9--كتاب : مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)
قُلْت : وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَلْفَاظَ اللُّغَاتِ ( مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَالتَّنُّورِ وَكَمَا يُوجَدُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَّحِدَةِ فِي اللُّغَاتِ . وَ مِنْهَا : مُتَنَوِّعٌ كَأَكْثَرِ اللُّغَاتِ وَاخْتِلَافُهَا اخْتِلَافَ تَنَوُّعٍ لَا تَضَادَّ ؛ كَاخْتِلَافِ الِاسْمَيْنِ لِلْمُسَمَّى الْوَاحِدِ . وَكَذَلِكَ مَعَانِي اللُّغَاتِ ؛ فَإِنَّ " الْمَعْنَى الْوَاحِدَ " الَّذِي تَعْلَمُهُ الْأُمَمُ ؛ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ كُلُّ أُمَّةٍ بِلِسَانِهَا ؛ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَاحِدًا بِالنَّوْعِ فِي الْأُمَمِ ؛ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفُ كَمَا يَخْتَلِفُ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ بِالْعَرَبِيَّةِ . وَقَدْ يَكُونُ تَصَوُّرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُتَنَوِّعًا فِي الْأُمَمِ مِثْلَ : أَنْ يَعْلَمَهُ أَحَدُهُمْ بِنَعْتِ وَيُعَبِّرَ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ النَّعْتِ وَتَعْلَمُهُ الْأُمَّةُ الْأُخْرَى بِنَعْتِ آخَرَ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ النَّعْتِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُعَبَّرِ بِهَا عَنْ الْأَشْيَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَى عِلْمِهَا فِي الْجُمْلَةِ " فَتُكْرِي وَخَدَّايَ وَنَسَتْ شَكَّ " وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَتْ أَسْمَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ مَعْنَاهَا مُطَابِقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمَعْنَى اسْمِ اللَّهِ ؛ وَكَذَلِكَ " بيغنير وَبِهَشِمِ " وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلِهَذَا إذَا تَأَمَّلْت الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُتَرْجَمُ بِهَا الْقُرْآنُ - مِنْ الْأَلْفَاظِ الْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ وَغَيْرِهَا - تَجِدْ بَيْنَ الْمَعَانِي نَوْعَ فَرْقٍ وَإِنْ كَانَتْ مُتَّفِقَةً فِي الْأَصْلِ كَمَا أَنَّ اللُّغَتَيْنِ مُتَّفِقَتَانِ فِي الصَّوْتِ وَإِنْ اخْتَلَفَتَا فِي تَأْلِيفِهِ ؛ وَقَدْ تَجِدُ التَّفَاوُتَ بَيْنَهَا أَكْثَرَ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ " الْمُتَكَافِئَةِ " - الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ - كَالصَّارِمِ وَالْمُهَنَّدِ ؛ وَكَالرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَالْمَوْرِ وَالْحَرَكَةِ وَالصِّرَاطِ وَالطَّرِيقِ .
وَتَخْتَلِفُ اللُّغَتَانِ أَيْضًا فِي قَدْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَعُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ ؛ كَمَا تَخْتَلِفُ فِي حَقِيقَتِهِ وَنَوْعِهِ وَتَخْتَلِفُ أَيْضًا فِي كَيْفِيَّتِهِ وَصِفَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . بَلْ النَّاطِقَانِ بِالِاسْمِ الْوَاحِدِ بِاللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ يَتَصَوَّرُ أَحَدُهُمَا مِنْهُ مَا لَمْ يَتَصَوَّرْ الْآخَرُ حَقِيقَتَهُ وَكَمِّيَّتَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ ؛ فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالِاسْمِ الْوَاحِدِ لَا يَتَّحِدُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي قَلْبِ النَّاطِقِينَ ؛ بَلْ وَلَا فِي قَلْبِ النَّاطِقِ الْوَاحِدِ فِي الْوَقْتَيْنِ ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ يَجِبُ اتِّحَادُهُ فِي اللُّغَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ مَا تَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُ لَيْسَ عَلَى حَدِّ مَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ وَمَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ فِيهِ لَيْسَ عَلَى حَدِّ مَا تَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ ؛ لَكِنَّ الِاخْتِلَافَ اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ لَا تَضَادَّ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ مَعَانِيَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ سَوَاءٌ فَفَسَادُهُ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّا لَوْ عَبَّرْنَا عَنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ بِالْعِبْرِيَّةِ وَعَنْ مَعَانِي التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ لَكَانَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ لَيْسَ هُوَ الْآخَرَ بَلْ يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ تَنَوُّعُ مَعَانِي الْكُتُبِ وَاخْتِلَافُهَا اخْتِلَافَ تَنَوُّعٍ أَعْظَمَ مِنْ اخْتِلَافِ حُرُوفِهَا ؛ لِمَا بَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْعِبْرِيَّةِ مِنْ التَّفَاوُتِ ؛ وَكَذَلِكَ مَعَانِي الْبَقَرَةِ لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِي آل عِمْرَانَ . وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ جَعْلُ الْأَمْرِ هُوَ الْخَبَرُ . وَلَا يُنْكَرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُخْتَلِفَاتِ قَدْ تَشْتَرِكُ فِي حَقِيقَةٍ مَا كَمَا أَنَّ اللُّغَاتِ تَشْتَرِكُ فِي حَقِيقَةٍ مَا فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا وَاحِدَةٌ مَعَ تَنَوُّعِهَا : فَكَذَلِكَ اللُّغَاتُ سَوَاءٌ بَلْ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي أَشَدُّ . أَمَّا دَعْوَى كَوْنِ أَحَدِهِمَا صِفَةً حَقِيقِيَّةً وَالْأُخْرَى وَضْعِيَّةً : فَلَيْسَ كَذَلِكَ
وَهَذَا مَوْضِعٌ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي " الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ " وَ " فِي أُصُولِ الدِّينِ " وَ " الْفِقْهِ " وَفِي مَعْرِفَةِ " تَرْجَمَةِ اللُّغَاتِ " . وَأَيْضًا : لَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ بِأَنَّ اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ وَاللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَكُونُ النُّطْقُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاطِقِينَ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَاوُتٌ أَصْلًا فَإِنْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْجَمِيعِ فَكَذَلِكَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ فَإِنَّ اللُّغَاتِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَقَدْ يَحْصُلُ أَصْلُ الْمَقْصُودِ بِالتَّرْجَمَةِ فَكَذَلِكَ الْمَعَانِي : فَإِنَّ التَّرْجَمَةَ تَكُونُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى . وَلِهَذَا سَمَّى الْمُسْلِمُونَ ابْنَ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانَ الْقُرْآنِ وَهُوَ يُتَرْجِمُ اللَّفْظَ.
فَصْلٌ
:
مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ طَرِيقَةَ اتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ " أَهْلِ
السُّنَّةِ " هِيَ الْمُوَصِّلَةُ إلَى الْحَقِّ دُونَ طَرِيقَةِ مَنْ
خَالَفَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين : أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ
الْعِلْمُ وَطَرِيقُهُ هُوَ الدَّلِيلُ وَالْأَنْبِيَاءُ جَاءُوا بِالْإِثْبَاتِ
الْمُفَصَّلِ وَالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ كَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ مُفَصَّلَةً
وَنَفْيِ الْكُفُؤِ عَنْهُ . وَ " الْفَلَاسِفَةُ " يَجِيئُونَ بِالنَّفْيِ
الْمُفَصَّلِ : لَيْسَ بِكَذَا وَلَا كَذَا . فَإِذَا جَاءَ الْإِثْبَاتُ
أَثْبَتُوا وُجُودًا مُجْمَلًا وَاضْطَرَبُوا فِي " أَوَّلِ مَقَامَاتِ
ثُبُوتِهِ " وَهُوَ أَنَّ وُجُودَهُ هُوَ عَيْنُ ذَاتِهِ أَوْ صِفَةٌ
ذَاتِيَّةٌ لَهَا أَوْ عَرَضِيَّةٌ ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعَاتِ
الذِّهْنِيَّةِ اللَّفْظِيَّةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّفْيَ لَا وُجُودَ لَهُ
وَلَا يُعْلَمُ النَّفْيُ وَالْعَدَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالثُّبُوتِ
وَالْوُجُودِ حَتَّى إنَّ طَائِفَةً مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ نَفَوْا الْعِلْمَ
بِالْمَعْدُومِ إلَّا إذَا جُعِلَ شَيْئًا لِأَنَّ الْعِلْمَ - فِيمَا زَعَمُوا -
لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِشَيْءِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَدَمِ
يَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ الْعِلْمِ بِالْمَوْجُودِ فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ "
لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " تَصَوَّرْنَا إلَهًا مَوْجُودًا . وَعَلِمْنَا
عَدَمَ مَا تَصَوَّرْنَاهُ إلَّا عَنْ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا نَنْفِيهِ
لَا بُدَّ أَنْ نَتَصَوَّرَهُ أَوَّلًا ثُمَّ نَنْفِيَهُ وَلَا نَتَصَوَّرَهُ
إلَّا
بَعْدَ تَصَوُّرِ شَيْءٍ مَوْجُودٍ ثُمَّ نَتَصَوَّرَ مَا شَابَهَهُ أَوْ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْ أَجْزَائِهِ كَتَصَوُّرِ بَحْرِ زِئْبَقٍ وَجَبَلِ يَاقُوتٍ وَآلِهَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ : ثُمَّ نَنْفِيَهُ ؛ وَإِلَّا فَتَصَوُّرٌ مَعْدُومٌ مُبْتَدَعٌ لَا يُنَاسِبُ الْمَوْجُودَاتِ بِوَجْهِ لَا يُمْكِنُ الْعَقْلُ إبْدَاعَهُ ؛ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ أَوْ الْعِلْمِيَّةِ كَتَصَوُّرِ الْفَاعِلِ مَا يَفْعَلُهُ قَبْلَ فِعْلِهِ . فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَصَوُّرٌ مَعْدُومٌ ؛ لِيُوجَدَ ؛ كَمَا أَنَّ غَيْرَهُ تَصَوُّرٌ مَعْدُومٌ مُمْكِنٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ يُوجَدُ أَوْ لَا يُوجَدُ فَالْمَعْدُومُ الْفِعْلِيُّ وَغَيْرُ الْفِعْلِيِّ لَا يَبْتَدِعُهُ عَقْلُ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ وُجُودِيَّةٍ كَمَا لَا تُبْدِعُ قُدْرَتُهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ وُجُودِيَّةٍ وَإِنَّمَا الْإِبْدَاعُ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ . وَكَيْفَ يَعْلَمُ ؟ وَكَيْفَ يَفْعَلُ ؟ بَابٌ آخَرُ . فَتَبَيَّنَ بِهَذَا : أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَوْجُودِ وَصِفَاتِهِ هُوَ الْأَصْلُ وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَدَمِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ تَبَعٌ لَهُ وَفَرْعٌ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فَالْعِلْمُ بِالْعَدَمِ لَا فَائِدَةَ لِلْعَالِمِ بِهِ إلَّا لِتَمَامِ الْعِلْمِ بِالْمَوْجُودِ وَتَمَامِ الْمَوْجُودِ فِي نَفْسِهِ ؛ إذْ تَصَوُّرُ " لَا شَيْءَ " لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ الْعَالِمُ صِفَةَ كَمَالٍ لَكِنَّ عِلْمَهُ بِانْتِفَاءِ النَّقَائِصِ مَثَلًا عَنْ الْمَوْجُودِ عِلْمٌ بِكَمَالِهِ . وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِنَفْيِ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ عِلْمٌ بِوَحْدَانِيِّتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ الْكَمَالِ وَكَذَلِكَ تَصَوُّرُ مَا يُرَادُ فِعْلُهُ مُفْضٍ إلَى وُجُودِ الْفِعْلِ وَتَصَوُّرُ مَا يُرَادُ تَرْكُهُ مُفْضٍ إلَى التَّرْكِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الشَّرِّ الَّذِي يَكْمُلُ الْمَوْجُودُ بِعَدَمِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْته فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ يُقَالُ مِثْلُهُ فِي الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ مُتَوَجِّهَةٌ إلَى الْمَوْجُودِ بِنَفَسِهِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ وَمُتَوَجِّهَةٌ إلَى الْعَدَمِ الَّذِي هُوَ التَّرْكُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ عَنْ الْمَقْصُودِ الْمَوْجُودِ .
سُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
قَالَ السَّائِلُ : الْمَسْئُولُ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَالسَّادَةِ
الْأَعْلَامِ - أَحْسَنَ اللَّهُ ثَوَابَهُمْ وَأَكْرَمَ نُزُلَهُمْ وَمَآبَهُمْ -
أَنْ يَرْفَعُوا حِجَابَ الْإِجْمَالِ وَيَكْشِفُوا قِنَاعَ الْإِشْكَالِ عَنْ
" مُقَدِّمَةِ " جَمِيعِ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ مُتَّفِقُونَ
عَلَيْهَا وَمُسْتَنِدُونَ فِي آرَائِهِمْ إلَيْهَا ؛ حَاشَا مُكَابِرًا مِنْهُمْ
مُعَانِدًا وَكَافِرًا بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ جَاحِدًا . وَهِيَ أَنْ يُقَالَ :
" هَذِهِ صِفَةُ كَمَالٍ فَيَجِبُ لِلَّهِ إثْبَاتُهَا وَهَذِهِ صِفَةُ
نَقْصٍ فَيَتَعَيَّنُ انْتِفَاؤُهَا " لَكِنَّهُمْ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِهَا
فِي أَفْرَادِ الصِّفَاتِ مُتَنَازِعُونَ وَفِي تَعْيِينِ الصِّفَاتِ لِأَجْلِ
الْقِسْمَيْنِ مُخْتَلِفُونَ . " فَأَهْلُ السُّنَّةِ " يَقُولُونَ :
إثْبَاتُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ
وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ " الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ "
كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا وَ "
الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ " - كَالضَّحِكِ وَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ -
صِفَاتُ كَمَالٍ وَأَضْدَادُهَا صِفَاتُ نُقْصَانٍ .
" وَالْفَلَاسِفَةُ " تَقُولُ : اتِّصَافُهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ إنْ أَوْجَبَ لَهُ كَمَالًا فَقَدْ اسْتَكْمَلَ بِغَيْرِهِ فَيَكُونُ نَاقِصًا بِذَاتِهِ وَإِنْ أَوْجَبَ لَهُ نَقْصًا لَمْ يَجُزْ اتِّصَافُهُ بِهَا . " وَالْمُعْتَزِلَةُ " يَقُولُونَ : لَوْ قَامَتْ بِذَاتِهِ صِفَاتٌ وُجُودِيَّةٌ لَكَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهَا وَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ الرَّبُّ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ . وَالْجِسْمُ مُرَكَّبٌ وَالْمُرَكَّبُ مُمْكِنٌ مُحْتَاجٌ وَذَلِكَ عَيْنُ النَّقْصِ . وَيَقُولُونَ أَيْضًا : لَوْ قَدَّرَ عَلَى الْعِبَادِ أَعْمَالَهُمْ وَعَاقَبَهُمْ عَلَيْهَا : كَانَ ظَالِمًا وَذَلِكَ نَقْصٌ . وَخُصُومُهُمْ يَقُولُونَ : لَوْ كَانَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ لَكَانَ نَاقِصًا . " والْكُلَّابِيَة وَمَنْ تَبِعَهُمْ " يَنْفُونَ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ وَيَقُولُونَ : لَوْ قَامَتْ بِهِ لَكَانَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ . وَالْحَادِثُ إنْ أَوْجَبَ لَهُ كَمَالًا فَقَدْ عَدِمَهُ قَبْلَهُ وَهُوَ نَقْصٌ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ لَهُ كَمَالًا لَمْ يَجُزْ وَصْفُهُ بِهِ . " وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ " يَنْفُونَ صِفَاتِهِ الْخَبَرِيَّةَ لِاسْتِلْزَامِهَا التَّرْكِيبَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ . وَهَكَذَا نَفْيُهُمْ أَيْضًا لِمَحَبَّتِهِ لِأَنَّهَا مُنَاسِبَةٌ بَيْنَ الْمُحِبِّ وَالْمَحْبُوبِ وَمُنَاسَبَةُ الرَّبِّ لِلْخَلْقِ نَقْصٌ : وَكَذَا رَحْمَتُهُ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ رِقَّةٌ تَكُونُ فِي الرَّاحِمِ وَهِيَ ضَعْفٌ وَخَوَرٌ فِي الطَّبِيعَةِ وَتَأَلُّمٌ عَلَى الْمَرْحُومِ وَهُوَ نَقْصٌ . وَكَذَا غَضَبُهُ لِأَنَّ الْغَضَبَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ طَلَبًا لِلِانْتِقَامِ . وَكَذَا نَفْيُهُمْ لِضَحِكِهِ وَتَعَجُّبِهِ لِأَنَّ الضَّحِكَ خِفَّةُ رُوحٍ تَكُونُ لِتَجَدُّدِ مَا يَسُرُّ وَانْدِفَاعِ مَا يَضُرُّ . وَالتَّعَجُّبُ اسْتِعْظَامٌ لِلْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ .
وَ " مُنْكِرُو النُّبُوَّاتِ " يَقُولُونَ : لَيْسَ الْخَلْقُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا كَمَا أَنَّ أَطْرَافَ النَّاسِ لَيْسُوا أَهْلًا أَنْ يُرْسِلَ السُّلْطَانُ إلَيْهِمْ رَسُولًا . وَ " الْمُشْرِكُونَ " يَقُولُونَ : عَظَمَةُ الرَّبِّ وَجَلَالُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُتَقَرَّبَ إلَيْهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ وَحِجَابٍ فَالتَّقَرُّبُ إلَيْهِ ابْتِدَاءٌ مِنْ غَيْرِ شِفَاءٍ وَوَسَائِطُ غَضٍّ مِنْ جَنَابِهِ الرَّفِيعِ . هَذَا وَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ " الْمُقَدِّمَةِ " لَا يَقُولُونَ بِمُقْتَضَاهَا وَلَا يَطْرُدُونَهَا فَلَوْ قِيلَ لَهُمْ : أَيُّمَا أَكْمَلُ ؟ ذَاتٌ تُوصَفُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِدْرَاكَاتِ : مِنْ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ أَمْ ذَاتٌ لَا تُوصَفُ بِهَا كُلِّهَا ؟ لَقَالُوا الْأُولَى أَكْمَلُ وَلَمْ يَصِفُوا بِهَا كُلِّهَا الْخَالِقَ . وَ ( بِالْجُمْلَةِ فَالْكَمَالُ وَالنَّقْصُ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ وَالْمَعَانِي الْإِضَافِيَّةِ فَقَدْ تَكُونُ الصِّفَةُ كَمَالًا لِذَاتٍ وَنَقْصًا لِأُخْرَى وَهَذَا نَحْوُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ : كَمَالٌ لِلْمَخْلُوقِ نَقْصٌ لِلْخَالِقِ وَكَذَا التَّعَاظُمُ وَالتَّكَبُّرُ وَالثَّنَاءُ عَلَى النَّفْسِ : كَمَالٌ لِلْخَالِقِ نَقْصٌ لِلْمَخْلُوقِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَعَلَّ مَا تَذْكُرُونَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ إنَّمَا يَكُونُ كَمَالًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّاهِدِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَمَالًا لِلْغَائِبِ كَمَا بُيِّنَ ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ تَبَايُنِ الذَّاتَيْنِ . وَإِنْ قُلْتُمْ : نَحْنُ نَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ مُتَعَلَّقِ الصِّفَةِ وَنَنْظُرُ فِيهَا هَلْ هِيَ كَمَالٌ أَوْ نَقْصٌ ؟ فَلِذَلِكَ نُحِيلُ الْحُكْمَ عَلَيْهَا بِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ كَمَالًا لِذَاتٍ نَقْصًا لِأُخْرَى عَلَى مَا ذَكَرَ .
وَهَذَا
مِنْ الْعَجَبِ أَنَّ " مُقَدِّمَةً " وَقَعَ عَلَيْهَا الْإِجْمَاعُ
هِيَ مَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ وَالنِّزَاعِ فَرَضِيَ اللَّهُ عَمَّنْ بَيَّنَ لَنَا
بَيَانًا يَشْفِي الْعَلِيلَ وَيَجْمَعُ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ وَإِيضَاحِ
الدَّلِيلِ إنَّهُ تَعَالَى سَمِيعُ الدُّعَاءِ وَأَهْلُ الرَّجَاءِ وَهُوَ
حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى " مُقَدِّمَتَيْنِ
" . ( إحْدَاهُمَا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْكَمَالَ ثَابِتٌ لِلَّهِ بَلْ
الثَّابِتُ لَهُ هُوَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ مِنْ الأكملية بِحَيْثُ لَا يَكُونُ
وُجُودُ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ إلَّا وَهُوَ ثَابِتٌ لِلرَّبِّ تَعَالَى
يَسْتَحِقُّهُ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَثُبُوتُ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ نَفْيَ
نَقِيضِهِ ؛ فَثُبُوتُ الْحَيَاةِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَوْتِ وَثُبُوتُ
الْعِلْمِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْجَهْلِ وَثُبُوتُ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ
نَفْيَ الْعَجْزِ وَأَنَّ هَذَا الْكَمَالَ ثَابِتٌ لَهُ بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ
الْعَقْلِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ مَعَ دَلَالَةِ السَّمْعِ عَلَى
ذَلِكَ . وَدَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْأُمُورِ ( نَوْعَانِ : ( أَحَدُهُمَا
خَبَرُ اللَّهِ الصَّادِقُ فَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ
كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ . وَ ( الثَّانِي دَلَالَةُ الْقُرْآنِ بِضَرْبِ
الْأَمْثَالِ وَبَيَانِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى
الْمَطْلُوبِ . فَهَذِهِ دَلَالَةٌ شَرْعِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ فَهِيَ "
شَرْعِيَّةٌ " لِأَنَّ الشَّرْعَ دَلَّ عَلَيْهَا وَأَرْشَدَ إلَيْهَا ؛ وَ
" عَقْلِيَّةٌ " لِأَنَّهَا تُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِالْعَقْلِ . وَلَا
يُقَالُ : إنَّهَا لَمْ تُعْلَمْ إلَّا بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ .
وَإِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِالشَّيْءِ وَدَلَّ عَلَيْهِ بِالدَّلَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ : صَارَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِخَبَرِهِ . وَمَدْلُولًا عَلَيْهِ بِدَلِيلِهِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي يُعْلَمُ بِهِ فَيَصِيرُ ثَابِتًا بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ وَكِلَاهُمَا دَاخِلٌ فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ الَّتِي تُسَمَّى " الدَّلَالَةَ الشَّرْعِيَّةَ " . وَثُبُوتُ " مَعْنَى الْكَمَالِ " قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِعِبَارَاتِ مُتَنَوِّعَةٍ دَالَّة عَلَى مَعَانِي مُتَضَمِّنَةٍ لِهَذَا الْمَعْنَى . فَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ إثْبَاتِ الْحَمْدِ لَهُ وَتَفْصِيلِ مَحَامِدِهِ وَأَنَّ لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى وَإِثْبَاتِ مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : كُلُّهُ دَالٌّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى . وَقَدْ ثَبَتَ لَفْظُ " الْكَامِلِ " فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } أَنَّ " الصَّمَدَ " هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْكَمَالِ وَهُوَ السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ وَالْحَكَمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حُكْمِهِ وَالْغَنِيُّ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي غِنَاهُ وَالْجَبَّارُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي جَبَرُوتِهِ وَالْعَالِمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ وَهُوَ الشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدُدِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَهَذِهِ صِفَةٌ لَا تَنْبَغِي إلَّا لَهُ لَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ وَلَا كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . وَهَكَذَا سَائِرُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ نَازَعَ فِي هَذَا الْمَعْنَى ؛ بَلْ هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ النَّاسِ ؛ بَلْ هُمْ مَفْطُورُونَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ كَمَا أَنَّهُمْ مَفْطُورُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْخَالِقِ ؛ فَإِنَّهُمْ مَفْطُورُونَ عَلَى أَنَّهُ أَجَلُّ وَأَكْبَرُ وَأَعْلَى وَأَعْلَمُ وَأَعْظَمُ وَأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْخَالِقِ وَكَمَالِهِ يَكُونُ فِطْرِيًّا ضَرُورِيًّا فِي حَقِّ مَنْ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُ وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ تَقُومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْكَثِيرَةُ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْفِطْرَةِ وَأَحْوَالٍ تَعْرِضُ لَهَا . وَأَمَّا لَفْظُ " الْكَامِلِ " : فَقَدْ نَقَلَ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ الجبائي أَنَّهُ كَانَ يَمْنَعُ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ كَامِلًا وَيَقُولَ : الْكَامِلُ الَّذِي لَهُ أَبْعَاضٌ مُجْتَمِعَةٌ . وَهَذَا النِّزَاعُ إنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ فَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ . وَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْكَمَالِ لَهُ وَنَفْيَ النَّقَائِصِ عَنْهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ . وَزَعَمَتْ " طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ " كَأَبِي الْمَعَالِي وَالرَّازِي والآمدي وَغَيْرِهِمْ : أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالسَّمْعِ الَّذِي هُوَ " الْإِجْمَاعُ " وَأَنَّ نَفْيَ الْآفَاتِ وَالنَّقَائِصِ عَنْهُ لَمْ يُعْلَمْ إلَّا بِالْإِجْمَاعِ وَجَعَلُوا الطَّرِيقَ الَّتِي بِهَا نَفَوْا عَنْهُ مَا نَفَوْهُ إنَّمَا هُوَ نَفْيُ مُسَمَّى الْجِسْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ وَخَالَفُوا مَا كَانَ عَلَيْهِ شُيُوخُ مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية ؛ كَالْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي إسْحَاقَ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي إثْبَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ لَهُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ النَّقَائِصِ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ . وَلِهَذَا صَارَ هَؤُلَاءِ يَعْتَمِدُونَ فِي إثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَى مُجَرَّدِ السَّمْعِ وَيَقُولُونَ : إذَا كُنَّا نُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِنَاءً عَلَى نَفْيِ الْآفَاتِ وَنَفْيُ الْآفَاتِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ وَالْإِجْمَاعُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِأَدِلَّةِ سَمْعِيَّةٍ مِنْ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ قَالُوا : وَالنُّصُوصُ الْمُثْبِتَةُ لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ : أَعْظَمُ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً فَالِاعْتِمَادُ فِي إثْبَاتِهَا ابْتِدَاءً عَلَى الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَاَلَّذِي اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ فِي النَّفْيِ مِنْ نَفْيِ مُسَمَّى التَّحَيُّزِ وَنَحْوِهِ - مَعَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ لَمْ يَأْتِ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ ؛ وَلَا أَثَرٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - هُوَ مُتَنَاقِضٌ فِي الْعَقْلِ لَا يَسْتَقِيمُ فِي الْعَقْلِ ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يَنْفِي شَيْئًا خَوْفًا مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ بِهِ جِسْمًا إلَّا قِيلَ لَهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ نَظِيرَ مَا قَالَهُ فِيمَا نَفَاهُ ؛ وَقِيلَ لَهُ فِيمَا نَفَاهُ نَظِيرَ مَا يَقُولُهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ ؛ كَالْمُعْتَزِلَةِ لَمَّا أَثْبَتُوا أَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ؛ وَقَالُوا : إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالصِّفَاتِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَعْرَاضٌ لَا يُوصَفُ بِهَا إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ ؛ وَلَا يُعْقَلُ مَوْصُوفٌ إلَّا جِسْمٌ . فَقِيلَ لَهُمْ : فَأَنْتُمْ وَصَفْتُمُوهُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَلَا يُوصَفُ شَيْءٌ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ حَيٌّ قَدِيرٌ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ وَلَا يُعْقَلُ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَكُمْ عَنْ الْأَسْمَاءِ كَانَ جَوَابَنَا عَنْ الصِّفَاتِ فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ بَلْ يُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَا لَيْسَ بِجِسْمِ جَازَ أَنْ يُقَالَ : فَكَذَلِكَ يُوصَفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مَا لَيْسَ بِجِسْمِ وَأَنْ يُقَالَ : هَذِهِ الصِّفَاتُ لَيْسَتْ أَعْرَاضًا وَإِنْ قِيلَ : لَفْظُ الْجِسْمِ " مُجْمَلٌ " أَوْ " مُشْتَرِكٌ " وَأَنَّ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَا يَجِب أَنْ يُمَاثِلَهُ غَيْرُهُ وَلَا أَنْ يَثْبُتَ لَهُ خَصَائِصُ غَيْرِهِ ؛ جَازَ أَنْ يُقَالَ : الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يَجِب أَنْ يُمَاثِلَهُ غَيْرُهُ وَلَا أَنْ يَثْبُتَ لَهُ خَصَائِصُ غَيْرِهِ .
وَكَذَلِكَ
إذَا قَالَ نفاة الصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالشَّرْعِ أَوْ بِالْعَقْلِ مَعَ
الشَّرْعِ كَالرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالْحُبِّ وَالْفَرَحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ :
هَذِهِ الصِّفَاتُ لَا تُعْقَلُ إلَّا لِجِسْمِ . قِيلَ لَهُمْ هَذِهِ
بِمَنْزِلَةِ الْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ : وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ فَمَا لَزِمَ
فِي أَحَدِهِمَا لَزِمَ فِي الْآخَرِ مِثْلُهُ . وَهَكَذَا نفاة الصِّفَات مِنْ
الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ إذَا قَالُوا ثُبُوتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَسْتَلْزِمُ
كَثْرَةَ الْمَعَانِي فِيهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ جِسْمًا أَوْ
مُرَكَّبًا قِيلَ لَهُمْ : هَذَا كَمَا أَثْبَتُّمْ أَنَّهُ مَوْجُودٌ وَاجِبٌ
قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ عَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَعَقْلٌ وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ
وَلَذَّةٌ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وَعِشْقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَإِنْ قَالُوا :
هَذِهِ تَرْجِعُ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ قِيلَ لَهُمْ : إنْ كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا
بَطَلَ الْفَرْقُ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ فِي تِلْكَ مِثْلُ
هَذِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ صِفَةٍ وَصِفَةٍ . وَالْكَلَامُ عَلَى ثُبُوتِ
الصِّفَاتِ وَبُطْلَانِ أَقْوَالِ الْنُّفَاةِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ ثُبُوتَ الْكَمَالِ
لِلَّهِ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ وَأَنَّ نَقِيضَ ذَلِكَ مُنْتَفٍ عَنْهُ فَإِنَّ
الِاعْتِمَادَ فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ مُسْتَقِيمٌ
فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ ؛ دُونَ تِلْكَ خِلَافَ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ
الْمُتَكَلِّمُونَ .
وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ : يُوَافِقُونَ عَلَى أَنَّ
الْكَمَالَ لِلَّهِ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالْفَلَاسِفَةُ تُسَمِّيهِ التَّمَامَ
وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ :
مِنْهَا أَنْ يُقَالَ : قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ قَدِيمٌ بِنَفْسِهِ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ قَيُّومٌ بِنَفْسِهِ خَالِقٌ بِنَفْسِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ . وَالطَّرِيقَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي وُجُوبِ الْوُجُودِ تُقَالُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي . فَإِذَا قِيلَ : الْوُجُودُ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْوَاجِبِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ : الْمَوْجُودُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا حَادِثٌ وَالْحَادِثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْقَدِيمِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَالْمَوْجُودُ إمَّا غَنِيٌّ وَإِمَّا فَقِيرٌ وَالْفَقِيرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْغَنِيِّ فَلَزِمَ وُجُودُ الْغَنِيِّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَالْمَوْجُودُ إمَّا قَيُّومٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا غَيْرُ قَيُّومٍ وَغَيْرُ الْقَيُّومِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْقَيُّومِ ؛ فَلَزِمَ ثُبُوتُ الْقَيُّومِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَالْمَوْجُودُ إمَّا مَخْلُوقٌ وَإِمَّا غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْمَخْلُوقُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ ؛ فَلَزِمَ ثُبُوتُ الْخَالِقِ غَيْرِ الْمَخْلُوقِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ . ثُمَّ يُقَالُ : هَذَا الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ الْخَالِقُ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ لِلْمُمْكِنِ الْوُجُودَ مُمْكِنًا لَهُ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ . وَالثَّانِي مُمْتَنِعٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُمْكِنٌ لِلْمَوْجُودِ الْمُحْدَثِ الْفَقِيرِ الْمُمْكِنِ ؛ فَلِأَنْ يُمْكِنَ لِلْوَاجِبِ الْغَنِيِّ الْقَدِيمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا مَوْجُودٌ . وَالْكَلَامُ فِي الْكَمَالِ الْمُمْكِنِ الْوُجُودَ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ . فَإِذَا كَانَ الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ الْوُجُودَ مُمْكِنًا لِلْمَفْضُولِ فَلِأَنْ يُمْكِنَ لِلْفَاضِلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مُمْكِنًا لِمَا هُوَ فِي وُجُودِهِ نَاقِصٌ فَلِأَنْ يُمْكِنَ لِمَا هُوَ
فِي وُجُودِهِ أَكْمَلُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَا سِيَّمَا وَذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَمْتَنِعُ اخْتِصَاصُ الْمَفْضُولِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِكَمَالِ لَا يَثْبُتُ لِلْأَفْضَلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ مَا قَدْ ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَفْضُولِ فَالْفَاضِلُ أَحَقُّ بِهِ ؛ فَلِأَنْ يَثْبُتَ لِلْفَاضِلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْكَمَالَ إنَّمَا اسْتَفَادَهُ الْمَخْلُوقُ مِنْ الْخَالِقِ وَاَلَّذِي جَعَلَ غَيْرَهُ كَامِلًا هُوَ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ مِنْهُ ؛ فَاَلَّذِي جَعَلَ غَيْرَهُ قَادِرًا أَوْلَى بِالْقُدْرَةِ وَاَلَّذِي عَلِمَ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالْعِلْمِ وَاَلَّذِي أَحْيَا غَيْرَهُ أَوْلَى بِالْحَيَاةِ . وَالْفَلَاسِفَةُ تُوَافِقُ عَلَى هَذَا وَيَقُولُونَ : كُلُّ كَمَالٍ لِلْمَعْلُولِ فَهُوَ مِنْ آثَارِ الْعِلَّةِ وَالْعِلَّةُ أَوْلَى بِهِ . وَإِذَا ثَبَتَ إمْكَانُ ذَلِكَ لَهُ ؛ فَمَا جَازَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْكَمَالِ الْمُمْكِنِ الْوُجُودَ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لَهُ إلَّا بِذَلِكَ الْغَيْرِ وَذَلِكَ الْغَيْرُ إنْ كَانَ مَخْلُوقًا لَهُ لَزِمَ " الدُّورُ القبلي " الْمُمْتَنِعُ ؛ فَإِنَّ مَا فِي ذَلِكَ الْغَيْرِ مِنْ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ فَهِيَ مِنْهُ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الشَّيْئَيْنِ فَاعِلًا لِلْآخَرِ وَهَذَا هُوَ " الدُّورُ القبلي " فَإِنَّ الشَّيْءَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِنَفْسِهِ فَلَأَنْ يَمْتَنِعَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِفَاعِلِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الشَّيْئَيْنِ فَاعِلًا لِمَا بِهِ يَصِيرُ الْآخَرُ فَاعِلًا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الشَّيْئَيْنِ مُعْطِيًا لِلْآخَرِ كَمَالِهِ ؛ فَإِنَّ مُعْطِيَ الْكَمَالِ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَكْمَلَ مِنْ الْآخَرِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ فَإِنَّ كَوْنَ هَذَا أَكْمَلَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ هَذَا وَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ هَذَا وَفَضْلُ أَحَدِهِمَا يَمْنَعُ مُسَاوَاةَ الْآخَرِ لَهُ فَلِأَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ الْآخَرِ أَفْضَلَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ كَمَالِهِ مَوْقُوفًا عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ : لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَمَالِهِ مَوْقُوفًا عَلَى فِعْلِهِ لِذَلِكَ الْغَيْرِ وَعَلَى مُعَاوَنَةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فِي كَمَالِهِ وَمُعَاوَنَةُ ذَلِكَ الْغَيْرِ فِي كَمَالِهِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ ؛ إذْ فِعْلُ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَأَفْعَالُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فِعْلِ الْمُبْدِعِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ كَمَالِهِ مَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِهِ . فَإِذَا قِيلَ : كَمَالِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَخْلُوقِهِ : لَزِمَ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ عَلَى مَخْلُوقِهِ وَمَا كَانَ ثُبُوتُهُ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِهِ كَانَ بَاطِلًا مِنْ نَفْسِهِ . وَأَيْضًا فَذَلِكَ الْغَيْرُ كُلُّ كَمَالٍ لَهُ فَمِنْهُ وَهُوَ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ مِنْهُ وَلَوْ قِيلَ يَتَوَقَّفُ كَمَالِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُتَوَقِّفًا إلَّا عَلَى مَا هُوَ مِنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ . وَإِنْ قِيلَ : ذَلِكَ الْغَيْرُ لَيْسَ مَخْلُوقًا بَلْ وَاجِبًا آخَرَ قَدِيمًا بِنَفْسِهِ . فَيُقَالُ : إنْ كَانَ أَحَدُ هَذَيْنِ هُوَ الْمُعْطِي دُونَ الْعَكْسِ فَهُوَ الرَّبُّ وَالْآخَرُ عَبْدُهُ . وَإِنْ قِيلَ : بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا يُعْطِي لِلْآخَرِ الْكَمَالَ : لَزِمَ " الدُّورُ فِي التَّأْثِيرِ " وَهُوَ بَاطِلٌ وَهُوَ مِنْ " الدُّورِ القبلي " لَا مِنْ " الدُّورِ الْمَعِي الِاقْتِرَانِيِّ " فَلَا يَكُونُ هَذَا كَامِلًا حَتَّى يَجْعَلَهُ الْآخَرُ كَامِلًا وَالْآخَرُ لَا يَجْعَلُهُ كَامِلًا حَتَّى يَكُونَ فِي نَفْسِهِ كَامِلًا ؛ لِأَنَّ جَاعِلَ الْكَامِلِ كَامِلًا أَحَقُّ بِالْكَمَالِ وَلَا يَكُونُ الْآخَرُ كَامِلًا حَتَّى يَجْعَلَهُ كَامِلًا فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَامِلًا بِالضَّرُورَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ لَا يَكُونُ كَامِلًا حَتَّى يَجْعَلَ نَفْسَهُ كَامِلًا وَلَا يَجْعَلَ نَفْسَهُ كَامِلًا حَتَّى يَكُونَ كَامِلًا لَكَانَ مُمْتَنِعًا ؛ فَكَيْفَ إذَا قِيلَ حَتَّى يَجْعَلَ مَا يَجْعَلُهُ كَامِلًا كَامِلًا . وَإِنْ قِيلَ : كُلُّ وَاحِدٍ لَهُ آخَرُ يُكَمِّلُهُ إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ : لَزِمَ " التَّسَلْسُلُ
فِي الْمُؤَثِّرَاتِ " وَهُوَ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ . فَإِنَّ تَقْدِيرَ مُؤَثِّرَاتٍ لَا تَتَنَاهَى : لَيْسَ فِيهَا مُؤَثِّرٌ بِنَفْسِهِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا وُجُودَ جَمِيعِهَا وَلَا وُجُودَ اجْتِمَاعِهَا وَالْمُبْدِعُ لِلْمَوْجُودَاتِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا بِالضَّرُورَةِ . فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا كَامِلٌ فَكَمَالُهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ مِنْ آخَرَ وَهَلُمَّ جَرَّا ؛ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ لِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ كَمَالٌ ؛ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْأَوَّلَ كَامِلٌ لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَإِذَا كَانَ كَمَالِهِ بِنَفْسِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِهِ : كَانَ الْكَمَالُ لَهُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ وَامْتَنَعَ تَخَلُّفُ شَيْءٍ مِنْ الْكَمَالِ الْمُمْكِنِ عَنْهُ ؛ بَلْ مَا جَازَ لَهُ مِنْ الْكَمَالِ وَجَبَ لَهُ كَمَا أَقَرَّ بِذَلِكَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ بَلْ هَذَا ثَابِتٌ فِي مَفْعُولَاتِهِ فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ مُمْتَنِعًا بِنَفْسِهِ أَوْ مُمْتَنِعًا لِغَيْرِهِ ؛ فَمَا ثَمَّ إلَّا مَوْجُودٌ وَاجِبٌ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِغَيْرِهِ أَوْ مَعْدُومٌ إمَّا لِنَفْسِهِ وَإِمَّا لِغَيْرِهِ وَالْمُمْكِنُ إنْ حَصَلَ مُقْتَضِيهِ التَّامُّ : وَجَبَ بِغَيْرِهِ وَإِلَّا كَانَ مُمْتَنِعًا لِغَيْرِهِ ؛ وَالْمُمْكِنُ بِنَفْسِهِ : إمَّا وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ وَإِمَّا مُمْتَنِعٌ لِغَيْرِهِ . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ مِنْ غَيْرِهِ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُسَاوِيهِ فِي الْكَمَالِ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } ؟ وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْخَلْقَ صِفَةُ كَمَالٍ وَأَنَّ الَّذِي يَخْلُقُ أَفْضَلُ مِنْ الَّذِي لَا يَخْلُقُ وَأَنَّ مَنْ عَدَلَ هَذَا بِهَذَا فَقَدْ ظَلَمَ . وَقَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ
مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّ كَوْنَهُ مَمْلُوكًا عَاجِزًا صِفَةُ نَقْصٍ وَأَنَّ الْقُدْرَةَ وَالْمِلْكَ وَالْإِحْسَانَ صِفَةُ كَمَالٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ هَذَا مِثْلُ هَذَا وَهَذَا لِلَّهِ وَ ذَاكَ لِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَهَذَا مَثَلٌ آخَرُ . فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الْعَاجِزِ عَنْ الْكَلَامِ وَعَنْ الْفِعْلِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ . وَالْآخَرُ الْمُتَكَلِّمُ الْآمِرُ بِالْعَدْلِ الَّذِي هُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَهُوَ عَادِلٌ فِي أَمْرِهِ مُسْتَقِيمٌ فِي فِعْلِهِ . فَبَيَّنَ أَنَّ التَّفْضِيلَ بِالْكَلَامِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْعَدْلِ وَالْعَمَلِ الْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْكَلَامِ وَالْعَمَلِ قَدْ يَكُونُ مَحْمُودًا وَقَدْ يَكُونُ مَذْمُومًا . فَالْمَحْمُودُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْحَمْدَ فَلَا يَسْتَوِي هَذَا وَالْعَاجِزُ عَنْ الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ . وَقَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . يَقُولُ تَعَالَى : إذَا كُنْتُمْ أَنْتُمْ لَا تَرْضَوْنَ بِأَنَّ الْمَمْلُوكَ يُشَارِكُ مَالِكَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النَّقْصِ وَالظُّلْمِ فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ ذَلِكَ لِي وَأَنَا أَحَقُّ بِالْكَمَالِ وَالْغِنَى مِنْكُمْ ؟ .
وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ تَعَالَى أَحَقُّ بِكُلِّ كَمَالٍ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } { يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } { لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ } حَيْثُ كَانُوا يَقُولُونَ : الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمْ بِنْتٌ فَيَعُدُّونَ هَذَا نَقْصًا وَعَيْبًا . وَالرَّبُّ تَعَالَى أَحَقُّ بِتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ مِنْكُمْ ؛ فَإِنَّ لَهُ " الْمَثَلَ الْأَعْلَى " فَكُلُّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ : فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِثُبُوتِهِ مِنْهُ إذَا كَانَ مُجَرَّدًا عَنْ النَّقْصِ وَكُلُّ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ مِنْ نَقْصٍ وَعَيْبٍ : فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَالِمَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } { وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ } { وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْبَصِيرَ أَكْمَلُ وَالنُّورَ أَكْمَلُ وَالظِّلَّ أَكْمَلُ ؛ وَحِينَئِذٍ فَالْمُتَّصِفُ بِهِ أَوْلَى . { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ } فَدَلَّ
ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَدَمَ التَّكَلُّمِ وَالْهِدَايَةِ نَقْصٌ وَأَنَّ الَّذِي يَتَكَلَّمُ وَيَهْدِي : أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَهْدِي وَالرَّبُّ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطْرِ أَنَّ الَّذِي يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ مِمَّنْ لَا يَهْتَدِي إلَّا أَنْ يَهْدِيَهُ غَيْرُهُ ؛ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْهَادِي بِنَفْسِهِ هُوَ الْكَامِلُ ؛ دُونَ الَّذِي لَا يَهْتَدِي إلَّا بِغَيْرِهِ . وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْهَادِي لِغَيْرِ الْمُهْتَدِي بِنَفْسِهِ فَهُوَ الْأَكْمَلُ وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ الْقَوْلُ وَيَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ : أَكْمَلُ مِنْهُ . وَقَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّمِيعَ الْبَصِيرَ الْغَنِيَّ أَكْمَلُ وَأَنَّ الْمَعْبُودَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ مُتَعَدِّدٌ مِنْ وَصْفِ الْأَصْنَامِ بِسَلْبِ " صِفَاتِ الْكَمَالِ " كَعَدَمِ التَّكَلُّمِ وَالْفِعْلِ وَعَدَمِ الْحَيَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِذَلِكَ مُنْتَقِصٌ مَعِيبٌ كَسَائِرِ الْجَمَادَاتِ وَأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تُسْلَبُ إلَّا عَنْ نَاقِصٍ مَعِيبٍ .
وَأَمَّا " رَبُّ الْخَلْقِ " الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ فَهُوَ أَحَقُّ الْمَوْجُودَاتِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَوِي الْمُتَّصِفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَاَلَّذِي لَا يَتَّصِفُ بِهَا ؛ وَهُوَ يَذْكُرُ أَنَّ الْجَمَادَاتِ فِي الْعَادَةِ لَا تَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ . فَمَنْ جَعَلَ الْوَاجِبَ الْوُجُودِ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ : فَقَدْ جَعَلَهُ مِنْ جِنْسِ الْأَصْنَامِ الْجَامِدَةِ الَّتِي عَابَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَابَ عَابِدِيهَا . وَلِهَذَا كَانَتْ " الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ " مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ شِرْكًا وَعِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ ؛ إذْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَ فِي إلَهِهِمْ أَنَّهُ يَسْمَعُ أَوْ يُبْصِرُ أَوْ يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ النُّصُوصَ لِمُجَرَّدِ تَقْرِيرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ بَلْ ذَكَرَهَا لِبَيَانِ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ فَأَفَادَ ( الْأَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ : وَهُمَا إثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ التَّعْطِيلِ وَبَيَانِ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ . وَالشِّرْكُ فِي الْعَالَمِ أَكْثَرُ مِنْ التَّعْطِيلِ ؛ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إثْبَاتِ " التَّوْحِيدِ " الْمُنَافِي لِلْإِشْرَاكِ إبْطَالُ قَوْلِ أَهْلِ التَّعْطِيلِ ؛ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِثْبَاتِ الْمُبْطِلِ لِقَوْلِ الْمُعَطِّلَةِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إلَّا بِبَيَانِ آخَرَ . وَالْقُرْآنُ يُذْكَرُ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ تَارَةً ؛ كَالرَّدِّ عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَمْثَالِهِ ؛ وَيُذْكَرُ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَهَذَا أَكْثَرُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ . وَمَرَضُ الْإِشْرَاكِ أَكْثَرُ فِي النَّاسِ مِنْ مَرَضِ التَّعْطِيلِ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
أَخْبَرَ أَنَّ لَهُ الْحَمْدَ وَأَنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَأَنَّ لَهُ الْحَمْدَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَحَامِدِ . وَ " الْحَمْدُ نَوْعَانِ " : حَمْدٌ عَلَى إحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ . وَهُوَ مِنْ الشُّكْرِ ؛ وَحَمْدٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ هُوَ بِنَفْسِهِ مِنْ نُعُوتِ كَمَالِهِ وَهَذَا الْحَمْدُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ فِي نَفْسِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَهِيَ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ فَإِنَّ الْأُمُورَ الْعَدَمِيَّةَ الْمَحْضَةَ لَا حَمْدَ فِيهَا وَلَا خَيْرَ وَلَا كَمَالَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا يُحْمَدُ فَإِنَّمَا يُحْمَدُ عَلَى مَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَكُلُّ مَا يُحْمَدُ بِهِ الْخَلْقُ فَهُوَ مِنْ الْخَالِقِ وَاَلَّذِي مِنْهُ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ هُوَ أَحَقُّ بِالْحَمْدِ فَثَبَتَ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْمَحَامِدِ الْكَامِلَةِ وَهُوَ أَحَقُّ مَنْ كُلِّ مَحْمُودٍ بِالْحَمْدِ وَالْكَمَالِ مِنْ كُلِّ كَامِلٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا " الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ " فَنَقُولُ : لَا بُدَّ مِنْ
اعْتِبَارِ أَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْكَمَالُ مُمْكِنَ الْوُجُودِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا عَنْ النَّقْصِ ؛ فَإِنَّ النَّقْصَ
مُمْتَنِعٌ عَلَى اللَّهِ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يُسَمِّي مَا لَيْسَ
بِنَقْصِ نَقْصًا ؛ فَهَذَا يُقَالُ لَهُ إنَّمَا الْوَاجِبُ إثْبَاتُ مَا
أَمْكَنَ ثُبُوتُهُ مِنْ الْكَمَالِ السَّلِيمِ عَنْ النَّقْصِ فَإِذَا سَمَّيْت
أَنْتَ هَذَا نَقْصًا وَقُدِّرَ أَنَّ انْتِفَاءَهُ يَمْتَنِعُ لَمْ يَكُنْ
نَقْصُهُ مِنْ الْكَمَالِ الْمُمْكِنِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عِنْدَ مَنْ سَمَّاهُ
نَقْصًا مِنْ النَّقْصِ الْمُمْكِنِ انْتِفَاؤُهُ . فَإِذَا قِيلَ : خَلْقُ
الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْأَزَلِ صِفَةُ كَمَالِ فَيَجِبُ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ قِيلَ
: وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا أَوْ وَاحِدٍ مِنْهَا يَسْتَلْزِمُ
الْحَوَادِثَ كُلَّهَا ؛ أَوْ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْأَزَلِ مُمْتَنِعٌ .
وَوُجُودُ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ كُلِّهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ
سَوَاءٌ قُدِّرَ ذَلِكَ الْآنَ مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ
يَكُونَ أَزَلِيًّا وَمَا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ الْمُتَعَاقِبَةَ يَمْتَنِعُ
وُجُودُهُ فِي آنٍ وَاحِدٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا فَلَيْسَ هَذَا
مُمْكِنَ الْوُجُودِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ كَمَالًا ؛ لَكِنَّ فِعْلَ
الْحَوَادِثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ أَكْمَلُ مِنْ التَّعْطِيلِ عَنْ فِعْلِهَا
بِحَيْثُ لَا يُحْدِثُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ؛ فَإِنَّ الْفَاعِلَ
الْقَادِرَ عَلَى الْفِعْلِ أَكْمَلُ مِنْ الْفَاعِلِ الْعَاجِزِ عَنْ الْفِعْلِ .
فَإِذَا قِيلَ : لَا يُمْكِنُهُ إحْدَاثُ الْحَوَادِثِ بَلْ مَفْعُولُهُ لَازِمٌ لِذَاتِهِ : كَانَ هَذَا نَقْصًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَادِرِ الَّذِي يَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : جَعْلُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مُتَحَرِّكًا سَاكِنًا مَوْجُودًا مَعْدُومًا صِفَةُ كَمَالِ قِيلَ هَذَا مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : إبْدَاعُ قَدِيمٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ صِفَةُ كَمَالِ . قِيلَ : هَذَا مُمْتَنِعٌ لِنَفْسِهِ فَإِنَّ كَوْنَهُ مُبْدِعًا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ ؛ بَلْ وَاجِبًا بِغَيْرِهِ ؛ فَإِذَا قِيلَ هُوَ وَاجِبٌ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَمْ يُوجَدْ إلَّا بِغَيْرِهِ : كَانَ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْأَفْعَالُ الْقَائِمَةُ وَالْمَفْعُولَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْهُ - إذَا كَانَ اتِّصَافُهُ بِهَا صِفَةَ كَمَالِ فَقَدْ فَاتَتْهُ فِي الْأَزَلِ ؛ وَإِنْ كَانَ صِفَةَ نَقْصٍ فَقَدْ لَزِمَ اتِّصَافُهُ بِالنَّقَائِصِ . قِيلَ : الْأَفْعَالُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا أَزَلِيًّا . وَأَيْضًا : فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذِهِ فِي الْأَزَلِ صِفَةَ كَمَالِ ؛ بَلْ الْكَمَالُ أَنْ تُوجَدَ حَيْثُ اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ وُجُودَهَا . وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَتْ أَزَلِيَّةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ : فِيمَا حَقُّهُ أَنْ يُوجَدَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْأَزَلِ : جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ . فَلِهَذَا قُلْنَا الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ الْوُجُودِ ؛ فَمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مَوْجُودٌ . أَوْ يُقَالَ : هُوَ كَمَالٌ لِلْمَوْجُودِ .
وَأَمَّا الشَّرْطُ الْآخَرُ وَهُوَ قَوْلُنَا : الْكَمَالُ الَّذِي لَا يَتَضَمَّنُ نَقْصًا - عَلَى التَّعْبِيرِ بِالْعِبَارَةِ السَّدِيدَةِ - أَوْ الْكَمَالِ الَّذِي لَا يَتَضَمَّنُ نَقْصًا يُمْكِنُ انْتِفَاؤُهُ - عَلَى عِبَارَةِ مَنْ يَجْعَلُ مَا لَيْسَ بِنَقْصِ نَقْصًا . فَاحْتَرَزَ عَمَّا هُوَ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَالٌ دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ نَقْصٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْخَالِقِ لِاسْتِلْزَامِهِ نَقْصًا - كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَثَلًا . فَإِنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي يَشْتَهِي الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مِنْ الْحَيَوَانِ أَكْمَلُ مِنْ الْمَرِيضِ الَّذِي لَا يَشْتَهِي الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ لِأَنَّ قِوَامَهُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ . فَإِذَا قُدِّرَ غَيْرَ قَابِلٍ لَهُ : كَانَ نَاقِصًا عَنْ الْقَابِلِ لِهَذَا الْكَمَالِ ؛ لَكِنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ حَاجَةَ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ إلَى غَيْرِهِ وَهُوَ مَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْهُ كَالْفَضَلَاتِ وَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ شَيْءٍ فِيهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ شَيْءٍ فِيهِ وَمَا يَتَوَقَّفُ كَمَالِهِ عَلَى غَيْرِهِ أَنْقَصُ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ فِي كَمَالِهِ إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ الْغَنِيَّ عَنْ شَيْءٍ أَعْلَى مِنْ الْغَنِيِّ بِهِ . وَالْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ أَكْمَلُ مِنْ الْغَنِيِّ بِغَيْرِهِ . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الكمالات مَا هُوَ كَمَالٌ لِلْمَخْلُوقِ وَهُوَ نَقْصٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِإِمْكَانِ الْعَدَمِ عَلَيْهِ الْمُنَافِي لِوُجُوبِهِ وقيوميته أَوْ مُسْتَلْزِمًا لِلْحُدُوثِ الْمُنَافِي لِقِدَمِهِ أَوْ مُسْتَلْزِمًا لِفَقْرِهِ الْمُنَافِي لِغِنَاهُ.
فَصْلٌ
:
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا : تَبَيَّنَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ " الرَّسُولُ "
هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْقُولُ وَأَنَّ أَوْلَى النَّاسِ
بِالْحَقِّ أَتْبَعُهُمْ لَهُ وَأَعْظَمُهُمْ لَهُ مُوَافَقَةً " وَهُمْ
سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا " الَّذِينَ أَثْبَتُوا مَا دَلَّ عَلَيْهِ
الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الصِّفَاتِ وَنَزَّهُوهُ عَنْ مُمَاثَلَةِ
الْمَخْلُوقَاتِ . فَإِنَّ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ . وَالسَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ : صِفَاتُ كَمَالٍ مُمْكِنَةٌ بِالضَّرُورَةِ وَلَا
نَقْصَ فِيهَا فَإِنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ
لَا يَتَّصِفُ بِهَا ؛ وَالنَّقْصُ فِي انْتِفَائِهَا لَا فِي ثُبُوتِهَا ؛
وَالْقَابِلُ لِلِاتِّصَافِ بِهَا كَالْحَيَوَانِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ
الِاتِّصَافَ بِهَا كَالْجَمَادَاتِ . وَأَهْلُ الْإِثْبَاتِ يَقُولُونَ للنفاة :
لَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَاتَّصَفَ بِأَضْدَادِهَا مِنْ
الْجَهْلِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمِ . فَقَالَ لَهُمْ الْنُّفَاةِ :
هَذِهِ الصِّفَاتُ مُتَقَابِلَةٌ تُقَابِلُ الْعَدَمَ وَالْمَلَكَةَ لَا تُقَابِلُ
السَّلْبَ وَالْإِيجَابَ والمتقابلان تَقَابُلُ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ إنَّمَا
يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْآخَرِ إذَا كَانَ الْمَحَلُّ
قَابِلًا لَهُمَا كَالْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
يَكُونَ أَعْمَى وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا ؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لَهُمَا بِخِلَافِ الْجَمَادِ فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا . فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ : هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ : الْمَوْجُودَاتُ " نَوْعَانِ " : نَوْعٌ يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْكَمَالِ كَالْحَيِّ . وَنَوْعٌ لَا يَقْبَلُهُ كَالْجَمَادِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَابِلَ لِلِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ . وَحِينَئِذٍ : فَالرَّبُّ إنْ لَمْ يَقْبَلْ الِاتِّصَافَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لَزِمَ انْتِفَاءُ اتِّصَافِهِ بِهَا وَأَنْ يَكُونَ الْقَابِلُ لَهَا - وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْأَعْمَى الْأَصَمُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ - أَكْمَلَ مِنْهُ فَإِنَّ الْقَابِلَ لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ - فِي حَالِ عَدَمِ ذَلِكَ - أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ . فَكَيْفَ الْمُتَّصِفُ بِهَا فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَسْلُوبًا لِصِفَاتِ الْكَمَالِ - عَلَى قَوْلِهِمْ - مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ صِفَاتُ الْكَمَالِ . فَأَنْتُمْ فَرَرْتُمْ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْأَحْيَاءِ : فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْجَمَادَاتِ وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تُنَزِّهُونَهُ عَنْ النَّقَائِصِ : فَوَصَفْتُمُوهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ النَّقْصِ . ( الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : هَذَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَبَيْنَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ : أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ ؛ وَإِلَّا فَكُلُّ مَا لَيْسَ بِحَيِّ فَإِنَّهُ يُسَمَّى مَيِّتًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ : نَفْسُ سَلْبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ هُنَاكَ ضِدٌّ ثُبُوتِيٌّ فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَا يَكُونُ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ سَمِيعٌ وَلَا أَصَمُّ كَالْجَمَادِ وَإِذَا كَانَ مُجَرَّدُ إثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ الْكَمَالِ وَمُجَرَّدُ سَلْبِهَا مِنْ النَّقْصِ : وَجَبَ ثُبُوتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ كَمَالٌ مُمْكِنٌ لِلْمَوْجُودِ وَلَا نَقْصَ فِيهِ بِحَالِ ؛ بَلْ النَّقْصُ فِي عَدَمِهِ . وَكَذَلِكَ إذَا قَدَّرْنَا مَوْصُوفَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ . ( أَحَدُهُمَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ ؛ فَيَأْتِي وَيَجِيءُ وَيَنْزِلُ وَيَصْعَدُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِهِ ( وَالْآخَرُ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ : كَانَ هَذَا الْقَادِرُ عَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهُ أَكْمَلَ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ صُدُورُهَا عَنْهُ . وَإِذَا قِيلَ قِيَامُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ : كَانَ كَمَا إذَا قِيلَ قِيَامُ الصِّفَاتِ بِهِ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْأَعْرَاضِ بِهِ . وَلَفْظُ ( الْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ لَفْظَانِ مُجْمَلَانِ فَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا يَعْقِلُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ مِنْ أَنَّ الْأَعْرَاضَ وَالْحَوَادِثَ هِيَ الْأَمْرَاضُ وَالْآفَاتُ كَمَا يُقَالُ : فُلَانٌ قَدْ عَرَضَ لَهُ مَرَضٌ شَدِيدٌ وَفُلَانٌ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا عَظِيمًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ }
وَقَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا } وَقَالَ : { إذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يُصَلِّي حَتَّى يَتَوَضَّأَ } . وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ : الطَّهَارَةُ " نَوْعَانِ " طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَطَهَارَةُ الْخَبَثِ . وَيَقُولُ أَهْلُ الْكَلَامِ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي " أَهْلِ الْأَحْدَاثِ " مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ : كَالرِّبَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ . وَيُقَالُ فُلَانٌ بِهِ عَارِضٌ مِنْ الْجِنِّ وَفُلَانٌ حَدَثَ لَهُ مَرَضٌ . فَهَذِهِ مِنْ النَّقَائِصِ الَّتِي يُنَزَّهُ اللَّهُ عَنْهَا . وَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ فَإِنَّمَا أَحْدَثَ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحَ مَنْ أَحْدَثَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ لُغَةَ الْعَرَبِ وَلَا لُغَةَ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ ؛ لَا لُغَةَ الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِ ؛ وَلَا الْعُرْفِ الْعَامِّ وَلَا اصْطِلَاحِ أَكْثَرِ الْخَائِضِينَ فِي الْعِلْمِ ؛ بَلْ مُبْتَدِعُو هَذَا الِاصْطِلَاحِ : هُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ المحدثين فِي الْأُمَّةِ الدَّاخِلِينَ فِي ذَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَمُجَرَّدُ هَذَا الِاصْطِلَاحِ وَتَسْمِيَةُ هَذِهِ أَعْرَاضًا وَحَوَادِثَ : لَا يُخْرِجُهَا عَنْ أَنَّهَا مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي يَكُونُ الْمُتَّصِفُ بِهِ أَكْمَلَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الِاتِّصَافُ بِهَا . أَوْ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ وَلَا يَتَّصِفُ بِهِ . وَ " أَيْضًا " فَإِذَا قُدِّرَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ وَحَوَادِثُ عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ ؛ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْفِعْلِ وَالْبَطْشِ وَالْآخَرُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضُ وَحَوَادِثُ : كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ كَمَا أَنَّ الْحَيَّ الْمُتَّصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ : أَكْمَلُ مِنْ الْجَمَادَاتِ .
وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ " اثْنَانِ " أَحَدُهُمَا يُحِبُّ نُعُوتَ الْكَمَالِ وَيَفْرَحُ بِهَا وَيَرْضَاهَا وَالْآخَرُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَصِفَاتِ النَّقْصِ ؛ فَلَا يُحِبُّ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلَا يَرْضَى لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلَا يَفْرَحُ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا : كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِي . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالْمُقْسِطِينَ وَيَرْضَى عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَهَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ . وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ اثْنَانِ : أَحَدُهُمَا بِبَعْضِ الْمُتَّصِفِ بِضِدِّ الْكَمَالِ كَالظُّلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْكَذِبِ وَيَغْضَبُ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْآخَرُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْجَاهِلِ الْكَاذِبِ الظَّالِمِ وَبَيْنَ الْعَالِمِ الصَّادِقِ الْعَادِلِ لَا يُبْغِضُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلَا يَغْضَبُ لَا عَلَى هَذَا وَلَا عَلَى هَذَا : كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ . وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ بِيَدَيْهِ وَيُقْبِلَ بِوَجْهِهِ . وَالْآخَرُ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ : إمَّا لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ وَيَدَانِ وَإِمَّا لِامْتِنَاعِ الْفِعْلِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالْيَدَيْنِ وَالْوَجْهِ : كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ . فَالْوَجْهُ وَالْيَدَانِ : لَا يُعَدَّانِ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُوصَفُ بِذَلِكَ وَوَجْهُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ مَا يُضَافُ إلَيْهِ وَهُوَ مَمْدُوحٌ بِهِ لَا مَذْمُومٌ كَوَجْهِ النَّهَارِ وَوَجْهِ الثَّوْبِ وَوَجْهِ الْقَوْمِ وَوَجْهِ الْخَيْلِ وَوَجْهِ الرَّأْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ الْوَجْهُ الْمُضَافُ إلَى غَيْرِهِ هُوَ نَفْسُ الْمُضَافِ إلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ سَوَاءٌ قُدِّرَ الِاسْتِعْمَالُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا .
" فَإِنْ قِيلَ " : مَنْ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ بِكَلَامِهِ أَوْ بِقُدْرَتِهِ بِدُونِ يَدَيْهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَفْعَلُ بِيَدَيْهِ . قِيلَ : مَنْ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ بِقُدْرَتِهِ أَوْ تَكْلِيمِهِ إذَا شَاءَ وَبِيَدَيْهِ إذَا شَاءَ : هُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ إلَّا بِقُدْرَتِهِ أَوْ تَكْلِيمِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ بِالْيَدِ . وَلِهَذَا كَانَ " الْإِنْسَانُ " أَكْمَلَ مِنْ الْجَمَادَاتِ الَّتِي تَفْعَلُ بِقُوَى فِيهَا كَالنَّارِ وَالْمَاءِ فَإِذَا قُدِّرَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا لَا يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ إلَّا بِقُوَّةِ فِيهِ وَالْآخَرُ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ بِقُوَّةِ فِيهِ وَبِكَلَامِهِ فَهَذَا أَكْمَلُ . فَإِذَا قُدِّرَ آخَرُ يَفْعَلُ بِقُوَّةِ فِيهِ وَبِكَلَامِهِ وَبِيَدَيْهِ إذَا شَاءَ فَهُوَ أَكْمَلُ وَأَكْمَلُ وَأَمَّا صِفَاتُ النَّقْصِ فَمِثْلَ النَّوْمِ فَإِنَّ الْحَيَّ الْيَقْظَانَ أَكْمَلُ مِنْ النَّائِمِ وَالْوَسْنَانِ . وَاَللَّهُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ وَكَذَلِكَ مَنْ يَحْفَظُ الشَّيْءَ بِلَا اكْتِرَاثٍ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَكْرُثُهُ ذَلِكَ ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا . وَكَذَلِكَ مَنْ يَفْعَلُ وَلَا يَتْعَبُ : أَكْمَلُ مِمَّنْ يَتْعَبُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّهُ مِنْ لُغُوبٍ . وَلِهَذَا وُصِفَ الرَّبُّ بِالْعِلْمِ دُونَ الْجَهْلِ وَالْقُدْرَةِ دُونَ الْعَجْزِ وَالْحَيَاةِ دُونَ الْمَوْتِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ دُونَ الصَّمَمِ وَالْعَمَى وَالْبُكْمِ وَالضَّحِكِ دُونَ الْبُكَاءِ وَالْفَرَحِ دُونَ الْحُزْنِ .
وَأَمَّا الْغَضَبُ مَعَ الرِّضَا وَالْبُغْضُ مَعَ الْحُبِّ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَكُونُ مِنْهُ إلَّا الرِّضَا وَالْحُبُّ دُونَ الْبُغْضِ وَالْغَضَبُ لِلْأُمُورِ الْمَذْمُومَةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تُذَمَّ وَتُبْغَضَ . وَلِهَذَا كَانَ اتِّصَافُهُ بِأَنَّهُ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ : أَكْمَلَ مِنْ اتِّصَافِهِ بِمُجَرَّدِ الْإِعْطَاءِ وَالْإِعْزَازِ وَالرَّفْعِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْآخَرَ - حَيْثُ تَقْتَضِي الْحِكْمَةُ ذَلِكَ - أَكْمَلُ مِمَّا لَا يَفْعَلُ إلَّا أَحَدَ النَّوْعَيْنِ وَيُخِلُّ بِالْآخَرِ فِي الْمَحَلِّ الْمُنَاسِبِ لَهُ وَمَنْ اعْتَبَرَ هَذَا الْبَابَ وَجَدَهُ عَلَى قَانُونِ الصَّوَابِ وَاَللَّهُ الْهَادِي لِأُولِي الْأَلْبَابِ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا قَوْلُ مَلَاحِدَةِ " الْمُتَفَلْسِفَةِ " وَغَيْرِهِمْ : إنَّ
اتِّصَافَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ إنْ أَوْجَبَ لَهُ كَمَالًا فَقَدْ اُسْتُكْمِلَ
بِغَيْرِهِ فَيَكُونُ نَاقِصًا بِذَاتِهِ وَإِنْ أَوْجَبَ لَهُ نَقْصًا لَمْ
يَجُزْ اتِّصَافُهُ بِهَا . فَيُقَالُ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَمَالَ
الْمُعَيَّنَ هُوَ الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ الْوُجُودَ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ .
وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ الْقَائِلِ يَكُونُ نَاقِصًا بِذَاتِهِ إنْ أَرَادَ بِهِ
أَنْ يَكُونَ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَاقِصًا فَهَذَا حَقٌّ ؛ لَكِنْ مِنْ
هَذَا فَرَرْنَا وَقَدَّرْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَإِلَّا
كَانَ نَاقِصًا . وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ كَامِلًا
بِالصِّفَاتِ الَّتِي اتَّصَفَ بِهَا فَلَا يَكُونُ كَامِلًا بِذَاتِهِ
الْمُجَرَّدَةِ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ . فَيُقَالُ أَوَّلًا : هَذَا إنَّمَا
يَتَوَجَّهُ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ وُجُودُ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ هَذِهِ
الصِّفَاتِ أَوْ أَمْكَنَ وُجُودُ ذَاتٍ كَامِلَةٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ هَذِهِ
الصِّفَاتِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُ هَذَيْنِ مُمْتَنِعًا امْتَنَعَ كَمَالِهِ
بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مُمْتَنِعًا ؟ فَإِنَّ
وُجُودَ ذَاتٍ كَامِلَةٍ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّا نَعْلَمُ
بِالضَّرُورَةِ أَنَّ " الذَّاتَ " الَّتِي لَا تَكُونُ حَيَّةً
عَلِيمَةً قَدِيرَةً سَمِيعَةً بَصِيرَةً مُتَكَلِّمَةً : لَيْسَتْ أَكْمَلَ مِنْ
الذَّاتِ الَّتِي لَا تَكُونُ حَيَّةً عَلِيمَةً سَمِيعَةً بَصِيرَةً
مُتَكَلِّمَةً . وَإِذَا كَانَ صَرِيحُ الْعَقْلِ يَقْضِي بِأَنَّ الذَّاتَ
الْمَسْلُوبَةَ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَيْسَتْ مِثْلَ
الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ أَكْمَلَ مِنْهَا وَيَقْضِي بِأَنَّ الذَّاتَ الْمُتَّصِفَةَ بِهَا أَكْمَلُ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ امْتِنَاعُ كَمَالِ الذَّاتِ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَات فَإِنْ قِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَكُونُ ذَاتُهُ نَاقِصَةً مَسْلُوبَةَ الْكَمَالِ إلَّا بِهَذِهِ الصِّفَات . قِيلَ : الْكَمَالُ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُمْتَنِعٌ وَعَدَمُ الْمُمْتَنِعِ لَيْسَ نَقْصًا وَإِنَّمَا النَّقْصُ عَدَمُ مَا يُمْكِنُ . وَأَيْضًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِالْكَمَالِ وَمَا اتَّصَفَ بِهِ وَجَبَ لَهُ وَامْتَنَعَ تَجَرُّدُ ذَاتِهِ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ ؛ فَكَانَ تَقْدِيرُ ذَاتِهِ مُنْفَكَّةً عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَقْدِيرًا مُمْتَنِعًا . وَإِذَا قُدِّرَ لِلذَّاتِ تَقْدِيرٌ مُمْتَنِعٌ وَقِيلَ إنَّهَا نَاقِصَةٌ بِدُونِهِ : كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ ؛ لَا عَلَى امْتِنَاعِ نَقِيضِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ : إذَا مَاتَ كَانَ نَاقِصًا فَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ كَوْنِهِ حَيًّا كَذَلِكَ إذَا كَانَ تَقْدِيرُ ذَاتِهِ خَالِيَةً عَنْ هَذِهِ الصِّفَات يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً : كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يُوصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَات . وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ : اكْتَمَلَ بِغَيْرِهِ مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّا لَا نُطْلِقُ عَلَى صِفَاتِهِ أَنَّهَا غَيْرُهُ وَلَا أَنَّهَا لَيْسَتْ غَيْرَهُ ؛ عَلَى مَا عَلَيْهِ " أَئِمَّةُ السَّلَفِ " كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ حُذَّاقِ الْمُثْبِتَةِ ؛ كَابْنِ كُلَّابٍ وَغَيْرِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : أَنَا لَا أُطْلِقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ هِيَ هُوَ وَلَا أُطْلِقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ غَيْرَهُ وَلَا أَجْمَعُ بَيْنَ السلبين فَأَقُولُ لَا هِيَ هُوَ وَلَا هِيَ غَيْرُهُ . وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَة مِنْ الْمُثْبِتَةِ كَالْأَشْعَرِيِّ ؛ وَأَظُنُّ أَنَّ قَوْل أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ هُوَ هَذَا أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذَا .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ إطْلَاقَ هَذَا السَّلْبِ وَهَذَا السَّلْبِ : فِي إطْلَاقِهِمَا جَمِيعًا كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . وَمَنْشَأُ هَذَا أَنَّ لَفْظَ " الْغَيْرِ " يُرَادُ بِهِ الْمُغَايِرُ لِلشَّيْءِ وَيُرَادُ بِهِ مَا لَيْسَ هُوَ إيَّاهُ وَكَانَ فِي إطْلَاقِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ إيهَامٌ لِمَعَانِي فَاسِدَةٍ . وَنَحْنُ نُجِيبُ بِجَوَابِ عِلْمِيٍّ فَنَقُولُ : قَوْل الْقَائِلِ : يَتَكَمَّلُ بِغَيْرِهِ . أَيُرِيدُ بِهِ بِشَيْءِ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ أَمْ يُرِيدُ بِصِفَةِ لَوَازِمِ ذَاتِهِ ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُمْتَنِعٌ . وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ حَقٌّ وَلَوَازِمُ ذَاتِهِ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ ذَاتِهِ بِدُونِهَا ؛ كَمَا لَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا بِدُونِهِ وَهَذَا كَمَالٌ بِنَفْسِهِ لَا بِشَيْءِ مُبَايِنٍ لِنَفْسِهِ . وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ - كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ - وَأَئِمَّةِ الْمُثْبِتَةِ كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَوْ قَالَ : دَعَوْت اللَّهَ وَعَبَدْته . أَوْ قَالَ : بِاَللَّهِ . فَاسْمُ اللَّهِ مُتَنَاوِلٌ لِذَاتِهِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَاتِهِ ؛ وَلَيْسَتْ صِفَاتُهُ زَائِدَةً عَلَى مُسَمَّى أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى . وَإِذَا قِيلَ : هَلْ صِفَاتُهُ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ أَمْ لَا ؟ قِيلَ : إنْ أُرِيدَ بِالذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي يُقِرُّ بِهَا نفاة الصِّفَات فَالصِّفَاتُ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا وَإِنْ أُرِيدَ بِالذَّاتِ الذَّاتُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ فَتِلْكَ لَا تَكُونُ مَوْجُودَةً إلَّا بِصِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ . وَالصِّفَاتُ لَيْسَتْ زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِالصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ الَّتِي يُقَدَّرُ تَجَرُّدُهَا عَنْ الصِّفَاتِ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : لَوْ قَامَتْ بِهِ صِفَاتٌ وُجُودِيَّةٌ لَكَانَ
مُفْتَقِرًا إلَيْهَا وَهِيَ مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ فَيَكُونُ الرَّبُّ مُفْتَقِرًا
إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ . فَيُقَالُ أَوَّلًا :
قَوْلُ الْقَائِلِ : " لَوْ قَامَتْ بِهِ صِفَاتٌ وُجُودِيَّةٌ لَكَانَ
مُفْتَقِرًا إلَيْهَا " يَقْتَضِي إمْكَانَ جَوْهَرٍ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ
؛ وَإِمْكَانَ ذَاتٍ لَا تَقُومُ بِهَا الصِّفَاتُ ؛ فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا
مُمْتَنِعًا لَبَطَلَ هَذَا الْكَلَامُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ كِلَاهُمَا
مُمْتَنِعًا ؟ فَإِنَّ تَقْدِيرَ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ
إنَّمَا يُمْكِنُ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ كَتَقْدِيرِ وُجُودٍ مُطْلَقٍ
لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْخَارِجِ . وَلَفْظُ " ذَاتٍ " تَأْنِيثُ ذُو
وَذَلِكَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا كَانَ مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ فَهُمْ
يَقُولُونَ : فُلَانٌ ذُو عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَنَفْسٌ ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ .
وَحَيْثُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ لُغَةِ الْعَرَبِ لَفْظُ " ذُو "
وَلَفْظُ " ذَاتُ " لَمْ يَجِئْ إلَّا مَقْرُونًا بِالْإِضَافَةِ
كَقَوْلِهِ { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } وَقَوْلِهِ : {
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } .
وَقَوْلِ خَبِيبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ . . . .
وَنَحْوِ ذَلِكَ . لَكِنْ لَمَّا صَارَ النُّظَّارُ يَتَكَلَّمُونَ فِي هَذَا الْبَابِ قَالُوا : إنَّهُ يُقَالُ إنَّهَا ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ ثُمَّ إنَّهُمْ قَطَعُوا هَذَا اللَّفْظَ عَنْ الْإِضَافَةِ وَعَرَّفُوهُ ؛ فَقَالُوا : " الذَّاتُ " وَهِيَ لَفْظٌ مُوَلَّدٌ لَيْسَ مِنْ لَفْظِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ وَلِهَذَا أَنْكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ كَأَبِي الْفَتْحِ بْنِ بُرْهَانَ وَابْنِ الدَّهَّانِ وَغَيْرِهِمَا وَقَالُوا : لَيْسَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَرَبِيَّةً وَرَدَّ عَلَيْهِمْ آخَرُونَ كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا . ( وَفَصْلُ الْخِطَابِ : أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ الْعَرْبَاءِ بَلْ مِنْ الْمُوَلَّدَةِ كَلَفْظِ الْمَوْجُودِ وَلَفْظِ الْمَاهِيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِي وُجُودَ صِفَاتٍ تُضَافُ الذَّاتُ إلَيْهَا فَيُقَالُ : ذَاتُ عِلْمٍ وَذَاتُ قُدْرَةٍ وَذَاتُ كَلَامٍ وَالْمَعْنَى كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ شَيْءٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ فِي الْخَارِجِ لَا يَتَّصِفُ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ أَصْلًا ؛ بَلْ فَرْضُ هَذَا فِي الْخَارِجِ كَفَرْضِ عَرَضٍ يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ . فَفَرْضُ عَرَضٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا صِفَةَ لَهُ كَفَرْضِ صِفَةٍ لَا تَقُومُ بِغَيْرِهَا وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ فَمَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ صِفَةٍ وَمَا كَانَ صِفَةً فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ مُتَّصِفٍ بِهِ . وَلِهَذَا سَلَّمَ الْمُنَازِعُونَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا صِفَةَ لَهُ سَوَاءٌ سَمَّوْهُ جَوْهَرًا أَوْ جِسْمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ : وُجُودُ جَوْهَرٍ مُعَرًّى عَنْ جَمِيعِ
الْأَعْرَاضِ مُمْتَنِعٌ فَمَنْ قَدَّرَ إمْكَانَ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا صِفَةَ لَهُ فَقَدَ قَدَّرَ مَا لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ وَلَا يُعْلَمُ إمْكَانُهُ فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ الذِّهْنِ . وَكَلَامُ نفاة الصِّفَاتِ جَمِيعُهُ يَقْتَضِي أَنَّ ثُبُوتَهُ مُمْتَنِعٌ وَإِنَّمَا يُمْكِنُ فَرْضُهُ فِي الْعَقْلِ فَالْعَقْلُ يُقَدِّرُهُ فِي نَفْسِهِ كَمَا يُقَدِّرُ مُمْتَنِعَاتٍ لَا يُعْقَلُ وُجُودُهَا فِي الْوُجُودِ وَلَا إمْكَانُهَا فِي الْوُجُودِ . وَأَيْضًا " فَالرَّبُّ تَعَالَى " إذَا كَانَ اتِّصَافُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مُمْكِنًا - وَمَا أَمْكَنَ لَهُ وَجَبَ - امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَسْلُوبًا صِفَاتِ الْكَمَالِ فَفَرْضُ ذَاتِهِ بِدُونِ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ الْوَاجِبَةِ لَهُ فَرْضٌ مُمْتَنِعٌ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ فَرْضُ عَدَمِ هَذَا مُمْتَنِعًا عُمُومًا وَخُصُوصًا : فَقَوْلُ الْقَائِلِ : يَكُونُ مُفْتَقِرًا إلَيْهَا وَتَكُونُ مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ إنَّمَا يُعْقَلُ مِثْلُ هَذَا فِي شَيْئَيْنِ . يُمْكِنُ وُجُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِذَا امْتَنَعَ هَذَا بَطَلَ هَذَا التَّقْدِيرُ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : مَا تَعْنِي بِالِافْتِقَارِ ؟ أَتَعْنِي أَنَّ الذَّاتَ تَكُونُ فَاعِلَةً لِلصِّفَاتِ مُبْدِعَةً لَهَا أَوْ بِالْعَكْسِ ؟ أَمْ تَعْنِي التَّلَازُمَ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا إلَّا بِالْآخَرِ ؟ فَإِنْ عَنَيْت افْتِقَارَ الْمَفْعُولِ إلَى الْفَاعِلِ فَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الرَّبَّ لَيْسَ بِفَاعِلِ لِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ بَلْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ مِنْ أَفْعَالِهِ وَمَفْعُولَاتِهِ . فَكَيْفَ تَجْعَلُ صِفَاتِهِ مَفْعُولَةً لَهُ وَصِفَاتُهُ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ لَيْسَتْ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ ؟ وَإِنْ عَنَيْت التَّلَازُمَ فَهُوَ حَقٌّ .
وَهَذَا كَمَا يُقَالُ : لَا يَكُونُ مَوْجُودًا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ عَالِمًا قَادِرًا إلَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا فَإِذَا كَانَتْ صِفَاتُهُ مُلَازِمَةً ( لِذَاتِهِ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْكَمَالِ مِنْ جَوَازِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ وُجُودُهُ بِدُونِ صِفَاتِ الْكَمَالِ : لَمْ يَكُنْ الْكَمَالُ وَاجِبًا لَهُ بَلْ مُمْكِنًا لَهُ ؛ وَحِينَئِذٍ فَكَانَ يَفْتَقِرُ فِي ثُبُوتِهَا لَهُ إلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ نَقْصٌ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ التَّلَازُمَ بَيْنَ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ : هُوَ كَمَالُ الْكَمَالِ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا الْقَائِلُ : إنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ مُرَكَّبٍ
وَالْمُرَكَّبُ مُمْكِنٌ مُحْتَاجٌ وَذَلِكَ عَيْنُ النَّقْصِ . فَلِلْمُثْبِتَةِ
لِلصِّفَاتِ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ " الْعَرَضِ " عَلَى صِفَاتِهِ ثَلَاثُ
طُرُقٍ :
مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ أَعْرَاضًا : وَيَقُولُ : بَلْ هِيَ صِفَاتٌ
وَلَيْسَتْ أَعْرَاضًا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ
الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ عَلَيْهَا لَفْظَ الْأَعْرَاضِ كَهِشَامِ وَابْنِ
كَرَّامٍ وَغَيْرِهِمَا .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ كَمَا قَالُوا فِي
لَفْظِ الْغَيْرِ وَكَمَا امْتَنَعُوا عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْجِسْمِ
وَنَحْوِهِ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : " الْعِلْمُ عَرَضٌ " بِدْعَةٌ
وَقَوْلَهُ : لَيْسَ بِعَرَضٍ " بِدْعَةٌ " كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ "
الرَّبُّ جِسْمٌ " بِدْعَةٌ وَقَوْلَهُ " لَيْسَ بِجِسْمِ "
بِدْعَةٌ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَفْظُ " الْجِسْمِ " يُرَادُ بِهِ فِي
اللُّغَةِ : الْبَدَنُ وَالْجَسَدُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو
زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ .
وَأَمَّا أَهْلُ الْكَلَامِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ بِهِ الْمُرَكَّبَ
وَيُطْلِقُهُ عَلَى الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ
بِشَرْطِ
التَّرْكِيبِ أَوْ عَلَى الْجَوْهَرَيْنِ أَوْ عَلَى أَرْبَعَةِ جَوَاهِرَ أَوْ
سِتَّةٍ أَوْ ثَمَانِيَةٍ أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَوْ
الْمُرَكَّبِ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ الْمَوْجُودُ أَوْ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ .
وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْمُشَارَ إلَيْهِ مُتَسَاوِيًا
فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ قَدْ صَارَ يُفْهَمُ مِنْهُ
مَعَانٍ بَعْضُهَا حَقٌّ وَبَعْضُهَا بَاطِلٌ : صَارَ مُجْمَلًا .
وَحِينَئِذٍ فَالْجَوَابُ الْعِلْمِيُّ أَنْ يُقَالَ : أَتَعْنِي بِقَوْلِك
أَنَّهَا أَعْرَاضٌ أَنَّهَا قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ أَوْ صِفَةٌ لِلذَّاتِ وَنَحْوَ
ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ ؟ أَمْ تَعْنِي بِهَا أَنَّهَا آفَاتٌ
وَنَقَائِصُ ؟ أَمْ تَعْنِي بِهَا أَنَّهَا تَعْرِضُ وَتَزُولُ وَلَا تَبْقَى
زَمَانَيْنِ ؟ فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ فَهُوَ صَحِيحٌ وَإِنْ عَنَيْت
الثَّانِيَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ وَإِنْ عَنَيْت الثَّالِثَ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى
قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : الْعَرَضُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ . فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ
وَقَالَ : هِيَ بَاقِيَةٌ قَالَ : لَا أُسَمِّيهَا أَعْرَاضًا وَمَنْ قَالَ بَلْ
الْعَرَضُ يَبْقَى زَمَانَيْنِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَانِعًا مِنْ تَسْمِيَتِهَا
أَعْرَاضًا . وَقَوْلُك : الْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ . فَيُقَالُ لَك
هُوَ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ عِنْدَك . وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ لَا يُسَمَّى بِهَا
إلَّا جِسْمٌ كَمَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَات الَّتِي جَعَلْتهَا أَعْرَاضًا لَا
يُوصَفُ بِهَا إلَّا جِسْمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَك عَنْ ثُبُوتِ الْأَسْمَاءِ :
كَانَ جَوَابًا لِأَهْلِ الْإِثْبَاتِ عَنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ . وَيُقَالُ لَهُ
: مَا تَعْنِي بِقَوْلِك : هَذِهِ الصِّفَاتُ أَعْرَاضٌ لَا تَقُومُ إلَّا
بِجِسْمِ ؟ أَتَعْنِي
بِالْجِسْمِ الْمُرَكَّبَ الَّذِي كَانَ مُفْتَرِقًا فَاجْتَمَعَ ؟ أَوْ مَا رَكَّبَهُ مُرَكِّبٌ فَجَمَعَ أَجْزَاءَهُ ؟ أَوْ مَا أَمْكَنَ تَفْرِيقُهُ وَتَبْعِيضُهُ وَانْفِصَالُ بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؟ أَمْ تَعْنِي بِهِ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ ؟ أَوْ تَعْنِي بِهِ مَا يُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ؟ أَوْ مَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ ؟ أَوْ مَا هُوَ مَوْجُودٌ ؟ . فَإِنْ عَنَيْت " الْأَوَّلَ " لَمْ نُسَلِّمْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي سَمَّيْتهَا أَعْرَاضًا لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَإِنْ عَنَيْت بِهِ " الثَّانِيَ " لَمْ نُسَلِّمْ امْتِنَاعَ التَّلَازُمِ ؛ فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُشَارٌ إلَيْهِ عِنْدَنَا فَلَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ التَّلَازُمِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : الْمُرَكَّبُ مُمْكِنٌ إنْ أَرَادَ بِالْمُرَكَّبِ : الْمَعَانِيَ الْمُتَقَدِّمَةَ مِثْلَ كَوْنِهِ كَانَ مُفْتَرِقًا فَاجْتَمَعَ أَوْ رَكَّبَهُ مُرَكِّبٌ أَوْ يَقْبَلُ الِانْفِصَالَ : فَلَا نُسَلِّمُ الْمُقَدِّمَةَ الْأَوْلَى التلازمية وَإِنْ عَنَى بِهِ مَا يُشَارُ إلَيْهِ أَوْ مَا يَكُونُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ فَلَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الثَّانِيَةِ فَالْقَوْلُ بِالْأَعْرَاضِ مُرَكَّبٌ مِنْ ( مُقَدِّمَتَيْنِ تلازمية واستثنائية بِأَلْفَاظِ مُجْمَلَةٍ ؛ فَإِذَا اسْتَفْصَلَ عَنْ الْمُرَادِ حَصَلَ الْمَنْعُ وَالْإِبْطَالُ لِأَحَدِهِمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ، وَإِذَا بَطَلَتْ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ بَطَلَتْ الْحُجَّةُ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : لَوْ قَامَتْ بِهِ الْأَفْعَالُ لَكَانَ مَحَلًّا
لِلْحَوَادِثِ وَالْحَادِثُ إنْ أَوْجَبَ لَهُ كَمَالًا فَقَدْ عَدِمَهُ قَبْلَهُ
وَهُوَ نَقْصٌ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ لَهُ كَمَالًا لَمْ يَجُزْ وَصْفُهُ بِهِ .
فَيُقَالُ أَوَّلًا هَذَا مُعَارَضٌ بِنَظِيرِهِ مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي
يَفْعَلُهَا فَإِنَّ كِلَيْهِمَا حَادِثٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِنَّمَا
يَفْتَرِقَانِ فِي الْمَحَلِّ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَارِدٌ عَلَى الْجِهَتَيْنِ
. وَإِنْ قِيلَ فِي الْفَرْقِ : الْمَفْعُولُ لَا يَتَّصِفُ بِهِ بِخِلَافِ
الْفِعْلِ الْقَائِمِ بِهِ قِيلَ فِي الْجَوَابِ : بَلْ هُمْ يَصِفُونَهُ
بِالصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ وَيُقَسِّمُونَ الصِّفَاتِ إلَى نَفْسِيَّةٍ
وَفِعْلِيَّةٍ ؛ فَيَصِفُونَهُ بِكَوْنِهِ خَالِقًا وَرَازِقًا بَعْدَ أَنْ لَمْ
يَكُنْ كَذَلِكَ وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَارِدٌ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ أَوْرَدَهُ
عَلَيْهِمْ الْفَلَاسِفَةُ فِي " مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ "
فَزَعَمُوا أَنَّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ لَيْسَتْ صِفَةَ كَمَالٍ وَلَا نَقْصٍ .
فَيُقَالُ لَهُمْ : كَمَا قَالُوا لِهَؤُلَاءِ " فِي الْأَفْعَالِ "
الَّتِي تَقُومُ بِهِ إنَّهَا لَيْسَتْ كَمَالًا وَلَا نَقْصًا . فَإِنْ قِيلَ :
لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ إمَّا بِنَقْصِ أَوْ بِكَمَالِ . قِيلَ : لَا بُدَّ أَنْ
يَتَّصِفَ مِنْ
الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ إمَّا بِنَقْصِ وَإِمَّا بِكَمَالِ فَإِنْ جَازَ ادِّعَاءُ خُلُوِّ أَحَدِهِمَا عَنْ الْقِسْمَيْنِ أَمْكَنَ الدَّعْوَى فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ وَإِلَّا فَالْجَوَابُ مُشْتَرَكٌ . وَأَمَّا " الْمُتَفَلْسِفَةُ " فَيُقَالُ لَهُمْ : الْقَدِيمُ لَا تُحِلُّهُ الْحَوَادِثُ وَلَا يَزَالُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ عِنْدَكُمْ فَلَيْسَ الْقِدَمُ مَانِعًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ ؛ بَلْ عِنْدَكُمْ هَذَا هُوَ " الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ " الَّذِي لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا نَفَوْهُ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ ؛ لِظَنِّهِمْ عَدَمَ اتِّصَافِهِ بِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ لَا سِيَّمَا وَمَا قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ الْمُتَعَاقِبَةُ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ مُوجِبَةٍ لِمَعْلُولِهَا ؛ فَإِنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْمُوجِبَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا مَعْلُولُهَا أَوْ شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا وَمَتَى تَأَخَّرَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا كَانَتْ عِلَّةً لَهُ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ وَاحْتَاجَ مَصِيرُهَا عِلَّةً بِالْفِعْلِ إلَى سَبَبٍ آخَرَ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ هُوَ نَفْسُهُ : صَارَ فِيهِ مَا هُوَ بِالْقُوَّةِ وَهُوَ الْمُخْرِجُ لَهُ إلَى الْفِعْلِ ؛ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا أَوْ فَاعِلًا وَهُمْ يَمْنَعُونَ ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ الصِّفَاتِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا التَّرْكِيبَ . وَإِنْ كَانَ الْمُخْرِجُ لَهُ غَيْرَهُ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا بِالضَّرُورَةِ وَالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي وُجُوبَ الْوُجُودِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ " الدُّورَ المعي " وَ " التَّسَلْسُلَ فِي الْمُؤَثِّرَاتِ " وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي صَارَ فَاعِلًا لِلْمُعَيَّنِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً فَقِدَمُ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ عِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَحْدُثَ عَنْهُ شَيْءٌ بِوَاسِطَةِ وَبِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْمَشْهُودِ .
وَيُقَالُ
ثَانِيًا : فِي إبْطَالِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ مُمْتَنِعًا : -
هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَجَدُّدِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِتَجَدُّدِ الْإِضَافَاتِ
وَالْأَحْوَالِ وَالْإِعْدَامِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَجَدُّدِ
هَذِهِ الْأُمُورِ . وَفَرَّقَ الآمدي بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَقَالَ
: هَذِهِ حَوَادِثُ وَهَذِهِ مُتَجَدِّدَاتٌ وَالْفُرُوقُ اللَّفْظِيَّةُ لَا
تُؤَثِّرُ فِي الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ . فَيُقَالُ : تَجَدُّدُ هَذِهِ
الْمُتَجَدِّدَاتِ إنْ أَوْجَبَ لَهُ كَمَالًا فَقَدْ عَدِمَهُ قَبْلَهُ وَهُوَ
نَقْصٌ وَإِنْ أَوْجَبَ لَهُ نَقْصًا لَمْ يَجُزْ وَصْفُهُ بِهِ .
وَيُقَالُ ثَالِثًا : الْكَمَالُ الَّذِي يَجِبُ اتِّصَافُهُ بِهِ هُوَ
الْمُمْكِنُ الْوُجُودَ وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ فَلَيْسَ مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي
يَتَّصِفُ بِهِ مَوْجُودٌ وَالْحَوَادِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِقُدْرَتِهِ
وَمَشِيئَتِهِ يَمْتَنِعُ وُجُودُهَا جَمِيعًا فِي الْأَزَلِ ؛ فَلَا يَكُونُ
انْتِفَاؤُهَا فِي الْأَزَلِ نَقْصًا ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْمُمْتَنِعِ لَيْسَ
بِنَقْصِ .
وَيُقَالُ رَابِعًا : إذَا قُدِّرَ ذَاتٌ تَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَهِيَ
قَادِرَةٌ عَلَى الْفِعْلِ بِنَفْسِهَا وَذَاتٌ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَفْعَلَ
بِنَفْسِهَا شَيْئًا ؛ بَلْ هِيَ كَالْجَمَادِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ أَنْ
يَتَحَرَّك كَانَتْ الْأُولَى أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِيَةِ . فَعَدَمُ هَذِهِ
الْأَفْعَالِ نَقْصٌ بِالضَّرُورَةِ . وَأَمَّا وُجُودُهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ
فَهُوَ الْكَمَالُ .
وَيُقَالُ خَامِسًا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ هَذِهِ مُطْلَقًا نَقْصٌ وَلَا
كَمَالٌ وَلَا وُجُودُهَا مُطْلَقًا نَقْصٌ وَلَا كَمَالٌ ؛ بَلْ وُجُودُهَا فِي
الْوَقْتِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ مَشِيئَتُهُ وَقُدْرَتُهُ
وَحِكْمَتُهُ هُوَ الْكَمَالُ وَوُجُودُهَا بِدُونِ ذَلِكَ نَقْصٌ وَعَدَمُهَا مَعَ اقْتِضَاءِ الْحِكْمَةِ عَدَمُهَا كَمَالٌ وَوُجُودُهَا حَيْثُ اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ وُجُودَهَا هُوَ الْكَمَالُ . وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَكُونُ وُجُودُهُ تَارَةً كَمَالًا وَتَارَةً نَقْصًا وَكَذَلِكَ عَدَمُهُ . بَطَلَ التَّقْسِيمُ الْمُطْلَقُ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ رَحْمَةً بِالْخَلْقِ إذَا احْتَاجُوا إلَيْهِ كَالْمَطَرِ . وَيَكُونُ عَذَابًا إذَا ضَرَّهُمْ فَيَكُونُ إنْزَالُهُ لِحَاجَتِهِمْ رَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَالْمُحْسِنُ الرَّحِيمُ مُتَّصِفٌ بِالْكَمَالِ وَلَا يَكُونُ عَدَمُ إنْزَالِهِ - حَيْثُ يَضُرُّهُمْ - نَقْصًا بَلْ هُوَ أَيْضًا رَحْمَةٌ وَإِحْسَانٌ فَهُوَ مُحْسِنٌ بِالْوُجُودِ حِينَ كَانَ رَحْمَةً وَبِالْعَدَمِ حِينَ كَانَ الْعَدَمُ رَحْمَةً .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا نَفْيُ النَّافِي " لِلصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ "
الْمُعَيَّنَةِ ؛ فلاستلزامها التَّرْكِيبَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْحَاجَةِ
وَالِافْتِقَارِ : فَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ نَظِيرِهِ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ
بِالتَّرْكِيبِ مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ أَوْ فِي الْعُرْفِ
الْعَامِّ أَوْ عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ - وَهُوَ مَا رَكَّبَهُ غَيْرُهُ - أَوْ
كَانَ مُتَفَرِّقًا فَاجْتَمَعَ أَوْ مَا جَمَعَ الْجَوَاهِرَ الْفَرْدَةَ أَوْ
الْمَادَّةَ وَالصُّورَةَ أَوْ مَا أَمْكَنَ مُفَارَقَةُ بَعْضِهِ لِبَعْضِ فَلَا
نُسَلِّمُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إثْبَاتَ الْوَجْهِ
وَالْيَدِ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّرْكِيبِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ . وَإِنْ أُرِيدَ
بِهِ التَّلَازُمُ عَلَى مَعْنَى امْتِيَازِ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ فِي نَفْسِهِ
وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ هَذَا : فَهَذَا لَازِمٌ لَهُمْ فِي الصِّفَاتِ
الْمَعْنَوِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ بِالْعَقْلِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ
وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَات لَيْسَتْ
هِيَ الْأُخْرَى ؛ بَلْ كُلُّ صِفَةٍ مُمْتَازَةٍ بِنَفْسِهَا عَنْ الْأُخْرَى
وَإِنْ كَانَتَا مُتَلَازِمَتَيْنِ يُوصَفُ بِهِمَا مَوْصُوفٌ وَاحِدٌ . وَنَحْنُ
نَعْقِلُ هَذَا فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ كَأَبْعَاضِ الشَّمْسِ وَأَعْرَاضِهَا
. وَأَيْضًا : فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَا بِالْحَاجَةِ
وَالِافْتِقَارِ إلَى مُبَايِنٍ لَهُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا
بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ ؛ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ
وُجُودُ الْوَاجِبِ بِدُونِ تِلْكَ الْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ
،
فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِمَّا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى الْأَحْرَى . وَإِذَا قِيلَ : هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ أَنَّ نَفْسَهُ تَفْعَلُ نَفْسَهُ ؛ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِيهَا ؛ وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ مُوهِمَةٌ مُجْمَلَةٌ فَإِذَا فُسِّرَ الْمَعْنَى زَالَ الْمَحْذُورُ . وَيُقَالُ أَيْضًا : نَحْنُ لَا نُطْلِقُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الْغَيْرَ ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى الْغَيْرِ فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْإِطْلَاقِ اللَّفْظِيِّ ؛ وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ الْعِلْمِيِّ فَالدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى وُجُودِ مَوْجُودٍ بِنَفْسِهِ لَا فَاعِلٍ وَلَا عِلَّةٍ فَاعِلَةٍ وَأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ عَنْ كُلِّ مَا يُبَايِنُهُ . وَأَمَّا الْوُجُودُ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ صِفَةٌ وَلَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ مَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي الثُّبُوتِيَّةِ : فَهَذَا إذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِوُجُوبِ الْوُجُودِ وَبِالْغَنِيِّ . قِيلَ لَهُ : لَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ مَدْلُولَ الْأَدِلَّةِ ؛ وَلَكِنْ أَنْتَ قَدَّرْت أَنَّ هَذَا مُسَمَّى الِاسْمِ وَجَعْلُ اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَنْفَعُك إنْ لَمْ يُثْبِتْ أَنَّ الْمَعْنَى حَقٌّ فِي نَفْسِهِ وَلَا دَلِيلَ لَك عَلَى ذَلِكَ ؛ بَلْ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ . فَهَؤُلَاءِ عَمَدُوا إلَى لَفْظِ الْغَنِيِّ وَالْقَدِيمِ وَالْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ فَصَارُوا يَحْمِلُونَهَا عَلَى مَعَانِي تَسْتَلْزِمُ مَعَانِيَ تُنَاقِضُ ثُبُوتَ الصِّفَاتِ وَتَوَسَّعُوا فِي التَّعْبِيرِ ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ هُوَ مُوجِبُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَغَيْرِهَا . وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ .
فَمُوجِبُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لَا يُتَلَقَّى مِنْ مُجَرَّدِ التَّعْبِيرِ وَمُوجِبُ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ يُتَلَقَّى مِنْ عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْخِطَابِ لَا مِنْ الْوَضْعِ الْمُحْدَثِ ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ مَوْضُوعَةٌ لِمَعَانٍ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَسِّرَ مُرَادَ اللَّهِ بِتِلْكَ الْمَعَانِي ؛ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ الْمُفْتَرِينَ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ عَمَدُوا إلَى مَعَانٍ ظَنُّوهَا ثَابِتَةً ؛ فَجَعَلُوهَا هِيَ مَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْوَاجِبِ وَالْغَنِيِّ وَالْقَدِيمِ وَنَفْيِ الْمِثْلِ ؛ ثُمَّ عَمَدُوا إلَى مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَحَدٌ وَوَاحِدٌ عَلِيٌّ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ نَفْيِ الْمِثْلِ وَالْكُفُؤِ عَنْهُ . فَقَالُوا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي سَمَّيْنَاهَا بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ . وَكَذَلِكَ " الْمُتَفَلْسِفَةُ " عَمَدُوا إلَى لَفْظِ الْخَالِقِ وَالْفَاعِلِ وَالصَّانِعِ وَالْمُحْدِثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَوَضَعُوهَا لِمَعْنَى ابْتَدَعُوهُ وَقَسَّمُوا الْحُدُوثَ إلَى نَوْعَيْنِ : ذَاتِيٍّ وَزَمَانِيٍّ وَأَرَادُوا بِالذَّاتِيِّ كَوْنَ الْمَرْبُوبِ مُقَارِنًا لِلرَّبِّ أَزَلًا وَأَبَدًا ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يُعْرَفُ فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ ؛ وَلَوْ جَعَلُوا هَذَا اصْطِلَاحًا لَهُمْ لَمْ تُنَازِعْهُمْ فِيهِ ؛ لَكِنْ قَصَدُوا بِذَلِكَ التَّلْبِيسَ عَلَى النَّاسِ وَأَنْ يَقُولُوا نَحْنُ نَقُولُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لَهُ وَفَاعِلٌ لَهُ وَصَانِعٌ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا تَقْتَضِي تَأَخُّرَ الْمَفْعُولِ لَا يُطْلَقُ عَلَى مَا كَانَ قَدِيمًا بِقِدَمِ الرَّبِّ مُقَارِنًا لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا . وَكَذَلِكَ فِعْلُ مَنْ فَعَلَ بِلَفْظِ " الْمُتَكَلِّمِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَلَوْ فُعِلَ
هَذَا بِكَلَامِ سِيبَوَيْهِ وبقراط : لَفَسَدَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ النَّحْوِ وَالطِّبِّ ؛ وَلَوْ فُعِلَ هَذَا بِكَلَامِ آحَادِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ : لَفَسَدَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ وَلَكَانَ مَلْبُوسًا عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ إذَا فُعِلَ هَذَا بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ أَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَمَنْ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ . مِثْلَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : " الْوَاحِدُ " الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ : لَا يَنْقَسِمُ أَيْ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ وَيَقُولُ لَا تَقُومُ بِهِ صِفَةٌ . ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّ الْأَحَدَ وَالْوَاحِدَ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ هَذَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ اسْمِ الْوَاحِدِ وَالْأَحَدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } وَقَوْلِهِ : { قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ } وَقَوْلِهِ : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وَقَوْلِهِ : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } وَقَوْلِهِ : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ يُنَاقِضُ مَا ذَكَرُوهُ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ أُطْلِقَتْ عَلَى قَائِمٍ بِنَفْسِهِ مُشَارٍ إلَيْهِ يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ . وَهَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ جِسْمًا . وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا : الْمَوْصُوفَاتُ تَتَمَاثَلُ وَالْأَجْسَامُ تَتَمَاثَلُ وَالْجَوَاهِرُ تَتَمَاثَلُ وَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } عَلَى نَفْيِ مُسَمَّى هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي سَمَّوْهَا بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ الْحَادِثِ كَانَ هَذَا افْتِرَاءً عَلَى الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الْمَثَلُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ ؛ وَلَا لُغَةِ الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِمَا . قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } .
فَنَفَى
مُمَاثَلَةَ هَؤُلَاءِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ فَكَيْفَ يُقَالُ
: إنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ تُوجِبُ أَنَّ كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ مِثْلُ كُلِّ
مَا يُشَارُ إلَيْهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِعَادٍ } { إرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } { الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي
الْبِلَادِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ
وَكِلَاهُمَا بَلَدٌ ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مِثْلٌ لِكُلِّ
جِسْمٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ حَتَّى يُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى
زُهَيْرٌ وَقَالَ : مَا إنْ كَمِثْلِهِمْ فِي النَّاسِ مِنْ بَشَرٍ وَلَمْ
يَقْصِدْ هَذَا أَنْ يَنْفِيَ وُجُودَ جِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ .
وَكَذَلِكَ لَفْظُ " التَّشَابُهِ " لَيْسَ هُوَ التَّمَاثُلَ فِي
اللُّغَةِ قَالَ تَعَالَى : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } وَقَالَ تَعَالَى {
مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } وَلَمْ يُرِدْ بِهِ شَيْئًا هُوَ مُمَاثِلٌ
فِي اللُّغَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا كَوْنَ الْجَوَاهِرِ مُتَمَاثِلَةً فِي
الْعَقْلِ أَوْ لَيْسَتْ مُتَمَاثِلَةً ؛ فَإِنَّ هَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ
؛ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ لَا
يَجْعَلُونَ مُجَرَّدَ هَذَا مُوجِبًا لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمِثْلِ ؛ وَلَا
يَجْعَلُونَ نَفْيَ الْمِثْلِ نَفْيًا لِهَذَا فَحَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ
كَذِبٌ عَلَى الْقُرْآنِ .
فَصْلٌ
:
وَقَوْلُ الْقَائِلِ : " الْمُنَاسَبَةُ " لَفْظٌ مُجْمَلٌ ؛ فَإِنَّهُ
قَدْ يُرَادُ بِهَا التَّوَلُّدُ وَالْقَرَابَةُ فَيُقَالُ : هَذَا نَسِيبُ
فُلَانٍ وَيُنَاسِبُهُ ؛ إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ قَرَابَةٌ مُسْتَنِدَةٌ إلَى
الْوِلَادَةِ وَالْآدَمِيَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ
ذَلِكَ وَيُرَادُ بِهَا الْمُمَاثَلَةُ فَيُقَالُ : هَذَا يُنَاسِبُ هَذَا : أَيْ
يُمَاثِلُهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ
وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . وَيُرَادُ بِهَا
الْمُوَافَقَةُ فِي مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي وَضِدُّهَا الْمُخَالَفَةُ . وَ
" الْمُنَاسَبَةُ " بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ثَابِتَةٌ فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ
اللَّهِ تَعَالَى يُوَافِقُونَهُ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ فَيَفْعَلُونَهُ وَفِيمَا
يُحِبُّهُ فَيُحِبُّونَهُ وَفِيمَا نَهَى عَنْهُ فَيَتْرُكُونَهُ وَفِيمَا
يُعْطِيهِ فَيُصِيبُونَهُ . وَاَللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ جَمِيلٌ يُحِبُّ
الْجَمَالَ عَلِيمٌ يُحِبُّ الْعِلْمَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ مُحْسِنٌ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ مُقْسِطٌ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
الْمَعَانِي ؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ أَعْظَمَ
مِنْ فَرَحِ الْفَاقِدِ لِرَاحِلَتِهِ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي
الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ إذَا وَجَدَهَا بَعْدَ الْيَأْسِ فَاَللَّهُ أَشَدُّ
فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي
الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِذَا
أُرِيدَ " بِالْمُنَاسَبَةِ " هَذَا وَأَمْثَالُهُ فَهَذِهِ
الْمُنَاسَبَةُ حَقٌّ وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا تَقَدَّمَتْ
الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ يُحِبُّ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَكْمَلُ مِمَّنْ
لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْكَمَالِ ؛ أَوْ لَا يُحِبُّ
صِفَاتِ الْكَمَالِ . وَإِذَا قُدِّرَ مَوْجُودَانِ :
أَحَدُهُمَا يُحِبُّ الْعِلْمَ وَالصِّدْقَ وَالْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ وَنَحْوَ
ذَلِكَ .
وَ الْآخَرُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَبَيْنَ الْجَهْلِ
وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُحِبُّ هَذَا وَلَا يُبْغِضُ هَذَا
كَانَ الَّذِي يُحِبُّ تِلْكَ الْأُمُورَ أَكْمَلَ مِنْ هَذَا . فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ مَنْ جَرَّدَهُ عَنْ " صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْوُجُودِ " بِأَنْ
لَا يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ كَالْجَمَادِ فَاَلَّذِي يَعْلَمُ أَكْمَلُ مِنْهُ ؛
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يُحِبُّ الْمَحْمُودَ وَيُبْغِضُ الْمَذْمُومَ :
أَكْمَلُ مِمَّنْ يُحِبُّهُمَا أَوْ يُبْغِضُهُمَا . وَأَصْلُ " هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ " الْفَرْقُ بَيْنَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ
وَسَخَطِهِ وَبَيْنَ إرَادَتِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ
وَأَكْثَرِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ
وَصَارَ طَائِفَةٌ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ إلَى أَنَّهُ
لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا . ثُمَّ قَالَتْ " الْقَدَرِيَّةُ " : هُوَ لَا
يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ فَيَكُونُ
مَا لَمْ يَشَأْ وَيَشَاءُ مَا لَمْ يَكُنْ . وَقَالَتْ " الْمُثْبِتَةُ
" مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَنْ قَدْ أَرَادَ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَلَمْ يُرِدْهُ دِينًا أَوْ أَرَادَهُ
مِنْ الْكَافِرِ وَلَمْ يُرِدْهُ مِنْ الْمُؤْمِنِ
فَهُوَ لِذَلِكَ يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَلَا يُحِبُّهُ دِينًا وَيُحِبُّهُ مِنْ الْكَافِرِ وَلَا يُحِبُّهُ مِنْ الْمُؤْمِنِ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَمُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَأَنَّ الْكُفَّارَ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَاَلَّذِينَ نَفَوْا مَحَبَّتَهُ بَنَوْهَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " الرَّحْمَةُ " ضَعْفٌ وَخَوَرٌ فِي
الطَّبِيعَةِ وَتَأَلُّمٌ عَلَى الْمَرْحُومِ فَهَذَا بَاطِلٌ . أَمَّا "
أَوَّلًا " : فَلِأَنَّ الضِّعْفَ وَالْخَوَرَ مَذْمُومٌ مِنْ الْآدَمِيِّينَ
وَالرَّحْمَةَ مَمْدُوحَةٌ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عِبَادَهُ عَنْ الْوَهَنِ
وَالْحُزْنِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَنَدَبَهُمْ إلَى الرَّحْمَةِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
: { لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ } وَقَالَ : { مَنْ لَا يَرْحَمْ
لَا يُرْحَمُ } وَقَالَ : { الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ . ارْحَمُوا
مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } . وَمُحَالٌ أَنْ يَقُولَ
: لَا يُنْزَعُ الضَّعْفُ وَالْخَوَرُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا
كَانَتْ الرَّحْمَةُ تُقَارِنُ فِي حَقِّ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ الضَّعْفَ
وَالْخَوَرَ - كَمَا فِي رَحْمَةِ النِّسَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - ظَنَّ الغالط أَنَّهَا
كَذَلِكَ مُطْلَقًا .
وَ أَيْضًا : فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَكُونَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَلْزِمَةً لِذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ ؛ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ فِينَا يَسْتَلْزِمُ مِنْ النَّقْصِ وَالْحَاجَةِ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ " الْوُجُودُ " وَ " الْقِيَامُ بِالنَّفْسِ " فِينَا : يَسْتَلْزِمُ احْتِيَاجًا إلَى خَالِقٍ يَجْعَلُنَا مَوْجُودِينَ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ فِي وُجُودِهِ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وُجُودُنَا فَنَحْنُ وَصِفَاتُنَا وَأَفْعَالُنَا مَقْرُونُونَ بِالْحَاجَةِ إلَى الْغَيْرِ وَالْحَاجَةُ لَنَا أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَخْلُوَ عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْغَنِيُّ لَهُ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْلُوَ عَنْهُ ؛ فَهُوَ بِنَفْسِهِ حَيٌّ قَيُّومٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ وَنَحْنُ بِأَنْفُسِنَا مُحْتَاجُونَ فُقَرَاءُ . فَإِذَا كَانَتْ ذَاتُنَا وَصِفَاتُنَا وَأَفْعَالُنَا وَمَا اتَّصَفْنَا بِهِ مِنْ الْكَمَالِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هُوَ مَقْرُونٌ بِالْحَاجَةِ وَالْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ : لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ ذَاتٌ وَلَا صِفَاتٌ وَلَا أَفْعَالٌ وَلَا يَقْدِرُ وَلَا يَعْلَمُ ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ مُلَازِمًا لِلْحَاجَةِ فِينَا . فَكَذَلِكَ " الرَّحْمَةُ " وَغَيْرُهَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهَا فِي حَقِّنَا مُلَازِمَةٌ لِلْحَاجَةِ وَالضَّعْفِ ؛ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَكُونَ فِي حَقِّ اللَّهِ مُلَازِمَةً لِذَلِكَ . وَأَيْضًا : فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّا إذَا فَرَضْنَا مَوْجُودَيْنِ أَحَدُهُمَا يَرْحَمُ غَيْرَهُ فَيَجْلُبُ لَهُ الْمَنْفَعَةَ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْمَضَرَّةَ ؛ وَالْآخَرُ قَدْ اسْتَوَى عِنْدَهُ هَذَا وَهَذَا وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَقْتَضِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعَ مَضَرَّةٍ : كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " الْغَضَبُ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ
الِانْتِقَامِ " فَلَيْسَ بِصَحِيحِ فِي حَقِّنَا ؛ بَلْ الْغَضَبُ قَدْ
يَكُونُ لِدَفْعِ الْمُنَافِي قَبْلَ وُجُودِهِ فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ انْتِقَامٌ
أَصْلًا . وَأَيْضًا : فَغَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ يُقَارِنُهُ الْغَضَبُ لَيْسَ أَنَّ
مُجَرَّدَ الْغَضَبِ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ كَمَا أَنَّ " الْحَيَاءَ
" يُقَارِنُ حُمْرَةَ الْوَجْهِ وَ " الْوَجَلَ " يُقَارِنُ
صُفْرَةَ الْوَجْهِ ؛ لَا أَنَّهُ هُوَ . وَهَذَا لِأَنَّ النَّفْسَ إذَا قَامَ
بِهَا دَفْعُ الْمُؤْذِي فَإِنْ اسْتَشْعَرَتْ الْقُدْرَةَ فَاضَ الدَّمُ إلَى
خَارِجٍ فَكَانَ مِنْهُ الْغَضَبُ وَإِنْ اسْتَشْعَرَتْ الْعَجْزَ عَادَ الدَّمُ
إلَى دَاخِلٍ ؛ فَاصْفَرَّ الْوَجْهُ كَمَا يُصِيبُ الْحَزِينَ . وَأَيْضًا :
فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ غَضَبِنَا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ
غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ غَضَبِنَا ؛ كَمَا أَنَّ حَقِيقَةَ ذَاتِ اللَّهِ
لَيْسَتْ مِثْلَ ذَاتِنَا فَلَيْسَ هُوَ مُمَاثِلًا لَنَا : لَا لِذَاتِنَا وَلَا
لِأَرْوَاحِنَا وَصِفَاتُهُ كَذَاتِهِ . وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّا
إذَا قَدَّرْنَا مَوْجُودَيْنِ : أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ قُوَّةٌ يَدْفَعُ بِهَا
الْفَسَادَ . وَالْآخَرُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ
كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ تِلْكَ الْقُوَّةِ أَكْمَلَ .
