا . وَالشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ بَيْعَ بَعْضِ ذَلِكَ وَيُحَرِّمُ أَيْضًا كَثِيرًا مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ مُطْلَقَ الْعَقْدِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ بَعْضَ ذَلِكَ وَيُجَوِّزُ مِنْ الْوِكَالَاتِ وَالشَّرِكَاتِ مَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيُّ حَتَّى جَوَّزَ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ وَالْوِكَالَةِ بِالْمَجْهُولِ الْمُطْلَقِ .

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ لَمْ تَكُنْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ بَاطِلَةً فَمَا أَعْلَمُ شَيْئًا بَاطِلًا . فَبَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ لَكِنَّ أُصُولَ الشَّافِعِيِّ الْمُحَرَّمَةَ أَكْثَرُ مِنْ أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا مَالِكٌ : فَمَذْهَبُهُ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا . فَيُجَوِّزُ بَيْعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَجَمِيعَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ أَوْ يَقِلّ غَرَرُهُ بِحَيْثُ يُحْتَمَلُ فِي الْعُقُودِ حَتَّى يُجَوِّزَ بَيْعَ المقاثي جُمْلَةً وَبَيْعَ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَحْمَد قَرِيبٌ مِنْهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَيُجَوِّزُ - عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ - أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ عَبْدًا مُطْلَقًا أَوْ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَزِيدُ جَهَالَتُهُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُبْهَمَ دُونَ الْمُطْلَقِ كَأَبِي الْخَطَّابِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ . فَلَا يُجَوِّزُ فِي الْمَهْرِ وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَنَحْوِهِمَا إلَّا مَا يُجَوِّزُ فِي الْمَبِيعِ كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ : وَيُجَوِّزُ - عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ - فِي فِدْيَةِ الْخُلْعِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى مَا يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْمَهْرِ كَقَوْلِ مَالِكٍ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي مَذْهَبِهِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ : أَنَّهُ لَا يُجَوِّزُ بَيْعَ الْمُغَيَّبِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَنَحْوِهِ إلَّا إذَا قُلِعَ . وَقَالَ :

هَذَا الْغَرَرُ شَيْءٌ لَيْسَ يَرَاهُ كَيْفَ يَشْتَرِيهِ ؟ وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ : أَنَّهُ لَا يُجَوِّزُ بَيْعَ الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَنَحْوِهِ إلَّا لَقْطَةً لَقْطَةً وَلَا يُبَاعُ مِنْ المقاثي وَالْمَبَاطِخِ إلَّا مَا ظَهَرَ دُونَ مَا بَطَنَ وَلَا تُبَاعُ الرُّطَبَةُ إلَّا جِزَّةً جِزَّةً كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ ، وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَأَكْثَرُهُمْ أَطْلَقُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ مُغَيَّبٍ كَالْجَزَرِ وَالْفُجْلِ وَالْبَصَلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ : إذَا كَانَ مِمَّا يَقْصِدُ فُرُوعَهُ وَأُصُولَهُ كَالْبَصَلِ الْمَبِيعِ أَخْضَرَ وَالْكُرَّاثِ وَالْفُجْلِ أَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ فُرُوعَهُ . فَالْأَوْلَى جَوَازُ بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ظَاهِرٌ . فَأَشْبَهَ الشَّجَرَ وَالْحِيطَانَ وَيَدْخُلُ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمَبِيعِ تَبَعًا ، وَإِنْ كَانَ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ أُصُولَهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَغْلَبِ وَإِنْ تَسَاوَيَا لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ وَإِنَّمَا سَقَطَ فِي الْأَقَلِّ التَّابِعُ . وَكَلَامُ أَحْمَد يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ . فَإِنَّ أَبَا دَاوُد قَالَ . قُلْت لِأَحْمَدَ : بَيْعُ الْجَزَرِ فِي الْأَرْضِ ؟ قَالَ : لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا مَا قُلِعَ مِنْهُ . هَذَا الْغَرَرُ شَيْءٌ لَيْسَ يَرَاهُ . كَيْفَ يَشْتَرِيهِ ؟ فَعَلَّلَ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ . فَقَدْ يُقَالُ : إنْ لَمْ يُرَ كُلَّهُ لَمْ يُبَعْ . وَقَدْ يُقَالُ : رُؤْيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ تَكْفِي إذَا دَلَّتْ عَلَى الْبَاقِي

كَرُؤْيَةِ وَجْهِ الْعَبْدِ . وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي المقاثي إذَا بِيعَتْ بِأُصُولِهَا . كَمَا هُوَ الْعَادَةُ غَالِبًا ، فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ أُصُولِ الْخَضْرَاوَات . كَبَيْعِ الشَّجَرِ وَإِذَا بَاعَ الشَّجَرَةَ وَعَلَيْهَا الثَّمَرُ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ جَازَ ، فَكَذَلِكَ هَذَا . وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَقَالَ الْمُتَقَدِّمُونَ : لَا يَجُوزُ بِحَالِ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ وَمَنْصُوصُهُ . وَهُوَ إنَّمَا نَهَى عَمَّا يَعْتَادُهُ النَّاسُ وَلَيْسَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً فِي الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ أَنْ يُبَاعَ دُونَ عُرُوقِهِ . وَالْأَصْلُ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُ ؛ فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ فِي الشَّجَرِ الَّذِي عَلَيْهِ ثَمَرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ : أَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ مَقْصُودَهُ الْأَعْظَمُ جَازَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الثَّمَرَةَ فَاشْتَرَى الْأَصْلَ مَعَهَا حِيلَةً : لَمْ يَجُزْ . وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا وَفِيهَا زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ مُثْمِرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ هِيَ الْمَقْصُودَ : جَازَ دُخُولُ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ مَعَهَا تَبَعًا . وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الثَّمَرَ وَالزَّرْعَ فَاشْتَرَى الْأَرْضَ لِذَلِكَ : لَمْ يَجُزْ . وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُ فِي ثَمَرَةِ الشَّجَرِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ المقاثي وَالْمَبَاطِخِ إنَّمَا هُوَ الْخَضْرَاوَات دُونَ الْأُصُولِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا إلَّا قِيمَةٌ يَسِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخُضَرِ . وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ فِيهَا وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : كَمَا فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمُغَيَّبَاتِ بِنَاءً عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي بَيْعِ مَا لَمْ يَرَهُ . وَلَا شَكَّ أَنَّهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى قَوْلِنَا : لَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا لَمْ يَرَهُ . فَإِذَا صَحَّحْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ فَهَذَا مِنْ الْغَائِبِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ إلْحَاقًا لَهَا بِلُبِّ الْجَوْزِ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَهْلَ الْخِبْرَةِ يَسْتَدِلُّونَ بِرُؤْيَةِ وَرِقِ هَذِهِ الْمَدْفُونَاتِ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَجْوَدَ مِمَّا يَعْلَمُونَ الْعَبْدَ بِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ . وَالْمَرْجِعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَى الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِ وَهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَا يُعْرَفُ غَيْرُهَا مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ وَأَوْلَى . الثَّانِي : أَنَّ هَذَا مِمَّا تَمَسُّ حَاجَةُ النَّاسِ إلَى بَيْعِهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُبَعْ حَتَّى يُقْلَعَ حَصَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ مُبَاشَرَةُ الْقَلْعِ وَالِاسْتِنَابَةِ فِيهِ . وَإِنْ قَلَعُوهُ جُمْلَةً فَسَدَ بِالْقَلْعِ . فَبَقَاؤُهُ فِي الْأَرْضِ كَبَقَاءِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَنَحْوِهِمَا فِي قِشْرِهِ الْأَخْضَرِ . وَأَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ يُجَوِّزُونَ الْعَرَايَا مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمُزَابَنَةِ لِحَاجَةِ الْمُشْتَرِي إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ أَوْ الْبَائِعِ إلَى أَكْلِ التَّمْرِ ، فَحَاجَةُ الْبَائِعِ هُنَا أَوْكَدُ بِكَثِيرِ . وَسَنُقَرِّرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَكَذَلِكَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : جَوَازُ بَيْعِ المقاثي بَاطِنَهَا وَظَاهِرَهَا . وَإِنْ اشْتَمَلَ ذَلِكَ عَلَى بَيْعٍ مَعْدُومٍ إذَا بَدَا صَلَاحُهَا كَمَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِ نَخْلَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ : أَنْ يُبَاعَ جَمِيعُ ثَمَرِهَا . وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا لَمْ يَصْلُحْ بَعْدُ . وَغَايَةُ مَا اعْتَذَرُوا بِهِ عَنْ خُرُوجِ هَذَا مِنْ الْقِيَاسِ أَنْ قَالُوا : إنَّهُ لَا يُمْكِنُ إفْرَادُ الْبَيْعِ لِذَلِكَ مِنْ نَخْلَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ الْبُسْرَةَ بِالْعَقْدِ اخْتَلَطَتْ بِغَيْرِهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْبُسْرَةَ تَصْفَرُّ فِي يَوْمِهَا . وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي المقثاة . وَقَدْ اعْتَذَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد عَنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ تَبَعًا بِأَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَرَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْمَوْجُودِ ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي مِلْكِهِ . وَالْجُمْهُورُ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَعْلَمُونَ فَسَادَ هَذَا الْعُذْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ سَقْيُ الثَّمَرَةِ وَيَسْتَحِقُّ إبْقَاءَهَا عَلَى الشَّجَرِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ بِالْعَقْدِ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ مَا بِهِ يُوجَدُ ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْبَائِعِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ تَوْفِيَةُ الْمَبِيعِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ ؛ لَا مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمِلْكِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الرِّوَايَةَ اخْتَلَفَتْ عَنْ أَحْمَد إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي

حَدِيقَةٍ مِنْ الْحَدَائِقِ هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِهَا أَمْ لَا يُبَاعُ إلَّا مَا صَلَحَ مِنْهَا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ . أَنَّهُ لَا يُبَاعُ إلَّا مَا بَدَا صَلَاحُهُ . وَهِيَ اخْتِيَارُ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ . كَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ شاقلاء . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : يَكُونُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الْبَعْضِ صَلَاحًا لِلْجَمِيعِ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . كَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُمَا . ثُمَّ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَ فِي بُسْتَانٍ بَعْضُهُ بَالِغٌ وَبَعْضُهُ غَيْرُ بَالِغٍ بِيعَ إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الْبُلُوغَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ صَلَاحِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَالْقَاضِي أَخِيرًا وَأَبِي حَكِيمٍ النهرواني وَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ قَصَرَ الْحُكْمَ بِمَا إذَا غَلَبَ الصَّلَاحُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الصَّلَاحِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَأَبِي الْخَطَّابِ وَجَمَاعَاتٍ . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ . وَزَادَ مَالِكٌ فَقَالَ : يَكُونُ صَلَاحًا لِمَا جَاوَرَهُ مِنْ الْأَقْرِحَةِ . وَحَكَوْا ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد . وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ : هَلْ يَكُونُ صَلَاحُ النَّوْعِ - كَالْبَرْنِيِّ مِنْ الرُّطَبِ - صَلَاحًا لِسَائِرِ أَنْوَاعِ الرُّطَبِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي مُحَمَّدٍ .
وَالثَّانِي الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ . وَزَادَ اللَّيْثُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَقَالَ :

صَلَاحُ الْجِنْسِ - كَالتُّفَّاحِ وَاللَّوْزِ - يَكُونُ صَلَاحًا لِسَائِرِ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ . وَمَأْخَذُ مَنْ جَوَّزَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ : أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ بَيْعَ بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ يُفْضِي إلَى سُوءِ الْمُشَارَكَةِ وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي . وَهَذِهِ عِلَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ وَالْبَسَاتِينِ . وَمَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا قَالَ : الْمَقْصُودُ الْأَمْنُ مِنْ الْعَاهَةِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِشُرُوعِ الثَّمَرِ فِي الصَّلَاحِ . وَمَأْخَذُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ : أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا } يَقْتَضِي بُدُوَّ صَلَاحِ الْجَمِيعِ . وَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ : أَنَّ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ الْبُسْتَانِ مِنْ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِبُدُوِّ الصَّلَاحِ فِي بَعْضِهِ فَقِيَاسُ قَوْلِهِ : جَوَازُ بَيْعِ المقثاة إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهَا . وَالْمَعْدُومُ هُنَا فِيهَا كَالْمَعْدُومِ مِنْ أَجْزَاءِ الثَّمَرَةِ ؛ فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ ؛ إذْ تَفْرِيقُ الْأَشْجَارِ فِي الْبَيْعِ أَيْسَرُ مِنْ تَفْرِيقِ الْبِطِّيخَاتِ وَالْقِثَّاءَاتِ وَالْخِيَارَاتِ وَتَمْيِيزِ اللَّقْطَةِ عَنْ اللَّقْطَةِ لَوْ لَمْ يَشُقَّ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا يَنْضَبِطُ ؛ فَإِنَّ اجْتِهَادَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتٌ . وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا : أَنَّ أُصُولَ أَحْمَد تَقْتَضِي مُوَافَقَةَ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَمَا قَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْجَوَابَاتِ أَوْ قَدْ خَرَّجَهُ أَصْحَابُهُ عَلَى أُصُولِهِ .

وَكَمَا أَنَّ الْعَالِمَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ كَثِيرًا مَا يَكُونُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ قَوْلَانِ فِي وَقْتَيْنِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ لَهُ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْ الْمَسَائِلِ قَوْلَانِ فِي وَقْتَيْنِ . فَيُجِيبُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهَا بِجَوَابٍ فِي وَقْتٍ وَيُجِيبُ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ بِجَوَابٍ آخَرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ . وَإِذَا كَانَتْ الْأَفْرَادُ مُسْتَوِيَةً وَكَانَ لَهُ فِيهَا قَوْلَانِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ يَذْهَبُ إلَيْهِ مُجْتَهِدٌ فَقَوْلُهُ فِيهَا وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ مِمَّا قَدْ يَذْهَبُ إلَيْهِ مُجْتَهِدٌ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا يُخَرَّجُ . وَقَالَ الْجُمْهُورُ - كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى - يُخَرَّجُ الْجَوَابُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مِمَّنْ يَذْهَبُ إلَى الْفَرْقِ كَمَا اقْتَضَتْهُ أُصُولُهُ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُخَرِّجُ الْجَوَابَ إذَا رَآهُمَا مُسْتَوِيَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ هَلْ هُوَ مِمَّنْ يُفَرِّقُ أَمْ لَا . وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَبَعْضٍ مُسْتَحْضِرًا لَهُمَا فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْفَرْقِ مَأْخَذًا شَرْعِيًّا : كَانَ الْفَرْقُ قَوْلًا لَهُ . وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْفَرْقِ مَأْخَذًا عَادِيًّا أَوْ حِسِّيًّا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَكُونُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهِ أَعْلَمَ مِنْ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَمْ يُبَاشِرُوا ذَلِكَ فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا شَرْعًا وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْعَالِمُ ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ . فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ } . وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ نَوْعِهَا مِنْ الْعِلْمِ قَدْ يُسَمَّى تَنَاقُضًا

أَيْضًا ؛ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ اخْتِلَافُ مَقَالَتَيْنِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . فَإِذَا كَانَ فِي وَقْتٍ قَدْ قَالَ : إنَّ هَذَا حَرَامٌ . وَقَالَ فِي وَقْتٍ آخَرَ فِيهِ أَوْ فِي مِثْلِهِ : إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامِ أَوْ قَالَ مَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامِ - فَقَدْ تَنَاقَضَ قَوْلَاهُ وَهُوَ مُصِيبٌ فِي كِلَيْهِمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ غَيْرَ مَا اعْتَقَدَهُ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ لِلَّهِ حُكْمًا فِي الْبَاطِنِ عَلِمَهُ الْعَالِمُ فِي إحْدَى الْمَقَالَتَيْنِ وَلَمْ يَعْلَمْهُ فِي الْمَقَالَةِ الَّتِي تُنَاقِضُهَا وَعَدَمُ عِلْمِهِ بِهِ مَعَ اجْتِهَادِهِ مَغْفُورٌ لَهُ مَعَ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ قَصْدِهِ لِلْحَقِّ وَاجْتِهَادِهِ فِي طَلَبِهِ . وَلِهَذَا يُشَبِّهُ بَعْضُهُمْ تَعَارُضَ الِاجْتِهَادَاتِ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ثَابِتٌ بِخِطَابِ حُكْمِ اللَّهِ : بَاطِنًا وَظَاهِرًا ؛ بِخِلَافِ أَحَدِ قَوْلَيْ الْعَالِمِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ . هَذَا فِيمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ فِيمَا يَقُولُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِتَقْوَاهُ وَسُلُوكِهِ الطَّرِيقَ الرَّاشِدَ . وَأَمَّا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْخُصُومَاتِ : فَهُمْ مَذْمُومُونَ فِي مُنَاقَضَاتِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا حُسْنِ قَصْدٍ لِمَا يَجِبُ قَصْدُهُ . وَعَلَى هَذَا فَلَازِمُ قَوْلِ الْإِنْسَانِ نَوْعَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَازِمُ قَوْلِهِ الْحَقُّ ، فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ ؛ فَإِنَّ لَازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ وَيَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ إذَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ ، وَكَثِيرٌ مِمَّا يُضِيفُهُ النَّاسُ إلَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ : مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَالثَّانِي : لَازِمُ قَوْلِهِ الَّذِي لَيْسَ بِحَقِّ . فَهَذَا لَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ ؛ إذْ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ قَدْ تَنَاقَضَ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّنَاقُضَ وَاقِعٌ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ غَيْرِ النَّبِيِّينَ . ثُمَّ إنْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ : أَنَّهُ يَلْتَزِمُهُ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُ فَقَدْ يُضَافُ إلَيْهِ ؛ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ قَوْلٌ لَوْ ظَهَرَ لَهُ فَسَادُهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ ؛ لِكَوْنِهِ قَدْ قَالَ مَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِفَسَادِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَلَا يَلْزَمُهُ . وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي لَازِمِ الْمَذْهَبِ : هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَوْ لَيْسَ بِمَذْهَبِ ؟ هُوَ أَجْوَدُ مِنْ إطْلَاقِ أَحَدِهِمَا فَمَا كَانَ مِنْ اللَّوَازِمِ يَرْضَاهُ الْقَائِلُ بَعْدَ وُضُوحِهِ لَهُ فَهُوَ قَوْلُهُ ، وَمَا لَا يَرْضَاهُ فَلَيْسَ قَوْلُهُ . وَإِنْ كَانَ مُتَنَاقِضًا . وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّازِمِ الَّذِي يَجِبُ الْتِزَامُهُ مَعَ مَلْزُومِ اللَّازِمِ الَّذِي يَجِبُ تَرْكُ الْمَلْزُومِ لِلُزُومِهِ . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا عُرِفَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَالْوَاقِعِ مِنْهَا . وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ فِي اللَّوَازِمِ الَّتِي لَمْ يُصَرِّحْ هُوَ بِعَدَمِ لُزُومِهَا . فَأَمَّا إذَا نَفَى هُوَ اللُّزُومَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ اللَّازِمُ بِحَالِ ؛ وَإِلَّا

لَأُضِيفَ إلَى كُلِّ عَالِمٍ مَا اعْتَقَدْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ ؛ لِكَوْنِهِ مُلْتَزِمًا لِرِسَالَتِهِ فَلَمَّا لَمْ يُضِفْ إلَيْهِ مَا نَفَاهُ عَنْ الرَّسُولِ ؛ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ : ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّازِمِ الَّذِي لَمْ يَنْفِهِ وَاللَّازِمِ الَّذِي نَفَاهُ . وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ نَفْيَهُ لِلُزُومِ مَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ اجْتِهَادَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ . وَسَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ - مَعَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا : - أَنَّ الْعَالِمَ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ حُسْنِ الْقَصْدِ وَالِاجْتِهَادِ وَهُوَ مَأْمُورٌ فِي الظَّاهِرِ بِاعْتِقَادِ مَا قَامَ عِنْدَهُ دَلِيلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا ؛ لَكِنَّ اعْتِقَادًا لَيْسَ بِيَقِينِيِّ كَمَا يُؤْمَرُ الْحَاكِمُ بِتَصْدِيقِ الشَّاهِدَيْنِ ذوي الْعَدْلِ وَإِنْ كَانَا فِي الْبَاطِنِ قَدْ أَخْطَآ أَوْ كَذَبَا وَكَمَا يُؤْمَرُ الْمُفْتِي بِتَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ أَوْ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ ، فَيَعْتَقِدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ مُطَابِقًا . فَالِاعْتِقَادُ الْمَطْلُوبُ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ الْعِبَادُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُطَابِقٍ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ فِي الْبَاطِنِ بِاعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ قَطُّ . فَإِذَا اعْتَقَدَ الْعَالِمُ اعْتِقَادَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ فِي قَضِيَّةٍ أَوْ قَضِيَّتَيْنِ مَعَ قَصْدِهِ لِلْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ لِمَا أُمِرَ بِاتِّبَاعِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ : عُذِّرَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ وَهُوَ الْخَطَأُ الْمَرْفُوعُ عَنَّا ؛ بِخِلَافِ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ . فَإِنَّهُمْ { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ } وَيَجْزِمُونَ بِمَا يَقُولُونَهُ بِالظَّنِّ وَالْهَوَى

جَزْمًا لَا يَقْبَلُ النَّقِيضَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِجَزْمِهِ ، فَيَعْتَقِدُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِاعْتِقَادِهِ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا . وَيَقْصِدُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِقَصْدِهِ وَيَجْتَهِدُونَ اجْتِهَادًا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ ، فَلَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالْقَصْدِ مَا يَقْتَضِي مَغْفِرَةَ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ فَكَانُوا ظَالِمِينَ شَبِيهًا بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أَوْ جَاهِلِينَ شَبِيهًا بِالضَّالِّينَ . فَالْمُجْتَهِدُ الِاجْتِهَادَ الْعِلْمِيَّ الْمَحْضَ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ سِوَى الْحَقِّ . وَقَدْ سَلَكَ طَرِيقَهُ . وَأَمَّا مُتَّبِعُ الْهَوَى الْمَحْضِ : فَهُوَ مَنْ يَعْلَمُ الْحَقَّ وَيُعَانِدُ عَنْهُ . وَثَمَّ قِسْمٌ آخَرُ - وَهُوَ غَالِبُ النَّاسِ - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ هَوًى فِيهِ شُبْهَةٌ فَتَجْتَمِعُ الشَّهْوَةُ وَالشُّبْهَةُ ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ } . فَالْمُجْتَهِدُ الْمَحْضُ مَغْفُورٌ لَهُ وَمَأْجُورٌ . وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمَحْضِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْعَذَابِ . وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ الِاجْتِهَادَ الْمُرَكَّبَ مِنْ شُبْهَةٍ وَهَوًى : فَهُوَ مُسِيءٌ . وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ حَسَبَ مَا يَغْلِبُ وَبِحَسَبِ الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ .

وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ - مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى فِقْهٍ أَوْ تَصَوُّفٍ - مُبْتَلُونَ بِذَلِكَ . وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ أُصُولُ مَالِكٍ وَأُصُولُ أَحْمَد وَبَعْضُ أُصُولِ غَيْرِهِمَا : هُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ . وَعَلَيْهِ يَدُلُّ غَالِبُ مُعَامَلَاتِ السَّلَفِ . وَلَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُ النَّاسِ فِي مَعَاشِهِمْ إلَّا بِهِ وَكُلُّ مَنْ تَوَسَّعَ فِي تَحْرِيمِ مَا يَعْتَقِدُهُ غَرَرًا : فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَضْطَرَّ إلَى إجَازَةِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ . فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مَذْهَبِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِمَّا أَنْ يَحْتَالَ . وَقَدْ رَأَيْنَا النَّاسَ وَبَلَغَتْنَا أَخْبَارُهُمْ فَمَا رَأَيْنَا أَحَدًا الْتَزَمَ مَذْهَبَهُ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ . وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ مَفْسَدَةَ التَّحْرِيمِ لَا تَزُولُ بِالْحِيلَةِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا . فَمِنْ الْمُحَالِ : أَنْ يُحَرِّمُ الشَّارِعُ عَلَيْنَا أَمْرًا نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ ثُمَّ لَا يُبِيحُهُ إلَّا بِحِيلَةٍ لَا فَائِدَةَ فِيهَا . وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ اللَّعِبِ .
وَلَقَدْ تَأَمَّلْت أَغْلَبَ مَا أَوْقَعَ النَّاسَ فِي الْحِيَلِ فَوَجَدْته أَحَدَ شَيْئَيْنِ : إمَّا ذُنُوبٌ جَوَّزُوا عَلَيْهَا بِتَضْيِيقٍ فِي أُمُورِهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا دَفْعَ هَذَا الضِّيقِ إلَّا بِالْحِيَلِ فَلَمْ تَزِدْهُمْ الْحِيَلُ إلَّا بَلَاءً كَمَا جَرَى لِأَصْحَابِ السَّبْتِ مِنْ الْيَهُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } وَهَذَا الذَّنْبُ ذَنْبٌ عَمَلِيٌّ . وَإِمَّا مُبَالَغَةٌ فِي التَّشْدِيدِ لِمَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ الشَّارِعِ فَاضْطَرَّهُمْ هَذَا الِاعْتِقَادُ إلَى الِاسْتِحْلَالِ بِالْحِيَلِ . وَهَذَا مِنْ خَطَأِ الِاجْتِهَادِ ؛ وَإِلَّا فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَأَخَذَ مَا أَحَلَّ

لَهُ وَأَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يحوجه إلَى الْحِيَلِ الْمُبْتَدَعَةِ أَبَدًا . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَإِنَّمَا بَعَثَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ . فَالسَّبَبُ الْأَوَّلُ : هُوَ الظُّلْمُ . وَالسَّبَبُ الثَّانِي : هُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ . وَالظُّلْمُ وَالْجَهْلُ هُمَا وَصْفٌ لِلْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } . وَأَصْلُ هَذَا : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ : كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ ؛ أَوْ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ : كَالْمَيْسِرِ وَالرِّبَا وَمَا يَدْخُلُ فِيهِمَا مِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ وَغَيْرِهِ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي نَبَّهَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَرَسُولُهُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ : أَنَّ الْمَيْسِرَ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ سَوَاءٌ كَانَ مَيْسِرًا بِالْمَالِ أَوْ بِاللَّعِبِ ؛ فَإِنَّ الْمُغَالَبَةَ بِلَا فَائِدَةٍ وَأَخْذَ الْمَالِ بِلَا حَقٍّ يُوقِعُ فِي النُّفُوسِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ رَوَى فَقِيهُ الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " { كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ ، فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ قَالَ الْمُبْتَاعُ : إنَّهُ أَصَابَ الثَّمَرَ دَمَانٌ ، أَصَابَهُ مِرَاضٌ أَصَابَهُ قُشَامٌ : عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ - : فَأَمَّا لَا فَلَا تَبَايَعُوا حَتَّى يَبْدُوَ

صَلَاحُ الثَّمَرِ كَالْمَشُورَةِ لَهُمْ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ } وَذَكَرَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ : " { أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا فَيَتَبَيَّنُ الْأَحْمَرُ مِنْ الْأَصْفَرِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَأَبُو دَاوُد إلَى قَوْلِهِ : " خُصُومَتِهِمْ " . وَرَوَى أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ قَالَ : " { قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نَتَبَايَعُ الثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصُومَةً . فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقِيلَ لَهُ : إنَّ هَؤُلَاءِ ابْتَاعُوا الثِّمَارَ يَقُولُونَ : أَصَابَهَا الدَّمَانُ وَالْقُشَامُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَبَايَعُوهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا } . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ سَبَبَ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ : مَا أَفَضْت إلَيْهِ مِنْ الْخِصَامِ . وَهَكَذَا بُيُوعُ الْغَرَرِ . وَقَدْ ثَبَتَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ . وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ تَعْلِيلُهُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ : " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهَى قِيلَ : وَمَا تُزْهَى ؟ قَالَ : حَتَّى تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْت إذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ ؟ } وَفِي رِوَايَةٍ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَزْهُوَ فَقُلْنَا لِأَنَسِ : مَا زَهْوُهَا . قَالَ : تَحْمَرُّ

أَوْ تَصْفَرُّ أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيك ؟ } قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ : جَعَلَ مَالِكٌ والدراوردي قَوْلَ أَنَسٍ : " { أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ } مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَجَاهُ فِيهِ : وَيَرَوْنَ أَنَّهُ غَلَطٌ . فَهَذَا التَّعْلِيلُ - سَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كَلَامِ أَنَسٍ - فِيهِ بَيَانُ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَكْلًا لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ حَيْثُ أَخَذَهُ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ بِلَا عِوَضٍ مَضْمُونٍ . وَإِذَا كَانَتْ مَفْسَدَةُ بَيْعِ الْغَرَرِ هِيَ كَوْنُهُ مَظِنَّةَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَأَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ : فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ إذَا عَارَضَتْهَا الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا كَمَا أَنَّ السِّبَاقَ بِالْخَيْلِ وَالسِّهَامِ وَالْإِبِلِ . لَمَّا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ جَازَ بِالْعِوَضِ . وَإِنْ لَمْ يَجُزْ غَيْرُهُ بِعِوَضِ . وَكَمَا أَنَّ اللَّهْوَ الَّذِي يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ - وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ " { كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ } - صَارَ هَذَا اللَّهْوُ حَقًّا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الضَّرَرَ عَلَى النَّاسِ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا قَدْ يَتَخَوَّفُ فِيهَا مِنْ تَبَاغُضٍ وَأَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ ؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ فِيهَا

يَسِيرٌ كَمَا تَقَدَّمَ . وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا مَاسَّةٌ . وَالْحَاجَةُ الشَّدِيدَةُ يَنْدَفِعُ بِهَا يَسِيرُ الْغَرَرِ . وَالشَّرِيعَةُ جَمِيعُهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ إذَا عَارَضَتْهَا حَاجَةٌ رَاجِحَةٌ أُبِيحَ الْمُحَرَّمُ ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ مُنْتَفِيَةً وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَى بَقَاءِ الثَّمَرِ بَعْدَ الْبَيْعِ عَلَى الشَّجَرِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ أَبَاحَ الشَّرْعُ ذَلِكَ وَقَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ . كَمَا سَنُقَرِّرُ قَاعِدَتَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : أَنَّهَا إذَا تَلِفَتْ بَعْدَ الْبَيْعِ بِجَائِحَةٍ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ . كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَوْ بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ ، فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا . بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيك بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ عَنْهُ : " { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ } . وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ - وَإِنَّمَا بَلَغَهُ حَدِيثٌ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة فِيهِ اضْطِرَابٌ - أَخَذَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ الْكُوفِيِّينَ : إنَّهَا تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ قَدْ تَلِفَ بَعْدَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَهُ قَبْضٌ . وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الْكُوفِيِّينَ أَمْشَى ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ إبْقَاءَهُ عَلَى الشَّجَرِ وَإِنَّمَا مُوجِبُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمْ : الْقَبْضُ النَّاجِزُ بِكُلِّ حَالٍ . وَهُوَ طَرْدٌ لِقِيَاسٍ سَنَذْكُرُ أَصْلَهُ وَضَعْفَهُ مَعَ

أَنَّ مَصْلَحَةَ بَنِي آدَمَ لَا تَقُومُ عَلَى ذَلِكَ . مَعَ أَنِّي لَا أَعْلَمُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةً صَرِيحَةً بِأَنَّ الْمَبِيعَ التَّالِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ يَكُونُ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِتَلَفِهِ إلَّا حَدِيثَ الْجَوَائِحِ هَذَا . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ لَكَانَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ يُوَافِقُهُ وَهُوَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلثَّمَرَةِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ جِذَاذِهَا عِنْدَ كَمَالِهَا وَنُضْجِهَا لَا عِنْدَ الْعَقْدِ كَمَا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا . فَتَلَفُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْجِذَاذِ كَتَلَفِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَفِي الْإِجَارَةِ يَتْلَفُ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ بِالِاتِّفَاقِ . فَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَمْلِكْ الْمَنْفَعَةَ وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَمْلِكْ الْإِبْقَاءَ . وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَقُولُ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَسَنَذْكُرُ أَصْلَهُ . فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَتَذْهَبَ عَنْهُ الْآفَةُ } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ عَنْهُ : " { نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ وَعَنْ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ : نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُحْرَزَ مِنْ كُلِّ عَارِضٍ } .

فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ كَوْنَهُ كَانَ مَعْدُومًا . فَإِنَّهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَأَمْنِهِ الْعَاهَةَ يَزِيدُ أَجْزَاءً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْعَقْدِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْأَمْنَ مِنْ الْعَاهَاتِ النَّادِرَةِ . فَإِنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ ؛ إذْ قَدْ يُصِيبُهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ { أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } { وَلَا يَسْتَثْنُونَ } وَمَا ذَكَرَهُ فِي " سُورَةِ يُونُسَ " فِي قَوْلِهِ : { حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ } وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ذَهَابُ الْعَاهَةِ الَّتِي يَتَكَرَّرُ وُجُودُهَا وَهَذِهِ إنَّمَا تُصِيبُ الزَّرْعَ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ وَقَبْلَ ظُهُورِ النُّضْجِ فِي الثَّمَرِ ؛ إذْ الْعَاهَةُ بَعْدَ ذَلِكَ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا قَبْلَهُ وَلِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ بَيْعَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْغَايَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَقْتٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَى حِينِ كَمَالِ الصَّلَاحِ . وَبَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ بَعْدَ كَمَالِ صَلَاحِهِ مُتَعَذَّرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْمُلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً . وَإِيجَابُ قَطْعِهِ عَلَى مَالِكِهِ فِيهِ ضَرَرٌ مُرْبٍ عَلَى ضَرَرِ الْغَرَرِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ مَصْلَحَةَ جَوَازِ الْبَيْعِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى مَفْسَدَةِ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ كَمَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الْحِكْمَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَّمَهَا أُمَّتَهُ . وَمَنْ طَرَدَ الْقِيَاسَ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ نَاظِرٍ إلَى مَا يُعَارِضُ عِلَّتَهُ مِنْ الْمَانِعِ الرَّاجِحِ : أَفْسَدَ كَثِيرًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَضَاقَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَدِينُهُ .

وَأَيْضًا : فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ : " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إبِلٌ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ فَرَجَعَ إلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ : لَمْ أَجِدْ فِيهَا إلَّا خِيَارًا رباعيا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطِهِ إيَّاهُ فَإِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً } . فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِسْلَافِ فِيمَا سِوَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ كَمَا عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ وَالْحَدِيثِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرْضَ مُوجِبُهُ رَدُّ الْمِثْلِ وَالْحَيَوَانُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مَالٍ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ مِثْلُ الْحَيَوَانِ تَقْرِيبًا فِي الذِّمَّةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ ؛ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ وَوَجْهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْقِيمَةِ . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ : هُوَ التَّقْرِيبُ وَإِلَّا فَيَعِزُّ وُجُودُ حَيَوَانٍ مِثْلُ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ . لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ وَأَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ بِالْقِيمَةِ . وَأَيْضًا : فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْجِيلِ الدُّيُونِ إلَى الْحَصَادِ وَالْجِذَاذِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . إحْدَاهُمَا : يَجُوزُ كَقَوْلِ مَالِكٍ . وَحَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ يَدُلُّ عَلَيْهِ .

وَأَيْضًا : فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ فِي قَوْله تَعَالَى { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } وَالسُّنَّةُ فِي حَدِيثِ بروع بِنْتِ وَاشِقٍ وَإِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ : عَلَى جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِدُونِ فَرْضِ الصَّدَاقِ . وَتَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ إذَا دَخَلَ بِهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَإِذَا مَاتَ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِحَدِيثِ بروع بِنْتِ وَاشِقٍ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مُتَقَارِبٌ لَا مَحْدُودٌ فَلَوْ كَانَ التَّحْدِيدُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَهْرِ مَا جَازَ النِّكَاحُ بِدُونِهِ وَكَمَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يُبَيَّنَ لَهُ أَجْرُهُ وَعَنْ بَيْعِ اللَّمْسِ وَالنَّجْش وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ } فَمَضَتْ الشَّرِيعَةُ بِجَوَازِ النِّكَاحِ قَبْلَ فَرْضِ الْمَهْرِ وَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا مَعَ تَبْيِينِ الْأَجْرِ فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا . وَسَبَبُهُ : أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ - وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ - غَيْرُ مَحْدُودَةٍ ؛ بَلْ الْمَرْجِعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ ؛ فَكَذَلِكَ عِوَضُهُ الْآخَرُ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ وَإِنَّمَا هُوَ نِحْلَةٌ تَابِعَةٌ ، فَأَشْبَهَ الثَّمَرَ التَّابِعَ لِلشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ . وَكَذَلِكَ لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ هَوَازِنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ السَّبْيِ وَبَيْنَ الْمَالِ فَاخْتَارُوا السَّبْيَ وَقَالَ لَهُمْ : " { إنِّي قَائِمٌ فَخَاطَبَ النَّاسَ فَقُولُوا : إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَنَسْتَشْفِعُ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ . وَقَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : إنِّي قَدْ رَدَدْت عَلَى هَؤُلَاءِ سَبْيَهُمْ فَمَنْ شَاءَ طَيَّبَ ذَلِكَ وَمَنْ شَاءَ فَإِنَّا نُعْطِيهِ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ عَشْرَ قَلَائِصَ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا } فَهَذَا مُعَاوَضَةٌ عَنْ الْإِعْتَاقِ كَعِوَضِ الْكِتَابَةِ بِإِبِلٍ مُطْلَقَةٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ مُتَفَاوِتٍ غَيْرِ مَحْدُودٍ . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي حَدِيثِ خَيْبَرَ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَهُمْ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إلَى قَصْرِهِمْ وَغَلَبَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَجْلُوا مِنْهَا وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَالْحَلْقَةُ وَهِيَ السِّلَاحُ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيِّبُوا شَيْئًا . فَإِنْ فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ } فَهَذَا مُصَالَحَةٌ عَلَى مَالٍ مُتَمَيِّزٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " { صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ : النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ يُؤَدُّونَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَارِيَةِ ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا وَثَلَاثِينَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ السِّلَاحِ يَغْزُونَ بِهَا وَالْمُسْلِمُونَ ضَامِنُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوهَا عَلَيْهِمْ إنْ كَانَ بِالْيَمَنِ كَيْدٌ أَوْ غَارَةٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . فَهَذَا مُصَالَحَةٌ عَلَى ثِيَابٍ مُطْلَقَةٍ مَعْلُومَةِ

الْجِنْسِ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَاتِ السَّلَمِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ عَارِيَةِ خَيْلٍ وَإِبِلٍ وَأَنْوَاعٍ مِنْ السِّلَاحِ مُطْلَقَةٍ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ عِنْدَ شَرْطٍ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ . فَظَهَرَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ الْعِوَضَ عَمَّا لَيْسَ بِمَالِ - كَالصَّدَاقِ وَالْكِتَابَةِ وَالْفِدْيَةِ فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْجِزْيَةِ وَالصُّلْحِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ - لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنْ يَعْلَمَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ . وَلَا يُقَاسُ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ كُلُّ عَقْدٍ عَلَى غَرَرٍ ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ إمَّا أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ أَوْ لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْهَا . وَمَا لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ إذَا وَقَعَ فِيهِ غَرَرٌ لَمْ يُفْضِ إلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَيْعِ بَلْ يَكُونُ إيجَابُ التَّحْدِيدِ فِي ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ الْمَنْفِيِّ شَرْعًا مَا يَزِيدُ عَلَى ضَرَرِ تَرْكِ تَحْدِيدِهِ .
فَصْلٌ :
وَمِمَّا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَمِنْ مَسَائِلِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ : مَا قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرِهَا لَا سِيَّمَا دِمَشْقُ . وَذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى غِرَاسٍ وَأَرْضٍ تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ وَرُبَّمَا اشْتَمَلَتْ مَعَ ذَلِكَ عَلَى مَسَاكِنَ

فَيُرِيدُ صَاحِبُهَا أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِمَنْ يَسْقِيهَا وَيَزْرَعُهَا أَوْ يُسْكِنُهَا مَعَ ذَلِكَ . فَهَذَا - إذَا كَانَ فِيهَا أَرْضٌ وَغِرَاسٌ - مِمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِحَالِ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ إذَا كَانَ الشَّجَرُ قَلِيلًا وَكَانَ الْبَيَاضُ الثُّلُثَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ؛ وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَكْرَى دَارًا فِيهَا نَخَلَاتٌ قَلِيلَةٌ أَوْ شَجَرَاتُ عِنَبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَعَنْ أَحْمَد كَالْقَوْلَيْنِ . قَالَ الكرماني : قِيلَ لِأَحْمَدَ : الرَّجُلُ يَسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ فِيهَا نَخَلَاتٌ ؟ قَالَ : أَخَافُ أَنْ يَكُونَ اسْتَأْجَرَ شَجَرًا لَمْ يُثْمِرْ وَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ أَظُنُّهُ : إذَا أَرَادَ الشَّجَرَ فَلَمْ أَفْهَمْ عَنْ أَحْمَد أَكْثَرَ مِنْ هَذَا . وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ فِيمَا إذَا بَاعَ رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ هُوَ غَيْرَ الْجِنْسِ كَشَاةِ ذَاتِ صُوفٍ أَوْ لَبَنٍ بِصُوفٍ أَوْ لَبَنٍ رِوَايَتَانِ . وَأَكْثَرُ أُصُولِهِ عَلَى الْجَوَازِ كَقَوْلِ مَالِكٍ ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ : إذَا ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ وَكَانَ مَقْصُودُهُ الْعَبْدَ : جَازَ ؛ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَجْهُولًا أَوْ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ . وَلِأَنَّهُ يَقُولُ : إذَا ابْتَاعَ أَرْضًا أَوْ شَجَرًا فِيهَا ثَمَرٌ أَوْ زَرْعٌ لَمْ يُدْرَكْ : يَجُوزُ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ

الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ . وَهَذَا فِي الْبَيْعِ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا فِي الْإِجَارَةِ فَإِنَّ ابْتِيَاعَ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَائِهَا . وَاشْتِرَاءُ النَّخْلِ وَدُخُولُ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تَأْمَنْ الْعَاهَةَ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ : بِمَنْزِلَةِ دُخُولِ ثَمَرِ النَّخَلَاتِ وَالْعِنَبِ فِي الْإِجَارَةِ تَبَعًا . وَحُجَّةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَنْعِ : مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ وَبَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ . كَمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ } . وَفِيهِمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : " { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تَشْقُحَ . قِيلَ : وَمَا تَشْقُحُ ؟ قَالَ : تَحْمَارُّ أَوْ تَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا } . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ : أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ مِنْ كَلَامِ سَعِيدِ بْنِ الْمُثَنَّى الْمُحَدِّثِ عَنْ جَابِرٍ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : " { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَالْمُخَابَرَةِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا : " وَعَنْ بَيْعِ السِّنِينَ " بَدَلَ " الْمُعَاوَمَةِ " وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أنيسة عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ : " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَأَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ حَتَّى يشقه } والإشقاه :

أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيْءٌ . وَالْمُحَاقَلَةُ : أَنْ يُبَاعَ الْحَقْلُ بِكَيْلٍ مِنْ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ . وَالْمُزَابَنَةُ : أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ بِأَوْسَاقٍ مِنْ التَّمْرِ . وَالْمُخَابَرَةُ : الثُّلُثُ أَوْ الرُّبُعُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ . قَالَ زَيْدٌ : قُلْت لِعَطَاءِ : أَسَمِعْت جَابِرًا يَذْكُرُ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ " وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي البختري . قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ . فَقَالَ : " { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ أَوْ يُؤْكَلَ وَحَتَّى يُوزَنَ . فَقُلْت : مَا يُوزَنُ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ : حَتَّى يُحْرَزَ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { وَلَا تَتَبَايَعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَلَا تَتَابَعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ } . وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ ثَمَرِ النَّخْلِ سِنِينَ لَا يَجُوزُ . قَالُوا : فَإِذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ فَقَدْ بَاعَهُ الثَّمَرَ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ ، وَبَاعَهُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ مُطْلَقًا طَرَدَ الْعُمُومَ وَالْقِيَاسَ . وَمَنْ جَوَّزَهُ إذَا كَانَ قَلِيلًا قَالَ : الْغَرَرُ الْيَسِيرُ يُحْتَمَلُ فِي الْعُقُودِ كَمَا لَوْ ابْتَاعَ النَّخْلَ وَعَلَيْهَا ثَمَرٌ لَمْ يُؤَبَّرْ أَوْ أُبِّرَ وَلَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ . وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ جِدًّا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مِنْ فُقَهَاءِ

الْحَدِيثِ وَلَكِنْ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجَوِّزُ ابْتِيَاعَ الثَّمَرِ بِشَرْطِ الْبَقَاءِ وَيُجَوِّزُ ابْتِيَاعَهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ . وَمُوجِبُ الْعَقْدِ : الْقَطْعُ فِي الْحَالِ فَإِذَا ابْتَاعَهُ مَعَ الْأَصْلِ . فَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ إبْقَاءَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مِلْكُهُ ، وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ . وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ : أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ كَثِيرٌ : إجْمَاعٌ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ وَدُخُولُ الشَّجَرِ فِي الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا . وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ وَإِلَيْهِ مَالَ حَرْبٌ الكرماني وَهَذَا الْقَوْلُ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ خِلَافَهُ . فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ - وَرَوَاهُ عَنْهُ حَرْبٌ الكرماني فِي مَسَائِلِهِ - قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ : " أَنَّ أسيد بْنَ حضير تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَدَعَا عُمَرُ غُرَمَاءَهُ فَقَبِلَهُمْ أَرْضَهُ سِنِينَ وَفِيهَا النَّخْلُ وَالشَّجَرُ " . وَأَيْضًا : فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ وَغَيْرِهَا . فَأَقَرَّ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النَّخْلُ وَالْعِنَبُ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْأَرْضِ وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ أَجْرِبَةِ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ وَالْبَيْضَاءِ خَرَاجًا

مُقَدَّرًا . وَالْمَشْهُورُ : أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى جَرِيبِ الْعِنَبَ : عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ : ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ . وَعَلَى جَرِيبِ الرُّطَبَةِ : سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى جَرِيبِ الزَّرْعِ : دِرْهَمًا وَقَفِيزًا مِنْ طَعَامٍ . وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : أَنَّ هَذِهِ الْمُخَارَجَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْمُؤَاجَرَةِ . وَإِنَّمَا لَمْ يؤقته لِعُمُومِ الْمَصْلَحَةِ . وَإِنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةُ الْأَرْضِ . فَهَذَا بِعَيْنِهِ إجَارَةُ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ وَهُوَ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ فِي زَمَانِهِ وَبَعْدَهُ وَلِهَذَا تَعَجَّبَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " كِتَابِ الْأَمْوَالِ " مِنْ هَذَا . فَرَأَى أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ تُخَالِفُ مَا عَلِمَهُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ . وَحُجَّةُ ابْنِ عَقِيلٍ : أَنَّ إجَارَةَ الْأَرْضِ جَائِزَةٌ . وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا دَاعِيَةٌ وَلَا يُمْكِنُ إجَارَتُهَا إذَا كَانَ فِيهَا شَجَرٌ إلَّا بِإِجَارَةِ الشَّجَرِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْجَائِزُ إلَّا بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ . لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَتَبَرَّعُ بِسَقْيِ الشَّجَرِ وَقَدْ لَا يُسَاقِي عَلَيْهَا . وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ . فَإِذَا سَاقَى الْعَامِلُ عَلَى شَجَرٍ فِيهَا بَيَاضٌ جَوَّزَا الْمُزَارَعَةَ فِي ذَلِكَ الْبَيَاضِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ فَيُجَوِّزُهُ مَالِكٌ إذَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ كَمَا قَالَ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُهُ إذَا كَانَ الْبَيَاضُ قَلِيلًا

لَا يُمْكِنُ سَقْيُ النَّخْلِ إلَّا بِسَقْيِهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا وَالنَّخْلُ قَلِيلًا فَفِيهِ لِأَصْحَابِهِ وَجْهَانِ . هَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ كَالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ فَأَمَّا إنْ فَاضَلَ بَيْن الْجُزْأَيْنِ . فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِهِ . وَكَذَلِكَ إنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ وَقَدَّمَ الْمُسَاقَاةَ فَفِيهِ وَجْهَانِ . فَأَمَّا إنْ قَدَّمَ الْمُزَارَعَةَ لَمْ تَصِحَّ الْمُزَارَعَةُ وَجْهًا وَاحِدًا . فَقَدْ جَوَّزَ الْمُزَارَعَةَ الَّتِي لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ . فَكَذَلِكَ يُجَوِّزُ إجَارَةَ الشَّجَرِ تَبَعًا لِإِجَارَةِ الْأَرْضِ . وَقَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ هُوَ قِيَاسُ أَحَدِ وَجْهَيْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِلَا شَكٍّ ؛ وَلِأَنَّ الْمَانِعِينَ مِنْ هَذَا : هُمْ بَيْنَ مُحْتَالٍ عَلَى جَوَازِهِ أَوْ مُرْتَكِبٍ لِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ حَرَامٌ أَوْ ضَارٌّ وَمُتَضَرِّرٌ . فَإِنَّ الْكُوفِيِّينَ احْتَالُوا عَلَى الْجَوَازِ : تَارَةً بِأَنْ يُؤَجِّرَ الْأَرْضَ فَقَطْ وَيُبِيحَهُ ثَمَرَ الشَّجَرِ كَمَا يَقُولُونَ فِي بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا يَبِيعُهُ إيَّاهَا مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ وَيُبِيحُهُ إبْقَاءَهَا . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ مَنْقُولَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا . وَتَارَةً بِأَنْ يُكْرِيَهُ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الشَّجَرِ بِالْمُحَابَاةِ ؛ مِثْلَ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ الثَّمَرَةِ لِلْمَالِكِ . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ إنَّمَا يُجَوِّزُهَا مَنْ يُجَوِّزُ الْمُسَاقَاةَ كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ

وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ . فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا يُجَوِّزُهَا بِحَالٍ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ إنَّمَا يُجَوِّزُهَا فِي الْجَدِيدِ فِي النَّخْلِ وَالْعِنَبِ . فَقَدْ اُضْطُرُّوا فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ إلَى أَنْ تُسَمَّى الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَيَتَبَرَّعُ لَهُ إمَّا بِإِعْرَاءِ الشَّجَرِ وَإِمَّا بِالْمُحَابَاةِ فِي مُسَاقَاتِهَا . وَلِفَرْطِ الْحَاجَةِ إلَى هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد هَذِهِ الْحِيلَةَ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ الْحِيَلِ - أَعْنِي حِيلَةَ الْمُحَابَاةِ فِي الْمُسَاقَاةِ - وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ : إبْطَالُ هَذِهِ الْحِيلَةِ بِعَيْنِهَا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَالْمَنْعُ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ هُوَ الصَّحِيحُ قَطْعًا ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرُو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنُ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك } رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ : أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَابْنُ مَاجَه . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ . فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَإِجَارَةٍ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ أَوْ مِثْلِهِ . وَكُلُّ تَبَرُّعٍ يَجْمَعُهُ إلَى الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ مِثْلَ : الْهِبَةِ وَالْعَارِيَة وَالْعُرْيَةِ وَالْمُحَابَاةِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : هِيَ مِثْلُ الْقَرْضِ . فَجِمَاعُ مَعْنَى الْحَدِيثِ : أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَ مُعَاوَضَةٍ وَتَبَرُّعٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ

التَّبَرُّعَ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْمُعَاوَضَةِ ؛ لَا تَبَرُّعًا مُطْلَقًا ، فَيَصِيرُ جُزْءًا مِنْ الْعِوَضِ فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ جَمَعَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ ؛ فَإِنَّ مَنْ أَقْرَضَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ بِأَلْفِ : لَمْ يَرْضَ بِالْإِقْرَاضِ إلَّا بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ لِلسِّلْعَةِ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَرْضَ بِبَذْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ الزَّائِدِ إلَّا لِأَجْلِ الْأَلْفِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا ، فَلَا هَذَا بَاعَ بَيْعًا بِأَلْفِ وَلَا هَذَا أَقْرَضَ قَرْضًا مَحْضًا ؛ بَلْ الْحَقِيقَةُ : أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْأَلْفَ وَالسِّلْعَةَ بِأَلْفَيْنِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ " مُدِّ عَجْوَةٍ " فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ أَخْذَ أَلْفٍ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ : حَرُمَ بِلَا تَرَدُّدٍ وَإِلَّا خَرَجَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ ، وَهَكَذَا مَنْ اكْتَرَى الْأَرْضَ الَّتِي تُسَاوِي مِائَةً بِأَلْفٍ وَأَعْرَاهُ الشَّجَرَ أَوْ رَضِيَ مِنْ ثَمَرِهَا بِجُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ . فَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ : أَنَّهُ إنَّمَا تَبَرَّعَ بِالثَّمَرَةِ لِأَجْلِ الْأَلْفِ الَّتِي أَخَذَهَا وَأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا بَذَلَ الْأَلْفَ لِأَجْلِ الثَّمَرَةِ فَالثَّمَرَةُ هِيَ جُلُّ الْمَقْصُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْضُهُ فَلَيْسَتْ الْحِيلَةُ إلَّا ضَرْبًا مِنْ اللَّعِبِ وَالْإِفْسَادِ ؛ وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ . وَاَلَّذِينَ لَا يَحْتَالُونَ أَوْ يَحْتَالُونَ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ فَسَادُ هَذِهِ الْحِيلَةِ هُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ وَيَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ فَاعِلُونَ لِلْمُحَرَّمِ كَمَا رَأَيْنَا عَلَيْهِ أَكْثَرَ النَّاسِ . وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ وَيَتْرُكُوا تَنَاوُلَ الثِّمَارِ الدَّاخِلَةِ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الضَّرَرِ

وَالِاضْطِرَارِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَلْتَزِمَ ذَلِكَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ فَمَا يُمْكِنُ الْمُسْلِمِينَ الْتِزَامُ ذَلِكَ إلَّا بِفَسَادِ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ قَطُّ فَضْلًا عَنْ شَرِيعَةٍ قَالَ اللَّهُ فِيهَا : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " { إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ } " { يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا } " { لِيَعْلَمَ الْيَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا سِعَةً } فَكُلُّ مَا لَا يَتِمُّ الْمَعَاشُ إلَّا بِهِ فَتَحْرِيمُهُ حَرَجٌ ، وَهُوَ مُنْتَفٍ شَرْعًا . وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا : أَنَّ تَحْرِيمَ مِثْلِ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْأُمَّةُ الْتِزَامَهُ قَطُّ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي لَا يُطَاقُ . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامِ ؛ بَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَوَضَعَهَا اللَّهُ عَنَّا عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَنْ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا وَجَدَهَا مَبْنِيَّةً عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَكُلُّ مَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهِ فِي مَعَاشِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً - هِيَ تَرْكُ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلُ مُحَرَّمٍ - لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى الْمُضْطَرِّ الَّذِي لَيْسَ بِبَاغٍ وَلَا عَادٍ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً كَالْمُسَافِرِ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ اُضْطُرَّ فِيهِ إلَى الْمَيْتَةِ وَالْمُنْفِقِ لِلْمَالِ

فِي الْمَعَاصِي حَتَّى لَزِمَتْهُ الدُّيُونُ ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ وَيُبَاحُ لَهُ مَا يُزِيلُ ضَرُورَتَهُ ، فَتُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ وَيُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ مِنْ الزَّكَاةِ ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفَسِهِ الْمُحْتَالُ وَحَالُهُ كَحَالِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } وَقَوْلُهُ { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ } الْآيَةَ . وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ رُبَّمَا نُنَبِّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَيْهَا . وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَف الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ : هُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد وَبَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ ؛ بَعْدَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ التَّحْرِيمِ شَرْعًا وَعَقْلًا ؛ فَإِنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ إنَّمَا تَتِمُّ بَعْدَ الْجَوَابِ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ . الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ أسيد بْنِ الحضير . فَإِنَّهُ قَبِلَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ الَّذِي فِيهَا بِالْمَالِ الَّذِي كَانَ لِلْغُرَمَاءِ . وَهَذَا عَيْنُ مَسْأَلَتِنَا وَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّخْلَ وَالشَّجَرَ كَانَ قَلِيلًا . فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حِيطَانَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الشَّجَرَ وأسيد بْنُ الحضير كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْأَنْصَارِ وَمَيَاسِيرِهِمْ . فَبَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى حَائِطِهِ الْأَرْضَ الْبَيْضَاءَ . ثُمَّ هَذِهِ الْقِصَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تَشْتَهِرَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَهَا ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا . وَكَذَلِكَ مَا ضَرَّ بِهِ مِنْ الْخَرَاجِ عَلَى

السَّوَادِ ؛ فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُ خَرَاجًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِوَضٌ عَمَّا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ كَمَا يُسَمِّي النَّاسُ الْيَوْمَ كِرَاءَ الْأَرْضِ لِمَنْ يَغْرِسُهَا خَرَاجًا إذَا كَانَ عَلَى كُلِّ شَجَرَةٍ شَيْءٌ مَعْلُومٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } . وَمِنْهُ خَرَاجُ الْعَبْدِ ؛ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ ضَرِيبَةٍ يُخْرِجُهَا لِسَيِّدِهِ مِنْ مَالِهِ ، فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أُجْرَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ جَوَازَ مِثْلِ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ . وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ ثَمَنٌ أَوْ عِوَضٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ غَيْرَهُ . وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ الصَّحَابَةُ - وَلَا نَظِيرَ لَهُ - لِأَجْلِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ أَرْضٍ فِيهَا شَجَرٌ كَالْأَرْضِ الْمُفْتَتَحَةِ سَوَاءٌ . فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ : يُمْكِنُ الْمُسَاقَاةُ أَوْ الْمُزَارَعَةُ . قِيلَ : وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ عُمَرُ الْمُسَاقَاةَ أَوْ الْمُزَارَعَةَ كَمَا فَعَلَ فِي أَثْنَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ ؛ إمَّا فِي خِلَافَةِ الْمَنْصُورِ وَإِمَّا بَعْدَهُ ؛ فَإِنَّهُمْ نَقَلُوا أَرْضَ السَّوَادِ مِنْ الْخَرَاجِ إلَى الْمُقَاسَمَةِ الَّتِي هِيَ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ الْكِرَاءِ بِإِزَاءِ الْأَرْضِ وَالتَّبَرُّعِ بِمَنْفَعَةِ الشَّجَرِ أَوْ الْمُحَابَاةِ فِيهَا . قِيلَ : وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ عُمَرُ ذَلِكَ . فَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالَتْ لَهُمْ أَرَضُونَ فِيهَا شَجَرٌ

تُكْرَى ؛ بَلْ هَذَا غَالِبٌ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ . وَنَعْلَمُ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ يُعَمِّرُونَ أَرْضَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا غَالِبُهُمْ وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ قَدْ لَا تَتَيَسَّرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ؛ لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى عَامِلٍ أَمِينٍ وَمَا كُلُّ أَحَدٍ يَرْضَى بِالْمُسَاقَاةِ وَلَا كُلُّ مَنْ أَخَذَ الْأَرْضَ يَرْضَى بِالْمُشَارَكَةِ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا قَدْ كَانُوا يَكْرُونَ الْأَرْضَ السَّوْدَاءَ ذَاتَ الشَّجَرِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاحْتِيَالَ بِالتَّبَرُّعِ أَمْرٌ نَادِرٌ لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَفْعَلُونَهُ . فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَالِ أسيد بْنِ الحضير وَكَمَا يَفْعَلُهُ غَالِبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وَإِلَى الْيَوْمِ . فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ وَلَا أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِحِيلَةِ التَّبَرُّعِ - مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِفِعْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ - عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . فَيَكُونُ فِعْلُهَا كَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ . وَلَعَلَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ وَالْمُزَارَعَةِ عَلَيْهَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ وَلَا فِي الْمُسَاقَاةِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهَا طَائِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْفَعَةِ الشَّجَرِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ حَرْبٌ الكرماني : سُئِلَ أَحْمَد عَنْ تَفْسِيرِ

حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : " القبالات رِبًا " قَالَ : هُوَ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْقَرْيَةَ فِيهَا النَّخْلُ وَالْعُلُوجُ . قِيلَ لَهُ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَخْلٌ وَهِيَ أَرْضٌ بَيْضَاءُ ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ ؛ إنَّمَا هُوَ الْآنَ مُسْتَأْجِرٌ : قِيلَ : فَإِنَّ فِيهَا عُلُوجًا ؟ قَالَ : فَهَذَا هُوَ الْقَبَالَةُ الْمَكْرُوهَةُ . قَالَ حَرْبٌ : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جبلة سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : " القبالات رِبًا " . قِيلَ : الرِّبَا فِيمَا يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِأَجْلِ الْفَضْلِ . فَإِذَا قِيلَ فِي الْأُجْرَةِ أَوْ الثَّمَنِ أَوْ نَحْوِهِمَا : أَنَّهُ رِبًا مَعَ جَوَازِ تَأْجِيلِهِ . فَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا لِأَنَّ الرِّبَا إمَّا رِبَا النَّسَاءِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَا يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ وَإِمَّا رِبَا الْفَضْلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ . فَإِذَا انْتَفَى رِبَا النَّسَاءِ الَّذِي هُوَ التَّأْخِيرُ لَمْ يَبْقَ إلَّا رِبَا الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ . وَهَذَا يَكُونُ إذَا كَانَ التَّقَبُّلُ بِجِنْسِ مُغَلِّ الْأَرْضِ مِثْلَ : أَنْ يَقْبَلَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا نَخْلٌ يُتْمِرُ . فَيَكُونُ مِثْلَ الْمُزَابَنَةِ . وَهَذَا مِثْلُ اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ بِجِنْسِ الْخَارِجِ مِنْهَا إذَا كَانَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ مِثْلَ : أَنْ يَكْتَرِيَهَا لِيَزْرَعَ فِيهَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ مَعْلُومَةٍ . فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ رِبًا كَقَوْلِ مَالِكٍ . وَهَذَا مِثْلُ الْقَبَالَةِ الَّتِي كَرِهَهَا ابْنُ عُمَرَ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ الْأَرْضَ لِلْحِنْطَةِ بِحِنْطَةٍ مَعْلُومَةٍ فَكَأَنَّهُ ابْتَاعَ حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ تَكُونُ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ فَيَظْهَرُ الرِّبَا .

فالقبالات الَّتِي ذَكَرَ ابْنُ عُمَر أَنَّهَا رِبًا : أَنْ يَضْمَنَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النَّخْلُ وَالْفَلَّاحُونَ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنْ جِنْسِ مُغَلِّهَا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ قَرْيَةٌ فِيهَا شَجَرٌ وَأَرْضٌ وَفِيهَا فَلَّاحُونَ يَعْمَلُونَ لَهُ تَغُلُّ لَهُ مَا تَغُلُّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ بَعْدَ أُجْرَةِ الْفَلَّاحِينَ أَوْ نَصِيبِهِمْ فَيَضْمَنُهَا رَجُلٌ مِنْهُ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا مَظْهَرُ تَسْمِيَتِهِ بِالرِّبَا . فَأَمَّا ضَمَانُ الْأَرْضِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الرِّبَا بِسَبِيلِ . وَمَنْ حَرَّمَهُ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ . ثُمَّ إنَّ أَحْمَد لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ أَرْضًا بَيْضَاءَ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عِنْدَهُ جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ مِنْ جِنْسِ الْخَارِجِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ بِمَنْفَعَتِهِ وَمَالِهِ فَيَكُونُ الْمُغَلُّ بِكَسْبِهِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهَا الْعُلُوجُ وَهُمْ الَّذِينَ يُعَالِجُونَ الْعَمَلَ . فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِيهَا شَيْئًا لَا بِمَنْفَعَتِهِ وَلَا بِمَالِهِ بَلْ الْعُلُوجُ يَعْمَلُونَهَا . وَهُوَ يُؤَدِّي الْقَبَالَةَ وَيَأْخُذُ بَدَلَهَا . فَهُوَ طَلَبُ الرِّبْحِ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ صِنَاعَةٍ وَلَا تِجَارَةٍ وَهَذَا هُوَ الرِّبَا . وَنَظِيرُ هَذَا مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رِبًا ، وَهُوَ اكْتِرَاءُ الْحَمَّامِ وَالطَّاحُونِ وَالْفَنَادِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْتَفِعُ الْمُسْتَأْجِرُ بِهِ فَلَا يَتَّجِرُ فِيهِ وَلَا يَصْطَنِعُ فِيهِ . وَإِنَّمَا يَكْتَرِيهِ لِيُكْرِيَهُ فَقَطْ ، فَقَدْ قِيلَ : هُوَ رِبًا . وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رِبًا لِأَجْلِ النَّخْلِ وَلَا لِأَجْلِ الْأَرْضِ إذَا

كَانَتْ بِغَيْرِ جِنْسِ الْمُغَلِّ وَإِنَّمَا كَانَتْ رِبًا لِأَجْلِ الْعُلُوجِ . وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا ؛ فَإِنَّ الْعُلُوجَ يَقُومُونَ بِهَا ، فَتَقْبِيلُهَا لِآخَرَ مُرَابَاةٌ لَهُ ؛ وَلِهَذَا كَرِهَهَا أَحْمَد وَإِنْ كَانَتْ بَيْضَاءَ إذَا كَانَ فِيهَا الْعُلُوجُ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ حَرْبٌ الكرماني عَلَى الْمَسْأَلَةِ بِمُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ . وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا فِي الْمَعْنَى إكْرَاءٌ لِلْأَرْضِ مِنْهُمْ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مَعَ إكْرَاءِ الشَّجَرِ بِنِصْفِ ثَمَرِهِ . فَيُقَاسُ عَلَيْهِ إكْرَاءُ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ بِشَيْءٍ مَضْمُونٍ ؛ لِأَنَّ إعْطَاءَ الثَّمَرِ لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ لَكَانَ إعْطَاءُ بَعْضِهِ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ . وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا أَصْلَانِ : الْأَصْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَتَى كَانَ بَيْنَ الشَّجَرِ أَرْضٌ أَوْ مَسَاكِنُ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى كِرَائِهِمَا جَمِيعًا فَيَجُوزُ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ غَرَرٌ يَسِيرٌ ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْبُسْتَانُ وَقْفًا أَوْ مَالَ يَتِيمٍ ؛ فَإِنَّ تَعْطِيلَ مَنْفَعَتِهِ لَا يَجُوزُ وَإِكْرَاءُ الْأَرْضِ أَوْ الْمَسْكَنِ وَحْدَهُ لَا يَقَعُ فِي الْعَادَةِ وَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ فِي إجَارَتِهِ عَلَى ذَلِكَ . وَإِنْ اكْتَرَاهُ اكْتَرَاهُ بِنَقْصِ كَثِيرٍ عَنْ قِيمَتِهِ . وَمَا لَا يَتِمُّ الْمُبَاحُ إلَّا بِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ . فَكُلُّ مَا يَثْبُتُ إبَاحَتُهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ وَجَبَ إبَاحَةُ لَوَازِمِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَحْرِيمِهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ . وَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ لَوَازِمِهِ وَمَا لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمِ إلَّا بِاجْتِنَابِهِ فَهُوَ حَرَامٌ ، فَهُنَا يَتَعَارَضُ الدَّلِيلَانِ . وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَدْ ثَبَتَ إبَاحَةُ

كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْمَتْبُوعِينَ ؛ بِخِلَافِ دُخُولِ كِرَاءِ الشَّجَرِ ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَلَا نَصَّ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا : فَمَتَى أُكْرِيَتْ الْأَرْضُ وَحْدَهَا وَبَقِيَ الشَّجَرُ لَمْ يَكُنْ الْمُكْتَرِي مَأْمُونًا عَلَى الثَّمَرِ فَيُفْضِي إلَى اخْتِلَافِ الْأَيْدِي وَسُوءِ الْمُشَارَكَةِ . كَمَا إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِثْلُ قَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ : إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي جِنْسٍ - وَكَانَ فِي بَيْعِهِ مُتَفَرِّقًا ضَرَرٌ - جَازَ بَيْعُ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ ؛ لِتَعَسُّرِ تَفْرِيق الصَّفْقَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَشْتَرِي الثَّمَرَةَ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْمَسَاكِنُ لِغَيْرِهِ إلَّا بِنَقْصِ كَثِيرٍ . وَلِأَنَّهُ إذَا أَكْرَى الْأَرْضَ فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ سَقْيَ الشَّجَرِ - وَالسَّقْيُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ - صَارَ الْمُعَوَّضُ عِوَضًا . وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ السَّقْيَ فَإِذَا سَقَاهَا - إنْ سَاقَاهُ عَلَيْهَا - صَارَتْ الْإِجَارَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِمُسَاقَاةِ . وَإِنْ لَمْ يُسَاقِهِ لَزِمَ تَعْطِيلُ مَنْفَعَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَدُورُ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ بَعْضَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ إلَّا بِمُسَاقَاةِ أَوْ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْمُسْتَأْجِرِ . ثُمَّ إنْ حَصَلَ لِلْمُكْرِي جَمِيعُ الثَّمَرَةِ أَوْ بَعْضُهَا : فَفِي بَيْعِهَا - مَعَ أَنَّ الْأَرْضَ وَالْمَسَاكِنَ لِغَيْرِهِ - نَقْصٌ لِلْقِيمَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . فَيَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا كَانَ فِي تَفْرِيقِهَا ضَرَرٌ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمُعَاوَضَةِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجَمْعِ يُخَالِفُ

حُكْمَ التَّفْرِيقِ . وَلِهَذَا وَجَبَ عِنْدَ أَحْمَد وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا تَعَذَّرَتْ الْقِسْمَةُ : أَنْ يَبِيعَ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ يُؤَاجِرَ مَعَهُ إنْ كَانَ الْمُشْتَرَكُ مَنْفَعَةً ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ . فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ عَلَيْهِ مَا عَتَقَ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْوِيمِ الْعَبْدِ كُلِّهِ وَبِإِعْطَاءِ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ مِنْ الْقِيمَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيمَةَ حِصَّتِهِ مُنْفَرِدَةٌ دُونَ حِصَّتِهِ مِنْ قِيمَةِ الْجَمِيعِ . فَعُلِمَ أَنَّ حَقَّهُ فِي نِصْفِ النِّصْفِ . وَإِذَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِالْإِعْتَاقِ فَبِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِتْلَافِ أَوْلَى ؛ وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالْإِتْلَافِ مَا يُسْتَحَقُّ بِالْمُعَاوَضَةِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْمُعَاوَضَةِ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَإِنَّمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ عِنْدَ بَيْعِ الْجَمِيعِ . فَتَجِبُ قِسْمَةُ الْعَيْنِ حَيْثُ لَا ضَرَرَ فِيهَا . فَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَرَرٌ قُسِمَتْ الْقِيمَةُ . فَإِذَا كُنَّا قَدْ أَوْجَبْنَا عَلَى الشَّرِيكِ بَيْعَ نَصِيبِهِ لِمَا فِي التَّفْرِيقِ مِنْ نَقْصِ قِيمَةِ شَرِيكِهِ فَلَأَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا - إذَا كَانَ فِي تَفْرِيقِهِمَا ضَرَرٌ - أَوْلَى ؛ وَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ الشَّاةِ مَعَ اللَّبَنِ الَّذِي فِي ضَرْعِهَا . وَإِنْ أَمْكَنَ تَفْرِيقُهُمَا بِالْحَلْبِ وَإِنْ كَانَ بَيْعُ اللَّبَنِ وَحْدَهُ لَا يَجُوزُ . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ : فَيَجُوزُ مَتَى كَانَ مَعَ الشَّجَرِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ

كَمَنْفَعَةِ أَرْضٍ لِلزَّرْعِ أَوْ بِنَاءٍ لِلسَّكَنِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الثَّمَرَ فَقَطْ ؛ وَمَنْفَعَةُ الْأَرْضِ أَوْ الْمَسْكَنِ لَيْسَتْ جُزْءًا مِنْ الْمَقْصُودِ ؛ وَإِنَّمَا أُدْخِلَتْ لِمُجَرَّدِ الْحِيلَةِ كَمَا قَدْ يُفْعَلُ فِي مَسَائِلِ " مُدِّ عَجْوَةٍ " لَمْ يَجِئْ هَذَا الْأَصْلُ . " الْأَصْلُ الثَّانِي " : أَنْ يُقَالَ : إكْرَاءُ الشَّجَرِ لِلِاسْتِثْمَارِ يَجْرِي مَجْرَى إكْرَاءِ الْأَرْضِ لِلِازْدِرَاعِ وَاسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِلرِّضَاعِ . وَذَلِكَ : أَنَّ الْفَوَائِدَ الَّتِي تُسْتَخْلَفُ مَعَ بَقَاءِ أُصُولِهَا تَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ وَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا وَهِيَ ثَمَرُ الشَّجَرِ وَلَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ وَالْبَهَائِمِ وَالصُّوفِ وَالْمَاءِ الْعَذْبِ : فَإِنَّهُ كُلَّمَا خُلِقَ مِنْ هَذِهِ شَيْءٌ فَأَخْذُ خَلْقِ اللَّهِ بَدَلَهُ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ كَالْمَنَافِعِ سَوَاءٌ . وَلِهَذَا جَرَتْ فِي الْوَقْفِ وَالْعَارِيَة وَالْمُعَامَلَةِ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ مَجْرَى الْمَنْفَعَةِ ؛ فَإِنَّ الْوَقْفَ لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ . فَإِذَا جَازَ وَقْفُ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ أَوْ الرِّبَاعِ لِمَنْفَعَتِهَا فَكَذَلِكَ وَقْفُ الْحِيطَانِ لِثَمَرَتِهَا وَوَقْفُ الْمَاشِيَةِ لِدَرِّهَا وَصُوفِهَا وَوَقْفُ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ لِمَائِهَا ؛ بِخِلَافِ مَا يَذْهَبُ بِالِانْتِفَاعِ كَالطَّعَامِ وَنَحْوِهِ فَلَا يُوقَفُ . وَأَمَّا " بَابُ الْعَارِيَة " فَيُسَمُّونَ إبَاحَةَ الظُّهْرِ إفْقَارًا يُقَالُ : أَفْقَرَهُ الظُّهْرُ . وَمَا أُبِيحَ لَبَنُهُ : مَنِيحَةً . وَمَا أُبِيحَ ثَمَرُهُ : عَرِيَّةً وَغَيْرُ ذَلِكَ عَارِيَةٌ وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالْقَرْضِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُقْتَرِضُ ثُمَّ يَرُدُّ مِثْلَهُ . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنِيحَةُ لَبَنٍ أَوْ مَنِيحَةُ وَرَقٍ }

فَاكْتِرَاءُ الشَّجَرِ لَأَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا وَيَأْخُذَ ثَمَرَهَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِأَجْلِ لَبَنِهَا . وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إجَارَةٌ مَنْصُوصَةٌ إلَّا إجَارَةَ الظِّئْرِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } . وَلَمَّا اعْتَقَدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى مَنْفَعَةٍ لَيْسَتْ عَيْنًا وَرَأَى جَوَازَ إجَارَةِ الظِّئْرِ قَالَ : الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ وَضْعُ الطِّفْلِ فِي حِجْرِهَا وَاللَّبَنُ دَخَلَ ضِمْنًا وَتَبَعًا كَنَقْعِ الْبِئْرِ . وَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْحِسِّ ؛ فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ هُوَ اللَّبَنُ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } وَضَمَّ الطِّفْلَ إلَى حِجْرِهَا : إنْ فَعَلَ فَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى ذَلِكَ . وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ مَا ذَكَرْته : مِنْ أَنَّ الْفَائِدَةَ الَّتِي تُسْتَخْلَفُ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا تَجْرِي مَجْرَى الْمَنْفَعَةِ . وَلَيْسَ مِنْ الْبَيْعِ الْخَاصِّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُسَمِّ الْعِوَضَ إلَّا أَجْرًا لَمْ يُسَمِّهِ ثَمَنًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَبَ اللَّبَنَ فَإِنَّهُ لَا يُسَمِّي الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ إلَّا بَيْعًا لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ الْفَائِدَةَ مِنْ أَصْلِهَا . كَمَا يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ مِنْ أَصْلِهَا . فَلَمَّا كَانَ لِلْفَوَائِدِ الْعَيْنِيَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ فَصْلُهَا عَنْ أَصْلِهَا حَالَانِ : حَالٌ تُشْبِهُ فِيهِ الْمَنَافِعَ الْمَحْضَةَ وَهِيَ حَالُ اتِّصَالِهَا وَاسْتِيفَائِهَا وَاسْتِيفَاؤُهُ كَاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ . وَحَالٌ تُشْبِهُ فِيهِ الْأَعْيَانَ الْمَحْضَةَ وَهِيَ حَالُ انْفِصَالِهَا وَقَبْضِهَا كَقَبْضِ الْأَعْيَانِ . فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الشَّجَرِ هُوَ الَّذِي يَسْقِيهَا وَيَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى تَصْلُحَ الثَّمَرَةُ ؛ فَإِنَّمَا يَبِيعُ ثَمَرَةً مَحْضَةً كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَشُقُّ الْأَرْضَ

وَيَبْذُرُهَا وَيَسْقِيهَا حَتَّى يَصْلُحَ الزَّرْعُ فَإِنَّمَا يَبِيعُ زَرْعًا مَحْضًا وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَجِدُّ وَيَحْصُدُ كَمَا لَوْ بَاعَهَا عَلَى الْأَرْضِ وَكَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَنْقُلُ وَيُحَوِّلُ ؛ وَلِهَذَا جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا بَيْعٌ مَحْضٌ لِلثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَالِكُ يَدْفَعُ الشَّجَرَةَ إلَى الْمُكْتَرِي حَتَّى يَسْقِيَهَا وَيُلَقِّحَهَا وَيَدْفَعَ عَنْهَا الْأَذَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِهِ الْأَرْضَ إلَى مَنْ يَشُقُّهَا وَيَبْذُرُهَا وَيَسْقِيهَا ؛ وَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ فَكَمَا أَنَّ كِرَاء الْأَرْضِ لَيْسَ بِبَيْعٍ لِزَرْعِهَا فَكَذَلِكَ كِرَاءُ الشَّجَرَةِ لَيْسَ بِبَيْعِ لِثَمَرِهَا ؛ بَلْ نِسْبَةُ كِرَاءِ الشَّجَرِ إلَى كِرَاءِ الْأَرْضِ كَنِسْبَةِ الْمُسَاقَاةِ إلَى الْمُزَارَعَةِ . هَذَا مُعَامَلَةٌ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ وَهَذَا كِرَاءٌ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ . فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْفَوَائِدُ قَدْ سَاوَتْ الْمَنَافِعَ فِي الْوَقْفِ لِأَصْلِهَا وَفِي التَّبَرُّعَاتِ بِهَا وَفِي الْمُشَارَكَةِ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهَا وَفِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا بَعْدَ صَلَاحِهَا : فَكَذَلِكَ تُسَاوِيهَا فِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَى اسْتِفَادَتِهَا وَتَحْصِيلِهَا . وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الزَّرْعَ إنَّمَا يَخْرُجُ بِالْعَمَلِ ؛ بِخِلَافِ الثَّمَرِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِلَا عَمَلٍ : كَانَ هَذَا الْفَرْقُ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ ؛ بِدَلِيلِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحِ ؛ فَإِنَّ لِلْعَمَلِ تَأْثِيرًا فِي الْإِثْمَارِ ؛ كَمَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْإِنْبَاتِ وَمَعَ عَدَمِ الْعَمَلِ عَلَيْهَا قَدْ تُعْدَمُ الثَّمَرَةُ وَقَدْ تَنْقُصُ ؛ فَإِنَّ

مِنْ الشَّجَرِ مَا لَوْ لَمْ يُسْقَ لَمْ يُثْمِرْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَمَلِ عَلَيْهِ تَأْثِيرٌ أَصْلًا : لَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إلَى عَامِلٍ بِجُزْءٍ مِنْ ثَمَرِهِ وَلَمْ يَجُزْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ إجَارَتُهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ؛ فَإِنَّهُ بَيْعٌ مَحْضٌ لِلثَّمَرَةِ ؛ لَا إجَارَةٌ لِلشَّجَرِ ، وَيَكُونُ كَمَنْ أَكْرَى أَرْضَهُ لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْهَا مَا يُنْبِتُهُ اللَّهُ بِلَا عَمَلِ أَحَدٍ أَصْلًا قَبْلَ وُجُودِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ هُنَا غَرَرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُثْمِرُ قَلِيلًا وَقَدْ يُثْمِرُ كَثِيرًا . يُقَالُ : وَمِثْلُهُ فِي إكْرَاءِ الْأَرْضِ ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ غَرَرٌ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ؛ فَإِنَّهَا قَدْ تَنْبُتُ قَلِيلًا وَقَدْ تَنْبُتُ كَثِيرًا . وَإِنْ قِيلَ : الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِازْدِرَاعِ لَا نَفْسُ الزَّرْعِ النَّابِتِ . قِيلَ : وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَا : التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِثْمَارِ ؛ لَا نَفْسُ الثَّمَرِ الْخَارِجِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِمَا إنَّمَا هُوَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ . وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعِوَضُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ . كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِاكْتِرَاءِ الدَّارِ إنَّمَا هُوَ السُّكْنَى وَإِنْ وَجَبَ الْعِوَضُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ . فَالْمَقْصُودُ فِي اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ : إنَّمَا هُوَ نَفْسُ الْأَعْيَانِ الَّتِي

تُحْصَدُ لَيْسَ كَاكْتِرَائِهَا لِلسُّكْنَى أَوْ الْبِنَاءِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ نَفْسُ الِانْتِفَاعِ بِجَعْلِ الْأَعْيَانِ فِيهَا . وَهَذَا بَيِّنٌ عِنْدِ التَّأَمُّلِ لَا يَزِيدُهُ الْبَحْثُ عَنْهُ إلَّا وُضُوحًا . فَظَهَرَ بِهِ أَنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ زَهْوِهَا وَبَيْعِ الْحَبِّ قَبْلَ اشْتِدَادِهِ لَيْسَ هُوَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - إكْرَاؤُهَا لِمَنْ يَحْصُلُ ثَمَرَتُهَا وَزَرْعُهَا بِعَمَلِهِ وَسَقْيِهِ وَلَا هَذَا دَاخِلٌ فِي نَهْيِهِ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى . يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ الْبَائِعَ لِثَمَرَتِهَا عَلَيْهِ تَمَامُ سَقْيِهَا وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْجِذَاذِ كَمَا عَلَى بَائِعِ الزَّرْعِ تَمَامُ سَقْيِهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْحَصَادِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ التَّوْفِيَةِ وَمَئُونَةُ التَّوْفِيَةِ عَلَى الْبَائِعِ كَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ . وَأَمَّا الْمُكْرِي لَهَا لِمَنْ يَخْدِمُهَا حَتَّى تُثْمِرَ فَهُوَ كَمُكْرِي الْأَرْضِ لِمَنْ يَخْدِمُهَا حَتَّى تَنْبُتَ ؛ لَيْسَ عَلَى الْمُكْرِي عَمَلٌ أَصْلًا . وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّمْكِينُ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الثَّمَرُ وَالزَّرْعُ . لَكِنْ يُقَالُ : طَرْدُ هَذَا : أَنْ يَجُوزَ إكْرَاءُ الْبَهَائِمِ لِمَنْ يَعْلِفُهَا وَيَسْقِيهَا وَيَحْتَلِبُ لَبَنَهَا . قِيلَ : إذَا جَوَّزْنَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنْ تُدْفَعَ الْمَاشِيَةُ إلَى مَنْ

يَعْلِفُهَا وَيَسْقِيهَا بِجُزْءٍ مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا جَازَ دَفْعُهَا إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا لِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا بِشَيْءٍ مَضْمُونٍ . وَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا جَازَ إجَارَتُهَا لِاحْتِلَابِ لَبَنِهَا كَمَا جَازَ إجَارَةُ الظِّئْرِ ؟ . قِيلَ : إجَارَةُ الظِّئْرِ أَنْ تُرْضِعَ بِعَمَلِ صَاحِبِهَا لِلْغَنَمِ لِأَنَّ الظِّئْرَ هِيَ الَّتِي تُرْضِعُ الطِّفْلَ فَإِذَا كَانَتْ هِيَ الَّتِي تُوَفِّي الْمَنْفَعَةَ فَنَظِيرُهُ : أَنْ يَكُونَ الْمُؤَجِّرُ هُوَ الَّذِي يُوَفِّي مَنْفَعَةَ الْإِرْضَاعِ . وَحِينَئِذٍ فَالْقِيَاسُ : جَوَازُهُ . وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ غَنَمٌ فَاسْتَأْجَرَ غَنَمَ رَجُلٍ لِيُرْضِعَهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُمْتَنِعًا . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الَّذِي يَحْلِبُ اللَّبَنَ أَوْ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِيهِ . فَهَذَا مُشْتَرٍ لِلَبَنِ ، لَيْسَ مُسْتَوْفِيًا لِمَنْفَعَةِ وَلَا مُسْتَوْفِيًا لِلْعَيْنِ بِعَمَلِ . وَهُوَ شَبِيهٌ بِاشْتِرَاءِ الثَّمَرَةِ . وَاحْتِلَابُهُ كَاقْتِطَافِهَا . وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : " { لَا يُبَاعُ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ } بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لَأَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا وَيَحْتَلِبَ لَبَنَهَا فَهَذَا نَظِيرُ اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ .

فَصْلٌ :
هَذَا إذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ أَوْ الشَّجَرَةَ وَحْدَهَا لَأَنْ يَخْدِمَهَا وَيَأْخُذَ الثَّمَرَةَ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ . فَإِنْ بَاعَهُ الثَّمَرَةَ فَقَطْ وَأَكْرَاهُ الْأَرْضَ لِلسُّكْنَى : فَهُنَا لَا يَجِيءُ إلَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ الْمَذْكُورُ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ وَبَعْضُهُ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ هُوَ السُّكْنَى . وَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا . فَيَجُوزُ فِي الْجَمْعِ مَا لَا يَجُوزُ فِي التَّفْرِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ النَّظَائِرِ . وَهَذَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السُّكْنَى وَالثَّمَرَةِ مَقْصُودًا لَهُ كَمَا يَجْرِي فِي حَوَائِطِ دِمَشْقَ ؛ فَإِنَّ الْبُسْتَانَ يُكْتَرَى فِي الْمُدَّةِ الصَّيْفِيَّةِ لِلسُّكْنَى فِيهِ وَأَخَذَ ثَمَرَهُ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ عَلَى الثَّمَرَةِ أَصْلًا ؛ بَلْ الْعَمَلُ عَلَى الْمُكْرِي الْمُضَمَّنِ . وَعَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ : فَيَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ لَمْ يَطْلُعْ بِحَالِ سَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ أَجْنَاسًا مُتَفَرِّقَةً كَمَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ . فَإِنَّهُ إنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ . وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَمْعٌ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ : هُوَ إجَارَةٌ ؛ لِأَنَّ مَئُونَةَ تَوْفِيَةِ الثَّمَرِ هُنَا عَلَى الْمُضَمَّنِ وَبِعَمَلِهِ يَصِيرُ ثَمَرًا :

بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُثْمِرًا بِعَمَلِ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ وَلِهَذَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ ضَمَانًا إذْ لَيْسَ هُوَ بَيْعًا مَحْضًا وَلَا إجَارَةً مَحْضَةً فَسُمِّيَ بِاسْمِ الِالْتِزَامِ الْعَامِّ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ الضَّمَانُ كَمَا يُسَمِّي الْفُقَهَاءُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ . وَكَذَلِكَ يُسَمَّى الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ضَمَانًا أَيْضًا لَكِنَّ ذَاكَ يُسَمَّى إجَارَةً . وَهَذَا إذَا سُمِّيَ إجَارَةً أَوْ اكْتِرَاءً : فَلِأَنَّ بَعْضَهُ إجَارَةٌ أَوْ اكْتِرَاءٌ وَفِيهِ بَيْعٌ أَيْضًا . فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً أَصْلًا وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِأَجْلِ جُذَاذِ الثَّمَرَةِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ عِنَبًا أَوْ بَلَحًا وَيُرِيدُ أَنْ يُقِيمَ فِي الْحَدِيقَةِ لِقِطَافِهِ : فَهَذَا لَا يَجُوزُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ إنَّمَا قُصِدَتْ هُنَا لِأَجْلِ الثَّمَرِ فَلَا يَكُونُ الثَّمَرُ تَابِعًا لَهَا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إجَارَتِهَا إلَّا إذَا جَازَ بَيْعُ الثَّمَرِ ؛ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ ؛ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ إذَا كَانَتْ مَقْصُودَةً احْتَاجَ إلَى اسْتِئْجَارِهَا وَاحْتَاجَ مَعَ ذَلِكَ إلَى اشْتِرَاءِ الثَّمَرَةِ فَاحْتَاجَ إلَى الْجَمْعِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يُمْكِنُهُ إذَا اسْتَأْجَرَ الْمَكَانَ لِلسُّكْنَى أَنْ يَدَعَ غَيْرَهُ يَشْتَرِي الثَّمَرَةَ ؛ وَلَا يَتِمُّ غَرَضُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَمَرَةٌ يَأْكُلُهَا ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ الِانْتِفَاعُ بِالسُّكْنَى فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالْأَكْلِ مِنْ الثَّمَرِ الَّذِي فِيهِ . وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ هُوَ السُّكْنَى وَإِنَّمَا الشَّجَرُ قَلِيلٌ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ نَخَلَاتٌ أَوْ عَرِيشُ عِنَبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَالْجَوَازُ هُنَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَقِيَاسُ أَكْثَرِ نُصُوصِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .

وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مَعَ السُّكْنَى التِّجَارَةَ فِي الثَّمَرِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ السُّكْنَى : فَالْمَنْعُ هُنَا أَوْجَهُ مِنْهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مَالِكٌ وَأَحْمَد . وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ السُّكْنَى وَالْأَكْلَ : فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا لَوْ قَصَدَ السُّكْنَى وَالشُّرْبَ مِنْ الْبِئْرِ . وَإِنْ كَانَ ثَمَنُ الْمَأْكُولِ أَكْثَرَ : فَهُنَا الْجَوَازُ فِيهِ أَظْهَرُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا وَدُونَ الْأُولَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يُفَرِّقُ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ الْمَأْثُورِ عَنْ السَّلَفِ : فَالْجَمِيعُ جَائِزٌ كَمَا قَرَّرْنَاهُ لِأَجْلِ الْجَمْعِ . فَإِنْ اشْتَرَطَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَحْرُثَ لَهُ الْمُضَمَّنُ مقثاة : فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِنْ رَجُلٍ لِلزَّرْعِ عَلَى أَنْ يَحْرُثَهَا الْمُؤَجِّرُ . فَقَدْ اسْتَأْجَرَ أَرْضَهُ وَاسْتَأْجَرَ مِنْهُ عَمَلًا فِي الذِّمَّةِ . وَهَذَا جَائِزٌ كَمَا لَوْ اسْتَكْرَى مِنْهُ جَمَلًا أَوْ حِمَارًا عَلَى أَنْ يَحْمِلَ الْمُؤَجِّرُ لِلْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهِ مَتَاعَهُ . وَهَذِهِ إجَارَةُ عَيْنٍ وَإِجَارَةٌ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ ؛ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيَكُونُ قَدْ اسْتَأْجَرَ عَيْنَيْنِ . وَلَوْ لَمْ تَكُنْ السُّكْنَى مَقْصُودَةً وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ابْتِيَاعُ ثَمَرَةٍ فِي بُسْتَانٍ ذِي أَجْنَاسٍ وَالسَّقْيُ عَلَى الْبَائِعِ : فَهَذَا عِنْدَ اللَّيْثِ يَجُوزُ وَهُوَ قِيَاسُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَقَرَّرْنَاهُ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ كَالْحَاجَةِ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ بَيْعِ الثَّمَرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَرُبَّمَا كَانَ أَشَدَّ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ بَيْعُ كُلِّ جِنْسٍ عِنْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ، فَإِنَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ وَفِي بَعْضِهَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِضَرَرِ كَثِيرٍ .

وَقَدْ رَأَيْت مَنْ يُوَاطِئُ الْمُشْتَرِيَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ كُلَّمَا صَلَحَتْ ثَمَرَةٌ يُقْسِطُ عَلَيْهَا بَعْضَ الثَّمَنِ . وَهَذَا مِنْ الْحِيَلِ الْبَارِدَةِ الَّتِي لَا تَخْفَى حَالُهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمَا يَزَالُ الْعُلَمَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ ذَوُو الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ يُنْكِرُونَ تَحْرِيمَ مِثْلِ هَذَا مَعَ أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ تُنَافِي تَحْرِيمَهُ ؛ لَكِنْ مَا سَمِعُوهُ مِنْ العمومات اللَّفْظِيَّةِ وَالْقِيَاسِيَّةِ الَّتِي اعْتَقَدُوا شُمُولَهَا لِمِثْلِ هَذَا مَعَ مَا سَمِعُوهُ مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُدْرِجُونَ هَذَا فِي الْعُمُومِ : هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ مَا أَوْجَبَ . وَهُوَ قِيَاسُ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ المقثاة جَمِيعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ؛ لِأَنَّ تَفْرِيقَ بَعْضِهَا مُتَعَسِّرٌ أَوْ مُتَعَذَّرٌ كَتَعَسُّرِ تَفْرِيقِ الْأَجْنَاسِ فِي الْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَشَقَّةُ فِي المقثاة أَوْكَدَ ؛ وَلِهَذَا جَوَّزَهَا مَنْ مَنَعَ الْأَجْنَاسَ كَمَالِكٍ . فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الصُّورَةُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ لِيَعْمَلَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ - كَمَا قَرَّرْتُمْ - لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْعُمُومِ لِأَنَّهُ إجَارَةٌ لِمَنْ يَعْمَلُ لَا بَيْعٌ لِعَيْنِ وَأَمَّا هَذَا فَبَيْعٌ لِلثَّمَرَةِ فَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ . فَكَيْفَ تُخَالِفُونَ النَّهْيَ ؟ قُلْنَا : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا كَالْجَوَابِ عَمَّا يَجُوزُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ ابْتِيَاعِ الشَّجَرِ مَعَ ثَمَرَةِ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ وَابْتِيَاعِ الْأَرْضِ مَعَ زَرْعِهَا الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ حَبُّهُ ؛ وَمَا نَصَرْنَاهُ مِنْ ابْتِيَاعِ المقاثي مَعَ أَنَّ بَعْضَ

خَضِرِهَا لَمْ يُخْلَقْ . وَجَوَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِطَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقَالَ : إنَّ النَّهْيَ لَمْ يَشْمَلْ بِلَفْظِهِ هَذِهِ الصُّورَةَ ؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ : انْصَرَفَ إلَى الْبَيْعِ الْمَعْهُودِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ وَمَا كَانَ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ تَنْصَرِفُ إلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُونَ . فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ شَخْصٌ مَعْهُودٌ أَوْ نَوْعٌ مَعْهُودٌ انْصَرَفَ الْكَلَامُ إلَيْهِ كَمَا انْصَرَفَ اللَّفْظُ إلَى الرَّسُولِ الْمُعَيَّنِ فِي قَوْله تَعَالَى { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } وَفِي قَوْلِهِ : { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } أَوْ إلَى النَّوْعِ الْمَخْصُوصِ : نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّمَرِ هُنَا الرُّطَبُ دُونَ الْعِنَبِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودَ شَخْصِيٍّ وَلَا نَوْعِيٍّ انْصَرَفَ إلَى الْعُمُومِ . فَالْبَيْعُ الْمَذْكُورُ لِلثَّمَرِ هُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ الَّذِي يَعْهَدُونَهُ دَخَلَ كَدُخُولِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالْقَرْنِ الثَّالِثِ فِيمَا خَاطَبَ بِهِ الرَّسُولُ أَصْحَابَهُ . وَنَظِيرُ هَذَا : مَا ذَكَرَهُ أَحْمَد فِي " { نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَوْلِ الرَّجُلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ } فَحَمَلَهُ عَلَى مَا كَانَ مَعْهُودًا عَلَى عَهْدِهِ مِنْ الْمِيَاهِ الدَّائِمَةِ كَالْآبَارِ وَالْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ . فَأَمَّا الْمَصَانِعُ الْكِبَارُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَزْحُهَا الَّتِي أُحْدِثَتْ بَعْدَهُ فَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي الْعُمُومِ لِوُجُودِ الْفَارِقِ الْمَعْنَوِيِّ وَعَدَمِ

الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ . وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعُمُومِ فِي مَسْأَلَتِنَا : أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهُوَ : قِيلَ : وَمَا تَزْهُوَ ؟ . قَالَ : تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ } وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ : " { نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَزْهُوَ } . وَلَفْظُ مُسْلِمٍ : " { نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ : هُوَ ثَمَرُ النَّخْلِ كَمَا جَاءَ مُقَيَّدًا ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَزْهُو فَيَحْمَرُّ أَوْ يَصْفَرُّ وَإِلَّا فَمِنْ الثِّمَارِ مَا يَكُونُ نُضْجُهَا بِالْبَيَاضِ ؛ كَالتُّوتِ وَالتُّفَّاحِ وَالْعِنَبِ الْأَبْيَضِ وَالْإِجَّاصِ الْأَبْيَضِ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ دِمَشْقَ الْخَوْخَ وَالْخَوْخِ الْأَبْيَضِ الَّذِي يُسَمَّى الفرسك وَيُسَمِّيهِ الدِّمَشْقِيُّونَ الدُّرَّاق أَوْ بِاللِّينِ بِلَا تَغَيُّرِ لَوْنٍ كَالتِّينِ وَنَحْوِهِ . وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : " { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تَشْقُحَ . قِيلَ : وَمَا تَشْقُحُ ؟ قَالَ : تَحْمَارُّ أَوْ تَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا } وَهَذِهِ الثَّمَرَةُ هِيَ الرُّطَبُ وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَبْتَاعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَلَا تَبْتَاعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ } وَالتَّمْرُ الثَّانِي هُوَ الرُّطَبُ بِلَا رَيْبٍ . فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ وَاحِدٌ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَبْتَاعُوا

الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَتَذْهَبَ عَنْهُ الْآفَةُ } وَقَالَ " { بُدُوُّ صَلَاحِهِ : حُمْرَتُهُ أَوْ صُفْرَتُهُ } فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا لَفْظُ " الثَّمَرِ " . وَأَمَّا غَيْرُهَا فَصَرِيحٌ فِي النَّخْلِ كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ } . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ وَعَنْ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ . نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ } . وَالْمُرَادُ بِالنَّخْلِ ثَمَرُهُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَوَّزَ اشْتِرَاءَ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ مَعَ اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي لِثَمَرَتِهِ . فَهَذِهِ النُّصُوصُ لَيْسَتْ عَامَّةً عُمُومًا لَفْظِيًّا فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ لَفْظًا لِكُلِّ مَا عَهِدَهُ الْمُخَاطَبُونَ وَعَامَّةٌ مَعْنَى لِكُلِّ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ . وَمَا ذَكَرْنَا عَدَمَ تَحْرِيمِهِ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ دَلِيلُ الْحُرْمَةِ . فَيَبْقَى عَلَى الْحِلِّ . وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ وَبِهِ يَتِمُّ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ أَوَّلًا : مِنْ أَنَّ الْأَدِلَّةَ النَّافِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ والاستصحابية تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ لَكِنْ بِشَرْطِ نَفْيِ النَّاقِلِ الْمُغَيِّرِ وَقَدْ بَيَّنَّا انْتِفَاءَهُ . الطَّرِيقُ الثَّانِي : أَنْ نَقُولَ : وَإِنْ سَلَّمْنَا الْعُمُومَ اللَّفْظِيَّ ؛ لَكِنْ لَيْسَتْ

هِيَ مُرَادَةً ؛ بَلْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَخُصُّ مِثْلَ هَذَا الْعُمُومِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فِي الثَّمَرِ التَّابِعِ لِشَجَرِهِ حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا لَمْ يُؤَبَّرْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطُ الْمُبْتَاعُ } أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، فَجَعَلَهَا لِلْمُبْتَاعِ إذَا اشْتَرَطَهَا بَعْدَ التَّأْبِيرِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا حِينَئِذٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُفْرَدَةً ، وَالْعُمُومُ الْمَخْصُوصُ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ : يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ صُوَرٌ فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ . وَيَجُوزُ أَيْضًا تَخْصِيصُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْقِيَاسِ الْقَوِيِّ . وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ آثَارِ السَّلَفِ وَمِنْ الْمَعَانِي مَا يَخُصُّ مِثْلَ هَذَا لَوْ كَانَ عَامًّا أَوْ بِالِاشْتِدَادِ بِلَا تَغَيُّرِ لَوْنٍ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ ، فَبُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الثِّمَارِ مُتَنَوِّعٌ تَارَةً يَكُونُ بِالرُّطُوبَةِ بَعْدَ الْيُبْسِ ، وَتَارَةً بِالْيُبْسِ بَعْدَ الرُّطُوبَةِ وَتَارَةً بِلِينِهِ . وَتَارَةً بِتَغَيُّرِ لَوْنِهِ بِحُمْرَةٍ أَوْ صُفْرَةٍ أَوْ بَيَاضٍ . وَتَارَةً لَا يَتَغَيَّرُ . وَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ : عُلِمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَشْمَلْ جَمِيعَ أَصْنَافِ الثِّمَارِ وَإِنَّمَا يَشْمَلُ مَا تَأْتِي فِيهِ الْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ وَقَدْ جَاءَ مُقَيَّدًا : أَنَّهُ النَّخْلُ . فَتَدَبَّرْ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ عَظِيمُ الْمَنْفَعَةِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى وَفِي نَظَائِرِهَا وَانْظُرْ فِي عُمُومِ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى حَتَّى تُعْطِيَهُ حَقَّهُ . وَأَحْسَنُ مَا تَسْتَدِلُّ بِهِ

عَلَى مَعْنَاهُ : آثَارُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَقَاصِدِهِ فَإِنَّ ضَبْطَ ذَلِكَ يُوجِبُ تَوَافُقَ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَجَرْيَهَا عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } . وَأَمَّا نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُعَاوَمَةِ الَّذِي جَاءَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : بِأَنَّهُ بَيْعُ السِّنِينَ فَهُوَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مِثْلُ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ إنَّمَا نَهَى أَنْ يَبْتَاعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَرَةَ الَّتِي يَسْتَثْمِرُهَا رَبُّ الشَّجَرَةِ . وَأَمَّا اكْتِرَاءُ الْأَرْضِ وَالشَّجَرَةِ حَتَّى يَسْتَثْمِرَهَا : فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَإِنَّمَا هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ . وَنَظِيرُ هَذَا : مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ " { نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ } وَأَنَّهُ " { نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ } " وَأَنَّهُ " { نَهَى عَنْ الْمُزَارَعَةِ } وَأَنَّهُ قَالَ : " { لَا تكروا الْأَرْضَ } فَإِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ : الْكِرَاءُ الَّذِي كَانُوا يَعْتَادُونَهُ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا وَهِيَ الْمُخَابَرَةُ وَالْمُزَارَعَةُ الَّتِي كَانُوا يَعْتَادُونَهَا فَنَهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَعْتَادُونَهُ مِنْ الْكِرَاءِ وَالْمُعَاوَمَةِ الَّذِي يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إلَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تَصْلُحَ وَإِلَى الْمُزَارَعَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا جُزْءٌ مُعَيَّنٌ . وَهَذَا نَهْيٌ عَمَّا فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ . هَذَا نَهْيٌ عَنْ الْغَرَرِ فِي جِنْسِ

الْبَيْعِ وَذَاكَ نَهْيٌ عَنْ الْغَرَرِ فِي جِنْسِ الْكِرَاءِ الْعَامِّ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَقَدْ بُيِّنَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْمُبَايَعَةَ وَهَذِهِ الْمُكَارَاةَ كَانَتْ تُفْضِي إلَى الْخُصُومَةِ وَالشَّنَآنِ . وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } .
فَصْلٌ :
وَمِنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي أَدْخَلَهَا قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ : أَنْوَاعٌ مِنْ الْإِجَارَاتِ وَالْمُشَارَكَاتِ ؛ كَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ ؛ وَالْمُزَارَعَةَ حَرَامٌ بَاطِلٌ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا عَمَلٌ بِعِوَضِ وَالْإِجَارَةُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَجْرُ فِيهَا مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّهَا كَالثَّمَنِ . وَلِمَا رَوَى أَحْمَد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ أَجْرَهُ وَعَنْ النَّجْشِ وَاللَّمْسِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ } وَالْعِوَضُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ مَجْهُولٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ قَلِيلًا وَقَدْ يَخْرُجُ كَثِيرًا وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى صِفَاتٍ نَاقِصَةٍ وَقَدْ لَا يَخْرُجُ فَإِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ كَانَ اسْتِيفَاءُ عَمَلِ الْعَامِلِ بَاطِلًا . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي

حَنِيفَةَ . وَهُوَ أَشَدُّ النَّاسِ قَوْلًا بِتَحْرِيمِ هَذَا . وَأَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إدْخَالًا لِذَلِكَ فِي الْغَرَرِ ؛ لَكِنْ جَوَّزَا مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ . فَجَوَّزَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : الْمُسَاقَاةَ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ كِرَاء الشَّجَرِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لِلثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ؛ وَالْمَالِكُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ سَقْيُ شَجَرِهِ وَخِدْمَتِهِ فَيَضْطَرُّ إلَى الْمُسَاقَاةِ ؛ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالْأَجْرِ الْمُسَمَّى فَيُغْنِيهِ ذَلِكَ عَنْ الْمُزَارَعَةِ عَلَيْهِ تَبَعًا لَكِنْ جَوَّزَا مِنْ الْمُزَارَعَةِ مَا يَدْخُلُ فِي الْمُسَاقَاةِ تَبَعًا ؛ فَإِذَا كَانَ بَيْنَ الشَّجَرِ بَيَاضٌ قَلِيلٌ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّ زَرْعَ ذَلِكَ الْبَيَاضِ لِلْعَامِلِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ . فَإِنْ شَرَطَاهُ بَيْنَهُمَا جَازَ . وَهَذَا إذَا لَمْ يَتَجَاوَزْ الثُّلُثَ . وَالشَّافِعِيُّ لَا يَجْعَلُهُ لِلْعَامِلِ ؛ لَكِنْ يَقُولُ : إذَا لَمْ يُمْكِنْ سَقْيُ الشَّجَرِ إلَّا بِسَقْيِهِ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهِ . وَلِأَصْحَابِهِ فِي الْبَيَاضِ إذَا كَانَ كَثِيرًا أَكْثَرَ مِنْ الشَّجَرِ وَجْهَانِ . وَهَذَا إذَا جَمَعَهُمَا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي صَفْقَتَيْنِ فَوَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ بِحَالِ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَازَ تَبَعًا فَلَا يُفْرَدُ بِعَقْدِ . وَ " الثَّانِي " : يَجُوزُ إذَا سَاقَى ثُمَّ زَارَعَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ . وَأَمَّا إذَا قَدَّمَ الْمُزَارَعَةَ لَمْ يَجُزْ وَجْهًا وَاحِدًا . وَهَذَا إذَا كَانَ الْجُزْءُ الْمَشْرُوطُ فِيهِمَا وَاحِدًا كَالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ فَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ . وَرُوِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ السَّلَفِ - مِنْهُمْ : طاوس وَالْحَسَنُ وَبَعْضُ الْخَلَفِ - : الْمَنْعُ مِنْ إجَارَتِهَا بِالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ وَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ . رَوَى حَرْبٌ عَنْ الأوزاعي أَنَّهُ سُئِلَ : هَلْ يَصْلُحُ اكْتِرَاءُ الْأَرْضِ ؟ فَقَالَ : اُخْتُلِفَ فِيهِ فَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ بِاكْتِرَائِهَا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ بَأْسًا . وَكَرِهَ ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْهُمْ . وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْغَرَرِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَلْتَزِمُ الْأُجْرَةَ بِنَاءً عَلَى مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ ؛ وَقَدْ لَا يَنْبُتُ الزَّرْعُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اكْتِرَاءِ الشَّجَرِ لِلِاسْتِثْمَارِ . وَقَدْ كَانَ طاوس يُزَارِعُ وَلِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَبْعَدُ عَنْ الْغَرَرِ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ لِأَنَّ الْمُتَعَامِلَيْنِ فِي الْمُزَارَعَةِ إمَّا أَنْ يَغْنَمَا جَمِيعًا أَوْ يَغْرَمَا جَمِيعًا فَتَذْهَبُ مَنْفَعَةُ بَدَنِ هَذَا وَبَقَرِهِ وَمَنْفَعَةُ أَرْضِ هَذَا . وَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ أَحَدُهُمَا عَلَى شَيْءٍ مَضْمُونٍ وَيَبْقَى الْآخَرُ تَحْتَ الْخَطَرِ ؛ إذْ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ هُوَ الزَّرْعُ ؛ لَا الْقُدْرَةُ عَلَى حَرْثِ الْأَرْضِ وَبَذْرِهَا وَسَقْيِهَا .

وَعُذْرُ الْفَرِيقَيْنِ - مَعَ هَذَا الْقِيَاسِ - مَا بَلَغَهُمْ مِنْ الْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَعَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ ؛ كَحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَحَدِيثِ جَابِرٍ . فَعَنْ نَافِعٍ " { أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي مَزَارِعَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي إمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ مُعَاوِيَةَ ثُمَّ حَدَّثَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ إلَى رَافِعٍ فَذَهَبْت مَعَهُ فَسَأَلَهُ ؟ فَقَالَ : نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : قَدْ عَلِمْت أَنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا بِمَا عَلَى الْأَرْبِعَاءِ وَشَيْءٍ مِنْ التِّبْنِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ . وَلَفْظُ مُسْلِمٍ : " { حَتَّى بَلَغَهُ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ : أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يُحَدِّثُ فِيهَا بِنَهْيٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَأَنَا مَعَهُ فَسَأَلَهُ . فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَتَرَكَهَا ابْنُ عُمَرَ بَعْدُ فَكَانَ إذَا سُئِلَ عَنْهَا بَعْدُ قَالَ : زَعَمَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا } وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ " { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي أَرْضَهُ حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ : يَا ابْنَ خَدِيجٍ مَاذَا تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ ؟ قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ لِعَبْدِ اللَّهِ : سَمِعْت عَمَّيَّ

وَكَانَا قَدْ شَهِدَا بَدْرًا - يُحَدِّثَانِ أَهْلَ الدَّارِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : لَقَدْ كُنْت أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَرْضَ تُكْرَى ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَعْلَمْهُ فَتَرَكَ كِرَاء الْأَرْضِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي فِي آخِرِهِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ عَمِّهِ ظهير بْنِ رَافِعٍ قَالَ ظهير : " { لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا ، فَقُلْت : وَمَا ذَاكَ ؟ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ حَقٌّ . قَالَ : دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ ؟ فَقُلْت : نُؤَاجِرُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى الرُّبُعِ أَوْ عَلَى الْأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ . قَالَ : فَلَا تَفْعَلُوا ازْرَعُوهَا أَوْ أَزْرِعُوهَا أَوْ أَمْسِكُوهَا . قَالَ رَافِعٌ : قُلْت : سَمْعًا وَطَاعَةً } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ } أَخْرَجَاهُ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : " { كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ . فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ } أَخْرَجَاهُ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ . وَلَفْظُ مُسْلِمٍ : " { كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَأْخُذُ الْأَرْضَ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ بالماذيانات ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ . فَقَالَ :

مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا ، فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ . فَإِنْ لَمْ يَمْنَحْهَا فَلْيُمْسِكْهَا } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ " وَلَا يُكْرِيهَا " . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ " { نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ } . وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : " { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَالْمُخَابَرَةِ } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أنيسة عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ : " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَأَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ حَتَّى يشقه } والإشقاه : أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيْءٌ . وَالْمُحَاقَلَةُ : أَنْ يُبَاعَ الْحَقْلُ بِكَيْلٍ مِنْ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ . وَالْمُزَابَنَةُ : أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ بِأَوْسَاقٍ مِنْ التَّمْرِ وَالْمُخَابَرَةُ : الثُّلُثُ وَالرُّبُعُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ . قَالَ زَيْدٌ : قُلْت لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ : أَسَمِعْت جَابِرًا يَذْكُرُ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ " . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَا مَنْ يَنْهَى عَنْ الْمُؤَاجَرَةِ وَالْمُزَارَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ كِرَائِهَا وَالْكِرَاءُ يَعُمُّهَا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : " { فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْهَا } فَلَمْ يُرَخِّصْ إلَّا فِي أَنْ يَزْرَعَهَا أَوْ يَمْنَحَهَا لِغَيْرِهِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي الْمُعَاوَضَةِ عَنْهَا ؛ لَا بِمُؤَاجَرَةٍ وَلَا بِمُزَارَعَةٍ . وَمَنْ يُرَخِّصُ فِي الْمُزَارَعَةِ - دُونَ الْمُؤَاجَرَةِ - يَقُولُ : الْكِرَاءُ هُوَ

الْإِجَارَةُ أَوْ الْمُزَارَعَةُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا ؛ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي سَتَأْتِي أَدِلَّتُهَا الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَامِلُ بِهَا أَهْلَ خَيْبَرَ وَعَمِلَ بِهَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ ، وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ . يُؤَيِّدُ ذَلِكَ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ الَّذِي تَرَكَ كِرَاء الْأَرْضِ لَمَّا حَدَّثَهُ رَافِعٌ كَانَ يَرْوِي حَدِيثَ أَهْلِ خَيْبَرَ رِوَايَةَ مَنْ يُفْتِي بِهِ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ . وَالْمُؤَاجَرَةُ أَظْهَرُ فِي الْغَرَرِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَمَنْ يُجَوِّزُ الْمُؤَاجَرَةَ دُونَ الْمُزَارَعَةِ يَسْتَدِلُّ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ : " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُزَارَعَةِ وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ . وَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهَا } فَهَذَا صَرِيحٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُزَارَعَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمُؤَاجَرَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ سَيَأْتِي عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - الَّذِي رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { أَنَّهُ لَمْ يَنْهَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كِرَائِهَا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْمُزَارَعَةِ } . وَذَهَبَ جَمِيعُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الْجَامِعُونَ لِطُرُقِهِ كُلُّهُمْ - كَأَحْمَدَ بْنِ

حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ كُلِّهِمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْهَاشِمِيِّ وَأَبِي خيثمة زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ . كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ وَأَبِي دَاوُد وَجَمَاهِيرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؛ كَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَة وَالْخَطَّابِيَّ وَغَيْرِهِمْ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - إلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَعَمَلُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ . وَبَيَّنُوا مَعَانِيَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُظَنُّ اخْتِلَافُهَا فِي هَذَا الْبَابِ . فَمِنْ ذَلِكَ مُعَامَلَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ خَيْبَرَ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ إلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ . فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : " { عَامَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ } أَخْرَجَاهُ ، وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا خَرَجَ مِنْهَا } . هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ : " { لَمَّا اُفْتُتِحَتْ خَيْبَرُ سَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِرَّهُمْ فِيهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا عَلَى نِصْفِ مَا خَرَجَ مِنْهَا مِنْ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُقِرُّكُمْ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا . وَكَانَ الثَّمَرُ عَلَى السُّهْمَانِ مِنْ نِصْفِ خَيْبَرَ . فَيَأْخُذُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ } . وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ دَفَعَ إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يعتملوها مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَطْرُ ثَمَرِهَا } وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى خَيْبَرَ أَهْلَهَا عَلَى النِّصْفِ : نَخْلِهَا وَأَرْضِهَا } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه وَعَنْ طاوس : " أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَكْرَى الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ ، فَهُوَ يُعْمَلُ بِهِ إلَى يَوْمِك هَذَا " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهُ . وطاوس كَانَ بِالْيَمَنِ وَأَخَذَ عَنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ الَّذِينَ بِالْيَمَنِ مِنْ أَعْيَانِ الْمُخَضْرَمِينَ وَقَوْلُهُ " وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ " أَيْ : كُنَّا نَفْعَلُ كَذَلِكَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ فَحَذَفَ الْفِعْلَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مُعَاذًا خَرَجَ مِنْ الْيَمَنِ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ وَقَدِمَ الشَّامَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَمَاتَ بِهَا فِي خِلَافَتِهِ . قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ : وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ يَعْنِي الْبَاقِرَ - " مَا بِالْمَدِينَةِ دَارُ هِجْرَةٍ إلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ " قَالَ : " وَزَارَعَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ وَعُرْوَةُ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سِيرِين . وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ

عِنْدَهُ فَلَهُ الشَّطْرُ وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا " . وَهَذِهِ الْآثَارُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ قَدْ رَوَاهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْآثَارِ . فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا يُزَارِعُونَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَأَكَابِرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ مُنْكِرٌ : لَمْ يَكُنْ إجْمَاعٌ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا ؛ بَلْ إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا إجْمَاعٌ فَهُوَ هَذَا . لَا سِيَّمَا وَأَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ جَمِيعُهُمْ زَارَعُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ إلَى أَنْ أَجْلَى عُمَرُ الْيَهُودَ إلَى تَيْمَاءَ . وَقَدْ تَأَوَّلَ مَنْ أَبْطَلَ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلَاتٍ مَرْدُودَةٍ . مِثْلَ أَنْ قَالَ كَانَ الْيَهُودُ عَبِيدًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ . فَجَعَلُوا ذَلِكَ مِثْلَ الْخَارِجَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ . وَمَعْلُومٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَهُمْ وَلَمْ يَسْتَرِقَّهُمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ وَلَمْ يَبِعْهُمْ وَلَا مَكَّنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ اسْتِرْقَاقِ أَحَدٍ مِنْهُمْ . وَمِثْلَ أَنْ قَالَ : هَذِهِ مُعَامَلَةٌ مَعَ الْكُفَّارِ . فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَجُوزَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا مَرْدُودٌ ؛ فَإِنَّ خَيْبَرَ قَدْ صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْعَهْدِ مَا يَحْرُمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ . ثُمَّ إنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ عَامَلَ عَلَى عَهْدِهِ أَهْلَ الْيَمَنِ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُعَامِلُونَ بِذَلِكَ . وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ مَعَ عمومات الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُبِيحَةِ أَوْ النَّافِيَةِ لِلْحَرَجِ وَمَعَ الِاسْتِصْحَابِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مُشَارَكَةٌ ؛ لَيْسَتْ مِثْلَ الْمُؤَاجَرَةِ الْمُطْلَقَةِ ؛ فَإِنَّ النَّمَاءَ الْحَادِثَ يَحْصُلُ مِنْ مَنْفَعَةِ أَصْلَيْنِ : مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الَّتِي لِهَذَا كَبَدَنِهِ وَبَقَرِهِ . وَمَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الَّتِي لِهَذَا كَأَرْضِهِ وَشَجَرِهِ كَمَا تَحْصُلُ الْمَغَانِمُ بِمَنْفَعَةِ أَبْدَانِ الْغَانِمِينَ وَخَيْلِهِمْ وَكَمَا يَحْصُلُ مَالُ الْفَيْءِ بِمَنْفَعَةِ أَبْدَانِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُوَّتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ ؛ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا هُوَ الْعَمَلُ أَوْ الْمَنْفَعَةُ . فَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ لِبِنَاءٍ أَوْ خِيَاطَةٍ أَوْ شَقِّ الْأَرْضِ أَوْ بَذْرِهَا أَوْ حَصَادٍ فَإِذَا وَفَّاهُ ذَلِكَ الْعَمَلَ فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ مَقْصُودَهُ بِالْعَقْدِ وَاسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ أَجْرَهُ . وَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ : أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَضْبُوطًا كَمَا يُشْتَرَطُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ . وَهُنَا مَنْفَعَةُ بَدَنِ الْعَامِلِ وَبَدَنِ بَقَرِهِ وَحَدِيدِهِ : هُوَ مِثْلُ مَنْفَعَةِ أَرْضِ الْمَالِكِ وَشَجَرِهِ . لَيْسَ مَقْصُودُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةِ الْآخَرِ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمَا جَمِيعًا : مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمَنْفَعَتَيْنِ . فَإِنْ حَصَلَ نَمَاءٌ اشْتَرَكَا فِيهِ . وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ نَمَاءٌ ذَهَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَنْفَعَتُهُ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَفِي الْمَغْرَمِ كَسَائِرِ

الْمُشْتَرِكِينَ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ نَمَاءِ الْأُصُولِ الَّتِي لَهُمْ . وَهَذَا جِنْسٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ يُخَالِفُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَقْصُودِهِ وَحُكْمِهِ الْإِجَارَةَ الْمَحْضَةَ وَمَا فِيهِ مِنْ شَوْبِ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ جِنْسِ مَا فِي الشَّرِكَةِ مِنْ شَوْبِ الْمُعَاوَضَةِ . فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ العدلية فِي الْأَرْضِ جِنْسَانِ : مُعَاوَضَاتٌ وَمُشَارَكَاتٌ . فَالْمُعَاوَضَاتُ : كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ . وَالْمُشَارَكَاتُ : شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ وَشَرِكَةُ الْعَقْدِ . وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ اشْتِرَاكُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَاشْتِرَاكُ النَّاسِ فِي الْمُبَاحَاتِ ، كَمَنَافِعِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ الْمُبَاحَةِ وَالطُّرُقَاتِ وَمَا يُحْيَا مِنْ الْمَوَاتِ أَوْ يُوجَدُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَاشْتِرَاكِ الْوَرَثَةِ فِي الْمِيرَاثِ وَاشْتِرَاكِ الْمُوصَى لَهُمْ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَاشْتِرَاكِ التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ أَبْدَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَانِ الْجِنْسَانِ هُمَا مَنْشَأُ الظُّلْمِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } . وَالتَّصَرُّفَاتُ الْأُخَرُ هِيَ الْفَضِيلَةُ : كَالْقَرْضِ وَالْعَارِيَة وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ . وَإِذَا كَانَتْ التَّصَرُّفَاتُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْمُعَادَلَةِ هِيَ مُعَاوَضَةٌ أَوْ مُشَارَكَةٌ . فَمَعْلُومٌ قَطْعًا : أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَةِ لَيْسَا مَنْ جَنْسِ الْمُعَاوَضَةِ الْمَحْضَةِ وَالْغَرَرُ إنَّمَا حَرُمَ بَيْعُهُ فِي الْمُعَاوَضَةِ لِأَنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ . وَهُنَا لَا يَأْكُلُ أَحَدُهُمَا مَالَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ

يَنْبُتْ الزَّرْعُ فَإِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ لَمْ يَأْخُذْ مَنْفَعَةَ الْآخَرِ ؛ إذْ هُوَ لَمْ يَسْتَوْفِهَا وَلَا مَلَكَهَا بِالْعَقْدِ وَلَا هِيَ مَقْصُودَةٌ ؛ بَلْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ بَدَنِهِ كَمَا ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ أَرْضِ هَذَا وَرَبُّ الْأَرْضِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ قَدْ أَخَذَهُ وَالْآخَرُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا ؛ بِخِلَافِ بُيُوعِ الْغَرَرِ وَإِجَارَةِ الْغَرَرِ ؛ فَإِنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاوِضَيْنِ يَأْخُذُ شَيْئًا وَالْآخَرُ يَبْقَى تَحْتَ الْخَطَرِ فَيُفْضِي إلَى نَدَمِ أَحَدِهِمَا وَخُصُومَتِهِمَا . وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْمُعَادَلَةِ الْمَحْضَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ظُلْمٌ أَلْبَتَّةَ لَا فِي غَرَرٍ وَلَا فِي غَيْرِ غَرَرٍ . وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَأْخَذُ هَذِهِ الْأُصُولِ . وَعَلِمَ أَنَّ جَوَازَ هَذِهِ أَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَأَعْرَفُ فِي الْعُقُولِ وَأَبْعَدُ عَنْ كُلِّ مَحْذُورٍ مِنْ جَوَازِ إجَارَةِ الْأَرْضِ ؛ بَلْ وَمِنْ جَوَازِ كَثِيرٍ مِنْ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا حَيْثُ هِيَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ لِلْخَلْقِ بِلَا فَسَادٍ . وَإِنَّمَا وَقَعَ اللَّبْسُ فِيهَا عَلَى مَنْ حَرَّمَهَا مِنْ إخْوَانِنَا الْفُقَهَاءِ بَعْدَ مَا فَهِمُوهُ مِنْ الْآثَارِ : مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا هَذَا إجَارَةً عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ عَمَلٍ بِعِوَضِ . وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَمِلَ لِيَنْتَفِعَ بِعَمَلِهِ يَكُونُ أَجِيرًا كَعَمَلِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَعَمَلِ الشَّرِيكَيْنِ فِي شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ وَكَاشْتِرَاكِ الْغَانِمِينَ فِي الْمَغَانِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى نَعَمْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْمَلُ بِمَالٍ يَضْمَنُهُ لَهُ الْآخَرُ لَا يَتَوَلَّدُ مِنْ عَمَلِهِ : كَانَ هَذَا إجَارَةً .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ مِنْ جِنْسِ الْمُضَارَبَةِ . فَإِنَّهَا عَيْنٌ تَنْمُو بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا فَجَازَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمُضَارَبَةِ جَوَّزَهَا الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ اتِّبَاعًا لِمَا جَاءَ فِيهَا عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ أَنَّهُ لَا يُحْفَظُ فِيهَا بِعَيْنِهَا سُنَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَقَدْ كَانَ أَحْمَد يَرَى أَنْ يَقِيسَ الْمُضَارَبَةَ عَلَى الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ لِثُبُوتِهَا بِالنَّصِّ فَتُجْعَلُ أَصْلًا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِمَا مَنْ خَالَفَ . وَقِيَاسُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ صَحِيحٌ . فَإِنَّ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ جَوَازُ أَحَدِهِمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِ حُكْمَ الْآخَرِ لِتَسَاوِيهِمَا . فَإِنْ قِيلَ : الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ مِنْ عَيْنِ الْأَصْلِ ؛ بَلْ الْأَصْلُ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ بَدَلُهُ . فَالْمَالُ الْمُقَسَّمُ حَصَلَ بِنَفْسِ الْعَمَلِ ؛ بِخِلَافِ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ فَإِنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْأَصْلِ . قِيلَ : هَذَا الْفَرْقُ فَرْقٌ فِي الصُّورَةِ وَلَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ شَرْعِيٌّ ، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمَالَ الْمُسْتَفَادَ إنَّمَا حَصَلَ بِمَجْمُوعِ مَنْفَعَةِ بَدَنِ الْعَامِلِ وَمَنْفَعَةِ رَأْسِ الْمَالِ ؛ وَلِهَذَا يَرُدُّ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِثْلَ رَأْسِ مَالِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ كَمَا أَنَّ الْعَامِلَ يَبْقَى بِنَفْسِهِ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ الدَّرَاهِمِ . وَلَيْسَتْ إضَافَةُ الرِّبْحِ إلَى عَمَلِ بَدَنِ هَذَا بِأَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى مَنْفَعَةِ مَالِ هَذَا . وَلِهَذَا فَالْمُضَارَبَةُ الَّتِي تَرْوُونَهَا عَنْ عُمَرَ : إنَّمَا حَصَلَتْ بِغَيْرِ عَقْدٍ لَمَّا

أَقْرَضَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِابْنَيْ عُمَرَ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَحَمَلَاهُ إلَى أَبِيهِمَا . فَطَلَبَ عُمَرُ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ كَالْغَصْبِ حَيْثُ أَقْرَضَهُمَا وَلَمْ يُقْرِضْ غَيْرَهُمَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَالُ مُشْتَرَكٌ وَأَحَدُ الشُّرَكَاءِ إذَا اتَّجَرَ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بِدُونِ إذْنِ الْآخَرِ فَهُوَ كَالْغَاصِبِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ : " { الضَّمَانُ كَانَ عَلَيْنَا فَيَكُونُ الرِّبْحُ لَنَا } فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُضَارَبَةً . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَوْجُودَةٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ - وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ - هَلْ يَكُونُ رِبْحُ مَنْ اتَّجَرَ بِمَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِلْعَامِلِ أَوْ لَهُمَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَأَحْسَنُهَا وَأَقْيَسُهَا : أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ؛ كَمَا قَضَى بِهِ عُمَرُ ؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ مُتَوَلِّدٌ عَنْ الْأَصْلَيْنِ . وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْمُضَارَبَةِ الَّذِي قَدْ اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ رَاعَوْا فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الشَّرِكَةِ ، فَأَخْذُ مِثْلِ الدَّرَاهِمِ يَجْرِي مَجْرَى عَيْنِهَا ؛ وَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ الْقَرْضَ مَنِيحَةً ؛ يُقَالُ : مَنِيحَةُ وَرِقٍ . وَيَقُولُ النَّاسُ : أَعِرْنِي دَرَاهِمَك . يَجْعَلُونَ رَدَّ مِثْلِ الدَّرَاهِمِ مِثْلَ رَدِّ عَيْنِ الْعَارِيَة وَالْمُقْتَرِضُ انْتَفَعَ بِهَا وَرَدَّهَا . وَسَمَّوْا الْمُضَارَبَةَ قِرَاضًا ؛ لِأَنَّهَا فِي الْمُقَابَلَاتِ نَظِيرُ الْقَرْضِ فِي التَّبَرُّعَاتِ . وَيُقَالُ أَيْضًا : لَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ مُؤَثِّرًا لَكَانَ اقْتِضَاؤُهُ

لِتَجْوِيزِ الْمُزَارَعَةِ دُونَ الْمُضَارَبَةِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ ؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ إذَا حَصَلَ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلَيْنِ كَانَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ حُصُولِهِ مَعَ ذَهَابِ أَحَدِهِمَا . وَإِنْ قِيلَ : الزَّرْعُ نَمَاءُ الْأَرْضِ دُونَ الْبَدَنِ . فَقَدْ يُقَالُ : وَالرِّبْحُ نَمَاءُ الْعَامِلِ دُونَ الدَّرَاهِمِ أَوْ بِالْعَكْسِ . وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ ؛ بَلْ الزَّرْعُ يَحْصُلُ بِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَمَنْفَعَةِ بَدَنِ الْعَامِلِ وَالْبَقَرِ وَالْحَدِيدِ . ثُمَّ لَوْ سَلِمَ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ فَرْقًا فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا بِالْمُضَارَبَةِ أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْمُؤَاجَرَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجَرَةَ الْمَقْصُودُ فِيهَا هُوَ الْعَمَلُ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَالْأُجْرَةُ مَضْمُونَةٌ فِي الذِّمَّةِ أَوْ عَيْنٌ مُعَيَّنَةٌ . وَهُنَا لَيْسَ الْمَقْصُودُ إلَّا النَّمَاءُ وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْعَمَلِ وَالْأُجْرَةُ لَيْسَتْ عَيْنًا وَلَا شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ بَعْضُ مَا يَحْصُلُ مِنْ النَّمَاءِ ؛ وَلِهَذَا مَتَى عُيِّنَ فِيهَا شَيْءٌ مُعَيَّنٌ فَسَدَ الْعَقْدُ كَمَا تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ إذَا شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا رِبْحًا مُعَيَّنًا أَوْ أُجْرَةً مَعْلُومَةً فِي الذِّمَّةِ . وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْغَايَةِ . فَإِذَا كَانَتْ بِالْمُضَارَبَةِ أَشْبَهَ مِنْهَا بِالْمُؤَاجَرَةِ جِدًّا وَالْفَرْقُ الَّذِي بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ ضَعِيفٌ وَاَلَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُؤَاجَرَةِ فُرُوقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِهَا بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ فَإِلْحَاقُهَا بِمَا هِيَ بِهِ أَشْبَهُ أَوْلَى وَهَذَا أَجْلَى مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ فِيهِ إلَى إطْنَابٍ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ نَقُولَ : لَفْظُ الْإِجَارَةِ فِيهِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ .

فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ . " أَحَدُهَا " : أَنْ يُقَالَ : لِكُلِّ مَنْ بَذَلَ نَفْعًا بِعِوَضٍ . فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَهْرُ . فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } . وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَمَلُ هُنَا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا وَكَانَ الْآخَرُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا لَازِمًا أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ . " الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ " : الْإِجَارَةُ الَّتِي هِيَ جَعَالَةٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ غَيْرَ مَعْلُومٍ لَكِنَّ الْعِوَضَ مَضْمُونًا ؟ فَيَكُونُ عَقْدًا جَائِزًا غَيْرَ لَازِمٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : مَنْ رَدَّ عَلَيَّ عَبْدِي فَلَهُ كَذَا . فَقَدْ يَرُدُّهُ مِنْ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبٍ . " الثَّالِثَةُ " : الْإِجَارَةُ الْخَاصَّةُ . وَهِيَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَيْنًا أَوْ يَسْتَأْجِرَهُ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ ؛ بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً . فَيَكُونُ الْأَجْرُ مَعْلُومًا وَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ . وَهَذِهِ الْإِجَارَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الْبَيْعَ فِي عَامَّةِ أَحْكَامِهِ . وَالْفُقَهَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ إذَا أَطْلَقُوا الْإِجَارَةَ أَوْ قَالُوا " بَابُ الْإِجَارَةِ " أَرَادُوا هَذَا الْمَعْنَى . فَيُقَالُ : الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَنَحْوُهُنَّ مِنْ الْمُشَارَكَاتِ عَلَى نَمَاءٍ يَحْصُلُ مَنْ قَالَ : هِيَ إجَارَةٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَوْ الْعَامِّ فَقَدْ صَدَقَ . وَمَنْ قَالَ : هِيَ إجَارَةٌ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ فَقَدْ أَخْطَأَ . وَإِذَا كَانَتْ إجَارَةً

بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّتِي هِيَ الْجَعَالَةُ . فَهُنَالِكَ إنْ كَانَ الْعِوَضُ شَيْئًا مَضْمُونًا مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَأَمَّا إنْ كَانَ الْعِوَضُ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ الْعَمَلِ جَازَ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا شَائِعًا فِيهِ كَمَا لَوْ قَالَ الْأَمِيرُ فِي الْغَزْوِ : مَنْ دَلَّنَا عَلَى حِصْنِ كَذَا فَلَهُ مِنْهُ كَذَا فَحُصُولُ الْجَعْلِ هُنَاكَ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الْمَالِ مَعَ أَنَّهُ جَعَالَةٌ مَحْضَةٌ لَا شَرِكَةَ فِيهِ . فَالشِّرْكَةُ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَيَسْلُكُ فِي هَذَا طَرِيقَةً أُخْرَى . فَيُقَالُ : الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قِيَاسُ الْأُصُولِ : أَنَّ الْإِجَارَةَ الْخَاصَّةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْعِوَضُ غَرَرًا قِيَاسًا عَلَى الثَّمَنِ . فَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْمَنْفَعَةِ : فَلَا تُشْبِهُ هَذِهِ الْإِجَارَةَ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِهَا ، فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ الْمُبِيحِ . فَتَحْرِيرُ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الْمُعْتَقِدَ لِكَوْنِهَا إجَارَةً يَسْتَفْسِرُ عَنْ مُرَادِهِ بِالْإِجَارَةِ . فَإِنْ أَرَادَ الْخَاصَّةَ : لَمْ يَصِحَّ . وَإِنْ أَرَادَ الْعَامَّةَ : فَأَيْنَ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا إلَّا بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ ؟ فَإِنْ ذَكَرَ قِيَاسًا بَيَّنَ لَهُ الْفَرْقَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ فَقِيهٍ فَضْلًا عَنْ الْفَقِيهِ وَلَنْ يَجِدَ إلَى أَمْرٍ يَشْمَلُ مِثْلَ هَذِهِ الْإِجَارَةِ سَبِيلًا . فَإِذَا انْتَفَتْ أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ ثَبَتَ الْحِلُّ . وَيَسْلُكُ فِي هَذَا طَرِيقَةً أُخْرَى . وَهُوَ قِيَاسُ الْعَكْسِ . وَهُوَ أَنْ

يُثْبِتَ فِي الْفَرْعِ نَقِيضَ حُكْمِ الْأَصْلِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُكْمِ الْأَصْلِ . فَيُقَالُ : الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِكَوْنِ الْأُجْرَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً مُنْتَفٍ فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِذَلِكَ أَنَّ الْمَجْهُولَ غَرَرٌ . فَيَكُونُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْغَرَرِ الْمُقْتَضِي فِي أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ أَوْ مَا يُذْكَرُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . وَهَذِهِ الْمَعَانِي مُنْتَفِيَةٌ فِي الْفَرْعِ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْرِيمِ مُوجِبٌ إلَّا كَذَا - وَهُوَ مُنْتَفٍ - فَلَا تَحْرِيمَ . وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ - حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِ - : فَقَدْ جَاءَتْ مُفَسِّرَةً مُبَيِّنَةً لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَهْيًا عَمَّا فَعَلَ هُوَ وَالصَّحَابَةُ فِي عَهْدِهِ وَبَعْدِهِ بَلْ الَّذِي رَخَّصَ فِيهِ غَيْرَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ . فَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : " { كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُزْدَرِعًا كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا تُسَمَّى لِسَيِّدِ الْأَرْضِ . قَالَ : مِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وَتُسَلَّمُ الْأَرْضُ وَمِمَّا تُصَابُ الْأَرْضُ وَيُسَلَّمُ ذَلِكَ ؟ فَنَهَيْنَا . فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ } " . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ . قَالَ : " { كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلًا . وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ . فَيَقُولُ : هَذِهِ الْقِطْعَةُ لِي . وَهَذِهِ لَك . فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ . فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } " . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ : " { فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ كَذَا وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ . وَلَمْ نُنْهَ عَنْ الْوَرِقِ } " . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ رَافِعٍ قَالَ : " { كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ

الْأَنْصَارِ حَقْلًا . وَكُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ وَلَهُمْ هَذِهِ . فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ . فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْوَرِقُ فَلَمْ يَنْهَنَا } " وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ { حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : سَأَلْت رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاء الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ؟ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ إنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا عَلَى الماذيانات وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَأَشْيَاءَ مِنْ الزَّرْعِ فَيَهْلَكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلَكُ هَذَا وَيُسْلِمُ هَذَا . فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إلَّا هَذَا . فَلِذَلِكَ زُجِرَ النَّاسُ عَنْهُ . فَإِمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ } . فَهَذَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ - الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْحَدِيثِ - يَذْكُرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِرَاءٌ إلَّا بِزَرْعِ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْحَقْلِ . وَهَذَا النَّوْعُ حَرَامٌ بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً وَحَرَّمُوا نَظِيرَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ . فَلَوْ اشْتَرَطَ رِبْحَ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ . وَهَذَا الْغَرَرُ فِي الْمُشَارَكَاتِ نَظِيرُ الْغَرَرِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْمُعَاوَضَاتِ وَالْمُقَابَلَاتِ هُوَ التَّعَادُلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ . فَإِنْ اشْتَمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى غَرَرٍ أَوْ رِبًا دَخَلَهَا الظُّلْمُ فَحَرَّمَهَا اللَّهُ الَّذِي حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ مُحَرَّمًا عَلَى عِبَادِهِ . فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا مَلَكَ الثَّمَنَ وَبَقِيَ الْآخَرُ تَحْتَ الْخَطَرِ : لَمْ يَجُزْ - وَلِذَلِكَ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ -

فَكَذَلِكَ هَذَا إذَا اشْتَرَطَا لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مَكَانًا مُعَيَّنًا خَرَجَا عَنْ مُوجِبِ الشَّرِكَةِ ؛ فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي النَّمَاءِ . فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْمُعَيَّنِ لَمْ يَبْقَ لِلْآخَرِ فِيهِ نَصِيبٌ وَدَخَلَهُ الْخَطَرُ وَمَعْنَى الْقِمَارِ كَمَا ذَكَرَهُ رَافِعٌ فِي قَوْلِهِ : " { فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ } " فَيَفُوزُ أَحَدُهُمَا وَيَخِيبُ الْآخَرُ . وَهَذَا مَعْنَى الْقِمَارِ . وَأَخْبَرَ رَافِعٌ " أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِرَاءٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا هَذَا " وَأَنَّهُ إنَّمَا زُجِرَ عَنْهُ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ وَمَعْنَى الْقِمَارِ . وَأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا انْصَرَفَ إلَى ذَلِكَ الْكِرَاءِ الْمَعْهُودِ ؛ لَا إلَى مَا تَكُونُ فِيهِ الْأُجْرَةُ مَضْمُونَةً فِي الذِّمَّةِ . وَسَأُشِيرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَرَافِعٌ أَعْلَمُ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ ؟ وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - هُوَ الَّذِي انْتَهَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَإِنَّهُ قَالَ : لَمَّا حَدَّثَهُ رَافِعٌ : " { قَدْ عَلِمْت أَنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا بِمَا عَلَى الْأَرْبِعَاءِ وَبِشَيْءٍ مِنْ التِّبْنِ } " فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرُونَ بِزَرْعِ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَهُ النَّهْيُ . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَرْوِي حَدِيثَ مُعَامَلَةِ خَيْبَرَ دَائِمًا وَيُفْتِي بِهِ وَيُفْتِي بِالْمُزَارَعَةِ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَيْضًا بَعْدَ حَدِيثِ رَافِعٍ . فَرَوَى حَرْبٌ الكرماني قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ

بْنِ رَاهَوَيْه حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْت كُلَيْبَ بْنَ وَائِلٍ قَالَ : أَتَيْت ابْنَ عُمَرَ فَقُلْت : أَتَانِي رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ وَمَاءٌ وَلَيْسَ لَهُ بَذْرٌ وَلَا بَقَرٌ فَأَخَذْتهَا بِالنِّصْفِ فَبَذَرْت فِيهَا بَذْرِي وَعَمِلْت فِيهَا بِبَقَرِي فَنَاصَفْته ؟ قَالَ : حَسَنٌ . وَقَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي حَزْمٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ . سَمِعْت سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - وَأَتَاهُ رَجُلٌ - فَقَالَ : الرَّجُلُ مِنَّا يَنْطَلِقُ إلَى الرَّجُلِ فَيَقُولُ : أَجِيءُ بِبَذْرِي وَبَقَرِي وَأَعْمَلُ أَرْضَك فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهُ فَلَك مِنْهُ كَذَا وَلِي مِنْهُ كَذَا ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ وَنَحْنُ نَصْنَعُهُ . وَهَكَذَا أَخْبَرَ أَقَارِبُ رَافِعٍ . فَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ رَافِعٍ قَالَ : حَدَّثَنِي عُمُومَتِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرُونَ الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الْأَرْبِعَاءِ أَوْ بِشَيْءٍ يَسْتَثْنِيَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ . فَنَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ . فَقِيلَ لِرَافِعِ : فَكَيْفَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ ؟ فَقَالَ : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ . وَكَانَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذُو الْفَهْمِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يُجِزْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ . وَعَنْ أسيد بْنِ ظهير قَالَ : " { كَانَ أَحَدُنَا إذَا اسْتَغْنَى عَنْ أَرْضِهِ أَعْطَاهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ . وَيَشْتَرِطُ ثَلَاثَ جَدَاوِلَ وَالْقُصَارَةَ وَمَا سَقَى الرَّبِيعُ . كَانَ الْعَيْشُ إذْ ذَاكَ شَدِيدًا وَكَانَ يَعْمَلُ فِيهَا بِالْحَدِيدِ وَمَا شَاءَ اللَّهُ وَيُصِيبُ مِنْهَا مَنْفَعَةً . فَأَتَانَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يَنْهَاكُمْ عَنْ الْحَقْلِ وَيَقُولُ : مَنْ اسْتَغْنَى عَنْ أَرْضِهِ فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ أَوْ لِيَدَعْ } " رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه . وَرَوَى أَبُو دَاوُد قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَادَ أَحْمَد " { وَيَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُزَابَنَةِ } . وَالْمُزَابَنَةُ : أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَهُ الْمَالُ الْعَظِيمُ مِنْ النَّخْلِ فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ فَيَقُولُ : أَخَذْته بِكَذَا وَكَذَا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ . وَالْقُصَارَةُ مَا سَقَطَ مِنْ السُّنْبُلِ " . وَهَكَذَا أَخْبَرَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَابِرٌ . فَأَخْبَرَ سَعْدٌ : { أَنَّ أَصْحَابَ الْمَزَارِعِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَكْرُونَ مَزَارِعَهُمْ بِمَا يَكُونُ عَلَى السَّوَاقِي مِنْ الزَّرْعِ وَمَا سَعِدَ بِالْمَاءِ مِمَّا حَوْلَ الْبِئْرِ . فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَصَمُوا فِي ذَلِكَ فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يكروا بِذَلِكَ وَقَالَ : اُكْرُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي . فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْإِذْنِ بِالْكِرَاءِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَإِنَّ النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ عَنْ اشْتِرَاطِ زَرْعِ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ . وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " { كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَصِيبٍ مِنْ القصري وَمِنْ كَذَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ أَوْ فَلْيَدَعْهَا } " رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُ النَّهْيَ قَدْ أَخْبَرُوا بِالصُّورَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا وَالْعِلَّةِ الَّتِي نُهِيَ مِنْ أَجْلِهَا . وَإِذَا

كَانَ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ : { أَنَّهُ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ } مُطْلَقًا فَالتَّعْرِيفُ لِلْكِرَاءِ الْمَعْهُودِ بَيْنَهُمْ . وَإِذَا قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تكروا الْمَزَارِعَ } " فَإِنَّمَا أَرَادَ الْكِرَاءَ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ كَمَا فَهِمُوهُ مِنْ كَلَامِهِ وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَقْصُودِهِ . وَكَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا عَنْهُ : " أَنَّهُ رَخَّصَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْكِرَاءِ " وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ مَا قَرَنَ بِهِ النَّهْيَ مِنْ الْمُزَابَنَةِ وَنَحْوِهَا . وَاللَّفْظُ - وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُطْلَقًا - فَإِنَّهُ إذَا كَانَ خِطَابًا لِمُعَيَّنٍ فِي مِثْلِ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ أَوْ عَقِبَ حِكَايَةِ حَالٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَكُونُ مُقَيَّدًا بِمِثْلِ حَالِ الْمُخَاطَبِ . كَمَا لَوْ قَالَ الْمَرِيضُ لِلطَّبِيبِ : إنَّ بِهِ حَرَارَةً . فَقَالَ لَهُ : لَا تَأْكُلْ الدَّسَمَ . فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ النَّهْيَ مُقَيَّدٌ بِتِلْكَ الْحَالِ . وَذَلِكَ : أَنَّ اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ إذَا كَانَ لَهُ مُسَمًّى مَعْهُودٌ أَوْ حَالٌ يَقْتَضِيهِ : انْصَرَفَ إلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً كالمتبايعين إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا : بِعْتُك بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَإِنَّهَا مُطْلَقَةٌ فِي اللَّفْظِ ثُمَّ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الْمَعْهُودِ مِنْ الدَّرَاهِمِ . فَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ لَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ لَفْظَ " الْكِرَاءِ " إلَّا لِذَلِكَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ ثُمَّ خُوطِبُوا بِهِ : لَمْ يَنْصَرِفْ إلَّا إلَى مَا يَعْرِفُونَهُ . وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ الْعُرْفِيِّ كَلَفْظِ " الدَّابَّةِ " إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّهُ الْفَرَسُ أَوْ ذَوَاتُ الْحَافِرِ . فَقَالَ : لَا تَأْتِنِي بِدَابَّةِ : لَمْ يَنْصَرِفْ هَذَا الْمُطْلَقُ إلَّا إلَى ذَلِكَ . وَنَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُقَيَّدًا

بِالْعُرْفِ وَالسُّؤَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَعَنْ ظهير بْنِ رَافِعٍ قَالَ : " { دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ ؟ قُلْت نُؤَاجِرُهَا بِمَا عَلَى الرَّبِيعِ وَعَلَى الْأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ قَالَ : لَا تَفْعَلُوا ازْرَعُوهَا أَوْ أَزْرِعُوهَا أَوْ أَمْسِكُوهَا } " . فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ النَّهْيَ وَقَعَ عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ الْمَحْضَةُ : فَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا النَّهْيُ وَلَا ذَكَرَهَا رَافِعٌ وَغَيْرُهُ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ الْكِرَاءِ ؛ لِأَنَّهَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عِنْدَهُمْ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْكِرَاءِ الْمُعْتَادِ ؛ فَإِنَّ الْكِرَاءَ اسْمٌ لِمَا وَجَبَ فِيهِ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ إمَّا عَيْنٌ وَإِمَّا دَيْنٌ . فَإِنْ كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مَضْمُونًا فَهُوَ جَائِزٌ . وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَيْنًا مِنْ غَيْرِ الزَّرْعِ وَأَمَّا إنْ كَانَ عَيْنًا مِنْ الزَّرْعِ لَمْ يَجُزْ.
فَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ جَمِيعِ الزَّرْعِ فَلَيْسَ هُوَ الْكِرَاءَ الْمُطْلَقَ ؛ بَلْ هُوَ شَرِكَةٌ مَحْضَةٌ . إذْ لَيْسَ جَعْلُ الْعَامِلِ مُكْتَرِيًا لِلْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الزَّرْعِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْمَالِكِ مُكْتَرِيًا لِلْعَامِلِ بِالْجُزْءِ الْآخَرِ ؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي هَذَا كِرَاءً أَيْضًا . فَإِنَّمَا هُوَ كِرَاءٌ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ . فَأَمَّا الْكِرَاءُ الْخَاصُّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ رَافِعٌ وَغَيْرُهُ فَلَا وَلِهَذَا السَّبَبِ بَيَّنَ رَافِعٌ أَحَدَ نَوْعَيْ الْكِرَاءِ الْجَائِزِ وَبَيَّنَ النَّوْعَ الْآخَرَ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلشَّرِكَةِ لِأَنَّهَا جِنْسٌ آخَرُ .

بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ وَإِلَّا فَلْيُمْسِكْهَا } " أَمْرٌ - إذَا لَمْ يَفْعَلْ وَاحِدًا مِنْ الزَّرْعِ وَالْمَنِيحَةِ - أَنْ يُمْسِكَهَا . وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ وَمِنْ الْمُزَارَعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . فَيُقَالُ : الْأَمْرُ بِهَذَا أَمْرُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ ؛ لَا أَمْرُ إيجَابٍ أَوْ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ فِي الِابْتِدَاءِ لِيَنْزَجِرُوا عَمَّا اعْتَادُوهُ مِنْ الْكِرَاءِ الْفَاسِدِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ قَالَ فِي الْآنِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَطْبُخُونَهَا فِيهَا : " { أهريقوا مَا فِيهَا وَاكْسِرُوهَا } " . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ حِينَ سَأَلَهُ عَنْهَا أَبُو ثَعْلَبَةَ الخشني : " { إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ } " وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّفُوسَ إذَا اعْتَادَتْ الْمَعْصِيَةَ فَقَدْ لَا تَنْفَطِمُ عَنْهَا انْفِطَامًا جَيِّدًا إلَّا بِتَرْكِ مَا يُقَارِبُهَا مِنْ الْمُبَاحِ . كَمَا قِيلَ : " لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ حَاجِزًا مِنْ الْحَلَالِ " كَمَا أَنَّهَا أَحْيَانًا لَا تُتْرَكُ الْمَعْصِيَةُ إلَّا بِتَدْرِيجِ ؛ لَا تَتْرُكُهَا جُمْلَةً . فَهَذَا يَقَعُ تَارَةً وَهَذَا يَقَعُ تَارَةً . وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ خُشِيَ مِنْهُ النَّفْرَةُ عَنْ الطَّاعَةِ : الرُّخْصَةُ لَهُ فِي أَشْيَاءَ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ الْمُحَرَّمِ وَلِمَنْ وَثِقَ بِإِيمَانِهِ وَصَبْرِهِ : النَّهْيُ عَنْ بَعْضِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ مُبَالَغَةً فِي فِعْلِ الْأَفْضَلِ . وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَثِقَ بِإِيمَانِهِ

وَصَبْرِهِ - مِنْ فِعْلِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ كَالْخُرُوجِ عَنْ جَمِيعِ مَالِهِ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - مَا لَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ كَذَلِكَ كَالرَّجُلِ الَّذِي جَاءَهُ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَحَذَفَهُ بِهَا فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ . ثُمَّ قَالَ : " يَذْهَبُ أَحَدُكُمْ فَيُخْرِجُ مَالَهُ ثُمَّ يَجْلِسُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ " . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الصَّحِيحَةِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ : " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُزَارَعَةِ . وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ . وَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهَا } " وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ : " { أَنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يكروا بِزَرْعِ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ وَقَالَ : اُكْرُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } " وَكَذَلِكَ فَهِمَتْهُ الصَّحَابَةُ . فَإِنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قَدْ رَوَى ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ : لَا بَأْسَ بِكِرَائِهَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . وَكَذَلِكَ فُقَهَاءُ الصَّحَابَةِ : كَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ . قَالَ : قُلْت . لطاوس : " { لَوْ تَرَكْت الْمُخَابَرَةَ ؟ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا . قَالَ : أَيْ عَمْرٌو إنِّي أُعْطِيهِمْ وَأُعِينُهُمْ وَإِنْ أَعْلَمَهُمْ أَخْبَرَنِي - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ ؛ وَلَكِنْ قَالَ : إنْ يَمْنَحْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ خَرْجًا مَعْلُومًا } " وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّمْ الْمُزَارَعَةَ ؛

وَلَكِنْ أَمَرَ أَنْ يَرْفُقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُجْمَلًا وَالتِّرْمِذِي . وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَقَدْ أَخْبَرَ طاوس عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا دَعَاهُمْ إلَى الْأَفْضَلِ وَهُوَ التَّبَرُّعُ قَالَ : { وَأَنَا أُعِينُهُمْ وَأُعْطِيهِمْ } وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّفْقِ الَّذِي مِنْهُ وَاجِبٌ وَهُوَ تَرْكُ الرِّبَا وَالْغَرَرِ . وَمِنْهُ مُسْتَحَبٌّ كَالْعَارِيَةِ وَالْقَرْضِ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ التَّبَرُّعُ بِالْأَرْضِ بِلَا أُجْرَةٍ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ كَانَ الْمُسْلِمُ أَحَقَّ بِهِ فَقَالَ : " { لَأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَرْضَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ خَرْجًا مَعْلُومًا } " وَقَالَ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ أَوْ لِيُمْسِكْهَا } " فَكَانَ الْأَخُ هُوَ الْمَمْنُوحَ . وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسُوا مِنْ الْإِخْوَانِ عَامَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَمْنَحْهُمْ ؛ لَا سِيَّمَا وَالتَّبَرُّعُ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ فَضْلِ غِنًى . فَمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَنْفَعَةِ أَرْضِهِ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ الْمَنِيحَةُ كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجِينَ إلَى مَنْفَعَةِ أَرْضِ خَيْبَرَ وَكَمَا كَانَ الْأَنْصَارُ مُحْتَاجِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إلَى أَرْضِهِمْ حَيْثُ عَامَلُوا عَلَيْهَا الْمُهَاجِرِينَ . وَقَدْ تُوجِبُ الشَّرِيعَةُ التَّبَرُّعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا نَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ لِأَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ ؛ لِيُطْعِمُوا الْجِيَاعَ ؛ لِأَنَّ إطْعَامَهُمْ وَاجِبٌ . فَلَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجِينَ إلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَأَصْحَابُهَا أَغْنِيَاءُ عَنْهَا نَهَاهُمْ عَنْ الْمُعَاوَضَةِ

لِيَجُودُوا بِالتَّبَرُّعِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالتَّبَرُّعِ عَيْنًا كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ الِادِّخَارِ . فَإِنَّ مَنْ نَهَى عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ جَادَ بِبَذْلِهِ ؛ إذْ لَا يَتْرُكُ بَطَّالًا وَقَدْ يَنْهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ الْأَئِمَّةُ عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُبَاحِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ . لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمَنْهِيِّ ؛ كَمَا نَهَاهُمْ فِي بَعْضِ الْمَغَازِي . . . (1) وَأَمَّا مَا رَوَاهُ جَابِرٌ عَنْ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُخَابَرَةِ : فَهَذِهِ هِيَ الْمُخَابَرَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا . وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ . وَلَمْ تَكُنْ الْمُخَابَرَةُ عِنْدَهُمْ إلَّا ذَلِكَ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ { ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كُنَّا لَا نَرَى بِالْخِبْرِ بَأْسًا حَتَّى كَانَ عَامُ أَوَّلٍ ، فَزَعَمَ رَافِعٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ فَتَرَكْنَاهُ مِنْ أَجْلِهِ } " فَأَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَافِعًا رَوَى النَّهْيَ عَنْ الْخَبَرِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى حَدِيثِ رَافِعٍ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْخِبْرُ - بِكَسْرِ الْخَاءِ - بِمَعْنَى الْمُخَابَرَةِ . وَالْمُخَابَرَةُ : الْمُزَارَعَةُ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ . وَكَانَ أَبُو عُبَيْدٍ يَقُولُ : لِهَذَا سُمِّيَ الْأَكَّارُ خَبِيرًا ؛ لِأَنَّهُ يُخَابِرُ عَلَى الْأَرْضِ وَالْمُخَابَرَةُ : هِيَ الْمُؤَاكَرَةُ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : أَصْلُ هَذَا مِنْ خَيْبَرَ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى النِّصْفِ فَقِيلَ : خَابَرَهُمْ أَيْ عَامَلَهُمْ فِي خَيْبَرَ . وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءِ ؛ فَإِنَّ مُعَامَلَتَهُ بِخَيْبَرِ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا قَطُّ

بَلْ فَعَلَهَا الصَّحَابَةُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ . وَإِنَّمَا رَوَى حَدِيثَ الْمُخَابَرَةِ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَجَابِرٌ . وَقَدْ فَسَّرَا مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ . وَالْخَبِيرُ : هُوَ الْفَلَّاحُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ الْأَرْضَ . وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُزَارَعَةِ . فَقَالُوا : " الْمُخَابَرَةُ " هِيَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ وَ " الْمُزَارَعَةُ " عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ . قَالُوا : وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ ؛ لَا الْمُزَارَعَةِ . وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ " نَهَى عَنْ الْمُزَارَعَةِ " كَمَا " نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ " وَكَمَا " نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ " وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَامَّةٌ لِمَوْضِعِ نَهْيِهِ وَغَيْرِ مَوْضِعِ نَهْيِهِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِمَا يَفْعَلُونَهُ لِأَجْلِ التَّخْصِيصِ الْعُرْفِيِّ لَفْظًا وَفِعْلًا وَلِأَجْلِ الْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَهِيَ لَامُ الْعَهْدِ وَسُؤَالُ السَّائِلِ ؛ وَإِلَّا فَقَدْ نَقَلَ أَهْلُ اللُّغَةِ : أَنَّ الْمُخَابَرَةَ هِيَ الْمُزَارَعَةُ وَالِاشْتِقَاقُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
وَاَلَّذِينَ جَوَّزُوا الْمُزَارَعَةَ مِنْهُمْ مَنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ . وَقَالُوا : هَذِهِ هِيَ الْمُزَارَعَةُ . فَأَمَّا إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ لَمْ

يَجُزْ . وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ حَيْثُ يُجَوِّزُونَ الْمُزَارَعَةَ . وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ : قِيَاسُهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَبِذَلِكَ احْتَجَّ أَحْمَد أَيْضًا . قَالَ الكرماني : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ : رَجُلٌ دَفَعَ أَرْضَهُ إلَى الْأَكَّارِ عَلَى الثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَقَرُ وَالْحَدِيدُ وَالْعَمَلُ مِنْ الْأَكَّارِ يَذْهَبُ فِيهِ مَذْهَبَ الْمُضَارَبَةِ . وَوَجْهُ ذَلِكَ : أَنَّ الْبَذْرَ هُوَ أَصْلُ الزَّرْعِ كَمَا أَنَّ الْمَالَ هُوَ أَصْلُ الرِّبْحِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِمَّنْ لَهُ الْأَصْلُ لِيَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا الْعَمَلُ وَمِنْ الْآخَرِ الْأَصْلُ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْهُ : لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِهِ - أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا - أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكْرِي أَرْضَهُ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ كَمَا عَامَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ - كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى - إذَا دَفَعَ أَرْضَهُ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا بِبَذْرِهِ بِجُزْءٍ مِنْ الزَّرْعِ لِلْمَالِكِ فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ جَازَ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُزَارَعَةِ لَمْ يَجُزْ وَجَعَلُوا هَذَا التَّفْرِيقَ تَقْرِيرًا

لِنُصُوصِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا فِي عَامَّةِ نُصُوصِهِ صَرَائِحَ كَثِيرَةً جِدًّا فِي جَوَازِ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ مِنْهَا وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ كَالْمُضَارَبَةِ . فَفَرَّقُوا بَيْنَ بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَبَابِ الْإِجَارَةِ . وَقَالَ آخَرُونَ - مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ - مَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ : يَجُوزُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا . أَرَادَ بِهِ : الْمُزَارَعَةَ وَالْعَمَلَ مِنْ الْأَكَّارِ . قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَمُتَّبِعُوهُ : فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ : إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ : فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ بِمَا شُرِطَ لَهُ . قَالَ : فَعَلَى هَذَا مَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ يَسْتَحِقُّهُ بِبَذْرِهِ وَمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْأُجْرَةِ يَأْخُذُهُ بِالشَّرْطِ . وَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ نَصَّهُ عَلَى الْمُكَارِي بِبَعْضِ الْخَارِجِ هُوَ الْمُزَارَعَةُ عَلَى أَنْ يَبْذُرَ الْأَكَّارُ : هُوَ الصَّحِيحُ وَلَا يَحْتَمِلُ الْفِقْهُ إلَّا هَذَا أَوْ أَنْ يَكُونَ نَصُّهُ عَلَى جَوَازِ الْمُؤَاجَرَةِ الْمَذْكُورَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَجَوَازُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ مُطْلَقًا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَتَوَجَّهُ غَيْرُهُ أَثَرًا وَنَظَرًا . وَهُوَ ظَاهِرُ نُصُوصِ أَحْمَد الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ وَاخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ - قَوْلُ مَنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَبْذُرَ رَبُّ الْأَرْضِ وَقَوْلُ

مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إجَارَةً أَوْ مُزَارَعَةً - هُوَ فِي الضَّعْفِ نَظِيرُ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْإِجَارَةِ الْخَاصَّةِ وَالْمُزَارَعَةِ أَوْ أَضْعَفَ . أَمَّا بَيَانُ نَصِّ أَحْمَد : فَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا جَوَّزَ الْمُؤَاجَرَةَ بِبَعْضِ الزَّرْعِ اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ خَيْبَرَ وَمُعَامَلَتُهُ لَهُمْ إنَّمَا كَانَتْ مُزَارَعَةً ؛ لَمْ تَكُنْ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ . فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنَّ أَحْمَد لَا يُجَوِّزُ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِلَفْظِ إجَارَةٍ وَيَمْنَعُ فِعْلَهُ بِاللَّفْظِ الْمَشْهُورِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَارَطَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } كَمَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَذْرًا فَإِذَا كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ الَّتِي فَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانُوا يَبْذُرُونَ فِيهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِهَا أَحْمَد عَلَى الْمُزَارَعَةِ ثُمَّ يَقِيسُ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ ثُمَّ يَمْنَعُ الْأَصْلَ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ الَّتِي بَذَرَ فِيهَا الْعَامِلُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ لِلْيَهُودِ : { نُقِرُّكُمْ فِيهَا مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ } " لَمْ يَشْتَرِطْ مُدَّةً مَعْلُومَةً حَتَّى يُقَالَ : كَانَتْ إجَارَةً لَازِمَةً ؛ لَكِنَّ أَحْمَد حَيْثُ قَالَ : - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - إنَّهُ يَشْتَرِطُ كَوْنَ الْبَذْرِ مِنْ الْمَالِكِ . فَإِنَّمَا قَالَهُ مُتَابَعَةً لِمَنْ أَوْجَبَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَإِذَا أَفْتَى الْعَالِمُ بِقَوْلٍ لِحُجَّةٍ وَلَهَا مُعَارِضٌ رَاجِحٌ لَمْ يَسْتَحْضِرْ حِينَئِذٍ ذَلِكَ الْمُعَارِضَ

الرَّاجِحَ ثُمَّ لَمَّا أَفْتَى بِجَوَازِ الْمُؤَاجَرَةِ بِثُلُثِ الزَّرْعِ اسْتِدْلَالًا بِمُزَارَعَةِ خَيْبَرَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي خَيْبَرَ كَانَ الْبَذْرُ عِنْدَهُ مِنْ الْعَامِلِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ . فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ أَحْمَد فَرَّقَ بَيْنَ الْمُؤَاجَرَةِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ وَبَيْنَ الْمُزَارَعَةِ بِبَذْرِ الْعَامِلِ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَمُسْتَنَدُ هَذَا الْفَرْقِ لَيْسَ مَأْخَذًا شَرْعِيًّا . فَإِنَّ أَحْمَد لَا يَرَى اخْتِلَافَ أَحْكَامِ الْعُقُودِ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ ؛ كَمَا يَرَاهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَيَمْنَعُونَهَا بِلَفْظِ الْمُزَارَعَةِ وَكَذَلِكَ يُجَوِّزُونَ بَيْعَ مَا فِي الذِّمَّةِ بَيْعًا حَالًّا بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَيَمْنَعُونَهُ بِلَفْظِ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَلَمًا حَالًّا وَنُصُوصُ أَحْمَد وَأُصُولُهُ تَأْبَى هَذَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةِ صِيَغِ الْعُقُودِ ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ بِالْمَعَانِي لَا بِمَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَلْفَاظِ كَمَا تَشْهَدُ بِهِ أَجْوِبَتُهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فَرَّقَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَكُونُ هَذَا التَّفْرِيقُ رِوَايَةً عَنْهُ مَرْجُوحَةً كَالرِّوَايَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ . وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ : فَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ . أَمَّا السُّنَّةُ : فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يعتملوها مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِمْ بَذْرًا وَكَمَا عَامَلَ الْأَنْصَارَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ عِنْدِهِمْ قَالَ حَرْبٌ الكرماني :

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَكِيمٍ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَجْلَى أَهْلَ نَجْرَانَ وَأَهْلَ فَدَكَ وَأَهْلَ خَيْبَرَ وَاسْتَعْمَلَ يَعْلَى بْنَ مُنْيَةَ فَأَعْطَى الْعِنَبَ وَالنَّخْلَ عَلَى أَنَّ لِعُمَرِ الثُّلُثَيْنِ وَلَهُمْ الثُّلُثُ وَأَعْطَى الْبَيَاضَ - يَعْنِي بَيَاضَ الْأَرْضِ - عَلَى إنْ كَانَ الْبُرُّ وَالْبَقَرُ وَالْحَدِيدُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ فَلِعُمَرِ الثُّلُثَانِ وَلَهُمْ الثُّلُثُ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَلِعُمَرِ الشَّطْرُ وَلَهُمْ الشَّطْرُ . فَهَذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ عَامِلُهُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَمِلَ فِي خِلَافَتِهِ بِتَجْوِيزِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ : أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَامِلِ . وَقَالَ حَرْبٌ : حَدَّثَنَا أَبُو مَعْنٍ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ حَصِيرَةَ الأزدي عَنْ صَخْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ عَمْرِو بْنِ صَلِيعِ بْنِ مُحَارِبٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ : إنَّ فُلَانًا أَخَذَ أَرْضًا فَعَمِلَ فِيهَا وَفَعَلَ . فَدَعَاهُ فَقَالَ : مَا هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي أَخَذْت ؟ فَقَالَ : أَرْضٌ أَخَذْتهَا أُكْرِيَ أَنْهَارَهَا وَأُعَمِّرُهَا وَأَزْرَعُهَا . فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ فَلِي النِّصْفُ وَلَهُ النِّصْفُ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهَذَا . فَظَاهِرُهُ : أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَنْهَهُ عَلِيٌّ عَنْ ذَلِكَ وَيَكْفِي إطْلَاقُ سُؤَالِهِ وَإِطْلَاقُ عَلِيٍّ الْجَوَابَ . وَأَمَّا الْقِيَاسُ : فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ نَوْعٌ مِنْ الشَّرِكَةِ لَيْسَتْ

مِنْ الْإِجَارَةِ الْخَاصَّةِ . وَإِنْ جُعِلَتْ إجَارَةً فَهِيَ مِنْ الْإِجَارَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَدْخُلُ فِيهَا الْجَعَالَةُ وَالسَّبْقُ وَالرَّمْيُ . وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ : فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْبَذْرَ فِي الْمُزَارَعَةِ لَيْسَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى رَبِّهَا ؛ كَالثَّمَنِ فِي الْمُضَارَبَةِ ؛ بَلْ الْبَذْرُ يَتْلَفُ كَمَا تَتْلَفُ الْمَنَافِعُ ؛ وَإِنَّمَا تَرْجِعُ الْأَرْضُ أَوْ بَدَنُ الْبَقَرَةِ وَالْعَامِلِ . فَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَرْجِعَ مِثْلُهُ إلَى مُخْرِجِهِ ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الْفَضْلَ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يَشْتَرِكَانِ فِي جَمِيعِ الزَّرْعِ . فَظَهَرَ أَنَّ الْأُصُولَ فِيهَا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ هِيَ الْأَرْضُ بِمَائِهَا وَهَوَائِهَا وَبَدَنُ الْعَامِلِ وَالْبَقَرُ وَأَكْثَرُ الْحَرْثِ وَالْبَذْرِ يَذْهَبُ كَمَا تَذْهَبُ الْمَنَافِعُ . وَكَمَا تَذْهَبُ أَجْزَاءٌ مِنْ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ فَيَسْتَحِيلُ زَرْعًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ الزَّرْعَ مِنْ نَفْسِ الْحَبِّ وَالتُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ كَمَا يَخْلُقُ الْحَيَوَانَ مِنْ مَاءِ الْأَبَوَيْنِ بَلْ مَا يَسْتَحِيلُ فِي الزَّرْعِ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ مِنْ الْحَبِّ وَالْحَبُّ يَسْتَحِيلُ فَلَا يَبْقَى بَلْ يَفْلِقُهُ اللَّهُ وَيُحِيلُهُ كَمَا يُحِيلُ أَجْزَاءَ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَكَمَا يُحِيلُ الْمَنِيَّ وَسَائِرَ مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ . وَالْمَعْدِنَ وَالنَّبَاتَ . وَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ : اعْتَقَدُوا أَنَّ الْحَبَّ وَالنَّوَى فِي الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ : هُوَ الْأَصْلُ وَالْبَاقِي تَبَعٌ حَتَّى قَضَوْا فِي مَوَاضِعَ بِأَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ وَالشَّجَرُ لِرَبِّ النَّوَى وَالْحَبُّ مَعَ قِلَّةِ قِيمَتِهِ وَلِرَبِّ

الْأَرْضِ أُجْرَةُ أَرْضِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَضَى بِضِدِّ هَذَا حَيْثُ قَالَ : { مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ } فَأَخَذَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَبَعْضُ مَنْ أَخَذَ بِهِ يَرَى أَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِحْسَانِ وَهَذَا لِمَا انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْقِيَاسِ الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ تَبَعٌ لِلْبَذْرِ وَالشَّجَرَ تَبَعٌ لِلنَّوَى . وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ ؛ فَإِنَّ إلْقَاءَ الْحَبِّ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ إلْقَاءِ الْمَنِيِّ فِي الرَّحِمِ سَوَاءٌ ؛ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ النِّسَاءَ حَرْثًا فِي قَوْله تَعَالَى { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } كَمَا سَمَّى الْأَرْضَ الْمَزْرُوعَةَ حَرْثًا وَالْمُغَلَّبُ فِي مِلْكِ الْحَيَوَانِ إنَّمَا هُوَ جَانِبُ الْأُمِّ . وَلِهَذَا تَبِعَ الْوَلَدُ الْآدَمِيُّ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ دُونَ أَبِيهِ وَيَكُونُ جَنِينُ الْبَهِيمَةِ لِمَالِكِ الْأُمِّ دُونَ مَالِكِ الْفَحْلِ الَّذِي نُهِيَ عَنْ عَسْبِهِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي اسْتَمَدَّهَا مِنْ الْأُمِّ أَضْعَافُ الْأَجْزَاءِ الَّتِي اسْتَمَدَّهَا مِنْ الْأَبِ . وَإِنَّمَا لِلْأَبِ حَقُّ الِابْتِدَاءِ فَقَطْ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا . وَكَذَلِكَ الْحَبُّ وَالنَّوَى ؛ فَإِنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي خَلَقَ مِنْهَا الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ أَكْثَرُهَا مِنْ التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَقَدْ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ فَتَضْعُفُ بِالزَّرْعِ فِيهَا ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْزَاءُ تُسْتَخْلَفُ دَائِمًا - فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَزَالُ يَمُدُّ الْأَرْضَ بِالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَبِالتُّرَابِ إمَّا مُسْتَحِيلًا مِنْ غَيْرِهِ وَإِمَّا بِالْمَوْجُودِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ نَقْصُ الْأَجْزَاءِ التُّرَابِيَّةِ شَيْئًا إمَّا لِلْخَلَفِ بِالِاسْتِحَالَةِ وَإِمَّا لِلْكَثْرَةِ -

وَلِهَذَا صَارَ يَظْهَرُ أَنَّ أَجْزَاءَ الْأَرْضِ فِي مَعْنَى الْمَنَافِعِ بِخِلَافِ الْحَبِّ وَالنَّوَى الْمُلْقَى فِيهَا ؛ فَإِنَّهُ عَيْنٌ ذَاهِبَةٌ غَيْرُ مُسْتَخْلَفَةٍ وَلَا يُعَوَّضُ عَنْهَا . لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ هُوَ الْأَصْلَ فَقَطْ ؛ فَإِنَّ الْعَامِلَ هُوَ وَبَقْرَهُ لَا بُدَّ لَهُ مُدَّةَ الْعَمَلِ مِنْ قُوتٍ وَعَلَفٍ يَذْهَبُ أَيْضًا وَرَبُّ الْأَرْضِ لَا يَحْتَاجُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ ؛ وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ لَا يَرْجِعُ إلَى رَبِّهِ كَمَا يُرْجَعُ فِي الْقِرَاضِ وَلَوْ جَرَى عِنْدَهُمْ مَجْرَى الْأُصُولِ لَرَجَعَ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أُصُولٌ بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْأَرْضُ وَبَدَنُ الْعَامِلِ وَالْبَقَرُ وَالْحَدِيدُ . وَمَنَافِعُ فَانِيَةٌ . وَأَجْزَاءٌ فَانِيَةٌ أَيْضًا وَهِيَ الْبَذْرُ وَبَعْضُ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَبَعْضُ أَجْزَاءِ الْعَامِلِ وَبَقَرُهُ . فَهَذِهِ الْأَجْزَاءُ الْفَانِيَةُ كَالْمَنَافِعِ الْفَانِيَةِ سَوَاءٌ فَتَكُونُ الْخِيَرَةُ إلَيْهِمَا فِيمَنْ يَبْذُلُ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ وَيَشْتَرِكَانِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَا . مَا لَمْ يُفْضِ إلَى بَعْضِ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ أَوْ الرِّبَا وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ . وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَد سَائِرَ أَنْوَاعِ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ مِثْلَ أَنْ يَدْفَعَ دَابَّتَهُ أَوْ سَفِينَتَهُ أَوْ غَيْرَهُمَا إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا وَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا .
فَصْلٌ :
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى حِكْمَةِ بَيْعِ الْغَرَرِ وَمَا يُشْبِهُ

ذَلِكَ يَجْمَعُ الْيُسْرَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ . فَإِنَّك تَجِدُ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ إمَّا أَنْ يَتَمَسَّكَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ أَلْفَاظٍ يَحْسَبُهَا عَامَّةً أَوْ مُطْلَقَةً أَوْ بِضَرْبٍ مِنْ الْقِيَاسِ الْمَعْنَوِيِّ أَوْ الشبهي . فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَحْمَد حَيْثُ يَقُولُ : يَنْبَغِي لِلْمُتَكَلِّمِ فِي الْفِقْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ : الْمُجْمَلَ وَالْقِيَاسَ . وَقَالَ أَيْضًا أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ . ثُمَّ هَذَا التَّمَسُّكُ يُفْضِي إلَى مَا لَا يُمْكِنُ اتِّبَاعُهُ أَلْبَتَّةَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ : بَيْعُ الدُّيُونِ دَيْنِ السَّلَمِ وَغَيْرِهِ وَأَنْوَاعٌ مِنْ الصُّلْحِ وَالْوِكَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَوْلَا أَنَّ الْغَرَضَ ذِكْرُ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ تَجْمَعُ أَبْوَابًا لَذَكَرْنَا أَنْوَاعًا مِنْ هَذَا .
فَصْلٌ :
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ : فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا فِيمَا يَحِلُّ مِنْهَا وَيَحْرُمُ وَمَا يَصِحُّ مِنْهَا وَيَفْسُدُ . وَمَسَائِلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَاَلَّذِي يُمْكِنُ ضَبْطُهُ فِيهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقَالَ : الْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ : الْحَظْرُ ؛ إلَّا مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِجَازَتِهِ . فَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَكَثِيرٌ مِنْ أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ تَنْبَنِي عَلَى هَذَا . وَكَثِيرٌ مِنْ أُصُول الشَّافِعِيِّ وَأُصُولِ

طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . فَإِنَّ أَحْمَد قَدْ يُعَلِّلُ أَحْيَانًا بُطْلَانَ الْعَقْدِ بِكَوْنِهِ لَمْ يَرِدْ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا قِيَاسٌ . كَمَا قَالَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ . وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ يُعَلِّلُونَ فَسَادَ الشُّرُوطِ بِأَنَّهَا تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَيَقُولُونَ : مَا خَالَفَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ . أَمَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ فَلَمْ يُصَحِّحُوا لَا عَقْدًا وَلَا شَرْطًا إلَّا مَا ثَبَتَ جَوَازُهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ . وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ جَوَازُهُ أَبْطَلُوهُ وَاسْتَصْحَبُوا الْحُكْمَ الَّذِي قَبْلَهُ وَطَرَدُوا ذَلِكَ طَرْدًا جَارِيًا ؛ لَكِنْ خَرَجُوا فِي كَثِيرٍ مِنْهُ إلَى أَقْوَالٍ يُنْكِرُهَا عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأُصُولُهُ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُصَحِّحُ فِي الْعُقُودِ شُرُوطًا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا فِي الْمُطْلَقِ . وَإِنَّمَا يُصَحِّحُ الشَّرْطَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْعَقْدُ مِمَّا يُمْكِنُ فَسْخُهُ . وَلِهَذَا أَبْطَلَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ تَأْخِيرُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِحَالِ . وَلِهَذَا مَنَعَ بَيْعَ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ . وَإِذَا ابْتَاعَ شَجَرَةً عَلَيْهَا ثَمَرٌ لِلْبَائِعِ فَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِإِزَالَتِهِ . وَإِنَّمَا جَوَّزَ الْإِجَارَةَ الْمُؤَخَّرَةَ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عِنْدَهُ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ عِتْقِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ أَوْ الِانْتِفَاعِ بِهِ أَوْ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِي بَقَاءَ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ وَسَائِرِ الشُّرُوطِ الَّتِي يُبْطِلُهَا غَيْرُهُ . وَلَمْ يُصَحِّحْ فِي النِّكَاحِ شَرْطًا أَصْلًا لِأَنَّ النِّكَاحَ عِنْدَهُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ . وَلِهَذَا لَا يَنْفَسِخُ عِنْدَهُ بِعَيْبٍ أَوْ إعْسَارٍ أَوْ نَحْوِهِمَا . وَلَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ

الْفَاسِدَةِ مُطْلَقًا . وَإِنَّمَا صَحَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ خِيَارَ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ لِلْأَثَرِ وَهُوَ عِنْدَهُ مَوْضِعُ اسْتِحْسَانٍ . وَالشَّافِعِيُّ يُوَافِقُهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ خَالَفَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لَكِنَّهُ يَسْتَثْنِي مَوَاضِعَ لِلدَّلِيلِ الْخَاصِّ . فَلَا يُجَوِّزُ شَرْطَ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ وَلَا اسْتِثْنَاءَ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَأْخِيرُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ حَتَّى مَنَعَ الْإِجَارَةَ الْمُؤَخَّرَةَ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهَا - وَهُوَ الْقَبْضُ - لَا يَلِي الْعَقْدَ وَلَا يُجَوِّزُ أَيْضًا مَا فِيهِ مَنْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ إلَّا الْعِتْقُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْمَعْنَى ؛ لَكِنَّهُ يُجَوِّزُ اسْتِثْنَاءَ الْمَنْفَعَةِ بِالشَّرْعِ كَبَيْعِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي مَذْهَبِهِ وَكَبَيْعِ الشَّجَرِ مَعَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَرَةِ مُسْتَحَقَّةَ الْبَقَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَيَجُوزُ فِي النِّكَاحِ بَعْضُ الشُّرُوطِ دُونَ بَعْضٍ وَلَا يُجَوِّزُ اشْتِرَاطَهَا دَارَهَا أَوْ بَلَدَهَا وَلَا أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَلَا يَتَسَرَّى وَيُجَوِّزُ اشْتِرَاطَ حُرِّيَّتِهَا وَإِسْلَامِهَا . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّفَاتِ الْمَقْصُودَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِ كَالْجَمَالِ وَنَحْوِهِ . وَهُوَ مِمَّنْ يَرَى فَسْخَ النِّكَاحِ بِالْعَيْبِ وَالْإِعْسَارِ وَانْفِسَاخَهُ بِالشُّرُوطِ الَّتِي تُنَافِيهِ كَاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ وَالطَّلَاقِ وَنِكَاحِ الشِّغَارِ . بِخِلَافِ فَسَادِ الْمَهْرِ وَنَحْوِهِ . وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد يُوَافِقُونَ الشَّافِعِيَّ عَلَى مَعَانِي هَذِهِ الْأُصُولِ ؛ لَكِنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَثْنِيهِ الشَّافِعِيُّ كَالْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ كَاسْتِثْنَاءِ الْبَائِعِ مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ وَاشْتِرَاطِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا أَنْ لَا يَنْقُلَهَا

وَلَا يُزَاحِمَهَا بِغَيْرِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ . فَيَقُولُونَ : كُلُّ شَرْطٍ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ . إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِْلمُتَعَاقِدِين . وَذَلِكَ أَنَّ نُصُوصَ أَحْمَد تَقْتَضِي أَنَّهُ جَوَّزَ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْعُقُودِ أَكْثَرَ مِمَّا جَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ . فَقَدْ يُوَافِقُونَهُ فِي الْأَصْلِ وَيَسْتَثْنُونَ لِلْمُعَارِضِ أَكْثَرَ مِمَّا اسْتَثْنَى كَمَا قَدْ يُوَافِقُ هُوَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي الْأَصْلِ وَيَسْتَثْنِي أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَثْنِي لِلْمُعَارِضِ . وَهَؤُلَاءِ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ يُخَالِفُونَ أَهْلَ الظَّاهِرِ وَيَتَوَسَّعُونَ فِي الشُّرُوطِ أَكْثَرَ مِنْهُمْ ؛ لِقَوْلِهِمْ بِالْقِيَاسِ وَالْمَعَانِي وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَلِمَا يَفْهَمُونَهُ مِنْ مَعَانِي النُّصُوصِ الَّتِي يَنْفَرِدُونَ بِهَا عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ . وَعُمْدَةُ هَؤُلَاءِ : قِصَّةُ بَرِيرَةَ الْمَشْهُورَةُ . وَهُوَ مَا خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ : كَاتَبْت أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي . فَقُلْت : إنْ أَحَبَّ أَهْلُك أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلَاؤُك لِي فَعَلْت . فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ فَأَبَوْا عَلَيْهَا . فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ . فَقَالَتْ : إنِّي قَدْ عَرَضْت ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْوَلَاءُ فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ . فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ .

فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ . فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ . وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ : { اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَلْيَشْتَرِطُوا مَا شَاءُوا ، فَاشْتَرَتْهَا فَأَعْتَقَتْهَا وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلَاءَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ، وَإِنْ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْطٍ } . وَفِي لَفْظٍ : { شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ } " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : " { أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً لِتُعْتِقَهَا . فَقَالَ أَهْلُهَا : نبيعكها عَلَى أَنَّ وَلَاءَهَا لَنَا ؟ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ لَا يَمْنَعُك ذَلِكَ . فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } . وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَتُعْتِقَهَا ، فَأَبَى أَهْلُهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْوَلَاءُ ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَا يَمْنَعُك ذَلِكَ ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } . وَلَهُمْ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّتَانِ . إحْدَاهُمَا : قَوْلُهُ : { مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ } " . فَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ وَلَا فِي

الْإِجْمَاعِ : فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِخِلَافِ مَا كَانَ فِي السُّنَّةِ أَوْ فِي الْإِجْمَاعِ . فَإِنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَمَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ - وَهُوَ الْجُمْهُورُ - قَالُوا : إذَا دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ الْقِيَاسُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالسُّنَّةِ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِكِتَابِ اللَّهِ : فَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ . وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُمْ يَقِيسُونَ جَمِيعَ الشُّرُوطِ الَّتِي تُنَافِي مُوجِبَ الْعَقْدِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ : كَوْنُهُ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ . وَذَلِكَ : لِأَنَّ الْعُقُودَ تُوجِبُ مُقْتَضَيَاتِهَا بِالشَّرْعِ . فَيُعْتَبَرُ تَغْيِيرُهَا تَغْيِيرًا لِمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ ؛ بِمَنْزِلَةِ تَغْيِيرِ الْعِبَادَاتِ . وَهَذَا نُكْتَةُ الْقَاعِدَةِ . وَهِيَ أَنَّ الْعُقُودَ مَشْرُوعَةٌ عَلَى وَجْهٍ فَاشْتِرَاطُ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا تَغْيِيرٌ لِلْمَشْرُوعِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ - فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ - لَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْعِبَادَاتِ شَرْطًا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا . فَلَا يُجَوِّزُونَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْإِحْلَالَ بِالْعُذْرِ مُتَابَعَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حَيْثُ كَانَ يُنْكِرُ الِاشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ . وَيَقُولُ : أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ ؟ . وَقَدْ اسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } . قَالُوا : فَالشُّرُوطُ وَالْعُقُودُ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ وَزِيَادَةٌ

فِي الدِّينِ . وَمَا أَبْطَلَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى جَوَازِهَا بِالْعُمُومِ أَوْ بِالْخُصُوصِ قَالُوا : ذَلِكَ مَنْسُوخٌ . كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي شُرُوطِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ قَالُوا : هَذَا عَامٌّ أَوْ مُطْلَقٌ فَيُخَصُّ بِالشَّرْطِ الَّذِي فِي كِتَابِ اللَّهِ . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثٍ يُرْوَى فِي حِكَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَشَرِيكٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ } وَقَدْ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْفِقْهِ وَلَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ . وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ تُعَارِضُهُ وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ الْمَعْرُوفُونَ - مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ أَعْلَمُهُ مَنْ غَيْرِهِمْ - أَنَّ اشْتِرَاطَ صِفَةٍ فِي الْمَبِيعِ وَنَحْوِهِ كَاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْعَبْدِ كَاتِبًا أَوْ صَانِعًا أَوْ اشْتِرَاطِ طُولِ الثَّوْبِ أَوْ قَدْرَ الْأَرْضِ وَنَحْوَ ذَلِكَ : شَرْطٌ صَحِيحٌ .
الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ : الْجَوَازُ وَالصِّحَّةُ وَلَا يَحْرُمُ مِنْهَا وَيَبْطُلُ إلَّا مَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ . وَأُصُولُ أَحْمَد الْمَنْصُوصَةُ عَنْهُ : أَكْثَرُهَا يَجْرِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَمَالِكٌ قَرِيبٌ مِنْهُ ؛ لَكِنَّ أَحْمَد أَكْثَرُ تَصْحِيحًا

لِلشُّرُوطِ . فَلَيْسَ فِي الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَكْثَرُ تَصْحِيحًا لِلشُّرُوطِ مِنْهُ . وَعَامَّةُ مَا يُصَحِّحُهُ أَحْمَد مِنْ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا يُثْبِتُهُ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ مِنْ أَثَرٍ أَوْ قِيَاسٍ ؛ لَكِنَّهُ لَا يَجْعَلُ حُجَّةَ الْأَوَّلِينَ مَانِعًا مِنْ الصِّحَّةِ وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ شَرْطًا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ . وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ مِنْ الْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ مَا لَا تَجِدُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ . فَقَالَ بِذَلِكَ وَبِمَا فِي مَعْنَاهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ وَمَا اعْتَمَدَهُ غَيْرُهُ فِي إبْطَالِ الشُّرُوطِ مِنْ نَصٍّ : فَقَدْ يُضْعِفُهُ أَوْ يُضْعِفُ دَلَالَتَهُ . وَكَذَلِكَ قَدْ يُضْعِفُ مَا اعْتَمَدُوهُ مِنْ قِيَاسٍ . وَقَدْ يَعْتَمِدُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عمومات الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا فِي تَصْحِيحِ الشُّرُوطِ . كَمَسْأَلَةِ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ مُطْلَقًا فَمَالِكٌ يُجَوِّزُهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ يُجَوِّزُ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا . وَيُجَوِّزُهُ ابْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ فِي الضَّمَانِ وَنَحْوِهِ . وَيُجَوِّزُ أَحْمَد اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْخَارِجِ مِنْ مِلْكِهِ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ وَاشْتِرَاطِ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى مُقْتَضَاهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، فَإِذَا كَانَ لَهَا مُقْتَضًى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ جَوَّزَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ وَالنَّقْصُ مِنْهُ بِالشَّرْطِ ؛ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ مُخَالَفَةَ الشَّرْعِ . كَمَا سَأَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَيُجَوِّزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ كَخِدْمَةِ الْعَبْدِ وَسُكْنَى الدَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةُ مِمَّا يَجُوزُ اسْتِبْقَاؤُهَا فِي مِلْكِ

الْغَيْرِ اتِّبَاعًا لِحَدِيثِ جَابِرٍ لَمَّا بَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَلَهُ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ . وَيُجَوِّزُ أَيْضًا لِلْمُعْتِقِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ خِدْمَةَ الْعَبْدِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَوْ حَيَاةِ السَّيِّدِ أَوْ غَيْرِهِمَا اتِّبَاعًا لِحَدِيثِ سَفِينَةَ لَمَّا أَعْتَقَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ وَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ خِدْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَاشَ . وَيَجُوزُ - عَلَى عَامَّةِ أَقْوَالِهِ - : أَنْ يُعْتِقَ أَمَتَهُ وَيَجْعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا . كَمَا فِي حَدِيثِ صَفِيَّةَ . وَكَمَا فَعَلَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ ؛ كَأَنَّهُ أَعْتَقَهَا وَاسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ ؛ لَكِنَّهُ اسْتَثْنَاهَا بِالنِّكَاحِ إذْ اسْتِثْنَاؤُهَا بِلَا نِكَاحٍ غَيْرُ جَائِزٍ بِخِلَافِ مَنْفَعَةِ الْخِدْمَةِ . وَيُجَوِّزُ أَيْضًا لِلْوَاقِفِ إذَا وَقَفَ شَيْئًا أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَنْفَعَتَهُ وَغَلَّتَهُ جَمِيعَهَا لِنَفْسِهِ لِمُدَّةِ حَيَاتِهِ . كَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ . وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَلْ يَجُوزُ وَقْفُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ ؟ فِيهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ . وَيَجُوزُ أَيْضًا - عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ - اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ وَالصَّدَاقِ وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَلَى الْقِصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ إخْرَاجِ الْمِلْكِ سَوَاءٌ كَانَ بِإِسْقَاطِ كَالْعِتْقِ أَوْ بِتَمْلِيكِ بِعِوَضٍ كَالْبَيْعِ . أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهِبَةِ .

وَيُجَوِّزُ أَحْمَد أَيْضًا فِي النِّكَاحِ عَامَّةَ الشُّرُوطِ الَّتِي لِلْمُشْتَرِطِ فِيهَا غَرَضٌ صَحِيحٌ ؛ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ : مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ : إنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الشُّرُوطَ فِي النِّكَاحِ أَوْكَدُ مِنْهَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ . وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِ مَنْ يُصَحِّحُ الشُّرُوطَ فِي الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ . فَيُجَوِّزُ أَحْمَد أَنْ تَسْتَثْنِيَ الْمَرْأَةُ مَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ بِالْإِطْلَاقِ فَتَشْتَرِطُ أَنْ لَا تُسَافِرَ مَعَهُ وَلَا تَنْتَقِلَ مِنْ دَارِهَا ، وَتَزِيدَ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ بِالْإِطْلَاقِ فَتَشْتَرِطُ أَنْ تَكُونَ مُخَلِّيَةً بِهِ فَلَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا وَلَا يَتَسَرَّى . وَيُجَوِّزُ - عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَنْصُوصَةِ عَنْهُ الْمُصَحَّحَةِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ - أَنْ يَشْتَرِطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ فِي الْآخَرِ صِفَةً مَقْصُودَةً كَالْيَسَارِ وَالْجَمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَمْلِكُ الْفَسْخَ بِفَوَاتِهِ . وَهُوَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ قَوْلًا بِفَسْخِ النِّكَاحِ وَانْفِسَاخِهِ فَيَجُوزُ فَسْخُهُ بِالْعَيْبِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَقَدْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَبِالتَّدْلِيسِ كَمَا لَوْ ظَنَّهَا حُرَّةً فَظَهَرَتْ أَمَةً وَبِالْخَلْفِ فِي الصِّفَةِ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا لَوْ شَرَطَ الزَّوْجُ أَنَّ لَهُ مَالًا فَظَهَرَ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ . وَيَنْفَسِخُ عِنْدَهُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ الْمُنَافِيَةِ لِمَقْصُودِهِ كَالتَّوْقِيتِ وَاشْتِرَاطِ الطَّلَاقِ . وَهَلْ يَبْطُلُ بِفَسَادِ الْمَهْرِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؟ فِيهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ . إحْدَاهُمَا : نَعَمْ كَنِكَاحِ الشِّغَارِ .

وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ . وَالثَّانِيَةُ : لَا يَنْفَسِخُ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَهُوَ عَقْدٌ مُفْرَدٌ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَعَلَى أَكْثَرِ نُصُوصِهِ يُجَوِّزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِعْلًا أَوْ تَرْكًا فِي الْمَبِيعِ مِمَّا هُوَ مَقْصُودٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمَبِيعِ نَفْسِهِ . وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ لَا يُجَوِّزُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْعِتْقَ . وَقَدْ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْهُ ؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَكْثَرُ فِي كَلَامِهِ . فَفِي جَامِعِ الْخَلَّالِ عَنْ أَبِي طَالِبٍ : سَأَلْت أَحْمَد عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً فَشَرَطَ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا : تَكُونُ جَارِيَةً نَفِيسَةً يُحِبُّ أَهْلُهَا أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا وَلَا تَكُونُ لِلْخِدْمَةِ ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ . وَقَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً فَقَالَ لَهُ : إذَا أَرَدْت بَيْعَهَا فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي تَأْخُذُهَا بِهِ مِنِّي ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ وَلَكِنْ لَا يَطَؤُهَا وَلَا يَقْرَبُهَا وَلَهُ فِيهَا شَرْطٌ ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ لِرَجُلِ : لَا تَقْرَبَنَّهَا وَلِأَحَدٍ فِيهَا شَرْطٌ . وَقَالَ حَنْبَلٌ : حَدَّثَنَا عفان حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبة : أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ اشْتَرَى جَارِيَةً مِنْ امْرَأَتِهِ وَشَرَطَ لَهَا : إنْ بَاعَهَا فَهِيَ لَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ . فَسَأَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ . فَقَالَ : لَا تَنْكِحْهَا وَفِيهَا شَرْطٌ . وَقَالَ حَنْبَلٌ : قَالَ عَمِّي : كُلُّ شَرْطٍ فِي فَرْجٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا . وَالشَّرْطُ الْوَاحِدُ فِي الْبَيْعِ جَائِزٌ إلَّا أَنَّ عُمَرَ كَرِهَ لِابْنِ مَسْعُودٍ

أَنْ يَطَأَهَا ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِامْرَأَتِهِ الَّذِي شَرَطَ . فَكَرِهَ عُمَرُ أَنْ يَطَأَهَا وَفِيهَا شَرْطٌ . وَقَالَ الكرماني سَأَلَ أَحْمَد عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً وَشَرَطَ لِأَهْلِهَا أَنْ لَا يَبِيعَهَا وَلَا يَهَبَهَا ؟ فَكَأَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ . وَلَكِنَّهُمْ إنْ اشْتَرَطُوا لَهُ إنْ بَاعَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ ؟ فَلَا يَقْرَبُهَا . يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ . فَقَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْبَائِعُ بَيْعَهَا لَمْ يَمْلِكْ إلَّا رَدَّهَا إلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَالْمُقَايَلَةِ . وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُبْطِلِ لِهَذَا الشَّرْطِ وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ : " جَائِزٌ " أَيْ الْعَقْدُ جَائِزٌ وَبَقِيَّةُ نُصُوصِهِ تُصَرِّحُ بِأَنَّ مُرَادَهُ " الشَّرْطُ " أَيْضًا . وَاتَّبَعَ فِي ذَلِكَ الْقِصَّةَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ : ثَلَاثَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْمَبِيعِ فَلَا يَبِيعُهُ وَلَا يَهَبُهُ أَوْ يَتَسَرَّاهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَعْيِينٌ لِمَصْرِفٍ وَاحِدٍ كَمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ عُثْمَانَ : أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ صهيب دَارًا وَشَرَطَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى صهيب وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ . وَجِمَاعُ ذَلِكَ : أَنَّ الْمِلْكَ يُسْتَفَادُ بِهِ تَصَرُّفَاتٌ مُتَنَوِّعَةٌ . فَكَمَا جَازَ بِالْإِجْمَاعِ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْمَبِيعِ وَجَوَّزَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنَافِعِهِ جَوَّزَ أَيْضًا اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ . وَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَالَ : هَذَا الشَّرْطُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ . قِيلَ لَهُ :

أَيُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ أَوْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُطْلَقًا ؟ فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ : فَكُلُّ شَرْطٍ كَذَلِكَ . وَإِنْ أَرَادَ الثَّانِيَ : لَمْ يَسْلَمْ لَهُ ؛ وَإِنَّمَا الْمَحْذُورُ : أَنْ يُنَافِيَ مَقْصُودَ الْعَقْدِ كَاشْتِرَاطِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ أَوْ اشْتِرَاطِ الْفَسْخِ فِي الْعَقْدِ . فَأَمَّا إذَا شَرَطَ مَا يُقْصَدُ بِالْعَقْدِ لَمْ يُنَافِ مَقْصُودَهُ . هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ : بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ مَعَ الِاسْتِصْحَابِ وَعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُنَافِي . أَمَّا الْكِتَابُ : فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وَالْعُقُودُ هِيَ الْعُهُودُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا } فَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَهَذَا عَامٌّ وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ وَبِالْعَهْدِ . وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ يَدْخُلُ فِيهِ مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِنَفْسِ ذَلِكَ الْمَعْهُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَهْدِ كَالنَّذْرِ وَالْبَيْعِ إنَّمَا أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِهِ ؛ وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِالصِّدْقِ فِي قَوْلِهِ { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } لِأَنَّ الْعَدْلَ فِي الْقَوْلِ خَبَرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ كَمَا

قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } { فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ - كَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِ - تساءلون بِهِ : تَتَعَاهَدُونَ وَتَتَعَاقَدُونَ . وَذَلِكَ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَطْلُبُ مِنْ الْآخَرِ مَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَجَمَعَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَسَائِرِ السُّورَةِ أَحْكَامَ الْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَ بَنِي آدَمَ الْمَخْلُوقَةَ : كَالرَّحِمِ وَالْمَكْسُوبَةَ : كَالْعُقُودِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا الصِّهْرُ وَوِلَايَةُ مَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } { وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ } وَالْأَيْمَانُ : جَمْعُ يَمِينٍ وَكُلُّ عَقْدٍ فَإِنَّهُ يَمِينٌ . قِيلَ : سُمِّيَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْقِدُونَهُ بِالْمُصَافَحَةِ بِالْيَمِينِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : قَوْلُهُ { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ

وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } { كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلًّا وَلَا ذِمَّةً } وَالْإِلُّ : هُوَ الْقَرَابَةُ . وَالذِّمَّةُ : الْعَهْدُ - وَهُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ : { تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } - إلَى قَوْلِهِ { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً } فَذَمَّهُمْ اللَّهُ عَلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَنَقْضِ الذِّمَّةِ . إلَى قَوْلِهِ { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ } وَهَذِهِ نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ لَمَّا صَالَحَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ . ثُمَّ نَقَضُوا الْعَهْدَ بِإِعَانَةِ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } فَتِلْكَ عُهُودٌ جَائِزَةٌ ؛ لَا لَازِمَةٌ فَإِنَّهَا كَانَتْ مُطْلَقَةً . وَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إمْضَائِهَا وَنَقْضِهَا . كَالْوِكَالَةِ وَنَحْوِهَا . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ : إنَّ الْهُدْنَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مُؤَقَّتَةً : فَقَوْلُهُ - مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ أَحْمَد - يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَتَرُدُّهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَكْثَرِ الْمُعَاهَدِينَ فَإِنَّهُ لَمْ

يُوَقِّتْ مَعَهُمْ وَقْتًا . فَأَمَّا مَنْ كَانَ عَهْدُهُ مُوَقَّتًا فَلَمْ يُبَحْ لَهُ نَقْضُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وَقَالَ : { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وَقَالَ { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } فَإِنَّمَا أَبَاحَ النَّبْذَ عِنْدَ ظُهُورِ إمَارَاتِ الْخِيَانَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَحْذُورَ مِنْ جِهَتِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } الْآيَةَ . وَجَاءَ أَيْضًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ " إنَّ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ سُورَةً كَانَتْ كَبَرَاءَةِ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبُ شَهَادَةٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } فِي سُورَتَيْ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمَعَارِجِ وَهَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُسْتَثْنِينَ مِنْ الْهَلَعِ الْمَذْمُومِ بِقَوْلِهِ : { إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } { إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا } { وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } { إلَّا الْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } { لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } { وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ } { وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } { إنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ }

{ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْتَثْنَ مِنْ الْمَذْمُومِ إلَّا مَنْ اتَّصَفَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا إلَّا مَا هُوَ وَاجِبٌ وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ فِي أَوَّلِهَا : { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } { الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } فَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْوَارِثِينَ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ الْحَصْرُ ؛ فَإِنَّ إدْخَالَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ يُشْعِرُ بِالْحَصْرِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَارِثِي الْجَنَّةِ كَانَ مُعَرَّضًا لِلْعُقُوبَةِ ؛ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَإِذَا كَانَتْ رِعَايَةُ الْعَهْدِ وَاجِبَةً فَرِعَايَتُهُ : هِيَ الْوَفَاءُ بِهِ . وَلَمَّا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالْأَمَانَةِ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضِدَّ ذَلِكَ صِفَةَ الْمُنَافِقِ فِي قَوْلِهِ : { إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } وَعَنْهُ { عَلَى كُلِّ خُلُقٍ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ } " وَمَا زَالُوا يُوصُونَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ . وَهَذَا عَامٌّ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ } { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } فَذَمَّهُمْ عَلَى نَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ وَقَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِصِلَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إمَّا بِالشَّرْعِ وَإِمَّا بِالشَّرْطِ الَّذِي عَقَدَهُ الْمَرْءُ بِاخْتِيَارِهِ . وَقَالَ أَيْضًا : { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ

مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } { وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ } { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } وَقَالَ : { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } وَقَالَ { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وَقَالَ

تَعَالَى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ . حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ . وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَفِي رِوَايَةٍ : { لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرَةً مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بريدة بْنِ الحصيب قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ . وَفِيمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ : اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ ، اُغْزُوا وَلَا تَغْلُوا وَلَا تَغْدِرُوا ، وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا ، وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ - } الْحَدِيثَ " .

فَنَهَاهُمْ عَنْ الْغَدْرِ كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ الْغُلُولِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ لَمَّا سَأَلَهُ هِرَقْلُ عَنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هَلْ يَغْدِرُ ؟ فَقَالَ : لَا يَغْدِرُ وَنَحْنُ مَعَهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا . قَالَ : وَلَمْ يُمَكِّنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا هَذِهِ الْكَلِمَةَ . وَقَالَ هِرَقْلُ فِي جَوَابِهِ : سَأَلْتُك : هَلْ يَغْدِرُ ؟ فَذَكَرْت أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ " فَجَعَلَ هَذَا صِفَةً لَازِمَةً لِلْمُرْسَلِينَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ : مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الشُّرُوطِ بِالْوَفَاءِ وَأَنَّ شُرُوطَ النِّكَاحِ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ مِنْ غَيْرِهَا . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ . وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ } " فَذَمَّ الْغَادِرَ . وَكُلُّ مَنْ شَرَطَ شَرْطًا ثُمَّ نَقَضَهُ فَقَدْ غَدَرَ . فَقَدْ جَاءَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَاثِيقِ

وَالْعُقُودِ وَبِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَرِعَايَةِ ذَلِكَ وَالنَّهْيِ عَنْ الْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعُهُودِ وَالْخِيَانَةِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ . وَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِيهَا الْحَظْرَ وَالْفَسَادَ إلَّا مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ : لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا مُطْلَقًا وَيَذُمَّ مَنْ نَقَضَهَا وَغَدَرَ مُطْلَقًا كَمَا أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرَ إلَّا مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ أَوْ أَوْجَبَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْمَرَ بِقَتْلِ النُّفُوسِ وَيُحْمَلَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُبَاحِ ؛ بِخِلَافِ مَا كَانَ جِنْسُهُ وَاجِبًا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ مُطْلَقًا . وَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ . فَيَنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَعَنْ الصَّدَقَةِ بِمَا يَضُرُّ النَّفْسَ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الصِّدْقُ فِي الْحَدِيثِ مَأْمُورٌ بِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْرُمُ الصِّدْقُ أَحْيَانًا لِعَارِضِ وَيَجِبُ السُّكُوتُ أَوْ التَّعْرِيضُ . وَإِذَا كَانَ جِنْسُ الْوَفَاءِ وَرِعَايَةُ الْعَهْدِ مَأْمُورًا بِهِ : عُلِمَ أَنَّ الْأَصْلَ صِحَّةُ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ ؛ إذْ لَا مَعْنَى لِلتَّصْحِيحِ إلَّا مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَحَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُ . وَمَقْصُودُ الْعَقْدِ : هُوَ الْوَفَاءُ بِهِ . فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ أَمَرَ بِمَقْصُودِ الْعُهُودِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الصِّحَّةُ وَالْإِبَاحَةُ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِي مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ } . وَكَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةٍ : هُوَ ثِقَةٌ . وَضَعَّفَهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ المزني عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الصُّلْحُ جَائِزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا } " قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَى ابْنُ مَاجَه مِنْهُ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ ؛ لَكِنَّ كَثِيرَ بْنَ عَمْرٍو ضَعَّفَهُ الْجَمَاعَةُ . وَضَرَبَ أَحْمَد عَلَى حَدِيثِهِ فِي الْمُسْنَدِ ؛ فَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ . فَلَعَلَّ تَصْحِيحَ التِّرْمِذِيِّ لَهُ لِرِوَايَتِهِ مِنْ وُجُوهٍ . وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ البيلماني عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّاسُ عَلَى شُرُوطِهِمْ مَا وَافَقَتْ الْحَقَّ } وَهَذِهِ الْأَسَانِيدُ - وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهَا ضَعِيفًا - فَاجْتِمَاعُهَا مِنْ طُرُقٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا . وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْمَذْهَبِ ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِطَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبِيحَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا يُحَرِّمَ مَا

أَبَاحَهُ اللَّهُ . فَإِنَّ شَرْطَهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُبْطِلًا لِحُكْمِ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ ؛ وَإِنَّمَا الْمُشْتَرِطُ لَهُ أَنْ يُوجِبَ الشَّرْطَ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِدُونِهِ . فَمَقْصُودُ الشُّرُوطِ وُجُوبُ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَلَا حَرَامًا وَعَدَمُ الْإِيجَابِ لَيْسَ نَفْيًا لِلْإِيجَابِ حَتَّى يَكُونَ الْمُشْتَرِطُ مُنَاقِضًا لِلشَّرْعِ وَكُلُّ شَرْطٍ صَحِيحٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يُفِيدَ وُجُوبَ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ؛ فَإِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَجِبُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ الْإِقْبَاضِ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَيُبَاحُ أَيْضًا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا وَيَحْرُمُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا . وَكَذَلِكَ كُلٌّ مِنْ المتآجرين والمتناكحين . وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَطَ صِفَةً فِي الْمَبِيعِ أَوْ رَهْنًا أَوْ اشْتَرَطَتْ الْمَرْأَةُ زِيَادَةً عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ وَيَحْرُمُ وَيُبَاحُ بِهَذَا الشَّرْطِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ . وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَوْهَمَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَصْلَ فَسَادُ الشُّرُوطِ قَالَ : لِأَنَّهَا إمَّا أَنْ تُبِيحَ حَرَامًا أَوْ تُحَرِّمَ حَلَالًا أَوْ تُوجِبَ سَاقِطًا أَوْ تُسْقِطَ وَاجِبًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ الشَّارِعِ . وَقَدْ وَرَدَتْ شُبْهَةٌ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ حَتَّى تَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَنَاقِضٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ كُلُّ مَا كَانَ حَرَامًا بِدُونِ الشَّرْطِ : فَالشَّرْطُ لَا يُبِيحُهُ كَالرِّبَا وَكَالْوَطْءِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَكَثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْوَطْءَ إلَّا بِمِلْكِ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ فَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُعِيرَ أَمَتَهُ لِآخَرَ لِلْوَطْءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ إعَارَتِهَا لِلْخِدْمَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ

فَقَدْ " { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ } " وَجَعَلَ اللَّهُ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ يَثْبُتُ لِلْمُعْتِقِ كَمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ لِلْوَالِدِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا } وَأَبْطَلَ اللَّهُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَبَنِّي الرَّجُلِ ابْنَ غَيْرِهِ أَوْ انْتِسَابِ الْمُعْتِقِ إلَى غَيْرِ مَوْلَاهُ . فَهَذَا أَمْرٌ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَلَا يُبِيحُ الشَّرْطُ مِنْهُ مَا كَانَ حَرَامًا . وَأَمَّا مَا كَانَ مُبَاحًا بِدُونِ الشَّرْطِ : فَالشَّرْطُ يُوجِبُهُ كَالزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ وَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ وَالرَّهْنِ وَتَأْخِيرِ الِاسْتِيفَاءِ . فَإِنَّ الرَّجُلَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْمَرْأَةَ وَلَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِالرَّهْنِ وَبِالْإِنْظَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِذَا شَرَطَهُ صَارَ وَاجِبًا وَإِذَا وَجَبَ فَقَدْ حَرُمَتْ الْمُطَالَبَةُ الَّتِي كَانَتْ حَلَالًا بِدُونِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ لَمْ تَكُنْ حَلَالًا مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُبِحْ مُطَالَبَةَ الْمَدِينِ مُطْلَقًا فَمَا كَانَ حَلَالًا وَحَرَامًا مُطْلَقًا فَالشَّرْطُ لَا يُغَيِّرُهُ . وَأَمَّا مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ فِي حَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَلَمْ يُبِحْهُ مُطْلَقًا فَإِذَا حَوَّلَهُ الشَّرْطُ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ لَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ قَدْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي حَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ مُطْلَقًا : لَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ قَدْ أَبَاحَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَإِنْ كَانَ بِدُونِ الشَّرْطِ يَسْتَصْحِبُ حُكْمَ الْإِبَاحَةِ

وَالتَّحْرِيمِ ؛ لَكِنْ فَرْقٌ بَيْنَ ثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ بِالْخِطَابِ وَبَيْنَ ثُبُوتِهِ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ . فَالْعَقْدُ وَالشَّرْطُ يَرْفَعُ مُوجِبَ الِاسْتِصْحَابِ لَكِنْ لَا يَرْفَعُ مَا أَوْجَبَهُ كَلَامُ الشَّارِعِ . وَآثَارُ الصَّحَابَةِ تُوَافِقُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ . وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَمِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ . وَالْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ التَّحْرِيمِ فَيَسْتَصْحِبُ عَدَمَ التَّحْرِيمِ فِيهَا حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ . كَمَا أَنَّ الْأَعْيَانَ : الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ التَّحْرِيمِ . وقَوْله تَعَالَى { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } عَامٌّ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ ؛ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَرَامًا لَمْ تَكُنْ فَاسِدَةً لِأَنَّ الْفَسَادَ إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ التَّحْرِيمِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ فَاسِدَةً كَانَتْ صَحِيحَةً . وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ جِنْسِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ إلَّا مَا ثَبَتَ حِلُّهُ بِعَيْنِهِ وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَعْنَى حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَنَّ انْتِفَاءَ دَلِيلِ التَّحْرِيمِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ . فَثَبَتَ بِالِاسْتِصْحَابِ الْعَقْلِيِّ وَانْتِفَاءُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَدَمُ التَّحْرِيمِ فَيَكُونُ فِعْلُهَا إمَّا حَلَالًا وَإِمَّا عَفْوًا كَالْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تُحَرَّمُ .

وَغَالِبُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ عَدَمُ التَّحْرِيمِ مِنْ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ وَالِاسْتِصْحَابِ الْعَقْلِيِّ وَانْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ أَيْضًا بِهِ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطُ فِيهَا سَوَاءٌ سَمَّى ذَلِكَ حَلَالًا أَوْ عَفْوًا عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَمِّ الْكَافِرِ عَلَى التَّحْرِيمِ بِغَيْرِ شَرْعٍ : مِنْهُ مَا سَبَبُهُ تَحْرِيمُ الْأَعْيَانِ وَمِنْهُ مَا سَبَبُهُ تَحْرِيمُ الْأَفْعَالِ . كَمَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ عَلَى الْمُحْرِمِ لُبْسَ ثِيَابِهِ وَالطَّوَافَ فِيهَا إذَا لَمْ يَكُنْ أحمسيا وَيَأْمُرُونَهُ بِالتَّعَرِّي إلَّا أَنْ يُعِيرَهُ أحمسي ثَوْبَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِ الدُّخُولَ تَحْتَ سَقْفٍ كَمَا كَانَ الْأَنْصَارُ يُحَرِّمُونَ إتْيَانَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي فَرْجِهَا إذَا كَانَتْ مُجْبِيَةً وَيُحَرِّمُونَ الطَّوَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ قَدْ يَنْقُضُونَ الْعُهُودَ الَّتِي عَقَدُوهَا بِلَا شَرْعٍ . فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَغَيْرِهَا بِالْوَفَاءِ بِهَا إلَّا مَا اشْتَمَلَ عَلَى مُحَرَّمٍ . فَعُلِمَ أَنَّ الْعُهُودَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ حِلُّهَا بِشَرْعٍ خَاصٍّ كَالْعُهُودِ الَّتِي عَقَدُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأُمِرُوا بِالْوَفَاءِ بِهَا وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَلَا يُحَرَّمُ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ . لِأَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ فَإِذَا حَرَّمْنَا الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ الْعَادِيَّةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ

شَرْعِيٍّ كُنَّا مُحَرِّمِينَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ ؛ بِخِلَافِ الْعُقُودِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ شَرْعَ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ أَنْ يُشْرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ . فَلَا يُشْرَعُ عِبَادَةٌ إلَّا بِشَرْعِ اللَّهِ وَلَا يُحَرَّمُ عَادَةٌ إلَّا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ وَالْعُقُودُ فِي الْمُعَامَلَاتِ هِيَ مِنْ الْعَادَاتِ يَفْعَلُهَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ . وَإِنْ كَانَ فِيهَا قُرْبَةٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . فَلَيْسَتْ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُفْتَقَرُ فِيهَا إلَى شَرْعٍ . كَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ . فَإِنْ قِيلَ : الْعُقُودُ تُغَيِّرُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ أَوْ الْمَالِ إذَا كَانَ ثَابِتًا عَلَى حَالٍ فَعَقَدَ عَقْدًا أَزَالَهُ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ : فَقَدْ غَيَّرَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا ؛ بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تُحَرَّمْ . فَإِنَّهُ لَا تَغَيُّرَ فِي إبَاحَتِهَا . فَيُقَالُ : لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا . وَذَلِكَ أَنَّ الْأَعْيَانَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لِشَخْصٍ أَوْ لَا تَكُونَ . فَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا فَانْتِقَالُهَا بِالْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يُغَيِّرُهَا وَهُوَ مِنْ بَابِ الْعُقُودِ . وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا فَمَلَكَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ وَنَحْوِهِ : هُوَ فِعْلٌ مِنْ الْأَفْعَالِ مُغَيِّرٌ لِحُكْمِهَا بِمَنْزِلَةِ الْعُقُودِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهَا قَبْلَ الذَّكَاةِ مُحَرَّمَةٌ . فَالذَّكَاةُ الْوَارِدَةُ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ الْوَارِدِ عَلَى الْمَالِ . فَكَمَا أَنَّ أَفْعَالَنَا فِي الْأَعْيَانِ مِنْ الْأَخْذِ وَالذَّكَاةِ : الْأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ وَإِنْ غَيَّرَ حُكْمَ الْعَيْنِ . فَكَذَلِكَ أَفْعَالُنَا فِي الْأَمْلَاكِ بِالْعُقُودِ

وَنَحْوِهَا : الْأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ . وَإِنْ غَيَّرَتْ حُكْمَ الْمِلْكِ لَهُ . وَسَبَبُ ذَلِكَ : أَنَّ الْأَحْكَامَ الثَّابِتَةَ بِأَفْعَالِنَا كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالْبَيْعِ وَمِلْكِ الْبُضْعِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ نَحْنُ أَحْدَثْنَا أَسْبَابَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَالشَّارِعُ أَثْبَتَ الْحُكْمَ لِثُبُوتِ سَبَبِهِ مِنَّا لَمْ يُثْبِتْهُ ابْتِدَاءً . كَمَا أَثْبَتَ إيجَابَ الْوَاجِبَاتِ وَتَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ . فَإِذَا كُنَّا نَحْنُ الْمُثْبِتِينَ لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَلَمْ يُحَرِّمْ الشَّارِعُ عَلَيْنَا رَفْعَهُ : لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْنَا رَفْعُهُ فَمَنْ اشْتَرَى عَيْنًا فَالشَّارِعُ أَحَلَّهَا لَهُ وَحَرَّمَهَا عَلَى غَيْرِهِ ؛ لِإِثْبَاتِهِ سَبَبَ ذَلِكَ وَهُوَ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِالْبَيْعِ . وَمَا لَمْ يُحَرِّمْ الشَّارِعُ عَلَيْهِ رَفْعَ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ مَا أَثْبَتَهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَحَبَّ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ الشَّارِعُ عَلَيْهِ . كَمَنْ أَعْطَى رَجُلًا مَالًا : فَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَحْرُمَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ . وَإِنْ كَانَ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْمُعْطِي مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ . وَهَذِهِ نُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي يَتَبَيَّنُ بِهَا مَأْخَذُهَا وَهُوَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْجُزْئِيَّةَ - مِنْ حِلِّ هَذَا الْمَالِ لِزَيْدٍ وَحُرْمَتِهِ عَلَى عَمْرٍو - لَمْ يَشْرَعْهَا الشَّارِعُ شَرْعًا جُزْئِيًّا وَإِنَّمَا شَرَعَهَا شَرْعًا كُلِّيًّا مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَقَوْلُهُ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } وَقَوْلُهُ : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } . وَهَذَا الْحُكْمُ الْكُلِّيُّ ثَابِتٌ سَوَاءٌ وُجِدَ هَذَا الْبَيْعُ الْمُعَيَّنُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ . فَإِذَا وُجِدَ بَيْعٌ مُعَيَّنٌ أَثْبَتَ مِلْكًا مُعَيَّنًا . فَهَذَا الْمُعَيَّنُ سَبَبُهُ

فِعْلُ الْعَبْدِ . فَإِذَا رَفَعَهُ الْعَبْدُ فَإِنَّمَا رَفَعَ مَا أَثْبَتَهُ هُوَ بِفِعْلِهِ لَا مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ إذْ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُكْمِ الْجُزْئِيِّ إنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ سَبَبُهُ فَقَطْ لَا أَنَّ الشَّارِعَ أَثْبَتَهُ ابْتِدَاءً . وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ رَفْعَ الْحُقُوقِ بِالْعُقُودِ والفسوخ مِثْلُ نَسْخِ الْأَحْكَامِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمُطْلَقَ لَا يُزِيلُهُ إلَّا الَّذِي أَثْبَتَهُ وَهُوَ الشَّارِعُ . وَأَمَّا هَذَا الْمُعَيَّنُ فَإِنَّمَا ثَبَتَ لِأَنَّ الْعَبْدَ أَدْخَلَهُ فِي الْمُطْلَقِ فَإِدْخَالُهُ فِي الْمُطْلَقِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ إخْرَاجُهُ . إذْ الشَّارِعُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ فِي الْمُعَيَّنِ بِحُكْمٍ أَبَدًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : هَذَا الثَّوْبُ بِعْهُ أَوْ لَا تَبِعْهُ أَوْ هَبْهُ أَوْ لَا تَهَبْهُ وَإِنَّمَا حَكَمَ عَلَى الْمُطْلَقِ الَّذِي إذَا أَدْخَلَ فِيهِ الْمُعَيَّنَ حَكَمَ عَلَى الْمُعَيَّنِ . فَتَدَبَّرْ هَذَا وَفَرْقٌ بَيْنَ تَغْيِيرِ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ الْخَاصِّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْعَبْدُ بِإِدْخَالِهِ فِي الْمُطْلَقِ وَبَيْنَ تَغْيِيرِ الْحُكْمِ الْعَامِّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ مِنْ الْعَبْدِ . وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعُقُودَ لَا يَحْرُمُ مِنْهَا إلَّا مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ فَإِنَّمَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا لِإِيجَابِ الشَّارِعِ الْوَفَاءَ بِهَا مُطْلَقًا إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْمِلَلُ ؛ بَلْ وَالْعُقَلَاءُ جَمِيعُهُمْ . وَقَدْ أَدْخَلَهَا فِي الْوَاجِبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ فَفِعْلُهَا ابْتِدَاءً لَا يَحْرُمُ إلَّا بِتَحْرِيمِ الشَّارِعِ وَالْوَفَاءُ بِهَا وَجَبَ لِإِيجَابِ الشَّارِعِ إذًا وَلِإِيجَابِ الْعَقْلِ أَيْضًا .

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ رِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ . وَمُوجِبُهَا هُوَ مَا أَوْجَبَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالتَّعَاقُدِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَقَالَ : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } فَعَلَّقَ جَوَازَ الْأَكْلِ بِطِيبِ النَّفْسِ تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ بِشَرْطِهِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ وَهُوَ حُكْمُ مُعَلَّقٌ عَلَى وَصْفٍ مُشْتَقٍّ مُنَاسِبٍ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ سَبَبٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ . وَإِذَا كَانَ طِيبُ النَّفْسِ هُوَ الْمُبِيحَ لِأَكْلِ الصَّدَاقِ فَكَذَلِكَ سَائِرُ التَّبَرُّعَاتِ : قِيَاسًا عَلَيْهِ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } لَمْ يُشْتَرَطْ فِي التِّجَارَةِ إلَّا التَّرَاضِي وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ التَّرَاضِيَ هُوَ الْمُبِيحُ لِلتِّجَارَةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا تَرَاضَى الْمُتَعَاقِدَانِ بِتِجَارَةِ أَوْ طَابَتْ نَفْسُ الْمُتَبَرِّعِ بِتَبَرُّعِ : ثَبَتَ حِلُّهُ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ ؛ إلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالتِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَقْدَ لَهُ حَالَانِ : حَالُ إطْلَاقٍ وَحَالُ تَقْيِيدٍ . فَفَرْقٌ بَيْنَ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَبَيْنَ الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ مِنْ الْعُقُودِ . فَإِذَا قِيلَ : هَذَا شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ : يُنَافِي الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ . فَكَذَلِكَ كُلُّ شَرْطٍ زَائِدٍ . وَهَذَا لَا يَضُرُّهُ وَإِنْ أُرِيدَ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ : احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا إذَا نَافَى مَقْصُودَ الْعَقْدِ .

فَإِنَّ الْعَقْدَ إذَا كَانَ لَهُ مَقْصُودٌ يُرَادُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ وَشَرَطَ فِيهِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ الْمَقْصُودَ ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ بَيْنَ إثْبَاتِ الْمَقْصُودِ وَنَفْيِهِ فَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ . وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ ؛ بَلْ هُوَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ عِنْدَنَا . وَالشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ قَدْ تَبْطُلُ لِكَوْنِهَا قَدْ تُنَافِي مَقْصُودَ الشَّارِعِ مِثْلَ اشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَا مَقْصُودَهُ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ الْمِلْكُ وَالْعِتْقُ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودًا لِلْعَقْدِ . فَإِنَّ اشْتِرَاءَ الْعَبْدِ لِعِتْقِهِ يُقْصَدُ كَثِيرًا . فَثُبُوتُ الْوَلَاءِ لَا يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يُنَافِي كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ . كَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ مُنَافِيًا لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ كَانَ الْعَقْدُ لَغْوًا . وَإِذَا كَانَ مُنَافِيًا لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ كَانَ مُخَالِفًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . فَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَكُنْ لَغْوًا وَلَا اشْتَمَلَ عَلَى مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهِ بَلْ الْوَاجِبُ حِلُّهُ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَقْصُودٌ لِلنَّاسِ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ إذْ لَوْلَا حَاجَتُهُمْ إلَيْهِ لَمَا فَعَلُوهُ ؛ فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ . وَلَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ فَيُبَاحُ ؛ لِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يَرْفَعُ الْحَرَجَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يُقَالَ : لَا تَحِلُّ وَلَا تَصِحُّ إنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى حِلِّهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ خَاصٌّ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ

قِيَاسٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَوْ يُقَالُ : لَا تَحِلُّ وَتَصِحُّ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى حِلِّهَا دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ وَإِنْ كَانَ عَامًّا . أَوْ يُقَالُ : تَصِحُّ وَلَا تَحْرُمُ إلَّا أَنْ يُحَرِّمَهَا الشَّارِعُ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ : بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ دَلَّا عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ والقبوض الَّتِي وَقَعَتْ فِي حَالِ الْكُفْرِ وَأَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ . فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي آيَةِ الرِّبَا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ الرِّبَا فِي الذِّمَمِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ مَا قَبَضُوهُ بِعَقْدِ الرِّبَا ؛ بَلْ مَفْهُومُ الْآيَةِ - الَّذِي اتَّفَقَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ - يُوجِبُ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ ؛ وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْقَطَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ الرِّبَا الَّذِي فِي الذِّمَمِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ الْمَقْبُوضِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا قَسْمٍ قُسِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمَ وَأَيُّمَا قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَهُوَ عَلَى قَسْمِ الْإِسْلَامِ } " وَأَقَرَّ النَّاسَ عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ الَّتِي عَقَدُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ أَحَدًا : هَلْ عَقَدَ بِهِ فِي عِدَّةٍ أَوْ غَيْرِ عِدَّةٍ ؟ بِوَلِيٍّ أَوْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ؟ بِشُهُودٍ أَوْ بِغَيْرِ شُهُودٍ ؟ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِتَجْدِيدِ نِكَاحٍ وَلَا بِفِرَاقِ امْرَأَتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْمُحَرَّمُ مَوْجُودًا حِينَ الْإِسْلَامِ كَمَا { أَمَرَ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ الَّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ أَنْ يُمْسِكَ أَرْبَعًا وَيُفَارِقَ سَائِرَهُنَّ } وَكَمَا { أَمَرَ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيَّ

الَّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ أَنْ يَخْتَارَ إحْدَاهُمَا وَيُفَارِقَ الْأُخْرَى } . وَكَمَا أَمَرَ الصَّحَابَةَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمَجُوسِ " أَنْ يُفَارِقُوا ذَوَاتَ الْمَحَارِمِ " . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ الَّتِي عَقَدَهَا الْكُفَّارُ يُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ لَمْ يَعْقِدُوهَا بِإِذْنِ الشَّارِعِ . وَلَوْ كَانَتْ الْعُقُودُ عِنْدَهُمْ كَالْعِبَادَاتِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِشَرْعِ لَحَكَمُوا بِفَسَادِهَا أَوْ بِفَسَادِ مَا لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ مُسْتَمْسِكِينَ فِيهِ بِشَرْعِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ عَلَى أَنَّهَا إذَا عُقِدَتْ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ زَوَالِهِ : مَضَتْ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِاسْتِئْنَافِهَا ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ فَلَيْسَ مَا عَقَدُوهُ بِغَيْرِ شَرْعٍ بِدُونِ مَا عَقَدُوهُ مَعَ تَحْرِيمِ الشَّرْعِ وَكِلَاهُمَا عِنْدَكُمْ سَوَاءٌ . قُلْنَا : لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ مَا عَقَدُوهُ مَعَ التَّحْرِيمِ إنَّمَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ وَأَمَّا إذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ التَّقَابُضِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ ؛ بِخِلَافِ مَا عَقَدُوهُ بِغَيْرِ شَرْعٍ فَإِنَّهُ لَا يُفْسَخُ ؛ لَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا بَعْدَهُ وَلَمْ أَرَ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ اشْتَرَطُوا فِي النِّكَاحِ الْقَبْضَ بَلْ سَوَّوْا بَيْنَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ عَقْدِ النِّكَاحِ يُوجِبُ أَحْكَامًا بِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْقَبْضُ مِنْ الْمُصَاهَرَةِ وَنَحْوِهَا . كَمَا أَنَّ نَفْسَ الْوَطْءِ يُوجِبُ أَحْكَامًا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ نِكَاحٍ . فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ - وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْآخَرِ - أَقَرَّهُمْ

الشَّارِعُ عَلَى ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِعُقُودِهَا هُوَ التَّقَابُضُ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ التَّقَابُضُ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهَا فَأَبْطَلَهَا الشَّارِعُ ؛ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ . فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَقْصُودَ الْعِبَادِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ لَا يُبْطِلُهُ الشَّارِعُ إلَّا مَعَ التَّحْرِيمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَحِّحُهُ إلَّا بِتَحْلِيلِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا تَعَاقَدُوا بَيْنَهُمْ عُقُودًا وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ لَا تَحْرِيمَهَا وَلَا تَحْلِيلَهَا . فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ جَمِيعَهُمْ - فِيمَا أَعْلَمُهُ - يُصَحِّحُونَهَا إذَا لَمْ يَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَهَا وَإِنْ كَانَ الْعَاقِدُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ يَعْلَمُ تَحْلِيلَهَا لَا بِاجْتِهَادٍ وَلَا بِتَقْلِيدٍ . وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إلَّا الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّارِعَ أَحَلَّهُ . فَلَوْ كَانَ إذْنُ الشَّارِعِ الْخَاصِّ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ : لَمْ يَصِحَّ عَقْدٌ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ إذْنِهِ كَمَا لَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ فَإِنَّهُ آثِمٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَادَفَ الْحَقَّ . وَأَمَّا إنْ قِيلَ : لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى حِلِّهَا سَوَاءٌ كَانَ عَامًّا أَوْ خَاصًّا فَعَنْهُ جَوَابَانِ : " أَحَدُهُمَا " الْمَنْعُ كَمَا تَقَدَّمَ . " وَالثَّانِي " أَنْ نَقُولَ : قَدْ دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ عَلَى حِلِّ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ جُمْلَةً إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ . وَمَا عَارَضُوا بِهِ سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَلَمْ يَبْقَ إلَّا

الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } فَالشَّرْطُ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ تَارَةً وَالْمَفْعُولُ أُخْرَى . وَكَذَلِكَ الْوَعْدُ وَالْخُلْفُ . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : دِرْهَمُ ضَرْبِ الْأَمِيرِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْمَشْرُوطُ ؛ لَا نَفْسُ الْمُتَكَلِّمِ . وَلِهَذَا قَالَ : { وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ } أَيْ : وَإِنْ كَانَ مِائَةَ مَشْرُوطٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَعْدِيدَ التَّكَلُّمِ بِالشَّرْطِ . وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَعْدِيدُ الْمَشْرُوطِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } أَيْ : كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ مِنْهُ . وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا خَالَفَ ذَلِكَ الشَّرْطُ كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ ؛ بِأَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَشْرُوطُ مِمَّا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ فَلَمْ يُخَالِفْ كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ حَتَّى يُقَالَ : " { كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } فَيَكُونُ الْمَعْنَى : مَنْ اشْتَرَطَ أَمْرًا لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ أَوْ فِي كِتَابِهِ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ : فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ مِمَّا يُبَاحُ فِعْلُهُ بِدُونِ الشَّرْطِ حَتَّى يَصِحَّ اشْتِرَاطُهُ وَيَجِبُ بِالشَّرْطِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ الْوَلَاءَ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ أَبَدًا كَانَ هَذَا الْمَشْرُوطُ - وَهُوَ ثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ - شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ .

فَانْظُرْ إلَى الْمَشْرُوطِ إنْ كَانَ فِعْلًا أَوْ حُكْمًا . فَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَبَاحَهُ : جَازَ اشْتِرَاطُهُ وَوَجَبَ . وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبِحْهُ : لَمْ يَجُزْ اشْتِرَاطُهُ : فَإِذَا شَرَطَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِزَوْجَتِهِ . فَهَذَا الْمَشْرُوطُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ يُبِيحُ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِهَا . فَإِذَا شَرَطَ عَدَمَ السَّفَرِ فَقَدْ شَرَطَ مَشْرُوطًا مُبَاحًا فِي كِتَابِ اللَّهِ . فَمَضْمُونُ الْحَدِيثِ : أَنَّ الْمَشْرُوطَ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ أَوْ يُقَالُ : لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ : أَيْ : لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَفْيُهُ كَمَا قَالَ { سَيَكُونُ أَقْوَامٌ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَعْرِفُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ } أَيْ : بِمَا تَعْرِفُونَ خِلَافَهُ . وَإِلَّا فَمَا لَا يُعْرَفُ كَثِيرٌ . ثُمَّ نَقُولُ : لَمْ يُرِدْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ الَّتِي لَمْ يُبِحْهَا الشَّارِعُ تَكُونُ بَاطِلَةً بِمَعْنَى : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِهَا شَيْءٌ لَا إيجَابٌ وَلَا تَحْرِيمٌ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . بَلْ الْعُقُودُ وَالشُّرُوطُ الْمُحَرَّمَةُ قَدْ يَلْزَمُ بِهَا أَحْكَامٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَقْدَ الظِّهَارِ فِي نَفْسِ كِتَابِهِ وَسَمَّاهُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا ثُمَّ إنَّهُ أَوْجَبَ بِهِ عَلَى مَنْ عَادَ : الْكَفَّارَةَ وَمَنْ لَمْ يَعُدْ : جَعَلَ فِي حَقِّهِ مَقْصُودَ التَّحْرِيمِ مِنْ تَرْكِ الْوَطْءِ وَتَرْكِ الْعَقْدِ . وَكَذَا النَّذْرُ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ النَّذْرِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَقَالَ : { إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ } ثُمَّ أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِهِ إذَا كَانَ طَاعَةً فِي

قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . فَالْعَقْدُ الْمُحَرَّمُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِإِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ . نَعَمْ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِإِبَاحَةِ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ عَقْدِ الرِّبَا وَعَنْ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : لَمْ يَسْتَفِدْ الْمَنْهِيُّ بِفِعْلِهِ لَمَّا نَهَى عَنْهُ الِاسْتِبَاحَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَعْصِيَةٌ . وَالْأَصْلُ فِي الْمَعَاصِي : أَنَّهَا لَا تَكُونُ سَبَبًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ . وَالْإِبَاحَةُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلْإِمْلَاءِ وَلِفَتْحِ أَبْوَابِ الدُّنْيَا ؛ لَكِنَّ ذَلِكَ قَدْرٌ لَيْسَ بِشَرْعِ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى . وَالْإِيجَابُ وَالتَّحْرِيمُ قَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً أَيْضًا كَمَا جَاءَتْ شَرِيعَتُنَا الْحَنِيفِيَّةُ . وَالْمُخَالِفُونَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَنَحْوِهِمْ قَدْ يَجْعَلُونَ كُلَّ مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ إذْنٌ خَاصٌّ : فَهُوَ عَقْدٌ حَرَامٌ وَكُلُّ عَقْدٍ حَرَامٍ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَكِلَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ مَمْنُوعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ بِطَرِيقَةِ ثَانِيَةٍ - إنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي لَمْ يُبِحْهَا اللَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُحَرِّمُهَا

بَاطِلَةٌ . - فَنَقُولُ : قَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ عُمُومًا وَأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهَا . وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَوُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً ؛ فَإِنَّهُ إذَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً كَانَتْ مُبَاحَةً . وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ } " إنَّمَا يَشْمَلُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَا بِعُمُومِهِ وَلَا بِخُصُوصِهِ فَإِنَّ مَا دَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى إبَاحَتِهِ بِعُمُومِهِ فَإِنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا : هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَعُمُّ مَا هُوَ فِيهِ بِالْخُصُوصِ وَبِالْعُمُومِ . وَعَلَى هَذَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } وَقَوْلِهِ : { وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } وَقَوْلِهِ : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْكِتَابَ هُوَ الْقُرْآنَ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ : فَلَا يَجِيءُ هَهُنَا . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي ثَبَتَ جَوَازُهُ بِسُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ : صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ . وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِخُصُوصِهِ لَكِنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ . فَيَكُونُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ . لِأَنَّ جَامِعَ الْجَامِعِ جَامِعٌ وَدَلِيلَ الدَّلِيلِ دَلِيلٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ .

يَبْقَى أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ : فَإِذَا كَانَ كِتَابُ اللَّهِ أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِالشُّرُوطِ عُمُومًا فَشَرْطُ الْوَلَاءِ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ . فَيُقَالُ : الْعُمُومُ إنَّمَا يَكُونُ دَالًّا إذَا لَمْ يَنْفِهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ ؛ فَإِنَّ الْخَاصَّ يُفَسِّرُ الْعَامَّ . وَهَذَا الْمَشْرُوطُ قَدْ نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ وَقَوْلُهُ : { مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } . وَدَلَّ الْكِتَابُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } . فَأَوْجَبَ عَلَيْنَا دُعَاءَهُ لِأَبِيهِ الَّذِي وَلَدَهُ دُونَ مَنْ تَبَنَّاهُ وَحَرَّمَ التَّبَنِّي . ثُمَّ أَمَرَ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْأَبِ بِأَنْ يَدَّعِيَ أَخًا فِي الدِّينِ وَمَوْلًى كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ : أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا } " . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ . فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ . } فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الْوَلَاءَ نَظِيرَ النَّسَبِ وَبَيَّنَ سَبَبَ الْوَلَاءِ فِي قَوْلِهِ :

{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } فَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ الْوَلَاءِ هُوَ الْإِنْعَامُ بِالْإِعْتَاقِ كَمَا أَنَّ سَبَبَ النَّسَبِ هُوَ الْإِنْعَامُ بِالْإِيلَادِ . فَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّمَ الِانْتِقَالَ عَنْ الْمُنْعِمِ بِالْإِيلَادِ . فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ الِانْتِقَالُ عَنْ الْمُنْعِمِ بِالْإِعْتَاقِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ فَمَنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْتِقَ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِغَيْرِهِ : فَهُوَ كَمَنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُسْتَنْكِحِ أَنَّهُ إذَا أَوْلَدَ كَانَ النَّسَبُ لِغَيْرِهِ . وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } . وَإِذَا كَانَ كِتَابُ اللَّهِ قَدْ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا الْمَشْرُوطِ بِخُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ : لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُهُودِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَأْمُرُ بِمَا حَرَّمَهُ فَهَذَا هَذَا مَعَ أَنَّ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ إلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَهُوَ إبْطَالُ الشُّرُوطِ الَّتِي تُنَافِي كِتَابَ اللَّهِ . وَالتَّحْذِيرُ : مِنْ اشْتِرَاطِ شَيْءٍ لَمْ يُبِحْهُ اللَّهُ . فَيَكُونُ الْمَشْرُوطُ قَدْ حَرَّمَهُ ؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ قَدْ أَبَاحَ عُمُومًا لَمْ يُحَرِّمْهُ ؛ أَوْ مِنْ اشْتِرَاطِ مَا يُنَافِي كِتَابَ اللَّهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ . }
فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ لِعَدَمِ تَحْرِيمِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ جُمْلَةً وَصِحَّتُهَا أَصْلَانِ : الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ وَالْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ الِاسْتِصْحَابُ وَانْتِفَاءُ الْمُحَرَّمِ . فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي أَنْوَاعِ

الْمَسَائِلِ وَأَعْيَانِهَا إلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ النَّوْعِ أَوْ الْمَسْأَلَةِ : هَلْ وَرَدَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ أَمْ لَا ؟ . أَمَّا إذَا كَانَ الْمُدْرِكُ الِاسْتِصْحَابَ وَنَفْيَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ : فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَعُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ وَيُفْتِيَ بِمُوجِبِ هَذَا الِاسْتِصْحَابِ وَالنَّفْيِ إلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَحَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مُغَيِّرٌ لِهَذَا الِاسْتِصْحَابِ . فَلَا يُوثَقُ بِهِ إلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُدْرَكُ هُوَ النُّصُوصَ الْعَامَّةَ : فَالْعَامُّ الَّذِي كَثُرَتْ تَخْصِيصَاتُهُ الْمُنْتَشِرَةُ أَيْضًا لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ : هَلْ هِيَ مِنْ الْمُسْتَخْرَجِ أَوْ مِنْ الْمُسْتَبْقِي ؟ وَهَذَا أَيْضًا لَا خِلَافَ فِيهِ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعُمُومِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ تَخْصِيصُهُ أَوْ عُلِمَ تَخْصِيصُ صُوَرٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُ : هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ الْمُعَارِضِ لَهُ ؟ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا . وَذَكَرُوا عَنْ أَحْمَد فِيهِ رِوَايَتَيْنِ وَأَكْثَرُ نُصُوصِهِ : عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ زَمَانِهِ وَنَحْوِهِمْ اسْتِعْمَالُ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَمَّا يُفَسِّرُهَا مِنْ السُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ ؛ فَإِنَّ الظَّاهِرَ الَّذِي لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ

انْتِفَاءُ مَا يُعَارِضُهُ لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مُقْتَضَاهُ . فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ انْتِفَاءُ مُعَارِضِهِ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ مُقْتَضَاهُ . وَهَذِهِ الْغَلَبَةُ لَا تَحْصُلُ لِلْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَكْثَرِ العمومات إلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُعَارِضِ سَوَاءٌ جَعَلَ عَدَمَ الْمُعَارِضِ جُزْءًا مِنْ الدَّلِيلِ فَيَكُونُ الدَّلِيلُ هُوَ الظَّاهِرَ الْمُجَرَّدَ عَنْ الْقَرِينَةِ - كَمَا يَخْتَارُهُ مَنْ لَا يَقُولُ بِتَخْصِيصِ الدَّلِيلِ وَلَا الْعِلَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ - أَوْ جَعَلَ الْمُعَارِضَ الْمَانِعَ مِنْ الدَّلِيلِ فَيَكُونُ الدَّلِيلُ هُوَ الظَّاهِرَ لَكِنَّ الْقَرِينَةَ مَانِعَةٌ لِدَلَالَتِهِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْصِيصِ الدَّلِيلِ وَالْعِلَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا يَعُودُ إلَى اعْتِبَارٍ عَقْلِيٍّ أَوْ إطْلَاقٍ لَفْظِيٍّ أَوْ اصْطِلَاحٍ جَدَلِيٍّ لَا يَرْجِعُ إلَى أَمْرٍ عِلْمِيٍّ أَوْ فِقْهِيٍّ . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَدِلَّةُ النَّافِيَةُ لِتَحْرِيمِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ وَالْمُثْبِتَةِ لِحِلِّهَا : مَخْصُوصَةٌ بِجَمِيعِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فَلَا يُنْتَفَعُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي أَنْوَاعِ الْمَسَائِلِ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُجَجِ الْخَاصَّةِ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ فَهِيَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ - الَّتِي هِيَ الْأَدِلَّةُ الْعَامَّةُ - أَشْبَهُ مِنْهَا بِقَوَاعِدِ الْفِقْهِ الَّتِي هِيَ الْأَحْكَامُ الْعَامَّةُ . نَعَمْ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ انْتِفَاءُ الْمُعَارِضِ فِي مَسْأَلَةٍ خِلَافِيَّةٍ أَوْ حَادِثَةٍ انْتَفَعَ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ . فَنَذْكُرُ مِنْ أَنْوَاعِهَا قَوَاعِدَ حُكْمِيَّةً مُطْلَقَةً .

فَمِنْ ذَلِكَ : مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ أَخْرَجَ عَيْنًا مِنْ مِلْكِهِ بِمُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ وَالْخُلْعِ أَوْ تَبَرُّعٍ كَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ - أَنْ يَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنَافِعِهَا فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصْلُحُ فِيهِ الْغَرَرُ - كَالْبَيْعِ - فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { بِعْته - يَعْنِي بَعِيرَهُ - مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَرَطْت حُمْلَانَهُ إلَى أَهْلِي } " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ خِدْمَةَ الْعَبْدِ مَا عَاشَ سَيِّدُهُ أَوْ عَاشَ فُلَانٌ وَيَسْتَثْنِيَ غَلَّةَ الْوَقْفِ مَا عَاشَ الْوَاقِفُ . وَمِنْ ذَلِكَ : أَنَّ الْبَائِعَ إذَا شَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ : صَحَّ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا ؛ لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ وَإِنْ كَانَ عَنْهُمَا قَوْلٌ بِخِلَافِهِ . ثُمَّ هَلْ يَصِيرُ الْعِتْقُ وَاجِبًا عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا يَجِبُ الْعِتْقُ بِالنَّذْرِ بِحَيْثُ يَفْعَلُهُ الْحَاكِمُ إذَا امْتَنَعَ أَمْ يَمْلِكُ الْبَائِعُ الْفَسْخَ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ الْعِتْقِ كَمَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ بِفَوَاتِ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْمَبِيعِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِهِمَا . ثُمَّ الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد يَرَوْنَ هَذَا خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْعِ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ الْعِتْقِ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ الْمِلْكُ الَّذِي يَمْلِكُ صَاحِبُهُ التَّصَرُّفَ مُطْلَقًا .

قَالُوا : وَإِنَّمَا جَوَّزَتْهُ السُّنَّةُ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَهُ إلَى الْعِتْقِ تَشَوُّفٌ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ ؛ وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ فِيهِ السِّرَايَةَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إخْرَاجِ مِلْكِ الشَّرِيكِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَإِذَا كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ وَالنُّفُوذِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ غَيْرِهِ . وَأُصُولُ أَحْمَد وَنُصُوصُهُ تَقْتَضِي جَوَازَ شَرْطِ كُلِّ تَصَرُّفٍ فِيهِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْعٌ مِنْ غَيْرِهِ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ قِيلَ لِأَحْمَدَ : الرَّجُلُ يَبِيعُ الْجَارِيَةَ عَلَى أَنْ يُعْتِقَهَا ؟ فَأَجَازَهُ . فَقِيلَ لَهُ : فَإِنَّ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ - يَقُولُونَ : لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ . قَالَ : لِمَ لَا يَجُوزُ ؟ قَدْ اشْتَرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرَ جَابِرٍ وَاشْتَرَطَ ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَاشْتَرَتْ عَائِشَةُ بَرِيرَةَ عَلَى أَنْ تُعْتِقَهَا فَلِمَ لَا يَجُوزُ هَذَا ؟ قَالَ : وَإِنَّمَا هَذَا شَرْطٌ وَاحِدٌ . وَالنَّهْيُ إنَّمَا هُوَ عَنْ شَرْطَيْنِ . قِيلَ لَهُ : فَإِنْ شَرَطَ شَرْطَيْنِ أَيَجُوزُ ؟ قَالَ : لَا يَجُوزُ . فَقَدْ نَازَعَ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ بِاشْتِرَاطِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَهْرَ الْبَعِيرِ لِجَابِرِ وَبِحَدِيثِ بَرِيرَةَ وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَهَى عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ مَعَ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِيهِ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ . وَهُوَ نَقْصٌ لِمُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَاشْتِرَاطُ الْعِتْقِ فِيهِ تَصَرُّفٌ مَقْصُودٌ مُسْتَلْزِمٌ لِنَقْصِ مُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ فِي التَّصَرُّفِ أَوْ فِي الْمَمْلُوكِ

وَاسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيثِ الشَّرْطَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ هَذَا الْجِنْسِ كُلِّهِ وَلَوْ كَانَ الْعِتْقُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَمَا قَاسَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا يَشْمَلُهُ وَغَيْرَهُ . وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَسَّانَ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَمَّنْ اشْتَرَى مَمْلُوكًا وَاشْتَرَطَ : هُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي ؟ قَالَ : هَذَا مُدَبَّرٌ فَجَوَّزَ اشْتِرَاطَ التَّدْبِيرِ بِالْعِتْقِ . وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي شَرْطِ التَّدْبِيرِ خِلَافٌ . صَحَّحَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ . وَكَذَلِكَ جَوَّزَ اشْتِرَاطَ التَّسَرِّي : فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : سَأَلْت أَحْمَد عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً بِشَرْطِ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا تَكُونُ نَفِيسَةً يُحِبُّ أَهْلُهَا أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا وَلَا تَكُونُ لِلْخِدْمَةِ ؟ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ . فَلَمَّا كَانَ التَّسَرِّي لِبَائِعِ الْجَارِيَةِ فِيهِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ جَوَّزَهُ . وَكَذَلِكَ جَوَّزَ أَنْ يَشْتَرِطَ بَائِعُ الْجَارِيَةِ وَنَحْوِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَبِيعُهَا لِغَيْرِ الْبَائِعِ وَأَنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُهَا إذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي بَيْعَهَا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَمَا رَوَوْهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَامْرَأَتِهِ زَيْنَبَ . وَجِمَاعُ ذَلِكَ : أَنَّ الْمَبِيعَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ بِأَجْزَائِهِ وَمَنَافِعِهِ يَمْلِكَانِ اشْتِرَاطَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ }

فَجَوَّزَ لِلْمُشْتَرِي اشْتِرَاطَ زِيَادَةٍ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَيَمْلِكَانِ اشْتِرَاطَ النَّقْصِ مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { عَنْ الثُّنْيَا إلَّا أَنْ تُعْلَمَ } " فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهَا إذَا عُلِمَتْ . وَكَمَا اسْتَثْنَى جَابِرٌ ظَهْرَ بَعِيرِهِ إلَى الْمَدِينَةِ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا أَعْلَمُهُ عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ . مِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ الدَّارَ إلَّا رُبُعَهَا أَوْ ثُلُثَهَا وَاسْتِثْنَاءُ الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ إذَا أَمْكَنَ فَصْلُهُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ . مِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ ثَمَرَ الْبُسْتَانِ إلَّا نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا أَوْ الثِّيَابَ أَوْ الْعَبِيدَ أَوْ الْمَاشِيَةَ الَّتِي قَدْ رَأَيَاهَا إلَّا شَيْئًا مِنْهَا قَدْ عَيَّنَّاهُ . وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ كَسُكْنَى الدَّارِ شَهْرًا أَوْ اسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ شَهْرًا أَوْ رُكُوبِ الدَّابَّةِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً أَوْ إلَى بَلَدٍ بِعَيْنِهِ مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ : عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَنْفَعُ كَمَا إذَا اشْتَرَى أَمَةً مُزَوَّجَةً ، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ بُضْعِهَا الَّتِي يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ كَمَا اشْتَرَتْ عَائِشَةُ بَرِيرَةَ وَكَانَتْ مُزَوَّجَةً . لَكِنْ هِيَ اشْتَرَتْهَا بِشَرْطِ الْعِتْقِ فَلَمْ تَمْلِكْ التَّصَرُّفَ فِيهَا إلَّا بِالْعِتْقِ وَالْعِتْقُ لَا يُنَافِي نِكَاحَهَا . فَلِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ مِمَّنْ رَوَى حَدِيثَ بَرِيرَةَ - يَرَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ تَأْوِيلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } قَالُوا :

فَإِذَا ابْتَاعَهَا أَوْ اتَّهَبَهَا أَوْ وَرِثَهَا فَقَدْ مَلَكَتْهَا يَمِينُهُ . فَتُبَاحُ لَهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِزَوَالِ مِلْكِ الزَّوْجِ . وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ : بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ فَلَمْ يَرْضَ أَحْمَد هَذِهِ الْحُجَّةَ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَاهُ وَخَالَفَهُ . وَذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَمْلِكْ بَرِيرَةَ مِلْكًا مُطْلَقًا . ثُمَّ الْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ إذَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهَا - بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَكَانَ مَالِكُهَا مَعْصُومَ الْمِلْكِ - لَمْ يَزَلْ عَنْهَا مِلْكُ الزَّوْجِ وَمَلَكَهَا الْمُشْتَرِي وَنَحْوُهُ : إلَّا مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ . وَمِنْ حُجَّتِهِمْ : أَنَّ الْبَائِعَ نَفْسَهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُزِيلَ مِلْكَ الزَّوْجِ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فَالْمُشْتَرِي الَّذِي هُوَ دُونَ الْبَائِعِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْهُ وَلَا يَكُونُ الْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي أَتَمَّ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالزَّوْجُ مَعْصُومٌ لَا يَجُوزُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّهِ ؛ بِخِلَافِ الْمَسْبِيَّةِ فَإِنَّ فِيهَا خِلَافًا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ ؛ لِكَوْنِ أَهْلِ الْحَرْبِ تُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ . وَكَذَلِكَ مَا مَلَكُوهُ مِنْ الْأَبْضَاعِ . وَكَذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا بَاعَ شَجَرًا قَدْ بَدَا ثَمَرُهُ - كَالنَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ - فَثَمَرُهُ لِلْبَائِعِ مُسْتَحَقُّ الْإِبْقَاءِ إلَى كَمَالِ صَلَاحِهِ فَيَكُونُ الْبَائِعُ قَدْ اسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الشَّجَرِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ .

وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ - كَالدَّارِ وَالْعَبْدِ - عَامَّتُهُمْ يُجَوِّزُهُ وَيَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي دُونَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي لِلْمُسْتَأْجِرِ . وَكَذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ يُجَوِّزُونَ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْعَقْدِ كَمَا فِي صُوَرِ الْوِفَاقِ . كَاسْتِثْنَاءِ بَعْضِ أَجْزَائِهِ مُعَيَّنًا وَمُشَاعًا وَكَذَلِكَ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ مُعَيَّنًا إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِفَصْلِهِ كَبَيْعِ الشَّاةِ وَاسْتِثْنَاءِ بَعْضِهَا : سَوَاقِطِهَا مِنْ الرَّأْسِ وَالْجِلْدِ وَالْأَكَارِعِ . وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي نَوْعًا مِنْ الِانْتِفَاعِ فِي الْإِجَارَاتِ الْمُقَدَّرَةِ بِالزَّمَانِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزَّرْعِ أَوْ حَانُوتًا لِلتِّجَارَةِ فِيهِ أَوْ صِنَاعَةً أَوْ أَجِيرًا لِخِيَاطَةٍ أَوْ بِنَاءٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ لَوْ زَادَ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ ؛ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ : فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ خِلَافٍ أَعْلَمُهُ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي مِلْكَ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ حَيْثُ شَاءَ وَمَتَى شَاءَ فَيَنْقُلُهَا إلَى حَيْثُ شَاءَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُحَرَّمِ أَوْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَإِنَّ الْعُرْفَ لَا يَقْتَضِيهِ وَيَقْتَضِي مِلْكًا لِلْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَمَلَكَهَا لِلِاسْتِمْتَاعِ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا ثَبَتَ لَهَا الْفَسْخُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ الْمَشَاهِيرِ وَلَوْ آلَى مِنْهَا ثَبَتَ لَهَا فِرَاقُهُ إذَا لَمْ يَفِئْ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْوَطْءَ وَقَسَّمَ الِابْتِدَاءَ ؛ بَلْ يَكْتَفِي بِالْبَاعِثِ الطَّبِيعِيِّ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ

وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَد ؛ فَإِنَّ الصَّحِيحَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَالِاعْتِبَارُ . وَقِيلَ : يَتَقَدَّرُ الْوَطْءُ الْوَاجِبُ بِمَرَّةٍ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ اعْتِبَارًا بِالْإِيلَاءِ . وَيَجِبُ أَنْ يَطَأَهَا بِالْمَعْرُوفِ . كَمَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا بِالْمَعْرُوفِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَد وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ : أَنَّ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَالنَّفَقَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالْمَبِيتِ لِلْمَرْأَةِ وكالاستمتاع لِلزَّوْجِ لَيْسَ بِمُقَدَّرِ ؛ بَلْ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَالسُّنَّةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ { : خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } وَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِيهِ فَرَضَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ . كَمَا فَرَضَتْ الصَّحَابَةُ مِقْدَارَ الْوَطْءِ لِلزَّوْجِ بِمَرَّاتٍ مَعْدُودَةٍ وَمَنْ قَدَّرَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد الْوَطْءَ الْمُسْتَحَقَّ فَهُوَ كَتَقْدِيرِ الشَّافِعِيِّ النَّفَقَةَ ؛ إذْ كِلَاهُمَا تَحْتَاجُهُ الْمَرْأَةُ وَيُوجِبُهُ الْعَقْدُ . وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ ضَعِيفٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ بَعِيدٌ عَنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ . وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا قَدَّرَهُ طَرْدًا لِلْقَاعِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُ مِنْ نَفْيِهِ لِلْجَهَالَةِ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ قِيَاسًا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ فَجَعَلَ النَّفَقَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ مُقَدَّرَةً : طَرْدًا لِذَلِكَ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ . وَكَذَلِكَ يُوجِبُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ : سَلَامَةَ الزَّوْجِ مِنْ الْجُبِّ وَالْعُنَّةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ . وَكَذَلِكَ يُوجِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : سَلَامَتَهَا مِنْ مَوَانِعِ الْوَطْءِ كَالرَّتَقِ وَسَلَامَتَهَا مِنْ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ . وَكَذَلِكَ سَلَامَتُهُمَا مِنْ الْعُيُوبِ الَّتِي تَمْنَعُ كَمَالِهِ كَخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِنْهُ أَوْ مِنْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ دُونَ الْجَمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمُوجِبُهُ : كَفَاءَةُ الرَّجُلِ أَيْضًا دُونَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ . ثُمَّ لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْآخَرِ صِفَةً مَقْصُودَةً كَالْمَالِ وَالْجِمَالِ وَالْبَكَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : صَحَّ ذَلِكَ وَمَلَكَ الْمُشْتَرِطُ الْفَسْخَ عِنْدَ فَوَاتِهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَأَصَحُّ وَجْهَيْ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى : لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ إلَّا فِي شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ وَالدِّينِ . وَفِي شَرْطِ النَّسَبِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَجْهَانِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِطُ هُوَ الْمَرْأَةَ فِي الرَّجُلِ أَوْ الرَّجُلَ فِي الْمَرْأَةِ . بَلْ اشْتِرَاطُ الْمَرْأَةِ فِي الرَّجُلِ أَوْكَدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد بِخِلَافِ ذَلِكَ : لَا أَصْلَ لَهُ . وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ نَقْصَ الصِّفَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ الزَّوْجُ أَنَّهُ مَجْبُوبٌ أَوْ عِنِّينٌ أَوْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا رَتْقَاءُ أَوْ مَجْنُونَةٌ

صَحَّ هَذَا الشَّرْطُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ الشَّرْطِ النَّاقِصِ عَنْ مُوجِبِ الْعَقْدِ وَاخْتَلَفُوا فِي شَرْطِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَمَا ذَكَرْته لَك . فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلرَّجُلِ خِيَارُ عَيْبٍ وَلَا شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ . وَأَمَّا الْمَهْرُ : فَإِنَّهُ لَوْ زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ نَقَصَ عَنْهُ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ . وَكَذَلِكَ يُجَوِّزُ أَكْثَرُ السَّلَفِ - أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ - وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَمَالِكٌ - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - أَنْ يَنْقُصَ مِلْكُ الزَّوْجِ فَتَشْتَرِطُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْقُلَهَا مِنْ بَلَدِهَا أَوْ مِنْ دَارِهَا وَأَنْ يَزِيدَهَا عَلَى مَا تَمْلِكُهُ بِالْمُطْلَقِ فَيُؤْخَذُ عَلَيْهِ نَفْسُهُ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَلَا يَتَسَرَّى وَعِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : لَا يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ ؛ لَكِنَّهُ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَثَرٌ فِي تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ . وَالْقِيَاسُ الْمُسْتَقِيمُ فِي هَذَا الْبَابِ الَّذِي عَلَيْهِ أُصُولُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : أَنَّ اشْتِرَاطَ الزِّيَادَةِ عَلَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَاشْتِرَاطَ النَّقْصِ : جَائِزٌ ؛ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الشَّرْعُ . فَإِذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا وَالنَّقْصِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْت فَالزِّيَادَةُ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَالنَّقْصُ مِنْهُ كَذَلِكَ . فَإِذَا شَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ أَوْ يَقِفَ الْعَيْنَ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ غَيْرَهُ أَوْ أَنْ يَقْضِيَ بِالْعَيْنِ دَيْنًا عَلَيْهِ

لِمُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ أَنْ يَصِلَ بِهِ رَحِمَهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ : فَهُوَ اشْتِرَاطُ تَصَرُّفٍ مَقْصُودٍ . وَمِثْلُهُ التَّبَرُّعُ الْمَفْرُوضُ وَالتَّطَوُّعُ . وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْعِتْقِ وَغَيْرِهِ بِمَا فِي الْعِتْقِ مِنْ الْفَضْلِ الَّذِي يَتَشَوَّفُهُ الشَّارِعُ : فَضَعِيفٌ . فَإِنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِ التَّبَرُّعَاتِ أَفْضَلُ مِنْهُ . فَإِنَّ صِلَةَ ذِي الرَّحِمِ الْمُحْتَاجِ أَفْضَلُ مِنْ الْعِتْقِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد ؛ فَإِنَّ { مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَتْ جَارِيَةً لَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ تركتيها لِأَخْوَالِك لَكَانَ خَيْرًا لَك } وَلِهَذَا لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ أَقَارِبُ لَا يَرِثُونَ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ أَوْلَى مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ . وَمَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا . وَإِنَّمَا أَعْلَمُ الِاخْتِلَافَ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ . فَإِنَّ فِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : تَجِبُ . كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ وَالثَّانِيَةُ : لَا تَجِبُ كَقَوْلِ الْفُقَهَاءِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَلَوْ وَصَّى لِغَيْرِهِمْ دُونَهُمْ : فَهَلْ تُرَدُّ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ عَلَى أَقَارِبِهِ دُونَ الْمُوصَى لَهُ أَوْ يُعْطِي ثُلُثَهَا لِلْمُوصَى لَهُ وَثُلُثَاهَا لِأَقَارِبِهِ كَمَا تُقَسَّمُ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ : هُوَ الْقَوْلُ بِنُفُوذِ الْوَصِيَّةِ . فَإِذَا كَانَ بَعْضُ التَّبَرُّعَاتِ أَفْضَلَ مِنْ الْعِتْقِ لَمْ يَصِحَّ تَعْلِيلُهُ بِاخْتِصَاصِهِ بِمَزِيدِ الْفَضِيلَةِ . وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ الْمَشْرُوطُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَفْضَلَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِلَّهِ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ دَيْنٍ لِآدَمِيِّ فَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ

وَفَاءَ دَيْنِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَبِيعِ أَوْ اشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ وَفَاءَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا أَوْكَدُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعِتْقِ . وَأَمَّا السِّرَايَةُ فَإِنَّمَا كَانَتْ لِتَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ . وَقَدْ شَرَعَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَهُوَ حَقُّ الشُّفْعَةِ . فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِتَكْمِيلِ الْمِلْكِ لِلشَّفِيعِ لِمَا فِي الشَّرِكَةِ مِنْ الضَّرَرِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : شُرِعَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمُشَارَكَاتِ فَيُمَكِّنُ الشَّرِيكَ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ . فَإِنْ أَمْكَنَ قِسْمَةَ الْعَيْنِ وَإِلَّا قَسَّمْنَا ثَمَنَهَا إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا ذَلِكَ . فَتَكْمِيلُ الْعِتْقِ نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ إذْ الشَّرِكَةُ تَزُولُ بِالْقِسْمَةِ تَارَةً وَبِالتَّكْمِيلِ أُخْرَى . وَأَصْلُ ذَلِكَ : أَنَّ الْمِلْكَ هُوَ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الرَّقَبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقُدْرَةِ الْحِسِّيَّةِ فَيُمْكِنُ أَنْ تَثْبُتَ الْقُدْرَةُ عَلَى تَصَرُّفٍ دُونَ تَصَرُّفٍ شَرْعًا كَمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ حِسًّا ؛ وَلِهَذَا جَاءَ الْمِلْكُ فِي الشَّرْعِ أَنْوَاعًا - كَمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ تَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا - فَالْمِلْكُ التَّامُّ يُمْلَكُ فِيهِ التَّصَرُّفُ فِي الرَّقَبَةِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَيُورَثُ عَنْهُ . وَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَنَافِعِهِ بِالْإِعَارَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالِانْتِفَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ قَدْ يَمْلِكُ الْأَمَةَ الْمَجُوسِيَّةَ أَوْ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِ بِالرِّضَاعِ فَلَا يَمْلِكُ مِنْهُنَّ الِاسْتِمْتَاعَ وَيَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ بِالتَّزْوِيجِ بِأَنْ يُزَوِّجَ الْمَجُوسِيَّةَ الْمَجُوسِيَّ مَثَلًا وَقَدْ يَمْلِكُ أُمَّ الْوَلَدِ وَلَا يَمْلِكُ بَيْعَهَا وَلَا هِبَتَهَا وَلَا تُورَثُ عَنْهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ . وَيَمْلِكُ وَطْأَهَا وَاسْتِخْدَامَهَا بِاتِّفَاقِهِمْ . وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّزْوِيجِ وَالْإِجَارَةِ

عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَيَمْلِكُ الْمَرْهُونَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَئُونَتَهُ وَلَا يَمْلِكُ فِيهِ مِنْ التَّصَرُّفِ مَا يُزِيلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ لَا بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ . وَفِي الْعِتْقِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ . وَالْعَبْدُ الْمَنْذُورُ عِتْقُهُ وَالْهَدْيُ وَالْمَالُ الَّذِي قَدْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِعَيْنِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَحَقَّ صَرْفَهُ إلَى الْقِرْبَةِ : قَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ : هَلْ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَارِجٌ عَنْ قِيَاسِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ . فَمَنْ قَالَ : لَمْ يَزَلْ مِلْكُهُ عَنْهُ - كَمَا قَدْ يَقُولُهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا - فَهُوَ مِلْكٌ لَا يَمْلِكُ صَرْفَهُ إلَّا إلَى الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ النُّسُكِ أَوْ الصَّدَقَةِ . وَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى بِشَرْطِ الْعِتْقِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الصِّلَةِ أَوْ الْفِدْيَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِشَرْطِ الْإِهْدَاءِ إلَى الْحَرَمِ . وَمَنْ قَالَ : زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ : هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ عِتْقَهُ وَإِهْدَاءَهُ وَالصَّدَقَةَ بِهِ . وَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ قِيَاسِ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي الْوَقْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ : هَلْ يَصِيرُ الْمَوْقُوفُ مِلْكًا لِلَّهِ أَوْ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ : فَالْمِلْكُ الْمَوْصُوفُ نَوْعٌ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ . وَكَذَلِكَ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ حَيْثُ يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ

كَالْأَبِ إذَا وَهَبَ لِابْنِهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : نَوْعٌ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ حَيْثُ سُلِّطَ غَيْرُ الْمَالِكِ عَلَى انْتِزَاعِهِ مِنْهُ وَفَسْخِ عَقْدِهِ . وَنَظِيرُهُ : سَائِرُ الْأَمْلَاكِ فِي عَقْدٍ يَجُوزُ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ كَالْمَبِيعِ بِشَرْطٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : انْتَقَلَ إلَى الْمُشْتَرِي كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا وَكَالْمَبِيعِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ ، وَكَالْمَبِيعِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ أَوْ فَوَاتُ صِفَةٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ . فَهَهُنَا فِي الْمُعَاوَضَةِ وَالتَّبَرُّعِ يَمْلِكُ الْعَاقِدُ انْتِزَاعَهُ وَمِلْكُ الْأَبِ لَا يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ وَجِنْسُ الْمِلْكِ يَجْمَعُهُمَا . وَكَذَلِكَ مِلْكُ الِابْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا فِيهِ مَعْنَى الْكِتَابِ وَصَرِيحَ السُّنَّةِ . وَطَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ يَقُولُونَ : هُوَ مُبَاحٌ لِلْأَبِ مَمْلُوكٌ لِلِابْنِ ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ لِلْأَبِ كَالْمُبَاحَاتِ الَّتِي تُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ وَمِلْكُ الِابْنِ ثَابِتٌ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفًا مُطْلَقًا . فَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا وَفِيهِ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ مَا وَصَفْته وَمَا لَمْ أَصِفْهُ : لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ ذَلِكَ مُفَوَّضًا إلَى الْإِنْسَانِ يُثْبِتُ مِنْهُ مَا رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً لَهُ وَيَمْتَنِعُ مِنْ إثْبَاتِ مَا لَا مَصْلَحَةَ لَهُ فِيهِ . وَالشَّارِعُ لَا يَحْظُرُ عَلَى الْإِنْسَانِ إلَّا مَا فِيهِ فَسَادٌ رَاجِعٌ أَوْ مَحْضٌ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَسَادٌ أَوْ كَانَ فَسَادُهُ مَغْمُورًا بِالْمَصْلَحَةِ لَمْ يَحْظُرْهُ أَبَدًا .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
الْعُقُودُ الَّتِي فِيهَا نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ - وَهِيَ غَالِبُ مُعَامَلَاتِ بَنِي آدَمَ الَّتِي لَا يَقُومُونَ إلَّا بِهَا - سَوَاءٌ كَانَتْ مَالًا بِمَالِ . كَالْبَيْعِ أَوْ كَانَتْ مَنْفَعَةً بِمَالٍ كَالْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْمَسْأَلَةِ : الْإِمَارَةُ وَالتَّجْنِيدُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْوِلَايَاتِ . أَوْ كَانَتْ مَنْفَعَةً بِمَنْفَعَةٍ كَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : فَإِنَّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ . كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى . وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حَرَامًا مِنْ الْجِهَتَيْنِ كَبَيْعِ الْخَمْرِ بِالْخِنْزِيرِ وَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الزِّنَا بِالْخَمْرِ وَعَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ كَمَا كَانَ بَعْضُ الْحُكَّامِ يَقُولُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الرُّؤَسَاءِ : يتقارضون شَهَادَةَ الزُّورِ وَشَبَهَهُ بِمُبَادَلَةِ الْقُرُوضِ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ حَرَامًا مِنْ الْأُخْرَى . وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَعْلَمُوهُ ؛ فَإِنَّ الدِّينَ وَالدُّنْيَا لَا تَقُومُ إلَّا بِهِ .

وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَحْدَهُ فَلَا يَقُومُ بِهِ إلَّا دِينٌ ضَعِيفٌ . وَأَمَّا الثَّالِثُ فَتَقُومُ بِهِ الدُّنْيَا الْفَاجِرَةُ وَالدِّينُ الْمُبْتَدَعُ . وَأَمَّا الدِّينُ الْمَشْرُوعُ وَالدُّنْيَا السَّالِمَةُ فَلَا تَقُومُ إلَّا بِالثَّالِثِ : مِثْلَ إعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِجَلْبِ مَنْفَعَتِهِمْ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّتِهِمْ وَرِشْوَةِ الْوُلَاةِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ أَوْ تَخْلِيصِ الْحَقِّ ؛ لَا لِمَنْعِ الْحَقِّ وَإِعْطَاءِ مَنْ يُتَّقَى شَرُّ لِسَانِهِ أَوْ يَدِهِ مِنْ شَاعِرٍ أَوْ ظَالِمٍ أَوْ قَاطِعِ طَرِيقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَإِعْطَاءِ مَنْ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ أَعْوَانٍ وَأَنْصَارٍ وَوُلَاةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَأَصْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ : أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ حَقًّا فِي الصَّدَقَاتِ الَّتِي حَصَرَ مَصَارِفَهَا فِي كِتَابِهِ وَتَوَلَّى قَسْمَهَا بِنَفْسِهِ وَكَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ الْمَصَالِحِ - وَمِنْ الْفَيْءِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ - الَّتِي هِيَ أَوْسَعُ مَصْرِفًا مِنْ الزَّكَاةِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ أُعْطِيَ مِنْ الْمَصَالِحِ وَلَا يَنْعَكِسُ ؛ لِأَنَّ آخِذَ الصَّدَقَةِ إمَّا أَنْ يَأْخُذَ لِحَاجَتِهِ أَوْ لِمَنْفَعَتِهِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ يُؤْخَذُ مِنْهُمَا لِلْمَصَالِحِ ؛ بَلْ لَيْسَتْ الْمَصَالِحُ إلَّا ذَلِكَ ، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَنْفَعَةِ الَّذِينَ هُمْ أَحَقُّ بِمَالِ الْمَصَالِحِ وَالْفَيْءِ . وَلِهَذَا أَعْطَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْفَيْءِ وَالْمَغَانِمِ كَمَا

فَعَلَهُ بِالذُّهَيْبَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ . وَكَمَا فَعَلَ فِي مَغَانِمِ حنين حَيْثُ قَسَّمَهَا بَيْنَ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ نَجْدٍ وَقَالَ : { إنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا وَأَدَعُ مَنْ هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُمْ . أُعْطِي رِجَالًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ وَأَكِلُ رِجَالًا إلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ } وَقَالَ : { إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ قَالَ : يَأْبُونَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ } . وَقَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَتُخْرِجُ لَهُ الْمَسْأَلَةُ مَا لَمْ نَكُنْ نُرِيدُ أَنْ نُعْطِيَهُ إيَّاهُ فَيُبَارِكُ لَهُ فِيهِ } " أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ . وَهَذَا الْقِسْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ : أَمَّا الْمَالُ بِالْأَعْيَانِ فَمِنْهُ افْتِكَاكُ الْأَسْرَى وَالْأَحْرَارِ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ وَالْغَاصِبِينَ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْحُرَّ قَدْ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْكُفَّارُ وَقَدْ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْفُجَّارُ ؛ إمَّا بِاسْتِعْبَادِهِ ظُلْمًا أَوْ بِعِتْقِهِ وَجُحُودِ عِتْقِهِ . وَإِمَّا بِاسْتِعْمَالِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَا إذْنِ الشَّارِعِ : مِثْلَ مَنْ يُسَخِّرُ الصُّنَّاعَ كَالْخَيَّاطِينَ وَالْفَلَّاحِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَإِمَّا بِحَبْسِهِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا فَكُلُّ آدَمِيٍّ قَهَرَ آدَمِيًّا بِغَيْرِ حَقٍّ وَمَنَعَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ . فَالْقَاهِرُ يُشْبِهُ الْآسِرَ وَالْمَقْهُورُ يُشْبِهُ الْأَسِيرَ وَكَذَلِكَ الْقَهْرُ بِحَقِّ أَسِيرٍ . قَالَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْغَرِيمِ الَّذِي لَزِمَ غَرِيمَهُ : مَا فَعَلَ أَسِيرُك ؟ } .

وَإِذَا كَانَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْأَمْوَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِحَقٍّ فَهُوَ غَصْبٌ وَإِنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْخِيَانَةُ وَالسَّرِقَةُ فَكَذَلِكَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى النُّفُوسِ بِغَيْرِ حَقِّ أَسْرٍ . وَإِنْ دَخَلَ فِيهِ اسْتِيلَاءُ الظَّلَمَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ . وَكَذَلِكَ افْتِكَاكُ الْأَنْفُسِ الرَّقِيقَةِ مِنْ يَدِ مَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهَا وَيَظْلِمُهَا فَإِنَّ الرِّقَّ الْمَشْرُوعَ لَهُ حَدٌّ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ عُدْوَانٌ . وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ افْتِكَاكُ الزَّوْجَةِ مِنْ يَدِ الزَّوْجِ الظَّالِمِ ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ رِقٌّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّسَاءِ : { إنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ } . وَقَالَ عُمَرُ : النِّكَاحُ رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يَرِقُّ كَرِيمَتَهُ . وَكَذَلِكَ افْتِكَاكُ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ مِنْ يَدِ الظَّالِمِ كَاَلَّذِي يَمْنَعُهُ الْوَاجِبُ وَيَفْعَلُ مَعَهُ الْمُحَرَّمَ . وَمِنْهُ افْتِكَاكُ الْأَمْوَالِ مِنْ أَيْدِي الْغَاصِبِينَ لَهَا ظُلْمًا أَوْ تَأْوِيلًا كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ وَغَيْرِهِمَا إذَا دُفِعَ لِلظَّالِمِ شَيْءٌ حَتَّى يَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ . وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّفْعُ فِي كِلَا الْقِسْمَيْنِ دَفْعًا لِلْقَاهِرِ حَتَّى لَا يَقْهَرَ وَلَا يَسْتَوْلِيَ كَمَا يُهَادَنُ أَهْلُ الْحَرْبِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِمَالٍ يُدْفَعُ إلَيْهِمْ أَوْ اسْتِنْقَاذًا مِنْ الْقَاهِرِ بَعْدَ الْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ .

وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
قَاعِدَةٌ فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
فَصْلٌ : بَذْلُ الْمَنَافِعِ وَالْأَمْوَالِ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ التَّعَوُّضِ أَوْ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ : وَوَاجِبُهَا يَنْقَسِمُ إلَى فَرْضٍ عَلَى الْعَيْنِ وَفَرْضٍ عَلَى الْكِفَايَةِ . فَأَمَّا مَا يَجِبُ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ - مَالًا وَمَنْفَعَةً - فَلَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا . وَجِمَاعُ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ بِلَا عِوَضٍ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ مَذْكُورَةٌ فِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ : { أَرْبَعٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدَ بَرِئَ مِنْ الْبُخْلِ : مَنْ آتَى الزَّكَاةَ وَقَرَى الضَّيْفَ وَوَصَلَ الرَّحِمَ وَأَعْطَى فِي النَّائِبَةِ } . وَلِهَذَا كَانَ حَدُّ الْبَخِيلِ : مَنْ تَرَكَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ . فَالزَّكَاةُ هِيَ الْوَاجِبُ الرَّاتِبُ الَّتِي تَجِبُ بِسَبَبِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ

الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ فَوُجُوبُهَا عَارِضٌ فَقَرْيُ الضَّيْفِ وَاجِبٌ عِنْدَنَا وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَاجِبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَحَمْلِ الْعَاقِلَةِ وَعِتْقِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ . وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِيمَنْ تَجِبُ صِلَتُهُ وَمَا مِقْدَارُ الصِّلَةِ الْوَاجِبَةِ . وَكَذَلِكَ الْإِعْطَاءُ فِي النَّائِبَةِ مِثْلَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِشْبَاعِ الْجَائِعِ وَكِسْوَةِ الْعَارِي . وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَدَقَ السَّائِلُ لَمَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُ . وَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ الْمَنْفَعِيَّةُ بِلَا عِوَضٍ : فَمِثْلُ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَعَامَّةُ الْوَاجِبِ فِي مَنَافِعِ الْبَدَنِ وَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمَا { عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ } " . وَتَدْخُلُ أَيْضًا فِي مُطْلَقِ الزَّكَاةِ وَالنَّفَقَةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } كَمَا نُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ : الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ } " وَيُرْوَى مَا تَصَدَّقَ عَبْدٌ بِصَدَقَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مَوْعِظَةٍ يَعِظُ بِهَا أَصْحَابًا لَهُ ؛ فَيَتَفَرَّقُونَ وَقَدْ نَفَعَهُمْ اللَّهُ بِهَا وَدَلَائِلُ هَذَا كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْمَالِيَّةُ وَهُوَ كَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَنْفَعَةِ مَالِ الْغَيْرِ كَحَبْلٍ وَدَلْوٍ يَسْتَقِي بِهِ مَاءً يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَثَوْبٍ يَسْتَدْفِئُ بِهِ مِنْ الْبَرْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَجِبُ بَذْلُهُ ؛ لَكِنْ هَلْ يَجِبُ بَذْلُهُ مَجَّانًا أَوْ بِطَرِيقِ التَّعَوُّضِ

كَالْأَعْيَانِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ . وَحُجَّةُ التَّبَرُّعِ مُتَعَدِّدَةٌ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كُنَّا نَعُدُّهُ عَارِيَةً الْقِدْرَ وَالدَّلْوَ وَالْفَأْسَ . وَكَذَلِكَ إيجَابُ بَذْلِ مَنْفَعَةِ الْحَائِطِ لِلْجَارِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ عَلَى أَصْلِنَا الْمُتَّبِعِ ؛ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ . فَفِي الْجُمْلَةِ مَا يَجِبُ إيتَاؤُهُ مِنْ الْمَالِ أَوْ مَنْفَعَتُهُ أَوْ مَنْفَعَةُ الْبَدَنِ بِلَا عِوَضٍ لَهُ تَفْصِيلٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَلَوْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ مُقَصِّرِينَ فِي عِلْمِهِ بِحَيْثُ قَدْ يَنْفُونَ وُجُوبَ مَا صَرَّحَتْ الشَّرِيعَةُ بِوُجُوبِهِ . وَيَعْتَقِدُ الغالط مِنْهُمْ { أَنْ لَا حَقَّ فِي الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ } " أَنَّ هَذَا عَامٌّ ؛ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ { : إنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ } . وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ : أَرَادَ الْحَقَّ الْمَالِيَّ الَّذِي يَجِبُ بِسَبَبِ الْمَالِ فَيَكُونُ رَاتِبًا وَإِلَّا فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ إيتَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي مَوَاضِعَ : مِثْلَ الْجِهَادِ بِالْمَالِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْحَجِّ بِالْمَالِ وَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْأَقَارِبِ وَالْمَمَالِيكِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ . وَمِثْلَ مَا يَجِبُ مِنْ الْكَفَّارَاتِ مِنْ عِتْقٍ وَصَدَقَةٍ

وَهَدْيِ كَفَّارَاتِ الْحَجِّ وَكَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهَا . وَمَا يَجِبُ مِنْ وَفَاءِ النُّذُورِ الْمَالِيَّةِ إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ ؛ بَلْ الْمَالُ مُسْتَوْعَبٌ بِالْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ الرَّاتِبَةِ أَوْ الْعَارِضَةِ بِسَبَبٍ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا مَا يَجِبُ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ : مِثْلَ الْمُبَايَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ . وَمِثْلَ الْمُشَارَكَاتِ : كَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ هَذَا كَثِيرًا مَا يَغْلَطُ فِيهِ الغالطون لِمَا اسْتَقَرَّ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ الظُّلْمَ حَرَامٌ وَأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالتَّرَاضِي إلَّا فِي مَوَاضِعَ اسْتَثْنَاهَا الشَّارِعُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهَا بِحَقِّ : صَارَ يَغْلَطُ فَرِيقَانِ : قَوْمٌ يَجْعَلُونَ الْإِكْرَاهَ عَلَى بَعْضِهَا إكْرَاهًا بِحَقِّ وَهُوَ إكْرَاهٌ بِبَاطِلِ . وَقَوْمٌ يَجْعَلُونَهُ إكْرَاهًا بِبَاطِلِ وَهُوَ بِحَقِّ . وَفِيهَا مَا يَكُونُ إكْرَاهًا بِتَأْوِيلِ حَقٍّ فَيَدْخُلُ فِي قِسْمِ الْمُجْتَهِدَاتِ ؛ إمَّا الِاجْتِهَادَاتُ الْمَحْضَةُ أَوْ الْمَشُوبَةُ بِهَوًى وَكَذَلِكَ الْمُعَاوَضَاتُ . وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ إذَا كَانَ إيتَاءُ الْمَالِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ بِلَا عِوَضٍ وَاجِبًا بِالشَّرِيعَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا ؛ لِأَسْبَابٍ اقْتَضَتْ الْإِيجَابَ الشَّرْعِيَّ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ أَخْذُ حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ

فَلَأَنْ يَكُونَ إيتَاءُ الْمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَاجِبًا فِي مَوَاضِعَ أَوْلَى وَأَحْرَى ؛ بَلْ إيجَابُ الْمُعَاوَضَاتِ أَكْثَرُ مِنْ إيجَابِ التَّبَرُّعَاتِ وَأَكْبَرُ . فَهُوَ أَوْسَعُ مِنْهُ قَدْرًا وَصِفَةً . وَلَعَلَّ مَنْ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ إذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهَا بِلَا ضَرَرٍ يَزِيدُ عَلَى حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَتْ فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ وَمَعَ حَاجَةِ رَبِّ الْمَالِ المكافية لِحَاجَةِ الْمُعْتَاضِ فَرَبُّ الْمَالِ أَوْلَى ؛ فَإِنَّ الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ وَالرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ . " وَابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ " . وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ حَسَنَةٌ مُنَاسِبَةٌ وَلَهَا شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ . وَأَنَا أَذْكُرُ مِنْهَا بِتَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى . وَجِمَاعُ الْمُعَاوَضَاتِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالِ : كَالْبَيْعِ . وَبَذْلُ مَالٍ بِنَفْعٍ كَالْجَعَالَةِ . وَبَذْلُ مَنْفَعَةٍ بِمَالٍ كَالْإِجَارَةِ وَبَذْلُ نَفْعٍ بِنَفْعٍ كَالْمُشَارَكَاتِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ هَذَا بَذَلَ نَفْعَ بَدَنِهِ وَهَذَا بَذَلَ نَفْعَ مَالِهِ . وَكَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَبِالْجُمْلَةِ فَوُجُوبُ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ ضَرُورَةِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ ؛ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَنْفَرِدُ بِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِبَنِي جِنْسِهِ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَى بَنِي آدَمَ أَنْ يَبْذُلَ هَذَا لِهَذَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَهَذَا لِهَذَا مَا

يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَفَسَدَ النَّاسُ وَفَسَدَ أَمْرُ دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ فَلَا تَتِمُّ مَصَالِحُهُمْ إلَّا بِالْمُعَاوَضَةِ وَصَلَاحُهَا بِالْعَدْلِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ لَهُ الْكُتُبَ وَبَعَثَ بِهِ الرُّسُلَ . فَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } . وَلَا رَيْبَ أَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى بَذْلِ الْمُعَاوَضَةِ لِحَاجَتِهَا إلَيْهَا فَالشَّارِعُ إذَا بَذَلَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِلَا إكْرَاهٍ لَمْ يَشْرَعْ الْإِكْرَاهُ وَرَدُّ الْأَمْرِ إلَى التَّرَاضِي فِي أَصْلِ الْمُعَاوَضَةِ وَفِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَبْذُلْ فَقَدْ يُوجِبُ الْمُعَاوَضَةَ تَارَةً وَقَدْ يُوجِبُ عِوَضًا مُقَدَّرًا تَارَةً . وَقَدْ يُوجِبُهُمَا جَمِيعًا وَقَدْ يُوجِبُ التَّعْوِيضَ لِمُعَيَّنِ أُخْرَى . مِثَالُ الْأَوَّلِ : مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَطُولِبَ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَرَضٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ لِيُوفِيَهُ الدَّيْنَ فَإِنَّ وَفَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْبَيْعِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَى بَيْعِ الْعَرَضِ فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ عَلَيْهِ فَقَبِلَ النِّيَابَةَ فَقَامَ ذُو السُّلْطَانِ فِيهِمْ مَقَامَهُ كَمَا يَقُومُ فِي تَوْفِيَةِ الدَّيْنِ وَتَزْوِيجِ الْأَيِّمِ مِنْ كُفْئِهَا إذَا طَلَبَتْهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَمَا يَقْبِضُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ بِرِضَا الْغَرِيمِ كَثَمَنِ مَبِيعٍ وَبَدَلِ قَرْضٍ أَوْ بِغَيْرِ رِضَاهُ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ .

وَمِنْ ذَلِكَ ضَمَانُ الْمَغْصُوبِ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ وَمِنْ الْمَغْصُوبِ الْأَمَانَاتُ إذَا خَانَ فِيهَا وَمِنْ الْأَمَانَاتِ مَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَالْعُمَّالِ عَلَى الْفَيْءِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ الْمَوْقُوفَةِ وَمَالِ الْيَتِيمِ وَمَالِ الْمُوَكَّلِ كَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ وَنَحْوِهِمَا . وَمَالِ الْفَيْءِ إذَا خَانُوا فِيهَا . وَتَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِ الْمَالِ وَكَذَلِكَ بَيْعُ مَالِهِ لِأَدَاءِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ لِزَوْجَتِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ نَفْسِهِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ مَالٍ إذَا لَمْ يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ إلَّا بِالْبَيْعِ صَارَ الْبَيْعُ وَاجِبًا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَيُفْعَلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ . وَمِثَالُ الثَّانِي : الْمُضْطَرُّ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ إذَا بَذَلَهُ لَهُ بِمَا يَزِيدُ عَلَى الْقِيمَةِ ؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ وَأَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُمَا أُجْبِرَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ بَذَلَ أَحَدُهُمَا أُجْبِرَ الْآخَرُ . وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي " كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ " حَتَّى إنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ بَذْلِ الطَّعَامِ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَاتِلِ عَنْ نَفْسِهِ . وَلِهَذَا نُضَمِّنُهُمْ دِيَتَهُ لَوْ مَاتَ كَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا اسْتَسْقَى قَوْمًا فَلَمْ يَسْقُوهُ حَتَّى مَاتَ فَضَمَّنَهُمْ عُمَرُ دِيَتَهُ وَأَخَذَ بِهِ أَحْمَد فَإِنَّهُ إذَا وَجَبَ إطْعَامُ الْمُضْطَرِّ بِلَا عِوَضٍ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْهُ فَلَأَنْ يَجِبَ بِالْمُعَاوَضَةِ أَوْلَى وَأَحْرَى وَهَكَذَا إذَا اُضْطُرَّ النَّاسُ ضَرُورَةً عَامَّةً وَعِنْدَ أَقْوَامٍ فُضُولُ أَطْعِمَةٍ

مَخْزُونَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَيْعُهَا وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَبِيعَهَا عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ يَقْبَلُ النِّيَابَةَ فَيَجِبُ إلْزَامُهُمْ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ شَرْعًا وَهُوَ حَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُمْ فَيَجِبُ اسْتِنْقَاذُهُ مِنْهُمْ . وَهَكَذَا كُلُّ مَا اُضْطُرَّ النَّاسُ إلَيْهِ : مِنْ لِبَاسٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَغْنِي عَنْهُ صَاحِبُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ بَذْلُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ . وَقَدْ كَتَبْت قَبْلَ هَذَا حَدِيثَ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي صَاحِبِ النَّخْلَةِ لَمَّا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ وَذَكَرْت مَا فِيهِ مِنْ وُجُوبِ الْمُعَاوَضَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمُبْتَاعُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرِ الْبَائِعِ . وَلِهَذَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ الِاحْتِكَارِ الَّذِي يَضُرُّ النَّاسَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ } " رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَالْمُحْتَكِرُ مُشْتَرٍ مُتَّجِرٌ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ يَشْتَرِي مَا يَضُرُّ النَّاسَ . وَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ حَرُمَ عَلَيْهِ وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْأَصْلِ جَائِزَانِ غَيْرُ وَاجِبَيْنِ ؛ لَكِنْ لِحَاجَةِ النَّاسِ يَجِبُ الْبَيْعُ تَارَةً وَيَحْرُمُ الشِّرَاءُ أُخْرَى . هَذَا فِي نَفْسِ الْعَقْدِ . وَأَمَّا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَنَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إضْرَارِ الْمُشْتَرِي إذَا تَوَكَّلَ الْحَاضِرُ لِلْقَادِمِ بِسِلْعَتِهِ فِي الْبَيْعِ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى

وُجُوبِ بَيْعِهَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ } . وَهَكَذَا بَيْعُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الْآخَرِ فِي مَا لَا يَنْقَسِمُ ؛ فَإِنَّ الشَّرِيكَ مُحْتَاجٌ إلَى الْبَيْعِ ؛ لِيَأْخُذَ نَصِيبَهُ وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْآخَرِ فِيهِ . وَكَذَلِكَ تَقْوِيمُهُ مِلْكَ الشَّرِيكِ إذَا أَعْتَقَ الشَّرِيكُ نَصِيبَهُ فَإِنَّ الْعِتْقَ يَحْتَاجُ إلَى تَكْمِيلٍ لِمَا فِي تَبْعِيضِ الْعِتْقِ مِنْ الضَّرَرِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى الْبَائِعِ فِي بَيْعِ نَصِيبِهِ أَوْ فِيهِ ضَرَرٌ دُونَ الْحَاجَةِ إلَى تَكْمِيلِ الْعِتْقِ . وَهَكَذَا فِيمَنْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغَيْرِ بِمَالِهِ كَمَنْ لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَرَقٌ مُحْتَرَمٌ مِنْ غِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ بِئْرٍ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَخَذَ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ وَالْبَائِعِ إذَا رَدَّ عَلَيْهِ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ وَكَانَ الثَّمَنُ عَقَارًا وَكَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَإِنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَبْتَاعَ ذَلِكَ بِقِيمَتِهِ إذَا لَمْ يُقْلِعْهُ صَاحِبُهُ أَوْ يُبْقِيهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَكِلَاهُمَا مُعَاوَضَةٌ : إمَّا عَلَى الْعَيْنِ أَوْ عَلَى مَنْفَعَةِ أَرْضِهِ . وَكَذَلِكَ إجْبَارُنَا لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْكَرْيِ مَعَ الْآخَرِ أَوْ الْعِمَارَةِ مَعَهُ هُوَ إجْبَارٌ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ ؛ فَإِنَّ الْعِمَارَةَ تَتَضَمَّنُ ابْتِيَاعَ أَعْيَانٍ وَاسْتِئْجَارَ عُمَّالٍ فَهِيَ إجْبَارٌ عَلَى شِرَاءٍ وَإِجَارَةٍ ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْبَاذِلِ فِي ذَلِكَ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْمُعَاوَضَةُ مَعَهُ . تَارَةً لِأَجْلِ الْقِسْمَةِ . وَتَارَةً لِبَقَاءِ الشَّرِكَةِ . وَعَلَى هَذَا فَإِذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَى

الصِّنَاعَاتِ : كَالْفِلَاحَةِ وَالنِّسَاجَةِ وَالْبِنَايَةِ : فَعَلَى أَهْلِهَا بَذْلُهَا لَهُمْ بِقِيمَتِهَا كَمَا عَلَيْهِمْ بَذْلُ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا بِقِيمَتِهَا ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ بَذْلِ الْأَمْوَالِ وَبَذْلِ الْمَنَافِعِ ؛ بَلْ بَذْلُ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا يَضُرُّ بَذْلُهَا أَوْلَى بِالْوُجُوبِ مُعَاوَضَةً وَيَكُونُ بَذْلُ هَذِهِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ : أَنَّ أُصُولَ الصِّنَاعَاتِ كَالْفِلَاحَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالْبِنَايَةِ : فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّهَا فَرْضٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ؛ وَأَمَّا مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا فَلَا تَجِبُ . وَهَذِهِ حَكَيْنَا بَيْعَهَا ؛ فَإِنَّ مَنْ يُوجِبُهَا إنَّمَا يُوجِبُهَا بِالْمُعَاوَضَةِ ؛ لَا تَبَرُّعًا . فَهُوَ إيجَابُ صِنَاعَةٍ بِعِوَضٍ ؛ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا . وَقَوْلِي عِنْدَ الْحَاجَةِ . فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ يَسْتَغْنُونَ عَنْ الصِّنَاعَةِ بِمَا يَجْلِبُونَهُ أَوْ يُجْلَبُ إلَيْهِمْ مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ . وَالْأَصْلُ أَنَّ إعَانَةَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالسُّكْنَى أَمْرٌ وَاجِبٌ . وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُلْزِمَ بِذَلِكَ وَيُجْبِرَ عَلَيْهِ ؛ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا بَلْ إيجَابُ الشَّارِعِ لِلْجِهَادِ الَّذِي فِيهِ الْمُخَاطَرَةُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ لِأَجْلِ هِدَايَةِ النَّاسِ فِي دِينِهِمْ : أَبْلَغُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ . فَإِذَا كَانَتْ الشَّجَاعَةُ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهَا وَالْكَرَمُ الَّذِي يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ وَاجِبًا فَكَيْفَ بِالْمُعَاوَضَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهَا . وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَفْعَلُونَ هَذَا بِحُكْمِ الْعَادَاتِ وَالطِّبَاعِ وَطَاعَةِ

السُّلْطَانِ غَيْرَ مُسْتَشْعِرِينَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَتِهِمْ فِيهِ . وَلِهَذَا يَعُدُّونَ ذَلِكَ ظُلْمًا وَعَنَاءً وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ احْتَسَبُوا أَجْرَهُ وَزَالَتْ الْكَرَاهَةُ وَلَوْ عَلِمُوا الْوُجُوبَ الشَّرْعِيَّ لَمْ يَعُدُّوهُ ظُلْمًا . وَكَذَلِكَ إذَا احْتَاجُوا إلَى الْقِتَالِ وَالْجِهَادِ بِالنَّفْسِ وَبَذَلُوا أَمْوَالًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ الْجِهَادَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُخَاطَرَةٌ بِالنَّفْسِ وَيُخَافُ فِيهِ الضَّرَرُ ؛ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ إذَا بُذِلَ لِلْإِنْسَانِ الْمَالُ ؛ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الدِّينِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِوُجُوبِهِ وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُجَاهِدَ بِمَالِ نَفْسِهِ فَإِذَا بُذِلَ لَهُ الْمَالُ كَانَ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ . فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ صِنَاعَاتِ الْقِتَالِ : رَمْيًا وَضَرْبًا وَطَعْنًا وَرُكُوبًا وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَأُجْبِرَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا . } وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّهُ يَجِبُ عَيْنًا إذَا أَمَرَ بِهِ الْإِمَامُ وَكَذَلِكَ إذَا احْتَاجَ الْمُجَاهِدُونَ إلَى أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ وَالتِّجَارَاتِ كَصُنَّاعِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالسِّلَاحِ وَمَصَالِحِ الْخَيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَطُلِبَتْ مِنْهُمْ تِلْكَ الصِّنَاعَةُ بِعِوَضِهَا وَجَبَ بَذْلُهَا وَأُجْبِرُوا عَلَيْهَا . وَكَذَلِكَ التُّجَّارُ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْجِهَادِ : عَلَيْهِمْ بَيْعُ ذَلِكَ وَإِذَا

احْتَاجَ الْعَسْكَرُ إلَى خُرُوجِ قَوْمٍ تُجَّارٍ فِيهِ لِبَيْعِ مَا لَا يُمْكِنُ الْعَسْكَرُ حَمْلَهُ مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ وَسِلَاحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَالتِّجَارَةُ كَالصِّنَاعَةِ . وَالْعَسْكَرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْمٍ فِي بَلَدٍ فَكَمَا يَجِبُ عَلَى بَعْضٍ إعَانَةُ بَعْضٍ عَلَى حَاجَاتِهِمْ بِالْمُعَاوَضَةِ الَّتِي لَا ضَرَرَ فِيهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي الْعَسْكَرِ . وَكَمَا لِلْإِمَامِ أَنْ يُوجِبَ الْجِهَادَ عَلَى طَائِفَةٍ وَيَأْمُرَهُمْ بِالسَّفَرِ إلَى مَكَانٍ لِأَجْلِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ وَيَأْمُرَ قَوْمًا بِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَيَأْمُرَ قَوْمًا بِالْوِلَايَاتِ . وَالْإِمَامُ الْعَدْلُ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَغَيْرُ الْعَدْلِ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ طَاعَةٌ كَالْجِهَادِ .
وَقَالَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
أَقْوَالُ الْمُكْرَهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَغْوٌ عِنْدَنَا : مِثْلَ كُفْرِهِ وَطَلَاقِهِ وَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ . فَإِذَا أُكْرِهَ الْبَيِّعَانِ عَلَى الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِذَا أُكْرِهَا عَلَى التَّقَابُضِ فَهَذَا إكْرَاهٌ عَلَى الْأَفْعَالِ لَا عَلَى الْأَقْوَالِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا

قَدْ قَبَضَ وَأَقْبَضَ مُكْرَهًا فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَرُدَّ مَا قَبَضَهُ إلَى الْآخَرِ إذَا أَمْكَنَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِنْ كَانَ الْقَابِضُ مُكْرَهًا . فَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ الْمَقْبُوضُ بِالْإِكْرَاهِ تَحْتَ يَدِ الْقَابِضِ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَتْلَفَهُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِتَفْرِيطِهِ أَوْ بِعُدْوَانِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ يَدَ أَمَانَةٍ وَيَدُ الْأَمَانَةِ إذَا أَتْلَفَتْ شَيْئًا أَوْ تَلِفَ بِتَفْرِيطِهَا أَوْ عُدْوَانِهَا ضَمِنَتْهُ كَيَدِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُودِعِ وَالْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ . وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ : فَهَلْ تَكُونُ يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ ؟ أَوْ يَدَ أَمَانَةٍ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ قَبْضًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ ؟ فَنَقُولُ : تَلَفُهُ تَحْتَ يَدِ الْمُكْرَهِ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِهِ كَرْهًا وَفِيهِ خِلَافٌ . وَهُوَ يُشْبِهُ الْعَارِيَةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ قَبَضَ الْمَالَ لِنَفْعِهِ كَمَا أَنَّ الْمُكْرَهَ قَبَضَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَهَذَا قَبَضَهُ بِإِذْنِ الشَّارِعِ فَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ الْقَابِضُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ وَفَاءً عَنْ دَيْنٍ فَهُنَا يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي مَنْفَعَتِهِ كَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ فَأَخَذَهُ لِيَأْكُلَهُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ جَمَاعَةٍ صُودِرُوا وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ ثُمَّ أُكْرِهُوا وَأُجْبِرُوا عَلَى بَيْعِ أَعْيَانٍ مِنْ عَقَارٍ وَمَوَاشٍ وَبَسَاتِينَ فَبَاعُوهَا وَالْأَعْيَانُ الْمَذْكُورَةُ بَعْضُهَا مِلْكُ أَوْلَادِ الْبَائِعِينَ وَبَعْضُهَا وَقْفٌ وَبَعْضُهَا مِلْكُ الْغَيْرِ وَوَضَعَ الْمُشْتَرِي يَدَهُ عَلَيْهَا وَحَازَهَا وَخَافَ الْبَائِعُونَ عَلَى إتْلَافِ صُورَةِ الْأَعْيَانِ وَلَيْسَ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى انْتِزَاعِهَا مِنْ يَدِهِ فَاشْتَرَوْهَا صُورَةً لِيَعْرِفُوا بَقَاءَهَا وَيُحْرِزُوهَا بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَلَمَّا آنَ الْأَجَلُ طَالَبَهُمْ بِالثَّمَنِ : فَهَلْ يَكُونُ الْبَيْعُ مِنْهُمْ بَاطِلًا بِحُكْمِ الْإِكْرَاهِ ؟ وَبَيْعُ مَالِ الْغَيْرِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ مُشْتَرَاهُمْ مِنْهُ وَإِقْرَارُهُمْ بِالْمِلْكِ مُثْبِتٌ لَهُ بِصِحَّةِ الْمِلْكِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا بَذَلَ الْبَائِعُ - وَالْحَالُ هَذِهِ - لِلْمُشْتَرِي فَمَا أَدَّاهُ مِنْ الثَّمَنِ وَامْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْإِيفَاءِ بِذَلِكَ وَطَلَبَ مَا كُتِبَ عَلَى الْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ ظَالِمٌ عَاصٍ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ لَوْ كَانَتْ بِطِيبِ نَفْسِ الْبَائِعِ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ لَا تُبَاعَ مِنْهُ الْأَعْيَانُ بِتَقْدِيمِ بَيْعِهِ إيَّاهَا إلَى أَجَلٍ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ

الثَّمَنِ كَانَتْ مُعَامَلَةً بَاطِلَةً رِبَوِيَّةً عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَكْثَرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ وَالْبَائِعُ مُكْرَهٌ وَبَيْعُ الْمُكْرَهِ بِغَيْرِ حَقٍّ بَيْعٌ غَيْرُ لَازِمٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَوْ قُدِّرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أُكْرِهَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ وَأَدَّاهُ الثَّمَنَ عَنْهُ فَأَعْطَاهُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ الَّذِي أَدَّاهُ عَنْهُ لَوَجَبَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . فَكَيْفَ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يُكْرَهْ عَلَى الشِّرَاءِ وَالْبَائِعُ قَدْ بَذَلَ لَهُ الثَّمَنَ الَّذِي أَدَّاهُ عَنْهُ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي وَالْحَالَةُ هَذِهِ مُطَالَبَتُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَا مُطَالَبَتُهُ بِرَدِّ الْأَعْيَانِ الَّتِي كَانَتْ مِلْكَهُ . وَهِيَ الْآنَ بِيَدِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مَاتَتْ أُمُّهُ وَوَرِثَ مِنْهَا دَارًا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا فِيهَا شَرِيكٌ وَأَنَّ إنْسَانًا ظَلَمَ وَالِدَهُ وَأَجْبَرَهُ حَتَّى كَاتَبَهُ عَلَى الدَّارِ أَوْ بَاعَهَا . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَمْ تَرْجِعُ الدَّارُ إلَى مَالِكِهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا أُكْرِهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَى بَيْعِ الدَّارِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ وَتُرَدُّ الدَّارُ إلَى مَالِكِهَا وَيُرَدُّ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ حَبْسٍ عَلَى جَمَاعَةٍ وَهُوَ مَثْبُوتٌ بِالْعُدُولِ وَفِي الدَّارِ سَاكِنٌ لَهُ يَدٌ قَوِيَّةٌ عَلَى الْوَرَثَةِ وَأَلْزَمُوهُ إلَى أَنْ بَاعُوهُ غَصْبًا بِالْيَدِ الْقَوِيَّةِ فَإِذَا شَهِدَتْ الشُّهُودُ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ يُنْزَعُ مِنْ الْغَاصِبِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَيْعُ الْمُكْرَهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَصِحُّ وَبَيْعُ الْوَقْفِ الصَّحِيحِ اللَّازِمِ لَا يَصِحُّ وَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا شَهِدَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فَإِذَا أَكْرَهَ السُّلْطَانُ أَوْ اللُّصُوصُ أَوْ غَيْرُهُمْ رَجُلًا عَلَى أَدَاءِ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَكْرَهَ رَجُلًا آخَرَ عَلَى إقْرَاضِهِ أَوْ الِابْتِيَاعِ مِنْهُ وَأَدَّى الثَّمَنَ عَنْهُ أَوْ إلَيْهِ لِيَأْخُذُوهُمْ مِنْ الْمُقْتَرِضِ وَالْبَائِعِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى إقْبَاضِ الْمُكْرَهِ ثُمَّ الْأَخْذُ مِنْهُ أَوْ عَلَى الْأَدَاءِ عَنْهُ فَقَطْ :

فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَحْوُهَا تَقَعُ كَثِيرًا وَفِيهَا وَجْهَانِ : كَمَا لَوْ أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ أَحَدِ الْمُخْتَلِطَيْنِ فِي الْمَاشِيَةِ زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ عَنْهُمَا بِلَا تَأْوِيلٍ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ تَذْهَبُ مِنْ مَالِكِهَا وَلَيْسَ عَلَى الْآخَرِ شَيْءٌ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ أَخَذَهَا عَنْهَا ؛ لِأَنَّ الظَّالِمَ ظَلَمَ هَذَا بِأَخْذِ مَالِهِ وَنَوَاهُ عَنْ الْآخَرِ وَهُوَ لَيْسَ وَلِيًّا لِلْآخَرِ وَلَا وَكِيلًا عَنْهُ حَتَّى تَصِحَّ نِيَّتُهُ وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ الْمُحَرَّمَةِ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْمَأْخُوذِ عَنْهُ . وَلَازِمُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ إذَا أَخَذَ السُّلْطَانُ وَنُوَّابُهُ الْوَظَائِفَ الظلمية عَلَى الْمَالِ أَوْ أَخَذَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مِنْ التُّجَّارِ عَنْ الْمَالِ الَّذِي مَعَهُمْ شَيْئًا مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ إذَا كَانَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ فَإِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ بِنَصِيبِهِ . وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَ الْمُعْطِي وَكِيلًا أَوْ وَلِيًّا كَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَوَصِيِّ الْيَتِيمِ فَيَلْزَمُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَا أَخَذَ مِنْهُ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَمَانِهِ ؛ لَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّفْعُ لِحِفْظِ الْمَالِ بَلْ كَانَ الدَّفْعُ لِأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى الْأَدَاءِ . فَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُ الْمَالِ إلَّا بِمَا دَفَعَهُ عَنْهُ فَهَذَا التَّصَرُّفُ لِحِفْظِ الْمَالِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إعْطَاءِ الْخِفَارَةِ لِحِفْظِهِ وَإِعْطَاءِ النَّوَاطِيرِ لِدَفْعِ اللُّصُوصِ وَالسِّبَاعِ . وَأَيْضًا فَالْوَلِيُّ وَالْوَكِيلُ مَأْذُونٌ لَهُمَا عُرْفًا فِي مِثْلِ هَذَا الدَّفْعِ ؛ فَإِنَّهُ

لَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَى أَنَّهُ يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّي عَنْ الْمَالِ فَيَتَضَرَّرُ وَلَا يُؤَدِّيهِ ؛ بِخِلَافِ مَا يُوجَدُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لَكِنَّ هَذَا الدَّلِيلَ بِعَيْنِهِ وَارِدٌ فِي أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ . فَإِنَّ كِلَاهُمَا وَكِيلُ الْآخَرِ فِي شَرِكَةِ الْعُقُودِ . وَأَيْضًا فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْكُلَفِ النوابية السُّلْطَانِيَّةِ وَبَيْنَ الْمَظَالِمِ الْعَارِضَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ سَيَّرَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ قُمَاشًا لِيُسَلِّمَهُ لِوَلَدِهِ بِالْقَاهِرَةِ فَلَمْ يُسَلِّمْهُ وَبَاعَهُ الْمُسَيَّرُ عَلَى يَدِهِ وَتَصَرَّفَ فِيهِ وَبَاعَهُ عَلَى غَيْرِ بَزَّازٍ بِغَيْرِ النَّقْدِ وَبِغَيْرِ إذَنْ صَاحِبِ الْقُمَاشِ لَهُ فِي ذَلِكَ . فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ تَفْرِيطًا ؟ وَهَلْ إذَا فَرَّطَ تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ ؟ وَهَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ فِي تَلَفِهِ قَوْلَ صَاحِبِ الْقُمَاشِ ؟ أَوْ قَوْلَ الْمُسَيَّرِ عَلَى يَدِهِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
إذَا تَصَرَّفَ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ كَانَ ظَالِمًا وَكَانَ ضَامِنًا لَهُ فَإِنْ فَاتَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَإِنْ قَالَ الْمُودَعُ أَمَرْتنِي بِبَيْعِهِ وَقَالَ الْمُودِعُ لَمْ آمُرْك بِبَيْعِهِ بَلْ بِتَسْلِيمِهِ إلَى وَلَدِي . فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ ؛ لَكِنْ إنْ بَاعَهُ بَيْعًا خَارِجًا عَنْ الْبَيْعِ الْمَعْرُوفِ مِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ إلَى أَجَلٍ أَوْ بِغَيْرِ النَّقْدِ - نَقْدِ الْبَلَدِ - أَوْ يَبِيعَهُ لِمَنْ هُوَ جَاهِلٌ أَوْ مُفْلِسٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ : فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا يَتْلَفُ مِنْ الثَّمَنِ بِكُلِّ حَالٍ .

وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ بِدُونِ قِيمَةِ الْمِثْلِ وَسَلَّمَ الْمَبِيعَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلنَّقْصِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ مَلَكَتْ لِوَلَدِهَا مِلْكًا وَبَاعَهُ ثُمَّ بَعْدَ الْبَيْعِ مَلَكَتْ الثَّانِيَ وَكَتَبَ عَلَى الْأَوَّلِ حُجَّةً أَنَّ مَالَهُ فِي الْمِلْكِ شَيْءٌ بَعْدَ أَنْ بَاعَهُ فَهَلْ يَلْزَمُ الْأَوَّلَ رَدُّ الْمِلْكِ لِلثَّانِي أَوْ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ قَدْ بَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا لَازِمًا فَقَدْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ وَلَمْ يَصِحَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَمْلِيكُهَا وَالْمِلْكُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ لَهَا مِلْكٌ فَسَرَقَ الزَّوْجُ كَتْبَ الْمِلْكِ وَبَاعَهُ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ ؟ .
فَأَجَابَ :
بَيْعُ الْمِلْكِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ : بَيْعٌ

بَاطِلٌ ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَرُدَّ إلَى الْمُشْتَرِي مَا أَعْطَاهُ مِنْ الثَّمَنِ وَيَرُدَّ إلَى الْمَالِكِ مِلْكَهُ .
وَقَالَ :
فَصْلٌ :
الَّذِي يُكْرَهُ مِنْ شِرَاءِ الْأَرْضِ الخراجية إنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَشْتَرِيهَا فَيَرْفَعُ الْخَرَاجَ عَنْهَا وَذَلِكَ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانُوا أَحْيَانًا يَقْطَعُونَ بَعْضَهَا لِبَعْضِ الْمُحَارِبِينَ إقْطَاعَ تَمْلِيكٍ ؛ لَا إقْطَاعَ اسْتِغْلَالٍ كَإِقْطَاعِ الْمَوَاتِ ، فَهَذَا الِانْتِفَاعُ وَالْإِقْطَاعُ يُسْقِطُ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْخُلَفَاءُ أَخَذُوهُ مِنْ الْغُزَاةِ لِتَكُونَ مَنْفَعَتُهُ دَائِمَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا قُطِعَتْ مَنْفَعَتُهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ صَارَ ظُلْمًا لَهُمْ ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بَنَى فِي مِنًى وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّأْبِيدِ . فَأَمَّا إذَا اشْتَرَاهَا وَعَلَيْهِ مِنْ الْخَرَاجِ مَا عَلَى الْبَائِعِ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَلَّاهُ إيَّاهَا بِلَا حَقٍّ وَكَمَا لَوْ وَرِثَهَا ؛ فَإِنَّ الْإِرْثَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ : أَنَّ الْوَارِثَ أَحَقُّ بِهَا بِالْخَرَاجِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ إعْطَاءَهَا لِمَنْ أَعْطَيْته بِالْخَرَاجِ قَدْ قِيلَ :

إنَّهُ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْمُقَسَّطِ الدَّائِمِ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ إجَارَةٌ بِالْأُجْرَةِ الْمُقَسَّطَةِ الْمُؤَبَّدَةِ الْمُدَّةِ كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَكِلَا الْقَائِلِينَ خَرَجَ فِي قَوْلِهِ عَنْ قِيَاسِ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّهَا مُعَامَلَةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا ذَاتُ شَبَهٍ مِنْ الْبَيْعِ وَمِنْ الْإِجَارَةِ تُشْبِهُ فِي خُرُوجِهَا عَنْهُمَا الْمُصَالَحَةَ عَلَى مَنَافِعِ مَكَانِهِ لِلِاسْتِطْرَاقِ أَوْ إلْقَاءِ الزُّبَالَةِ أَوْ وَضْعِ الْجِذْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِعِوَضٍ نَاجِزٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الْعَيْنَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَسْتَأْجِرْهَا وَإِنَّمَا مَلَكَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ مُؤَبَّدَةً . وَكَذَلِكَ وَضْعُ الْخَرَاجِ لَوْ كَانَ إجَارَةً مَحْضَةً وَكَانَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ قَدْ تَرَكُوا الْأَرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَكْرُوهَا ؛ لَكَانَ يَنْبَغِي إكْرَاءُ الْمَسَاكِنِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا لِلْمُسْلِمِينَ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً . وَلَكَانَ قَدْ ظَلَمَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ كِرَاءَ الْأَرْضِ يُسَاوِي أَضْعَافَ الْخَرَاجِ . وَلَكَانَ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ الْآخِذُ إلَّا مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ الشَّجَرِ الْقَائِمَةِ مِنْ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فِيهَا غِرَاسٌ . وَلَكَانَ دَفَعَهَا مُسَاقَاةً وَمُزَارَعَةً - كَمَا فَعَلَ الْمَنْصُورُ وَالْمَهْدِيُّ فِي أَرْضِ السَّوَادِ - أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضِ خَيْبَرَ ؛ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ إلَّا أَنَّ مُلَّاكَ خَيْبَرَ مُعَيَّنُونَ وَمُلَّاكَ أَرْضِ الْعَنْوَةِ الْعُمْرَى مُطْلَقُونَ وَإِلَّا فَيَجُوزُ كَذَلِكَ أَنْ يُؤَاجِرَ وَيَجُوزُ لَهُ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ أَنْ يُعَامَلَ مُسَاقَاةً وَمُزَارَعَةً .

وَأَمَّا بَيْعُهَا : فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَاعَ الْمَسَاكِنَ أَيْضًا . وَلَا بَيْعَ يَكُونُ الثَّمَنُ مُؤَبَّدًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَالْمُسْتَخْرَجُ أَصْلٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَلَا يُقَاسُ بِغَيْرِهِ - فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنَعَتْ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا وَمَنَعَتْ الشَّامُ مُدَّهَا وَدِينَارَهَا وَمَنَعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا } . وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ مَعَ عُمَرَ عَلَى فِعْلِهِ . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْخَرَاجِ فِي قَوْلِهِ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } فَإِنَّ هَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ أَضَافَ الْقُرَى إلَيْهِمْ فَعُلِمَ اخْتِصَاصُهُمْ بِهَا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ أَخَذَهُ ذِمِّيٌّ مِنْ الذِّمِّيِّ الْأَوَّلِ بِالْخَرَاجِ وَعَاوَضَهُ عَلَى ذَلِكَ عِوَضًا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ أَصْلًا فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ قِيلَ : إنَّهُ وَقْفٌ فَهَذَا لَا يُخْرِجُهُ بِهَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا ؛ بَلْ مُسْتَحَقُّ أَهْلِ الْوَقْفِ بَاقٍ كَمَا كَانَ وَبَيْعُ الْوَقْفِ إنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِإِزَالَةِ حَقِّ أَهْلِ الْوَقْفِ . وَهَذَا لَا يَزُولُ ؛ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إجَارَةِ أَرْضِ الْوَقْفِ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ : أكريتك هَذِهِ الْأَرْضَ بِمَا عَلَيَّ مِنْ الْخَرَاجِ وَبِالزِّيَادَةِ الَّتِي تُعَجِّلُهَا إلَيَّ ؛ وَلِهَذَا يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَةِ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ ؛ وَالْوَقْفُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ فَإِذَا جَازَ انْتِقَالُهُ بِالْإِرْثِ عَلَى صِفَةِ مَا كَانَ - وَالْهِبَةُ مِثْلُهُ - فَكَذَلِكَ الْمُعَاوَضَةُ سَوَاءٌ سُمِّيَتْ بَيْعًا أَوْ إجَارَةً . وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَد إصْدَاقَ الْأَرْضِ الخراجية وَمَا جَازَ

أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا وَأُجْرَةً . وَمَا كَانَ ثَمَنًا كَانَ مُثَمَّنًا . فَهَذَا بَابٌ يَنْبَغِي تَأَمُّلُهُ . يَبْقَى إذَا أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ : هَلْ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّغَارِ أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ الْجِهَادِ بِالْحِرَاثَةِ . فَهَذِهِ مَوَاضِعُ أُخَرُ - غَيْرُ كَوْنِهِ وَقْفًا - تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ وَالْأَوْقَاتِ كَمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ الْيَهُودَ عَلَى خَيْبَرَ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ يُعَمِّرُونَهَا } فَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الخراجية إذَا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ كَانَ اسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَيْهَا بِالْخَرَاجِ أَنْفَعَ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَبْقَوْا فُقَرَاءَ مَحَاوِيجَ وَالْكُفَّارُ يَسْتَغِلُّونَ الْأَرْضَ بِالْخَرَاجِ الْيَسِيرِ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا زَمَنَ عُمَرَ قَلِيلًا وَأَهْلُ الذِّمَّةِ كَثِيرًا . وَقَدْ يُعْكَسُ الْأَمْرُ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَهُمْ عَلَى خَيْبَرَ ثُمَّ عَمَّرَهَا الْمُسْلِمُونَ لَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَتَضَرَّرُوا بِبَقَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ فَكَانَ الْمَعْنَى ضَرَرَ الْمُسْلِمِينَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَاكْتِفَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُسْلِمِينَ . فَكَيْفَ إذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَى الْأَرْضِ الخراجية ؛ وَتَضَرَّرُوا بِبَقَائِهَا فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ فَرَأَى مَنْ احْتَاجَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَاوِضَ الذِّمِّيَّ عَنْهَا وَيَقُومَ مَقَامَهُ فِيهَا . فَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى أُجْرَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِاسْتِئْجَارِ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ وَعِمَارَتِهَا وَإِنْ كَانَ ثَمَنًا فَهُوَ أَحَقُّ بِاشْتِرَائِهَا

وَإِنْ كَانَ عِوَضًا ثَالِثًا فَهُوَ بِهِ أَحَقُّ أَيْضًا . وَمَتَى كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَبْقَ صَغَارٌ وَلَا جِزْيَةٌ وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ صَغَارٌ وَجِزْيَةٌ فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ الَّذِي هُوَ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تَبْقَى بِيَدِهِ مُؤَدِّيًا لِخَرَاجِهَا وَسَقَطَ عَنْهُ جِزْيَةُ جُمْجُمَتِهِ فَكَيْفَ يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا . وَإِذَا جَازَ أَنْ تَبْقَى بِيَدِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى مُسْلِمٍ غَيْرِهِ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَالْمُسْلِمُ لَا صَغَارَ عَلَيْهِ بِحَالِ فَلَوْ كَانَ الْمَانِعُ كَوْنَهَا صَغَارًا لَمْ يُجَامِعْ الْإِسْلَامَ كَجِزْيَةِ الرَّأْسِ . وَلَا يُقَالُ : هِيَ كَالرِّقِّ تَمْنَعُهُ الْإِسْلَامَ ابْتِدَاءً وَلَا تَمْنَعُ دَوَامَهُ لِأَنَّ الرِّقَّ قَهَرْنَاهُمْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ لَمْ نعاوضهم عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ جِزْيَةُ الرَّأْسِ لَا نُمَكِّنُهُمْ مِنْ الْمُقَامِ بِالْأَرْضِ الْإِسْلَامِيَّةِ إلَّا بِهَا فَهِيَ نَوْعٌ مِنْ الرِّقِّ لِثُبُوتِهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمُسْتَرَقِّ . وَأَمَّا الْخَرَاجُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِرِضَى الْمُخَارَجِ وَاخْتِيَارِهِ وَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ الْأَرْضَ مِنَّا لَمْ نَدْفَعْهَا إلَيْهِ ؛ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ الَّتِي عَامَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا أَهْلَ خَيْبَرَ سَوَاءٌ : هُنَاكَ كَانَ الْعِوَضُ جُزْءًا مِنْ الزَّرْعِ وَهُنَا الْعِوَضُ مُسَمًّى مَعْلُومٌ . وَهُنَاكَ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا إلَّا إذَا زَرَعُوا وَهُنَا يَسْتَحِقُّ إذَا أَمْكَنَهُمْ الزَّرْعُ . فَنَظِيرُهُ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمُزَارَعَةِ يُعَامِلُ غَيْرَهُ بِأَقَلَّ مِنْ الْجُزْءِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ ؛ إذْ أَنَّ الْمَضَارِبَ يَدْفَعُ الْمَالَ مُضَارَبَةً لَكِنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِ الْمَالِكِ لِتَعْيِينِ الْمُسْتَحِقِّ .

وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَوَانِعُ مِنْ كَوْنِهَا وَقْفًا يُنْظَرُ فِيهَا . أَمَّا جِهَةُ الْوَقْفِ فَلَا يَتَوَجَّهُ كَوْنُهَا مَانِعًا عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَبَدًا . وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِالِاشْتِغَالِ بِالْحِرَاثَةِ عَنْ الْجِهَادِ فَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الأرضين ؛ عَشْرِيِّهَا وخراجيها وَذَاكَ شَيْءٌ آخَرُ .
فَصْلٌ :
وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَكَّةُ : فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا فَاسْتَقَرَّ مِلْكُ أَصْحَابِهَا عَلَيْهَا ؛ لِيَجُوزَ لَهُمْ مَا يَجُوزُ فِي سَائِرِ أَرَاضِي الصُّلْحِ مِنْ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ : فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ ؛ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْإِمَامُ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ وَلَا خَرَاجٍ لَمْ يَجُزْ إلَّا لِلْحَاجَةِ " كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ " . أَمَّا إذَا فَتَحْنَا الْأَرْضَ فَتْحَ صُلْحٍ وَأَهْلُهَا مُشْرِكُونَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ . فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ

لَمَّا حَجَّ أَبُو بَكْرٍ لِمَنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ أَجَلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَإِلَّا جَعَلَهُ مُحَارَبًا يَسْتَبِيحُ دَمَهُ وَمَالَهُ وَلَوْ كَانَ قَدْ فَتَحَهَا صُلْحًا لَمْ يَجُزْ نَقْضُ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ اسْتَبَاحَ قَتْلَ جَمَاعَةٍ سَمَّاهُمْ . . . (1) وَلَكِنْ فَتَحَهَا عَنْوَةً وَأَمَّنَ مَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ مِنْهُمْ فَقَدْ أَمَّنَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ ؛ إلَّا نَفَرًا اسْتَثْنَاهُمْ وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ بِهَذَا الْأَمَانِ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهُ فَانْعَقَدَ لَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ فَحَارَبَ أَوْ هَرَبَ . وَالْأَمَانُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَبُولِ الْمُؤَمَّنِ كَالْهُدْنَةِ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتْرُكْ الْقِتَالَ فَلَمْ يُؤَمِّنْهُ بِحَالِ ؛ لَكِنْ خَصَّ وَعَمَّ فِي أَلْفَاظِ الْأَمَانِ . وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ . فَإِنَّ قَوْلَهُ : { مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ : وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ } كُلُّهَا أَلْفَاظٌ مَعْنَاهَا مَنْ اسْتَسْلَمَ فَلَمْ يُقَاتِلْ فَهُوَ آمِنٌ وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ الطُّلَقَاءَ كَأَنَّهُ أَسَرَهُمْ ثُمَّ أَطْلَقَهُمْ كُلَّهُمْ . . . (2)
وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ : لَمَّا فَتَحَهَا عَنْوَةً وَلَمْ يُقَسِّمْهَا بَلْ أَقَرَّهَا فِي يَدِ أَهْلِهَا صَارَ هَذَا أَصْلًا فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ إقْرَارُهَا فِي يَدِ أَهْلِهَا . قَالُوا هُمْ وَأَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ فِي أَحَدِ التَّعْلِيلَيْنِ : وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا ؛ لِكَوْنِهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَلَمْ تُقَسَّمْ كَسَائِرِ أَرْضِ الْعَنْوَةِ وَرُبَّمَا يَقُولُونَ : صَارَ إنْزَالُ أَهْلِ مَكَّةَ لِلنَّاسِ عِنْدَهُمْ هُوَ الْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ

عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّ الْخَرَاجَ يُضْرَبُ عَلَى مَزَارِعِهَا فَقَدْ عُلِمَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ فَسَادُ قَوْلِهِ مَعَ إجْرَائِهِ لِقِيَاسِهِ . وَهَذَا التَّعْلِيلُ ضَعِيفٌ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ تَجُوزُ إجَارَتُهَا بِالْإِجْمَاعِ وَبُيُوتُ مَكَّةَ أَحْسَنُ مَا فِيهَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا بَلْ يَجِبُ بَذْلُهَا لِلْمُحْتَاجِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَهَذَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ وَالْقِيَاسُ . وَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهَا فَفِيهِ نَظَرٌ فَلَوْ كَانَ الْمَانِعُ كَوْنَ فَتْحِهَا عَنْوَةً لَمَا مَنَعَ إجَارَتَهَا . الثَّانِي : أَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ إنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِ مَزَارِعِهَا . فَأَمَّا الْمَسَاكِنُ فَلَا يُمْنَعُ ذَلِكَ فِيهَا ؛ بَلْ هِيَ لِأَصْحَابِهَا . وَمَكَّةُ إنَّمَا مُنِعُوا مِنْ الْمُعَاوَضَةِ فِي رَبَاعِهَا الَّتِي لَا مَنْعَ مِنْهَا فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ وَهَذَا بُرْهَانٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْفَرْقِ . الثَّالِثُ : أَنَّ مَزَارِعَ مَكَّةَ مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَا غَيْرِهِمْ مَنَعَ بَيْعَهَا أَوْ إجَارَتَهَا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الرُّبَاعِ وَهِيَ الْمَسَاكِنُ لَا الْمَزَارِعُ . فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا . الرَّابِعُ : أَنَّ تِلْكَ الدِّيَارَ كَانَتْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَقَدْ طَلَبُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إعَادَتَهَا إلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلْ فَلَوْ كَانَتْ كَسَائِرِ الْعَنْوَةِ

لَكَانَ قَدْ أَعَادَهَا إلَى أَصْحَابِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ إذَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْكُفَّارُ ثُمَّ اسْتَنْقَذْنَاهَا وَعُرِفَ صَاحِبُهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أُعِيدَتْ إلَيْهِ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَا مَنْقُولِهَا وَلَا عَقَارِهَا وَلَا إلَى أَحَدٍ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ وَلَوْ أَجْرَى عَلَيْهَا أَحْكَامَ غَيْرِهَا مِنْ الْعَنْوَةِ لَغَنِمَ الْمَنْقُولَاتِ وَالذُّرِّيَّةَ ؛ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ إجَارَتِهَا كَوْنُهَا أَرْضَ الْمَشَاعِرِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِي اسْتِحْقَاقِ الِانْتِفَاعِ بِهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } . فَالسَّاكِنُونَ بِهَا أَحَقُّ بِمَا احْتَاجُوا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمْ سَبَقُوا إلَى الْمُبَاحِ . كَمَنْ سَبَقَ إلَى مُبَاحٍ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ طَرِيقٍ أَوْ سُوقٍ وَأَمَّا الْفَاضِلُ فَعَلَيْهِمْ بَذْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا بِهَذَا الشَّرْطِ ؛ لَكِنَّ الْعَرْصَةَ مُشْتَرَكَةٌ فِي الْأَصْلِ . وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَنَى بَيْتًا مِنْ رِبَاطٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ : لَهُ اخْتِصَاصٌ بِسُكْنِهِ وَلَيْسَ لَهُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ . أَوْ مَنْ بَنَى بَيْتًا فِي جنابات السَّبِيلِ أَوْ فِي دَارِ الرِّبَاطِ الَّتِي تَكُونُ بِالثُّغُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَكُونُ الْأَرْضُ فِيهِ مُشْتَرَكَةَ الْمَنْفَعَةِ لِلْحَجِّ أَوْ لِلْجِهَادِ أَوْ لِلْمُرُورِ فِي الطُّرُقَاتِ أَوْ التَّعَلُّمِ ؛ أَوْ التَّعَبُّدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِذَا قَالَ : الْبِنَاءُ لِي قِيلَ لَهُ : وَالْعَرْصَةُ لَيْسَتْ لَك وَأَعْيَانُ الْحَجَرِ لَيْسَ لَك ؛ بَلْ لَك

التَّأْلِيفُ أَوْ التَّأْلِيفُ وَالْأَنْقَاضُ . فَمَا لَيْسَ لَك لَا يَجُوزُ أَنْ تُعَاوِضَ عَنْهُ وَمَا هُوَ لَك قَدْ اعتضت عَنْهُ بِبَقَائِك فِي الِانْتِفَاعِ بِالْعَرْصَةِ . أَوْ لِأَنَّ الْمَكِّيَّ لَمَّا صَارَ النَّاسُ يَهْدُونَ إلَيْهِمْ الْهَدَايَا وَتَجِبُ عَلَيْهِمْ قِسْمَتُهَا فِيهِمْ صَارَ يَجِبُ عَلَى الْمَكِّيِّينَ إنْزَالُ النَّاسِ فِي مَنَازِلِهِمْ مُقَابَلَةً لِلْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ فَصَاحِبُ الْهَدْيِ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ - مَثَلًا - حَيْثُ يَجُوزُ وَيُعْطِيَ مَنْ شَاءَ وَلَا يَعْتَاضَ عَنْهُ وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ يَسْكُنُهُ وَيُسْكِنُهُ وَلَا يَعْتَاضُ عَنْهُ . وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَدْ يَكُونُ هُوَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِإِبْقَائِهَا بِيَدِ أَرْبَابِهَا مِنْ غَيْرِ خَرَاجٍ مَضْرُوبٍ عَلَيْهِمْ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ لِلْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ حَقًّا وَعَلَيْهِمْ حَقٌّ ؛ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْصَارِ وَمِنْ هُنَا يَصِيرُ التَّعْلِيلُ بِفَتْحِهَا عَنْوَةً مُنَاسِبًا لِمَنْعِ إجَارَتِهَا - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - لَا إلْحَاقًا لَهَا بِسَائِرِ أَرْضِ الْعَنْوَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْأَرْضُ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً يَجُوزُ أَمَانُ أَهْلِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَذَلِكَ . قِيلَ : نَعَمْ يَجُوزُ قَبْلَ الِاسْتِيلَاءِ أَنْ يُؤَمَّنَ مَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِتَرْكِ قِتَالِهِ وَهُوَ أَمَانٌ بِشَرْطِ ؛ بَلْ إذَا جَوَّزْنَا السَّبْيَ عَلَى الْأَسِيرِ بَعْدَ الْأَسْرِ لِلْمَصْلَحَةِ كَيْفَ لَا نُجَوِّزُ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَسْرِ .

وَهُنَا زِيَادَةُ الْأَمَانِ عَلَى مَالِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ الِاسْتِيلَاءِ كَمَا لَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ فَإِنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْحُكْمِ عَصَمَ دَمَهُ وَمَالَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الْقَهْرُ . فَإِنَّ دُخُولَهُ مَكَّةَ ؛ كَانَ قَبْلَ الظُّهْرِ وَدَخَلَهَا قَهْرًا . وَبِهَذَا التَّحْرِيرِ تَظْهَرُ الشُّبْهَةُ الَّتِي أَوْجَبَتْ كُلًّا مِنْ الْقَوْلَيْنِ . وَأَمَّا بَعْدَ الْقَهْرِ فَيَجُوزُ أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْمَقْهُورِينَ وَتُدْفَعَ إلَيْهِمْ الْأَرْضُ مُخَارَجَةً فَاَلَّذِينَ حَارَبُوا بِمَكَّةَ أَوْ هَرَبُوا ثُمَّ أَمَّنَهُمْ بَعْدَ قَهْرِهِمْ وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِمْ هَذَا جَائِزٌ فِي أَنْفُسِهِمْ كَالْمَنِّ وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ الطُّلَقَاءَ وَأَمَّا فِي أَمْوَالِهِمْ فَالْأَرْضُ قَدْ ذَكَرْت سَبَبَ ذَلِكَ فِيهَا . وَأَمَّا الْمَنْقُولُ وَالذُّرِّيَّةُ . . . (1) .
وَسُئِلَ :
عَنْ مُقْطِعٍ لَهُ مَاءٌ دَاخِلُ إقْطَاعِهِ . وَيَقْصِدُ بَيْعَهُ لِمُقْطِعِ آخَرَ وَإِجْرَاءَهُ فِي بَلَدِهِ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَاءَ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَبِيعَ الْمَاءَ الدَّاخِلَ فِي إقْطَاعِهِ وَيُجْرِيَهُ فِي بَلَدِ الْمُشْتَرِي ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْمَاءُ مَحْبُوسًا عَلَيْهِ فِي الْإِقْطَاعِ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ بِمَائِهَا مَحْبُوسَةً عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَبِدُونِ تَحْبِيسٍ عَلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةِ

دِرْهَمٍ وَهُوَ يُرِيدُ تَعْطِيلَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الزَّرْعِ وَبَيْعَهُ لِغَيْرِهِ ؛ يَسْقِي بِهِ فِي أَرْضِهِ فَإِنَّ هَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ بِخِلَافِ الْمَاءِ الَّذِي يَجْرِي فِي مِلْكِهِ بِلَا عِوَضٍ مِثْلَ أَنْ يُحْيِيَ أَرْضًا وَفِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ . فَإِنَّ فِي جَوَازِ بَيْعِ مِثْلِ هَذَا الْمَاءِ قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : إحْدَاهُمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ . وَالثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد . وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ بِالْأَرْضِ الْمُبَاحَةِ وَالْكَلَأِ الَّذِي يَكُونُ بِهَا فَهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَيْنُ مَاءٍ جَارِيَةٌ إذَا بَاعَ مِنْهَا أُصْبُعَ مَاءٍ أَوْ نَحْوَهُ هَلْ يَجُوزُ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَرْئِيٍّ بَلْ يَنْبُعُ شَيْئًا فَشَيْئًا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَنْ يَمْلِكُ مَاءً نَابِعًا مِثْلَ أَنْ يَمْلِكَ بِئْرًا مَحْفُورَةً . فِي مِلْكِهِ - وَيَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْبِئْرِ : مَا يُنْصَبُ عَلَيْهِ الدُّولَابُ وَمَا لَا يُنْصَبُ أَوْ يَمْلِكُ عَيْنَ مَاءٍ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ - فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْبِئْرَ

وَالْعَيْنَ جَمِيعًا وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ بَعْضَهَا مُشَاعًا عَلَى أُصْبُعٍ وَأُصْبُعَيْنِ - مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ - كَمَا يُبَاعُ مَعَ الْبُسْتَانِ وَالدَّارُ مَا لَهُ مِنْ الْمَاءِ مِثْلُ أُصْبُعٍ وَأَصَابِعَ : مِنْ قَنَاةِ كَذَا وَإِنْ كَانَ أَصْلُ تِلْكَ الْقَنَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمِيَاهَ فَكَيْفَ إذَا كَانَ أَصْلُ الْمَاءِ فِي مِلْكِهِ فَهَذَا مِمَّا لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا . وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ تَنْبُعُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمَبِيعِ أَنْ يَرَى جَمِيعَ الْمَبِيعِ ؛ بَلْ يَرَى مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِرُؤْيَتِهِ . وَأَمَّا مَا يَتَجَدَّدُ : مِثْلُ الْمَنَافِعِ وَنَقْعِ الْبِئْرِ فَهَذَا لَا يَشْتَرِطُ أَحَدٌ رُؤْيَتَهُ لَا فِي بَيْعٍ وَلَا إجَارَةٍ . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ لَوْ بَاعَ الْمَاءَ بِدُونِ الْقَرَارِ هَلْ يَصِحُّ بَيْعُهُ لِكَوْنِهِ يَمْلِكُ أَوْ لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ لَا يَمْلِكُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهُوَ مَنْصُوصٌ لِلشَّافِعِيِّ ؛ بَلْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ مَمْلُوكٌ . وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا بَاعَ الْأَرْضَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَاءَ : هَلْ يَدْخُلُ أَمْ لَا ؟ وَأَمَّا بَيْعُ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ بِكَمَالِهَا أَوْ بَيْعُ جُزْءٍ مِنْهَا : فَمَا عَلِمْت فِيهِ تَنَازُعًا إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً . وَقَدْ { نَدِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى شِرَاءِ بِئْرِ رُومَةَ مِنْ مَالِكِهَا الْيَهُودِيِّ فَاشْتَرَى عُثْمَانُ بْنُ عفان

نِصْفَهَا وَحَبَسَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ دَلْوُهُ مِنْهَا كَدَلْوِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَمَّا رَأَى الْيَهُودِيُّ ذَلِكَ بَاعَهُ النِّصْفَ الْآخَرَ فَاشْتَرَاهُ عُثْمَانُ وَجَعَلَ الْبِئْرَ كُلَّهَا حَبْسًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى عِدَّةِ مَسَائِلَ ؛ مِثْلَ وَقْفِ الْمُشَاعِ وَتَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ . هَلْ فِيهِ شُفْعَةٌ ؟ فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ فِيهِ الشُّفْعَةَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَالْأَظْهَرُ وُجُوبُ الشُّفْعَةِ فِي ذَلِكَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ ذَلِكَ وَجَوَازُ هِبَةِ ذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلَيْنِ لَهُمَا إقْطَاعٌ فِي بَلَدٍ فَاخْتَصَمَا فِي بَيْعِ النَّبَاتِ الَّذِي يَطْلُعُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، فَزَعَمَ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِثْلُ النَّبَاتِ الْبَرِّيِّ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا هُوَ مِلْكُهُ . فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ : بَلْ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ أَقْطَعَهُ لِي فَهُوَ مِلْكِي وَيَجُوزُ لِي أَنْ أَبِيعَ كُلَّ مَا فِي حِصَّتِي وَفِي قُرْعَتِي . هَلْ

هُمَا مُصِيبَانِ ؟ أَمْ مُخْطِئَانِ ؟ وَمَا مَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا النَّبَاتُ الَّذِي يَنْبُتُ بِغَيْرِ فِعْلِ الْآدَمِيِّ كَالْكَلَأِ الَّذِي أَنْبَتَهُ اللَّهُ فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ أَوْ فِيمَا اسْتَأْجَرَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ : فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرُدَّ مَا يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ الْمُبَاحَةِ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَشْتَرِكُونَ فِي كُلِّ مَا يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ الْمُبَاحَةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ : مِنْ الْمَعَادِنِ الْجَارِيَةِ ؛ كَالْقِيرِ وَالنِّفْطِ . وَالْجَامِدَةِ : كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمِلْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَنْبُتُ فِي أَرْضِ الْإِنْسَانِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ الْيَوْمَ أَمْنَعُك فَضْلِي كَمَا مَنَعْت فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْهُ يَدَاك وَرَجُلٌ بَايَعَ إمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِلدُّنْيَا إنْ أَعْطَاهُ رَضِيَ وَإِنْ مَنَعَهُ سَخِطَ وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ كَاذِبًا لَقَدْ أُعْطَى بِهَا أَكْثَرُ مِمَّا

أُعْطَى } . فَهَذَا تَوَعَّدَهُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ ؛ لِكَوْنِهِ مَنَعَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاهُ وَالْكَلَأُ الَّذِي يَنْبُتُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ لَمْ تَعْمَلْهُ يَدَاهُ . وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ بَيْعِ ذَلِكَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْأَرْضِ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ صَاحِبِهَا بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فَأَمَّا الْأَرْضُ الْبُورُ الَّتِي لَا يَحْرُثُهَا فَلِأَصْحَابِهِ فِيهَا نِزَاعٌ جَوَّزَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَمَنَعَهُ غَيْرُهُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ صَاحِبُهَا قَصَدَ تَرْكَ زَرْعِهَا لِيَنْبُتَ فِيهَا الْكَلَأُ فَبَيْعُ هَذَا أَسْهَلُ مِنْ بَيْعِ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِنْبَاتِهِ .
وَقَالَ فِي جَوَابٍ لَهُ أَيْضًا :
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ : الْمَاءُ وَالْكَلَأُ وَالنَّارُ } . فَهُوَ حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَلَأَ النَّابِتَ فِي الْأَرْضِ الْمُبَاحَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ فَمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَأَمَّا النَّابِتُ فِي الْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ . وَأَكْثَرُهُمْ يُجَوِّزُونَ أَخْذَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ؛ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَيُجَوِّزُونَ رَعْيَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ .

وَكَذَلِكَ الْمَاءُ إنْ كَانَ نَابِعًا فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ نَابِعًا فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَعَلَيْهِ بَذْلُ فَضْلِهِ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلشُّرْبِ لِلْآدَمِيِّينَ وَالدَّوَابِّ بِلَا عِوَضٍ ؛ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ ، يَقُولُ اللَّهُ لَهُ : الْيَوْمَ أَمْنَعُك فَضْلِي كَمَا مَنَعْت فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاك وَرَجُلٌ بَايَعَ إمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِلدُّنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ مَنَعَهُ مِنْهَا سَخِطَ وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ : وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَقَدْ أُعْطِيت بِهَا كَذَا وَكَذَا } الْحَدِيثَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْمٍ يَنْقُلُونَ النَّحْلَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَهَلْ يَحِلُّ لِأَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُمْ أُجْرَةَ مَا جَنَتْهُ النَّحْلُ عِنْدَهُمْ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا حَقَّ عَلَى أَهْلِ النَّحْلِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ الَّتِي يُجْنَى مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ مِنْ مِلْكِهِمْ شَيْئًا ؛ وَلَكِنَّ الْعَسَلَ مِنْ الطُّلُولِ الَّتِي هِيَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَعَلَى صَاحِبِ النَّحْلِ الْعُشْرُ يَصْرِفُهُ إلَى

مُسْتَحِقِّهِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ لِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ . وَهَذِهِ الطُّلُولُ يَجْمَعُهَا أَحَقُّ بِالْبَذْلِ مِنْ الْكَلَأِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الطُّلُولَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَهَا إلَّا النَّحْلُ ؛ لَكِنْ إذَا كَانَتْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَنَحْلُهُ أَحَقُّ بِالْجِنَاءِ فِي أَرْضِهِ . فَإِذَا كَانَ جَنَى تِلْكَ النَّحْلَ تَضْرِبُهُ فَلَهُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ لَهَا مِلْكٌ غَائِبٌ عَنْهَا وَلَمْ تَرَهُ وَعَلِمَتْهُ بِالصِّفَةِ ثُمَّ بَاعَتْهُ لِمَنْ رَآهُ فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا عَلِمَتْهُ بِالصِّفَةِ صَحَّ بَيْعُهَا : وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ وَكِيلُهَا فِي الْبَيْعِ صَحَّ الْبَيْعُ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ تَرَهُ وَلَا وَصْفَ لَهَا .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يَحْتَاجُ لِقَرْضِ ؛ وَكَانَ عِنْدَ شَخْصٍ فُولٌ فَتَبَايَعَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي وَكَتَبَ الْحُجَّةَ ثُمَّ وَجَدَهُ مُسَوَّسًا ؟ .

فَأَجَابَ : إذَا لَمْ يَرَ الْمَبِيعَ وَلَمْ يُوصَفْ لَهُ : فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَعَلَيْهِ رَدُّهُ بِمِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ رُوحَهُ ؟ وَلَهُ عَائِلَةٌ . هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الْبَيْعُ الشَّرْعِيُّ : فَالْحُرُّ الْمُسْلِمُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ وَلَكِنْ إذَا انْضَمَّ إلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ أَوْ الْأُمَرَاءِ مُتَسَمِّيًا بِاسْمِ مَمْلُوكِهِ وَذَلِكَ الْمَلِكُ أَوْ الْأَمِيرُ يَجْعَلُهُ مِنْ مَمَالِيكِهِ الَّذِينَ يُعْتِقُهُمْ لَا يَتَمَلَّكُهُ تَمَلُّكَ الْأَرِقَّاءِ فَهَذَا شِبْهُ مِلْكِ السَّيِّدِ الْأَوَّلِ . وَهَذَا الَّذِي يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ إنَّمَا هُوَ بَيْعٌ عَادِيٌّ وَإِطْلَاقٌ عَادِيٌّ إذْ أَكْثَرُ الْمَمَالِيكِ مِلْكٌ لِبَيْتِ الْمَالِ وَوَلَاؤُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَكِنَّ مَنْ غَلَبَ أُضِيفُوا إلَيْهِ كَمَا تُضَافُ إلَيْهِ الْأَمْوَالُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَا بَأْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَنْضَافَ إلَى مَنْ يُعْطِيهِ حَقَّهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا أُضِيفَ إلَى غَيْرِهِ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَلَا يُطِيعُوا أَحَدًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَالْمِلْكُ يُشْبِهُ الْمِلْكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَمْلُوكٍ لِشَخْصٍ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ فِي بِلَادِ التتر ثُمَّ إنَّ الْمَمْلُوكَ هَرَبَ مِنْ عِنْدِ أُسْتَاذِهِ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ وَجَاءَ إلَى بِلَادِ الشَّامِ وَهُوَ فِي الرِّقِّ وَالْآنَ الْمَمْلُوكُ يَخْتَارُ الْبَيْعَ . فَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبِيعَهُ لِيَحْفَظَ ثَمَنَهُ لِأُسْتَاذِهِ وَيُوَصِّلَ ذَلِكَ إلَيْهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، يَجُوزُ إذَا كَانَ فِي رُجُوعِهِ إلَى تِلْكَ الْبِلَادِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ ؛ فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ بِدُونِ إذْنِ أُسْتَاذِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ شَخْصٍ مِنْ الْكُفَّارِ فِي بِلَادِ الْكُفَّارِ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بَاعَ نَفْسَهُ لِشَخْصٍ مُسْلِمٍ وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَأَوْفَى بِهِ دَيْنَهُ وَبَاعَ ابْنَتَهُ أَيْضًا وَرَضُوا بِالرِّقِّ وَخَسِرَ عَلَيْهِمْ التَّاجِرُ الْمُسْلِمُ كُلْفَةَ الطَّرِيقِ وَالنَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ حَتَّى وَصَلُوا إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ . فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ وَشِرَاؤُهُمْ ؟

فَأَجَابَ :
إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَاشْتَرَى مِنْهُمْ أَوْلَادَهُمْ وَخَرَجَ بِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَانُوا مِلْكًا لَهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُ وَيَسْتَحِقَّ عَلَى الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ . وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ الْحَرْبِيُّ نَفْسَهُ لِلْمُسْلِمِ وَخَرَجَ بِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِلْكَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ؛ بَلْ لَوْ أَعْطَوْهُ أَوْلَادَهُمْ بِغَيْرِ ثَمَنٍ وَخَرَجَ بِهِمْ مَلِكُهُمْ فَكَيْفَ إذَا بَاعُوهُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ أَوْلَادَهُمْ أَوْ قَهَرَهُمْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ؛ فَإِنَّ نُفُوسَ الْكُفَّارِ الْمُحَارَبِينَ وَأَمْوَالَهُمْ مُبَاحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ مَلَكُوهَا . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي إذَا كَانَ مُسْتَأْمَنًا : فَهَلْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُمْ أَوْلَادَهُمْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ : أَنَّهُ يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْهُمْ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ مَنْصُوصَةٍ عَنْهُ : أَنَّهُ إذَا هَادَنَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ بَلَدٍ وَسَبَاهُمْ مَنْ بَاعَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ الشِّرَاءُ مِنْهُ وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَكَذَلِكَ لَوْ قَهَرَ أَهْلُ الْحَرْبِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَوْ وَهَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا

أَوْ اشْتَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَوْ سَرَقَهُمْ وَبَاعَهُمْ أَوْ وَهَبَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ تَمْلِكُوهُمْ كَمَا يَمْلِكُهُمْ الْمُسْلِمُونَ إذَا مَلَكُوهُمْ بِالْقَهْرِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَقَامَ فِي خِدْمَتِهِ مُدَّةَ سِنِينَ ثُمَّ قَصَدَ الْمَوْلَى بَيْعَهُ فَادَّعَى أَنَّهُ حُرٌّ وَكَانَ حَالُ الْبَيْعِ اعْتَرَفَ بِالرِّقِّ . فَهَلْ يَجِبُ أَخْذُ ثَمَنِهِ مِنْ الَّذِي بَاعَهُ ؟ وَهَلْ يُعْتَقُ عَلَى مَوْلَاهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا فَإِنَّهُ يَجِبُ تَغْرِيمُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ وَتَغْرِيرُهُ ؛ لِكَوْنِهِ أَقَرَّ لَهُ بِالرِّقِّ ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ مِنْ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْهُ وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَهُ مِنْ هَذَا الْآخِذِ الَّذِي غَرَّهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ بَيْعِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْبُنْدُقِ وَالْفُسْتُقِ وَالْفُولِ وَالْحِمَّصِ ذَوَاتِ الْقُشُورِ : هَلْ يَصِحُّ بَيْعُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؟ وَهَلْ يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ بِالْمُعَاقَدَةِ ؟ وَاللِّفْتُ وَالْجَوْزُ وَالْقُلْقَاسُ هَلْ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ مُغَيَّبٌ أَمْ لَا ؟

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُجَوِّزُ هَذِهِ الْبُيُوعَ ؛ لَكِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ . أَمَّا الْأَوْلَى فَمَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ - مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ - وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ فَإِنَّهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ اشْتَرَى الباقلا الْأَخْضَرَ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ . وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْحَبِّ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ وَإِنْ كَانَ فِي سُنْبُلِهِ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَمْنَعُ بَيْعَ الباقلا فِي قِشْرِهِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا عَدَّ الطرسوسي وَغَيْرُهُ الْمَنْعَ مِنْ بَيْعِ الباقلا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ مَنَعَ ذَلِكَ . وَحُجَّةُ الْمَانِعِ : { نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } فَظَنُّوا أَنَّ هَذَا مَجْهُولٌ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ تُعْرَفُ كَمَا يُعْرَفُ غَيْرُهَا مِنْ الْمَبِيعَاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهَا عَلَى جَمِيعِهَا . وَكَذَلِكَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْعُقُودِ مِنْ الصِّيَغِ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُعَاطَاةِ لَكِنَّ الْجُمْهُورَ يُخَالِفُونَ هَذَا . فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْمُعَاطَاةِ فِي الْقَلِيلِ

وَالْكَثِيرِ وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ تَجْوِيزُ ذَلِكَ فِي الْمُحَقَّرَاتِ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَأَيْضًا إنَّ الْعُقُودَ يُرْجَعُ فِيهَا إلَى عُرْفِ النَّاسِ . فَمَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا أَوْ إجَارَةً أَوْ هِبَةً : كَانَ بَيْعًا وَإِجَارَةً وَهِبَةً ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ . وَكُلُّ اسْمٍ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِي حَدِّهِ إلَى الْعُرْفِ . وَأَمَّا بَيْعُ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَاللِّفْتِ وَالْقُلْقَاسِ : فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَعْرُوفِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا فَإِنَّ أَهْلَ الْخِبْرَةِ إذَا رَأَوْا مَا ظَهَرَ مِنْهَا مِنْ الْوَرَقِ وَغَيْرِهِ دَلَّهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَائِرِهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّاسَ مُحْتَاجُونَ إلَى هَذِهِ الْبُيُوعِ وَالشَّارِعُ لَا يُحَرِّمُ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ مِنْ الْبَيْعِ لِأَجْلِ نَوْعٍ مِنْ الْغَرَرِ ؛ بَلْ يُبِيحُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَمَا أَبَاحَ بَيْعَ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُبْقَاةً إلَى الْجُذَاذِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمَبِيعِ لَمْ يُخْلَقْ وَكَمَا أَبَاحَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِي ثَمَرَةَ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ وَذَلِكَ اشْتِرَاءٌ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ؛ لَكِنَّهُ تَابِعٌ لِلشَّجَرَةِ وَأَبَاحَ بَيْعَ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا . فَأَقَامَ التَّقْدِيرَ بِالْخَرْصِ مَقَامَ التَّقْدِيرِ بِالْكَيْلِ

عِنْدَ الْحَاجَةِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الرِّبَا الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ - وَهَذِهِ " قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ " وَهُوَ تَحْصِيلُ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَدَفْعُ أَعْظَمِ الفسادين بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا - وَبَيْعُ مَا يَكُونُ قِشْرُهُ صَوْنًا لَهُ كَالْعِنَبِ وَالرُّمَّانِ وَالْمَوْزِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ سِتَّةً وَعِشْرِينَ فَدَّانَ قُلْقَاسٍ بِتِسْعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَأَمْضَى لَهُ الْبَيْعَ فِي ذَلِكَ فَقَلَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْقُلْقَاسِ الْمَذْكُورِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ زَادَ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَبِلَ الزِّيَادَةَ وَطَرَدَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلَ ثُمَّ زَادَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي خَمْسِمِائَةٍ وَتَسَلَّمَ الْقُلْقَاسَ وَقَلَعَ مِنْهُ مَرْكَبًا وَبَاعَهَا وَأَوْرَدَ لَهُ ثَمَنَهَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ زَادَ عَلَيْهِ فَطَرَدَهُ وَكَتَبَ الْقُلْقَاسَ عَلَى الَّذِي زَادَ عَلَيْهِ : فَهَلْ يَصِحُّ شِرَاءُ الْأَوَّلِ ؟ أَوْ الثَّانِي ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ الْبَائِعُ غَيْرُ جَائِزٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ ؛ فَإِنَّ بَيْعَ الْقُلْقَاسِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَاللِّفْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . إمَّا أَنْ يَكُونَ جَائِزًا عَلَى أَحَدِ

قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ جَائِزًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَد . فَإِنْ كَانَ جَائِزًا كَانَ الْبَيْعُ الثَّانِي حَرَامًا مَعَ الْأَوَّلِ وَهَذَا الْبَائِعُ لَمْ يَتْرُكْ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ لِكَوْنِهِ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ ؛ لَكِنْ لِأَجْلِ بَيْعِهِ لِلثَّانِي وَمِثْلُ هَذَا حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ بَيْعَ الْقُلْقَاسِ جَائِزٌ وَلَا يَحِلُّ قَبُولُ الزِّيَادَةِ فَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ بَاطِلٌ قَالَ : لَيْسَ لِلْبَائِعِ إلَّا ثَمَنُ الْمِثْلِ فِيمَا أُخِذَ مِنْهُ أَوْ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْمِثْلِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ هَاجَرَ مِنْ بَلَدِ التتر وَلَمْ يَجِدْ مَرْكُوبًا فَاشْتَرَى مِنْ التتر مَا يَرْكَبُ بِهِ : فَهَلْ عَلَيْهِ الثَّمَنُ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ؟ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ إذَا اشْتَرَى مِنْهُمْ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الثَّمَنَ لِمَنْ بَاعَهُ وَإِنْ كَانَ تتريا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ تَاجِرٍ رَسَمَ لَهُ بِتَوْقِيعِ سُلْطَانِيٍّ بِالْمُسَامَحَةِ بِأَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى مَتْجَرِهِ فَتَاجَرَ سَفْرَةً فَبَاعَ التَّوْقِيعَ الَّذِي بِيَدِهِ لِتَاجِرٍ آخَرَ ؛ لِأَجْلِ الْإِطْلَاقِ الَّذِي فِيهِ . فَهَلْ يَصِحُّ بَيْعُ مَا فِي التَّوْقِيعِ ؟ ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلتَّوْقِيعِ بَطَلَ سَفَرُهُ وَلَمْ يَنْتَفِعْ فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الثَّمَنِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذَا الْبَيْعُ لَيْسَ مَقْصُودُهُ بَيْعَ الْوَرَقَةِ ؛ فَإِنَّ قِيمَتَهَا يَسِيرَةٌ ؛ بَلْ لَا تُقْصَدُ بِالْبَيْعِ أَصْلًا ؛ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنَّ الْوَظِيفَةَ الَّتِي كَانَ يَأْخُذُهَا نُوَّابُ السُّلْطَانِ تَسْقُطُ عَنْهُ الْحُقُوقُ وَيَأْخُذُ هَذَا الْبَائِعُ بَعْضَهَا أَوْ عِوَضَهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ كَانَتْ تَسْقُطُ عَنْهُ . وَهَذَا يُشْبِهُ مَا يُطْلَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ إطْلَاقًا لِمَنْ وَفَدَ عَلَى السُّلْطَانِ أَوْ خَرَّجَ بَرِيدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . وَهَذَا إنَّمَا يُعْطَاهُ إذَا عَمِلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ فَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ وَلَا عِوَضُهُ لَمْ يُعْطِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا كَانَ هَذَا لِلْعَارِضِ لَا هُوَ وَلَا صَاحِبُ التَّوْقِيعِ لَمْ يُطْلَقْ لَهُ شَيْءٌ . وَحِينَئِذٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُشْتَرِي شَيْئًا وَلَيْسَ مَا

ذُكِرَ لَازِمًا حَتَّى يَجِبَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ؛ بَلْ غَايَتُهُ إنْ قِيلَ بِالْجَوَازِ كَانَ جَائِزًا وَالْحَالَةُ هَذِهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ بَاعَ سِلْعَةً مِثْلَ مَا يَبِيعُ النَّاسُ ثُمَّ بَعْدُ طُلِبَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَالسِّلْعَةُ تَالِفَةٌ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ . فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِمِثْلِهَا مَعَ وُجُودِ الْمِثْلِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى السِّعْرِ الْوَاقِعِ وَقْتَ الْقَبْضِ وَهُوَ ثَمَنُ الْمِثْلِ ؛ لَكِنْ يُطْلَبُ سِعْرُ الْوَقْتِ وَهُوَ قِيمَةُ الْمِثْلِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ فِي صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : يَصِحُّ كَمَا يَصِحُّ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ إذَا دَفَعَ الطَّعَامَ إلَى مَنْ يَطْبُخُ بِالْأُجْرَةِ وَإِذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ أَوْ رَكِبَ السَّفِينَةَ . فَعَلَى هَذَا الْعَقْدِ صَحِيحٌ وَالْوَاجِبُ الْمُسَمَّى . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ الْعَقْدَ فَاسِدٌ فَيَكُونُ مَقْبُوضًا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَقَدْ يُقَالُ : إنَّهُ يُضَمَّنُ بِالْمِثْلِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَإِلَّا بِالْقِيمَةِ كَمَا يُضْمَنُ الْمَغْصُوبُ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ كَالشَّافِعِيَّةِ لَكِنْ هُنَا قَدْ تَرَاضَوْا

بِالْبَدَلِ الَّذِي هُوَ الْقِيمَةُ كَمَا تَرَاضَوْا فِي مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ . وَنَظِيرُهُ أَنْ يَصْطَلِحَا حَيْثُ يَجِبُ الْمِثْلُ أَوْ الْقِيمَةُ عَلَى شَيْءٍ مُسَمًّى فَيَجِبُ ذَلِكَ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا . وَنَظِيرُ هَذَا : قَوْلُ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي الْمُشَارَكَةِ الْفَاسِدَةِ . يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْحِلِّ وَعَدَمِهِ لَا فِي تَعْيِينِ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ كَمَا لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الضَّمَانِ ؛ بَلْ مَا ضُمِّنَ بِالصَّحِيحِ ضُمِّنَ بِالْفَاسِدِ وَمَا لَا يُضَمَّنُ بِالصَّحِيحِ لَا يُضَمَّنُ بِالْفَاسِدِ فَإِذَا اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الضَّمَانِ . فَكَذَلِكَ فِي قَدْرِهِ . وَهَذِهِ نُكْتَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَخَذَ سَنَةَ الْغَلَاءِ غَلَّةً وَقَالَ لَهُ : قَاطِعْنِي فِيهَا قَالَ لَهُ : حَتَّى يَسْتَقِرَّ السِّعْرُ وَصَبَرَ أَشْهُرًا وَحَضَرَ فَأَخَذَ حَظَّهُ بِمِائَةِ وَخَمْسِينَ إرْدَبًّا فَهَلْ لَهُ ثَمَنٌ أَوْ غَلَّةٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لَهُ مَا تَرَاضَيَا وَهُوَ الْمِائَةُ وَالْخَمْسُونَ . سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ الْوَاجِبَ كَانَ أَوَّلًا هُوَ السِّعْرُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد أَنَّ الْبَيْعَ بِالسِّعْرِ صَحِيحٌ . أَوْ قِيلَ : إنَّ الْبَيْعَ كَانَ بَاطِلًا وَأَنَّ الْوَاجِبَ رَدَّ الْبَدَلَ فَإِنَّهُمَا إذَا اصْطَلَحَا

عَنْ الْبَدَلِ بِقِيمَتِهِ - وَقْتَ الِاصْطِلَاحِ - جَازَ الصُّلْحُ وَلَزِمَ . كَمَا أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا اصْطَلَحَا عَلَى قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ مُسَمًّى صَحِيحٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَلَا يُقَالُ : الْقَابِضُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ فَالْوَاجِبُ إنَّمَا هُوَ رَدُّ الْمِثْلِ . لَا يُقَالُ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : إذَا قُبِضَتْ الْعَيْنُ وَتَصَرَّفَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ الْوَاجِبُ رَدَّ الثَّمَنِ إمَّا بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ وَإِمَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ يُمَلَّكُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُمَلَّكُ إذَا مَاتَ بِقَوْلِ مَالِكٍ وَإِذَا كَانَ فِيهِ نِزَاعٌ فَإِذَا اصْطَلَحَا عَلَى ذَلِكَ كَانَ الصُّلْحُ فِي مَوَارِدِ نِزَاعِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ صُلْحٌ لَازِمٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشَاعِ ؟ .
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشَاعِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا مَضَتْ بِذَلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ قَوْلِهِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : { أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَ لَهُ شِرْكٌ فِي أَرْضٍ أَوْ رِبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكُهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَإِنْ بَاعَ

قَبْلَ أَنْ يُؤْذِنَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ } . وَكَذَلِكَ يُضَمَّنُ بِالْإِتْلَافِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْإِتْلَافِ كَالسِّرَايَةِ فِي الْعِتْقِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ ؛ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ } . وَإِذَا بَاعَ الشِّقْصَ الْمُشَاعَ وَقَبَضَهُ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ فَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ بَاقٍ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ وَإِنْ لَمْ يَتَصَرَّفْ بِأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الْجَائِزَةِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فللمشتركين أَنْ يَتَهَايَآ فِيهِ بِالْمَكَانِ أَوْ بِالزَّمَانِ . فَيَسْكُنُ هَذَا بَعْضَهُ وَهَذَا بَعْضَهُ وَبِالزَّمَانِ يَبْدَأُ هَذَا شَهْرًا وَيَبْدَأُ هَذَا شَهْرًا وَلَهُمَا أَنْ يُؤَجِّرَاهُ وَلِأَحَدِهِمَا أَنْ يُؤَجِّرَهُ مِنْ الْآخَرِ وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْهُمَا مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ أُجْبِرَ عَلَيْهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ إلَّا الشَّافِعِيَّ وَفِي الْإِجْبَارِ عَلَى الْمُهَايَأَةِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ مَعْرُوفَةٌ .

وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ شَرِيكٌ فِي خَيْلٍ وَبَاعَ الشَّرِيكُ الْخَيْلَ لِمَنْ لَا يَقْدِرُ رَفِيقُهُ عَلَى تَخْلِيصِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ . فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْقَبْضُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا بَاعَ نَصِيبَهُ . وَسَلَّمَ الْجَمِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي . وَتَعَذَّرَ عَلَى الشَّرِيكِ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ كَانَ ضَامِنًا لِنَصِيبِ الشَّرِيكِ فَإِمَّا أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ نَصِيبِهِ وَإِمَّا أَنْ يُضَمِّنَهُ لَا بِقِيمَتِهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ شَرِكَةٍ فِي مِلْكٍ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ بَيْنَهُمْ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الشَّرِكَةِ بَاعَ الْمِلْكَ جَمِيعَهُ بِشَهَادَةِ أَحَدِ الشُّهُودِ بِالشَّرِكَةِ . فَهَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي مِلْكِهِ وَيَبْطُلُ فِي الْبَاقِي ؟ أَوْ يَبْطُلُ الْجَمِيعُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا بَيْعُ نَصِيبِ الْغَيْرِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِوِلَايَةٍ أَوْ وِكَالَةٍ وَإِذَا لَمْ يُجِزْهُ الْمُسْتَحِقُّ بَطَلَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ لَكِنْ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَلِلْمُشْتَرِي

الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ إجَازَتِهِ . وَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ مِمَّا يُقْسَمُ بِلَا ضَرَرٍ فَلَهُ إلْزَامُ الشَّرِيكِ بِالْقِسْمَةِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ إلَّا بِضَرَرٍ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَيْعِ الْجَمِيعِ لِيَقْتَسِمَا الثَّمَنَ . وَإِذَا كَانَ الشَّاهِدُ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَائِعَ ظَالِمٌ وَشَهِدَ عَلَى بَيْعِهِ مَعُونَةً عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْمُعَاوَنَةُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ لَا تَجُوزُ . بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ } وَقَالَ : { إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ } فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُصِرًّا عَلَيْهِ قُدِحَ فِي عَدَالَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْكَرْمِ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا إذَا اُضْطُرَّ صَاحِبُهُ إلَى ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا ؛ بَلْ قَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَعْصِرُ الْعِنَبَ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا فَكَيْفَ بِالْبَائِعِ لَهُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مُعَاوَنَةً . وَلَا ضَرُورَةَ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ بَيْعُهُ رَطْبًا وَلَا تَزْبِيبُهُ فَإِنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَلًّا أَوْ دِبْسًا وَنَحْوَ ذَلِكَ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ شِرَاءِ الْجِفَانِ ؛ لِعَصِيرِ الزَّيْتِ أَوْ لِلْوَقِيدِ أَوْ لَهُمَا ؟
فَأَجَابَ :
بَيْعُ الزَّيْتِ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ زَيْتِهِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ حَبِّ الْقُطْنِ وَالزَّيْتُونِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمُنْعَصِرَاتِ وَالْمَبِيعَاتِ مُجَازَفَةً وَسَوَاءٌ اشْتَرَاهُ لِلْعَصِيرِ أَوْ لِلْوَقِيدِ ؛ لَكِنْ لَا يَجُوزُ لِلْعَاصِرِ أَنْ يَغُشَّ صَاحِبَهُ . وَإِذَا كَانَ قَدْ اشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ الْجَفْنَةُ أُجْرَةً لِرَبِّ الْمَعْصَرَةِ بِحَيْثُ قَدْ وَاطَأَ عَلَيْهِ الْعَاصِرُ عَلَى أَنْ يُبْقِيَ فِيهَا زَيْتًا لَهُ كَانَ هَذَا غِشًّا حَرَامًا وَحَرُمَ شِرَاؤُهُ لِلزَّيْتِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ دُكَّانٌ مُسْتَأْجَرَةٌ بِخَمْسَةِ وَعِشْرِينَ كُلَّ شَهْرٍ وَلَهُ فِيهَا عِدَّةٌ وَقُمَاشٌ فَجَاءَ إنْسَانٌ فَقَالَ : أَنَا أَسْتَأْجِرُ هَذِهِ الدُّكَّانَ بِخَمْسَةِ وَأَرْبَعِينَ وَأَقْعُدُ بِالْعِدَّةِ وَالْقُمَاشُ أَبِيعُ فِيهِ وَأَشْتَرِي . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا قَدْ جَمَعَ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ مَعًا وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ ضَمِنَ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ لَا يُبَاعَ صِنْفٌ مِنْ الْأَصْنَافِ إلَّا مِنْ عِنْدِهِ وَذَلِكَ الصِّنْفُ لَا يُوجَدُ إلَّا عِنْدَهُ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَيُوجَدُ فِي الْأَمَاكِنِ الْقَرِيبَةِ مِنْ نَوَاحِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ ؛ بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَسَافَةُ مَا بَيْنَ مِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ . فَهَلْ يَجُوزُ الِابْتِيَاعُ مِنْ هَذَا الْمُحْتَكِرِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا هُوَ نَفْسُهُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةٍ أَنَّهُ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ الْبَيْعِ الْحَلَالِ . وَمِنْ جِهَةٍ أَنَّهُ يَضْطَرُّ النَّاسُ إلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ حَتَّى يَشْتَرُوا مَا يُرِيدُ فَيَظْلِمُهُمْ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ . وَأَمَّا مَا يَشْتَرِي مِنْهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ اشْتَرَاهُ بِمَالٍ لَهُ حَلَالٌ لَمْ يَحْرُمْ شِرَاؤُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الْمَظْلُومُ وَمَنْ اشْتَرَى لَمْ يَأْثَمْ وَلَا يَحْرُمُ مَا أَخَذَهُ لِظُلْمِ الْبَائِعِ لَهُ ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا إنَّمَا يَحْرُمُ عَلَى الظَّالِمِ لَا عَلَى الْمَظْلُومِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ اشْتَرَى مَا اشْتَرَاهُ بِمَا ظَلَمَهُ مِنْ الْأَمْوَالِ كَانَ ذَلِكَ مَغْصُوبًا مَحْضًا كَالشِّرَاءِ مِنْ الْغَاصِبِ فَحُكْمُ هَذَا ظَاهِرٌ .

وَأَمَّا إنْ كَانَ أَصْلُ مَالِهِ حَلَالًا وَلَكِنْ رَبِحَ فِيهِ بِهَذِهِ الْمَعِيشَةِ حَتَّى زَادَ فَهَذَا قَدْ صَارَ شُبْهَةً بِقَدْرِ مَا خَالَطَهُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يُقَالُ : هُوَ حَرَامٌ . وَلَا يُقَالُ : حَلَالٌ مَحْضٌ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْحَلَالُ جَازَ الشِّرَاءُ مِنْهُ وَتَرْكُهُ وَرَعٌ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْغَالِبُ الْحَرَامُ : فَهَلْ الشِّرَاءُ مِنْهُ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الرِّبْحَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ بَعْضُهُ يَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِثْلُهُ ؛ فَإِنَّ مَالَهُ الَّذِي قُبِضَ مِنْهُ لَوْ قُبِضَ بِعَقْدِ فَاسِدٍ لَوَجَبَ لَهُ مِثْلُهُ أَوْ قِيمَةُ مِثْلِهِ وَالْمُشْتَرُونَ يَأْخُذُونَ سِلْعَتَهُ فَلَهُ عَلَيْهِمْ مِثْلُهَا أَوْ قِيمَةُ مِثْلِهَا . ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الضَّمَانِ يَأْخُذُونَ مِنْهُ بَعْضَ مَا ظَلَمَهُ ؛ فَإِنَّ الْحَانُوتَ يَكُونُ شِرَاؤُهُ عِشْرِينَ فَيُلْزِمُونَهُ بِخَمْسِينَ ؛ لِأَجْلِ الضَّمَانِ فَتِلْكَ الثَّلَاثُونَ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ وَهِيَ قَدْ أُخِذَتْ مِنْهُ . وَأَمَّا مَا يَبْقَى لَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَهَاتِيك الَّتِي مَا لَهُ وَمَعَ الْحَاجَةِ وَتَعْدِلُ غَيْرَهُ بِكَوْنِ الرُّخْصَةِ أَقْوَى . وَاَللَّهُ أَعْلَم .

وَسُئِلَ :
عَنْ الْأَعْيَانِ الْمُضَمَّنَةِ مِنْ الْحَوَانِيتِ . كالشيرج وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا وَهِيَ أَنَّ إنْسَانًا يَضْمَنُ بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ وَحْدَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ غَيْرُهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . فَيَقُولُ : عِنْدِي كَذَا وَكَذَا كُلَّ شَهْرٍ لِمَالِكِ حَانُوتٍ أَوْ خَانٍ أَوْ مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى أَنْ أَشْتَرِيَ وَأَبِيعَ فِيهِ شَيْئًا لَا يَبِيعُهُ غَيْرِي أَوْ أَعْمَلُ كَذَا وَكَذَا - يَعْنِي شَيْئًا يَذْكُرُهُ - عَلَى أَنَّ غَيْرِي لَا يَعْمَلُ مِثْلَهُ . فَهَلْ يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْ هَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ الَّتِي يَبِيعُهَا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ مُشْتَرِي غَيْرِهَا مِنْ جِنْسِهَا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْأَعْيَانِ بِاعْتِبَارِ مَشَقَّةٍ عِنْدَ تَحْصِيلِ غَيْرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَمْ لَا ؟ سَوَاءٌ كَانَتْ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إلَى ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا مَعَ الْغِنَى عَنْ الِاشْتِرَاءِ مِنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِنْهُ ؛ فَإِنَّهُ ظَالِمٌ بِمَنْعِ غَيْرِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ شُبْهَةٌ فَمُجَانَبَتُهُ وَهَجْرُهُ أَوْلَى بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . [ وَأَمَّا الشِّرَاءُ مِنْهُ - لَا سِيَّمَا مَعَ الْحَاجَةِ - فَلَا يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ ] (*) . وَلَا

يُحْكَمُ بِتَحْرِيمِهِ إذَا اشْتَرَى مَعَ إمْكَانِ الشِّرَاءِ مِنْ غَيْرِهِ ؛ وَلَكِنْ مَعَ الْحَاجَةِ لَا يُكْرَهُ الشِّرَاءُ مِنْهُ فَإِنَّ هَذَا لَهُ مَالٌ يَشْتَرِي بِهِ وَيَبِيعُ ؛ لَكِنْ إذَا مَنَعَ غَيْرَهُ وَاحْتَاجَ النَّاسُ إلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ بَاعَهُمْ بِأَغْلَى مِنْ السِّعْرِ فَظَلَمَهُمْ . وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَضَعُهُ الظَّلَمَةُ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْبَضَائِعِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَيَشْتَرُونَهُ مُكْرَهِينَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ ؛ وَلَكِنْ يَحْرُمُ عَلَى الْبَائِعِ مَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ إنَّ هَذَا قَدْ اخْتَلَطَ بِمَالِهِ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَاتِ الْمُحَرَّمَةِ فَصَارَ فِي مَالِهِ شُبْهَةٌ . فَيُقَالُ أَوَّلًا : مَنْ غَلَبَ عَلَى مَالِهِ الْحَلَالُ جَازَتْ مُعَامَلَتُهُ كَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَإِنْ غَلَبَ الْحَرَامُ : فَهَلْ مُعَامَلَتُهُ مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . ثُمَّ يُقَالُ : تِلْكَ الزِّيَادَاتُ لَيْسَ لَهَا مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ يُعْرَفُ وَالْوَاجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ أَنْ يُصْرَفَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا إنَّمَا مَنَعْنَاهُ مِنْ الزِّيَادَةِ ؛ لِئَلَّا يَظْلِمَ النَّاسَ فَلَوْ جَعَلْنَا مَا يَشْتَرِيهِ النَّاسُ مِنْهُ حَرَامًا لَكِنَّا قَدْ زِدْنَا الضَّرَرَ عَلَى النَّاسِ إذَا احْتَاجُوا أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ وَاَلَّذِي اشْتَرَوْهُ حَرَامٌ وَهُمْ لَا يُطِيقُونَ الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ؛ بَلْ يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْ مِثْلِ هَذَا وَالْمُشْتَرِي مِنْهُ لَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا فَإِنَّ مَا اشْتَرَاهُ قَدْ أَعْطَاهُ عِوَضَهُ وَزِيَادَةً وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْعِوَضِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِمَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَحِقُّ

لِذَلِكَ جَمَاعَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُعَيَّنًا مِنْهُمْ فَهُوَ نَفْسُهُ قَدْ ظَلَمَ أُولَئِكَ جَمِيعَهُمْ بِمَا أَخَذَهُ مِنْهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَأَمَّا الْمُشْتَرِي مِنْهُ الَّذِي أَعْطَاهُ الْعِوَضَ وَزِيَادَةً فَلَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا . وَهَذَا بَيِّنٌ إذَا كَانَ مَالُهُ مُخْتَلِطًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ حَرَامًا ؛ فَإِنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِينَ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ وَهَذِهِ الْأَعْيَانُ الَّتِي فِي يَدِهِ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِعَيْنِهَا الْمَظْلُومُونَ فَمُعَاوَضَتُهُ عَلَيْهَا جَائِزَةٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الْمَظْلُومَ مَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَبِهَذَا أَفْتَى فِي مِثْلِ هَذَا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا كَسَائِرِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِلنَّاسِ وَهُوَ ظَالِمٌ بِمَطْلِهِ لِلْغُرَمَاءِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } . ثُمَّ مَعَ هَذَا إذَا عَاوَضَ عَلَى مَا فِي يَدِهِ بِمُعَاوَضَةِ الْمِثْلِ وَزِيَادَةٍ جَازَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يُكْرَهُ الشِّرَاءُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ تَبَرُّعًا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ أَدَاءُ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ فَفِي نُفُوذِ تَبَرُّعِهِ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنْ يُقَالُ هَذَا الظَّالِمُ لَمَّا أَخَذَ الزِّيَادَةَ وَاشْتَرَى بِهَا فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْمَظْلُومِ بِمَا اشْتَرَاهُ بِمَالِهِ ؛ بِخِلَافِ الدَّيْنِ الَّذِي حَصَلَ بِرِضَا الْغَرِيمِ ؛ فَإِنَّ صَاحِبَهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي غَيْرِ مَالِ الْمَدِينِ . فَيُقَالُ : هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أُصُولٍ : أَحَدُهَا : إنَّ الدَّرَاهِمَ الَّتِي أَخَذَهَا زِيَادَةً بِغَيْرِ حَقٍّ هَلْ يَتَعَيَّنُ حَقُّ صَاحِبِهَا فِيهَا أَوْ لِلْغَاصِبِ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ .

وَلِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ فِي الدَّرَاهِمِ هَلْ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعُقُودِ والقبوض حَتَّى فِي الْغَصْبِ وَالْوَدِيعَةِ ؟ ؟ فَقِيلَ : تَتَعَيَّنُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَقِيلَ : لَا تَتَعَيَّنُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ ابْنِ قَاسِمٍ . وَقِيلَ : تَتَعَيَّنُ فِي الْغَصْبِ وَالْوَدِيعَةِ ؛ دُونَ الْعَقْدِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَإِذَا خُلِطَ الْمَغْصُوبُ بِمِثْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ كَمَا تُخْلَطُ الْأَدْهَانُ وَالْأَلْبَانُ وَالْحُبُوبُ وَغَيْرُهَا فَهَلْ يَكُونُ الْخَلْطُ كَالْإِتْلَافِ حَيْثُ يَبْقَى حَقُّ الْمَظْلُومِ فِي الذِّمَّةِ فَيُعْطِيهِ الظَّالِمُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ ؟ أَوْ حَقُّهُ بَاقٍ فِي الْعَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ عَيْنِ الْخَلْطِ بِالْقِسْمَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ الزَّائِدَةَ لَيْسَتْ مُتَعَيِّنَة سَوَاءٌ اشْتَرَى مِنْهُ دَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ مَنْفَعَةً ؛ فَإِنَّ الْمَظْلُومَ أَخَذَ مِنْهُ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى عِوَضِ الْمِثْلِ وَلَيْسَ هُوَ مُتَعَيَّنًا وَلَوْ كَانَ مُتَعَيَّنًا ثُمَّ خَلَطَهُ بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ التَّعْيِينِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا فِي الْأَصْلِ ؟ فَعَلَى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ حَقُّهُ إلَّا فِي ذِمَّةِ الظَّالِمِ . وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْمُضَارِبَ وَالْمُودِعَ إذَا مَاتَ وَلَمْ يُعَيِّنْ الْوَدِيعَةَ وَالْمُضَارَبَةَ صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يَجْعَلُوا لِصَاحِبِ الْمَالِ حَقًّا فِي عَيْنِ التَّرِكَةِ ؛ فَإِنَّ تَفْرِيطَ الْمُودَعِ حِينَ لَمْ يُمَيِّزْ الْوَدِيعَةَ مِنْ غَيْرِهَا مُوجِبٌ لِضَمَانِهِ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَسْقَطُوا حَقَّ الْمَالِكِ مِنْ عَيْنِ مَالِ الْمَيِّتِ فَلَمْ

يُقَدِّمُوهُ بِعَيْنِ مَالِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ ؛ بَلْ جَعَلُوهُ غَرِيمًا مِنْ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ كَانَ عَيْنُ مَالِهِ مُخْتَلِطًا . وَالظُّلْمُ يَكُونُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمِ . فَتَرْكُ الْمُودَعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّمْيِيزِ ظُلْمٌ مِنْهُ . وَهَذَا الْقَوْلُ - وَهُوَ سُقُوطُ حَقِّ الْمَالِكِ مِنْ الْعَيْنِ - وَإِنْ كُنَّا لَا نَنْصُرُهُ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ مَأْخَذِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أُصُولِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا فَرَعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ فَرْعِهَا مِنْ الْمَالِكِيَّةِ بَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ دُونَ الْعَيْنِ .
وَالْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ الظَّالِمَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَشْتَرِي فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ يُنَفِّذُ عَيْنَ الْمَالِ وَفِي صِحَّةٍ مِثْلُ هَذَا قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ .
الْأَصْلُ الثَّالِثُ : أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِ الظَّالِمِ وَإِنْ فَاتَتْ الْعَيْنُ لِكَوْنِ هَذَا بَدَلُ مَالِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي نَزَعَهُ وَهُوَ أَنْ يُخَيِّرَ الْمَظْلُومَ بَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِشَطْرِ حَقِّهِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ الْمَالِ وَيَكُونُ مَا يَزِيدُ مِنْ الْمَالِ مِنْ نَمَاءٍ وَرِبْحٍ وَغَيْرِهِ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ ؛ لَكِنْ يُقَالُ عَلَى هَذَا : الْمَظْلُومُ لَيْسَ لَهُ إلَّا قَدْرُ حَقِّهِ وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي حَصَلَتْ بِتَصَرُّفِ الظَّالِمِ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى وَقْفِ الْعُقُودِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْعُقُودَ لَا تُوقَفُ يَقُولُ : مَا قَبَضَهُ الْبَائِعُ الظَّالِمُ مِنْ الْمُشْتَرِي لَمْ يَمْلِكْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَالثَّمَنُ الَّذِي أَدَّاهُ وَقَدْ غَصَبَهُ هُوَ

فِي ذِمَّتِهِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ دُونَ النَّاسِ الَّذِينَ ظَلَمَهُمْ وَمَا فِي يَدِهِ لَا يَمْلِكُهُ ؛ بَلْ هُوَ لِأُنَاسٍ مَجْهُولِينَ لَا يَعْرِفُهُمْ . وَلَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِمْ إلَّا بِإِذْنِهِمْ . وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ قَوْلَانِ : قِيلَ : إنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ كَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْغَائِبِينَ يَقْضِي الدُّيُونَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ لِلْبَائِعِ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي فِي يَدِهِ لَهُمْ . وَقِيلَ : إنَّ الْبَائِعَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ الَّذِي عَلَيْهِمْ مِمَّا لَهُمْ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْذَانِ حَاكِمٍ وَهَذَا أَصَحُّ ؛ فَإِنَّ الْمَعْلُومَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ مَالِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْحَاكِمِ كَمَا أَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلضَّيْفِ الْمَظْلُومِ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ زَرْعِ الْمُضِيفِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَكَمَا أَمَرَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَأْخُذَ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ بِلَا إذْنِ الزَّوْجِ ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ الْحَقُّ مَجْحُودًا . فَقَدْ قَالَ : { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ قَدْ بَاعَ غَيْرَهُ سِلْعَةً بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَ مِنْهُ الثَّمَنَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مِنْ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِوَقْفِ الْعُقُودِ حَتَّى تُوفِيَ التَّبَرُّعَاتُ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَيَقُولُونَ مَنْ بِيَدِهِ مَالُ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٌ أَوْ عَارِيَةٌ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ عَيْنَ مَالِكِهِ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي

حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَلَكِنْ لِصَاحِبِهِ إذَا ظَهَرَ أَنْ لَا يَنْفُذَ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْمُعَاوَضَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ إذَا عَرَفَ أَنْ يَرُدَّهَا ؛ بَلْ تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ شَرْعًا لِلْحَاجَةِ كَمَا لَوْ مَاتَ رَجُلٌ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ وَصِيٌّ وَلَا وَارِثٌ وَلَا حَاكِمٌ فَإِنَّ رُفْقَتَهُ فِي السَّفَرِ تَثْبُتُ لَهُمْ الْوِلَايَةُ عَلَى مَالِهِ فَيَحْفَظُونَهُ وَيَبِيعُونَ مَا يَرَوْنَ بَيْعَهُ مَصْلَحَةً وَيَنْفُذُ هَذَا الْبَيْعُ وَلَهُمْ أَنَّ يَقْبِضُوا مَا بَاعُوهُ وَلَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ ؛ بَلْ هُوَ يُعْرَفُ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ لِلْحَاجَةِ كَمَا ثَبَتَ لَهُمْ وِلَايَةُ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ مِنْ مَالِهِ وَدَفْنِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ . وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْبَائِعُ الَّذِي بَاعَ مَا اشْتَرَاهُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي إذَا قِيلَ : الْبَيْعُ فَاسِدٌ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي رَدَّ مَا قَبَضَ مِنْهُ وَعَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَ مِنْ الثَّمَنِ فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدَّ الْمُشْتَرِي مَا قَبَضَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَظِيرَ ذَلِكَ . وَقَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ وَأَقَلَّ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ مِثْلُهُ . وَكَذَلِكَ مَا اشْتَرَاهُ : تِلْكَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ رَدَّهَا إلَى صَاحِبِهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ رَدُّ الزِّيَادَةِ إلَى صَاحِبِهَا فَقَابِضُ الزِّيَادَةِ الظلمية إذَا لَمْ يَرُدَّهَا كَانَ لِلْمَظْلُومِ

الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ الَّذِي صَارَ بِيَدِ الْبَائِعِ نَظِيرَ ذَلِكَ وَقَابَضَهَا الَّذِي بَاعَ بِهَا مَالَهُ إذَا لَمْ يَرُدَّ مَالَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِهِ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ . وَهَذَا احْتِمَالُ كُلِّ مَنْ تَبَايَعَا بَيْعًا فَاسِدًا وتقابضاه إذَا قِيلَ : أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يُمَلَّكُ فَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ عِنْدَ الْآخَرِ مَا قَبَضَهُ الْآخَرُ مِنْهُ وَلِلْآخَرِ عِنْدَهُ مَا قَبَضَهُ مِنْهُ . فَإِذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ . وَعَلَى هَذَا فَمَا صَارَ بِيَدِ هَذَا الضَّامِنِ الظَّالِمِ مِنْ الزِّيَادَاتِ الظلمية مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْتَرِينَ الْمُخْتَلِطَةِ الَّتِي لَا تَتَمَيَّزُ : إذَا اشْتَرَى بِهَا شَيْئًا وَأَقْبَضَ الْمُشْتَرِينَ مِلْكَ الزِّيَادَةِ وَقَبَضَ مَا اشْتَرَاهُ كَانَ مَا حَصَلَ بِيَدِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِإِزَاءِ مَا قَبَضُوهُ مِنْ الزِّيَادَةِ إلَى مُسْتَحِقِّهَا فَلَا يَكُونُ الشِّرَاءُ مِنْهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ حَرَامًا فَكَيْفَ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُ بِزِيَادَةِ ؛ بِخِلَافِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ تَبَرُّعًا فَهَذَا فِيهِ كَلَامٌ آخَرُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يُعَامِلُ بِالرِّبَا إذَا أَضَافَ غَيْرَهُ . فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : كُلْ فَإِنَّ مَهَنَاهُ لَك وَحِسَابُهُ عَلَيْهِ . وَهَذَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ كَلَامٌ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ . وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أُصُولٌ مُتَعَدِّدَةٌ . مِنْهَا الْمَقْبُوضُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ هَلْ يُمْلَكُ أَوْ لَا يُمْلَكُ ؟ . وَمِنْهَا إذَا تَصَرَّفَ فِي الْعَيْنِ تَصَرُّفًا يَمْنَعُ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا فَهَلْ يَنْتَقِلُ الْحَقُّ إلَى ذِمَّتِهِ ؟ أَوْ هُوَ بَاقٍ فِي مَالِهِ الَّذِي اخْتَلَطَ بِهِ الْعَيْنُ وَاَلَّذِي عَاوَضَ ==

========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب مقتطفات من كتاب العبودية ابن تيمية

  بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على صفوة خلقه وخات...