وَلِهَذَا يُذَمُّ مَنْ لَا غَيْرَةَ لَهُ عَلَى الْفَوَاحِشِ كَالدَّيُّوثِ وَيُذَمُّ مَنْ لَا حَمِيَّةَ لَهُ يَدْفَعُ بِهَا الظُّلْمَ عَنْ الْمَظْلُومِينَ وَيَمْدَحُ الَّذِي لَهُ غَيْرَةٌ يَدْفَعُ بِهَا الْفَوَاحِشَ وَحَمِيَّةٌ يَدْفَعُ بِهَا الظُّلْمَ ؛ وَيُعْلَمُ أَنَّ هَذَا أَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ . وَلِهَذَا وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّبَّ بالأكملية فِي ذَلِكَ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وَقَالَ : { أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ أَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي } . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ هَذِهِ انْفِعَالَاتٌ نَفْسَانِيَّةٌ . فَيُقَالُ : كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ مُنْفَعِلٌ وَنَحْنُ وَذَوَاتُنَا مُنْفَعِلَةٌ فَكَوْنُهَا انْفِعَالَاتٍ فِينَا لِغَيْرِنَا نَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهَا : لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُنْفَعِلًا لَهَا عَاجِزًا عَنْ دَفْعِهَا وَكَانَ كُلُّ مَا يَجْرِي فِي الْوُجُودِ فَإِنَّهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَا يَكُونُ إلَّا مَا يَشَاءُ وَلَا يَشَاءُ إلَّا مَا يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ .
فَصْلٌ
:
وَقَوْلُ الْقَائِلِ : " إنَّ الضَّحِكَ خِفَّةُ رُوحٍ " لَيْسَ
بِصَحِيحِ ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ يُقَارِنُهُ . ثُمَّ قَوْلُ الْقَائِلِ :
" خِفَّةُ الرُّوحِ " . إنْ أَرَادَ بِهِ وَصْفًا مَذْمُومًا فَهَذَا
يَكُونُ لِمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُضْحَكَ مِنْهُ وَإِلَّا فَالضَّحِكُ فِي
مَوْضِعِهِ الْمُنَاسِبِ لَهُ صِفَةُ مَدْحٍ وَكَمَالٍ وَإِذَا قُدِّرَ حَيَّانِ
أَحَدُهُمَا يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُ مِنْهُ ؛ وَالْآخَرُ لَا يَضْحَكُ قَطُّ
كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِي . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَنْظُرُ إلَيْكُمْ الرَّبُّ قنطين فَيَظَلُّ
يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ فَقَالَ لَهُ أَبُو رَزِينٍ العقيلي :
يَا رَسُولَ اللَّهِ أو يَضْحَكُ الرَّبُّ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : لَنْ نَعْدَمَ
مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا } . فَجَعَلَ الْأَعْرَابِيُّ الْعَاقِلُ - بِصِحَّةِ
فِطْرَتِهِ - ضَحِكَهُ دَلِيلًا عَلَى إحْسَانِهِ وَإِنْعَامِهِ ؛ فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مَقْرُونٌ بِالْإِحْسَانِ الْمَحْمُودِ وَأَنَّهُ مِنْ
صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالشَّخْصُ الْعَبُوسُ الَّذِي لَا يَضْحَكُ قَطُّ هُوَ
مَذْمُومٌ بِذَلِكَ وَقَدْ قِيلَ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْعَذَابِ : إنَّهُ {
يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا } .
وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ لِآدَمَ : " حَيَّاك اللَّهُ وَبَيَّاك " أَيْ أَضْحَكَك . وَالْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ ضَاحِكٌ ؛ وَمَا يُمَيِّزُ الْإِنْسَانَ عَنْ الْبَهِيمَةِ صِفَةُ كَمَالٍ فَكَمَا أَنَّ النُّطْقَ صِفَةُ كَمَالٍ فَكَذَلِكَ الضَّحِكُ صِفَةُ كَمَالٍ فَمَنْ يَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَمَنْ يَضْحَكُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَضْحَكُ وَإِذَا كَانَ الضَّحِكُ فِينَا مُسْتَلْزِمًا لِشَيْءِ مِنْ النَّقْصِ فَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ الْأَكْثَرُ مُخْتَصٌّ لَا عَامٌّ فَلَيْسَ حَقِيقَةُ الضَّحِكِ مُطْلَقًا مَقْرُونَةً بِالنَّقْصِ كَمَا أَنَّ ذَوَاتَنَا وَصِفَاتِنَا مَقْرُونَةٌ بِالنَّقْصِ وَوُجُودَنَا مَقْرُونٌ بِالنَّقْصِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ مُوجِدًا وَأَنْ لَا تَكُونَ لَهُ ذَاتٌ . وَمِنْ هُنَا ضَلَّتْ الْقَرَامِطَةُ الْغُلَاةُ كَصَاحِبِ " الْإِقْلِيدِ " وَأَمْثَالِهِ فَأَرَادُوا أَنْ يَنْفُوا عَنْهُ كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ الْقَلْبُ وَيَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ فَقَالُوا : لَا نَقُولُ مَوْجُودٌ وَلَا لَا مَوْجُودٌ وَلَا مَوْصُوفٌ وَلَا لَا مَوْصُوفٌ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ - عَلَى زَعْمِهِمْ - مِنْ التَّشْبِيهِ وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا وَهُوَ مُقْتَضَى التَّشْبِيهِ بِالْمُمْتَنِعِ وَالتَّشْبِيهُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُشَارِكَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهَا وَأَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ وُصِفَ بِهَا فَلَا تُمَاثِلُ صِفَةُ الْخَالِقِ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ كَالْحُدُوثِ وَالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ وَالْإِمْكَانِ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " التَّعَجُّبُ اسْتِعْظَامٌ لِلْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ
" . فَيُقَالُ : نَعَمْ . وَقَدْ يَكُونُ مَقْرُونًا بِجَهْلِ بِسَبَبِ
التَّعَجُّبِ وَقَدْ يَكُونُ لِمَا خَرَجَ عَنْ نَظَائِرِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْلَمَ سَبَبَ مَا
تَعَجَّبَ مِنْهُ ؛ بَلْ يَتَعَجَّبُ لِخُرُوجِهِ عَنْ نَظَائِرِهِ تَعْظِيمًا
لَهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يُعَظِّمُ مَا هُوَ عَظِيمٌ ؛ إمَّا لِعَظَمَةِ
سَبَبِهِ أَوْ لِعَظَمَتِهِ . فَإِنَّهُ وَصَفَ بَعْضَ الْخَيْرِ بِأَنَّهُ
عَظِيمٌ . وَوَصَفَ بَعْضَ الشَّرِّ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ فَقَالَ تَعَالَى : { رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } وَقَالَ : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي
وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } وَقَالَ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ
بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ
لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } وَقَالَ : { وَلَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ
مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ
} وَقَالَ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : {
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } عَلَى قِرَاءَةِ الضَّمِّ فَهُنَا هُوَ عَجَبٌ مِنْ
كُفْرِهِمْ مَعَ وُضُوحِ الْأَدِلَّةِ .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي آثَرَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ ضَيْفَهُمَا : لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ : { لَقَدْ ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ مِنْ صُنْعِكُمَا الْبَارِحَةَ } . وَقَالَ : { إنَّ الرَّبَّ لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إذَا قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ . يَقُولُ عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنَا } وَقَالَ : { عَجِبَ رَبُّك مِنْ شَابٍّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ } وَقَالَ : { عَجِبَ رَبُّك مِنْ رَاعِي غَنَمٍ عَلَى رَأْسِ شَظِيَّةٍ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ فَيَقُولُ اللَّهُ اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي } أَوْ كَمَا قَالَ . وَنَحْوَ ذَلِكَ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " لَوْ كَانَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ
لَكَانَ نَقْصًا " . وَقَوْلُ الْآخَرِ : " لَوْ قَدَرَ وَعَذَّبَ
لَكَانَ ظُلْمًا وَالظُّلْمُ نَقْصٌ " . فَيُقَالُ : أَمَّا الْمَقَالَةُ
الْأُولَى فَظَاهِرَةٌ : فَإِنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا
لَا يُرِيدُهُ وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ؛ وَمَا لَا يَخْلُقُهُ وَلَا
يُحْدِثُهُ لَكَانَ نَقْصًا مِنْ وُجُوهٍ : ( أَحَدُهَا أَنَّ انْفِرَادَ شَيْءٍ
مِنْ الْأَشْيَاءِ عَنْهُ بِالْأَحْدَاثِ نَقْصٌ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فِي غَيْرِ مُلْكِهِ
فَكَيْفَ فِي مُلْكِهِ ؟ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّا إذَا فَرَضْنَا اثْنَيْنِ :
أَحَدُهُمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ
وَالْآخَرُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ وَيَسْتَغْنِي عَنْهُ بَعْضُهَا
: كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ فَنَفْسُ خُرُوجِ شَيْءٍ عَنْ قُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ
نَقْصٌ وَهَذِهِ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ نَقْصٌ
بِكُلِّ مِنْ الْمُشْتَرِكَيْنِ وَلَيْسَ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ إلَّا فِي
الْوَحْدَانِيَّةِ . فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ قَدَرَ بِنَفْسِهِ كَانَ
أَكْمَلَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى مُعِينٍ وَمَنْ فَعَلَ الْجَمِيعَ بِنَفْسِهِ
فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَهُ مُشَارِكٌ وَمُعَاوِنٌ عَلَى فِعْلِ الْبَعْضِ
وَمَنْ افْتَقَرَ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ
بَعْضُ الْأَشْيَاءِ .
وَمِنْهَا أَنْ يُقَالَ : كَوْنُهُ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَقَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ : أَكْمَلَ مِنْ كَوْنِهِ خَالِقًا لِلْبَعْضِ وَقَادِرًا عَلَى الْبَعْضِ . وَ " الْقَدَرِيَّةُ " لَا يَجْعَلُونَهُ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَلَا قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ . وَ " الْمُتَفَلْسِفَةُ " الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ عِلَّةٌ غائية شَرٌّ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَجْعَلُونَهُ خَالِقًا لِشَيْءِ مِنْ حَوَادِثِ الْعَالَمِ - لَا لِحَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ الْمُتَحَرِّكَاتِ وَلَا خَالِقًا لِمَا يَحْدُثُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَلَا قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا عَالِمًا بِتَفَاصِيلِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } وَهَؤُلَاءِ يَنْظُرُونَ فِي الْعَالَمِ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَلَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا . ( وَمِنْهَا أَنَّا إذَا قَدَّرْنَا مَالِكَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا يُرِيدُ شَيْئًا فَلَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يُرِيدُ ( وَالْآخَرُ لَا يُرِيدُ شَيْئًا إلَّا كَانَ وَلَا يَكُونُ إلَّا مَا يُرِيدُ عَلِمْنَا بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا أَكْمَلُ . وَفِي الْجُمْلَةِ قَوْلُ " الْمُثْبِتَةِ لِلْقُدْرَةِ " يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ ؛ فَيَقْتَضِي كَمَالَ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَ " نفاة الْقَدَرِ " يَسْلُبُونَهُ هَذِهِ الكمالات . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " إنَّ التَّعْذِيبَ عَلَى الْمُقَدَّرِ ظُلْمٌ مِنْهُ " فَهَذِهِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ لَيْسَ مَعَهُمْ فِيهَا إلَّا قِيَاسُ الرَّبِّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ كُلَّ مَا كَانَ نَقْصًا
مِنْ أَيِّ مَوْجُودٍ كَانَ : لَزِمَ أَنْ يَكُونَ نَقْصًا مِنْ اللَّهِ ؛ بَلْ وَلَا يَقْبُحُ هَذَا مِنْ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا ؛ بَلْ إذَا كَانَ لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي تَعْذِيبِ بَعْضِ الْحَيَوَانِ وَأَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا فِيهِ تَعْذِيبٌ لَهُ حَسُنَ ذَلِكَ مِنْهُ ؛ كَاَلَّذِي يَصْنَعُ الْقَزَّ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي أَنَّ دُودَ الْقَزِّ يَنْسِجُهُ ثُمَّ يَسْعَى فِي أَنْ يُلْقَى فِي الشَّمْسِ لِيَحْصُلَ لَهُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْقَزِّ وَهُوَ هُنَا لَهُ سَعْيٌ فِي حَرَكَةِ الدُّودِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ تَعْذِيبِهِ . وَكَذَلِكَ الَّذِي يَسْعَى فِي أَنْ يَتَوَالَدَ لَهُ مَاشِيَةٌ وَتَبِيضَ لَهُ دَجَاجٌ ثُمَّ يَذْبَحُ ذَلِكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فَقَدْ تَسَبَّبَ فِي وُجُودِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ تَسَبُّبًا أَفْضَى إلَى عَذَابِهِ ؛ لِمَصْلَحَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ . فَفِي " الْجُمْلَةِ " : الْإِنْسَانُ يَحْسُنُ مِنْهُ إيلَامُ الْحَيَوَانِ لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ جِنْسُ هَذَا مَذْمُومًا وَلَا قَبِيحًا وَلَا ظُلْمًا وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ ظُلْمٌ . وَحِينَئِذٍ فَالظُّلْمُ مِنْ اللَّهِ إمَّا أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ تَصَرُّفُ الْمُتَصَرِّفِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَاَللَّهُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ ؛ أَوْ الظُّلْمُ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُ ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ مِنْهُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ أَوْ مُخَالَفَةُ أَمْرِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ . فَإِذَا كَانَ الظُّلْمُ لَيْسَ إلَّا هَذَا أَوْ هَذَا : امْتَنَعَ الظُّلْمُ مِنْهُ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَفْعَلُهُ لِغِنَاهُ وَعِلْمِهِ بِقُبْحِهِ ؛ وَلِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ ؛ وَلِكَمَالِ نَفْسِهِ يَمْتَنِعُ وُقُوعُ الظُّلْمِ مِنْهُ إذْ كَانَ الْعَدْلُ وَالرَّحْمَةُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ ؛ فَيَمْتَنِعُ اتِّصَافُهُ بِنَقِيضِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ لَوَازِمِهِ عَلَى هَذَا
الْقَوْلِ فَاَلَّذِي يَفْعَلُهُ لِحِكْمَةِ اقْتَضَتْ ذَلِكَ كَمَا أَنَّ الَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِهِ لِحِكْمَةِ تَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْهُ . وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَا فَعَلَهُ عَلِمْنَا أَنَّ لَهُ فِيهِ حِكْمَةً ؛ وَهَذَا يَكْفِينَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَإِنْ لَمْ نَعْرِفْ التَّفْصِيلَ وَعَدَمُ عِلْمِنَا بِتَفْصِيلِ حِكْمَتِهِ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ عِلْمِنَا بِكَيْفِيَّةِ ذَاتِهِ ؛ وَكَمَا أَنَّ ثُبُوتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ مَعْلُومٌ لَنَا وَأَمَّا كُنْهُ ذَاتِهِ فَغَيْرُ مَعْلُومَةٍ لَنَا فَلَا نُكَذِّبُ بِمَا عَلِمْنَاهُ مَا لَمْ نَعْلَمْهُ . وَكَذَلِكَ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ " حَكِيمٌ " فِيمَا يَفْعَلُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَعَدَمُ عِلْمِنَا بِالْحِكْمَةِ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ لَا يَقْدَحُ فِيمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ أَصْلِ حِكْمَتِهِ ؛ فَلَا نُكَذِّبُ بِمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ حِكْمَتِهِ مَا لَمْ نَعْلَمْهُ مِنْ تَفْصِيلِهَا . وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ عَلِمَ حِذْقَ أَهْلِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالنَّحْوِ وَلَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِهِمْ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالنَّحْوِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَقْدَحَ فِيمَا قَالُوهُ ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِتَوْجِيهِهِ . وَالْعِبَادُ أَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ عَوَامِّهِمْ بِالْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالنَّحْوِ فَاعْتِرَاضُهُمْ عَلَى حِكْمَتِهِ أَعْظَمُ جَهْلًا وَتَكَلُّفًا لِلْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ مِنْ الْعَامِّيِّ الْمَحْضِ إذَا قَدَحَ فِي الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالنَّحْوِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ . وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْكَمَالِ وَهُوَ قَوْلُنَا : إنَّ الْكَمَالَ
الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ لِلْمُمْكِنِ الْوُجُودَ يَجِبُ اتِّصَافُهُ بِهِ وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا يُنَاقِضُهُ فَيُقَالُ : خَلْقُ بَعْضِ الْحَيَوَانِ وَفِعْلُهُ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِعَذَابِهِ هَلْ هُوَ نَقْصٌ مُطْلَقًا أَمْ يَخْتَلِفُ ؟ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ فِي خَلْقِ ذَلِكَ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ فَأَيُّمَا أَكْمَلُ تَحْصِيلُ ذَلِكَ بِتِلْكَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَوْ تَفْوِيتُهَا ؟ وَأَيْضًا فَهَلْ يُمْكِنُ حُصُولُ الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِدُونِ حُصُولِ هَذَا ؟ فَهَذِهِ أُمُورٌ إذَا تَدَبَّرَهَا الْإِنْسَانُ ؛ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ خَلْقُ فِعْلِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِتَعْذِيبِهِ نَقْصٌ مُطْلَقًا . وَ " الْمُثْبِتَةُ لِلْقَدَرِ " قَدْ تُجِيبُ بِجَوَابِ آخَرَ ؛ لَكِنْ يُنَازِعُهُمْ الْجُمْهُورُ فِيهِ . فَيَقُولُونَ : كَوْنُهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ صِفَةَ كَمَالٍ بِخِلَافِ الَّذِي يَكُونُ مَأْمُورًا مَنْهِيًّا الَّذِي يُؤْمَرُ بِشَيْءِ وَيُنْهَى عَنْ شَيْءٍ . وَيَقُولُونَ إنَّمَا قَبُحَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا شَاءَ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ . وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : إذَا قَدَّرْنَا مَنْ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ بِلَا حِكْمَةٍ مَحْبُوبَةٍ تَعُودُ إلَيْهِ وَلَا رَحْمَةٍ وَإِحْسَانٍ يَعُودُ إلَى غَيْرِهِ : كَانَ الَّذِي يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَرَحْمَةٍ أَكْمَل مِمَّنْ يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةِ وَلَا لِرَحْمَةِ . وَيَقُولُونَ : إذَا قَدَّرْنَا مُرِيدًا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مُرَادِهِ وَمُرَادِ غَيْرِهِ . وَمُرِيدًا يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا ؛ فَيُرِيدُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ ؛ دُونَ مَا هُوَ بِالضِّدِّ : كَانَ هَذَا الثَّانِي أَكْمَلَ . وَيَقُولُونَ : الْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ الَّذِي فَوْقَهُ آمِرٌ نَاهٍ هُوَ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ لَيْسَ
فَوْقَهُ آمِرٌ نَاهٍ لَكِنْ إذَا كَانَ هُوَ الْآمِرَ لِنَفْسِهِ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ وَالْمُحَرِّمَ عَلَيْهَا مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ وَآخَرُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُهُ بِدُونِ أَمْرٍ وَنَهْيٍ مِنْ نَفْسِهِ فَهَذَا الْمُلْتَزِمُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ - الْوَاقِعَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ - أَكْمَل مِنْ ذَلِكَ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وَقَالَ : { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا } . وَقَالُوا أَيْضًا : إذَا قِيلَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ عَلَى وَجْهِ بَيَانِ قُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُ وَلَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مُرَادَهُ وَلَا أَنْ يَجْعَلَهُ مُرِيدًا كَانَ هَذَا أَكْمَلَ مِمَّنْ لَهُ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مُرَادَهُ وَمُعِينٌ لَا يَكُونُ مُرِيدًا أَوْ فَاعِلًا لِمَا يُرِيدُ إلَّا بِهِ . وَأَمَّا إذَا قِيلَ : يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ مُقْتَضَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ؛ بَلْ هُوَ ( مُتَسَفِّهٌ فِيمَا يَفْعَلُهُ وَآخَرُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ؛ لَكِنَّ إرَادَتَهُ مَقْرُونَةٌ بِالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ؛ كَانَ هَذَا الثَّانِي أَكْمَلَ . وَ ( جِمَاعُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ كَمَالَ الْقُدْرَةِ صِفَةُ كَمَالٍ وَكَوْنُ الْإِرَادَةِ نَافِذَةً لَا تَحْتَاجُ إلَى مُعَاوِنٍ وَلَا يُعَارِضُهَا مَانِعٌ وَصْفُ كَمَالٍ . وَأَمَّا كَوْنُ " الْإِرَادَةِ " لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ مُرَادٍ وَمُرَادٍ بَلْ جَمِيعُ الْأَجْنَاسِ عِنْدَهَا سَوَاءٌ فَهَذَا لَيْسَ بِوَصْفِ كَمَالٍ ؛ بَلْ الْإِرَادَةُ الْمُمَيِّزَةُ بَيْنَ مُرَادٍ وَمُرَادٍ - كَمَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ - هِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالْكَمَالِ فَمَنْ نَقَصَهُ فِي قُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَلَمْ يُقَدِّرْهُ قَدْرَهُ . وَمَنْ نَقَصَهُ مِنْ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فَلَمْ يُقَدِّرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ . وَالْكَمَالُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ إثْبَاتُ هَذَا وَهَذَا .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا " مُنْكِرُو النُّبُوَّاتِ " وَقَوْلُهُمْ : لَيْسَ الْخَلْقُ
أَهْلًا أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ رَسُولًا كَمَا أَنَّ أَطْرَافَ النَّاسِ
لَيْسُوا أَهْلًا أَنْ يُرْسِلَ السُّلْطَانُ إلَيْهِمْ رَسُولًا : فَهَذَا جَهْلٌ
وَاضِحٌ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا تُحْمَدُ
بِهِ الْمُلُوكُ خِطَابَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ لِضُعَفَاءِ الرَّعِيَّةِ فَكَيْفَ
بِإِرْسَالِ رَسُولٍ إلَيْهِمْ . وَأَمَّا فِي حَقِّ الْخَالِقِ فَهُوَ
سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا وَهُوَ قَادِرٌ
مَعَ كَمَالِ رَحْمَتِهِ فَإِذَا كَانَ كَامِلَ الْقُدْرَةِ كَامِلَ الرَّحْمَةِ
فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا رَحْمَةً مِنْهُ ؟ كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } . وَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ
} وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ إحْسَانِهِ إلَى الْخَلْقِ بِالتَّعْلِيمِ وَالْهِدَايَةِ
وَبَيَانِ مَا يَنْفَعُهُمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا مِنْ مِنَنِهِ عَلَى
عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ .
فَإِنْ كَانَ الْمُنْكِرُ يُنْكِرُ قُدْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا قَدْحٌ فِي كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَإِنْ كَانَ يُنْكِرُ إحْسَانَهُ بِذَلِكَ فَهَذَا قَدْحٌ فِي كَمَالِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ . فَعُلِمَ أَنَّ إرْسَالَ الرَّسُولِ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِحْسَانُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَا النَّقْصِ . وَأَمَّا تَعْذِيبُ الْمُكَذِّبِينَ فَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْقَدَرِ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا " قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ " : إنَّ عَظَمَتَهُ وَجَلَالَهُ
يَقْتَضِي أَنْ لَا يُتَقَرَّبَ إلَيْهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ وَحِجَابٍ
وَالتَّقَرُّبُ بِدُونِ ذَلِكَ غَضٌّ مِنْ جَنَابِهِ الرَّفِيعِ فَهَذَا بَاطِلٌ
مِنْ وُجُوهٍ :
مِنْهَا أَنَّ الَّذِي لَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ إلَّا بِوَسَائِطَ وَحِجَابٍ إمَّا
أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى سَمَاعِ كَلَامِ جُنْدِهِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ
بِدُونِ الْوَسَائِطِ وَالْحِجَابِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ قَادِرًا كَانَ هَذَا نَقْصًا وَاَللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ
بِالْكَمَالِ ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَ
عِبَادِهِ بِلَا وَسَائِطَ وَيُجِيبُ دُعَاءَهُمْ وَيُحْسِنُ إلَيْهِمْ بِدُونِ
حَاجَةٍ إلَى حِجَابٍ وَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ أُمُورِهِ
بِدُونِ الْحِجَابِ وَتَرَكَ الْحِجَابَ إحْسَانًا وَرَحْمَةً كَانَ ذَلِكَ صِفَةَ
كَمَالٍ . وَأَيْضًا : فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ هَذَا غَضٌّ مِنْهُ إنَّمَا
يَكُونُ فِيمَنْ يُمْكِنُ الْخَلْقُ أَنْ يَضُرُّوهُ وَيَفْتَقِرُ فِي نَفْعِهِ إلَيْهِمْ
فَأَمَّا مَعَ كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُمْ وَأَمْنِهِ أَنْ
يُؤْذُوهُ فَلَيْسَ تَقَرُّبُهُمْ إلَيْهِ غَضًّا مِنْهُ ؛ بَلْ إذَا كَانَ
اثْنَانِ : أَحَدُهُمَا يُقَرِّبُ إلَيْهِ الضُّعَفَاءَ إحْسَانًا إلَيْهِمْ وَلَا
يَخَافُ مِنْهُمْ وَالْآخَرُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إمَّا خَوْفًا وَإِمَّا كِبْرًا
وَإِمَّا غَيْرَ ذَلِكَ : كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِي :
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا لَا يُقَالُ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْمُطَاعِ ؛ بَلْ إذَا أَذِنَ لِلنَّاسِ فِي التَّقَرُّبِ مِنْهُ وَدُخُولِ دَارِهِ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سُوءَ أَدَبٍ عَلَيْهِ وَلَا غَضًّا مِنْهُ فَهَذَا إنْكَارٌ عَلَى مَنْ تَعَبَّدَهُ بِغَيْرِ مَا شَرَعَ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } { وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُمْ أَيُّمَا أَكْمَلُ ؟ ذَاتٌ
تُوصَفُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِدْرَاكَاتِ مِنْ الذَّوْقِ وَالشَّمِّ
وَاللَّمْسِ ؟ أَمْ ذَاتٌ لَا تُوصَفُ بِهَا ؟ لَقَالُوا : الْأَوَّلُ أَكْمَلُ
وَلَمْ يَصِفُوهُ بِهَا . فَتَقُولُ مُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ لَهُمْ : فِي هَذِهِ
الْإِدْرَاكَاتِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ : أَحَدُهَا : إثْبَاتُ هَذِهِ الْإِدْرَاكَاتِ
لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا يُوصَفُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ . وَهَذَا قَوْلُ
الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَظُنُّهُ قَوْلَ الْأَشْعَرِيِّ
نَفْسِهِ بَلْ هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَصْرِيِّينَ الَّذِينَ يَصِفُونَهُ
بِالْإِدْرَاكَاتِ . وَهَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ يَقُولُونَ : تَتَعَلَّقُ بِهِ
الْإِدْرَاكَاتُ الْخَمْسَةُ أَيْضًا كَمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّؤْيَةُ ؛ وَقَدْ
وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي " الْمُعْتَمَدِ
" وَغَيْرِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يَنْفِي هَذِهِ
الثَّلَاثَةَ ؛ كَمَا يَنْفِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُثْبِتَةِ أَيْضًا مِنْ
الصفاتية وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ
وَغَيْرِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : إثْبَاتُ إدْرَاكِ اللَّمْسِ دُونَ
إدْرَاكِ الذَّوْقِ ؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَطْعُومِ فَلَا
يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا مَنْ يَأْكُلُ وَلَا يُوصَفُ بِهِ إلَّا مَا يُؤْكَلُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ الْأَكْلِ بِخِلَافِ اللَّمْسِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرُّؤْيَةِ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَصِفُونَهُ بِاللَّمْسِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَصِفُونَهُ بِالذَّوْقِ . وَذَلِكَ أَنَّ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا لِلْمُثْبِتَةِ : إذَا قُلْتُمْ إنَّهُ يَرَى . فَقُولُوا إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْحِسِّ . وَإِذَا قُلْتُمْ إنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فَصِفُوهُ بِالْإِدْرَاكَاتِ الْخَمْسَةِ . فَقَالَ " أَهْلُ الْإِثْبَاتِ قَاطِبَةً " نَحْنُ نَصِفُهُ بِأَنَّهُ يَرَى وَأَنَّهُ يُسْمَعُ كَلَامُهُ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ . وَكَذَلِكَ نَصِفُهُ بِأَنَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى . وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ : نَصِفُهُ أَيْضًا بِإِدْرَاكِ اللَّمْسِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَمَالٌ لَا نَقْصَ فِيهِ . وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ بِخِلَافِ إدْرَاكِ الذَّوْقِ فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَكْلِ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلنَّقْصِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَطَائِفَةٌ مِنْ نُظَّارِ الْمُثْبِتَةِ وَصَفُوهُ بِالْأَوْصَافِ الْخَمْسِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّؤْيَةُ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مُصَحِّحَ الرُّؤْيَةِ الْوُجُودُ وَلَمْ يَقُولُوا إنَّهُ مُتَّصِفٌ بِهَا . وَأَكْثَرُ مُثْبِتِي الرُّؤْيَةِ لَمْ يَجْعَلُوا مُجَرَّدَ الْوُجُودِ هُوَ الْمُصَحِّحُ لِلرُّؤْيَةِ ؛ بَلْ قَالُوا إنَّ الْمُقْتَضَى أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ لَا أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَصِحُّ رُؤْيَتُهُ وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ ؛ فَإِنَّ الثَّانِيَ يَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ كُلِّ مَوْجُودٍ ؛ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ؛ وَإِذَا كَانَ الْمُصَحِّحُ لِلرُّؤْيَةِ هِيَ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا أُمُورٌ عَدَمِيَّةٌ ؛ فَمَا كَانَ أَحَقَّ بِالْوُجُودِ وَأَبْعَدَ عَنْ الْعَدَمِ كَانَ أَحَقَّ بِأَنْ تَجُوزَ رُؤْيَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَى مَا سِوَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : الْكَمَالُ وَالنَّقْصُ مِنْ الْأُمُورِ
النِّسْبِيَّةِ : فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ هُوَ
الْكَمَالُ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ
الْكَمَالُ الْمُمْكِنُ لِلْمَوْجُودِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَنْتَفِي عَنْ اللَّهِ
أَصْلًا وَالْكَمَالُ النِّسْبِيُّ هُوَ الْمُسْتَلْزِمُ لِلنَّقْصِ ؛ فَيَكُونُ
كَمَالًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ؛ كَالْأَكْلِ لِلْجَائِعِ كَمَالٌ لَهُ وَلِلشَّبْعَانِ
نَقْصٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَمَالِ مَحْضٍ بَلْ هُوَ مَقْرُونٌ
بِالنَّقْصِ . وَالتَّعَالِي وَالتَّكَبُّرُ وَالثَّنَاءُ عَلَى النَّفْسِ
وَأَمْرُ النَّاسِ بِعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ وَنَحْوُ
ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ هَذَا كَمَالٌ مَحْمُودٌ مِنْ
الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُوَ نَقْصٌ مَذْمُومٌ مِنْ الْمَخْلُوقِ .
وَهَذَا كَالْخَبَرِ عَمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ ؛ كَقَوْلِهِ : {
إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } وقَوْله تَعَالَى {
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وَقَوْلِهِ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } وَقَوْلِهِ : { أَمْ
حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا } وَقَوْلِهِ : { إنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وَقَوْلِهِ : { إنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهَادُ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }
{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } وَأَمْثَالُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي يَذْكُرُ الرَّبُّ فِيهِ عَنْ نَفْسِهِ بَعْضَ خَصَائِصِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ صَادِقٌ فِي إخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا هُوَ مِنْ نُعُوتِ الْكَمَالِ : هُوَ أَيْضًا مِنْ كَمَالِهِ فَإِنَّ بَيَانَهُ لِعِبَادِهِ وَتَعْرِيفَهُمْ ذَلِكَ هُوَ أَيْضًا مِنْ كَمَالِهِ . وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَوْ أَخْبَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ لَكَانَ كَاذِبًا مُفْتَرِيًا وَالْكَذِبُ مِنْ أَعْظَمِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ . وَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ الْمَخْلُوقُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا هُوَ صَادِقٌ فِيهِ فَهَذَا لَا يُذَمُّ مُطْلَقًا بَلْ قَدْ يُحْمَدُ مِنْهُ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ } . وَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ أَوْ مُسَاوِيَةٌ فَيُذَمُّ لِفِعْلِهِ مَا هُوَ مَفْسَدَةٌ لَا لِكَذِبِهِ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ مَا هُوَ مَذْمُومٌ عَلَيْهِ ؛ بَلْ لَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ مِنْهُ حَسَنٌ جَمِيلٌ مَحْمُودٌ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : الظُّلْمُ مِنْهُ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ فَظَاهِرٌ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ فَأَخْبَارُهُ كُلُّهَا وَأَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا حَسَنَةٌ مَحْمُودَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْحَمْدَ وَلَهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا الْكِبْرِيَاءَ وَالْعَظَمَةَ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . فَالْكِبْرِيَاءُ وَالْعَظَمَةُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ حَيًّا قَيُّومًا قَدِيمًا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُنَالُ وَأَنَّهُ قَهَّارٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ .
فَهَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا إلَّا هُوَ ؛ فَمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا هُوَ كَيْفَ يَكُونُ كَمَالًا مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ مَعْدُومٌ لِغَيْرِهِ ؟ فَمَنْ ادَّعَاهُ كَانَ مُفْتَرِيًا مُنَازِعًا لِلرُّبُوبِيَّةِ فِي خَوَاصِّهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : الْعَظَمَةُ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْته } . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ : أَنَّ الْكَمَالَ الْمُخْتَصَّ بِالرُّبُوبِيَّةِ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فِيهِ نَصِيبٌ فَهَذَا تَحْقِيقُ اتِّصَافِهِ بِالْكَمَالِ الَّذِي لَا نَصِيبَ لِغَيْرِهِ فِيهِ . وَمِثْلُ هَذَا الْكَمَالِ لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ فَادِّعَاؤُهُ مُنَازَعَةٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ وَفِرْيَةٌ عَلَى اللَّهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النُّبُوَّةَ كَمَالٌ لِلنَّبِيِّ وَإِذَا ادَّعَاهَا الْمُفْتَرُونَ - كمسيلمة وَأَمْثَالِهِ - كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا مِنْهُمْ لَا لِأَنَّ النُّبُوَّةَ نَقْصٌ ؛ وَلَكِنَّ دَعْوَاهَا مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ هُوَ النَّقْصُ وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالصَّلَاحَ مَنْ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ كَانَ مَذْمُومًا مَمْقُوتًا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِكَمَالِ لَا يَصْلُحُ لِلْمَخْلُوقِ وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ مَا كَانَ كَمَالًا لِلْمَوْجُودِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْجُودٌ : فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهِ ؛ وَلَكِنْ يُفِيدُ أَنَّ الْكَمَالَ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ الْمَخْلُوقُ بِمَا هُوَ مِنْهُ إذَا وُصِفَ الْخَالِقُ بِمَا هُوَ مِنْهُ فَاَلَّذِي لِلْخَالِقِ لَا يُمَاثِلُهُ مَا لِلْمَخْلُوقِ وَلَا يُقَارِبُهُ . وَهَذَا حَقٌّ فَالرَّبُّ تَعَالَى مُسْتَحِقٌّ لِلْكَمَالِ مُخْتَصٌّ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ شَيْءٌ فَلَيْسَ لَهُ سَمِيٌّ وَلَا كُفُؤٌ سَوَاءٌ كَانَ الْكَمَالُ مِمَّا لَا يَثْبُتُ مِنْهُ شَيْءٌ لِلْمَخْلُوقِ كَرُبُوبِيَّةِ الْعِبَادِ وَالْغِنَى الْمُطْلَقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ مِنْهُ نَوْعٌ لِلْمَخْلُوقِ ؛
فَاَلَّذِي يَثْبُتُ لِلْخَالِقِ مِنْهُ نَوْعٌ هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَخْلُوقِ : عَظَمَةٌ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ فَضْلِ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى أَدْنَاهَا . وَ " مُلَخَّصُ ذَلِكَ " أَنَّ الْمَخْلُوقَ يُذَمُّ مِنْهُ الْكِبْرِيَاءُ وَالتَّجَبُّرُ وَتَزْكِيَةُ نَفْسِهِ أَحْيَانًا وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : فَإِنْ قُلْتُمْ نَحْنُ نَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ مُتَعَلِّقِ الصِّفَةِ وَنَنْظُرُ فِيهَا هَلْ هِيَ كَمَالٌ أَمْ نَقْصٌ ؟ وَكَذَلِكَ نُحِيلُ الْحُكْمَ عَلَيْهَا بِأَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ كَمَالًا لِذَاتٍ نَقْصًا لِأُخْرَى عَلَى مَا ذَكَرَ . فَيُقَالُ : بَلْ نَحْنُ نَقُولُ الْكَمَالُ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ لِلْمُمْكِنِ الْوُجُودَ هُوَ كَمَالٌ مُطْلَقٌ لِكُلِّ مَا يَتَّصِفُ بِهِ . وَأَيْضًا فَالْكَمَالُ الَّذِي هُوَ كَمَالٌ لِلْمَوْجُودِ - مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْجُودٌ - يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ نَقْصًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ نَقْصًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ تَامًّا فِي بَعْضٍ : هُوَ كَمَالٌ لِنَوْعِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ دُونَ نَوْعٍ فَلَا يَكُونُ كَمَالًا لِلْمَوْجُودِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْجُودٌ . وَمِنْ الطُّرُقِ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ ذَلِكَ : أَنْ نُقَدِّرَ مَوْجُودَيْنِ : أَحَدُهُمَا مُتَّصِفٌ بِهَذَا وَالْآخَرُ بِنَقِيضِهِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَيُّهُمَا أَكْمَلُ وَإِذَا قِيلَ هَذَا أَكْمَلُ مَنْ وَجْهٍ وَهَذَا أَنْقَصُ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَكُنْ كَمَالًا مُطْلَقًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ
:
فَصْلٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى
فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } وَقَالَ
تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا
فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا
هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَقَالَ تَعَالَى : { هُوَ اللَّهُ
الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَ "
الْحُسْنَى " : الْمُفَضَّلَةُ عَلَى الْحَسَنَةِ وَالْوَاحِدُ الْأَحَاسِنُ
. ثُمَّ هُنَا " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " : إمَّا أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ
لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ إلَّا الْأَحْسَنُ وَلَا يُدْعَى إلَّا بِهِ ؛ وَإِمَّا
أَنْ يُقَالَ : لَا يُدْعَى إلَّا بِالْحُسْنَى ؛ وَإِنْ سُمِّيَ بِمَا يَجُوزُ -
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْحُسْنَى - وَهَذَانِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ .
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : بَلْ يَجُوزُ فِي الدُّعَاءِ وَالْخَبَرِ . وَذَلِكَ
أَنَّ قَوْلَهُ : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } وَقَالَ
: { ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } أَثْبَتَ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى وَأَمَرَ
بِالدُّعَاءِ بِهَا . فَظَاهِرُ هَذَا : أَنَّ لَهُ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ
الْحُسْنَى .
وَقَدْ يُقَالُ : جِنْسُ " الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى " بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ نَفْيُهَا عَنْهُ كَمَا فَعَلَهُ الْكُفَّارُ وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ بِهَا وَأَمَرَ بِدُعَائِهِ مُسَمًّى بِهَا ؛ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ دُعَائِهِ بِاسْمِهِ " الرَّحْمَنِ " . فَقَدْ يُقَالُ : قَوْلُهُ { فَادْعُوهُ بِهَا } أَمْرٌ أَنْ يُدْعَى بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَأَنْ لَا يُدْعَى بِغَيْرِهَا ؛ كَمَا قَالَ : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } فَهُوَ نَهْيٌ أَنْ يُدْعَوْا لِغَيْرِ آبَائِهِمْ . وَيُفَرِّقُ بَيْنَ دُعَائِهِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ فَلَا يُدْعَى إلَّا بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى ؛ وَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْهُ : فَلَا يَكُونُ بِاسْمِ سَيِّئٍ ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ بِاسْمِ حَسَنٍ أَوْ بِاسْمِ لَيْسَ بِسَيِّئِ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِحُسْنِهِ . مِثْلَ اسْمِ شَيْءٍ وَذَاتٍ وَمَوْجُودٍ ؛ إذَا أُرِيدَ بِهِ الثَّابِتُ وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِهِ " الْمَوْجُودُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ " فَهُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَكَذَلِكَ الْمُرِيدُ وَالْمُتَكَلِّمُ ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْكَلَامَ تَنْقَسِمُ إلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى بِخِلَافِ الْحَكِيمِ وَالرَّحِيمِ وَالصَّادِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَحْمُودًا . وَهَكَذَا كَمَا فِي حَقِّ الرَّسُولِ حَيْثُ قَالَ : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَمَا خَاطَبَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ } لَا يَقُولُ يَا مُحَمَّدُ يَا أَحْمَد يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْإِخْبَارِ - كَالْأَذَانِ وَنَحْوِهِ - : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } وَقَالَ : { وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } وَقَالَ : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ } .
فَهُوَ
سُبْحَانَهُ : لَمْ يُخَاطِبْ مُحَمَّدًا إلَّا بِنَعْتِ التَّشْرِيفِ :
كَالرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ وَالْمُزَّمِّلِ وَالْمُدَّثِّرِ ؛ وَخَاطَبَ سَائِرَ
الْأَنْبِيَاءِ بِأَسْمَائِهِمْ مَعَ أَنَّهُ فِي مَقَامِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ
قَدْ يَذْكُرُ اسْمَهُ . فَقَدْ فَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ حَالَتَيْ الْخِطَابِ
فِي حَقِّ الرَّسُولِ وَأَمَرَنَا بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّهِ ؛
وَكَذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ فِي عُقُولِ النَّاسِ إذَا خَاطَبُوا الْأَكَابِرَ
مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالرُّؤَسَاءِ لَمْ
يُخَاطِبُوهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إلَّا بِاسْمِ حَسَنٍ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ
الْخَبَرِ عَنْ أَحَدِهِمْ يُقَالُ : هُوَ إنْسَانٌ وَحَيَوَانٌ نَاطِقٌ وَجِسْمٌ وَمُحْدَثٌ
وَمَخْلُوقٌ وَمَرْبُوبٌ وَمَصْنُوعٌ وَابْنُ أُنْثَى وَيَأْكُلُ الطَّعَامَ
وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ . لَكِنَّ كُلَّ مَا يُذْكَرُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ
فِي حَالِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ : يُدْعَى بِهِ فِي حَالِ مُنَاجَاتِهِ
وَمُخَاطَبَتِهِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ أَسْمَاءُ الْمَخْلُوقِ فِيهَا مَا يَدُلُّ
عَلَى نَقْصِهِ وَحُدُوثِهِ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى
نَقْصٍ وَلَا حُدُوثٍ ؛ بَلْ فِيهَا الْأَحْسَنُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ
وَهِيَ الَّتِي يُدْعَى بِهَا ؛ وَإِنْ كَانَ إذَا أُخْبِرَ عَنْهُ يُخْبَرُ
بِاسْمِ حَسَنٍ أَوْ بِاسْمِ لَا يَنْفِي الْحَسَنَ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
حَسَنًا (1) .
وَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ الْمَأْثُورَةِ فَمَا مِنْ اسْمٍ إلَّا وَهُوَ يَدُلُّ
عَلَى مَعْنًى حَسَنٍ فَيَنْبَغِي تَدَبُّرُ هَذَا لِلدُّعَاءِ وَلِلْخَبَرِ
الْمَأْثُورِ وَغَيْرِ الْمَأْثُورِ الَّذِي قِيلَ لِضَرُورَةِ حُدُوثِ
الْمُخَالِفِينَ - لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالْخَبَرِ وَبَيْنَ
الْمَأْثُورِ الَّذِي يُقَالُ - أَوْ تَعْرِيفِهِمْ لِمَا لَمْ يَكُونُوا بِهِ
عَارِفِينَ وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ كُلُّ اسْمٍ ذُكِرَ فِي مَقَامٍ يُذْكَرُ فِي
مَقَامٍ بَلْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ .
وَقَالَ
:
فَصْلٌ :
فِي الْقَاعِدَةِ الْعَظِيمَةِ الْجَلِيلَةِ فِي " مَسَائِلِ الصِّفَاتِ
وَالْأَفْعَالِ " مِنْ حَيْثُ قِدَمُهَا وَوُجُوبُهَا أَوْ جَوَازُهَا
وَمُشْتَقَّاتُهَا أَوْ وُجُوبُ النَّوْعِ مُطْلَقًا وَجَوَازُ الْآحَادِ
مُعَيَّنًا . فَنَقُولُ : الْمُضَافَاتُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ إضَافَةَ اسْمٍ إلَى اسْمٍ أَوْ نِسْبَةَ فِعْلٍ
إلَى اسْمٍ أَوْ خَبَرٍ بِاسْمِ عَنْ اسْمٍ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ
:
أَحَدُهَا إضَافَةُ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا
يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ } . وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِخَارَةِ : { اللَّهُمَّ
إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك } وَفِي الْحَدِيثِ
الْآخَرِ { اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ وَقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ } فَهَذَا
فِي الْإِضَافَةِ الِاسْمِيَّةِ . وَأَمَّا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فَكَقَوْلِهِ : {
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } وَقَوْلِهِ : {
عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } .
وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ : فَمِثْلَ قَوْلِهِ : { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي تُوصَفُ بِهِ الذَّوَاتُ : إمَّا جُمْلَةٌ أَوْ مُفْرَدٌ . فَالْجُمْلَةُ إمَّا اسْمِيَّةٌ كَقَوْلِهِ : { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أَوْ فِعْلِيَّةٌ كَقَوْلِهِ : { عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ } . أَمَّا الْمُفْرَدُ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى كَقَوْلِهِ : { بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } وَقَوْلِهِ : { هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } أَوْ إضَافَةُ الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ : { ذُو الْقُوَّةِ } . وَ ( الْقِسْمُ الثَّانِي : إضَافَةُ الْمَخْلُوقَاتِ كَقَوْلِهِ : { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } وَقَوْلِهِ : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } وَقَوْلِهِ : { رَسُولَ اللَّهِ } وَ { عِبَادَ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { ذُو الْعَرْشِ } وَقَوْلِهِ : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } . فَهَذَا الْقِسْمُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّهُ مَخْلُوقٌ كَمَا أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي أَنَّهُ قَدِيمٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَقَدْ خَالَفَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي ثُبُوتِ الصِّفَاتِ ؛ لَا فِي أَحْكَامِهَا وَخَالَفَهُمْ بَعْضُهُمْ فِي قِدَمِ الْعِلْمِ وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ حُدُوثَهُ وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ . ( الثَّالِثُ - وَهُوَ مَحَلُّ الْكَلَامِ هُنَا - مَا فِيهِ مَعْنَى الصِّفَةِ وَالْفِعْلِ مِثْلَ قَوْلِهِ : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَوْلِهِ : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي } وَقَوْلِهِ : { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ } { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } .
وَقَوْلِهِ : { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } وَقَوْلِهِ : { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } وَقَوْلِهِ : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وَقَوْلِهِ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } وَقَوْلِهِ : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } . وَقَوْلِهِ : { وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا } { وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ } { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا } . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَقَوْلُهُ : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ } { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ } . وَفِي الْأَحَادِيثِ شَيْءٌ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ " الشَّفَاعَةِ " : { إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ } وَقَوْلِهِ : { ضَحِكَ اللَّهُ إلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ } وَقَوْلِهِ : { يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا } الْحَدِيثَ . وَأَشْبَاهُ هَذَا . وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ . وَقَوْلُهُ : { إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ : سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ } . . . (1) (*) فَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنْ
الْحَنْبَلِيَّةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ - إنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَا بُدَّ أَنْ يُلْحَقَ بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ ؛ فَيَكُونُ : إمَّا قَدِيمًا قَائِمًا بِهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَهُمْ الْكُلَّابِيَة . وَإِمَّا مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِهِ نَعْتٌ أَوْ حَالٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ شَيْءٌ لَيْسَ بِقَدِيمِ . وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ : " مَسْأَلَةَ حُلُولِ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ " . وَيَقُولُونَ : يَمْتَنِعُ أَنْ تَحِلَّ الْحَوَادِثُ بِذَاتِهِ كَمَا يُسَمِّيهَا قَوْمٌ آخَرُونَ : فِعْلُ الذَّاتِ بِالذَّاتِ أَوْ فِي الذَّاتِ ؛ وَرَأَوْا أَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَهُ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي دَلَّهُمْ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ : قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهَا ؛ فَلَوْ قَامَتْ بِهِ لَزِمَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا حُدُوثُهُ أَوْ بُطْلَانُ الْعِلْمِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ . وَمَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ قَالَ : دَلِيلُ حُدُوثِ الْعَالَمِ امْتِنَاعُ خُلُوِّهِ عَنْ الْحَوَادِثِ وَكَوْنُهُ لَا يَسْبِقُهَا وَأَمَّا إذَا جَازَ أَنْ يَسْبِقَهَا لَمْ يَكُنْ فِي قِيَامِهَا بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ . وَيَقُولُ آخَرُونَ : إنَّهُ لَيْسَ هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ . وَلَهُمْ مَآخِذُ أُخَرُ . ثُمَّ هُمْ فَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ يَرَى امْتِنَاعَ قِيَامِ الصِّفَاتِ بِهِ أَيْضًا ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ وَأَنَّ قِيَامَ الْعَرَضِ بِهِ يَقْتَضِي حُدُوثَهُ أَيْضًا وَهَؤُلَاءِ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ
الْمُعْتَزِلَةِ
فَقَالُوا حِينَئِذٍ : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ
مَشِيئَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ وَلَا حُبٌّ وَلَا بُغْضٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَرَدُّوا
جَمِيعَ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ إلَى إضَافَةِ خَلْقٍ أَوْ إضَافَةِ وَصْفٍ مِنْ
غَيْرِ قِيَامِ مَعْنًى بِهِ . ( وَالثَّانِي : مَذْهَبُ الصفاتية أَهْلِ
السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ يَرَوْنَ قِيَامَ الصِّفَاتِ بِهِ فَيَقُولُونَ
: لَهُ مَشِيئَةٌ قَدِيمَةٌ وَكَلَامٌ قَدِيمٌ وَاخْتَلَفُوا فِي حُبِّهِ
وَبُغْضِهِ وَرَحْمَتِهِ وَأَسَفِهِ وَرِضَاهُ وَسَخَطِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هَلْ
هُوَ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ أَوْ صِفَاتٍ أُخْرَى غَيْرِ الْمَشِيئَةِ ؟ عَلَى
قَوْلَيْنِ . وَهَذَا الِاخْتِلَافُ عِنْدَ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ
وَغَيْرِهِمْ . وَيَقُولُونَ : إنَّ الْخَلْقَ لَيْسَ هُوَ شَيْئًا غَيْرَ الْمَخْلُوقِ
وَغَيْرَ الصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ مِنْ الْمَشِيئَةِ وَالْكَلَامِ . ثُمَّ
يَقُولُونَ لِلْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْخَلْقِ هَلْ هُوَ الْمَخْلُوقُ ؟ أَرْبَعَةُ
أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَائِمٌ بِالْمَخْلُوقِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِنَفْسِهِ .
وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ قَائِمٌ بِالْخَالِقِ . [ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى
الصَّغِيرُ : مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ ] (*) فَالْخَلْقُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَالْمَخْلُوقُ الْمَوْجُودُ الْمُخْتَرَعُ . وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا وَأَنَّ الصِّفَاتِ النَّاشِئَةَ عَنْ الْأَفْعَالِ مَوْصُوفٌ بِهَا فِي الْقِدَمِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَفْعُولَاتُ مُحْدَثَةً . قَالَ : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ . وَيَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْمَجِيءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَنْوَاعُ جِنْسِ الْحَرَكَةِ : أَحَدَ قَوْلَيْنِ : إمَّا أَنْ يَجْعَلُوهَا مِنْ بَابِ " النَّسَبِ " وَ " الْإِضَافَاتِ " الْمَحْضَةِ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ بِصِفَةِ التَّحْتِ فَصَارَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَكْشِفُ الْحُجُبَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فَيَصِيرُ جَائِيًا إلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَنَّ التَّكْلِيمَ إسْمَاعُ الْمُخَاطَبِ فَقَطْ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِيهِ أَوْ فِي بَعْضِهِ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . أَوْ يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ " أَفْعَالٌ مَحْضَةٌ " فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ وَلَا نِسْبَةٍ فَهَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَهُمْ هَلْ تَثْبُتُ لِلَّهِ هَذِهِ النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ مَعَ اتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُدُوثِ " نِسَبٍ " وَ " إضَافَاتٍ " لِلَّهِ تَعَالَى كَالْمَعِيَّةِ وَنَحْوِهَا ؟ وَيُسَمِّي ابْنُ عَقِيلٍ هَذِهِ النِّسَبَ : " الْأَحْوَالَ " لِلَّهِ وَلَيْسَتْ هِيَ " الْأَحْوَالُ " الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْمُتَكَلِّمُونَ مِثْلَ الْعَالَمِيَّةِ وَالْقَادِرِيَّةِ ؛ بَلْ هَذِهِ النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ يُسَمِّيهَا الْأَحْوَالَ . وَيَقُولُ : إنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَيْسَ هُوَ حُدُوثُ الصِّفَاتِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ نِسَبٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْخَلْقِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ مَعْنًى قَائِمٍ
بِالْمَنْسُوبِ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَصْعَدُ إلَى السَّطْحِ فَيَصِيرُ فَوْقَهُ ثُمَّ يَجْلِسُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ تَحْتَهُ وَالسَّطْحُ مُتَّصِفٌ تَارَةً بِالْفَوْقِيَّةِ وَالْعُلُوِّ وَتَارَةً بِالتَّحْتِيَّةِ وَالسُّفُولِ مِنْ غَيْرِ قِيَامِ صِفَةٍ فِيهِ وَلَا تَغَيُّرٍ . وَكَذَلِكَ إذَا وُلِدَ لِلْإِنْسَانِ مَوْلُودٌ فَيَصِيرُ أَخُوهُ عَمًّا وَأَبُوهُ جَدًّا وَابْنُهُ أَخًا وَأَخُو زَوْجَتِهِ خَالًا وَتُنْسَبُ لَهُمْ هَذِهِ النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فِيهِمْ . ( وَالْقَوْلُ الثَّانِي : - وَهُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَكَثِيرٍ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَكْثَرُ كَلَامِ السَّلَفِ وَمَنْ حَكَى مَذْهَبَهُمْ حَتَّى الْأَشْعَرِيَّ ؛ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ - أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةَ وَنَحْوَهَا ؛ الْمُضَافَةَ إلَى اللَّهِ : " قِسْمٌ ثَالِثٌ " لَيْسَتْ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ ؛ وَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ الْوَاجِبَةِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا مَشِيئَتُهُ : لَا بِأَنْوَاعِهَا وَلَا بِأَعْيَانِهَا . وَقَدْ يَقُولُ هَؤُلَاءِ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ وَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ وَكَلَامُهُ مِنْهُ لَيْسَ مَخْلُوقًا . وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ : وَإِنْ كَانَ لَهُ مَشِيئَةٌ قَدِيمَةٌ فَهُوَ يُرِيدُ إذَا شَاءَ وَيَغْضَبُ وَيَمْقُتُ . وَيُقِرُّ هَؤُلَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مَا جَاءَ مِنْ النُّصُوصِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ
وَأَنَّهُ يَدْنُو إلَى عِبَادِهِ وَيَقْرُبُ مِنْهُمْ وَيَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَيَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ جَائِيًا . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَدْ يَقُولُ : تَحِلُّ " الْحَوَادِثُ " بِذَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُطْلِقُ هَذَا اللَّفْظَ : إمَّا لِعَدَمِ وُرُودِ الْأَثَرِ بِهِ ؛ وَإِمَّا لِإِيهَامِ مَعْنًى فَاسِدٍ ؛ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَحُلُولِ " الْأَعْرَاضِ " بِالْمَخْلُوقَاتِ ؛ كَمَا يَمْتَنِعُ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ تَسْمِيَةِ صِفَاتِهِ أَعْرَاضًا ؛ وَإِنْ كَانَتْ صِفَاتٍ قَائِمَةً بِالْمَوْصُوفِ كَالْأَعْرَاضِ . وَزَعَمَ ابْنُ الْخَطِيبِ أَنَّ أَكْثَرَ الطَّوَائِفِ وَالْعُقَلَاءِ يُقِرُّونَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ وَإِنْ أَنْكَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ ؛ حَتَّى الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ . أَمَّا " الْفَلَاسِفَةُ " : فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْإِضَافَاتِ مَوْجُودَةٌ فِي الْأَعْيَانِ ؛ وَاَللَّهُ مَوْجُودٌ مَعَ كُلِّ حَادِثٍ . وَ " الْمَعِيَّةُ " صِفَةٌ حَادِثَةٌ فِي ذَاتِهِ وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو الْبَرَكَاتِ الْبَغْدَادِيُّ صَاحِبُ " الْمُعْتَبَرِ " بِحُدُوثِ عُلُومٍ وَإِرَادَاتٍ جُزْئِيَّةٍ فِي ذَاتِهِ الْمُعَيَّنَةِ . وَقَالَ : إنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الِاعْتِرَافُ بِكَوْنِهِ إلَهًا لِهَذَا الْعَالَمِ إلَّا مَعَ الْقَوْلِ بِذَلِكَ . ثُمَّ قَالَ : الْإِجْلَالُ مِنْ هَذَا الْإِجْلَالِ وَاجِبٌ وَالتَّنْزِيهُ مِنْ هَذَا التَّنْزِيهِ لَازِمٌ . وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " : فَإِنَّ الْبَصْرِيِّينَ كَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ يَقُولُونَ بِحُدُوثِ الْمَرْئِيِّ وَالْمَسْمُوعِ وَبِهِ تَحْدُثُ صِفَةُ السَّمْعِيَّةِ وَالْبَصَرِيَّةِ لِلَّهِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ بِتَجَدُّدِ عُلُومٍ فِي ذَاتِهِ بِتَجَدُّدِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ أَيْضًا يَقُولُونَ بِأَنَّ الْمَعْدُومَاتِ لَمْ تَكُنْ مَسْمُوعَةً وَلَا مَرْئِيَّةً ؛ ثُمَّ صَارَتْ مَسْمُوعَةً مَرْئِيَّةً بَعْدَ وُجُودِهَا وَلَيْسَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ عِنْدَهُمْ مُجَرَّدَ نِسْبَةٍ ؛ بَلْ هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ السَّمِيعِ
الْبَصِيرِ وَقَدْ يُلْزِمُونَ بِقَوْلِهِمْ : بِأَنَّ النَّسْخَ هُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ أَوْ انْتِهَاؤُهُ . وَقَوْلَهُمْ عِلْمُهُ بِالْجُزْئِيَّاتِ . وَكَذَلِكَ بِانْقِطَاعِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ مِنْهُ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْخِلَافِ فِي هَذَا الْأَصْلِ مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ الطَّوَائِفِ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِأَهْلِ الْحَدِيثِ . ثُمَّ " الْنُّفَاةِ " قَدْ يُقَالُ إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَلْزَمُهُمْ إذَا أَثْبَتُوا لِلَّهِ نُعُوتًا غَيْرَ قَدِيمَةٍ ؛ فَيَصِيرُ هَذَا الْأَصْلُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَهُمْ قَدْ يَعْتَذِرُونَ عَنْ تِلْكَ اللَّوَازِمِ ؛ تَارَةً بِأَعْذَارِ صَحِيحَةٍ ؛ فَلَا يَكُونُ لَازِمًا لَهُمْ وَتَارَةً بِأَعْذَارِ غَيْرِ صَحِيحَةٍ فَيَكُونُ لَازِمًا لَهُمْ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ . وَأَمَّا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : فَلَا رَيْبَ أَنَّ ظَاهِرَهَا مُوَافِقٌ لِهَذَا الْقَوْلِ لَكِنْ الْأَوَّلُونَ قَدْ يَتَأَوَّلُونَهَا أَوْ يُفَوِّضُونَهَا وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَقُولُونَ : إنَّ فِيهَا نُصُوصًا لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ . وَإِنَّ مَا قَبِلَ التَّأْوِيلَ قَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ مِنْ الْقَرَائِنِ وَالْضَمَائِمِ (1) (*) . مَا يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَرَادَ ذَلِكَ ؛ أَوْ أَنَّ هَذَا مَفْهُومٌ . وَيَقُولُونَ : لَيْسَ للنفاة دَلِيلٌ مُعْتَمَدٌ وَإِنَّمَا مَعَهُمْ التَّقْلِيدُ لِأَسْلَافِهِمْ بِالشَّنَاعَةِ وَالتَّهْوِيلِ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا دَقِيقَ الْكَلَامِ وَأَنَّ هَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَخَوَاصِّ عِبَادِ اللَّهِ وَإِنَّمَا خَالَفَ ذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ فِي الْمِلَلِ وَالْأَوَّلُونَ قَدْ يَقُولُونَ : هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَهَذَا كُفْرٌ وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّغَيُّرَ وَالْحُدُوثَ وَقَدْ رَأَيْت لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْأَصْلِ عَجَائِبَ .
وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْجُزْءِ الَّذِي فِيهِ " الرَّدُّ عَلَى
الْجَهْمِيَّة وَالزَّنَادِقَةِ " : وَكَذَلِكَ اللَّهُ تَكَلَّمَ كَيْفَ
شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُولَ جَوْفٌ وَلَا فَمٌ وَلَا شَفَتَانِ . وَقَالَ
بَعْدَ ذَلِكَ : بَلْ نَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ
وَلَا نَقُولُ إنَّهُ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خُلِقَ . وَكَلَامُهُ فِيهِ
طُولٌ . قَالَ :
بَابُ مَا أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى
فَقُلْنَا : لِمَ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ ؟ قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ
وَلَا يَتَكَلَّمُ ؛ إنَّمَا كَوَّنَ شَيْئًا فَعَبَّرَ عَنْ اللَّهِ وَخَلَقَ
صَوْتًا فَأَسْمَعَهُ وَزَعَمُوا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ
وَلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ . فَقُلْنَا : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمُكَوِّنِ
غَيْرِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ : يَا مُوسَى إنِّي أَنَا رَبُّك ؟ أَوْ يَقُولَ : {
إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
لِذِكْرِي } . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ اللَّهِ فَقَدْ ادَّعَى
الرُّبُوبِيَّةَ ؛ وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ الجهمي أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَ
شَيْئًا كَأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ الْمُكَوَّنُ : يَا مُوسَى إنَّ اللَّهَ رَبُّ
الْعَالَمِينَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : { إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ } . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَكَلَّمَ اللَّهُ
مُوسَى تَكْلِيمًا } وَقَالَ : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ
رَبُّهُ } وَقَالَ : { إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي
وَبِكَلَامِي } فَهَذَا مَنْصُوصُ الْقُرْآنِ . وَأَمَّا مَا قَالُوا إنَّ اللَّهَ
لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يُكَلَّمُ : فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ الْأَعْمَشِ
عَنْ
خيثمة عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ } " . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ . فَنَقُولُ : أَلَيْسَ اللَّهُ قَالَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ { ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ؟ أَتُرَاهَا أَنَّهَا قَالَتْ بِجَوْفِ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ ؟ . وَقَالَ : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } أَتُرَاهَا أَنَّهَا يُسَبِّحْنَ بِجَوْفِ وَفَمٍ وَلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ ؟ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْطَقَهَا كَيْفَ شَاءَ وَكَذَلِكَ اللَّهُ تَكَلَّمَ كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُولَ جَوْفٌ وَلَا فَمٌ وَلَا شَفَتَانِ وَلَا لِسَانٌ . فَلَمَّا خَنَقَتْهُ الْحُجَجُ قَالَ : إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُهُ فَقُلْنَا : وَغَيْرُهُ مَخْلُوقٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قُلْنَا : هَذَا مِثْلُ قَوْلِكُمْ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّكُمْ تَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ الشُّنْعَةَ وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ : { لَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ رَبِّهِ قَالَ : يَا رَبِّ هَذَا الَّذِي سَمِعْته هُوَ كَلَامُك ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا مُوسَى هُوَ كَلَامِي وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا وَأَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُ بَدَنُك ؛ وَلَوْ كَلَّمْتُك بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمُتّ قَالَ فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ قَالُوا لَهُ صِفْ لَنَا كَلَامَ رَبِّك . فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَهَلْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهُ لَكُمْ قَالُوا : فَشَبِّهْهُ قَالَ : سَمِعْتُمْ أَصْوَاتَ الصَّوَاعِقِ الَّتِي تُقْبِلُ فِي أَحْلَى حَلَاوَةٍ سَمِعْتُمُوهَا ؟ فَكَأَنَّهُ مِثْلُهُ } " . وَقُلْنَا للجهمية : مَنْ الْقَائِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الْقَائِلُ ؟ قَالُوا : يَكُونُ اللَّهُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ كَمَا كَوَّنَهُ فَعَبَّرَ لِمُوسَى . قُلْنَا : فَمَنْ الْقَائِلُ : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ } ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ ؟ قَالُوا : هَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَكُونُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ . فَقُلْنَا : قَدْ أَعْظَمْتُمْ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَتَحَرَّكُ وَلَا تَزُولُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ . فَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ قَالَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ يَتَكَلَّمُ ؛ لَكِنْ كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ . قُلْنَا : قَدْ شَبَّهْتُمْ اللَّهَ بِخَلْقِهِ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَفِي مَذْهَبِكُمْ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ ؛ وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَانُوا وَلَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى خَلَقَ لَهُمْ كَلَامًا فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ ؛ فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ عُلُوًّا كَبِيرًا . بَلْ نَقُولُ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ كَلَامًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ لَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ عِلْمًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا نُورَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ نُورًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا عَظَمَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ عَظَمَةً وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا فِي تَقْرِيرِ الصِّفَاتِ وَأَنَّهَا لَا تُنَافِي التَّوْحِيدَ .
وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ الْحَرَكَةِ : كَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَالنُّزُولِ هَلْ تُتَأَوَّلُ بِمَعْنَى مَجِيءِ قُدْرَتِهِ وَأَمْرِهِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا هِيَ بِمَعْنَى مَجِيءِ قُدْرَتِهِ وَهِيَ رِوَايَةُ حَنْبَلٍ فِي الْمِحْنَةِ . وَ الثَّانِيَةُ : تَمُرُّ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ وَهِيَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ غَلَّطَ حَنْبَلًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ قَالَهُ أَحْمَد إلْزَامًا لَهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ رِوَايَةً خَاصَّةً كَابْنِ الزَّاغُونِي وَعَمَّمَ ابْنُ عَقِيلٍ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ . وَهَذَا الْأَصْلُ يَتَفَرَّعُ فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ ؛ لَا سِيَّمَا مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ وَالْإِرَادَةِ وَالصِّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَشِيئَةِ كَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ ؛ وَهُوَ كَانَ سَبَبَ وُقُوعِ النِّزَاعِ بَيْنَ إمَامِ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة وَبَيْنَ طَائِفَةٍ مِنْ فُضَلَاءِ أَصْحَابِهِ .
فَصْلٌ
:
قَالَ الْقَاضِي : قَالَ : " أَحْمَدُ " فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : لَمْ
يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا . غَفُورًا . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ
اللَّهِ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ . وَوَجَدْتهَا فِي "
الْمِحْنَةِ " رِوَايَةَ حَنْبَلٍ لَمَّا سَأَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
إسْحَاقَ قَاضِي " الْمُعْتَصِمِ " فَلَامَهُ فَقَالَ : مَا تَقُولُ فِي
الْقُرْآنِ ؟ قَالَ فَقُلْت : مَا تَقُولُ فِي الْعِلْمِ ؟ فَسَكَتَ . فَقُلْت
لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ : الْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ
عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ قَالَ : فَسَأَلْت عَبْدَ
الرَّحْمَنِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا وَقَالَ لِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ :
كَانَ اللَّهُ وَلَا قُرْآنَ فَقُلْت : كَانَ اللَّهُ وَلَا عِلْمَ ؟ فَأَمْسَكَ .
وَلَوْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا عِلْمَ لَكَفَرَ بِاَللَّهِ . ثُمَّ
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا يُعْبَدُ
اللَّهُ بِصِفَاتِهِ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ وَلَا مَعْلُومَةٍ إلَّا بِمَا وَصَفَ
بِهِ نَفْسَهُ وَنَرُدُّ الْقُرْآنَ إلَى عَالِمِهِ إلَى اللَّهِ فَهُوَ أَعْلَمُ
بِهِ ؛ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : سَمِعْت
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَالْقُرْآنُ
كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَعَلَى كُلِّ جِهَةٍ . وَلَا يُوصَفُ اللَّهُ
بِشَيْءِ أَكْثَرَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ .
وَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ - فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ " كِتَابِ
السُّنَّةِ فِي الْمُقْنِعِ " - لَمَّا سَأَلُوهُ إنَّكُمْ إذَا قُلْتُمْ
لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَانَ ذَلِكَ عَبَثًا . فَقَالَ : لِأَصْحَابِنَا
قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَالْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ ضِدَّ الْكَلَامِ
الْخَرَسُ كَمَا أَنَّ ضِدَّ الْعِلْمِ الْجَهْلُ . قَالَ : وَمِنْ أَصْحَابِنَا
مَنْ قَالَ قَدْ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ خَالِقٌ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ
خَالِقًا فِي كُلِّ حَالٍ ؛ بَلْ قُلْنَا إنَّهُ خَالِقٌ فِي وَقْتِ إرَادَتِهِ
أَنْ يَخْلُقَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا فِي كُلِّ حَالٍ وَلَمْ يَبْطُلْ أَنْ
يَكُونَ خَالِقًا ؛ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا فِي كُلِّ حَالٍ
لَمْ يَبْطُلْ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا ؛ بَلْ هُوَ مُتَكَلِّمٌ خَالِقٌ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ خَالِقًا فِي كُلِّ حَالٍ وَلَا مُتَكَلِّمًا فِي كُلِّ حَالٍ . قَالَ
الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ " إيضَاحِ الْبَيَانِ فِي مَسْأَلَةِ
الْقُرْآنِ " لَمَّا أَوْرَدَ عَلَيْهِ هَذَا السُّؤَالَ فَقَالَ : نَقُولُ
إنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَلَيْسَ بِمُكَلَّمِ وَلَا مُخَاطَبٍ وَلَا
آمِرٍ وَلَا نَاهٍ ؛ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَسَاقَ
الْكَلَامَ إلَى أَنْ ذَكَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَا حَكَاهُ فِي الْمُقْنِعِ ثُمَّ
قَالَ : لَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ " لَمْ يَزَلْ
مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ " . قَالَ : وَالْقَائِلُ بِهَذَا قَائِلٌ بِحُدُوثِ
الْقُرْآنِ وَقَدْ تَأَوَّلْنَا كَلَامَ أَحْمَدَ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ فِي
أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا وَصْفَهُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ ؛
لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ
يَجِبُ أَنْ تُقَدَّرَ فِيهَا ذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّنَا لَوْ قَدَّرْنَا وُجُودَ الْفِعْلِ فِيمَا لَمْ يَزَلْ أَفْضَى إلَى قِدَمِ الْعَالَمِ فَأَمَّا الْكَلَامُ فَهُوَ كَالْعِلْمِ . وَقَالَ الْقَاضِي فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ : قَوْلُ أَحْمَدَ : لَمْ يَزَلْ غَفُورًا بَيَانٌ أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ قَدِيمَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مُشْتَقَّةً مِنْ فِعْلٍ كَالْغُفْرَانِ وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ أَوْ لَمْ تَكُنْ مُشْتَقَّةً . وَقَوْلُهُ : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ : مَعْنَاهُ إذَا شَاءَ أَنْ يَسْمَعَهُ . قُلْت وَطَرِيقَةُ الْقَاضِي هَذِهِ هِيَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِهِمْ وَغَيْرِهِمْ : كَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزَّاغُونِي . وَأَمَّا أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَيْضًا فَيُخَالِفُونَهُ فِي ذَلِكَ وَيَقُولُونَ فِي الْفِعْلِ أَحَدَ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْقَاضِي الَّذِي هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا - أَمَّا أَنَّ الْفِعْلَ قَدِيمٌ وَالْمَفْعُولُ مَخْلُوقٌ ؛ كَمَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لَهُمْ فِي الْإِرَادَةِ وَالْقَوْلِ الْمُكَوَّنِ : أَيْ الْإِرَادَةُ قَدِيمَةٌ وَالْمُرَادُ مُحْدَثٌ وَكَمَا أَنَّ الْمُنَازِعَ يَقُولُ : التَّكْوِينُ قَدِيمٌ فَالْمُكَوَّنُ مَخْلُوقٌ . ( وَالثَّانِي : أَنَّ الْفِعْلَ نَفْسَهُ عِنْدَهُمْ - كَالْقَوْلِ كِلَاهُمَا - غَيْرُ مَخْلُوقٍ مَعَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ؛ إذْ هُوَ قَائِمٌ بِاَللَّهِ وَالْمَخْلُوقُ لَا يَكُونُ إلَّا مُنْفَصِلًا عَنْ اللَّهِ . وَيَقُولُونَ : إنَّ قَوْلَ أَحْمَدَ مُوَافِقٌ لِمَا قُلْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ
وَلَمْ يَقُلْ لَمْ يَزَلْ مُكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالْمَشِيئَةِ - عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ قَدِيمٌ وَاجِبٌ إنَّمَا هُوَ التَّكْلِيمُ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ جَائِزٌ لَا التَّكَلُّمُ . فَبَيَّنَ ذَلِكَ أَنَّ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا غَفُورًا . فَذَكَرَ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَ : الصِّفَةُ الَّتِي هِيَ قَدِيمَةٌ وَاجِبَةٌ وَهِيَ الْعِلْمُ وَاَلَّتِي هِيَ جَائِزَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ وَهِيَ الْمَغْفِرَةُ . فَهَذَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا . وَذَكَرَ أَيْضًا التَّكَلُّمَ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ : الَّذِي فِيهِ نِزَاعٌ وَهُوَ يُشْبِهُ الْعِلْمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَخْلُوقِ وَيُشْبِهُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ كَمَا فَسَّرَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ فَعُلِمَ أَنَّ قِدَمَهُ عِنْدَهُ : أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ إذَا شَاءَ تَكَلَّمَ وَإِذَا شَاءَ سَكَتَ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ وَصْفُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ كَمَالٍ كَمَا لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ وَصْفُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ . وَإِنْ كَانَ الْكَمَالُ هُوَ أَنْ يَتَكَلَّمَ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتَ إذَا شَاءَ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي إنَّ هَذَا قَوْلٌ بِحُدُوثِهِ فَيُجِيبُونَ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ . أَحَدُهُمَا أَلَّا يُسَمَّى مُحْدَثًا وَأَنْ يُسَمَّى حَدِيثًا ؛ إذْ الْمُحْدَثُ هُوَ الْمَخْلُوقُ الْمُنْفَصِلُ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ حَدِيثًا وَهَذَا قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ . وَ الثَّانِي : أَنَّهُ يُسَمَّى مُحْدَثًا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ . وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ
كدَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الأصبهاني - صَاحِبِ الْمَذْهَبِ - لَكِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَحْمَدَ إنْكَارُ ذَلِكَ وَقَدْ يُحْتَجُّ بِهِ لِأَحَدِ قَوْلَيْ أَصْحَابِنَا . قَالَ المروذي قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : مِنْ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الأصبهاني ؟ - لَا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَنِي كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ دَاوُد الأصبهاني قَالَ : كَذِبًا : إنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : اسْتَأْذَنَ " دَاوُد " عَلَى أَبِي فَقَالَ : مَنْ هَذَا . دَاوُد ؟ لَا جَبَرَ وُدُّ اللَّهِ قَلْبَهُ وَدَوَّدَ اللَّهُ قَبْرَهُ فَمَاتَ مُدَوَّدًا . وَالْإِطْلَاقَاتُ قَدْ تُوهِمُ خِلَافَ الْمَقْصُودِ فَيُقَالُ : إنْ أَرَدْت بِقَوْلِك مُحْدَثٌ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ اللَّهِ كَمَا يَقُولُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ والنجارية فَهَذَا بَاطِلٌ لَا نَقُولُهُ ؛ وَإِنْ أَرَدْت بِقَوْلِك : إنَّهُ كَلَامٌ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ بِعَيْنِهِ - وَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَإِنَّا نَقُولُ بِذَلِكَ . وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ ؛ وَإِنَّمَا ابْتَدَعَ الْقَوْلَ الْآخَرَ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ ؛ وَلَكِنَّ أَهْلَ هَذَا الْقَوْلِ لَهُمْ قَوْلَانِ . ( أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَكَلَّمَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا ؛ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ كَمَا أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ خَلَقَهُمَا وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْخَلْقِ . وَهَذَا قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّهُ تَحِلُّهُ الْحَوَادِثُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ تَحِلُّهُ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحْدَثٌ يَحْتَمِلُ هَذَا الْقَوْلَ وَإِنْكَارُ أَحْمَدَ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ .
وَالثَّانِي
: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ . وَهَذَا هُوَ
الَّذِي يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَأَصْحَابُ هَذَا
الْقَوْلِ : قَدْ يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَهُ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَادِثِ
وَلَا مُحْدَثٍ ؛ فَيُرِيدُونَ نَوْعَ الْكَلَامِ إذْ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ إذَا
شَاءَ ؛ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ الْعَيْنِيَّ يَتَكَلَّمُ بِهِ إذَا شَاءَ وَمَنْ
قَالَ : لَيْسَتْ تَحِلُّ ذَاتَه الْحَوَادِثُ فَقَدْ يُرِيدُ بِهِ هَذَا
الْمَعْنَى . بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ نَوْعُ الْكَلَامِ فِي
كَيْفِيَّةِ ذَاتِهِ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ فِي "
أُصُولِهِ " وَمِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّصْدِيقُ أَنَّ اللَّهَ
يَتَكَلَّمُ ؛ وَأَنَّ كَلَامَهُ ( قَدِيمٌ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا
فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ بِذَلِكَ مَوْصُوفًا وَكَلَامُهُ قَدِيمٌ غَيْرُ مُحْدَثٍ
كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَقَدْ يَجِيءُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنْ يَكُونَ
الْكَلَامُ صِفَةَ مُتَكَلِّمٍ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ وَمُتَكَلِّمًا
كُلَّمَا شَاءَ وَإِذَا شَاءَ وَلَا نَقُولُ : إنَّهُ سَاكِتٌ فِي حَالٍ
وَمُتَكَلِّمٌ فِي حَالٍ . مِنْ حِينِ حُدُوثِ الْكَلَامِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى
إثْبَاتِهِ مُتَكَلِّمًا عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ : كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ
نَبِيِّهِ وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَقِّ إلَّا طَائِفَةَ الضَّلَالِ "
الْمُعْتَزِلَةَ " وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ
أَبَوْا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَذَكَرَ بَعْضَ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ .
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَصْلٌ
:
وَلَا خِلَافَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ كَانَ مُتَكَلِّمًا
بِالْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ وَقَبْلَ كُلِّ الْكَائِنَاتِ
مَوْجُودًا وَأَنَّ اللَّهَ فِيمَا لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا
شَاءَ ؛ وَإِذَا شَاءَ أَنْزَلَ كَلَامَهُ وَإِذَا شَاءَ لَمْ يُنْزِلْهُ .
وَأَبَى ذَلِكَ " الْمُعْتَزِلَةُ " فَقَالُوا : حَادِثٌ بَعْدَ وُجُودِ
الْمَخْلُوقَاتِ . قُلْت : فَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ ابْنُ حَامِدٍ أَيْضًا مَعَ
أَنَّهُ يَذْكُرُ الِاتِّفَاقَ عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا
كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ ؛ لَكِنَّهُ نَفَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُقَالَ :
هُوَ هُوَ سَاكِتٌ فِي حَالٍ وَمُتَكَلِّمٌ فِي حَالٍ فَأَثْبَتُ أَنْ يُقَالَ :
هُوَ مُتَكَلِّمٌ كُلَّمَا شَاءَ وَإِذَا شَاءَ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ سَاكِتٌ فِي
حَالٍ . وَهَكَذَا تَقُولُ الكَرَّامِيَة إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالسُّكُوتِ
وَالنُّزُولِ فِيمَا لَمْ يَزَلْ لَكِنْ بَيْنَ كَلَامِهِ وَكَلَامِهِمْ فَرْقٌ
كَمَا سَأَحْكِيهِ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ فِي " صِفَاتِ الْفِعْلِ " :
فَصْلٌ
:
وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِهِ أَنَّ الْحَقَّ
سُبْحَانَهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ وَيَنْزِلُ
يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا مِثْلٍ وَلَا تَحْدِيدٍ وَلَا شَبَهٍ
وَقَالَ : هَذَا نَصُّ إمَامِنَا . قَالَ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى : قُلْت "
لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ " : يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ
شَاءَ مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ "
الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ " فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ حَنْبَلٌ : رَبُّنَا
عَلَى الْعَرْشِ بِلَا حَدٍّ وَلَا صِفَةٍ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ المروذي قِيلَ
لَهُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ : يُعْرَفُ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ بِحَدِّ ؟ قَالَ
: بَلَغَنِي ذَلِكَ وَأَعْجَبَهُ . ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : { هَلْ
يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ }
وَقَالَ : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } . قَالَ ابْنُ حَامِدٍ :
فَالْمَذْهَبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا يَخْتَلِفُ أَنَّ ذَاتَه تَنْزِلُ
وَرَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا يَرْوِي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي
الْإِتْيَانِ أَنَّهُ قَالَ : يَأْتِي بِذَاتِهِ قَالَ : وَهَذَا عَلَى حَدِّ
التَّوَهُّمِ مِنْ قَائِلِهِ وَخَطَأٌ مِنْ إضَافَتِهِ إلَيْهِ كَمَا قَرَّرْنَا
عَنْهُ مِنْ النَّصِّ . قَالَ ابْنُ حَامِدٍ : فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ
فِي نُزُولِ ذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ صِفَةٍ وَلَا حَدٍّ
فَإِنَّا نَقُولُ : إنَّهُ بِانْتِقَالِ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إلَّا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَتْ : يَنْزِلُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ مِنْ مَكَانِهِ كَيْفَ شَاءَ قَالَ : وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا لَا غَيْرَهُ . قَالَ : وَقَدْ أَبَى أَصْلَ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " أَهْلُ الِاعْتِزَالِ فَقَالُوا : لَا نُزُولَ لَهُ وَلَا حَرَكَةَ وَلَا لَهُ مِنْ مَكَانِهِ زَوَالٌ وَهُوَ بِكُلِّ مَكَانٍ عَلَى مَا كَانَ ؛ قَالَ : وَهَذَا مِنْهُمْ جَهْلٌ قَبِيحٌ لِنَصِّ الْأَخْبَارِ . وَسَاقَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ فِي ذَلِكَ قَالَ :
فَصْلٌ
:
وَمِمَّا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهِ وَالرِّضَا : مَجِيئُهُ إلَى الْحَشْرِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِمَثَابَةِ نُزُولِهِ إلَى سَمَائِهِ وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ : {
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَدَاءِ } . قَالَ : وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَهُمْ
وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ أَشْرَقَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا بِأَنْوَارِهِ .
وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ صَاحِبُ " الْحَيْدَةِ
" وَ " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ " كَلَامُهُ
فِي الْحَيْدَةِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة يَحْتَمِلُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ
مَضْمُونَ الْحَيْدَةِ أَنَّهُ أَبْطَلَ احْتِجَاجَ بِشْرٍ المريسي بِقَوْلِهِ : {
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } وَقَوْلِهِ : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
} . ثُمَّ إنَّهُ احْتَجَّ عَلَى المريسي بِثَلَاثِ حُجَجٍ : ( الْأُولَى أَنَّهُ
قَالَ : إذَا كَانَ مَخْلُوقًا فَإِمَّا أَنْ تَقُولَ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ
خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ أَوْ خَلَقَهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ . قَالَ :
فَإِنْ قَالَ : خَلَقَ كَلَامَهُ فِي نَفْسِهِ فَهَذَا مُحَالٌ وَلَا تَجِدُ
السَّبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِهِ مِنْ قِيَاسٍ وَلَا نَظَرٍ وَلَا مَعْقُولٍ ؛
لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَكُونُ مَكَانًا لِلْحَوَادِثِ
وَلَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَلَا يَكُونُ نَاقِصًا فَيَزِيدُ فِيهِ شَيْءٌ إذَا خَلَقَهُ - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَجَلَّ وَتَعَظَّمَ . وَإِنْ قَالَ : خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ فَيَلْزَمُهُ فِي النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا يُقْدَرُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا . أَفَيُجْعَلُ الشِّعْرُ كَلَامًا لِلَّهِ ؟ وَيُجْعَلُ قَوْلُ الْقَذَرِ كَلَامًا لِلَّهِ ؟ وَيُجْعَلُ كَلَامُ الْفُحْشِ وَالْكُفْرِ كَلَامًا لِلَّهِ ؟ وَكُلُّ قَوْلٍ ذَمَّهُ اللَّهُ وَذَمَّ قَائِلَهُ كَلَامًا لِلَّهِ ؟ وَهَذَا مُحَالٌ لَا يَجِدُ السَّبِيلَ إلَيْهِ وَلَا إلَى الْقَوْلِ بِهِ لِظُهُورِ الشَّنَاعَةِ وَالْفَضِيحَةِ وَالْكُفْرِ عَلَى قَائِلِهِ . وَإِنْ قَالَ خَلَقَهُ قَائِمًا بِذَاتِهِ وَنَفَسِهِ فَهَذَا هُوَ الْمُحَالُ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يَجِدُ إلَى الْقَوْلِ بِهِ سَبِيلًا فِي قِيَاسٍ وَلَا نَظَرٍ وَلَا مَعْقُولٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ إلَّا مِنْ مُتَكَلِّمٍ كَمَا لَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ إلَّا مِنْ مُرِيدٍ وَلَا الْعِلْمُ إلَّا مِنْ عَالِمٍ وَلَا الْقُدْرَةُ إلَّا مِنْ قَدِيرٍ وَلَا رُئِيَ وَلَا يُرَى قَطُّ كَلَامٌ قَطُّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ يَتَكَلَّمُ بِذَاتِهِ . فَلَمَّا اسْتَحَالَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا ثَبَتَ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّهِ وَصِفَاتُ اللَّهِ كُلُّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . وَ ( الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ : اتَّفَقَ هُوَ وَبِشْرٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ وَكَانَ وَلَمَّا يَفْعَلُ وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا . قَالَ لَهُ : فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَحْدَثَ الْأَشْيَاءَ ؟ قَالَ : أَحْدَثَهَا بِقُدْرَتِهِ الَّتِي لَمْ تَزَلْ .
قَالَ " عَبْدُ الْعَزِيزِ " : فَقُلْت صَدَقْت أَحْدَثَهَا بِقُدْرَتِهِ الَّتِي لَمْ تَزَلْ ؛ أَفَلَيْسَ تَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا ؟ قَالَ : بَلَى . فَقُلْت لَهُ : أَفَتَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ ؟ قَالَ : لَا أَقُولُ هَذَا . قُلْت لَهُ : فَلَا بُدَّ أَنْ يَلْزَمَك أَنْ تَقُولَ إنَّهُ خَلَقَ بِالْفِعْلِ الَّذِي كَانَ عَنْ الْقُدْرَةِ وَلَيْسَ الْفِعْلُ هُوَ الْقُدْرَةُ ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ لِلَّهِ وَلَا يُقَالُ صِفَةُ اللَّهِ هِيَ اللَّهُ وَلَا هِيَ غَيْرُ اللَّهِ . قَال بِشْرٌ : وَيَلْزَمُك أَنْتَ أَيْضًا أَنْ تَقُولَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ وَيَخْلُقُ فَإِذَا قُلْت ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَمْ يَزَلْ مَعَ اللَّهِ . فَقُلْت لَهُ : لَيْسَ لَك أَنْ تَحْكُمَ عَلَيَّ وَتُلْزِمَنِي مَا لَا يَلْزَمُنِي وَتَحْكِيَ عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ الْخَالِقُ يَخْلُقُ وَلَمْ يَزَلْ الْفَاعِلُ يَفْعَلُ فَتُلْزِمُنِي مَا قُلْت وَإِنَّمَا قُلْت إنَّهُ لَمْ يَزَلْ الْفَاعِلُ سَيَفْعَلُ وَلَمْ يَزَلْ الْخَالِقُ سَيَخْلُقُ لِأَنَّ الْفِعْلَ صِفَةٌ لِلَّهِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَانِعٌ . قَالَ بِشْرٌ : وَأَنَا أَقُولُ : إنَّهُ أَحْدَثَ الْأَشْيَاءَ بِقُدْرَتِهِ . فَقُلْ أَنْتَ مَا شِئْت . قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ : فَقُلْت : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَقَرَّ بِشْرٌ أَنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا شَيْءَ وَأَنَّهُ أَحْدَثَ الْأَشْيَاءَ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا بِقُدْرَتِهِ وَقُلْت : إمَّا أَنَّهُ أَحْدَثَهَا بِأَمْرِهِ وَقَوْلِهِ عَنْ قُدْرَتِهِ فَلَا يَخْلُو يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللَّهُ بِقَوْلِ قَالَهُ أَوْ بِإِرَادَةِ أَرَادَهَا أَوْ بِقُدْرَةِ قَدَّرَهَا وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هُنَا إرَادَةً وَمُرِيدًا وَمُرَادًا وَقَوْلًا وَقَائِلًا وَمَقُولًا لَهُ وَقُدْرَةً وَقَادِرًا وَمَقْدُورًا
عَلَيْهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُتَقَدِّمٌ قَبْلَ الْخَالِقِ وَمَا كَانَ قَبْلَ الْخَالِقِ مُتَقَدِّمٌ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْخَلْقِ . قُلْت : قَوْلُهُ قَبْلَ الْخَلْقِ هُوَ الْمُرِيدُ الْقَائِلُ الْقَادِرُ وَإِرَادَتُهُ وَقَوْلُهُ وَقُدْرَتُهُ وَأَمَّا الْمُرَادُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ الْمَقُولُ لَهُ : فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ ثُبُوتَهُ فِي الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ لَهُ كُنْ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِي اللَّفْظِ . وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنْ . . . (1) وَقَدْ قَالَ لَمْ يَزَلْ سَيَفْعَلُ وَقَدْ فَسَّرَهُ أَيْضًا بِفِعْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِ نَيْسَابُورَ فِي تَرْجَمَةِ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة : قَضِيَّةً طَوِيلَةً فِي الْخِلَافِ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ : مِثْلَ أَبِي عَلِيٍّ الثَّقَفِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ أَحْمَد بْنِ إسْحَاقَ الضبعي وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ الزَّاهِدِ وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْقَاضِي فَذَكَرَ أَنَّ طَائِفَةً رَفَعُوا إلَى الْإِمَامِ أَنَّهُ قَدْ نَبَغَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُخَالِفُونَهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي وَأَنَّهُمْ عَلَى مَذْهَبِ الْكُلَّابِيَة وَأَبُو بَكْرٍ الْإِمَامُ شَدِيدٌ عَلَى الْكُلَّابِيَة . قَالَ الْحَاكِمُ فَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ يَحْيَى الْمُتَكَلِّمُ قَالَ : اجْتَمَعْنَا لَيْلَةً عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجَرَى ذِكْرُ كَلَامِ اللَّهِ أَقَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ ؟ أَوْ يَثْبُتُ عِنْدَ إخْبَارِهِ تَعَالَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ فَوَقَعَ بَيْنَنَا فِي ذَلِكَ خَوْضٌ . قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَّا : إنَّ كَلَامَ الْبَارِي قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ وَقَالَ جَمَاعَةٌ : إنَّ كَلَامَهُ قَدِيمٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِخْبَارِهِ بِكَلَامِهِ .
فَبَكَرْت أَنَا إلَى أَبِي عَلِيٍّ الثَّقَفِيِّ وَأَخْبَرْته بِمَا جَرَى فَقَالَ : مَنْ أَنْكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَقَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُحْدَثٌ وَانْتَشَرَتْ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ " فِي الْبَلَدِ وَذَهَبَ مَنْصُورٌ الطوسي فِي جَمَاعَةٍ مَعَهُ إلَى أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ ؛ حَتَّى قَالَ مَنْصُورٌ : أَلَمْ أَقُلْ لِلشَّيْخِ إنَّ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُونَ مَذْهَبَ الْكُلَّابِيَة وَهَذَا مَذْهَبُهُمْ ؟ فَجَمَعَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَابَهُ وَقَالَ : أَلَمْ أَنْهَكُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ عَنْ الْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ ؟ وَلَمْ يَزِدْهُمْ عَلَى هَذَا ذَلِكَ الْيَوْمَ . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَأَنَّهُ صَنَّفَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ نَاقَضُوهُ وَنَسَبُوهُ إلَى الْقَوْلِ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ وَجَعَلَهُمْ هُوَ كلابية . قَالَ الْحَاكِمُ : سَمِعْت أَبَا سَعِيدٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَحْمَد الْمُقْرِي يَقُولُ : سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ إسْحَاقَ يَقُولُ : الَّذِي أَقُولُ بِهِ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيلُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ وَعَنْ وَحْيِهِ وَتَنْزِيلِهِ مَخْلُوقٌ . أَوْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بَعْدَ مَا كَانَ تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْأَزَلِ أَوْ يَقُولُ : إنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ ؛ أَوْ يَقُولُ : إنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ ؛ أَوْ يَقُولُ : إنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ صِفَاتُ الذَّاتِ أَوْ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ مَخْلُوقٌ : فَهُوَ عِنْدِي جهمي يُسْتَتَابُ ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضَرَبْت عُنُقَهُ وَأُلْقِيَ عَلَى بَعْضِ الْمَزَابِلِ ؛ هَذَا مَذْهَبِي وَمَذْهَبُ مَنْ رَأَيْت مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَمَنْ حَكَى عَنِّي خِلَافَ هَذَا : فَهُوَ كَاذِبٌ بَاهِتٌ وَمَنْ نَظَرَ فِي كُتُبِي الْمُصَنَّفَةِ فِي الْعِلْمِ ظَهَرَ لَهُ وَبَانَ أَنَّ الْكُلَّابِيَة - لَعَنَهُمْ اللَّهُ - كَذَبَةٌ فِيمَا يَحْكُونَ عَنِّي مِمَّا هُوَ خِلَافُ أَصْلِي وَدِيَانَتِي قَدْ عَرَفَ أَهْلُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ ؛ أَنَّهُ لَمْ يُصَنِّفْ أَحَدٌ
فِي التَّوْحِيدِ وَفِي الْقَدَرِ وَفِي أُصُولِ الْعِلْمِ مِثْلَ تَصْنِيفِي ؛ فَالْحَاكِي خِلَافَ مَا فِي كُتُبِي الْمُصَنَّفَةِ كَذَبَةٌ فَسَقَةٌ . وَذَكَرَ عَنْ ابْنِ خُزَيْمَة أَنَّهُ قَالَ : زَعَمَ بَعْضُ جَهَلَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَبَغُوا فِي سنيننا هَذِهِ : أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَرِّرُ الْكَلَامَ فَلَا هُمْ يَفْهَمُونَ كِتَابَ اللَّهِ ؛ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ فِي نَصِّ الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ وَأَنَّهُ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ ؛ فَكَرَّرَ هَذَا الذِّكْرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَكَرَّرَ ذِكْرَ كَلَامِهِ لِمُوسَى مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَكَرَّرَ ذِكْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي مَوَاضِعَ وَحَمِدَ نَفْسَهُ فِي مَوَاضِعَ فَقَالَ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } و { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } الْآيَةَ . و { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } وَكَرَّرَ زِيَادَةً عَلَى ثَلَاثِينَ كَرَّةً : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } وَلَمْ أَتَوَهَّمْ أَنَّ مُسْلِمًا يَتَوَهَّمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِشَيْءِ مَرَّتَيْنِ وَهَذَا مَقَالَةُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا وَاحِدًا مَرَّتَيْنِ . وَقَالَ الْحَاكِمُ : سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ أَحْمَد بْنَ إسْحَاقَ يَقُولُ : لَمَّا وَقَعَ مِنْ أَمْرِنَا مَا وَقَعَ وَوَجَدَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ - يَعْنِي الْمُعْتَزِلَةَ - الْفُرْصَةَ فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِهِمْ بِحَضْرَتِنَا وَاغْتَنَمَ بَعْضُ الْمُوَافِقِينَ السَّعْيَ فِي فَسَادِ الْحَالِ انْتَصَبَ أَبُو عَمْرٍو الحيري لِلتَّوَسُّطِ فِيمَا بَيْنَ الْجَمَاعَةِ بِلَا مَيْلٍ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا بِدَارِهِ . وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ لِلْإِمَامِ : مَا الَّذِي أَنْكَرْت مِنْ مَذَاهِبِنَا أَيُّهَا الْإِمَامُ حَتَّى نَرْجِعَ عَنْهُ ؟ قَالَ : مَيْلُكُمْ إلَى مَذْهَبِ الْكُلَّابِيَة فَقَدْ كَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ مِنْ أَشَدِّ
النَّاسِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ . وَعَلَى أَصْحَابِهِ ؛ مِثْلَ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِ حَتَّى طَالَ الْخِطَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي عَلِيٍّ فِي هَذَا الْبَابِ . فَقُلْت : قَدْ جَمَعْت أَنَا أُصُولَ مَذَاهِبِنَا فِي طَبَقٍ ؛ فَأَخْرَجْت إلَيْهِ الطَّبَقَ وَقُلْت : تَأَمَّلْ مَا جَمَعْته بِخَطِّي وَبَيَّنْته مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ فَإِنْ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ تُنْكِرُهُ ؛ فَبَيِّنْ لَنَا وَجْهَهُ حَتَّى نَرْجِعَ عَنْهُ فَأَخَذَ مِنِّي ذَلِكَ الطَّبَقَ وَمَا زَالَ يَتَأَمَّلُهُ وَيَنْظُرُ فِيهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ : لَسْت أَرَى شَيْئًا لَا أَقُولُ بِهِ وَكُلُّهُ مَذْهَبِي وَعَلَيْهِ رَأَيْت مَشَايِخِي . وَسَأَلْته أَنْ يُثْبِتَ بِخَطِّهِ آخِر تِلْكَ الْأَحْرُفِ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ ؛ ثُمَّ قَصَدَهُ أَبُو فُلَانٍ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ وَقَالُوا : إنَّ الْأُسْتَاذَ لَمْ يَتَأَمَّلْ مَا كَتَبَهُ بِخَطِّهِ وَقَدْ غَدَرُوا بِك وَغَيَّرُوا صُورَةَ الْحَالِ . قَالَ الْحَاكِمُ : وَهَذِهِ نُسْخَةُ الْخَطِّ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ إسْحَاقَ وَيَحْيَى بْنُ مَنْصُورٍ : كَلَامُ اللَّهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ ؛ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ خَلْقٌ وَلَا مَخْلُوقٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا مَفْعُولٌ وَلَا مُحْدَثٌ وَلَا حَدَثٌ وَلَا أَحْدَاثٌ ؛ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ شَيْئًا مِنْهُ مَخْلُوقٌ أَوْ مُحْدَثٌ ؛ أَوْ زَعَمَ أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ صِفَةِ الْفِعْلِ ؛ فَهُوَ جهمي ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ . وَأَقُولُ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَلَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا وَالْكَلَامُ لَهُ صِفَةُ ذَاتٍ لَا مِثْلَ لِكَلَامِهِ مِنْ كَلَامِ خَلْقِهِ وَلَا نَفَادَ لِكَلَامِهِ لَمْ يَزَلْ رَبُّنَا بِكَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَصِفَاتِ ذَاتِهِ وَاحِدًا ؛ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ . كَلَّمَ رَبُّنَا أَنْبِيَاءَهُ وَكَلَّمَ مُوسَى ، وَاَللَّهُ الَّذِي قَالَ لَهُ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا
فَاعْبُدْنِي } وَيُكَلِّمُ أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُحَيِّيهِمْ بِالسَّلَامِ ؛ قَوْلًا فِي دَارِ عَدَنِهِ وَيُنَادِي عِبَادَهُ فَيَقُولُ : { مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } وَيَقُولُ : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } . وَيُكَلِّمُ أَهْلَ النَّارِ بِالتَّوْبِيخِ وَالْعِقَابِ وَيَقُولُ لَهُمْ : { اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ } . وَيَخْلُو الْجَبَّارُ بِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَيُكَلِّمُهُ ؛ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ تُرْجُمَانٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَيُكَلِّمُ رَبُّنَا جَهَنَّمَ فَيَقُولُ لَهَا : هَلْ امْتَلَأْت ؟ وَيُنْطِقُهَا فَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا مَرَّةً وَلَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا مَا تَكَلَّمَ بِهِ ؛ ثُمَّ انْقَضَى كَلَامُهُ كَفَرَ بِاَللَّهِ ؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَلَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا لَا مِثْلَ لِكَلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ نَفَى اللَّهُ الْمِثْلَ عَنْ كَلَامِهِ كَمَا نَفَى الْمِثْلَ عَنْ نَفْسِهِ وَنَفَى النَّفَادَ عَنْ كَلَامِهِ كَمَا نَفَى الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ } وَقَالَ : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } . كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ بَائِنٍ عَنْ اللَّهِ . لَيْسَ هُوَ دُونَهُ وَلَا غَيْرَهُ وَلَا هُوَ ؛ بَلْ هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ كَعِلْمِهِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ لَمْ يَزَلْ رَبُّنَا عَالِمًا وَلَا يَزَالُ عَالِمًا وَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَلَا يَزَالُ يَتَكَلَّمُ ؛ فَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالصِّفَاتِ
الْعُلَى ؛ لَمْ يَزَلْ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ ذَاتِهِ وَاحِدًا وَلَا يَزَالُ : { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } . كَلَّمَ مُوسَى فَقَالَ لَهُ : { إنِّي أَنَا رَبُّكَ } فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ كَلَّمَهُ كَفَرَ بِاَللَّهِ . فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ : هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ ؟ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَهُ يَنْزِلُ أَوْ أَمْرَهُ ضَلَّ بَلْ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا : الْمَعْبُودُ سُبْحَانَهُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ فَيُكَلِّمُ عِبَادَهُ بِلَا كَيْفٍ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } بِلَا كَيْفٍ لَا كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ عَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى وَلَا اسْتَوْلَى ؛ بَلْ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِلَا كَيْفٍ وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ مَخْلُوقٌ أَوْ مُحْدَثٌ فَهُوَ جهمي وَاَللَّهُ يُخَاطِبُ عِبَادَهُ عَوْدًا وَبَدْءًا وَيُعِيدُ عَلَيْهِمْ قِصَصَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ قَرْنًا فَقَرْنًا مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُخَاطِبُ عِبَادَهُ وَلَا يُعِيدُ عَلَيْهِمْ قِصَصَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ عَوْدًا وَبَدْءًا : فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ بَلْ اللَّهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِ ذَاتِهِ وَاحِدٌ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَمَا أُضِيفَ إلَى اللَّهِ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ مِمَّا هُوَ غَيْرُ بَائِنٍ عَنْ اللَّهِ فَغَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكُلُّ شَيْءٍ أُضِيفَ إلَى اللَّهِ بَائِنٍ عَنْهُ دُونَهُ مَخْلُوقٌ . وَأَقُولُ : أَفْعَالُ الْعِبَادِ كُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ ؛ وَأَقُولُ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؛ وَخَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ .
وَأَقُولُ : إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ إذَا مَاتُوا إنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ ثُمَّ غَفَرَ لَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعْذِيبٍ . وَأَخْبَارُ الْآحَادِ مَقْبُولَةٌ إذَا نَقَلَهَا الْعُدُولُ وَهِيَ تُوجِبُ الْعَمَلَ وَأَخْبَارُ التَّوَاطُؤِ تُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ . وَصُورَةُ خَطِّ الْإِمَامِ ابْنِ خُزَيْمَة يَقُولُ : مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ أَقَرَّ عِنْدِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بْنُ إسْحَاقَ وَأَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مَنْصُورٍ بِمَا تَضَمَّنَ بَطْنُ هَذَا الْكِتَابِ ؛ وَقَدْ ارْتَضَيْت ذَلِكَ أَجْمَعَ ؛ وَهُوَ صَوَابٌ عِنْدِي . قَالَ الْحَاكِمُ : سَمِعْت أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَد البوشنجي الزَّاهِدَ يَقُولُ فِي ضِمْنِ قِصَّةٍ : لَمَّا انْتَهَى إلَيْنَا مَا وَقَعَ بَيْنَ مَشَايِخِ نَيْسَابُورَ مِنْ الْخِلَافِ خَرَجْت مِنْ وَطَنِي حَتَّى قَصَدْت نَيْسَابُورَ ؛ فَاجْتَمَعَ عَلَيَّ جَمَاعَةٌ يَسْأَلُونَ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ ؛ فَلَمْ أَتَكَلَّمْ فِيهَا بِقَلِيلِ وَلَا كَثِيرٍ . ثُمَّ كَتَبْت : الْقَوْلُ مَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ . وَدَخَلْت الرَّيَّ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ . فَأَخْبَرْته بِمَا جَرَى فِي نَيْسَابُورَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ فَقَالَ : مَا لِأَبِي بَكْرٍ وَالْكَلَامِ إنَّمَا الْأَوْلَى بِنَا وَبِهِ أَنْ لَا نَتَكَلَّمَ فِيمَا لَمْ نَعْلَمْهُ . فَخَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى دَخَلْت عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ الْفُلَانِيِّ فَشَرَحَ لِي تِلْكَ الْمَسَائِلَ شَرْحًا وَاضِحًا وَقَالَ : كَانَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ : دَفَعَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ فَوَقَعَ لِكَلَامِهِ عِنْدَهُ قَبُولٌ .
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَرَضَ تِلْكَ الْمَسَائِلَ عَلَى مَنْ وَجَدَهُ بِبَغْدَادَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين فَتَابَعُوا أَبَا الْعَبَّاسِ عَلَى مَقَالَتِهِ ؛ وَاغْتَنَمُوا لِأَبِي بَكْرِ بْنِ إسْحَاقَ فِيمَا أَظْهَرَهُ ؛ وَأَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَدِمَ مِنْ نَيْسَابُورَ أَبُو عَمْرٍو النَّجَّارُ فَكَتَبَ لِأَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ إلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ مَنْ خَالَفَ أَبَا بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَة إلَى السُّلْطَانِ . قَالَ الْحَاكِمُ سَمِعْت أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدَ بْنَ إسْحَاقَ الأبيوردي يَقُولُ : حَضَرْت قَرْيَةَ فُلَانَةَ فِي تَسْلِيمٍ لِصَغِيرِ اتباعها (1) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حمشاد مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَحَضَرَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ وَكَانَ قَدْ حَضَرَهَا إسْحَاقُ بْنُ أَبِي الْفَرْدِ وَالِي نَيْسَابُورَ ؛ فَأَقْرَأْنَا كِتَابَ حَمَوَيْهِ بْنِ عَلِيٍّ إلَيْهِ بِأَنْ يَمْتَثِلَ فِيهِمْ أَمْرَ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ ابْنِ خُزَيْمَة مِنْ النَّفْيِ وَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ . قَالَ : فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حمشاد مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَقَالَ : طُوبَاهُمْ إنْ كَانَ مَا يُقَالُ مَكْذُوبًا عَلَيْهِمْ . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ ثُمَّ قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حمشاد : مِنْ غَدٍ ذَلِكَ الْيَوْمَ إنِّي رَأَيْت الْبَارِحَةَ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ أَحْمَد بْنَ السَّرِيِّ الزَّاهِدَ الْمَرْوَزِي لَكَمَنِي بِرِجْلِهِ ثُمَّ قَالَ : كَأَنَّك فِي شَكٍّ مِنْ أُمُورِ هَؤُلَاءِ الْكُلَّابِيَة قَالَ : ثُمَّ نَظَرَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ فَقَالَ : { هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } .
وَذَكَرَ
الْحَاكِمُ : سَمِعْت أَبَا مُحَمَّدٍ الأنماطي الْعَبْدَ الصَّالِحَ يَقُولُ :
لَمَّا اسْتَحْكَمَتْ تِلْكَ الْوَقْعَةُ وَصَارَ لَا يَجْتَمِعُ عَشَرَةٌ فِي
الْبَلَدِ إلَّا وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَشَاجُرٌ فِيهِ وَصَارَ أَكْثَرُ الْعَوَامِّ
يَتَضَارَبُونَ فِيهِ ؛ خَرَجَ أَبُو عَمْرٍو الحيري إلَى الرَّيِّ وَالْأَمِيرُ
الشَّهِيدُ بِهَا حَتَّى يُنْجِزَ كُتُبًا إلَى خَلِيفَتِهِ : كِتَابٌ إلَى أَبِي
بَكْرِ بْنِ إسْحَاقَ بِأَنْ يَنْفِيَ مِنْ الْبَلَدِ الْأَرْبَعَةَ الَّذِينَ
خَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ عَقَدُوا لَهُمْ مَجْلِسًا .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إسْمَاعِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْأَنْصَارِيُّ فِي اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ ؛ وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ
إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ الْأُمَّةِ .
بَابُ الْقَوْلِ فِي الْقُرْآنِ
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ قَائِلٌ مَادِحٌ نَفْسَهُ بِالتَّكَلُّمِ ؛ إذْ
عَابَ الْأَصْنَامَ وَالْعِجْلَ أَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ
كُلَّمَا شَاءَ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ لَا مَانِعَ لَهُ وَلَا مُكْرَهَ وَالْقُرْآنُ
كَلَامُهُ هُوَ تَكَلَّمَ بِهِ ؛ وَقَدْ تَأَوَّلَ ابْنُ عَقِيلٍ كَلَامَ شَيْخِ
الْإِسْلَامِ بِنَحْوِ مَا تَأَوَّلَ بِهِ الْقَاضِي كَلَامَ أَحْمَد . وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَيْضًا فِي كِتَابِ " مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَد
بْنِ حَنْبَلٍ " فِي بَابِ الْإِشَارَةِ عَنْ طَرِيقَتِهِ فِي الْأُصُولِ ؛
لَمَّا ذَكَرَ كَلَامَهُ فِي مَسَائِلِ الْقُرْآنِ وَتَرْتِيبِ الْبِدَعِ الَّتِي
ظَهَرَتْ فِيهِ وَأَنَّهُمْ قَالُوا أَوَّلًا هُوَ مَخْلُوقٌ وَجَرَتْ الْمِحْنَةُ
الْعَظِيمَةُ ثُمَّ ظَهَرَتْ مَسْأَلَةُ اللَّفْظِيَّةِ بِسَبَبِ حُسَيْنٍ
الكرابيسي وَغَيْرِهِ . إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ جَاءَتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ :
لَا يَتَكَلَّمُ بَعْدَ مَا تَكَلَّمَ ؛ فَيَكُونُ
كَلَامُهُ حَادِثًا . قَالَ : وَهَذِهِ سخارة أُخْرَى تُقْذِي فِي الدِّينِ غَيْرَ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ . فَانْتَبَهَ لَهَا أَبُو بَكْرِ بْنِ إسْحَاقَ اللنجرودي ابْنُ خُزَيْمَة وَكَانَتْ حِينَئِذٍ نَيْسَابُورُ دَارَ الْآثَارِ تُمَدُّ إلَيْهَا الرِّقَابُ وَتُشَدُّ إلَيْهَا الرِّكَابُ وَيُجْلَبُ مِنْهَا الْعِلْمُ . وَمَا ظَنُّك بِمَجَالِس يُحْبَسُ عَنْهَا الثَّقَفِيُّ والضبعي مَعَ مَا جَمَعَا مِنْ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالصِّدْقِ وَالْوَرَعِ وَاللِّسَانِ وَالتَّثَبُّتِ وَالْقَدَرِ ؛ وَالْمَحْفِلِ لَا يُسِرُّونَ بِالْكَلَامِ وَاشْتِمَامٍ لِأَهْلِهِ ؛ فَابْنُ خُزَيْمَة فِي بَيْتٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ السَّرَّاجُ فِي بَيْتٍ وَأَبُو حَامِدٍ بْنُ الشَّرْقِيِّ فِي بَيْتٍ . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : فَطَارَ لِتِلْكَ الْفِتْنَةِ ذَاكَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ ؛ فَلَمْ يَزَلْ يَصِيحُ بِتَشْوِيهِهَا وَيُصَنِّفُ فِي رَدِّهَا ؛ كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ حَتَّى دَوَّنَ فِي الدَّفَاتِرِ وَتَمَكَّنَ فِي السَّرَائِرِ ؛ وَلَقَّنَ فِي الْكَتَاتِيبِ وَنَقَشَ فِي الْمَحَارِيبِ : أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ إنْ شَاءَ تَكَلَّمَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ ؛ فَجَزَى اللَّهُ ذَاكَ الْإِمَامَ وَأُولَئِكَ النَّفَرَ الْغُرَّ عَنْ نُصْرَةِ دِينِهِ وَتَوْقِيرِ نَبِيِّهِ خَيْرًا . قُلْت : فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ } " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا ؛ وَحَدَّدَ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَحَرَّمَ مَحَارِمَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا } ".
وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ وَالْمَسْكُوتِ وَهُوَ مَا نَطَقَ بِهِ الشَّارِعُ وَهُوَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ تَارَةً تَكُونُ دَلَالَةُ السُّكُوتِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ ؛ وَهُوَ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ وَتَارَةً تُخَالِفُهُ وَهُوَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ وَتَارَةً تُشْبِهُهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْمَحْضُ . فَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ اللَّهَ يُوصَفُ بِالسُّكُوتِ ؛ لَكِنَّ السُّكُوتَ يَكُونُ تَارَةً عَنْ التَّكَلُّمِ وَتَارَةً عَنْ إظْهَارِ الْكَلَامِ وَإِعْلَامِهِ ؛ كَمَا قَالَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أَبِي هُرَيْرَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أرأيتك سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَاذَا تَقُولُ ؟ قَالَ أَقُولُ : اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } " إلَى آخَرِ الْحَدِيثِ . فَقَدْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَاكِتٌ وَسَأَلَهُ مَاذَا تَقُولُ ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَقُولُ فِي حَالِ سُكُوتِهِ ؛ أَيْ سُكُوتِهِ عَنْ الْجَهْرِ وَالْإِعْلَانِ لَكِنْ هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ الْمَعْرُوفَانِ فِي السُّكُوتِ لَا تَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ مُتَكَلِّمٌ كَمَا أَنَّهُ عَالِمٌ ؛ لَا يَتَكَلَّمُ عِنْدَ خِطَابِ عِبَادِهِ بِشَيْءِ ؛ وَإِنَّمَا يَخْلُقُ لَهُمْ إدْرَاكًا لِيَسْمَعُوا كَلَامَهُ الْقَدِيمَ سَوَاءٌ قِيلَ هُوَ مَعْنًى مُجَرَّدٌ أَوْ مَعْنًى وَحُرُوفٌ ؛ كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . فَهَؤُلَاءِ إمَّا أَنْ يَمْنَعُوا السُّكُوتَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَوْ يُطْلِقُوا لَفْظَهُ وَيُفَسِّرُوهُ بِعَدَمِ خَلْقِ إدْرَاكٍ لِلْخَلْقِ يَسْمَعُونَ بِهِ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ وَالنُّصُوصُ
تُبْهِرُهُمْ مِثْلُ قَوْلِهِ : " إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا " . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الصُّبْحِ بالحديبية : " { أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ اللَّيْلَةَ } " ؟ وَتَكْلِيمُهُ لِمُوسَى وَنِدَاؤُهُ لَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَعَلَى قَوْلِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ كُلُّ أَحَدٍ الْكَلَامَ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى . ثُمَّ مَنْ تَفَلْسَفَ مِنْهُمْ كَالْغَزَالِيِّ فِي " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " وَجَدَهُ يُجَوِّزُ مِثْلَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الصَّفَاءِ وَالرِّيَاضَةِ ؛ وَهُوَ مَا يَتَنَزَّلُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِلْهَامَاتِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ } " . وَقَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وعبادة بْنِ الصَّامِتِ : " رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ عِنْدَهُ فِي مَنَامِهِ " . فَيَجْعَلُونَ " الْإِيحَاءَ " وَالْإِلْهَامَ " الَّذِي يَحْصُلُ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ مِثْلَ سَمَاعِ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا . إلَّا أَنَّ مُوسَى قَصَدَ بِذَلِكَ الْخِطَابَ وَغَيْرُهُ سَمِعَ مَا خُوطِبَ بِهِ غَيْرُهُ . ثُمَّ عِنْدَ " التَّحْقِيقِ " يَرْجِعُونَ إلَى مَحْضِ الْفَلْسَفَةِ ؛ فِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُوسَى وَغَيْرِهِ بِحَالِ كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلَةَ الْمُتَفَلْسِفَةَ يَجْعَلُونَ خَلْعَ " النَّعْلَيْنِ " إشَارَةً إلَى تَرْكِ الْعَالَمِينَ وَ " الطُّورَ " عِبَارَةً عَنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ تَأْوِيلَاتِ
الْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئَةِ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَأَصْحَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَنَحْوِهِمْ . وَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ - فِي الْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ المحاسبي فِي كِتَابِ " فَهْمِ الْقُرْآنِ " فَتَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ } وَنَحْوَهُ وَبَيَّنَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ قَدِيمٌ ؛ وَإِنَّمَا يَحْدُثُ الْمَعْلُومُ . إلَى أَنْ قَالَ : وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِينَا وَنَحْنُ جُهَّالٌ وَعِلْمُنَا مُحْدَثٌ قَدْ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ مَيِّتٌ فَكُلَّمَا مَاتَ إنْسَانٌ قُلْنَا : قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَكُونَ مِنْ قَبْلِ مَوْتِهِ جَاهِلِينَ أَنَّهُ سَيَمُوتُ إلَّا أَنَّا قَدْ يَحْدُثُ لَنَا اللَّحْظُ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَحَرَكَةِ الْقَلْبِ إذَا نَظَرْنَا إلَيْهِ مَيِّتًا لِأَنَّهُ مَيِّتٌ وَاَللَّهُ لَا تَحْدُثُ فِيهِ الْحَوَادِثُ . إلَى أَنْ قَالَ : وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } وَقَوْلُهُ : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ بِبَدْءِ الْحَوَادِثِ : إرَادَةً حَدَثَتْ لَهُ وَلَا أَنْ يَسْتَأْنِفَ مَشِيئَةً لَمْ تَكُنْ لَهُ ؛ وَذَلِكَ فِعْلُ الْجَاهِلِ بِالْعَوَاقِبِ الَّذِي يُرِيدُ الشَّيْءَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ الْعَوَاقِبَ فَلَمْ يَزَلْ يُرِيدُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكُونُ ؛ لَمْ يَسْتَحْدِثْ إرَادَةً لَمْ تَكُنْ ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَاتِ إنَّمَا تَحْدُثُ عَلَى قَدْرِ مَا يَعْلَمُ الْمُرِيدُ ؛ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَزَلْ يَعْلَمُ مَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ . فَقَدْ أَرَادَ مَا عَلِمَ عَلَى مَا عَلِمَ ؛ لَا يَحْدُثُ لَهُ بُدُوٌّ ؛ إذْ كَانَ لَا يَحْدُثُ فِيهِ عِلْمٌ بِهِ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثُ : وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي السُّنَّةَ وَبَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ ذَلِكَ عَلَى الْحَوَادِثِ . فَأَمَّا مَنْ ادَّعَى السُّنَّةَ ؛ فَأَرَادَ إثْبَاتَ " الْقَدَرِ " فَقَالَ : " إرَادَةُ اللَّهِ " أَيْ حَدَثٌ مِنْ تَقْدِيرِهِ سَابِقُ الْإِرَادَةِ وَأَمَّا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ ؛ فَزَعَمُوا أَنَّ الْإِرَادَةَ إنَّمَا هِيَ خَلْقٌ حَادِثٌ وَلَيْسَتْ مَخْلُوقَةً ؛ وَلَكِنْ بِهَا اللَّهُ كَوَّنَ الْمَخْلُوقِينَ قَالَ فَزَعَمْت أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِينَ وَأَنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْإِرَادَةُ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصِفَةِ لِلَّهِ مِنْ نَفْسِهِ وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ حَدَثَ بِغَيْرِ إرَادَةٍ مِنْهُ وَجَلَّ عَنْ الْبَدَوَاتِ وَتَقَلُّبِ الْإِرَادَاتِ ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْحَادِثَ هُوَ وَقْتُ الْمُرَادِ لَا نَفْسُ الْإِرَادَةِ كَقَوْلِهِمْ : مَتَى تُرِيدُ أَنْ أَجِيءَ ؟ . إلَى أَنْ قَالَ : وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } لَيْسَ مَعْنَاهُ : أَنْ يَحْدُثَ لَنَا سَمْعًا وَلَا تَكَلُّفَ بِسَمْعِ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ قَالَ : وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ لِلَّهِ اسْتِمَاعًا حَادِثًا فِي ذَاتِهِ ؛ فَذَهَبَ إلَى مَا يَعْقِلُ مِنْ الْخَلْقِ : أَنَّهُ يَحْدُثُ مِنْهُمْ عِلْمُ سَمْعٍ ؛ لَمَّا كَانَ مِنْ قَوْلِ عَمَّنْ سَمِعَهُ لِلْقَوْلِ ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ إذَا سَمِعَ الشَّيْءَ حَدَثَ لَهُ عَقْلٌ فَهِمَ عَمَّا أَدْرَكَتْهُ أُذُنُهُ مِنْ الصَّوْتِ . قَالَ : وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } لَا يَسْتَحْدِثُ بَصَرًا وَلَا لَحْظًا مُحْدَثًا فِي ذَاتِهِ ؛ وَإِنَّمَا يَحْدُثُ الشَّيْءُ فَيَرَاهُ مُكَوَّنًا كَمَا لَمْ يَزَلْ يَعْلَمُهُ قَبْلَ كَوْنِهِ لَا يُغَادِرُ شَيْئًا وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ . وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ رُؤْيَةً تَحْدُثُ وَقَالَ قَوْمٌ : إنَّمَا مَعْنَى ( سَيَرَى )
وَ
( إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ) إنَّمَا الْمَسْمُوعُ وَالْمُبْصَرُ لَمْ يَخَفْ
عَلَى عَيْنِي وَلَا عَلَى سَمْعِي أَنْ أُدْرِكَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا لَا
بِالْحَوَادِثِ فِي اللَّهِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَمَنْ ذَهَبَ إلَى
أَنَّهُ يَحْدُثُ لِلَّهِ اسْتِمَاعٌ مَعَ حُدُوثِ الْمَسْمُوعِ وَإِبْصَارٌ مَعَ
حُدُوثِ الْمُبْصَرِ : فَقَدْ زَادَ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْ وَإِنَّمَا
عَلَى الْعِبَادِ التَّسْلِيمُ لِمَا قَالَ اللَّهُ : إنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
وَلَا نَزِيدُ مَا لَمْ يَقُلْ وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
{ حَتَّى نَعْلَمَ } حَتَّى يَكُونَ الْمَعْلُومُ وَكَذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ
الْمُبْصِرُ وَالْمَسْمُوعُ ؛ فَلَا يَخْفَى عَلَى أَنْ يَعْلَمَهُ مَوْجُودًا
وَيَسْمَعَهُ مَوْجُودًا ؛ كَمَا عَلِمَهُ بِغَيْرِ حَادِثِ عِلْمٍ فِي اللَّهِ
وَلَا بَصَرٍ وَلَا سَمْعَ وَلَا مَعْنَى حَدَثَ فِي ذَاتِ اللَّهِ ؛ تَعَالَى
عَنْ الْحَوَادِثِ فِي نَفْسِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْصَمِ الكرامي فِي كِتَابِ ( جُمَلِ الْكَلَامِ فِي
أُصُولِ الدِّينِ ) لَمَّا ذَكَرَ جُمَلَ الْكَلَامِ فِي " الْقُرْآنِ "
وَأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ : ( أَحَدُهَا : أَنَّ الْقُرْآنَ
كَلَامُ اللَّهِ ؛ فَقَدْ حَكَى عَنْ " جَهْمٍ " أَنَّ الْقُرْآنَ
لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ خَلَقَهُ
اللَّهُ فَيُنْسَبُ إلَيْهِ كَمَا قِيلَ : سَمَاءُ اللَّهِ وَأَرْضُهُ وَكَمَا قِيلَ
: بَيْتُ اللَّهِ وَشَهْرُ اللَّهِ . وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ "
فَإِنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ؛
ثُمَّ وَافَقُوا جَهْمًا فِي الْمَعْنَى حَيْثُ قَالُوا كَلَامٌ خَلَقَهُ بَائِنًا
مِنْهُ . قَالَ : وَقَالَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ
اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ .
وَالْفَصْلُ الثَّانِي أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ قَدِيمٍ ؛ فَإِنَّ الْكُلَّابِيَة وَأَصْحَابَ الْأَشْعَرِيِّ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ كَانَ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ بِالْقُرْآنِ وَقَالَ أَهْلُ الْجَمَاعَةِ بَلْ إنَّهُ إنَّمَا تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ ؛ حَيْثُ خَاطَبَ بِهِ جبرائيل وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكُتُبِ . ( وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة والنجارية وَالْمُعْتَزِلَةَ زَعَمُوا أَنَّهُ مَخْلُوقٌ . وَقَالَ أَهْلُ الْجَمَاعَةِ : إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . ( وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ غَيْرُ بَائِنٍ مِنْ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة وَأَشْيَاعَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا : إنَّ الْقُرْآنَ بَائِنٌ مِنْ اللَّهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ كَلَامِهِ وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَلَامًا فِي الشَّجَرَةِ فَسَمِعَهُ مُوسَى وَخَلَقَ كَلَامًا فِي الْهَوَاءِ فَسَمِعَهُ جبرائيل وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يُوجَدَ مِنْ اللَّهِ كَلَامٌ يَقُومُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ . وَقَالَ أَهْلُ الْجَمَاعَةِ : بَلْ الْقُرْآنُ غَيْرُ بَائِنٍ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْجُودٌ مِنْهُ وَقَائِمٌ بِهِ . وَذَكَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِرَادَةِ وَالْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِاَللَّهِ الَّتِي لَيْسَتْ قَدِيمَةً وَلَا مَخْلُوقَةً .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا
مُضِلَّ لَهُ ؛ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ : فِي " الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى "
هَلْ هُوَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ ؟ أَوْ لَا يُقَالُ هُوَ هُوَ وَلَا يُقَالُ هُوَ
غَيْرُهُ ؟ أَوْ هُوَ لَهُ ؟ أَوْ يُفْصَلُ فِي ذَلِكَ ؟ . فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ
تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ وَالنِّزَاعُ اشْتَهَرَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ
بَعْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَاَلَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ " أَئِمَّةِ
السُّنَّةِ " أَحْمَد وَغَيْرِهِ : الْإِنْكَارُ عَلَى " الْجَهْمِيَّة
" الَّذِينَ يَقُولُونَ : أَسْمَاءُ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ .
فَيَقُولُونَ : الِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى وَأَسْمَاءُ اللَّهِ غَيْرُهُ وَمَا كَانَ غَيْرُهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ ؛ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ السَّلَفُ وَغَلَّظُوا فِيهِمْ الْقَوْلَ ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ بَلْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَهُوَ الْمُسَمِّي لِنَفْسِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ . وَ " الْجَهْمِيَّة " يَقُولُونَ : كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ وَأَسْمَاؤُهُ مَخْلُوقَةٌ ؛ وَهُوَ نَفْسُهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِكَلَامِ يَقُومُ بِذَاتِهِ وَلَا سَمَّى نَفْسَهُ بِاسْمِ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ ؛ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ : إنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ وَسَمَّى نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهُ خَلَقَهَا فِي غَيْرِهِ ؛ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ نَفْسُهُ تَكَلَّمَ بِهَا الْكَلَامَ الْقَائِمَ بِهِ . فَالْقَوْلُ فِي أَسْمَائِهِ هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْقَوْلِ فِي كَلَامِهِ . وَاَلَّذِينَ وَافَقُوا " السَّلَفَ " عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَسْمَاءَهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ يَقُولُونَ : الْكَلَامُ وَالْأَسْمَاءُ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ ؛ لَكِنْ هَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَيُسَمِّي نَفْسَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ : النَّفْيُ هُوَ قَوْلُ " ابْنِ كُلَّابٍ " وَمَنْ وَافَقَهُ . وَالْإِثْبَاتُ قَوْلُ " أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ " وَكَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ كالهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ . ( وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ " أَئِمَّةِ السُّنَّةِ " إنْكَارُهُمْ عَلَى مَنْ قَالَ أَسْمَاءُ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ وَكَانَ الَّذِينَ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى هَذَا
مُرَادُهُمْ ؛ فَلِهَذَا يُرْوَى عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْمَعِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ قَالَ : إذَا سَمِعْت الرَّجُلَ يَقُولُ : الِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى فَاشْهَدْ عَلَيْهِ بِالزَّنْدَقَةِ ؛ وَلَمْ يُعْرَفْ أَيْضًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى ؛ بَلْ هَذَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ وَأَنْكَرَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ أَمْسَكَ عَنْ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا ؛ إذْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْإِطْلَاقَيْنِ بِدْعَةً كَمَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَغَيْرِهِ ؛ وَكَمَا ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطبري فِي الْجُزْءِ الَّذِي سَمَّاهُ " صَرِيحَ السُّنَّةِ " ذَكَرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورِ فِي الْقُرْآنِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْقَدَرِ وَالصَّحَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَذَكَرَ أَنَّ " مَسْأَلَةَ اللَّفْظِ " لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهَا كَلَامٌ ؛ كَمَا قَالَ لَمْ نَجِدْ فِيهَا كَلَامًا عَنْ صَحَابِيٍّ مَضَى وَلَا عَنْ تَابِعِيٍّ قَفَا إلَّا عَمَّنْ فِي كَلَامِهِ الشِّفَاءُ وَالْغِنَاءُ وَمَنْ يَقُومُ لَدَيْنَا مَقَامَ الْأَئِمَّةِ الْأُولَى " أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ " فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ : اللَّفْظِيَّةُ جهمية . وَيَقُولُ : مَنْ قَالَ لَفْظِيٌّ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ . وَذَكَرَ أَنَّ الْقَوْلَ فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى مِنْ الْحَمَاقَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ فِيهَا قَوْلٌ لِأَحَدِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَأَنَّ حَسْبَ الْإِنْسَانِ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الِاسْمَ لِلْمُسَمَّى . وَهَذَا الْإِطْلَاقُ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ : مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي الْقَاسِمِ الطبري واللالكائي وَأَبِي مُحَمَّدٍ البغوي صَاحِبِ " شَرْحِ السُّنَّةِ " وَغَيْرِهِمْ ؛ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرِ بْنِ فورك وَغَيْرُهُ . وَ ( الْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ تَارَةً يَكُونُ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى كَاسْمِ الْمَوْجُودِ . وَ " تَارَةً " يَكُونُ غَيْرَ الْمُسَمَّى كَاسْمِ الْخَالِقِ . وَ " تَارَةً " لَا يَكُونُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ كَاسْمِ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُؤَلَّفَ مِنْ الْحُرُوفِ هُوَ نَفْسُ الشَّخْصِ الْمُسَمَّى بِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ . وَلِهَذَا يُقَالُ : لَوْ كَانَ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى لَكَانَ مَنْ قَالَ " نَارٌ " احْتَرَقَ لِسَانُهُ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا مُرَادُهُمْ وَيُشَنِّعُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا غَلَطٌ عَلَيْهِمْ ؛ بَلْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : اللَّفْظُ هُوَ التَّسْمِيَةُ وَالِاسْمُ لَيْسَ هُوَ اللَّفْظُ ؛ بَلْ هُوَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ ؛ فَإِنَّك إذَا قُلْت : يَا زَيْدُ يَا عُمَرُ فَلَيْسَ مُرَادُك دُعَاءَ اللَّفْظِ ؛ بَلْ مُرَادُك دُعَاءُ الْمُسَمَّى بِاللَّفْظِ وَذَكَرْت الِاسْمَ فَصَارَ الْمُرَادُ بِالِاسْمِ هُوَ الْمُسَمَّى . وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ إذَا أَخْبَرَ عَنْ الْأَشْيَاءِ فَذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهَا فَقِيلَ : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } { وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ هُوَ الرَّسُولُ وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ . وَكَذَلِكَ إذَا قيل : جَاءَ زَيْدٌ وَأَشْهَدُ عَلَى عَمْرو وَفُلَانٌ عَدْلٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّمَا تُذْكَرُ الْأَسْمَاءُ وَالْمُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّيَاتُ وَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الْكَلَامِ .
فَلَمَّا كَانَتْ أَسْمَاءُ الْأَشْيَاءِ إذَا ذُكِرَتْ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ فَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ الْمُسَمَّيَاتُ : قَالَ هَؤُلَاءِ : " الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى " وَجَعَلُوا اللَّفْظَ الَّذِي هُوَ الِاسْمُ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ التَّسْمِيَةُ كَمَا قَالَ البغوي : وَالِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى وَعَيْنُهُ وَذَاتُهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى } أَخْبَرَ أَنَّ اسْمَهُ يَحْيَى . ثُمَّ نَادَى الِاسْمَ فَقَالَ { يَا يَحْيَى } وَقَالَ : { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا } وَأَرَادَ الْأَشْخَاصَ الْمَعْبُودَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْمُسَمَّيَاتِ . وَقَالَ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } و { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ } . قَالَ : ثُمَّ يُقَالُ " لِلتَّسْمِيَةِ " أَيْضًا اسْمٌ . وَاسْتِعْمَالُهُ فِي التَّسْمِيَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْمُسَمَّى . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ فورك : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَقِيقَةِ " الِاسْمِ " وَلِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ وَلِأَهْلِ الْحَقَائِقِ فِيهِ بَيَانٌ وَبَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِيهِ خِلَافٌ . فَأَمَّا " أَهْلُ اللُّغَةِ " فَيَقُولُونَ : الِاسْمُ حُرُوفٌ مَنْظُومَةٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنًى مُفْرَدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ قَوْلٌ يَدُلُّ عَلَى مَذْكُورٍ يُضَافُ إلَيْهِ ؛ يَعْنِي الْحَدِيثَ وَالْخَبَرَ . قَالَ : وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقَائِقِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : اسْمُ الشَّيْءِ هُوَ ذَاتُهُ وَعَيْنُهُ وَالتَّسْمِيَةُ عِبَارَةٌ عَنْهُ وَدَلَالَةٌ عَلَيْهِ فَيُسَمَّى اسْمًا تَوَسُّعًا . وَقَالَتْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ . " الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ " هِيَ الْأَقْوَالُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ . وَالثَّالِثُ : لَا هُوَ هُوَ وَلَا هُوَ غَيْرُهُ ؛ كَالْعِلْمِ وَالْعَالَمِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ اسْمُ الشَّيْءِ هُوَ صِفَتُهُ وَوَصْفُهُ .
قَالَ : وَاَلَّذِي هُوَ الْحَقُّ عِنْدَنَا قَوْلُ مَنْ قَالَ : اسْمُ الشَّيْءِ هُوَ عَيْنُهُ وَذَاتُهُ وَاسْمُ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ وَتَقْدِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ : بِسْمِ اللَّهِ أَفْعَلُ أَيْ بِاَللَّهِ أَفْعَلُ وَإِنَّ اسْمَهُ هُوَ هُوَ . قَالَ : وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ " أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سلام " وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ لَبِيَدِ . إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اعْتَذَرَ وَالْمَعْنَى ثُمَّ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا ؛ فَإِنَّ اسْمَ السَّلَامِ هُوَ السَّلَامُ . قَالَ : وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } وَهَذَا هُوَ صِفَةٌ لِلْمُسَمَّى لَا صِفَةٌ لِمَا هُوَ قَوْلٌ وَكَلَامٌ وَبِقَوْلِهِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ } فَإِنَّ الْمُسَبَّحَ هُوَ الْمُسَمَّى وَهُوَ اللَّهُ وَبِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى } ثُمَّ قَالَ : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } فَنَادَى الِاسْمَ وَهُوَ الْمُسَمَّى . وَبِأَنَّ الْفُقَهَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ بِاسْمِ اللَّهِ كَالْحَالِفِ بِاَللَّهِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ فَلَوْ كَانَ اسْمُ اللَّهِ غَيْرَ اللَّهِ لَكَانَ الْحَالِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ ؛ فَلَمَّا انْعَقَدَ وَلَزِمَ بِالْحِنْثِ فِيهَا كَفَّارَةٌ دَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَهُ هُوَ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : مَا اسْمُ مَعْبُودِكُمْ ؟ قُلْنَا اللَّهُ . فَإِذَا قَالَ :
وَمَا مَعْبُودُكُمْ ؟ قُلْنَا اللَّهُ فَنُجِيبُ فِي الِاسْمِ بِمَا نُجِيبُ بِهِ فِي الْمَعْبُودِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمَعْبُودِ هُوَ الْمَعْبُودُ لَا غَيْرَ . وَبِقَوْلِهِ . { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ } وَإِنَّمَا عَبَدُوا الْمُسَمَّيَاتِ لَا الْأَقْوَالَ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ لَا تُعْبَدُ . قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ يُقَالُ : اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ وَلَهُ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ الْوَاحِدُ كَثِيرًا ؟ قِيلَ إذَا أَطْلَقَ " أَسْمَاءً " فَالْمُرَادُ بِهِ مُسَمَّيَاتُ الْمُسَمَّيْنَ وَالشَّيْءُ قَدْ يُسَمَّى بَاسِمِ دَلَالَتِهِ كَمَا يُسَمَّى الْمَقْدُورُ قُدْرَةً . قَالَ : فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ : بِاسْمِ اللَّهِ : أَيْ بِاَللَّهِ وَالْبَاءُ مَعْنَاهَا الِاسْتِعَانَةُ وَإِظْهَارُ الْحَاجَةِ وَتَقْدِيرُهُ : بِك أَسْتَعِينُ وَإِلَيْك أَحْتَاجُ وَقِيلَ تَقْدِيرُ الْكَلِمَةِ : أَبْتَدِئُ أَوْ أَبْدَأُ بِاسْمِك فِيمَا أَقُولُ وَأَفْعَلُ . قُلْت : لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ الشَّيْءِ إذَا ذُكِرَتْ فِي الْكَلَامِ فَالْمُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّيَاتُ - كَمَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ : { يَا يَحْيَى } وَنَحْوُ ذَلِكَ - لَكَانَ ذَلِكَ مَعْنًى وَاضِحًا لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ مَنْ فَهِمَهُ لَكِنْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ جُمْهُورُ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ لِمَا فِي قَوْلِهِمْ مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِلَةِ مِثْلُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ الَّذِي هُوَ " ا س م " مَعْنَاهُ ذَاتُ الشَّيْءِ وَنَفْسُهُ وَأَنَّ الْأَسْمَاءَ - الَّتِي هِيَ الْأَسْمَاءُ - مِثْلُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو هِيَ التَّسْمِيَاتُ ؛ لَيْسَتْ هِيَ أَسْمَاءَ الْمُسَمَّيَاتِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِمَا يَعْلَمُهُ جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَلِمَا يَقُولُونَهُ . فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ زَيْدًا وَعَمْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ هِيَ أَسْمَاءُ النَّاسِ وَالتَّسْمِيَةُ
جَعْلُ الشَّيْءِ اسْمًا لِغَيْرِهِ هِيَ مَصْدَرُ سَمَّيْته تَسْمِيَةً إذَا جَعَلْت لَهُ اسْمًا وَ " الِاسْمُ " هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى الْمُسَمَّى لَيْسَ الِاسْمُ الَّذِي هُوَ لَفْظُ اسْمٍ هُوَ الْمُسَمَّى ؛ بَلْ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَيْهِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا : فَهُمْ تَكَلَّفُوا هَذَا التَّكْلِيفَ ؛ لِيَقُولُوا إنَّ اسْمَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمُرَادُهُمْ أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذَا مِمَّا لَا تُنَازِعُ فِيهِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ مَا قَالُوا الْأَسْمَاءُ مَخْلُوقَةٌ إلَّا لَمَّا قَالَ هَؤُلَاءِ هِيَ التَّسْمِيَاتُ فَوَافَقُوا الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ فِي الْمَعْنَى وَوَافَقُوا أَهْلَ السُّنَّةِ فِي اللَّفْظِ . وَلَكِنْ أَرَادُوا بِهِ مَا لَمْ يَسْبِقْهُمْ أَحَدٌ إلَى الْقَوْلِ بِهِ مِنْ أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ وَهُوَ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " مَعْنَاهُ إذَا أُطْلِقَ هُوَ الذَّاتُ الْمُسَمَّاةُ ؛ بَلْ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ هِيَ الْأَقْوَالُ الَّتِي هِيَ أَسْمَاءُ الْأَشْيَاءِ مِثْلُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَعَالِمٍ وَجَاهِلٍ . فَلَفْظُ الِاسْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ هِيَ مُسَمَّاهُ . ثُمَّ قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ إذَا أَطُلِقَ الِاسْمُ فِي الْكَلَامِ الْمَنْظُومِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى ؛ فَلِهَذَا يُقَالُ : مَا اسْمُ هَذَا ؟ فَيُقَالُ : زَيْدٌ . فَيُجَابُ بِاللَّفْظِ وَلَا يُقَالُ : مَا اسْمُ هَذَا فَيُقَالُ هُوَ هُوَ ؛ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الشَّوَاهِدِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ . أَمَّا قَوْلُهُ : { إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا } ثُمَّ قَالَ : { يَا يَحْيَى } فَالِاسْمُ الَّذِي هُوَ يَحْيَى هُوَ هَذَا اللَّفْظُ الْمُؤَلَّفُ مِنْ ( يَا وحا وَيَا هَذَا هُوَ اسْمُهُ لَيْسَ اسْمُهُ هُوَ ذَاتُهُ ؛ بَلْ هَذَا مُكَابَرَةٌ . ثُمَّ لَمَّا نَادَاهُ فَقَالَ : { يَا يَحْيَى } . فَالْمَقْصُودُ الْمُرَادُ بِنِدَاءِ الِاسْمِ هُوَ نِدَاءُ الْمُسَمَّى ؛ لَمْ يُقْصَدْ نِدَاءُ اللَّفْظِ لَكِنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يُمْكِنُهُ نِدَاءُ الشَّخْصِ الْمُنَادَى إلَّا بِذِكْرِ اسْمِهِ وَنِدَائِهِ ؛ فَيَعْرِفُ
حِينَئِذٍ أَنَّ قَصْدَهُ نِدَاءُ الشَّخْصِ الْمُسَمَّى وَهَذَا مِنْ فَائِدَةِ اللُّغَاتِ وَقَدْ يُدْعَى بِالْإِشَارَةِ وَلَيْسَتْ الْحَرَكَةُ هِيَ ذَاتُهُ وَلَكِنْ هِيَ دَلِيلٌ عَلَى ذَاتِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } فَفِيهَا قِرَاءَتَانِ : الْأَكْثَرُونَ يَقْرَءُونَ { ذِي الْجَلَالِ } فَالرَّبُّ الْمُسَمَّى : هُوَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ : { ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } وَكَذَلِكَ هِيَ فِي الْمُصْحَفِ الشَّامِيِّ ؛ وَفِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ هِيَ بِالْيَاءِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } فَهِيَ بِالْوَاوِ بِاتِّفَاقِهِمْ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَغَيْرُهُ { تَبَارَكَ } تَفَاعَلَ مِنْ الْبَرَكَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَرَكَةَ تُكْتَسَبُ وَتُنَالُ بِذِكْرِ اسْمِهِ ؛ فَلَوْ كَانَ لَفْظُ الِاسْمِ مَعْنَاهُ الْمُسَمَّى لَكَانَ يَكْفِي قَوْلُهُ تَبَارَكَ رَبُّك فَإِنَّ نَفْسَ الِاسْمِ عِنْدَهُمْ هُوَ نَفْسُ الرَّبِّ ؛ فَكَانَ هَذَا تَكْرِيرًا . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ ذِكْرَ الِاسْمِ هُنَا صِلَةٌ وَالْمُرَادُ تَبَارَكَ رَبُّك ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ عَنْ اسْمِهِ بِأَنَّهُ تَبَارَكَ ؛ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُ الْمُصَلِّي تَبَارَكَ اسْمُك أَيْ تَبَارَكْت أَنْتَ وَنَفْسُ أَسْمَاءِ الرَّبِّ لَا بَرَكَةَ فِيهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْسَ أَسْمَائِهِ مُبَارَكَةٌ وَبَرَكَتُهَا مِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْمُسَمَّى . وَلِهَذَا فَرَّقَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَ مَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمَا لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَقَوْلُهُ : { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَقَوْلُهُ { وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ " { وَإِنْ خَالَطَ كَلْبَك كِلَابٌ أُخْرَى فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ } " . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ } . فَلَيْسَ الْمُرَادُ كَمَا ذَكَرُوهُ : أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ الْمُسَمَّاةَ فَإِنَّ هَذَا هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهِ . وَالرَّبُّ تَعَالَى نَفَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ وَأَثْبَتَ ضِدَّهُ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا آلِهَةً وَاعْتَقَدُوا ثُبُوتَ الْإِلَهِيَّةِ فِيهَا ؛ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ فَإِذَا عَبَدُوهَا مُعْتَقِدِينَ إلَهِيَّتَهَا مُسَمِّينَ لَهَا آلِهَةً لَمْ يَكُونُوا قَدْ عَبَدُوا إلَّا أَسْمَاءً ابْتَدَعُوهَا هُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِعِبَادَةِ هَذِهِ وَلَا جَعَلَهَا آلِهَةً كَمَا قَالَ : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } فَتَكُونُ عِبَادَتُهُمْ لِمَا تَصَوَّرُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَذَلِكَ أَمْرٌ مَوْجُودٌ فِي أَذْهَانِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ ؛ فَمَا عَبَدُوا إلَّا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الَّتِي تَصَوَّرُوهَا فِي أَذْهَانِهِمْ وَعَبَّرُوا عَنْ مَعَانِيهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ ؛ وَهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا عِبَادَةَ الصَّنَمِ إلَّا لِكَوْنِهِ إلَهًا عِنْدَهُمْ وَإِلَهِيَّتُهُ هِيَ فِي أَنْفُسِهِمْ ؛ لَا فِي الْخَارِجِ فَمَا عَبَدُوا فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا ذَلِكَ الْخَيَالَ الْفَاسِدَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ . وَلِهَذَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ } يَقُولُ : سَمُّوهُمْ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَهَا
هَلْ هِيَ خَالِقَةٌ رَازِقَةٌ مُحْيِيَةٌ مُمِيتَةٌ أَمْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ لَا تَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ؟ ؟ فَإِذَا سَمَّوْهَا فَوَصَفُوهَا بِمَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ الصِّفَاتِ تَبَيَّنَ ضَلَالُهُمْ . قَالَ تَعَالَى : { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ } وَمَا لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فَهُوَ بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَعَلِمَهُ مَوْجُودًا { أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ } أَمْ بِقَوْلِ ظَاهِرٍ بِاللِّسَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْقَلْبِ ؛ بَلْ هُوَ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الِاسْمَ يُرَادُ بِهِ " التَّسْمِيَةُ " وَهُوَ الْقَوْلُ : فَهَذَا الَّذِي جَعَلُوهُ هُمْ تَسْمِيَةً هُوَ الِاسْمُ عِنْدَ النَّاسِ جَمِيعِهِمْ وَالتَّسْمِيَةُ جَعْلُهُ اسْمًا وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ اسْمٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَدْ سَلَّمُوا أَنَّ لَفْظَ الِاسْمِ أَكْثَرُ مَا يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ وَادَّعَوْا أَنَّ لَفْظَ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " : هُوَ فِي الْأَصْلِ ذَاتُ الشَّيْءِ وَلَكِنَّ التَّسْمِيَةَ سُمِّيَتْ اسْمًا لِدَلَالَتِهَا عَلَى ذَاتِ الشَّيْءِ : تَسْمِيَةً لِلدَّالِّ بِاسْمِ الْمَدْلُولِ وَمَثَّلُوهُ بِلَفْظِ الْقُدْرَةِ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ التَّسْمِيَةُ مَصْدَرُ سَمَّى يُسَمِّي تَسْمِيَةً وَالتَّسْمِيَةُ نُطْقٌ بِالِاسْمِ وَتَكَلُّمٌ بِهِ لَيْسَتْ هِيَ الِاسْمُ نَفْسُهُ وَأَسْمَاءُ الْأَشْيَاءِ هِيَ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا لَيْسَتْ هِيَ أَعْيَانُ الْأَشْيَاءِ . وَتَسْمِيَةُ الْمَقْدُورِ قُدْرَةً هُوَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ وَهَذَا كَثِيرٌ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِهِمْ لِلْمَخْلُوقِ خَلْقٌ وَقَوْلِهِمْ دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ أَيْ مَضْرُوبُ الْأَمِيرِ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَابْنُ عَطِيَّةَ سَلَكَ مَسْلَكَ هَؤُلَاءِ وَقَالَ : الِاسْمُ الَّذِي هُوَ " أَلِفٌ وَسِينٌ وَمِيمٌ " يَأْتِي فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى وَيَأْتِي فِي مَوَاضِعَ
يُرَادُ بِهِ التَّسْمِيَةُ نَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنْ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا } " وَغَيْرُ ذَلِكَ وَمَتَى أُرِيدَ بِهِ الْمُسَمَّى فَإِنَّمَا هُوَ صِلَةٌ كَالزَّائِدِ كَأَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : سَبِّحْ رَبَّك الْأَعْلَى أَيْ نَزِّهْهُ . قَالَ : وَإِذَا كَانَ الِاسْمُ وَاحِدُ الْأَسْمَاءِ كَزَيْدِ وَعَمْرٍو فَيَجِيءُ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا قُلْت لَك . تَقُولُ : زَيْدٌ قَائِمٌ تُرِيدُ الْمُسَمَّى وَتَقُولُ : زَيْدٌ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ تُرِيدُ التَّسْمِيَةَ نَفْسَهَا عَلَى مَعْنَى نَزِّهْ اسْمَ رَبِّك عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِهِ صَنَمٌ أَوْ وَثَنٌ فَيُقَالُ لَهُ : " إلَهٌ أَوْ رَبٌّ " . قُلْت : هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ شَاهِدٌ لَا مِنْ كَلَامٍ فَصِيحٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْمُ الَّذِي يَقُولُونَ هُوَ التَّسْمِيَةُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : تَقُولُ زَيْدٌ قَائِمٌ زَيْدٌ الْمُسَمَّى . فَزَيْدٌ لَيْسَ هُوَ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " بَلْ زَيْدٌ مُسَمَّى هَذَا اللَّفْظِ فَزَيْدٌ يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى وَيُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ . وَكَذَلِكَ اسْمٌ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " يُرَادُ بِهِ هَذَا اللَّفْظُ ؛ وَيُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ وَهُوَ لَفْظُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ ؛ فَتِلْكَ هِيَ الْأَسْمَاءُ الَّتِي تُرَادُ بِلَفْظِ اسْمٍ ؛ لَا يُرَادُ بِلَفْظِ اسْمٍ نَفْسُ الْأَشْخَاصِ ؛ فَهَذَا مَا أَعْرِفُ لَهُ شَاهِدًا صَحِيحًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَصْلَ كَمَا ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ .
قَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } . فَأَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى مِثْلُ : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْغَفُورِ الرَّحِيمِ فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى وَهِيَ إذَا ذُكِرَتْ فِي الدُّعَاءِ وَالْخَبَرِ يُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّى . إذَا قَالَ : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } فَالْمُرَادُ الْمُسَمَّى لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَتَوَكَّلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ أَقْوَالٌ ؛ كَمَا فِي سَائِرِ الْكَلَامِ : كَلَامِ الْخَالِقِ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : مَا اسْمُ مَعْبُودِكُمْ ؟ قُلْنَا : اللَّهُ . فَنُجِيبُ فِي الِاسْمِ بِمَا نُجِيبُ بِهِ فِي الْمَعْبُودِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمَعْبُودِ هُوَ الْمَعْبُودُ : حُجَّةٌ بَاطِلَةٌ وَهِيَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ . فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : مَا اسْمُ مَعْبُودِكُمْ ؟ فَقُلْنَا : اللَّهُ . فَالْمُرَادُ أَنَّ اسْمَهُ هُوَ هَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اسْمَهُ هُوَ ذَاتُهُ وَعَيْنُهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ اسْمِهِ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ نَفْسِهِ ؛ فَكَانَ الْجَوَابُ بِذِكْرِ اسْمِهِ . وَإِذَا قَالَ : مَا مَعْبُودُكُمْ ؟ فَقُلْنَا اللَّهُ : فَالْمُرَادُ هُنَاكَ الْمُسَمَّى ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَعْبُودَ هُوَ الْقَوْلُ فَلَمَّا اخْتَلَفَ السُّؤَالُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اخْتَلَفَ الْمَقْصُودُ بِالْجَوَابِ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَالَ اللَّهُ لَكِنَّهُ فِي أَحَدِهِمَا أُرِيدَ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ مِنْ الْكَلَامِ وَفِي الْآخَرِ أُرِيدَ بِهِ الْمُسَمَّى بِهَذَا الْقَوْلِ . كَمَا إذَا قِيلَ : مَا اسْمُ فُلَانٍ ؟ فَقِيلَ : زَيْدٌ أَوْ عُمَرُ فَالْمُرَادُ هُوَ الْقَوْلُ . وَإِذَا قَالَ : مَنْ أَمِيرُكُمْ أَوْ مَنْ
أَنْكَحْت ؟ فَقِيلَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَالْمُرَادُ بِهِ الشَّخْصُ فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْمَقْصُودُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ نَفْسُهُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى . وَمِنْهَا اسْمُهُ اللَّهُ . كَمَا قَالَ : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } فَاَلَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى هُوَ الْمُسَمَّى بِهَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّ هَذَا الِاسْمَ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى ؛ وَتَارَةً يَقُولُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى لَهُ أَيْ الْمُسَمَّى لَيْسَ مِنْ الْأَسْمَاءِ ؛ وَلِهَذَا فِي قَوْلِهِ { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } لَمْ يَقْصِدْ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ؛ بَلْ قَصَدَ أَنَّ الْمُسَمَّى لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى . وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الصَّحِيحِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ سَطْرٌ وَرَسُولُ سَطْرٌ وَاَللَّهُ سَطْرٌ } وَيُرَادُ الْخَطُّ الْمَكْتُوبُ الَّذِي كُتِبَ بِهِ ذَلِكَ ؛ فَالْخَطُّ الَّذِي كُتِبَ بِهِ مُحَمَّدٌ سَطْرٌ وَالْخَطُّ الَّذِي كُتِبَ بِهِ رَسُولُ سَطْرٌ وَالْخَطُّ الَّذِي كُتِبَ بِهِ اللَّهُ سَطْرٌ . وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ } " فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ تَحَرُّكُ شَفَتَاهُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ وَهُوَ الْقَوْلُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الشَّفَتَيْنِ تَتَحَرَّكُ بِنَفْسِهِ تَعَالَى . وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } وَأَنَّ الْمُرَادَ سَبِّحْ رَبَّك الْأَعْلَى وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهَذَا لِلنَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ وَكِلَاهُمَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ .
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : " الِاسْمُ " هُنَا صِلَةٌ وَالْمُرَادُ سَبِّحْ رَبَّك وَتَبَارَكَ رَبُّك . وَإِذَا قِيلَ : هُوَ صِلَةٌ فَهُوَ زَائِدٌ لَا مَعْنَى لَهُ ؛ فَيُبْطِلُ قَوْلَهُمْ إنَّ مَدْلُولَ لَفْظِ اسْمٍ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " هُوَ الْمُسَمَّى فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَدْلُولٌ مُرَادٌ لَمْ يَكُنْ صِلَةً . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ هُوَ الْمُسَمَّى وَأَنَّهُ صِلَةٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ ؛ فَقَدْ تَنَاقَضَ فَإِنَّ الَّذِي يَقُولُ هُوَ صِلَةٌ لَا يَجْعَلُ لَهُ مَعْنًى ؛ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْحُرُوفِ الزَّائِدَةِ الَّتِي تَجِيءُ لِلتَّوْكِيدِ كَقَوْلِهِ : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } و { قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِصِلَةِ بَلْ الْمُرَادُ تَسْبِيحُ الِاسْمِ نَفْسِهِ فَهَذَا مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِمْ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّهُ لَيْسَ بِصِلَةِ بَلْ أَمَرَ اللَّهُ بِتَسْبِيحِ اسْمِهِ كَمَا أَمَرَ بِذِكْرِ اسْمِهِ . وَالْمَقْصُودُ بِتَسْبِيحِهِ وَذِكْرِهِ هُوَ تَسْبِيحُ الْمُسَمَّى وَذِكْرُهُ فَإِنَّ الْمُسَبِّحَ وَالذَّاكِرَ إنَّمَا يُسَبِّحُ اسْمَهُ وَيَذْكُرُ اسْمَهُ ؛ فَيَقُولُ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى فَهُوَ نَطَقَ بِلَفْظِ رَبِّي الْأَعْلَى وَالْمُرَادُ هُوَ الْمُسَمَّى بِهَذَا اللَّفْظِ فَتَسْبِيحُ الِاسْمِ هُوَ تَسْبِيحُ الْمُسَمَّى . وَمَنْ جَعَلَهُ تَسْبِيحًا لِلِاسْمِ يَقُولُ الْمَعْنَى أَنَّك لَا تُسَمِّ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ وَلَا تُلْحِدُ فِي أَسْمَائِهِ فَهَذَا مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ اسْمُ اللَّهِ لَكِنَّ هَذَا تَابِعٌ لِلْمُرَادِ بِالْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ بِهَا الْقَصْدَ الْأَوَّلَ . وَقَدْ ذَكَرَ " الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ " غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ كالبغوي قَالَ قَوْلُهُ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } أَيْ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } . فَقَالَ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى } . قُلْت : فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { لَمَّا نَزَلَ { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قَالَ اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَلَمَّا نَزَلَ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قَالَ : اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ } " وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا فِي الرُّكُوعِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَفِي السُّجُودِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَامَ بِالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ يَقُولُ : سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَسَجَدَ نَحْوًا مِنْ رُكُوعِهِ يَقُولُ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى } " . وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا قَالَ الْعَبْدُ فِي رُكُوعِهِ : سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وَإِذَا قَالَ فِي سُجُودِهِ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ } " وَقَدْ أَخَذَ بِهَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ . قَالَ البغوي : وَقَالَ قَوْمٌ مَعْنَاهُ نَزِّهْ رَبَّك الْأَعْلَى عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُلْحِدُونَ . وَجَعَلُوا الِاسْمَ صِلَةً . قَالَ : وَيَحْتَجُّ بِهَذَا مَنْ يَجْعَلُ الِاسْمَ وَالْمُسَمَّى وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ سُبْحَانَ اسْمِ اللَّهِ وَسُبْحَانَ اسْمِ رَبِّنَا إنَّمَا يَقُولُونَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَسُبْحَانَ رَبِّنَا . وَكَانَ مَعْنَى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ } سَبِّحْ رَبَّك . قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا وَاَلَّذِي : يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَسُبْحَانَ رَبِّنَا
إنَّمَا نَطَقَ بِالِاسْمِ الَّذِي هُوَ اللَّهُ وَاَلَّذِي هُوَ رَبُّنَا : فَتَسْبِيحُهُ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى الِاسْمِ لَكِنَّ مُرَادَهُ هُوَ الْمُسَمَّى فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ يُنْطَقُ بِاسْمِ الْمُسَمَّى وَالْمُرَادُ الْمُسَمَّى . وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ لَكِنْ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ الَّذِي هُوَ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " الْمُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى . لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ " أَسْمَاءَ اللَّهِ " مِثْلُ اللَّهِ وَرَبُّنَا وَرَبِّي الْأَعْلَى وَنَحْوُ ذَلِكَ يُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّى مَعَ أَنَّهَا هِيَ فِي نَفْسِهَا لَيْسَتْ هِيَ الْمُسَمَّى لَكِنْ يُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّى فَأَمَّا اسْمُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " فَلَا هُوَ الْمُسَمَّى الَّذِي هُوَ الذَّاتُ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى الَّذِي هُوَ الذَّاتُ ؛ وَلَكِنْ يُرَادُ بِهِ مُسَمَّاهُ الَّذِي هُوَ الْأَسْمَاءُ كَأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى فِي قَوْلِهِ : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } فَلَهَا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى الَّتِي جَعَلَهَا هَؤُلَاءِ هِيَ التَّسْمِيَاتُ وَجَعَلُوا التَّعْبِيرَ عَنْهَا بِالْأَسْمَاءِ تَوَسُّعًا ؛ فَخَالَفُوا إجْمَاعَ الْأُمَمِ كُلِّهِمْ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَخَالَفُوا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحَ الْمَنْقُولِ . وَاَلَّذِينَ شَارَكُوهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَقَالُوا : الْأَسْمَاءُ ثَلَاثَةٌ " قَدْ تَكُونُ هِيَ الْمُسَمَّى وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَهُ وَقَدْ تَكُونُ لَا هِيَ هُوَ وَلَا غَيْرَهُ وَجَعَلُوا الْخَالِقَ وَالرَّازِقَ وَنَحْوَهُمَا غَيْرَ الْمُسَمَّى وَجَعَلُوا الْعَلِيمَ وَالْحَكِيمَ وَنَحْوَهُمَا لِلْمُسَمَّى : غَلِطُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُ إذَا سَلِمَ لَهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْمِ الَّذِي هُوَ " أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ " هُوَ مُسَمَّى الْأَسْمَاءِ ؛ فَاسْمُهُ الْخَالِقُ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ نَفْسُهُ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْهُ وَاسْمُهُ الْعَلِيمُ هُوَ الرَّبُّ الْعَلِيمُ الَّذِي الْعِلْمُ صِفَةٌ لَهُ فَلَيْسَ الْعِلْمُ هُوَ الْمُسَمَّى ؛ بَلْ الْمُسَمَّى هُوَ الْعَلِيمُ ؛ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ عَلَى أَصْلِهِمْ : الِاسْمُ هُنَا هُوَ الْمُسَمَّى وَصِفَتُهُ .
وَفِي الْخَالِقِ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى وَفِعْلُهُ ؛ ثُمَّ قَوْلُهُمْ إنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَلَيْسَ الْخَلْقُ فِعْلًا قَائِمًا بِذَاتِهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ . كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا : " الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى " إنَّمَا يَسْلَمُ لَهُمْ أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ إذَا ذُكِرَتْ فِي الْكَلَامِ أُرِيدَ بِهِ الْمُسَمَّى وَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ ؛ لَا أَنَّ لَفْظَ اسْمٍ . أَلِفٌ سِينٌ مِيمٌ يُرَادُ بِهِ الشَّخْصُ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَوْلِ لَبِيَدِ : إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا فَمُرَادُهُ ثُمَّ النُّطْقُ بِهَذَا الِاسْمِ وَذَكَرَهُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ الْمَقْصُودُ ؛ كَأَنَّهُ قَالَ ثُمَّ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ السَّلَامَ يَحْصُلُ عَلَيْهِمَا بِدُونِ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ وَيَذْكُرَ اسْمَهُ . فَإِنَّ نَفْسَ السَّلَامِ قَوْلٌ فَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ نَاطِقٌ وَيَذْكُرْهُ لَمْ يَحْصُلْ . وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ إنَّ الْفِعْلَ أَمْثِلَةٌ أُخِذَتْ مِنْ لَفْظِ أَحْدَاثِ الْأَسْمَاءِ وَبُنِيَ لِمَا مَضَى وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ مَقْصُودُهُ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ الْأَلْفَاظُ . وَهَذَا اصْطِلَاحُ النَّحْوِيِّينَ سَمَّوْا الْأَلْفَاظَ بِأَسْمَاءِ مَعَانِيهَا ؛ فَسَمَّوْا قَامَ وَيَقُومُ وَقُمْ فِعْلًا ؛ وَالْفِعْلُ هُوَ نَفْسُ الْحَرَكَةِ ؛ فَسَمَّوْا اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَيْهَا بِاسْمِهَا . وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا : اسْمٌ مُعَرَّبٌ وَمَبْنِيٌّ فَمَقْصُودُهُمْ اللَّفْظُ لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ الْمُسَمَّى وَإِذَا قَالُوا هَذَا الِاسْمُ فَاعِلٌ فَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ فَاعِلٌ فِي اللَّفْظِ ؛ أَيْ أُسْنِدَ إلَيْهِ الْفِعْلُ وَلَمْ يُرِدْ سِيبَوَيْهِ بِلَفْظِ الْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ كَمَا زَعَمُوا ؛ وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ فَسَدَتْ صِنَاعَتُهُ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى فَهُمْ إذَا
أَرَادُوا أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي هِيَ أَقْوَالٌ لَيْسَتْ نَفْسُهَا هِيَ
الْمُسَمَّيَاتُ فَهَذَا أَيْضًا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ .
وَأَرْبَابِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يُنَازِعُونَ فِي هَذَا ؛ بَلْ عَبَّرُوا
عَنْ الْأَسْمَاءِ هُنَا بِالتَّسْمِيَاتِ وَهُمْ أَيْضًا لَا يُمْكِنُهُمْ
النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْكَلَامِ مِثْلُ قَوْلِهِ
يَا آدَمَ يَا نُوحُ يَا إبْرَاهِيمُ إنَّمَا أُرِيدَ بِهَا نِدَاءُ الْمُسَمِّينَ
بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ . وَإِذَا قِيلَ : خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ
فَالْمُرَادُ خَلَقَ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ ؛ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ
خَلَقَ لَفْظَ السَّمَاءِ وَلَفْظَ الْأَرْضِ وَالنَّاسُ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ
ذَلِكَ إلَّا الْمَعْنَى الْمُرَادَ بِهِ وَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِ أَحَدٍ إرَادَةُ
الْأَلْفَاظِ ؛ لِمَا قَدْ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّ هَذِهِ
الْأَلْفَاظَ وَالْأَسْمَاءَ يُرَادُ بِهَا الْمَعَانِي وَالْمُسَمَّيَاتُ ؛
فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهَا فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ ؛ لَكِنْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ
الْمُرَادُ إنْ لَمْ يَنْطِقْ بِالْأَلْفَاظِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُبَيِّنَةِ
لِلْمُرَادِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ . وَهَذَا مِنْ الْبَيَانِ الَّذِي أَنْعَمَ
اللَّهُ بِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي قَوْلِهِ : { خَلَقَ الْإِنْسَانَ } {
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } وَقَدْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى .
وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَطْلَقُوا مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى مَقْصُودُهُمْ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ غَيْرُهُ ؛ وَمَا كَانَ غَيْرُهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ . وَلِهَذَا قَالَتْ الطَّائِفَةَ الثَّالِثَةَ : لَا نَقُولُ هِيَ الْمُسَمَّى وَلَا غَيْرُ الْمُسَمَّى . فَيُقَالُ لَهُمْ : قَوْلُكُمْ إنَّ أَسْمَاءَهُ غَيْرُهُ مِثْلَ قَوْلِكُمْ إنَّ كَلَامَهُ غَيْرُهُ وَإِنَّ إرَادَتَهُ غَيْرُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ وَقَدْ عَرَفْت شُبَهَهُمْ وَفَسَادَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ مِنْ وُجُوهٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَا نُثْبِتُ قَدِيمًا غَيْرَ اللَّهِ ؛ أَوْ قَدِيمًا لَيْسَ هُوَ اللَّهُ حَتَّى كَفَّرُوا أَهْلَ الْإِثْبَاتِ وَإِنْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ كَمَا قَالَ أَبُو الهذيل : إنَّ كُلَّ مُتَأَوِّلٍ كَانَ تَأْوِيلُهُ تَشْبِيهًا لَهُ بِخَلْقِهِ وَتَجْوِيزًا لَهُ فِي فِعْلِهِ وَتَكْذِيبًا لِخَبَرِهِ فَهُوَ كَافِرٌ ؛ وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا قَدِيمًا لَا يُقَالُ لَهُ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَقْصُودُهُ تَكْفِيرُ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَمَنْ يَقُولُ إنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَلَا يُخَلَّدُونَ فِيهَا . فَمِمَّا يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ : إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَنْعَكِسُ عَلَيْكُمْ فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّجْوِيزِ وَالتَّكْذِيبِ ؛ وَإِثْبَاتِ قَدِيمٍ لَا يُقَالُ لَهُ اللَّهُ فَإِنَّكُمْ تُشَبِّهُونَهُ بِالْجَمَادَاتِ بَلْ بِالْمَعْدُومَاتِ بَلْ بِالْمُمْتَنِعَاتِ وَتَقُولُونَ إنَّهُ يُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ الْعَظِيمَةَ بِالذَّنْبِ الْوَاحِدِ ؛ وَيُخَلَّدُ عَلَيْهِ فِي النَّارِ وَتُكَذِّبُونَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ
وَإِخْرَاجِهِ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا وَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ . وَأَنْتُمْ تُثْبِتُونَ قَدِيمًا لَا يُقَالُ لَهُ اللَّهُ فَإِنَّكُمْ تُثْبِتُونَ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا عَلِيمٍ وَلَا قَدِيرٍ ؛ فَلَيْسَ هُوَ اللَّهُ فَمَنْ أَثْبَتَ ذَاتًا مُجَرَّدَةً فَقَدْ أَثْبَتَ قَدِيمًا لَيْسَ هُوَ اللَّهُ وَإِنْ قَالَ أَنَا أَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا فَهُوَ قَوْلُ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ ؛ فَنَفْسُ كَوْنِهِ حَيًّا لَيْسَ هُوَ كَوْنَهُ عَالِمًا وَنَفْسُ كَوْنِهِ عَالِمًا لَيْسَ هُوَ كَوْنَهُ قَادِرًا وَنَفْسُ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ كَوْنَهُ ذَاتًا مُتَّصِفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَهَذِهِ مَعَانٍ مُتَمَيِّزَةٌ فِي الْعَقْلِ لَيْسَ هَذَا هُوَ هَذَا . فَإِنْ قُلْتُمْ هِيَ قَدِيمَةٌ فَقَدْ أَثْبَتُّمْ مَعَانِيَ قَدِيمَةً ؛ وَإِنْ قُلْتُمْ هِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ جَعَلْتُمْ كُلَّ صِفَةٍ هِيَ الْأُخْرَى وَالصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفُ فَجَعَلْتُمْ كَوْنَهُ حَيًّا هُوَ كَوْنُهُ عَالِمًا وَجَعَلْتُمْ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُ الذَّاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُكَابَرَةً وَهَذِهِ الْمَعَانِي هِيَ مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ . فَهُوَ الْمُسَمِّي نَفْسَهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ : { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } { غَفُورًا رَحِيمًا } فَقَالَ هُوَ سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ ؛ فَأَثْبَتَ قِدَمَ مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَمَّى نَفْسَهُ بِهَا . فَإِذَا قُلْتُمْ إنَّ أَسْمَاءَهُ أَوْ كَلَامَهُ غَيْرُهُ فَلَفْظُ " الْغَيْرِ " مُجْمَلٌ ؛ إنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ بَائِنٌ عَنْهُ فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ الشُّعُورُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَقَدْ
يَذْكُرُ
الْإِنْسَانُ اللَّهَ وَيَخْطُرُ بِقَلْبِهِ وَلَا يَشْعُرُ حِينَئِذٍ بِكُلِّ
مَعَانِي أَسْمَائِهِ ؛ بَلْ وَلَا يَخْطُرُ لَهُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ عَزِيزٌ
وَأَنَّهُ حَكِيمٌ فَقَدْ أَمْكَنَ الْعِلْمُ بِهَذَا دُونَ هَذَا ؛ وَإِذَا
أُرِيدَ بِالْغَيْرِ هَذَا فَإِنَّمَا يُفِيدُ الْمُبَايَنَةَ فِي ذِهْنِ الْإِنْسَانِ
؛ لِكَوْنِهِ قَدْ يَعْلَمُ هَذَا دُونَ هَذَا وَذَلِكَ لَا يَنْفِي التَّلَازُمَ
فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهِيَ مَعَانٍ مُتَلَازِمَةٌ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الذَّاتِ
دُونَ هَذِهِ الْمَعَانِي وَلَا وُجُودُ هَذِهِ الْمَعَانِي دُونَ وُجُودِ
الذَّاتِ .
وَاسْمُ " اللَّهِ " إذَا قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ قِيلَ بِسْمِ
اللَّهِ يَتَنَاوَلُ ذَاتَه وَصِفَاتِهِ لَا يَتَنَاوَلُ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ
الصِّفَاتِ وَلَا صِفَاتٍ مُجَرَّدَةً عَنْ الذَّاتِ وَقَدْ نَصَّ أَئِمَّةُ
السُّنَّةِ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - عَلَى أَنَّ صِفَاتِهِ دَاخِلَةٌ فِي
مُسَمَّى أَسْمَائِهِ فَلَا يُقَالُ : إنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ زَائِدَةٌ
عَلَيْهِ ؛ لَكِنْ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مَنْ قَالَ : إنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى
الذَّاتِ . وَهَذَا إذَا أُرِيدَ بِهِ أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا أَثْبَتَهُ
أَهْلُ النَّفْيِ مِنْ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ فَهُوَ صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ
أُولَئِكَ قَصَّرُوا فِي الْإِثْبَاتِ فَزَادَ هَذَا عَلَيْهِمْ وَقَالَ الرَّبُّ
لَهُ صِفَاتٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا عَلِمْتُمُوهُ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا
زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ كَلَامٌ
مُتَنَاقِضٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ حَتَّى
يُقَالَ إنَّ الصِّفَاتِ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا ؛ بَلْ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ
الذَّاتِ إلَّا بِمَا بِهِ تَصِيرُ ذَاتًا مِنْ الصِّفَاتِ وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ
الصِّفَاتِ إلَّا بِمَا بِهِ تَصِيرُ صِفَاتٌ مِنْ الذَّاتِ فَتَخَيُّلُ وُجُودِ
أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ثُمَّ زِيَادَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ تَخَيُّلٌ بَاطِلٌ
. وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ " الِاسْمَ لِلْمُسَمَّى "
كَمَا يَقُولُهُ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ
فَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْمَعْقُولَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَقَالَ : { أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا } " { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ لِي خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ : أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَد وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرُ وَالْعَاقِبُ } " وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : أَهُوَ الْمُسَمَّى أَمْ غَيْرُهُ ؟ فَصَّلُوا ؛ فَقَالُوا : لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْمُسَمَّى وَلَكِنْ يُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى ؛ وَإِذَا قِيلَ إنَّهُ غَيْرُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لَهُ فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِأَسْمَاءِ نَفْسِهِ فَلَا تَكُونُ بَائِنَةً عَنْهُ فَكَيْفَ بِالْخَالِقِ وَأَسْمَاؤُهُ مِنْ كَلَامِهِ ؛ وَلَيْسَ كَلَامُهُ بَائِنًا عَنْهُ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ الِاسْمُ نَفْسُهُ بَائِنًا مِثْلُ أَنْ يُسَمِّيَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ بِاسْمِ أَوْ يَتَكَلَّمَ بِاسْمِهِ . فَهَذَا الِاسْمُ نَفْسُهُ لَيْسَ قَائِمًا بِالْمُسَمَّى ؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمُسَمَّى فَإِنَّ الِاسْمَ مَقْصُودُهُ إظْهَارُ " الْمُسَمَّى " وَبَيَانُهُ . وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ " السُّمُوِّ " وَهُوَ الْعُلُوُّ كَمَا قَالَ النُّحَاةُ الْبَصْرِيُّونَ وَقَالَ النُّحَاةُ الْكُوفِيُّونَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ " السِّمَةِ " وَهِيَ الْعَلَامَةُ وَهَذَا صَحِيحٌ فِي " الِاشْتِقَاقِ الْأَوْسَطِ " وَهُوَ مَا يَتَّفِقُ فِيهِ حُرُوفُ اللَّفْظَيْنِ دُونَ تَرْتِيبِهِمَا فَإِنَّهُ فِي كِلَيْهِمَا ( السِّينُ وَالْمِيمُ وَالْوَاوُ وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ فَإِنَّ السِّمَةَ وَالسِّيمَا الْعَلَامَةُ . وَمِنْهُ يُقَالُ : وَسَمْته أَسِمُهُ كَقَوْلِهِ : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } وَمِنْهُ التَّوَسُّمُ كَقَوْلِهِ : { لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } لَكِنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنْ " السُّمُوِّ " هُوَ الِاشْتِقَاقُ الْخَاصُّ الَّذِي يَتَّفِقُ فِيهِ اللَّفْظَانِ فِي الْحُرُوفِ وَتَرْتِيبِهَا وَمَعْنَاهُ أَخَصُّ وَأَتَمُّ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ
فِي تَصْرِيفِهِ سَمَّيْت وَلَا يَقُولُونَ وَسَمْت وَفِي جَمْعِهِ أَسْمَاءٌ لَا أوسام وَفِي تَصْغِيرِهِ سمي لَا وسيم . وَيُقَالُ لِصَاحِبِهِ مُسَمَّى لَا يُقَالُ مَوْسُومٌ وَهَذَا الْمَعْنَى أَخَصُّ . " فَإِنَّ الْعُلُوَّ مُقَارِنٌ لِلظُّهُورِ " كُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ أَعْلَى كَانَ أَظْهَرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلُوِّ وَالظُّهُورِ يَتَضَمَّنُ الْمَعْنَى الْآخَرَ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ } " وَلَمْ يَقُلْ فَلَيْسَ أَظْهَرَ مِنْك شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الظُّهُورَ يَتَضَمَّنُ الْعُلُوَّ وَالْفَوْقِيَّةَ ؛ فَقَالَ : " فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ " . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ } أَيْ يَعْلُوا عَلَيْهِ . وَيُقَالُ ظَهَرَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا عَلَا عَلَيْهِ . وَيُقَالُ لِلْجَبَلِ الْعَظِيمِ عَلَمٌ ؛ لِأَنَّهُ لِعُلُوِّهِ وَظُهُورِهِ يُعْلَمُ وَيُعْلَمُ بِهِ غَيْرُهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ } . وَكَذَلِكَ " الرَّايَةُ الْعَالِيَةُ " الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا مَكَانُ الْأَمِيرِ وَالْجُيُوشِ يُقَالُ لَهَا عَلَمٌ وَكَذَلِكَ الْعَلَمُ فِي الثَّوْبِ لِظُهُورِهِ كَمَا يُقَالُ لِعُرْفِ الدِّيكِ وَلِلْجِبَالِ الْعَالِيَةِ أَعْرَافٌ لِأَنَّهَا لِعُلُوِّهَا تُعْرَفُ فَالِاسْمُ يَظْهَرُ بِهِ الْمُسَمَّى وَيَعْلُو ؛ فَيُقَالُ لِلْمُسَمَّى : سَمِّهِ : أَيْ أَظْهِرْهُ وَأَعْلِهِ أَيْ أَعْلِ ذِكْرَهُ بِالِاسْمِ الَّذِي يُذْكَرُ بِهِ ؛ لَكِنْ يُذْكَرُ تَارَةً بِمَا يُحْمَدُ بِهِ وَيُذْكَرُ تَارَةً بِمَا يُذَمُّ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } وَقَالَ : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } وَقَالَ : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } { سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } . وَقَالَ فِي النَّوْعِ الْمَذْمُومِ : { وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ } . فَكِلَاهُمَا ظَهَرَ ذِكْرُهُ ؛ لَكِنْ هَذَا إمَامٌ فِي الْخَيْرِ وَهَذَا إمَامٌ فِي الشَّرِّ .
وَبَعْضُ النُّحَاةِ يَقُولُ : سُمِّيَ اسْمًا لِأَنَّهُ عَلَا عَلَى الْمُسَمَّى ؛ أَوْ لِأَنَّهُ عَلَا عَلَى قَسِيمَيْهِ الْفِعْلِ وَالْحَرْفِ ؛ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاسْمِ هَذَا بَلْ لِأَنَّهُ يَعْلَى الْمُسَمَّى فَيَظْهَرُ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ سَمَّيْته أَيْ أَعْلَيْته وَأَظْهَرْته فَتَجْعَلُ الْمُعَلَّى الْمُظْهَرَ هُوَ الْمُسَمَّى وَهَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِالِاسْمِ . وَوَزْنُهُ فُعْلٌ وَفِعْلٌ وَجَمْعُهُ أَسْمَاءٌ كَقِنْوِ وَأَقْنَاءٍ وَعُضْوٍ وَأَعْضَاءٍ . وَقَدْ يُقَالُ فِيهِ سُمٌّ وَسِمٌّ بِحَذْفِ اللَّامِ . وَيُقَالُ : سَمَّى كَمَا قَالَ : وَاَللَّهُ أَسْمَاك سُمًّا مُبَارَكًا . وَمَا لَيْسَ لَهُ اسْمٌ فَإِنَّهُ لَا يُذْكَرُ وَلَا يُظْهَرُ وَلَا يَعْلُو ذِكْرُهُ ؛ بَلْ هُوَ كَالشَّيْءِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يُعْرَفُ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : الِاسْمُ دَلِيلٌ عَلَى الْمُسَمَّى وَعَلَمٌ عَلَى الْمُسَمَّى وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ " أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ " الَّذِينَ يَذْكُرُونَ أَسْمَاءَ اللَّهِ يَعْرِفُونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ وَيُظْهِرُونَ ذِكْرَهُ . " وَالْمَلَاحِدَةُ " : الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَسْمَاءَهُ وَتُعْرِضُ قُلُوبُهُمْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَذِكْرِهِ ؛ حَتَّى يَنْسَوْا ذِكْرَهُ { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ } . وَالِاسْمُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى الْمُتَصَوَّرَ فِي الْقَلْبِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ اللَّفْظِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ مِنْ الْكَلَامِ ؛ " وَالْكَلَامُ " اسْمٌ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَقَدْ
يُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ ذَكَرَ اللَّهِ بِقَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ فَقَدْ ذَكَرَهُ لَكِنْ ذَكَرَهُ بِهِمَا أَتَمُّ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِتَسْبِيحِ اسْمِهِ وَأَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ بِاسْمِهِ كَمَا أَمَرَ بِدُعَائِهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى ؛ فَيُدْعَى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَيُسَبَّحُ اسْمُهُ وَتَسْبِيحُ اسْمِهِ هُوَ تَسْبِيحٌ لَهُ ؛ إذْ الْمَقْصُودُ بِالِاسْمِ الْمُسَمَّى ؛ كَمَا أَنَّ دُعَاءَ الِاسْمِ هُوَ دُعَاءُ الْمُسَمَّى . قَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ بِذِكْرِهِ تَارَةً وَبِذِكْرِ اسْمِهِ تَارَةً ؛ كَمَا يَأْمُرُ بِتَسْبِيحِهِ تَارَةً وَتَسْبِيحِ اسْمِهِ تَارَةً ؛ فَقَالَ : { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ } وَهَذَا كَثِيرٌ . وَقَالَ : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } كَمَا قَالَ : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } . لَكِنْ هُنَا يُقَالُ : بِسْمِ اللَّهِ ؛ فَيَذْكُرُ نَفْسَ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ " أَلِف سِينٌ مِيمٌ " وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ } فَيُقَالُ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ قَوْل مَنْ جَعَلَ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى . وَقَوْلُهُ فِي الذَّبِيحَةِ { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } كَقَوْلِهِ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } وَقَوْلُهُ : { بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } فَقَوْلُهُ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } هُوَ قِرَاءَةُ بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِ السُّوَرِ .
وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ مَأْمُورٌ أَنْ يَقْرَأَ بِسْمِ اللَّهِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ كَسَائِرِ الْقُرْآنِ ؛ بَلْ هِيَ تَابِعَةٌ لِغَيْرِهَا وَهُنَا يَقُولُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَمَا كَتَبَ سُلَيْمَانُ وَكَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ ؛ فَيُنْطَقُ بِنَفْسِ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ مُسَمَّى لَا يَقُولُ بِاَللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ } فَإِنَّهُ يَقُولُ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُنَا قَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } لَمْ يَقُلْ : اقْرَأْ اسْمِ رَبِّك وَقَوْلُهُ : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ } يَقْتَضِي أَنْ يَذْكُرَهُ بِلِسَانِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ } فَقَدْ يَتَنَاوَلُ ذِكْرَ الْقَلْبِ . وَقَوْلُهُ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } هُوَ كَقَوْلِ الْآكِلِ بِاسْمِ اللَّهِ . وَالذَّابِحِ بِاسْمِ اللَّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِسْمِ اللَّهِ } " . وَأَمَّا التَّسْبِيحُ فَقَدْ قَالَ : { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } وَقَالَ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } وَقَالَ : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } . وَفِي الدُّعَاءِ : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } فَقَوْلُهُ : { أَيًّا مَا تَدْعُوا } يَقْتَضِي تَعَدُّدَ الْمَدْعُوِّ لِقَوْلِهِ { أَيًّا مَا } وَقَوْلُهُ { فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } يَقْتَضِي أَنَّ الْمَدْعُوَّ وَاحِدٌ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَقَوْلُهُ { ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ } - وَلَمْ يَقُلْ اُدْعُوا بِاسْمِ اللَّهِ أَوْ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ - يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمَدْعُوَّ هُوَ الرَّبُّ الْوَاحِدُ بِذَلِكَ الِاسْمِ .
فَقَدْ جُعِلَ الِاسْمُ تَارَةً مَدْعُوًّا وَتَارَةً مَدْعُوًّا بِهِ فِي قَوْلِهِ : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } فَهُوَ مَدْعُوٌّ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَدْعُوَّ هُوَ الْمُسَمَّى وَإِنَّمَا يُدْعَى بِاسْمِهِ . وَجُعِلَ الِاسْمُ مَدْعُوًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ هُوَ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ هُوَ الْمَدْعُوَّ الْمُنَادَى كَمَا قَالَ { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ } أَيْ اُدْعُوا هَذَا الِاسْمَ أَوْ هَذَا الِاسْمَ وَالْمُرَادُ إذَا دَعَوْته هُوَ الْمُسَمَّى ؛ أَيْ الِاسْمَيْنِ دَعَوْت وَمُرَادُك هُوَ الْمُسَمَّى : { فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } . فَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ اللَّطِيفَةَ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْضُ حِكَمِ الْقُرْآنِ وَأَسْرَارِهِ فَتَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ فَإِنَّهُ كِتَابٌ مُبَارَكٌ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ مَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ قُرْآنٌ عَجَبٌ يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ أَنْزَلَهُ اللَّهُ هُدًى وَرَحْمَةً وَشِفَاءً وَبَيَانًا وَبَصَائِرَ وَتَذْكِرَةً . فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعَزَّ جَلَالُهُ . آخِرُهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
سُئِلَ
:
عَمَّنْ زَعَمَ أَنَّ " الْإِمَامَ أَحْمَد " كَانَ مِنْ أَعْظَمِ
الْنُّفَاةِ لِلصِّفَاتِ - صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى - وَإِنَّمَا الَّذِينَ
انْتَسَبُوا إلَيْهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِي الْمَذْهَبِ ظَنُّوا أَنَّهُ كَانَ مِنْ
أَهْلِ الْإِثْبَاتِ الْمُنَافِي لِلتَّعْطِيلِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا جَرَى لَهُ
فَإِنَّهُ اتَّفَقَ لَهُ أَمْرٌ عَجِيبٌ : وَهُوَ أَنَّ نَاسًا مِنْ "
الزَّنَادِقَةِ " قَدْ عَلِمُوا زُهْدَ أَحْمَد وَوَرَعَهُ وَتَقْوَاهُ
وَأَنَّ النَّاسَ يَتْبَعُونَهُ فِيمَا يَذْهَبُ إلَيْهِ ؛ فَجَمَعُوا لَهُ
كَلَامًا فِي الْإِثْبَاتِ وَعَزَوْهُ إلَى تَفَاسِيرَ وَكُتُبِ أَحَادِيثَ
وَأَضَافُوا أَيْضًا إلَى الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى
إلَيْهِ هُوَ - شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ - وَجَعَلُوا ذَلِكَ
فِي صُنْدُوقٍ مُقْفَلٍ وَطَلَبُوا مِنْ الْإِمَامِ أَحْمَد أَنْ يَسْتَوْدِعَ
ذَلِكَ الصُّنْدُوقَ مِنْهُمْ ؛ وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ عَلَى سَفَرٍ وَنَحْوُ
ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ غَرَضُهُمْ الرُّجُوعُ إلَيْهِ لِيَأْخُذُوا تِلْكَ
الْوَدِيعَةَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِمَا فِي الصُّنْدُوقِ
فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ ؛ فَدَخَلَ
أَتْبَاعُهُ وَاَلَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ الْعِلْمَ فَوَجَدُوا ذَلِكَ
الصُّنْدُوقَ وَفَتَحُوهُ فَوَجَدُوا فِيهِ تِلْكَ " الْأَحَادِيثَ الْمَوْضُوعَةَ
" وَ " التَّفَاسِيرَ وَالنُّقُولَ " الدَّالَّةَ عَلَى
الْإِثْبَاتِ . فَقَالُوا : لَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ أَحْمَد يَعْتَقِدُ مَا
فِي هَذِهِ الْكُتُبِ لَمَا أَوْدَعَهَا هَذَا الصُّنْدُوقَ وَاحْتَرَزَ عَلَيْهَا
؛ فَقَرَءُوا تِلْكَ الْكُتُبَ وَأَشْهَرُوهَا فِي جُمْلَةِ مَا أَشْهَرُوا مِنْ
تَصَانِيفِهِ وَعُلُومِهِ
وَجَهِلُوا
مَقْصُودَ أُولَئِكَ الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ قَصَدُوا فَسَادَ هَذِهِ الْأُمَّةَ
الْإِسْلَامِيَّةَ كَمَا حَصَلَ مَقْصُودُ بُولِصَ بِإِفْسَادِ الْمِلَّةِ
النَّصْرَانِيَّةِ بِالرَّسَائِلِ الَّتِي وَضَعَهَا لَهُمْ .
فَأَجَابَ :
مَنْ قَالَ تِلْكَ الْحِكَايَةَ الْمُفْتَرَاةَ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ
وَأَنَّهُ أُودِعَ عِنْدَهُ صَنَادِيقُ فِيهَا كُتُبٌ لَمْ يَعْرِفْ مَا فِيهَا
حَتَّى مَاتَ وَأَخَذَهَا أَصْحَابُهُ فَاعْتَقَدُوا مَا فِيهَا : فَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى غَايَةِ جَهْلِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ فَإِنَّ أَحْمَد لَمْ يَأْخُذْ عَنْهُ
الْمُسْلِمُونَ كَلِمَةً وَاحِدَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَهَا هُوَ ؛
بَلْ الْأَحَادِيثُ الَّتِي يَرْوِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ
تَعَالَى : كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ الْإِمَامُ
أَحْمَد . وَقَدْ رَوَاهَا أَهْلُ الْعِلْمِ غَيْرُ الْإِمَامِ أَحْمَد ؛ فَلَا
يَحْتَاجُ النَّاسُ فِيهَا إلَى رِوَايَةِ أَحْمَد بَلْ هِيَ مَعْرُوفَةٌ
ثَابِتَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لَمْ
يُخْلَقْ أَحْمَد . وَأَحْمَد إنَّمَا اُشْتُهِرَ أَنَّهُ إمَامُ أَهْلِ
السُّنَّةِ وَالصَّابِرُ عَلَى الْمِحْنَةِ ؛ لَمَّا ظَهَرَتْ مِحَنُ "
الْجَهْمِيَّة " الَّذِينَ يَنْفُونَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ
إنَّ اللَّهَ لَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ
اللَّهِ ؛ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ
فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَعْرُجْ إلَى اللَّهِ وَأَضَلُّوا
بَعْضَ وُلَاةِ الْأَمْرِ ؛ فَامْتَحَنُوا النَّاسَ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ
فَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَجَابَهُمْ - رَغْبَةً - وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَجَابَهُمْ
رَهْبَةً - وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَفَى فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ . وَصَارَ مَنْ لَمْ
يُجِبْهُمْ قَطَعُوا رِزْقَهُ وَعَزَلُوهُ عَنْ وِلَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ أَسِيرًا
لَمْ يَفُكُّوهُ وَلَمْ يَقْبَلُوا شَهَادَتَهُ ؛ وَرُبَّمَا قَتَلُوهُ أَوْ
حَبَسُوهُ . " وَالْمِحْنَةُ " مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ كَانَتْ فِي
إمَارَةِ الْمَأْمُونِ وَالْمُعْتَصِمِ وَالْوَاثِقِ ؛
ثُمَّ رَفَعَهَا الْمُتَوَكِّلُ ؛ فَثَبَّتَ اللَّهُ الْإِمَامَ أَحْمَد فَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى تَعْطِيلِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَاظَرَهُمْ فِي الْعِلْمِ فَقَطَعَهُمْ وَعَذَّبُوهُ فَصَبَرَ عَلَى عَذَابِهِمْ فَجَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِأَمْرِهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } . فَمَنْ أُعْطِيَ الصَّبْرَ وَالْيَقِينَ : جَعَلَهُ اللَّهُ إمَامًا فِي الدِّينِ . وَمَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ " السُّنَّةِ " فَإِنَّمَا أُضِيفَ لَهُ لِكَوْنِهِ أَظْهَرَهُ وَأَبْدَاهُ لَا لِكَوْنِهِ أَنْشَأَهُ وَابْتَدَأَهُ وَإِلَّا فَالسُّنَّةُ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصْدَقُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ و