11 -كتاب
: مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى :
728هـ)
قُلْ لَا أَشْهَدُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } . وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } . وَكَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَمْ تُشَارِكْ اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقِ شَيْءٍ ؛ بَلْ كَانُوا يَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } . وَقَالَ عَنْ صَاحِبِ يس : { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } . وَقَالَ : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } فَنَفَى عَمَّا سِوَاهُ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ مُلْكٌ أَوْ قِسْطٌ مِنْ الْمُلْكِ أَوْ يَكُونَ عَوْنًا لِلَّهِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الشَّفَاعَةُ ؛ فَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّبُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ : { وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } . وَقَالَ : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } . فَهَذِهِ " الشَّفَاعَةُ " الَّتِي يَظُنُّهَا الْمُشْرِكُونَ ؛ هِيَ مُنْتَفِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا نَفَاهَا
الْقُرْآنُ . وَأَمَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَكُونُ . فَأَخْبَرَ : { أَنَّهُ يَأْتِي فَيَسْجُدُ لِرَبِّهِ وَيَحْمَدُهُ لَا يَبْدَأُ بِالشَّفَاعَةِ أَوَّلًا . فَإِذَا سَجَدَ وَحَمِدَ رَبَّهُ بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيْهِ ؛ يُقَالُ لَهُ : أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ . فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ أُمَّتِي فَيَحُدُّ لَهُ حَدًّا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ . وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ وَكَذَلِكَ فِي الثَّالِثَةِ وَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : مَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ } . فَتِلْكَ " الشَّفَاعَةُ " هِيَ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ بِإِذْنِ اللَّهِ لَيْسَتْ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ وَلَا تَكُونُ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ . وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَفَضَّلُ عَلَى أَهْلِ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ فَيَغْفِرُ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ دُعَاءِ الشَّافِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لِيُكْرِمَهُ بِذَلِكَ وَيَنَالَ بِهِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا يَسْتَسْقِي لَهُمْ وَيَدْعُو لَهُمْ وَتِلْكَ شَفَاعَةٌ مِنْهُ لَهُمْ فَكَانَ اللَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَهُ وَشَفَاعَتَهُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ " فَالظُّلْمُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " : فَالظُّلْمُ الَّذِي هُوَ شِرْكٌ لَا شَفَاعَةَ فِيهِ . وَظُلْمُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إعْطَاءِ الْمَظْلُومِ حَقَّهُ ؛ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَظْلُومِ لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَلَكِنْ قَدْ يُعْطَى الْمَظْلُومُ مِنْ الظَّالِمِ كَمَا قَدْ يُغْفَرُ لِظَالِمِ نَفْسِهِ بِالشَّفَاعَةِ . فَالظَّالِمُ الْمُطْلَقُ مَا لَهُ مِنْ شَفِيعٍ مُطَاعٍ وَأَمَّا الْمُوَحِّدُ فَلَمْ يَكُنْ ظَالِمًا مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مُوَحِّدٌ مَعَ ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ . وَهَذَا إنَّمَا نَفَعَهُ فِي الْحَقِيقَةِ إخْلَاصُهُ لِلَّهِ فَبِهِ صَارَ مِنْ أَهْل الشَّفَاعَةِ . وَمَقْصُودُ الْقُرْآنِ يَنْفِي الشَّفَاعَةَ نَفْيَ الشِّرْكِ وَهُوَ : أَنَّ أَحَدًا لَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ
وَلَا
يَدْعُو غَيْرَهُ وَلَا يَسْأَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِهِ لَا
فِي شَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى أَحَدٍ فِي
أَنْ يَرْزُقَهُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يَأْتِيهِ بِرِزْقِهِ بِأَسْبَابِ .
كَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ فِي أَنْ يَغْفِرَ
لَهُ وَيَرْحَمَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ
وَيَرْحَمُهُ بِأَسْبَابِ مِنْ شَفَاعَةٍ وَغَيْرِهَا فَالشَّفَاعَةُ الَّتِي
نَفَاهَا الْقُرْآنُ مُطْلَقًا ؛ مَا كَانَ فِيهَا شِرْكٌ وَتِلْكَ مُنْتَفِيَةٌ
مُطْلَقًا ؛ وَلِهَذَا أَثْبَتَ الشَّفَاعَةَ بِإِذْنِهِ فِي مَوَاضِعَ وَتِلْكَ
قَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ
إلَّا لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ فَهِيَ مِنْ التَّوْحِيدِ ،
وَمُسْتَحِقُّهَا أَهْلُ التَّوْحِيدِ .
وَأَمَّا " الظُّلْمُ الْمُقَيَّدُ " فَقَدْ يَخْتَصُّ بِظُلْمِ
الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَظُلْمِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا كَقَوْلِ آدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَوَّاءَ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } . وَقَوْلِ
مُوسَى : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } . وقَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ إذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ } . لَكِنَّ قَوْلَ آدَمَ وَمُوسَى إخْبَارٌ عَنْ وَاقِعٍ لَا
عُمُومَ فِيهِ وَذَلِكَ قَدْ عُرِفَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ أَنَّهُ لَيْسَ كُفْرًا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ } فَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يَعُمُّ كُلَّ مَا فِيهِ
ظُلْمُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ ؛ وَهُوَ إذَا أَشْرَكَ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ
عَلَيْهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ظُلْمَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ يَدْخُلُ فِيهِ
كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ مَعَ الْإِطْلَاقِ وَقَالَ تَعَالَى { ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } .
فَهَذَا ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ مَقْرُونٌ بِغَيْرِهِ ؛ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الشِّرْكُ
الْأَكْبَرُ . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " { عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ
لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ
بِظُلْمٍ } شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ ؛ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } } . وَاَلَّذِينَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ظَنُّوا : أَنَّ الظُّلْمَ الْمَشْرُوطَ هُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؛ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ مَا دَلَّهُمْ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْصُلُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ إلَّا لِمَنْ لَمْ يُلْبِسْ إيمَانَهُ بِهَذَا الظُّلْمِ ؛ وَمَنْ لَمْ يُلْبِسْ إيمَانَهُ بِهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ . كَمَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاصْطِفَاءِ فِي قَوْلِهِ : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } إلَى قَوْلِهِ { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } . وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يُؤَاخَذَ أَحَدُهُمْ بِظُلْمِ نَفْسِهِ إذَا لَمْ يَتُبْ كَمَا قَالَ تَعَالَى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } . وَقَدْ { سَأَلَ أَبُو بَكْرٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا ؟ فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْت تَنْصَبُ أَلَسْت تَحْزَنُ أَلَسْت تُصِيبُك اللَّأْوَاءُ ؟ فَذَلِكَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي إذَا تَابَ دَخَلَ الْجَنَّةَ قَدْ يُجْزَى بِسَيِّئَاتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُهُ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ تُفَيِّئُهَا الرِّيَاحُ تُقَوِّمُهَا تَارَةً وَتُمِيلُهَا أُخْرَى وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزِ لَا تَزَالُ ثَابِتَةً
عَلَى أَصْلِهَا حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً } . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةِ يشاكها إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } وَفِي حَدِيثِ { سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ : الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ ؛ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ؛ خُفِّفَ عَنْهُ وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا . وَقَالَ : { الْمَرَضُ حِطَّةٌ يَحُطُّ الْخَطَايَا عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ الْيَابِسَةُ وَرَقَهَا } وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ . فَمَنْ سَلِمَ مِنْ أَجْنَاسِ الظُّلْمِ الثَّلَاثَةِ ؛ كَانَ لَهُ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالِاهْتِدَاءُ التَّامُّ . وَمَنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ ظُلْمِهِ نَفْسَهُ ؛ كَانَ لَهُ الْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ مُطْلَقًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ كَمَا وَعَدَ بِذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ هَدَاهُ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي تَكُونُ عَاقِبَتُهُ فِيهِ إلَى الْجَنَّةِ وَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ نَقْصِ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنْ إيمَانِهِ بِظُلْمِهِ نَفْسَهُ . وَلَيْسَ مُرَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ } أَنَّ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ يَكُونُ لَهُ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالِاهْتِدَاءُ التَّامُّ . فَإِنَّ أَحَادِيثَهُ الْكَثِيرَةَ مَعَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ تُبَيِّنُ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مُعَرَّضُونَ لِلْخَوْفِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ الْأَمْنُ التَّامُّ وَلَا الِاهْتِدَاءُ التَّامُّ الَّذِي يَكُونُونَ بِهِ مُهْتَدِينَ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ يَحْصُلُ لَهُمْ ؛ بَلْ مَعَهُمْ أَصْلُ الِاهْتِدَاءِ إلَى
هَذَا الصِّرَاطِ وَمَعَهُمْ أَصْلُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ } إنْ أَرَادَ بِهِ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ فَمَقْصُودُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ فَهُوَ آمِنٌ مِمَّا وُعِدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ مُهْتَدٍ إلَى ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ جِنْسَ الشِّرْكِ ؛ فَيُقَالُ : ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ كَبُخْلِهِ - لِحُبِّ الْمَالِ - بِبَعْضِ الْوَاجِبِ هُوَ شِرْكٌ أَصْغَرُ ، وَحُبُّهُ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ حَتَّى يَكُونَ يُقَدِّمُ هَوَاهُ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ شِرْكٌ أَصْغَرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَهَذَا صَاحِبُهُ قَدْ فَاتَهُ مِنْ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِحَسَبِهِ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يُدْخِلُونَ الذُّنُوبَ فِي هَذَا الظُّلْمِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ .
فَصْلٌ
:
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الصَّلَاحِ " وَ " الْفَسَادِ
" : فَإِذَا أُطْلِقَ الصَّلَاحُ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْخَيْرِ وَكَذَلِكَ
الْفَسَادُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الشَّرِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اسْمِ الصَّالِحِ
وَكَذَلِكَ اسْمُ الْمُصْلِحِ وَالْمُفْسِدِ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى :
{ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إنْ تُرِيدُ
إلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ
الْمُصْلِحِينَ } { وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي
وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : {
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
} { أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } .
وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ : { وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ
} وَهَذَا مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ سَيَكُونُ بَعْدَهُمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ
سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ : إنَّهُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْمًا لَمْ يَكُونُوا
خُلِقُوا حِينَ نُزُولِهَا وَكَذَا قَالَ السدي عَنْ أَشْيَاخِهِ : الْفَسَادُ
الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي . وَعَنْ مُجَاهِدٍ : تَرْكُ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ
وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي . وَالْقَوْلَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ . وَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ : الْكُفْرُ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : النِّفَاقُ الَّذِي
صَافُوا بِهِ الْكُفَّارَ وَأَطْلَعُوهُمْ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ .
وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٍ : الْعَمَلُ بِالْمَعَاصِي . وَهَذَا
أَيْضًا عَامٌّ كَالْأَوَّلَيْنِ .
وَقَوْلُهُمْ : { إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } فُسِّرَ بِإِنْكَارِ مَا أَقَرُّوا بِهِ أَيْ : إنَّا إنَّمَا نَفْعَلُ مَا أَمَرَنَا بِهِ الرَّسُولُ . وَفُسِّرَ : بِأَنَّ الَّذِي نَفْعَلُهُ صَلَاحٌ وَنَقْصِدُ بِهِ الصَّلَاحَ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكِلَاهُمَا حَقٌّ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا وَهَذَا ، يَقُولُونَ الْأَوَّلَ لِمَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ وَيَقُولُونَ الثَّانِيَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ اطَّلَعَ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ . لَكِنَّ الثَّانِيَ يَتَنَاوَلُ الْأَوَّلَ ؛ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِهِمْ إسْرَارَ خِلَافِ مَا يُظْهِرُونَ وَهُمْ يَرَوْنَ هَذَا صَلَاحًا قَالَ مُجَاهِدٌ : أَرَادُوا أَنَّ مُصَافَاةَ الْكُفَّارِ صَلَاحٌ لَا فَسَادٌ . وَعَنْ السدي : إنَّ فِعْلَنَا هَذَا هُوَ الصَّلَاحُ وَتَصْدِيقُ مُحَمَّدٍ فَسَادٌ ، وَقِيلَ : أَرَادُوا أَنَّ هَذَا صَلَاحٌ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الدَّوْلَةَ إنْ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَمِنُوا بِمُتَابَعَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ لِلْكُفَّارِ ؛ فَقَدْ أَمِنُوهُمْ بِمُصَافَاتِهِمْ . وَلِأَجْلِ الْقَوْلَيْنِ قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } أَيْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ فَسَادٌ لَا صَلَاحٌ . وَقِيلَ : لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ نَبِيَّهُ عَلَى فَسَادِهِمْ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَتَنَاوَلُ الثَّانِيَ ؛ فَهُوَ الْمُرَادُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ . وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } وَقَالَ { قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } وَقَوْلُ يُوسُفَ { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } . وَقَدْ يُقْرَنُ أَحَدُهُمَا بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ : { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } قِيلَ : بِالْكُفْرِ وَقِيلَ : بِالظُّلْمِ ؛ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَقَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ
عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا } وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } وَقَتْلُ النَّفْسِ الْأَوَّلُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَسَادِ لَكِنَّ الْحَقَّ فِي الْقَتْلِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ وَفِي الرِّدَّةِ وَالْمُحَارَبَةِ وَالزِّنَا ؛ الْحَقُّ فِيهَا لِعُمُومِ النَّاسِ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ وَلِهَذَا لَا يُعْفَى عَنْ هَذَا كَمَا يُعْفَى عَنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّ فَسَادَهُ عَامٌّ قَالَ تَعَالَى { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ } الْآيَةَ . قِيلَ : سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ العرنيون الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ . وَقِيلَ : سَبَبُهُ نَاسٌ مُعَاهِدُونَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَحَارَبُوا . وَقِيلَ : الْمُشْرِكُونَ ؛ فَقَدْ قَرَنَ بِالْمُرْتَدِّينَ الْمُحَارِبِينَ وَنَاقِضِي الْعَهْدِ الْمُحَارِبِينَ وَبِالْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ . وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى . وَكَذَلِكَ قَرَنَ " الصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ بِالْإِيمَانِ " فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } . { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ الْإِصْلَاحِ وَأَفْضَلُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ { قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : إيمَانٌ بِاَللَّهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } . وَقَالَ : { إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } . وَقَالَ : { إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } . وَقَالَ فِي الْقَذْفِ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَقَالَ فِي السَّارِقِ : { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } . وَقَالَ : { وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } . وَلِهَذَا شَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ أَنْ يَصْلُحَ وَقَدَّرُوا ذَلِكَ بِسَنَةِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِصَبِيغِ بْنِ عَسَلٍ لَمَّا أَجَّلَهُ سَنَةً ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ أَحْمَد فِي تَوْبَةِ الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً كَمَا أَجَّلَ عُمَرُ صَبِيغَ بْنَ عَسَلٍ .
فَصْلٌ
:
فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرَ مِنْ تَنَوُّعِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ بِالْإِطْلَاقِ
وَالتَّقْيِيدِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ كُلِّ أَحَدٍ ؛ بَيِّنٌ
ظَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ ؛ لَكِنْ نَقُولُ : دَلَالَةُ لَفْظِ الْإِيمَانِ
عَلَى الْأَعْمَالِ مَجَازٌ ؛ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً ؛
أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ
الطَّرِيقِ } " مَجَازٌ . وَقَوْلُهُ : " { الْإِيمَانُ : أَنْ تُؤْمِنَ
بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } " إلَى آخِرِهِ ؛
حَقِيقَةٌ . وَهَذَا عُمْدَةُ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة والكَرَّامِيَة وَكُلُّ
مَنْ لَمْ يُدْخِلْ الْأَعْمَالَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ . وَنَحْنُ نُجِيبُ
بِجَوَابَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " : كَلَامٌ عَامٌّ فِي لَفْظِ (
الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ) . " وَالثَّانِي " : مَا يَخْتَصُّ بِهَذَا
الْمَوْضِعِ . فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَجَازًا ؛ مَا هُوَ
الْحَقِيقَةُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْمَجَازِ ؟ هَلْ الْحَقِيقَةُ هُوَ الْمُطْلَقُ
أَوْ الْمُقَيَّدُ أَوْ كِلَاهُمَا حَقِيقَةٌ حَتَّى يُعْرَفَ أَنَّ لَفْظَ
الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ عَلَى مَاذَا يُحْمَلُ ؟ . فَيُقَالُ أَوَّلًا : تَقْسِيمُ
الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا إلَى " حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ
" وَتَقْسِيمُ دَلَالَتِهَا أَوْ الْمَعَانِي الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا إنْ
اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي الْمَدْلُولِ أَوْ فِي
الدَّلَالَةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ قَدْ يَقَعُ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ
. وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ
أَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَذَا التَّقْسِيمُ هُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ فِي الْعِلْمِ كَمَالِكِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ بَلْ وَلَا تَكَلَّمَ بِهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَنَحْوِهِمْ . [ وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِلَفْظِ " الْمَجَازِ " أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِهِ . وَلَكِنْ لَمْ يَعْنِ بِالْمَجَازِ مَا هُوَ قَسِيمُ الْحَقِيقَةِ ] (*) . وَإِنَّمَا عَنَى بِمَجَازِ الْآيَةِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْآيَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ - كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَأَمْثَالِهِ - إنَّمَا تُعْرَفُ الْحَقِيقَةُ مِنْ الْمَجَازِ بِطُرُقِ مِنْهَا : نَصُّ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولُوا : هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ ، فَقَدْ تَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ ، فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا هَذَا وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا وَإِنَّمَا هَذَا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ السَّلَفِ . وَهَذَا الشَّافِعِيُّ هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " لَمْ يُقَسِّمْ هَذَا التَّقْسِيمَ " وَلَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِ " الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ " . وَكَذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ فِي " الْجَامِعِ الْكَبِيرِ " وَغَيْرِهِ ؛ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُوجَدْ
لَفْظُ الْمَجَازِ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا فِي كَلَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة فِي قَوْلِهِ : ( إنَّا ، وَنَحْنُ ) وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ : هَذَا مِنْ مَجَازِ اللُّغَةِ يَقُولُ الرَّجُلُ : إنَّا سَنُعْطِيك . إنَّا سَنَفْعَلُ ؛ فَذَكَرَ أَنَّ هَذَا مَجَازُ اللُّغَةِ . وَبِهَذَا احْتَجَّ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ : إنَّ فِي " الْقُرْآنِ " مَجَازًا كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ . وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ كَأَبِي الْحَسَنِ الخرزي . وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ . وَأَبِي الْفَضْلِ التَّمِيمِيِّ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَكَذَلِكَ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ مُحَمَّدُ بْنُ خويز منداد وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنَعَ مِنْهُ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ وَمُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ البلوطي وَصَنَّفَ فِيهِ مُصَنَّفًا . وَحَكَى بَعْضُ النَّاسِ عَنْ أَحْمَد فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ . وَأَمَّا سَائِرُ الْأَئِمَّةِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَد : إنَّ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا لَا مَالِكٌ وَلَا الشَّافِعِيُّ وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّ تَقْسِيمَ الْأَلْفَاظِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ . إنَّمَا اُشْتُهِرَ فِي الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَظَهَرَتْ أَوَائِلُهُ فِي الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَمَا عَلِمْته مَوْجُودًا فِي الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَوَاخِرِهَا وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ نَطَقُوا بِهَذَا التَّقْسِيمِ . قَالُوا : إنَّ مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَد : مِنْ مَجَازِ اللُّغَةِ . أَيْ : مِمَّا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَقُولَ الْوَاحِدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ : نَحْنُ فَعَلْنَا كَذَا وَنَفْعَلُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . قَالُوا : وَلَمْ يُرِدْ أَحْمَد بِذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ . وَقَدْ أَنْكَرَ طَائِفَةٌ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ لَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِ كَأَبِي
إسْحَاقَ الإسفراييني . وَقَالَ الْمُنَازِعُونَ لَهُ : النِّزَاعُ مَعَهُ لَفْظِيٌّ فَإِنَّهُ إذَا سَلَّمَ أَنَّ فِي اللُّغَةِ لَفْظًا مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ إلَّا بِقَرِينَةٍ ؛ فَهَذَا هُوَ الْمَجَازُ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ مَجَازًا . فَيَقُولُ مَنْ يَنْصُرُهُ : إنَّ الَّذِينَ قَسَّمُوا اللَّفْظَ : حَقِيقَةً وَمَجَازًا قَالُوا : " الْحَقِيقَةُ " هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ . " وَالْمَجَازُ " هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ كَلَفْظِ الْأَسَدِ وَالْحِمَارِ إذَا أُرِيدَ بِهِمَا الْبَهِيمَةُ أَوْ أُرِيدَ بِهِمَا الشُّجَاعُ وَالْبَلِيدُ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَالتَّحْدِيدُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ قَدْ وُضِعَ أَوَّلًا لِمَعْنَى ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعِهِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ التَّقْسِيمِ أَنَّ كُلَّ مَجَازٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَقِيقَةٍ وَلَيْسَ لِكُلِّ حَقِيقَةٍ مَجَازٌ ؟ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ وَقَالَ : اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ لَا حَقِيقَةٌ وَلَا مَجَازٌ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ فَهُوَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ . وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ عُلِمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَرَبِيَّةَ وُضِعَتْ أَوَّلًا لِمَعَانٍ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اُسْتُعْمِلَتْ فِيهَا ؛ فَيَكُونُ لَهَا وَضْعٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ . وَهَذَا إنَّمَا صَحَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ اللُّغَاتِ اصْطِلَاحِيَّةً فَيَدَّعِي أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْعُقَلَاءِ اجْتَمَعُوا وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَمُّوا هَذَا بِكَذَا وَهَذَا بِكَذَا وَيَجْعَلَ هَذَا عَامًّا فِي جَمِيعِ اللُّغَاتِ . وَهَذَا الْقَوْلُ لَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَهُ قَبْلَ أَبِي هَاشِمِ بْنِ الجبائي ؛ فَإِنَّهُ وَأَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ كِلَاهُمَا قَرَأَ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الجبائي لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّ رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَخَالَفَهُمْ فِي الْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ وَفِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَفِي
صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَّنَ مِنْ تَنَاقُضِهِمْ وَفَسَادِ قَوْلِهِمْ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُ . فَتَنَازَعَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ فِي مَبْدَأِ اللُّغَاتِ ؛ فَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ : هِيَ اصْطِلَاحِيَّةٌ وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ : هِيَ تَوْقِيفِيَّةٌ . ثُمَّ خَاضَ النَّاسُ بَعْدَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ فَقَالَ آخَرُونَ : بَعْضُهَا تَوْقِيفِيٌّ وَبَعْضُهَا اصْطِلَاحِيٌّ وَقَالَ فَرِيقٌ رَابِعٌ بِالْوَقْفِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَنْقُلَ عَنْ الْعَرَبِ بَلْ وَلَا عَنْ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ فَوَضَعُوا جَمِيعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي اللُّغَةِ ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهَا بَعْدَ الْوَضْعِ وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ الْمَنْقُولُ بِالتَّوَاتُرِ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِيمَا عَنَوْهُ بِهَا مِنْ الْمَعَانِي فَإِنْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ يَعْلَمُ وَضْعًا يَتَقَدَّمُ ذَلِكَ فَهُوَ مُبْطِلٌ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ . وَلَا يُقَالُ : نَحْنُ نَعْلَمُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ ؛ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ اصْطِلَاحٌ مُتَقَدِّمٌ لَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِعْمَالُ . قِيلَ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ نَحْنُ نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يُلْهِمُ الْحَيَوَانَ مِنْ الْأَصْوَاتِ مَا بِهِ يَعْرِفُ بَعْضُهَا مُرَادَ بَعْضٍ وَقَدْ سُمِّيَ ذَلِكَ مَنْطِقًا وَقَوْلًا فِي قَوْلِ سُلَيْمَانَ : { عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ } . وَفِي قَوْلِهِ : { قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ } وَفِي قَوْلِهِ : { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } . وَكَذَلِكَ الْآدَمِيُّونَ ؛ فَالْمَوْلُودُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ التَّمْيِيزُ سَمِعَ أَبَوَيْهِ أَوْ مَنْ يُرَبِّيهِ يَنْطِقُ بِاللَّفْظِ وَيُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى فَصَارَ يَفْهَمُ أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى أَيْ : أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثُمَّ هَذَا يَسْمَعُ لَفْظًا بَعْدَ لَفْظٍ حَتَّى يَعْرِفَ لُغَةَ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَشَأَ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ اصْطَلَحُوا مَعَهُ عَلَى وَضْعٍ مُتَقَدِّمٍ ؛ بَلْ وَلَا أَوْقَفُوهُ عَلَى مَعَانِي الْأَسْمَاءِ
وَإِنْ كَانَ أَحْيَانًا قَدْ يَسْأَلُ عَنْ مُسَمَّى بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَيُوقَفُ عَلَيْهَا كَمَا يُتَرْجَمُ لِلرَّجُلِ اللُّغَةُ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا فَيُوقَفُ عَلَى مَعَانِي أَلْفَاظِهَا وَإِنْ بَاشَرَ أَهْلُهَا مُدَّةَ عِلْمِ ذَلِكَ بِدُونِ تَوْقِيفٍ مِنْ أَحَدِهِمْ . نَعَمْ قَدْ يَضَعُ النَّاسُ الِاسْمَ لِمَا يَحْدُثُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْرِفُهُ فَيُسَمِّيهِ كَمَا يُولَدُ لِأَحَدِهِمْ وَلَدٌ فَيُسَمِّيهِ اسْمًا إمَّا مَنْقُولًا وَإِمَّا مُرْتَجَلًا وَقَدْ يَكُونُ الْمُسَمَّى وَاحِدًا لَمْ يَصْطَلِحْ مَعَ غَيْرِهِ وَقَدْ يَسْتَوُونَ فِيمَا يُسَمُّونَهُ . وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْدُثُ لِلرَّجُلِ آلَةٌ مِنْ صِنَاعَةٍ أَوْ يُصَنِّفُ كِتَابًا أَوْ يَبْنِي مَدِينَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيُسَمِّي ذَلِكَ بِاسْمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَجْنَاسِ الْمَعْرُوفَةِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ اسْمٌ فِي اللُّغَةِ الْعَامَّةِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : { الرَّحْمَنِ } { عَلَّمَ الْقُرْآنَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ } { عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } . و { قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } . وَقَالَ : { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } . فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُلْهِمُ الْإِنْسَانَ الْمَنْطِقَ كَمَا يُلْهِمُ غَيْرَهُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا كَانَ قَدْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَعَرَضَ الْمُسَمَّيَاتِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْ آدَمَ جَمِيعَ اللُّغَاتِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ تِلْكَ اللُّغَاتِ اتَّصَلَتْ إلَى أَوْلَادِهِ فَلَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا بِهَا فَإِنَّ دَعْوَى هَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا يُنْقَلُ عَنْهُ بَنُوهُ وَقَدْ أَغْرَقَ اللَّهُ عَامَ الطُّوفَانِ جَمِيعَ ذُرِّيَّتِهِ إلَّا مَنْ فِي السَّفِينَةِ وَأَهْلُ السَّفِينَةِ انْقَطَعَتْ ذُرِّيَّتُهُمْ إلَّا أَوْلَادَ نُوحٍ وَلَمْ يَكُونُوا يَتَكَلَّمُونَ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ الْأُمَمُ بَعْدَهُمْ . فَإِنَّ " اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ " كَالْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْأَنْوَاعِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ ، وَالْعَرَبُ أَنْفُسُهُمْ
لِكُلِّ قَوْمٍ لُغَاتٌ لَا يَفْهَمُهَا غَيْرُهُمْ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُنْقَلَ هَذَا جَمِيعُهُ عَنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا فِي السَّفِينَةِ وَأُولَئِكَ جَمِيعُهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَسْلٌ وَإِنَّمَا النَّسْلُ لِنُوحِ وَجَمِيعُ النَّاسِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ : سَامُ وحام ويافث كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } . فَلَمْ يَجْعَلْ بَاقِيًا إلَّا ذُرِّيَّتَهُ وَكَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّ أَوْلَادَهُ ثَلَاثَةٌ " . رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْطِقُوا بِهَذَا كُلِّهِ وَيَمْتَنِعُ نَقْلُ ذَلِكَ عَنْهُمْ ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ هَذِهِ اللُّغَةَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ ، وَإِذَا كَانَ النَّاقِلُ ثَلَاثَةً ؛ فَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَوْلَادَهُمْ ، وَأَوْلَادُهُمْ عَلِمُوا أَوْلَادَهُمْ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاتَّصَلَتْ . وَنَحْنُ نَجِدُ بَنِي الْأَبِ الْوَاحِدِ يَتَكَلَّمُ كُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمْ بِلُغَةِ لَا تَعْرِفُهَا الْأُخْرَى وَالْأَبُ وَاحِدٌ ، لَا يُقَالُ : إنَّهُ عَلَّمَ أَحَدَ ابْنَيْهِ لُغَةً وَابْنَهُ الْآخَرَ لُغَةً ؛ فَإِنَّ الْأَبَ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ إلَّا ابْنَانِ وَاللُّغَاتُ فِي أَوْلَادِهِ أَضْعَافُ ذَلِكَ . وَاَلَّذِي أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ عَادَةَ بَنِي آدَمَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُعَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ لُغَتَهُمْ الَّتِي يُخَاطِبُونَهُمْ بِهَا أَوْ يُخَاطِبُهُمْ بِهَا غَيْرُهُمْ فَأَمَّا لُغَاتٌ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهَا فَلَا يُعَلِّمُونَهَا أَوْلَادَهُمْ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُوجَدُ بَنُو آدَمَ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْفَاظِ مَا سَمِعُوهَا قَطُّ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَالْعُلَمَاءُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ لَهُمْ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّمَهَا اللَّهُ آدَمَ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ عَنْ السَّلَفِ . ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّهُ إنَّمَا عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ مَنْ يَعْقِلُ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ } . قَالُوا : وَهَذَا الضَّمِيرُ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ يَعْقِلُ ، وَمَا لَا يَعْقِلُ يُقَالُ
فِيهَا : عَرَضَهَا . وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مَنْ يَعْقِلُ إلَّا الْمَلَائِكَةَ ؛ وَلَا كَانَ إبْلِيسُ قَدْ انْفَصَلَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا كَانَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ : عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ وَهَذَا يُنَاسِبُ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ آدَمَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ صُوَرَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ؛ فَرَآهُمْ فَرَأَى فِيهِمْ مَنْ يَبِصُ . فَقَالَ : يَا رَبِّ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : ابْنُك دَاوُد } " . فَيَكُونُ قَدْ أَرَاهُ صُوَرَ ذُرِّيَّتِهِ أَوْ بَعْضِهِمْ وَأَسْمَاءَهُمْ وَهَذِهِ أَسْمَاءُ أَعْلَامٍ لَا أَجْنَاسٍ . ( وَالثَّانِي ) : أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : عَلَّمَهُ حَتَّى الفسوة والفسية وَالْقَصْعَةِ والقصيعة ، أَرَادَ أَسْمَاءَ الْأَعْرَاضِ وَالْأَعْيَانِ مُكَبَّرَهَا وَمُصَغَّرَهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ : " { إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ : يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَعَلَّمَك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ } " . وَأَيْضًا قَوْلُهُ : " الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " لَفْظٌ عَامٌّ مُؤَكَّدٌ ؛ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالدَّعْوَى . وَقَوْلُهُ : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ } لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ فَغَلَبَ مَنْ يَعْقِلُ . كَمَا قَالَ : { فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } . قَالَ عِكْرِمَةُ : عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ دُونَ أَنْوَاعِهَا كَقَوْلِك : إنْسَانٌ وَجِنٌّ وَمَلَكٌ وَطَائِرٌ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ السَّائِبِ وَابْنُ قُتَيْبَةَ : عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالْهَوَامِّ وَالطَّيْرِ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللُّغَاتِ لَيْسَتْ مُتَلَقَّاةً عَنْ آدَمَ ؛ أَنَّ أَكْثَرَ اللُّغَاتِ نَاقِصَةٌ عَنْ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَسْمَاءٌ خَاصَّةٌ لِلْأَوْلَادِ وَالْبُيُوتِ وَالْأَصْوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُضَافُ إلَى الْحَيَوَانِ ؛ بَلْ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ فِي ذَلِكَ الْإِضَافَةَ . فَلَوْ كَانَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَهَا الْجَمِيعَ لَعَلَّمَهَا مُتَنَاسِبَةً ، وَأَيْضًا فَكُلُّ أُمَّةٍ لَيْسَ لَهَا كِتَابٌ لَيْسَ فِي لُغَتِهَا أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِي لُغَتِهَا اسْمُ الْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَالسَّنَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عُرِفَ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ ؛ فَوَضَعَتْ لَهُ الْأُمَمُ الْأَسْمَاءَ ؛ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ يَتْبَعُ التَّصَوُّرَ ، وَأَمَّا الْأُسْبُوعُ فَلَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِالسَّمْعِ ، لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ إلَّا بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ شُرِعَ لَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْأُسْبُوعِ يَوْمًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهِ وَيَحْفَظُونَ بِهِ الْأُسْبُوعَ الْأَوَّلَ الَّذِي بَدَأَ اللَّهُ فِيهِ خَلْقَ هَذَا الْعَالَمِ ؛ فَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ والعِبْرانِيِّينَ ، وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُمْ ، أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ ؛ بِخِلَافِ التُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي لُغَتِهِمْ أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ فَلَمْ يُعَبِّرُوا عَنْهُ . فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ النَّوْعَ الْإِنْسَانِيَّ أَنْ يُعَبِّرَ عَمَّا يُرِيدُهُ وَيَتَصَوَّرُهُ بِلَفْظِهِ وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَبُوهُمْ آدَمَ وَهُمْ عَلِمُوا كَمَا عَلِمَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ اللُّغَاتُ . وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى بالعبرانية وَإِلَى مُحَمَّدٍ بِالْعَرَبِيَّةِ ؛ وَالْجَمِيعُ كَلَامُ اللَّهِ ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ بِذَلِكَ مَا أَرَادَ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ اللُّغَةُ لَيْسَتْ الْأُخْرَى ، مَعَ أَنَّ الْعِبْرَانِيَّةَ مِنْ أَقْرَبِ اللُّغَاتِ إلَى الْعَرَبِيَّةِ حَتَّى إنَّهَا أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ لُغَةِ بَعْضِ الْعَجَمِ إلَى بَعْضٍ . فَبِالْجُمْلَةِ نَحْنُ لَيْسَ غَرَضُنَا إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ ؛ بَلْ يَكْفِينَا أَنْ يُقَالَ :
هَذَا
غَيْرُ مَعْلُومٍ وُجُودُهُ بَلْ الْإِلْهَامُ كَافٍ فِي النُّطْقِ بِاللُّغَاتِ
مِنْ غَيْرِ مُوَاضَعَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ ؛ وَإِذَا سُمِّيَ هَذَا تَوْقِيفًا ؛
فَلْيُسَمَّ تَوْقِيفًا وَحِينَئِذٍ فَمَنْ ادَّعَى وَضْعًا مُتَقَدِّمًا عَلَى
اسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ ؛ فَقَدْ قَالَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ .
وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ بِلَا رَيْبٍ هُوَ الِاسْتِعْمَالُ .
ثُمَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : تَتَمَيَّزُ الْحَقِيقَةُ مِنْ الْمَجَازِ
بِالِاكْتِفَاءِ بِاللَّفْظِ فَإِذَا دَلَّ اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ فَهُوَ
حَقِيقَةٌ ، وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ إلَّا مَعَ الْقَرِينَةِ ؛ فَهُوَ مَجَازٌ
وَهَذَا أَمْرٌ مُتَعَلِّقٌ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى لَا بِوَضْعِ
مُتَقَدِّمٍ . ثُمَّ يُقَالُ ( ثَانِيًا ) : هَذَا التَّقْسِيمُ لَا حَقِيقَةَ
لَهُ ؛ وَلَيْسَ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا حَدٌّ صَحِيحٌ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ
هَذَا وَهَذَا فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بَاطِلٌ وَهُوَ تَقْسِيمُ مَنْ
لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَقُولُ بَلْ يَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ ؛ فَهُمْ
مُبْتَدِعَةٌ فِي الشَّرْعِ مُخَالِفُونَ لِلْعَقْلِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا :
" الْحَقِيقَةُ " : اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ . وَ
" الْمَجَازُ " : هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ ؛
فَاحْتَاجُوا إلَى إثْبَاتِ الْوَضْعِ السَّابِقِ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ وَهَذَا
يَتَعَذَّرُ . ثُمَّ يُقَسِّمُونَ الْحَقِيقَةَ إلَى لُغَوِيَّةٍ وَعُرْفِيَّةٍ
وَأَكْثَرُهُمْ يُقَسِّمُهَا إلَى ثَلَاثٍ : لُغَوِيَّةٍ وَشَرْعِيَّةٍ
وَعُرْفِيَّةٍ . " فَالْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ " : هِيَ مَا صَارَ
اللَّفْظُ دَالًّا فِيهَا عَلَى الْمَعْنَى بِالْعُرْفِ لَا بِاللُّغَةِ وَذَلِكَ
الْمَعْنَى يَكُونُ تَارَةً أَعَمَّ مِنْ اللُّغَوِيِّ وَتَارَةً أَخَصَّ
وَتَارَةً يَكُونُ مُبَايِنًا لَهُ ، لَكِنْ بَيْنَهُمَا عَلَاقَةٌ اُسْتُعْمِلَ
لِأَجْلِهَا . فَالْأَوَّلُ : مِثْلُ لَفْظِ " الرَّقَبَةِ " وَ "
الرَّأْسِ " وَنَحْوِهِمَا كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ
ثُمَّ صَارَ يُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ . وَالثَّانِي مِثْلُ لَفْظِ
" الدَّابَّةِ " وَنَحْوِهَا كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا دَبَّ
ثُمَّ صَارَ
يُسْتَعْمَلُ فِي عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَفِي عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْفَرَسِ وَفِي عُرْفِ بَعْضِهِمْ فِي الْحِمَارِ . وَالثَّالِثُ مِثْلُ لَفْظِ " الْغَائِطِ " وَ " الظَّعِينَةِ " وَ " الرَّاوِيَةِ " وَ " الْمَزَادَةِ " فَإِنَّ الْغَائِطَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ مِنْ الْأَرْضِ ، فَلَمَّا كَانُوا يَنْتَابُونَهُ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ سَمَّوْا مَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِاسْمِ مَحَلِّهِ ، وَالظَّعِينَةُ اسْمُ الدَّابَّةِ ثُمَّ سَمَّوْا الْمَرْأَةَ الَّتِي تَرْكَبُهَا بِاسْمِهَا وَنَظَائِرَ ذَلِكَ . وَ " الْمَقْصُودُ " أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْعُرْفِيَّةَ لَمْ تَصِرْ حَقِيقَةً لِجَمَاعَةِ تَوَاطَئُوا عَلَى نَقْلِهَا وَلَكِنْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ وَأَرَادَ بِهَا ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعُرْفِيَّ ثُمَّ شَاعَ الِاسْتِعْمَالُ فَصَارَتْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ ، وَلِهَذَا زَادَ مَنْ زَادَ مِنْهُمْ فِي حَدِّ الْحَقِيقَةِ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا التَّخَاطُبُ ثُمَّ هُمْ يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ : إنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ الِاسْتِعْمَالُ عَلَى بَعْضِ الْأَلْفَاظِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى الْعُرْفِيُّ أَشْهَرَ فِيهِ وَلَا يَدُلُّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا عَلَيْهِ فَتَصِيرُ الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ نَاسِخَةً لِلْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ . وَاللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْحَادِثِ لِلْعُرْفِيِّ وَهُوَ حَقِيقَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِمَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ ذَلِكَ تَقَدُّمُ وَضْعٍ ، فَعُلِمَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْحَقِيقَةِ بِهَذَا لَا يَصِحُّ . وَإِنْ قَالُوا : نَعْنِي بِمَا وُضِعَ لَهُ مَا اُسْتُعْمِلَتْ فِيهِ أَوَّلًا ؛ فَيُقَالُ : مِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي كَانَتْ الْعَرَبُ تَتَخَاطَبُ بِهَا عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَقَبْلَهُ لَمْ تُسْتَعْمَلْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى شَيْءٍ آخَرَ . وَإِذَا لَمْ يَعْلَمُوا هَذَا النَّفْيَ ؛ فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا خِلَافُ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا يُقْطَعَ بِشَيْءِ مِنْ الْأَلْفَاظِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ .
ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذَا ، نَجِدُ أَحَدَهُمْ يَأْتِي إلَى أَلْفَاظٍ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ إلَّا مُقَيَّدَةً فَيَنْطِقُ بِهَا مُجَرَّدَةً عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ ثُمَّ يَدَّعِي أَنَّ ذَلِكَ هُوَ حَقِيقَتُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا نُطِقَ بِهَا مُجَرَّدَةً وَلَا وُضِعَتْ مُجَرَّدَةً ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ حَقِيقَةُ الْعَيْنِ هُوَ الْعُضْوُ الْمُبْصِرُ ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ عَيْنُ الشَّمْسِ وَالْعَيْنُ النَّابِعَةُ وَعَيْنُ الذَّهَبِ ؛ لِلْمُشَابَهَةِ . لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ لَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ؛ فَيُمَثِّلُ بِغَيْرِهِ مِثْلَ لَفْظِ الرَّأْسِ . يَقُولُونَ : هُوَ حَقِيقَةٌ فِي رَأْسِ الْإِنْسَانِ . ثُمَّ قَالُوا : رَأْسُ الدَّرْبِ لِأَوَّلِهِ وَرَأْسُ الْعَيْنِ لِمَنْبَعِهَا وَرَأْسُ الْقَوْمِ لِسَيِّدِهِمْ وَرَأْسُ الْأَمْرِ لِأَوَّلِهِ وَرَأْسُ الشَّهْرِ وَرَأْسُ الْحَوْلِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ . وَهُمْ لَا يَجِدُونَ قَطُّ أَنَّ لَفْظَ الرَّأْسِ اُسْتُعْمِلَ مُجَرَّدًا ؛ بَلْ يَجِدُونَ أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ بِالْقُيُودِ فِي رَأْسِ الْإِنْسَانِ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } وَنَحْوِهِ وَهَذَا الْقَيْدُ يَمْنَعُ أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ تِلْكَ الْمَعَانِي . فَإِذَا قِيلَ : رَأْسُ الْعَيْنِ وَرَأْسُ الدَّرْبِ وَرَأْسُ النَّاسِ وَرَأْسُ الْأَمْرِ ؛ فَهَذَا الْمُقَيِّدُ غَيْرُ ذَاكَ الْمُقَيِّدِ الدَّالِّ ، وَمَجْمُوعُ اللَّفْظِ الدَّالِّ هُنَا غَيْرُ مَجْمُوعِ اللَّفْظِ الدَّالِّ هُنَاكَ ؛ لَكِنْ اشْتَرَكَا فِي بَعْضِ اللَّفْظِ كَاشْتِرَاكِ كُلِّ الْأَسْمَاءِ الْمُعَرَّفَةِ فِي لَامِ التَّعْرِيفِ ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ النَّاطِقَ بِاللُّغَةِ نَطَقَ بِلَفْظِ رَأْسِ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُتَصَوَّرُ رَأْسُهُ قَبْلَ غَيْرِهِ ، وَالتَّعْبِيرُ أَوَّلًا هُوَ عَمَّا يُتَصَوَّرُ أَوَّلًا ، فَالنُّطْقُ بِهَذَا الْمُضَافِ أَوَّلًا لَا يَمْنَعُ أَنْ يُنْطَقَ بِهِ مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ ثَانِيًا ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ الْمَجَازِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُضَافَاتِ فَإِذَا قِيلَ : ابْنُ آدَمَ أَوَّلًا ؛ لَمْ يَكُنْ قَوْلُنَا : ابْنُ
الْفَرَسِ وَابْنُ الْحِمَارِ مَجَازًا وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : بِنْتُ الْإِنْسَانِ ؛ لَمْ يَكُنْ قَوْلُنَا : بِنْتُ الْفَرَسِ مَجَازًا . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : رَأْسُ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ قَوْلُنَا : رَأْسُ الْفَرَسِ مَجَازًا وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُضَافَاتِ إذَا قِيلَ : يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ . فَإِذَا قِيلَ : هُوَ حَقِيقَةٌ فِيمَا أُضِيفَ إلَى الْحَيَوَانِ ؛ قِيلَ : لَيْسَ جَعْلُ هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةَ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يُجْعَلَ مَا أُضِيفَ إلَى الْإِنْسَانِ رَأْسٌ ثُمَّ قَدْ يُضَافُ إلَى مَا لَا يَتَصَوَّرُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الصِّغَارِ الَّتِي لَمْ تَخْطُرْ بِبَالِ عَامَّةِ النَّاطِقِينَ بِاللُّغَةِ . فَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي هَذَا فَلِمَاذَا لَا يَكُونُ حَقِيقَةً فِي رَأْسِ الْجَبَلِ وَالطَّرِيقِ وَالْعَيْنِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُضَافُ إلَى الْإِنْسَانِ مِنْ أَعْضَائِهِ وَأَوْلَادِهِ وَمَسَاكِنِهِ ؛ يُضَافُ مِثْلُهُ إلَى غَيْرِهِ وَيُضَافُ ذَلِكَ إلَى الْجَمَادَاتِ ؛ فَيُقَالُ : رَأْسُ الْجَبَلِ وَرَأْسُ الْعَيْنِ وَخَطْمُ الْجَبَلِ أَيْ أَنْفُهُ وَفَمُ الْوَادِي وَبَطْنُ الْوَادِي وَظَهْرُ الْجَبَلِ وَبَطْنُ الْأَرْضِ وَظَهْرُهَا ، وَيُسْتَعْمَلُ مَعَ الْأَلِفِ وَهُوَ لَفْظُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَالْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ أَنَّ الظَّاهِرَ لِمَا ظَهَرَ فَتَبَيَّنَ وَالْبَاطِنَ لِمَا بَطَنَ فَخَفِيَ . وَسُمِّيَ ظَهْرُ الْإِنْسَانِ ظَهْرًا لِظُهُورِهِ وَبَطْنُ الْإِنْسَانِ بَطْنًا لِبُطُونِهِ . فَإِذَا قِيلَ : إنَّ هَذَا حَقِيقَةٌ وَذَاكَ مَجَازٌ ؛ لَمْ يَكُنْ هَذَا أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ . وَ " أَيْضًا " مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ مُفْرَدًا كَلَفْظِ " الْإِنْسَانِ " وَنَحْوِهِ ثُمَّ قَدْ يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا بِالْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِمْ : إنْسَانُ الْعَيْنِ وَإِبْرَةُ الذِّرَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ ؛ فَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمَجَازِ ؛ وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّ الْمَجَازَ : هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا وَهُنَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ اللَّفْظُ ؛ بَلْ رُكِّبَ مَعَ لَفْظٍ آخَرَ فَصَارَ وَضْعًا آخَرَ بِالْإِضَافَةِ .
فَلَوْ
اُسْتُعْمِلَ مُضَافًا فِي مَعْنًى ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ بِتِلْكَ الْإِضَافَةِ فِي
غَيْرِهِ كَانَ مَجَازًا بَلْ إذَا كَانَ بَعْلَبَكُّ وَحَضْرَمَوْتُ
وَنَحْوُهُمَا مِمَّا يُرَكَّبُ تَرْكِيبَ مَزْجٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْأَصْلُ
فِيهِ الْإِضَافَةَ ؛ لَا يُقَالُ : إنَّهُ مَجَازٌ . فَمَا لَمْ يُنْطَقْ بِهِ
إلَّا مُضَافًا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَجَازًا .
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ؛ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ
مَا يُفِيدُ الْمَعْنَى مُجَرَّدًا عَنْ الْقَرَائِنِ ، وَالْمَجَازَ مَا لَا
يُفِيدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ ، أَوْ قَالَ : "
الْحَقِيقَةُ " : مَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ . وَ "
الْمَجَازُ " : مَا لَا يُفِيدُ إلَّا مَعَ التَّقْيِيدِ . أَوْ قَالَ :
" الْحَقِيقَةُ " هِيَ الْمَعْنَى الَّذِي يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ
عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . " وَالْمَجَازُ " مَا لَا يَسْبِقُ إلَى
الذِّهْنِ . أَوْ قَالَ : " الْمَجَازُ " مَا صَحَّ نَفْيُهُ وَ "
الْحَقِيقَةُ " مَا لَا يَصِحُّ نَفْيُهَا ، فَإِنَّهُ يُقَالُ : مَا تَعْنِي
بِالتَّجْرِيدِ عَنْ الْقَرَائِنِ وَالِاقْتِرَانِ بِالْقَرَائِنِ ؟ إنْ عُنِيَ
بِذَلِكَ الْقَرَائِنُ اللَّفْظِيَّةُ مِثْلُ كَوْنِ الِاسْمِ يُسْتَعْمَلُ
مَقْرُونًا بِالْإِضَافَةِ أَوْ لَامِ التَّعْرِيفِ وَيُقَيَّدُ بِكَوْنِهِ
فَاعِلًا وَمَفْعُولًا وَمُبْتَدَأً وَخَبَرًا فَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي الْكَلَامِ
الْمُؤَلَّفِ اسْمٌ إلَّا مُقَيَّدًا . وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ إنْ عُنِيَ
بِتَقْيِيدِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَقَدْ يُقَيَّدُ
بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَظَرْفَيْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْمَفْعُولِ لَهُ
وَمَعَهُ وَالْحَالِ فَالْفِعْلُ لَا يُسْتَعْمَلُ قَطُّ إلَّا مُقَيَّدًا
وَأَمَّا الْحَرْفُ فَأَبْلَغُ فَإِنَّ الْحَرْفَ أُتِيَ بِهِ لِمَعْنَى فِي
غَيْرِهِ . فَفِي الْجُمْلَةِ لَا يُوجَدُ قَطُّ فِي كَلَامٍ تَامٍّ اسْمٌ وَلَا
فِعْلٌ وَلَا حَرْفٌ إلَّا مُقَيَّدًا بِقُيُودِ تُزِيلُ عَنْهُ الْإِطْلَاقَ .
فَإِنْ كَانَتْ الْقَرِينَةُ مِمَّا يَمْنَعُ الْإِطْلَاقَ عَنْ كُلِّ
قَيْدٍ فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ لَفْظٌ مُطْلَقٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً وَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ " الْكَلَامِ " وَ " الْكَلِمَةِ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بَلْ وَفِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْمُقَيَّدِ . وَهُوَ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ اسْمِيَّةً كَانَتْ أَوْ فِعْلِيَّةً أَوْ نِدَائِيَّةً إنْ قِيلَ إنَّهَا قِسْمٌ ثَالِثٌ . فَأَمَّا مُجَرَّدُ الِاسْمِ أَوْ الْفِعْلِ أَوْ الْحَرْفِ الَّذِي جَاءَ لِمَعْنَى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ فَهَذَا لَا يُسَمَّى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَطُّ كَلِمَةً وَإِنَّمَا تَسْمِيَةُ هَذَا كَلِمَةً اصْطِلَاحٌ نَحْوِيٌّ كَمَا سَمَّوْا بَعْضَ الْأَلْفَاظِ فِعْلًا وَقَسَّمُوهُ إلَى فِعْلٍ مَاضٍ وَمُضَارِعٍ وَأَمْرٍ ، وَالْعَرَبُ لَمْ تُسَمِّ قَطُّ اللَّفْظَ فِعْلًا ؛ بَلْ النُّحَاةُ اصْطَلَحُوا عَلَى هَذَا فَسَمَّوْا اللَّفْظَ بِاسْمِ مَدْلُولِهِ فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى حُدُوثِ فِعْلٍ فِي زَمَنٍ مَاضٍ سَمَّوْهُ فِعْلًا مَاضِيًا وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا . وَكَذَلِكَ حَيْثُ وُجِدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ نَظْمِهِ وَنَثْرِهِ لَفْظُ كَلِمَةٍ ؛ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْمُفِيدُ الَّتِي تُسَمِّيهَا النُّحَاةُ جُمْلَةً تَامَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا } . وقَوْله تَعَالَى { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } . وقَوْله تَعَالَى { تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } . وَقَوْلِهِ : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } . وَقَوْلِهِ : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } . وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ }
وَقَوْلِهِ " { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } " . وَقَوْلِهِ . " { إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ بِهِ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ بِهِ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ بِهَا سَخَطَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } " . وَقَوْلِهِ : " { لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْته مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ : سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ } " . وَإِذَا كَانَ كُلُّ اسْمٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ حَرْفٍ يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ لَا مُطْلَقٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ لِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ مَا دَلَّ مَعَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّجَرُّدِ عَنْ كُلِّ قَرِينَةٍ تُقَارِنُهُ . فَإِنْ قِيلَ : أُرِيدَ بَعْضُ الْقَرَائِنِ دُونَ بَعْضٍ قِيلَ لَهُ : اُذْكُرْ الْفَصْلَ بَيْنَ الْقَرِينَةِ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا حَقِيقَةٌ وَالْقَرِينَةَ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا مَجَازٌ وَلَنْ تَجِدَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا تَقْدِرُ بِهِ عَلَى تَقْسِيمٍ صَحِيحٍ مَعْقُولٍ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي " الْعَامِّ " إذَا خُصَّ هَلْ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا بَقِيَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا ؟ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْأَمْرِ " إذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ هَلْ يَكُونُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا ؟ وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ لِأَكْثَرِ الطَّوَائِفِ : لِأَصْحَابِ أَحْمَد قَوْلَانِ وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ وَلِأَصْحَابِ مَالِكٍ قَوْلَانِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ يَطَّرِدُ فِي التَّخْصِيصِ الْمُتَّصِلِ كَالصِّفَةِ
وَالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ وَالْبَدَلِ وَجَعَلَ يَحْكِي فِي ذَلِكَ أَقْوَالَ مَنْ يَفْصِلُ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ أَحَدًا قَالَهُ فَجُعِلَ اللَّفْظُ الْعَامُّ الْمُقَيَّدُ فِي الصِّفَاتِ وَالْغَايَاتِ وَالشُّرُوطِ مَجَازًا بَلْ لَمَّا أَطْلَقَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ إذَا خُصَّ يَصِيرُ مَجَازًا ؛ ظَنَّ هَذَا النَّاقِلُ أَنَّهُ عَنَى التَّخْصِيصَ الْمُتَّصِلَ وَأُولَئِكَ لَمْ يَكُنْ فِي اصْطِلَاحِهِمْ عَامٌّ مَخْصُوصٌ إلَّا إذَا خُصَّ بِمُنْفَصِلِ . وَأَمَّا الْمُتَّصِلُ ؛ فَلَا يُسَمُّونَ اللَّفْظَ عَامًّا مَخْصُوصًا الْبَتَّةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَدُلَّ إلَّا مُتَّصِلًا وَالِاتِّصَالُ مَنَعَهُ الْعُمُومُ وَهَذَا اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ الصَّوَابُ . لَا يُقَالُ لِمَا قُيِّدَ بِالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ وَنَحْوِهِمَا : أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا خُصَّ مِنْ الْعُمُومِ وَلَا فِي الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ ؛ لَكِنْ يُقَيَّدُ فَيُقَالُ : تَخْصِيصٌ مُتَّصِلٌ وَهَذَا الْمُقَيَّدُ لَا يَدْخُلُ فِي التَّخْصِيصِ الْمُطْلَقِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَيُقَالُ : إذَا كَانَ هَذَا مَجَازًا ؛ فَيَكُونُ تَقْيِيدُ الْفِعْلِ الْمُطْلَقِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَبِظَرْفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ مَجَازًا : وَكَذَلِكَ بِالْحَالِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا قُيِّدَ بِقَيْدِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ كُلُّهُ مَجَازًا فَأَيْنَ الْحَقِيقَةُ ؟ فَإِنْ قِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَ الْقَرَائِنِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ فَمَا كَانَ مَعَ الْقَرِينَةِ الْمُتَّصِلَةِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَمَا كَانَ مَعَ الْمُنْفَصِلَةِ كَانَ مَجَازًا ؛ قِيلَ : تَعْنِي بِالْمُتَّصِلِ مَا كَانَ فِي اللَّفْظِ أَوْ مَا كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْخِطَابِ ؟ فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ ؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا عُلِمَ مِنْ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ الْمُسْتَمِعِ أَوَّلًا قَرِينَةً مُنْفَصِلَةً . فَمَا اُسْتُعْمِلَ بِلَامِ التَّعْرِيفِ لِمَا يَعْرِفَانِهِ كَمَا يَقُولُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ قَالَ الصِّدِّيقُ وَهُوَ عِنْدَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ : اذْهَبْ إلَى
الْأَمِيرِ أَوْ الْقَاضِي أَوْ الْوَالِي يُرِيدُ مَا يَعْرِفَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَجَازًا . وَكَذَلِكَ الضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ . كَقَوْلِهِ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ } وَقَوْلِهِ : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَجَازًا ؛ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ . وَ " أَيْضًا " فَإِذَا قَالَ لِشُجَاعِ : هَذَا الْأَسَدُ فَعَلَ الْيَوْمَ كَذَا ، وَلِبَلِيدِ : هَذَا الْحِمَارُ قَالَ الْيَوْمَ كَذَا ، أَوْ لِعَالِمِ أَوْ جَوَادٍ : هَذَا الْبَحْرُ جَرَى مِنْهُ الْيَوْمَ كَذَا ؛ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ فَلَا يَبْقَى قَطُّ مَجَازًا . وَإِنْ قَالَ : الْمُتَّصِلُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْخِطَابِ . قِيلَ لَهُ : فَهَذَا أَشَدُّ عَلَيْك مِنْ الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُتَكَلِّمٍ بِالْمَجَازِ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ حَالَ الْخِطَابِ مَا يُبَيِّنُ مُرَادَهُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ التَّكَلُّمُ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ : أَنَا أُجَوِّزُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ مَوْرِدِ الْخِطَابِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ . قِيلَ : أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلَفْظِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَهُوَ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى إلَّا إذَا بَيَّنَ وَإِنَّمَا يُجَوِّزُونَ تَأْخِيرَ بَيَانِ مَا لَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ كَالْمُجْمَلَاتِ . ثُمَّ نَقُولُ : إذَا جَوَّزْت تَأْخِيرَ الْبَيَانِ فَالْبَيَانُ قَدْ يَحْصُلُ بِجُمْلَةِ تَامَّةٍ وَبِأَفْعَالِ مِنْ الرَّسُولِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَا يَكُونُ الْبَيَانُ الْمُتَأَخِّرُ إلَّا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ مِمَّا يَجِبُ اقْتِرَانُهُ بِغَيْرِهِ . فَإِنْ جَعَلْت هَذَا مَجَازًا ؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْتَاجُ فِي الْعَمَلِ إلَى بَيَانٍ مَجَازًا كَقَوْلِهِ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } . ثُمَّ يُقَالُ : هَبْ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ عَقْلًا لَكِنْ لَيْسَ وَاقِعًا فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلًا وَجَمِيعُ مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلٌ ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ ، فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا :
الظَّاهِرُ
الَّذِي لَمْ يُرَدْ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ قَدْ يُؤَخَّرُ
بَيَانُهُ ، احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً } . وَادَّعَوْا أَنَّهَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً وَأُخِّرَ بَيَانُ
التَّعْيِينِ . وَهَذَا خِلَافُ مَا اسْتَفَاضَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ مِنْ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِبَقَرَةِ
مُطْلَقَةٍ فَلَوْ أَخَذُوا بَقَرَةً مِنْ الْبَقَرِ فَذَبَحُوهَا أَجْزَأَ
عَنْهُمْ وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَالْآيَةُ نَكِرَةٌ
فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَهِيَ مُطْلَقَةٌ . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ سِيَاقُهُ
عَلَى أَنَّ اللَّهَ ذَمَّهُمْ عَلَى السُّؤَالِ بِمَا هِيَ وَلَوْ كَانَ
الْمَأْمُورُ بِهِ مُعَيَّنًا لَمَا كَانُوا مَلُومِينَ . ثُمَّ إنَّ مِثْلَ هَذَا
لَمْ يَقَعْ قَطُّ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ يَأْمُرَ عِبَادِهِ
بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ وَيُبْهِمَهُ عَلَيْهِمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَلَا
يَذْكُرُهُ بِصِفَاتِ تَخْتَصُّ بِهِ ابْتِدَاءً . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ أَخَّرَ
بَيَانَ لَفْظِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ
لَهَا مَعَانٍ فِي اللُّغَةِ بِخِلَافِ الشَّرْعِ ؛ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ
اللَّهَ إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ عَرَفُوا الْمَأْمُورَ بِهِ
وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ وَلَمْ يُؤَخِّرْ اللَّهُ قَطُّ
بَيَانَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَأْمُورَاتِ وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْحَقِيقَةَ مَا يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ
عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ؛ فَمِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ ، فَإِنَّهُ يُقَالُ : إذَا
كَانَ اللَّفْظُ لَمْ يُنْطَقْ بِهِ إلَّا مُقَيَّدًا ؛ فَإِنَّهُ يَسْبِقُ إلَى
الذِّهْنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ .
وَأَمَّا إذَا أُطْلِقَ ؛ فَهُوَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَلَامِ مُطْلَقًا قَطُّ
فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَالُ إطْلَاقٍ مَحْضٍ حَتَّى يُقَالَ : إنَّ الذِّهْنَ
يَسْبِقُ إلَيْهِ أَمْ لَا . وَ " أَيْضًا " فَأَيُّ ذِهْنٍ فَإِنَّ
الْعَرَبِيَّ الَّذِي يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ ؛ يَسْبِقُ إلَى
ذِهْنِهِ مِنْ اللَّفْظِ مَا لَا يَسْبِقُ إلَى ذِهْنِ النَّبَطِيِّ الَّذِي صَارَ يَسْتَعْمِلُ الْأَلْفَاظَ فِي غَيْرِ مَعَانِيهَا وَمِنْ هُنَا غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ تَعَوَّدُوا مَا اعْتَادُوهُ إمَّا مِنْ خِطَابِ عَامَّتِهِمْ وَإِمَّا مِنْ خِطَابِ عُلَمَائِهِمْ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى فَإِذَا سَمِعُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ ظَنُّوا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فَيَحْمِلُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى لُغَتِهِمْ النَّبَطِيَّةِ وَعَادَتِهِمْ الْحَادِثَةِ . وَهَذَا مِمَّا دَخَلَ بِهِ الْغَلَطُ عَلَى طَوَائِفَ ، بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ تَعْرِفَ اللُّغَةَ وَالْعَادَةَ وَالْعُرْفَ الَّذِي نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْهَمُونَ مِنْ الرَّسُولِ عِنْدَ سَمَاعِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ ؛ فَبِتِلْكَ اللُّغَةِ وَالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ خَاطَبَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . لَا بِمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ إلَّا بَيَّنَ مَعْنَاهُ لِلْمُخَاطَبِينَ وَلَمْ يحوجهم إلَى شَيْءٍ آخَرَ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ هَؤُلَاءِ مِنْ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ مِنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ ؛ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَدَّرًا فِي الْأَذْهَانِ لَا مَوْجُودًا فِي الْكَلَامِ الْمُسْتَعْمَلِ . كَمَا أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ الْمَنْطِقِيُّونَ مِنْ الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ مِنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَدَّرًا فِي الذِّهْنِ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ خَارِجٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ . وَلِهَذَا كَانَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ تَقْسِيمِ الْعِلْمِ إلَى تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ وَأَنَّ التَّصَوُّرَ هُوَ تَصَوُّرُ الْمَعْنَى السَّاذَجِ الْخَالِي عَنْ كُلِّ قَيْدٍ لَا يُوجَدُ . وَكَذَلِكَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْبَسَائِطِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْأَنْوَاعُ وَأَنَّهَا أُمُورٌ مُطْلَقَةٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ لَا تُوجَدُ . وَمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ ؛ لَا يُوجَدُ .
فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْمُطْلَقَاتُ عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهَا لِمَنْ يَنْظُرُ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ . فَإِنَّهُ بِسَبَبِ ظَنِّ وُجُودِهَا ضَلَّ طَوَائِفُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ بَلْ إذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ إنَّمَا يَعْنُونَ بِهِ مُطْلَقًا عَنْ ذَلِكَ الْقَيْدِ وَمُقَيَّدًا بِذَلِكَ الْقَيْدِ . كَمَا يَقُولُونَ : الرَّقَبَةُ مُطْلَقَةٌ فِي آيَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَمُقَيَّدَةٌ فِي آيَةِ الْقَتْلِ . أَيْ مُطْلَقَةٌ عَنْ قَيْدِ الْإِيمَانِ وَإِلَّا فَقَدْ قِيلَ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } . فَقُيِّدَتْ بِأَنَّهَا رَقَبَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ وَأَنَّهَا تَقْبَلُ التَّحْرِيرَ . وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْمُطْلَقِ الْمَحْضِ يَقُولُونَ هُوَ الَّذِي لَا يَتَّصِفُ بِوَحْدَةِ وَلَا كَثْرَةٍ وَلَا وُجُودٍ وَلَا عَدَمٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ ؛ بَلْ هُوَ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ كَمَا يَذْكُرُهُ الرَّازِي تَلَقِّيًا لَهُ عَنْ ابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ وَالتَّقَيُّدِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا وَبَيَّنَّا مِنْ غَلَطِ هَؤُلَاءِ فِي ذَلِكَ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا " الْإِطْلَاقُ اللَّفْظِيُّ " وَهُوَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِاللَّفْظِ مُطْلَقًا عَنْ كُلِّ قَيْدٍ وَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إلَّا بِكَلَامِ مُؤَلَّفٍ مُقَيَّدٍ مُرْتَبِطٍ بَعْضُهُ بِبَعْضِ فَتَكُونُ تِلْكَ قُيُودًا مُمْتَنِعَةَ الْإِطْلَاقِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَرْقٌ مَعْقُولٌ يُمْكِنُ بِهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ نَوْعَيْنِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بَاطِلٌ وَحِينَئِذٍ فَكُلُّ لَفْظٍ مَوْجُودٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَجَازٌ بَلْ كُلُّهُ حَقِيقَةٌ . وَلِهَذَا لَمَّا ادَّعَى كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا وَذَكَرُوا مَا يَشْهَدُ
لَهُمْ ؛ رَدَّ عَلَيْهِمْ الْمُنَازِعُونَ جَمِيعَ مَا ذَكَرُوهُ . فَمِنْ أَشْهَرِ مَا ذَكَرُوهُ قَوْله تَعَالَى { جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } . قَالُوا : وَالْجِدَارُ لَيْسَ بِحَيَوَانِ ، وَالْإِرَادَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِلْحَيَوَانِ ؛ فَاسْتِعْمَالُهَا فِي مَيْلِ الْجِدَارِ مَجَازٌ . فَقِيلَ لَهُمْ : لَفْظُ الْإِرَادَةِ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْمَيْلِ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ شُعُورٌ وَهُوَ مَيْلُ الْحَيِّ وَفِي الْمَيْلِ الَّذِي لَا شُعُورَ فِيهِ وَهُوَ مَيْلُ الْجَمَادِ وَهُوَ مِنْ مَشْهُورِ اللُّغَةِ ؛ يُقَالُ هَذَا السَّقْفُ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ وَهَذِهِ الْأَرْضُ تُرِيدُ أَنْ تُحْرَثَ وَهَذَا الزَّرْعُ يُرِيدُ أَنْ يُسْقَى ؛ وَهَذَا الثَّمَرُ يُرِيدُ أَنْ يُقْطَفَ وَهَذَا الثَّوْبُ يُرِيدُ أَنْ يُغْسَلَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَاللَّفْظُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا ؛ فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ أَوْ حَقِيقَةً فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا أَوْ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا . وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ . وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْعَامَّةُ كُلُّهَا . وَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ الْمَجَازُ . وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ ؛ وَكِلَاهُمَا خِلَافُ الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ الْمُتَوَاطِئَةِ . وَبِهَذَا يُعْرَفُ عُمُومُ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ كُلِّهَا وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : هُوَ فِي مَيْلِ الْجَمَادِ حَقِيقَةٌ وَفِي مَيْلِ الْحَيَوَانِ مَجَازٌ ؛ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الدعويين فَرْقٌ إلَّا كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي مَيْلِ الْحَيَوَانِ ؛ لَكِنْ يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَيْلُ الْحَيَوَانِ وَهُنَا اُسْتُعْمِلَ مُقَيَّدًا بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَيْلُ الْجَمَادِ . وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ أَمْرٌ كُلِّيٌّ عَامٌّ لَا يُوجَدُ كُلِّيًّا عَامًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ وَهُوَ مَوْرِدُ التَّقْسِيمِ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامَّ
الْكُلِّيَّ كَانَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَى مَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ وَإِلَى مَا يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ فِي الْعَادَةِ . وَمَا لَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ ؛ لَا يُوجَدُ فِي الذِّهْنِ مُجَرَّدًا بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ مُضَافٍ تَعَوَّدَتْ الْأَذْهَانُ تَصَوُّرَ مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَمُسَمَّى الْفَرَسِ بِخِلَافِ تَصَوُّرِ مُسَمَّى الْإِرَادَةِ وَمُسَمَّى الْعِلْمِ وَمُسَمَّى الْقُدْرَةِ وَمُسَمَّى الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ لَهُ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ مُطْلَقٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ لَا يُوجَدُ لَفْظُ الْإِرَادَةِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْمُرِيدِ وَلَا لَفْظُ الْعِلْمِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْعَالِمِ وَلَا لَفْظُ الْقُدْرَةِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْقَادِرِ . بَلْ وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَعْرَاضِ لَمَّا لَمْ تُوجَدْ إلَّا فِي مَحَالِّهَا مُقَيَّدَةً بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ إلَّا كَذَلِكَ . فَلَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ لَفْظُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ قَيْدٍ ؛ وَإِنَّمَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ فِي اللُّغَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا يُرِيدُونَ بِهِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : الذَّوْقُ حَقِيقَةٌ فِي الذَّوْقِ بِالْفَمِ ، وَاللِّبَاسُ بِمَا يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ ، وَإِنَّمَا اُسْتُعِيرَ هَذَا وَهَذَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ قَالَ الْخَلِيلُ : الذَّوْقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ وُجُودُ طَعْمِ الشَّيْءِ وَالِاسْتِعْمَالُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ تَعَالَى : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ } . وَقَالَ : { ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } . وَقَالَ : { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } . وَقَالَ : { فَذُوقُوا
الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } - { فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ } - { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } - { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا } { إلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ رَسُولًا } " . وَفِي بَعْضِ الْأَدْعِيَةِ : " أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِك وَحَلَاوَةَ مَغْفِرَتِك " . فَلَفْظُ " الذَّوْقِ " يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُحِسُّ بِهِ وَيَجِدُ أَلَمَهُ أَوْ لَذَّتَهُ فَدَعْوَى الْمُدَّعِي اخْتِصَاصَ لَفْظِ الذَّوْقِ بِمَا يَكُونُ بِالْفَمِ تَحَكُّمٌ مِنْهُ ، لَكِنَّ ذَاكَ مُقَيَّدٌ فَيُقَالُ : ذُقْت الطَّعَامَ وَذُقْت هَذَا الشَّرَابَ ؛ فَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْقُيُودِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَوْقٌ بِالْفَمِ وَإِذَا كَانَ الذَّوْقُ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ بِبَاطِنِهِ أَوْ بِظَاهِرِهِ ؛ حَتَّى الْمَاءُ الْحَمِيمُ يُقَالُ : ذَاقَهُ فَالشَّرَابُ إذَا كَانَ بَارِدًا أَوْ حَارًّا يُقَالُ : ذُقْت حَرَّهُ وَبَرْدَهُ . وَأَمَّا لَفْظُ " اللِّبَاسِ " : فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي كُلِّ مَا يَغْشَى الْإِنْسَانَ وَيَلْتَبِسُ بِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا } . وَقَالَ : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } . وَقَالَ : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } . وَمِنْهُ يُقَالُ : لَبَسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إذَا خَلَطَهُ بِهِ حَتَّى غَشِيَهُ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ . فَالْجُوعُ الَّذِي يَشْمَلُ أَلَمُهُ جَمِيعَ الْجَائِعِ : نَفْسَهُ وَبَدَنَهُ وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ الَّذِي يَلْبَسُ الْبَدَنَ . فَلَوْ قِيلَ : فَأَذَاقَهَا اللَّهُ الْجُوعَ وَالْخَوْفَ ؛ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْجَائِعِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ : لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ . وَلَوْ قَالَ فَأَلْبَسَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ذَاقُوا مَا يُؤْلِمُهُمْ إلَّا بِالْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ الْجَائِعَ الْخَائِفَ يَأْلَمُ . بِخِلَافِ لَفْظِ ذَوْقِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ؛ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِالْمُؤْلِمِ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الملذ : دَلَّ
عَلَى
الْإِحْسَاسِ بِهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { ذَاقَ
طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا
وَبِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا } " . فَإِنْ
قِيلَ : فَلِمَ لَمْ يَصِفْ نَعِيمَ الْجَنَّةِ بِالذَّوْقِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ
الذَّوْقَ يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ الْإِحْسَاسِ وَيُقَالُ : ذَاقَ الطَّعَامَ لِمَنْ
وَجَدَ طَعْمَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ . وَأَهْلُ الْجَنَّةِ نَعِيمُهُمْ
كَامِلٌ تَامٌّ لَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى الذَّوْقِ ؛ بَلْ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ
الذَّوْقِ فِي النَّفْيِ كَمَا قَالَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ : { لَا يَذُوقُونَ
فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا } أَيْ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا
ذَوْقٌ . وَقَالَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ : { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ
إلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } .
وَكَذَلِكَ مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْقُرْآنِ كَلَفْظِ "
الْمَكْرِ " وَ " الِاسْتِهْزَاءِ " وَ " السُّخْرِيَةِ
" الْمُضَافِ إلَى اللَّهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ مُسَمًّى بِاسْمِ مَا
يُقَابِلُهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مُسَمَّيَاتُ هَذِهِ
الْأَسْمَاءِ إذَا فُعِلَتْ بِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ كَانَتْ ظُلْمًا
لَهُ وَأَمَّا إذَا فُعِلَتْ بِمَنْ فَعَلَهَا بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عُقُوبَةً
لَهُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ كَانَتْ عَدْلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ
كِدْنَا لِيُوسُفَ } . فَكَادَ لَهُ كَمَا كَادَتْ إخْوَتُهُ لَمَّا قَالَ لَهُ
أَبُوهُ : { لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا } .
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا } { وَأَكِيدُ كَيْدًا } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ } { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ } . وَقَالَ
تَعَالَى : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي
الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ
سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } . وَلِهَذَا كَانَ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ فِعْلًا
يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ كَمَا
رُوِيَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّهُ يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُمْ فِي
النَّارِ فَيُسْرِعُونَ إلَيْهِ فَيُغْلَقُ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ آخَرُ
فَيُسْرِعُونَ إلَيْهِ فَيُغْلَقُ فَيَضْحَكُ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ . قَالَ
تَعَالَى : { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } {
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } { هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ } . وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
؛ خَمَدَتْ النَّارُ لَهُمْ كَمَا تَخْمُدُ الْإِهَالَةُ مِنْ الْقِدْرِ
فَيَمْشُونَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ . وَعَنْ مُقَاتِلٍ : إذَا ضُرِبَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِسُورِ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ
وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ فَيَبْقَوْنَ فِي الظُّلْمَةِ فَيُقَالُ
لَهُمْ : ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ :
اسْتِهْزَاؤُهُ : اسْتِدْرَاجُهُ لَهُمْ . وَقِيلَ : إيقَاعُ اسْتِهْزَائِهِمْ
وَرَدُّ خِدَاعِهِمْ وَمَكْرِهِمْ عَلَيْهِمْ . وَقِيلَ : إنَّهُ يُظْهِرُ لَهُمْ
فِي الدُّنْيَا خِلَافَ مَا أَبْطَنَ فِي الْآخِرَةِ . وَقِيلَ هُوَ تَجْهِيلُهُمْ
وَتَخْطِئَتُهُمْ فِيمَا فَعَلُوهُ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ حَقٌّ وَهُوَ اسْتِهْزَاءٌ
بِهِمْ حَقِيقَةً .
وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ الْمَشْهُورَةِ لِمَنْ يُثْبِتُ الْمَجَازَ فِي الْقُرْآنِ :
{ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } . قَالُوا الْمُرَادُ بِهِ أَهْلُهَا فَحُذِفَ
الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ فَقِيلَ لَهُمْ : لَفْظُ
الْقَرْيَةِ وَالْمَدِينَةِ وَالنَّهْرِ وَالْمِيزَابِ ؛ وَأَمْثَالُ هَذِهِ
الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا الْحَالُّ وَالْمَحَالُّ كِلَاهُمَا دَاخِلٌ فِي
الِاسْمِ . ثُمَّ قَدْ يَعُودُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَالِّ وَهُوَ السُّكَّانُ
وَتَارَةً عَلَى الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمَكَانُ وَكَذَلِكَ فِي النَّهْرِ يُقَالُ :
حَفَرْت النَّهْرَ وَهُوَ الْمَحَلُّ . وَجَرَى النَّهْرُ وَهُوَ الْمَاءُ
وَوَضَعْت الْمِيزَابَ وَهُوَ الْمَحَلُّ وَجَرَى الْمِيزَابُ وَهُوَ الْمَاءُ
وَكَذَلِكَ الْقَرْيَةُ قَالَ تَعَالَى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً
كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً } . وَقَوْلُهُ : { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَاهَا
فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ
إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إلَّا أَنْ قَالُوا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } . وَقَالَ
فِي آيَةٍ أُخْرَى : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا
بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ } . فَجَعَلَ الْقُرَى هُمْ السُّكَّانُ . وَقَالَ : {
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي
أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ } . وَهُمْ السُّكَّانُ . وَكَذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا
لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى
قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } . فَهَذَا الْمَكَانُ لَا
السُّكَّانُ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُلْحَظَ أَنَّهُ كَانَ مَسْكُونًا ؛ فَلَا
يُسَمَّى قَرْيَةً إلَّا إذَا كَانَ قَدْ عُمِّرَ لِلسُّكْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ
الْقُرَى وَهُوَ الْجَمْعُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : قَرَيْت الْمَاءَ فِي
الْحَوْضِ إذَا جَمَعْته فِيهِ .
وَنَظِيرُ ذَلِكَ لَفْظُ " الْإِنْسَانِ " يَتَنَاوَلُ الْجَسَدَ
وَالرُّوحَ ثُمَّ الْأَحْكَامُ تَتَنَاوَلُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً
لِتَلَازُمِهِمَا ؛ فَكَذَلِكَ الْقَرْيَةُ إذَا عُذِّبَ أَهْلُهَا خَرِبَتْ
وَإِذَا خَرِبَتْ كَانَ عَذَابًا لِأَهْلِهَا ؛ فَمَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا مِنْ
الشَّرِّ يَنَالُ الْآخَرَ ؛ كَمَا يَنَالُ الْبَدَنَ وَالرُّوحَ مَا يُصِيبُ
أَحَدَهُمَا . فَقَوْلُهُ : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } . مِثْلُ قَوْلِهِ {
قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً } . فَاللَّفْظُ هُنَا يُرَادُ بِهِ
السُّكَّانُ مِنْ غَيْرِ إضْمَارٍ وَلَا حَذْفٍ فَهَذَا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ
فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ ، فَلَا مَجَازَ فِي الْقُرْآنِ . بَلْ وَتَقْسِيمُ
اللُّغَةِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ تَقْسِيمٌ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ لَمْ يَنْطِقْ
بِهِ السَّلَفُ . وَالْخَلَفُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ
لَفْظِيًّا ؛ بَلْ يُقَالُ : نَفْسُ هَذَا التَّقْسِيمِ بَاطِلٌ لَا يَتَمَيَّزُ
هَذَا عَنْ هَذَا وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْفُرُوقِ
تَبَيَّنَ أَنَّهَا فُرُوقٌ بَاطِلَةٌ وَكُلَّمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فَرْقًا أَبْطَلَهُ
الثَّانِي كَمَا يَدَّعِي الْمَنْطِقِيُّونَ أَنَّ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةَ
بِالْمَوْصُوفَاتِ
تَنْقَسِمُ
اللَّازِمَةُ لَهَا إلَى دَاخِلٍ فِي مَاهِيَّتِهَا الثَّابِتَةِ فِي الْخَارِجِ
وَإِلَى خَارِجٍ عَنْهَا لَازِمٍ لِلْمَاهِيَّةِ وَلَازِمٍ خَارِجٍ لِلْوُجُودِ .
وَذَكَرُوا ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ لِأَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ
بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ مَا يَجْعَلُونَهُ دَاخِلًا يُمْكِنُ جَعْلُهُ
خَارِجًا وَبِالْعَكْسِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَقَوْلُهُمْ :
اللَّفْظُ إنْ دَلَّ بِلَا قَرِينَةٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ إلَّا
مَعَهَا فَهُوَ مَجَازٌ ؛ قَدْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي
الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ مَا يَدُلُّ مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ وَلَا
فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إلَى جَمِيعِ الْقَرَائِنِ . وَأَشْهَرُ أَمْثِلَةِ
الْمَجَازِ لَفْظُ " الْأَسَدِ " وَ " الْحِمَارِ " وَ "
الْبَحْرِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُونَ : إنَّهُ اُسْتُعِيرَ
لِلشُّجَاعِ وَالْبَلِيدِ وَالْجَوَادِ . وَهَذِهِ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا مُؤَلَّفَةً
مُرَكَّبَةً مُقَيَّدَةً بِقُيُودِ لَفْظِيَّةٍ كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْحَقِيقَةُ ،
كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنْ أَبِي قتادة لَمَّا طَلَبَ غَيْرُهُ
سَلَبَ الْقَتِيلِ : لَاهَا اللَّهُ إذًا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ
اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيك سَلَبَهُ . فَقَوْلُهُ :
يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛
وَصْفٌ لَهُ بِالْقُوَّةِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَقَدْ عَيَّنَهُ تَعْيِينًا
أَزَالَ اللَّبْسَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" { إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ } " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ .
وَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ : الْقَرَائِنُ اللَّفْظِيَّةُ مَوْضُوعَةٌ
وَدَلَالَتُهَا عَلَى الْمَعْنَى حَقِيقَةٌ ، لَكِنَّ الْقَرَائِنَ الْحَالِيَّةَ
مَجَازٌ ؛ قِيلَ : اللَّفْظُ لَا يُسْتَعْمَلُ قَطُّ إلَّا مُقَيَّدًا بِقُيُودِ
لَفْظِيَّةٍ مَوْضُوعَةٍ ؛ وَالْحَالُ حَالُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُسْتَمِعِ لَا
بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ
فَإِنَّهُ إذَا عُرِفَ الْمُتَكَلِّمُ فُهِمَ مِنْ مَعْنَى كَلَامِهِ مَا لَا يُفْهَمُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يُعْرَفُ عَادَتُهُ فِي خِطَابِهِ ، وَاللَّفْظُ إنَّمَا يَدُلُّ إذَا عُرِفَ لُغَةُ الْمُتَكَلِّمِ الَّتِي بِهَا يَتَكَلَّمُ وَهِيَ عَادَتُهُ وَعُرْفُهُ الَّتِي يَعْتَادُهَا فِي خِطَابِهِ ، وَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى دَلَالَةٌ قَصْدِيَّةٌ إرَادِيَّةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ ، فَالْمُتَكَلِّمُ يُرِيدُ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى ؛ فَإِذَا اعْتَادَ أَنْ يُعَبِّرَ بِاللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى كَانَتْ تِلْكَ لُغَتَهُ وَلِهَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ عِنَايَةٌ بِأَلْفَاظِ الرَّسُولِ وَمُرَادِهِ بِهَا : عَرَفَ عَادَتَهُ فِي خِطَابِهِ وَتَبَيَّنَ لَهُ مِنْ مُرَادِهِ مَا لَا يَتَبَيَّنُ لِغَيْرِهِ . وَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ إذَا ذُكِرَ لَفْظٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَنْ يَذْكُرَ نَظَائِرَ ذَلِكَ اللَّفْظِ ؛ مَاذَا عَنَى بِهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيَعْرِفُ بِذَلِكَ لُغَةَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَسُنَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّتِي يُخَاطِبُ بِهَا عِبَادَهُ وَهِيَ الْعَادَةُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ كَلَامِهِ ثُمَّ إذَا كَانَ لِذَلِكَ نَظَائِرُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ وَكَانَتْ النَّظَائِرُ كَثِيرَةً ؛ عُرِفَ أَنَّ تِلْكَ الْعَادَةَ وَاللُّغَةَ مُشْتَرَكَةٌ عَامَّةٌ لَا يَخْتَصُّ بِهَا هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ هِيَ لُغَةُ قَوْمِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى عَادَاتٍ حَدَثَتْ بَعْدَهُ فِي الْخِطَابِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي خِطَابِهِ وَخِطَابِ أَصْحَابِهِ . كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَقَدْ لَا يَعْرِفُونَ انْتِفَاءَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ . وَلِهَذَا كَانَ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ وَإِنْ جَازَ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّهُ قَدْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ هُوَ اللَّفْظَ فِي نَظِيرِ الْمَعْنَى الَّذِي اسْتَعْمَلُوهُ فِيهِ مَعَ بَيَانِ ذَلِكَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ النِّزَاعِ ؛ لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمِدَ إلَى أَلْفَاظٍ قَدْ عُرِفَ اسْتِعْمَالُهَا فِي مَعَانٍ فَيَحْمِلُهَا عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الْمَعَانِي وَيَقُولُ : إنَّهُمْ أَرَادُوا تِلْكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى تِلْكَ ؛ بَلْ هَذَا تَبْدِيلٌ وَتَحْرِيفٌ
فَإِذَا
قَالَ : { الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ } فَالْجَارُ هُوَ الْجَارُ لَيْسَ هُوَ
الشَّرِيكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ فِي لُغَتِهِمْ ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِي
اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ ؛ لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ الْبَيْعَ لَهُ أَوْلَى . وَأَمَّا " الْخَمْرُ " فَقَدْ ثَبَتَ
بِالنُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ وَالنُّقُولِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهَا كَانَتْ اسْمًا
لِكُلِّ مُسْكِرٍ ، لَمْ يُسَمَّ النَّبِيذُ خَمْرًا بِالْقِيَاسِ . وَكَذَلِكَ
" النَّبَّاشُ " كَانُوا يُسَمُّونَهُ سَارِقًا كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ
: سَارِقُ مَوْتَانَا كَسَارِقِ أَحْيَانًا . وَاللَّائِطُ عِنْدَهُمْ كَانَ
أَغْلَظَ مِنْ الزَّانِي بِالْمَرْأَةِ .
وَلَا بُدَّ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ مَا
يَدُلُّ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَكَيْفَ يُفْهَمُ
كَلَامُهُ ، فَمَعْرِفَةُ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي خُوطِبْنَا بِهَا مِمَّا يُعِينُ
عَلَى أَنْ نَفْقَهَ مُرَادَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِكَلَامِهِ ، وَكَذَلِكَ
مَعْرِفَةُ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ ضَلَالِ
أَهْلِ الْبِدَعِ كَانَ بِهَذَا السَّبَبِ ؛ فَإِنَّهُمْ صَارُوا يَحْمِلُونَ
كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَا يَدَّعُونَ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ وَلَا
يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَيَجْعَلُونَ هَذِهِ الدَّلَالَةَ حَقِيقَةً ،
وَهَذِهِ مَجَازًا ، كَمَا أَخْطَأَ الْمُرْجِئَةُ فِي اسْمِ " الْإِيمَانِ
" جَعَلُوا لَفْظَ " الْإِيمَانِ " حَقِيقَةً فِي مُجَرَّدِ
التَّصْدِيقِ وَتَنَاوُلِهِ لِلْأَعْمَالِ مَجَازًا . فَيُقَالُ : إنْ لَمْ
يَصِحَّ التَّقْسِيمُ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا وَإِنْ
صَحَّ فَهَذَا لَا يَنْفَعُكُمْ . بَلْ هُوَ عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ ؛ لِأَنَّ
الْحَقِيقَةَ هِيَ اللَّفْظُ الَّذِي يَدُلُّ بِإِطْلَاقِهِ بِلَا قَرِينَةٍ
وَالْمَجَازُ إنَّمَا يَدُلُّ بِقَرِينَةٍ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ
الْإِيمَانِ حَيْثُ أُطْلِقَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَخَلَتْ فِيهِ
الْأَعْمَالُ وَإِنَّمَا يَدَّعِي خُرُوجَهَا مِنْهُ
عِنْدَ التَّقْيِيدِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ قَوْلُهُ . " { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً } " . وَأَمَّا حَدِيثُ جِبْرِيلَ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالْإِيمَانِ مَا ذَكَرَ مَعَ الْإِسْلَامِ . فَهُوَ كَذَلِكَ . وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعًا . كَمَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْإِحْسَانَ أَرَادَ الْإِحْسَانَ مَعَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ؛ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِحْسَانَ مُجَرَّدٌ عَنْ إيمَانٍ وَإِسْلَامٍ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِلَفْظِ " الْإِيمَانِ " مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ ؛ فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُنَا الْمُنَازَعَةُ فِيهِ بَعْدَ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِخِلَافِ كَوْنِ لَفْظِ " الْإِيمَانِ " فِي اللُّغَةِ مُرَادِفًا لِلتَّصْدِيقِ وَدَعْوَى أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُغَيِّرْهُ وَلَمْ يَنْقُلْهُ ؛ بَلْ أَرَادَ بِهِ مَا كَانَ يُرِيدُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ بِلَا تَخْصِيصٍ وَلَا تَقْيِيدٍ ؛ فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَلَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ ، كَيْفَ وَقَدْ عُرِفَ فَسَادُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَأَنَّهَا مِنْ أَفْسَدِ الْكَلَامِ . وَ " أَيْضًا " فَلَيْسَ لَفْظُ الْإِيمَانِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا بِدُونِ لَفْظِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ ؛ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالصِّيَامِ الشَّرْعِيِّ ؛ وَالْحَجِّ الشَّرْعِيِّ ؛ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ الشَّارِعَ نَقَلَهُ ؛ أَوْ أَرَادَ الْحُكْمَ دُونَ الِاسْمِ ؛ أَوْ أَرَادَ الِاسْمَ وَتَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفَ أَهْلِ الْعُرْفِ ؛ أَوْ خَاطَبَ بِالِاسْمِ مُقَيَّدًا لَا مُطْلَقًا . فَإِنْ قِيلَ : الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَنَحْوُهُمَا لَوْ تُرِكَ بَعْضُهَا بَطَلَتْ بِخِلَافِ الْإِيمَانِ
فَإِنَّهُ
لَا يَبْطُلُ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِمُجَرَّدِ
الذَّنْبِ ؛ قِيلَ : إنْ أُرِيدَ بِالْبُطْلَانِ أَنَّهُ لَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ
مِنْهَا كُلِّهَا ؛ فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ إذَا تَرَكَ مِنْهُ شَيْئًا
لَمْ تَبْرَأْ الذِّمَّةُ مِنْهُ كُلِّهِ . وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ وُجُوبُ
الْإِعَادَةِ فَهَذَا لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ . فَإِنَّ فِي الْحَجِّ
وَاجِبَاتٍ إذَا تَرَكَهَا لَمْ يُعِدْ بَلْ تُجْبَرُ بِدَمِ ، وَكَذَلِكَ فِي
الصَّلَاةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ إذَا تَرَكَهَا سَهْوًا أَوْ مُطْلَقًا
وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ فَإِنَّمَا تَجِبُ إذَا أَمْكَنَتْ الْإِعَادَةُ وَإِلَّا
فَمَا تَعَذَّرَتْ إعَادَتُهُ يَبْقَى مُطَالَبًا بِهِ كَالْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا
.
وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ فَلَيْسَ
كَذَلِكَ بَلْ قَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حَدِيثِ الْمُسِيءِ فِي صِلَاتِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُتِمَّهَا يُثَابُ عَلَى مَا
فَعَلَ وَلَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ . وَفِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ
أَنَّ الْفَرَائِضَ تَكْمُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّوَافِلِ ؛ فَإِذَا
كَانَتْ الْفَرَائِضُ مَجْبُورَةً بِثَوَابِ النَّوَافِلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ
يُعْتَدُّ لَهُ بِمَا فَعَلَ مِنْهَا ؛ فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا تَرَكَ مِنْهُ
شَيْئًا كَانَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ ؛ إنْ كَانَ مُحَرَّمًا تَابَ مِنْهُ وَإِنْ
كَانَ وَاجِبًا فَعَلَهُ ؛ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ
مِنْهُ وَأُثِيبَ عَلَى مَا فَعَلَهُ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ
عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ
الْإِيمَانِ .
وَقَدْ عَدَلَتْ " الْمُرْجِئَةُ " فِي هَذَا الْأَصْلِ عَنْ بَيَانِ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ
بِإِحْسَانِ وَاعْتَمَدُوا عَلَى رَأْيِهِمْ وَعَلَى مَا تَأَوَّلُوهُ
بِفَهْمِهِمْ اللُّغَةَ ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ
الْإِمَامُ أَحْمَد يَقُولُ : أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ
التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ .
وَلِهَذَا تَجِدُ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْمُرْجِئَةَ وَالرَّافِضَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِمْ وَمَعْقُولِهِمْ وَمَا تَأَوَّلُوهُ مِنْ اللُّغَةِ ؛ وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَلَا يَعْتَمِدُونَ لَا عَلَى السُّنَّةِ وَلَا عَلَى إجْمَاعِ السَّلَفِ وَآثَارِهِمْ ؛ وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْعَقْلِ وَاللُّغَةِ وَتَجِدُهُمْ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورَةِ وَالْحَدِيثِ ؛ وَآثَارِ السَّلَفِ وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى كُتُبِ الْأَدَبِ وَكُتُبِ الْكَلَامِ الَّتِي وَضَعَتْهَا رُءُوسُهُمْ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمَلَاحِدَةِ أَيْضًا ؛ إنَّمَا يَأْخُذُونَ مَا فِي كُتُبِ الْفَلْسَفَةِ وَكُتُبِ الْأَدَبِ وَاللُّغَةِ وَأَمَّا كُتُبُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْآثَارِ ؛ فَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَيْهَا . هَؤُلَاءِ يُعْرِضُونَ عَنْ نُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ إذْ هِيَ عِنْدَهُمْ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ وَأُولَئِكَ يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِمْ وَفَهْمِهِمْ بِلَا آثَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا كَلَامَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فِي إنْكَارِ هَذَا وَجَعْلِهِ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَإِذَا تَدَبَّرْتَ حُجَجَهُمْ وَجَدْت دَعَاوَى لَا يَقُومُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ . وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَانِي نَصَرَ قَوْلَ جَهْمٍ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " مُتَابَعَةً لِأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ . فَأَمَّا أَبُو الْعَبَّاسِ القلانسي وَأَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُجَاهِدٍ شَيْخُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَصَاحِبُ أَبِي الْحَسَنِ - فَإِنَّهُمْ نَصَرُوا مَذْهَبَ السَّلَفِ . وَابْنُ كِلَابٍ - نَفْسُهُ - وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ البجلي وَنَحْوُهُمَا كَانُوا يَقُولُونَ : هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْقَوْلُ جَمِيعًا مُوَافَقَةً لِمَنْ قَالَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِثْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ .
فَصْلٌ
:
وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ نَصَرَ قَوْلَ جَهْمٍ فِي " الْإِيمَانِ
" مَعَ أَنَّهُ نَصَرَ الْمَشْهُورَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّهُ
يَسْتَثْنِي فِي الْإِيمَانِ فَيَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛
لِأَنَّهُ نَصَرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَتُقْبَلُ فِيهِمْ
الشَّفَاعَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَهُوَ دَائِمًا يَنْصُرُ - فِي الْمَسَائِلِ
الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ - قَوْلَ أَهْلِ
الْحَدِيثِ لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَبِيرًا بِمَآخِذِهِمْ فَيَنْصُرُهُ عَلَى مَا
يَرَاهُ هُوَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي تَلَقَّاهَا عَنْ غَيْرِهِمْ ؛ فَيَقَعُ فِي
ذَلِكَ مِنْ التَّنَاقُضِ مَا يُنْكِرُهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ، كَمَا فَعَلَ
فِي مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ وَنَصَرَ فِيهَا قَوْل جَهْمٍ مَعَ نَصْرِهِ
لِلِاسْتِثْنَاءِ ؛ وَلِهَذَا خَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي
الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا سَنَذْكُرُ مَأْخَذَهُ فِي ذَلِكَ وَاتَّبَعَهُ أَكْثَرُ
أَصْحَابِهِ عَلَى نَصْرِ قَوْل جَهْمٍ فِي ذَلِكَ . وَمَنْ لَمْ يَقِفْ إلَّا
عَلَى كُتُبِ الْكَلَامِ وَلَمْ يَعْرِفْ مَا قَالَهُ السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ
السُّنَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ ؛ فَيَظُنُّ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ قَوْلُ
أَهْلِ السُّنَّةِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ
السُّنَّةِ بَلْ قَدْ كَفَّرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَوَكِيعٌ وَغَيْرُهُمَا مَنْ
قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي نَصَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ . وَهُوَ
عِنْدَهُمْ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ ؛ وَلِهَذَا صَارَ مَنْ يُعَظِّمُ
الشَّافِعِيَّ مِنْ الزَّيْدِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ يَطْعَنُ فِي
كَثِيرٍ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ
يَقُولُونَ : الشَّافِعِيُّ لَمْ يَكُنْ فَيْلَسُوفًا وَلَا مُرْجِئًا وَهَؤُلَاءِ فَلَاسِفَةٌ أَشْعَرِيَّةٌ مُرْجِئَةٌ وَغَرَضُهُمْ ذَمُّ الْإِرْجَاءِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ عُمْدَتَهُمْ لِكَوْنِهِ مَشْهُورًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّمْهِيدِ " : فَإِنْ قَالُوا : فَخَبِّرُونَا مَا الْإِيمَانُ عِنْدَكُمْ ؟ قِيلَ : الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ وَهُوَ الْعِلْمُ ، وَالتَّصْدِيقُ يُوجَدُ بِالْقَلْبِ فَإِنْ قَالَ : فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْتُمْ ؟ قِيلَ : إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَبَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ التَّصْدِيقُ لَا يَعْرِفُونَ فِي اللُّغَةِ إيمَانًا غَيْرَ ذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } أَيْ بِمُصَدِّقٍ لَنَا . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : فُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالشَّفَاعَةِ وَفُلَانٌ لَا يُؤْمِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ أَيْ : لَا يُصَدِّقُ بِذَلِكَ . فَوَجَبَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْإِيمَانُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ مَا غَيَّرَ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ وَلَا قَلَبَهُ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَتَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ بِفِعْلِهِ وَتَوَفَّرَتْ دَوَاعِي الْأُمَّةِ عَلَى نَقْلِهِ وَلَغَلَبَ إظْهَارُهُ عَلَى كِتْمَانِهِ ، وَفِي عِلْمِنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ إقْرَارُ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ وَالتَّخَاطُبُ بِأَسْرِهِ عَلَى مَا كَانَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْإِيمَانُ اللُّغَوِيُّ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } وَقَوْلُهُ : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَسَمَّى الْأَسْمَاءَ بِمُسَمَّيَاتِهِمْ وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَا سِيَّمَا مَعَ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَحُصُولِ التَّوْقِيفِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ ؛ فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ مَا وَصَفْنَاهُ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ سَائِرِ الطَّاعَاتِ مِنْ النَّوَافِلِ وَالْمَفْرُوضَاتِ ، هَذَا لَفْظُهُ .
وَهَذَا
عُمْدَةُ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ
" وَلِلْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ هَذَا
أَجْوِبَةٌ .
أَحَدُهَا : قَوْلُ مَنْ يُنَازِعُهُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ
مُرَادِفٌ لِلتَّصْدِيقِ وَيَقُولُ هُوَ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ .
وَالثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ هُوَ
التَّصْدِيقَ ؛ فَالتَّصْدِيقُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { وَالْفَرْجُ
يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } " .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ هُوَ مُطْلَقَ التَّصْدِيقِ بَلْ هُوَ
تَصْدِيقٌ خَاصٌّ مُقَيَّدٌ بِقُيُودِ اتَّصَلَ اللَّفْظُ بِهَا وَلَيْسَ هَذَا
نَقْلًا لِلَّفْظِ وَلَا تَغْيِيرًا لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا
بِإِيمَانِ مُطْلَقٍ بَلْ بِإِيمَانِ خَاصٍّ وَصَفَهُ وَبَيَّنَهُ .
وَالرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ : وَإِنْ كَانَ هُوَ التَّصْدِيقَ ؛ فَالتَّصْدِيقُ
التَّامُّ الْقَائِمُ بِالْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِمَا وَجَبَ مِنْ أَعْمَالِ
الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ فَإِنَّ هَذِهِ لَوَازِمُ الْإِيمَانِ التَّامِّ ،
وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ ، وَنَقُولُ :
إنَّ هَذِهِ اللَّوَازِمَ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى اللَّفْظِ تَارَةً وَتَخْرُجُ
عَنْهُ أُخْرَى .
الْخَامِسُ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اللَّفْظَ بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ فِي
اللُّغَةِ وَلَكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِيهِ أَحْكَامًا .
السَّادِسُ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الشَّارِعَ اسْتَعْمَلَهُ فِي مَعْنَاهُ
الْمَجَازِيِّ ؛ فَهُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ .
السَّابِعُ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ مَنْقُولٌ . فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ : ( الْأَوَّلُ ) : قَوْلُ مَنْ يُنَازِعُ فِي أَنَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ وَيَقُولُ : لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقَ ؛ بَلْ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ . " قَوْلُهُ " : إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ هُوَ التَّصْدِيقُ . فَيُقَالُ لَهُ : مَنْ نَقَلَ هَذَا الْإِجْمَاعَ ؟ وَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ هَذَا الْإِجْمَاعُ ؟ وَفِي أَيِّ كِتَابٍ ذُكِرَ هَذَا الْإِجْمَاعُ ؟ . ( الثَّانِي ) : أَنْ يُقَالَ : أَتَعْنِي بِأَهْلِ اللُّغَةِ نَقَلَتَهَا كَأَبِي عَمْرٍو وَالْأَصْمَعِيِّ وَالْخَلِيلِ وَنَحْوِهِمْ ؛ أَوْ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَا ؟ فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ ؛ فَهَؤُلَاءِ لَا يَنْقُلُونَ كُلَّ مَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِإِسْنَادِ وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ مَا سَمِعُوهُ مِنْ الْعَرَبِ فِي زَمَانِهِمْ وَمَا سَمِعُوهُ فِي دَوَاوِينِ الشِّعْرِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِالْإِسْنَادِ وَلَا نَعْلَمُ فِيمَا نَقَلُوهُ لَفْظَ الْإِيمَانِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ . وَإِنْ عَنَيْت الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ؛ فَهَؤُلَاءِ لَمْ نَشْهَدْهُمْ وَلَا نَقَلَ لَنَا أَحَدٌ عَنْهُمْ ذَلِكَ . ( الثَّالِثُ ) : أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ ؛ بَلْ وَلَا عَنْ بَعْضِهِمْ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَالَهُ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ ؛ فَلَيْسَ هَذَا إجْمَاعًا . ( الرَّابِعُ ) : أَنْ يُقَالَ : هَؤُلَاءِ لَا يَنْقُلُونَ عَنْ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا : مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ كَذَا وَكَذَا ؛ وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ الْكَلَامَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْعَرَبِ وَأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا وَحِينَئِذٍ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ نَقَلُوا كَلَامًا عَنْ الْعَرَبِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ
التَّصْدِيقُ ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَبْلَغَ مِنْ نَقْلِ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً لِلْقُرْآنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ يَظُنُّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى وَلَمْ يُرِدْهُ ؛ فَظَنُّ هَؤُلَاءِ ذَلِكَ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ الْعَرَبِ أَوْلَى . ( الْخَامِسُ ) : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا ؛ فَهُمْ آحَادٌ لَا يَثْبُتُ بِنَقْلِهِمْ التَّوَاتُرُ و " التَّوَاتُرُ " مِنْ شَرْطِهِ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ وَأَيْنَ التَّوَاتُرُ الْمَوْجُودُ عَنْ الْعَرَبِ قَاطِبَةً قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ ؟ إنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ لِلْإِيمَانِ مَعْنًى غَيْرَ التَّصْدِيقِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَقْدَحُ فِي الْعِلْمِ بِاللُّغَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ ؛ قِيلَ : فَلْيَكُنْ . وَنَحْنُ لَا حَاجَةَ بِنَا مَعَ بَيَانِ الرَّسُولِ لِمَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ أَنْ نَعْرِفَ اللُّغَةَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَاَلَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ كَانُوا عَرَبًا وَقَدْ فَهِمُوا مَا أُرِيدَ بِهِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ ثُمَّ الصَّحَابَةُ بَلَّغُوا لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ إلَى التَّابِعِينَ حَتَّى انْتَهَى إلَيْنَا فَلَمْ يَبْقَ بِنَا حَاجَةٌ إلَى أَنْ تَتَوَاتَرَ عِنْدَنَا تِلْكَ اللُّغَةُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ تَوَاتُرِ الْقُرْآنِ ، لَكِنْ لَمَّا تَوَاتَرَ الْقُرْآنُ لَفْظًا وَمَعْنًى وَعَرَفْنَا أَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ ؛ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ فِي لُغَتِهِمْ لَفْظُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مَعْنَاهَا فِي الْقُرْآنِ . وَإِلَّا فَلَوْ كُلِّفْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا لِآحَادِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ ؛ لَتَعَذَّرَ عَلَيْنَا ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ أَنَّ جَمِيعَ الْعَرَبِ كَانَتْ تُرِيدُ بِاللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ هَذَا يَتَعَذَّرُ الْعِلْمُ بِهِ ، وَالْعِلْمُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ بَلْ الصَّحَابَةُ بَلَّغُوا مَعَانِيَ
الْقُرْآنِ كَمَا بَلَّغُوا لَفْظَهُ . وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ قَوْمًا سَمِعُوا كَلَامًا أَعْجَمِيًّا وَتَرْجَمُوهُ لَنَا بِلُغَتِهِمْ ؛ لَمْ نَحْتَجْ إلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الَّتِي خُوطِبُوا بِهَا أَوَّلًا . ( السَّادِسُ ) : أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شَاهِدًا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِمْ ؛ وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِ النَّاسِ : فُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالشَّفَاعَةِ وَفُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَفُلَانٌ يُؤْمِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَفُلَانٌ لَا يُؤْمِنُ بِذَلِكَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَرَبِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ ؛ بَلْ هُوَ مِمَّا تَكَلَّمَ النَّاسُ بِهِ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ لَمَّا صَارَ مِنْ النَّاسِ أَهْلُ الْبِدَعِ يُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ ، وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ هُوَ مُرَادُهُمْ بِقَوْلِهِ : فُلَانٌ يُؤْمِنُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَفُلَانٌ لَا يُؤْمِنُ بِذَلِكَ . وَالْقَائِلُ لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ دَاخِلًا فِي مُرَادِهِ ؛ فَلَيْسَ مُرَادُهُ ذَلِكَ وَحْدَهُ ، بَلْ مُرَادُهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِدُونِ اللِّسَانِ لَا يُعْلَمُ حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ عَنْهُ . ( السَّابِعُ ) : أَنْ يُقَالَ : مَنْ قَالَ ذَلِكَ ؛ فَلَيْسَ مُرَادُهُ التَّصْدِيقَ بِمَا يُرْجَى وَيُخَافُ بِدُونِ خَوْفٍ وَلَا رَجَاءٍ ؛ بَلْ يُصَدِّقُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَيَخَافُهُ وَيُصَدِّقُ بِالشَّفَاعَةِ وَيَرْجُوهَا . وَإِلَّا فَلَوْ صَدَّقَ بِأَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ خَوْفٌ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا لَمْ يُسَمُّوهُ مُؤْمِنًا بِهِ كَمَا أَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ مُؤْمِنًا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ إلَّا مَنْ رَجَا الْجَنَّةَ وَخَافَ النَّارَ ، دُونَ الْمَعْرِضِ عَنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ حَقٌّ . كَمَا لَا يُسَمُّونَ إبْلِيسَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِوُجُودِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ ، وَلَا يُسَمُّونَ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنًا وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُوسَى وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
الْآيَاتِ وَقَدْ اسْتَيْقَنَتْ بِهَا أَنْفُسُهُمْ مَعَ جَحْدِهِمْ لَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ ، وَلَا يُسَمُّونَ الْيَهُودَ مُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ وَإِنْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ حَقٌّ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ . فَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ وُجُودَ شَيْءٍ مِمَّا يُخَافُ وَيُرْجَى وَيَجِبُ حُبُّهُ وَتَعْظِيمُهُ ؛ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يُعَظِّمُهُ وَلَا يَخَافُهُ وَلَا يَرْجُوهُ ، بَلْ يَجْحَدُ بِهِ وَيُكَذِّبُ بِهِ بِلِسَانِهِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : هُوَ مُؤْمِنٌ ، بَلْ وَلَوْ عَرَفَهُ بِقَلْبِهِ وَكَذَّبَ بِهِ بِلِسَانِهِ لَمْ يَقُولُوا : هُوَ مُصَدِّقٌ بِهِ . وَلَوْ صَدَّقَ بِهِ مَعَ الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُقْتَضَاهُ لَمْ يَقُولُوا هُوَ مُؤْمِنٌ بِهِ . فَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ . وَقَوْلُهُ : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْقُرْآنِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُصَدِّقَ مُرَادِفٌ لِلْمُؤْمِنِ فَإِنَّ صِحَّةَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلْآخَرِ كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ . ( الْوَجْهُ الثَّامِنُ ) : قَوْلُهُ : لَا يَعْرِفُونَ فِي اللُّغَةِ إيمَانًا غَيْرَ ذَلِكَ . مِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا النَّفْيُ الَّذِي لَا تُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ ؟ بَلْ هُوَ قَوْل بِلَا عِلْمٍ . ( التَّاسِعُ ) : قَوْل مَنْ يَقُولُ : أَصْلُ الْإِيمَانِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَمْنِ كَمَا سَتَأْتِي أَقْوَالُهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَقَدْ نَقَلُوا فِي اللُّغَةِ الْإِيمَانَ بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى . كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْبَيَانِ فِي قَوْل (1) .
( الْوَجْهُ الْعَاشِرُ ) : أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ ؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقَ بِكُلِّ شَيْءٍ ، بَلْ بِشَيْءِ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْإِيمَانُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَخَصَّ مِنْ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَاصَّ يَنْضَمُّ إلَيْهِ قُيُودٌ لَا تُوجَدُ فِي جَمِيعِ الْعَامِّ ، كَالْحَيَوَانِ إذَا أُخِذَ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ كَانَ فِيهِ الْمَعْنَى الْعَامُّ وَمَعْنًى اخْتَصَّ بِهِ وَذَلِكَ الْمَجْمُوعُ لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْعَامَّ . فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ ؛ أَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا مِنْ التَّصْدِيقِ الْعَامِّ فَلَا يَكُونُ مُطَابِقًا لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ اللِّسَانِ وَلَا قَلْبِهِ ؛ بَلْ يَكُونُ الْإِيمَانُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُؤَلَّفًا مِنْ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ كَالْإِنْسَانِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ وَأَنَّهُ نَاطِقٌ . ( الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ ) : أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ إيمَانٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُفَسَّرٍ ؛ بَلْ لَفْظُ الْإِيمَانِ فِيهِ إمَّا مُقَيَّدٌ وَإِمَّا مُطْلَقٌ مُفَسَّرٌ . " فَالْمُقَيَّدُ " كَقَوْلِهِ { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } وَقَوْلِهِ : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } و " الْمُطْلَقُ الْمُفَسَّرُ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الْآيَةَ . وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَوْلِهِ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ . وَكُلُّ إيمَانٍ مُطْلَقٍ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ يُبَيِّنُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إلَّا بِالْعَمَلِ مَعَ التَّصْدِيقِ ؛ فَقَدْ بَيَّنَ فِي
الْقُرْآنِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَمَلٍ مَعَ التَّصْدِيقِ كَمَا ذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ . فَإِنْ قِيلَ : تِلْكَ الْأَسْمَاءُ بَاقِيَةٌ وَلَكِنْ ضَمَّ إلَى الْمُسَمَّى أَعْمَالًا فِي الْحُكْمِ لَا فِي الِاسْمِ كَمَا يَقُولُهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ . قِيلَ : إنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا قِيلَ مِثْلُهُ فِي الْإِيمَانِ . وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ لِبَعْضِهِمْ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ عَنْهُ بِجَوَابِ صَحِيحٍ بَلْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ ذَلِكَ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ مَعَ التَّصْدِيقِ . وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ بِكَثِيرِ مِنْ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ . فَإِنَّ تِلْكَ إنَّمَا فَسَّرَتْهَا السُّنَّةُ " وَالْإِيمَانُ " بَيَّنَ مَعْنَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ . ( الثَّانِيَ عَشَرَ ) : أَنَّهُ إذَا قِيلَ : إنَّ الشَّارِعَ خَاطَبَ النَّاسَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ ؛ فَإِنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِلُغَتِهِمْ الْمَعْرُوفَةِ وَقَدْ جَرَى عُرْفُهُمْ أَنَّ الِاسْمَ يَكُونُ مُطْلَقًا وَعَامًّا ثُمَّ يَدْخُلُ فِيهِ قَيْدٌ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَاهُ كَمَا يَقُولُونَ : ذَهَبَ إلَى الْقَاضِي وَالْوَالِي وَالْأَمِيرِ يُرِيدُونَ شَخْصًا مُعَيَّنًا يَعْرِفُونَهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ اللَّامُ مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ . وَهَذَا الِاسْمُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ جِنْسٍ لَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ شَخْصٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ إنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِلَامِ التَّعْرِيفِ وَقَدْ عَرَّفَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ الْإِيمَانُ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا . وَالدُّعَاءُ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا . فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي لُغَتِهِمْ التَّصْدِيقُ . فَإِنَّهُ قَدْ يُبَيِّنُ أَنِّي لَا أَكْتَفِي بِتَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَضْلًا عَنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَحْدَهُ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ التَّصْدِيقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
لَمْ يَرْتَابُوا } { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تُؤْمِنُونَ حَتَّى تَكُونُوا كَذَا } " . وَفِي قَوْله تَعَالَى { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . وَفِي قَوْلِهِ : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } " . وَقَوْلِهِ : " { لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } " . وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِ هُوَ أَنْ يَكُونَ تَصْدِيقًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ لِلُّغَةِ وَلَا نَقْلٍ لَهَا . ( الثَّالِثَ عَشَرَ ) : أَنْ يُقَالَ : بَلْ نَقَلَ وَغَيَّرَ . قَوْلُهُ : لَوْ فَعَلَ لَتَوَاتَرَ . قِيلَ : نَعَمْ . وَقَدْ تَوَاتَرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ مَعَانِيَهَا الْمَعْرُوفَةَ . وَأَرَادَ بِالْإِيمَانِ مَا بَيَّنَهُ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِ كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ فِي " الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ " وَمُتَوَاتِرٌ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ لِأَحَدِ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَرَائِضَ . وَمُتَوَاتِرٌ عَنْهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ : مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يُعَذَّبْ وَأَنَّ الْفُسَّاقَ لَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ ؛ بَلْ هُمْ مُعَرَّضُونَ لِلْعَذَابِ . فَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ مِنْ مَعَانِي اسْمِ الْإِيمَانِ وَأَحْكَامِهِ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ عَنْهُ فِي غَيْرِهِ فَأَيُّ تَوَاتُرٍ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَقَدْ تَوَفَّرَتْ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ وَإِظْهَارِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلًا يُنَاقِضُ هَذَا . لَكِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ . وَلَمْ يَقُلْ :
إنَّ الْمُؤْمِنَ يَدْخُلُهَا ، وَلَا قَالَ إنَّ الْفُسَّاقَ مُؤْمِنُونَ . لَكِنْ أَدْخَلَهُمْ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ كَمَا أَدْخَلَ الْمُنَافِقِينَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ مَعَ الْقُيُودِ . وَأَمَّا الِاسْمُ الْمُطْلَقُ الَّذِي وُعِدَ أَهْلُهُ بِالْجَنَّةِ ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ لَا هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ . ( الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ ) : قَوْلُهُ : وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ - بِالْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ - عَنْ ظَاهِرِهَا ؛ فَيُقَالُ لَهُ : الْآيَاتُ الَّتِي فَسَّرَتْ الْمُؤْمِنَ وَسَلَبَتْ الْإِيمَانَ عَمَّنْ لَمْ يَعْمَلْ ؛ أَصْرَحُ وَأَبْيَنُ وَأَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ . ثُمَّ إذَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ ؛ فَمَا ذَكَرَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا . وَلِهَذَا لَمَّا خَاطَبَهُمْ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لَمْ يَقُولُوا : هَذَا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ . بَلْ خَاطَبَهُمْ بِاسْمِ الْمُنَافِقِينَ وَقَدْ ذَكَرَ أَهْل اللُّغَةِ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يَقُولُوا : إنَّهُ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَفَقَ إذَا خَرَجَ ؛ فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَقًّا مِنْ لُغَتِهِمْ وَقَدْ تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ فِي لُغَتِهِمْ ؛ لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا . ( الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ ) : أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَيْسَتْ عَرَبِيَّةً فَلَيْسَ تَخْصِيصُ عُمُومِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِأَعْظَمَ مِنْ إخْرَاجِ لَفْظِ الْإِيمَانِ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ ، فَإِنَّ النُّصُوصَ الَّتِي تَنْفِي الْإِيمَانَ عَمَّنْ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا يَخَافُ اللَّهَ وَلَا يَتَّقِيهِ وَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا مِنْ الْوَاجِبِ وَلَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمِ ؛ كَثِيرَةٌ صَرِيحَةٌ . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهَا عَارَضَهَا آيَةٌ ؛ كَانَ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ الْقَلِيلِ الْعَامِّ أَوْلَى مِنْ رَدِّ النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ .
( السَّادِسَ عَشَرَ ) : أَنَّ هَؤُلَاءِ وَاقِفَةٌ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ لَا يَقُولُونَ بِعُمُومِهَا ، وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ : الرَّسُولُ وَقَفَنَا عَلَى مَعَانِي الْإِيمَانِ وَبَيَّنَهُ لَنَا . وَعَلِمْنَا مُرَادَهُ مِنْهُ بِالِاضْطِرَارِ وَعَلِمْنَا مِنْ مُرَادِهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّ مَنْ قِيلَ : إنَّهُ صَدَّقَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَلَا صَلَّى وَلَا صَامَ وَلَا أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا خَافَ اللَّهَ ؛ بَلْ كَانَ مُبْغِضًا لِلرَّسُولِ مُعَادِيًا لَهُ يُقَاتِلُهُ ؛ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنِ . كَمَا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَفَعَلُوا ذَلِكَ مَعَهُ ؛ كَانُوا عِنْدَهُ كُفَّارًا لَا مُؤْمِنِينَ فَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَنَا بِالِاضْطِرَارِ أَكْثَرُ مِنْ عِلْمِنَا بِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ لَيْسَ فِيهِ لَفْظٌ غَيْرُ عَرَبِيٍّ . فَلَوْ قُدِّرَ التَّعَارُضُ ؛ لَكَانَ تَقْدِيمُ ذَلِكَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ أَوْلَى . فَإِنْ قَالُوا : مَنْ عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ كَفَّرَهُ عُلِمَ انْتِفَاءُ التَّصْدِيقِ مِنْ قَلْبِهِ . قِيلَ لَهُمْ : هَذِهِ مُكَابَرَةٌ ، إنْ أَرَادُوا أَنَّهُمْ كَانُوا شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ . وَأَمَّا إنْ عُنِيَ التَّصْدِيقُ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ عَمَلٌ ؛ فَهُوَ نَاقِصٌ كَالْمَعْدُومِ ؛ فَهَذَا صَحِيحٌ . ثُمَّ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعِلْمِهِ وَذَاكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ تَسْلِيمِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي مِنْهَا هَذَا فَلَا تَثْبُتُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى مَعَ كُفْرِ صَاحِبِهَا . ثُمَّ يُقَالُ : قَدْ عَلِمْنَا بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْيَهُودَ وَغَيْرَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ وَكَانَ يَحْكُمُ بِكُفْرِهِمْ . فَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ دِينِهِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ يَكْفُرُ الشَّخْصُ مَعَ ثُبُوتِ التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِهِ فِي الْقَلْبِ إذَا لَمْ يَعْمَلْ بِهَذَا التَّصْدِيقِ بِحَيْثُ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُسَلِّمُ لِمَا جَاءَ بِهِ .
وَمِمَّا يُعَارِضُونَ بِهِ أَنْ يُقَالَ : هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا ؛ فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ ، بَلْ عَلَى قَوْلِ الكَرَّامِيَة ، مِنْهُ عَلَى قَوْلِكُمْ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ إذَا كَانَ هُوَ التَّصْدِيقَ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَالتَّصْدِيقُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ ، فَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ ، بَلْ فِي اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى ، أَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ عَنْ اللَّفْظِ ، بَلْ لَا يُوجَدُ قَطُّ إطْلَاقُ اسْمِ الْكَلَامِ وَلَا أَنْوَاعِهِ : كَالْخَبَرِ أَوْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى مُجَرَّدِ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ عِبَارَةٍ وَلَا إشَارَةٍ وَلَا غَيْرِهِمَا ؛ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ إنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ ؛ فَهِيَ لَا تَعْرِفُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ الْأَقْوَالِ إلَّا مَا كَانَ مَعْنًى وَلَفْظًا أَوْ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ أَحَدًا مُصَدِّقًا لِلرُّسُلِ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى يُصَدِّقُوهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ . وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ : فُلَانٌ صَدَّقَ فُلَانًا أَوْ كَذَّبَهُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ أَوْ كَاذِبٌ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِذَلِكَ . كَمَا لَا يُقَالُ : أَمَرَهُ أَوْ نَهَاهُ إذَا قَامَ بِقَلْبِهِ طَلَبٌ مُجَرَّدٌ عَمَّا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ إشَارَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا . وَلَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ } " . وَقَالَ : " { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } " اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَامِدًا لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهَا ؛ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ . وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ تَصْدِيقٍ
بِأُمُورِ دُنْيَوِيَّةٍ وَطَلَبٍ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا يُبْطِلُهَا التَّكَلُّمُ بِذَلِكَ . فَعُلِمَ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَلَامِ . وَأَيْضًا فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } " فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ إلَّا أَنْ تَتَكَلَّمَ ؛ فَفَرَّقَ بَيْنَ حَدِيثِ النَّفْسِ وَبَيْنَ الْكَلَامِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهِ ، وَالْمُرَادُ حَتَّى يَنْطِقَ بِهِ اللِّسَانُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي اللُّغَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ - كَمَا قَرَّرَ - إنَّمَا خَاطَبَنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ . وَأَيْضًا فَفِي " السُّنَنِ " { أَنَّ مُعَاذًا قَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ : وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ } " . فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ مَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ . وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ } " . " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } " وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا } وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ وَهُنَّ فِي
الْقُرْآنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } " . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَفِي الْجُمْلَةِ : حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ أَتْبَاعِهِمْ أَوْ مُكَذِّبِيهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا وَيَقُولُونَ وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْمَعْنَى مَعَ اللَّفْظِ . فَهَذَا اللَّفْظُ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ مِنْ فِعْلٍ مَاضٍ وَمُضَارِعٍ وَأَمْرٍ وَمَصْدَرٍ وَاسْمِ فَاعِلٍ مِنْ لَفْظِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهِمَا ؛ إنَّمَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَسَائِرِ كَلَامِ الْعَرَبِ إذَا كَانَ لَفْظًا وَمَعْنًى وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُهُ كَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَحَدًا جَحْدُهُ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى . وَلَمْ يَكُنْ فِي مُسَمَّى " الْكَلَامِ " نِزَاعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَتَابِعِيهِمْ لَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ . بَلْ أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُ جَعَلَ مُسَمَّى الْكَلَامِ الْمَعْنَى فَقَطْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ - فِي زَمَنِ مِحْنَةِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ - وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ وَعُلَمَاءُ الْبِدْعَةِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ صِفَاتِ بَنِي آدَمَ - كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } . وَلَفْظُهُ لَا تُحْصَى وُجُوهُهُ كَثْرَةً - لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ حَتَّى جَاءَ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ . فَإِنْ قَالُوا : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ } وَقَالَ : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } وَنَحْوَ ذَلِكَ .
قِيلَ : إنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ سِرًّا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ . قَالُوا : كَانُوا يَقُولُونَ : سَامٌ عَلَيْك فَإِذَا خَرَجُوا يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ : لَوْ كَانَ نَبِيًّا عُذِّبْنَا بِقَوْلِنَا لَهُ مَا نَقُولُ . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ فَهَذَا قَوْلٌ مُقَيَّدٌ بِالنَّفْسِ مِثْلَ قَوْلِهِ : " { عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا } " وَلِهَذَا قَالُوا : { لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } فَأَطْلَقُوا لَفْظَ الْقَوْلِ هُنَا وَالْمُرَادُ بِهِ مَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ لِأَنَّهُ النَّجْوَى وَالتَّحِيَّةُ الَّتِي نُهُوا عَنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } . مَعَ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ نَظَائِرُهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { يَقُولُ اللَّهُ : مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْته فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ } " لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ بِلِسَانِهِ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ ذَكَرَ اللَّهَ بِلِسَانِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } هُوَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ وَاَلَّذِي يُقَيِّدُ بِالنَّفْسِ لَفْظُ الْحَدِيثِ يُقَالُ : حَدِيثُ النَّفْسِ ، وَلَمْ يُوجَدْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : كَلَامُ النَّفْسِ وَقَوْلُ النَّفْسِ ؛ كَمَا قَالُوا : حَدِيثُ النَّفْسِ وَلِهَذَا يُعَبَّرُ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ عَنْ الْأَحْلَامِ الَّتِي تُرَى فِي الْمَنَامِ كَقَوْلِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } . وَقَوْلِ يُوسُفَ : { وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } وَتِلْكَ فِي النَّفْسِ لَا تَكُونُ بِاللِّسَانِ ؛ فَلَفْظُ الْحَدِيثِ قَدْ
يُقَيَّدُ بِمَا فِي النَّفْسِ بِخِلَافِ لَفْظِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَا فِي النَّفْسِ فَقَطْ . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } فَالْمُرَادُ بِهِ الْقَوْلُ الَّذِي تَارَةً يُسِرُّ بِهِ فَلَا يَسْمَعُهُ الْإِنْسَانُ وَتَارَةً يَجْهَرُ بِهِ فَيَسْمَعُونَهُ كَمَا يُقَالُ : أَسَرَّ الْقِرَاءَةَ وَجَهَرَ بِهَا وَصَلَاةُ السِّرِّ وَصَلَاةُ الْجَهْرِ . وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ : قُولُوهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ أَوْ بِقُلُوبِكُمْ وَمَا فِي النَّفْسِ لَا يُتَصَوَّرُ الْجَهْرُ بِهِ وَإِنَّمَا يُجْهَرُ بِمَا فِي اللِّسَانِ وَقَوْلُهُ : { إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ . يَقُولُ : إنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الصُّدُورِ فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ الْقَوْلَ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } فَلَوْ أَرَادَ بِالْقَوْلِ مَا فِي النَّفْسِ لِكَوْنِهِ ذَكَرَ عِلْمَهُ بِذَاتِ الصُّدُورِ لَمْ يَكُنْ قَدْ ذَكَرَ عِلْمَهُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْجَهْرُ . وَإِنْ قِيلَ : نَبَّهَ ، قِيلَ : بَلْ نَبَّهَ عَلَى الْقِسْمَيْنِ . وقَوْله تَعَالَى { آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا } قَدْ ذَكَرَ هَذَا فِي قَوْلِهِ : { ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } وَهُنَاكَ لَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ وَالْمَعْنَى آيَتُك أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ لَكِنْ تَرْمُزُ لَهُمْ رَمْزًا كَنَظَائِرِهِ فِي الْقُرْآنِ ، وَقَوْلُهُ : { فَأَوْحَى إلَيْهِمْ } هُوَ الرَّمْزُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الرَّمْزَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ لَكَانَ قَدْ دَخَلَ فِي الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } . وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ فِي لَفْظِ الْكَلَامِ الْمُطْلَقِ ؛ فَلَيْسَ فِي لُغَةِ الْقَوْمِ أَصْلًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا فِي النَّفْسِ يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْكَلَامِ وَالْقَوْلُ الْمُطْلَقُ ؛ فَضْلًا عَنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِلِسَانِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ لَا يُسَمَّى فِي لُغَةِ الْقَوْمِ مُؤْمِنًا كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَوَّرْت فِي نَفْسِي مُقَالَةً أَرَدْت أَنْ أَقُولَهَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : التَّزْوِيرُ : إصْلَاحُ الْكَلَامِ وَتَهْيِئَتُهُ قَالَ : وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ : الْمُزَوَّرُ مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُزَوَّقُ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُصْلَحُ الْحَسَنُ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : زَوَّرْت فِي نَفْسِي مُقَالَةً أَيْ هَيَّأْتهَا لِأَقُولَهَا . فَلَفْظُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدَّرَ فِي نَفْسِهِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَقُولَهُ وَلَمْ يَقُلْهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَوْلًا إلَّا إذَا قِيلَ بِاللِّسَانِ وَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلًا لَكِنْ كَانَ مُقَدَّرًا فِي النَّفْسِ يُرَادُ أَنْ يُقَالَ كَمَا يُقَدِّرُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يَحُجُّ وَأَنَّهُ يُصَلِّي وَأَنَّهُ يُسَافِرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ صُورَةٌ ذِهْنِيَّةٌ مُقَدَّرَةٌ فِي النَّفْسِ وَلَكِنْ لَا يُسَمَّى قَوْلًا وَعَمَلًا إلَّا إذَا وُجِدَ فِي الْخَارِجِ كَمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَاجًّا وَمُصَلِّيًا إلَّا إذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ فِي الْخَارِجِ وَلِهَذَا كَانَ مَا يَهُمُّ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ لَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُولَهُ وَيَفْعَلَهُ وَمَا هَمَّ بِهِ مِنْ الْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْعَمَلِ الْحَسَنِ إنَّمَا يُكْتَبُ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا صَارَ قَوْلًا وَفِعْلًا كُتِبَ لَهُ بِهِ عَشْرُ
حَسَنَاتٍ
إلَى سَبْعِمِائَةٍ وَعُوقِبَ عَلَيْهِ - إذَا قَالَ أَوْ فَعَلَ - كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ
لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ
تَعْمَلْ } " . وَأَمَّا الْبَيْتُ الَّذِي يُحْكَى عَنْ الْأَخْطَلِ أَنَّهُ
قَالَ :
إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا * * * جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى
الْفُؤَادِ دَلِيلًا
فَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ شِعْرِهِ . وَقَالُوا :
إنَّهُمْ فَتَّشُوا دَوَاوِينَهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ ، وَهَذَا يُرْوَى عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْخَشَّابِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَفْظُهُ : إنَّ الْبَيَانَ
لَفِي الْفُؤَادِ . وَلَوْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ فِي مَسْأَلَةٍ بِحَدِيثِ
أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَالُوا : هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ وَيَكُونُ مِمَّا اتَّفَقَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى تَصْدِيقِهِ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ وَهَذَا الْبَيْتُ لَمْ
يُثْبِتْ نَقْلَهُ عَنْ قَائِلِهِ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ لَا وَاحِدٌ وَلَا أَكْثَرُ
مِنْ وَاحِدٍ وَلَا تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ بِالْقَبُولِ فَكَيْفَ
يَثْبُتُ بِهِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ اللُّغَةِ فَضْلًا عَنْ مُسَمَّى الْكَلَامِ .
ثُمَّ يُقَالُ : مُسَمَّى الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَنَحْوِهِمَا لَيْسَ هُوَ
مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَوْلِ شَاعِرٍ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ
الْأَوَّلُونَ والآخرون مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَعَرَفُوا مَعْنَاهُ فِي لُغَتِهِمْ
كَمَا عَرَفُوا مُسَمَّى الرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ . وَأَيْضًا
فَالنَّاطِقُونَ بِاللُّغَةِ يُحْتَجُّ بِاسْتِعْمَالِهِمْ لِلْأَلْفَاظِ فِي
مَعَانِيهَا لَا بِمَا يَذْكُرُونَهُ
مِنْ
الْحُدُودِ فَإِنَّ أَهْلِ اللُّغَةِ النَّاطِقِينَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْهُمْ :
إنَّ الرَّأْسَ كَذَا وَالْيَدَ كَذَا وَالْكَلَامَ كَذَا وَاللَّوْنَ كَذَا بَلْ
يَنْطِقُونَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ دَالَّةً عَلَى مَعَانِيهَا فَتَعْرِفُ
لُغَتَهُمْ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمْ . فَعُلِمَ أَنَّ الْأَخْطَلَ لَمْ يُرِدْ
بِهَذَا أَنْ يَذْكُرَ مُسَمَّى " الْكَلَامِ " وَلَا أَحَدٌ مِنْ
الشُّعَرَاءِ يَقْصِدُ ذَلِكَ الْبَتَّةَ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ : إنْ كَانَ قَالَ
ذَلِكَ مَا فَسَّرَهُ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ لِلشِّعْرِ أَيْ أَصْلُ الْكَلَامِ
مِنْ الْفُؤَادِ وَهُوَ الْمَعْنَى ؛ فَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ بِلِسَانِهِ مَا
لَيْسَ فِي قَلْبِهِ فَلَا تَثِقْ بِهِ ؛ وَهَذَا كَالْأَقْوَالِ الَّتِي
ذَكَرَهَا اللَّهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ :
لَا يُعْجِبَنَّكَ مِنْ أَثِيرٍ لَفْظُهُ * * * حَتَّى يَكُونَ مَعَ الْكَلَامِ
أَصِيلَا
إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا * * * جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى
الْفُؤَادِ دَلِيلَا
نَهَاهُ أَنْ يُعْجَبَ بِقَوْلِهِ الظَّاهِرِ حَتَّى يُعْلَمَ مَا فِي قَلْبِهِ
مِنْ الْأَصْلِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : حَتَّى يَكُونَ مَعَ الْكَلَامِ أَصِيلَا .
وَقَوْلُهُ : " مَعَ الْكَلَامِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ
الظَّاهِرَ قَدْ سَمَّاهُ كَلَامًا وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ قِيَامُ مَعْنَاهُ
بِقَلْبِ صَاحِبِهِ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ؛ فَقَدْ اشْتَمَلَ شِعْرُهُ عَلَى
هَذَا وَهَذَا ؛ بَلْ قَوْلُهُ : " مَعَ الْكَلَامِ " مُطْلَقٌ .
وَقَوْلُهُ : إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ . أَرَادَ بِهِ أَصْلَهُ
وَمَعْنَاهُ الْمَقْصُودَ بِهِ ، وَاللِّسَانُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ . و "
بِالْجُمْلَةِ " فَمَنْ احْتَاجَ إلَى أَنْ يَعْرِفَ مُسَمَّى "
الْكَلَامِ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالتُّرْكِ
وَسَائِرِ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ فَإِنَّهُ مِنْ أَبْعَدِ
النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ طُرُقِ الْعِلْمِ . ثُمَّ هُوَ مِنْ الْمُوَلَّدِينَ ؛
وَلَيْسَ مِنْ الشُّعَرَاءِ الْقُدَمَاءِ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ
كَافِرٌ مُثَلِّثٌ وَاسْمُهُ الْأَخْطَلُ وَالْخَطَلُ فَسَادٌ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ وَالنَّصَارَى قَدْ أَخْطَئُوا فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ فَجَعَلُوا الْمَسِيحَ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ هُوَ نَفْسَ كَلِمَةِ اللَّهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ إنْ كَانَ " الْإِيمَانُ " فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقَ وَالْقُرْآنُ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ قَوْلٌ وَلَمْ يُسَمِّ الْعَمَلَ تَصْدِيقًا فَلَيْسَ الصَّوَابُ إلَّا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ : إنَّهُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى . أَوْ قَوْلُ الكَرَّامِيَة : إنَّهُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ فَقَطْ فَإِنَّ تَسْمِيَةَ قَوْلِ اللِّسَانِ قَوْلًا أَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ تَسْمِيَةِ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ قَوْلًا . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } وَقَوْلُهُ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا فِي النَّفْسِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُسَمَّى حَدِيثًا . والكَرَّامِيَة يَقُولُونَ : الْمُنَافِقُ مُؤْمِنٌ وَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ لِأَنَّهُ آمَنَ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ آمَنَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا . قَالُوا : وَالدَّلِيلُ عَلَى شُمُولِ الْإِيمَانِ لَهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وَيُخَاطَبُ فِي الظَّاهِرِ بِالْجُمُعَةِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا خُوطِبَ بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا . وَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَدْخُلُ فِي خِطَابِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ بِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَ الكَرَّامِيَة فِي الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا مُبْتَدَعًا لَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ فَقَوْلُ الْجَهْمِيَّة أَبْطَلُ مِنْهُ وَأُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِاللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ وَالْعَقْلِ مِنْ الْجَهْمِيَّة .
و " الكَرَّامِيَة " تُوَافِقُ الْمُرْجِئَةَ وَالْجَهْمِيَّة فِي أَنَّ إيمَانَ النَّاسِ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ ؛ بَلْ يَقُولُونَ : هُوَ مُؤْمِنٌ حَقًّا لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِذَا كَانَ مُنَافِقًا فَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ عِنْدَهُمْ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ آمَنَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ، وَمَنْ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْمُنَافِقُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ بَلْ يَقُولُونَ : الْمُنَافِقُ مُؤْمِنٌ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ كَمَا يُسَمِّيهِ غَيْرُهُمْ مُسْلِمًا إذْ الْإِسْلَامُ : هُوَ الِاسْتِسْلَامُ الظَّاهِرُ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ شَرْعًا وَلُغَةً وَعَقْلًا . وَإِذَا قِيلَ : قَوْلُ الكَرَّامِيَة قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قِيلَ : وَقَوْلُ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُ بَلْ السَّلَفُ كَفَّرُوا مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ . وَقَدْ احْتَجَّ النَّاسُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الكَرَّامِيَة بِحُجَجِ صَحِيحَةٍ وَالْحُجَجُ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة أَكْثَرُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } . قَالُوا : فَقَدْ نَفَى اللَّهُ الْإِيمَانَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ . فَنَقُولُ : هَذَا حَقٌّ فَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَقَدْ ضَلَّ مَنْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا . وَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ بِقَلْبِهِ عِلْمٌ وَتَصْدِيقٌ وَهُوَ يَجْحَدُ الرَّسُولَ وَيُعَادِيهِ كَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ سَمَّاهُمْ اللَّهُ كُفَّارًا لَمْ يُسَمِّهِمْ مُؤْمِنِينَ قَطُّ وَلَا دَخَلُوا فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ . بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي أَحْكَامِ الْإِيمَانِ الظَّاهِرَةِ فِي الدُّنْيَا ؛ بَلْ قَدْ نَفَى اللَّهُ الْإِيمَانَ عَمَّنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ إذَا لَمْ يَعْمَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا
قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ سِوَى هَؤُلَاءِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } . و " التَّوَلِّي " هُوَ التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى } { وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى } { الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } وَكَذَلِكَ قَالَ مُوسَى وَهَارُونُ : { إنَّا قَدْ أُوحِيَ إلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } . فَعُلِمَ أَنَّ " التَّوَلِّيَ " لَيْسَ هُوَ التَّكْذِيبَ بَلْ هُوَ التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ فَإِنَّ النَّاسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَدِّقُوا الرَّسُولَ فِيمَا أَخْبَرَ وَيُطِيعُوهُ فِيمَا أَمَرَ . وَضِدُّ التَّصْدِيقِ التَّكْذِيبُ وَضِدُّ الطَّاعَةِ التَّوَلِّي فَلِهَذَا قَالَ : { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى } { وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى بِالْقَوْلِ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } وَقَالَ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } . فَفِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَفْيِ الْإِيمَانِ عَمَّنْ لَمْ يَأْتِ بِالْعَمَلِ مَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ كَمَا نَفَى فِيهَا الْإِيمَانَ عَنْ الْمُنَافِقِ . وَأَمَّا الْعَالِمُ بِقَلْبِهِ مَعَ الْمُعَادَاةِ وَالْمُخَالَفَةِ الظَّاهِرَةِ
فَهَذَا
لَمْ يُسَمَّ قَطُّ مُؤْمِنًا ؛ وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّة إذَا كَانَ الْعِلْمُ فِي
قَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ إيمَانُهُ كَإِيمَانِ النَّبِيِّينَ
وَلَوْ قَالَ وَعَمِلَ مَاذَا عَسَى أَنْ يَقُولَ وَيَعْمَلَ ؟ وَلَا يُتَصَوَّرُ
عِنْدَهُمْ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ إلَّا إذَا زَالَ ذَلِكَ الْعِلْمُ
مِنْ قَلْبِهِ.
ثُمَّ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ يَقُولُونَ
بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ وَيَقُولُونَ : " الْإِيمَانُ فِي
الشَّرْعِ " هُوَ مَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي
اللُّغَةِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَجَعَلُوا فِي " مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ
" مُسَمَّى الْإِيمَانِ مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ مُسَمَّاهُ فِي الشَّرْعِ
وَعَدَلُوا عَنْ اللُّغَةِ . فَهَلَّا فَعَلُوا هَذَا فِي الْأَعْمَالِ .
وَدَلَالَةُ الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الْوَاجِبَةَ مِنْ تَمَامِ
الْإِيمَانِ لَا تُحْصَى كَثْرَةً بِخِلَافِ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا
يُسَمَّى إيمَانًا ؛ إلَّا مَا مَاتَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي
الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَهُوَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ
مِنْ السَّلَفِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الَّذِينَ اسْتَثْنَوْا فِي
الْإِيمَانِ مِنْ السَّلَفِ كَانَ هَذَا مَأْخَذَهُمْ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ
وَأَمْثَالَهُمْ لَمْ يَكُونُوا خَبِيرِينَ بِكَلَامِ السَّلَفِ بَلْ يَنْصُرُونَ
مَا يَظْهَرُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ بِمَا تَلَقَّوْهُ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ
الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فَيَبْقَى الظَّاهِرُ قَوْلُ
السَّلَفِ وَالْبَاطِنُ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ هُمْ أَفْسَدُ النَّاسِ
مَقَالَةً فِي الْإِيمَانِ . وَسَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَقْوَالَ
السَّلَفِ فِي " الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ " وَلِهَذَا لَمَّا
صَارَ يَظْهَرُ لِبَعْضِ أَتْبَاعِ أَبِي الْحَسَنِ فَسَادُ قَوْلِ جَهْمٍ فِي
الْإِيمَانِ خَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ اتَّبَعَ السَّلَفَ .
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي "
شَرْحِ الْإِرْشَادِ " لِأَبِي الْمَعَالِي بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ
أَصْحَابِهِ قَالَ : وَذَهَبَ أَهْلُ الْأَثَرِ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ جَمِيعُ
الطَّاعَاتِ
فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ إتْيَانُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَرْضًا وَنَفْلًا وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَى عَنْهُ تَحْرِيمًا وَأَدَبًا . قَالَ : وَبِهَذَا كَانَ يَقُولُ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا ؛ وَأَبُو الْعَبَّاسِ القلانسي . وَقَدْ مَالَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُجَاهِدٍ قَالَ : وَهَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ ، وَمُعْظَمِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ . وَكَانُوا يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُرْجِئَةِ : إنَّهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إذَا تَرَكَ التَّصْدِيقَ بِاللِّسَانِ عِنَادًا كَانَ كَافِرًا بِالشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ التَّصْدِيقُ وَالْعِلْمُ . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو إسْحَاقَ الإسفراييني . قَالَ الْأَنْصَارِيُّ : رَأَيْت فِي تَصَانِيفِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إنَّمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَقًّا إذَا حَقَّقَ إيمَانَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ إنَّمَا يَكُونُ عَالِمًا حَقًّا إذَا عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَقَالَ أَيْضًا أَبُو إسْحَاقَ : حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ : التَّصْدِيقُ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ والائتمار ، وَتَقُومُ الْإِشَارَةُ وَالِانْقِيَادُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ . وَقَالَ أَيْضًا أَبُو إسْحَاقَ فِي كِتَابِ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " : اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ اسْمَ الْإِيمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْصَافٌ كَثِيرَةٌ وَعَقَائِدُ مُخْتَلِفَةٌ وَإِنْ
اخْتَلَفُوا
فِيهَا عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرُوهُ وَاخْتَلَفُوا فِي إضَافَةِ مَا لَا يَدْخُلُ
فِي جُمْلَةِ التَّصْدِيقِ إلَيْهِ لِصِحَّةِ الِاسْمِ فَمِنْهَا تَرْكُ قَتْلِ
الرَّسُولِ وَتَرْكُ إيذَائِهِ وَتَرْكُ تَعْظِيمِ الْأَصْنَامِ فَهَذَا مِنْ
التروك ، وَمِنْ الْأَفْعَالِ نُصْرَةُ الرَّسُولِ وَالذَّبُّ عَنْهُ وَقَالُوا :
إنَّ جَمِيعَهُ يُضَافُ إلَى التَّصْدِيقِ شَرْعًا وَقَالَ آخَرُونَ : إنَّهُ مِنْ
الْكَبَائِرِ لَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ بِالْمُخَالَفَةِ فِيهِ عَنْ الْإِيمَانِ .
قُلْت : وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ لَيْسَا قَوْلَ جَهْمٍ ؛ لَكِنْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
فَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ هُوَ
شَيْئًا وَاحِدًا وَقَالَ : إنَّ الشَّرْعَ تَصَرَّفَ فِيهِ وَهَذَا يَهْدِمُ
أَصْلَهُمْ ؛ وَلِهَذَا كَانَ حُذَّاقُ هَؤُلَاءِ كَجَهْمِ والصالحي وَأَبِي
الْحَسَنِ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ
الْإِيمَانِ إلَّا بِزَوَالِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ .
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي : ( بَابٌ ) فِي ذِكْرِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ :
اعْلَمْ أَنَّ غَرَضَنَا فِي هَذَا الْبَابِ يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ ذِكْرِ
حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ . قَالَ : وَهَذَا مِمَّا تَبَايَنَتْ فِيهِ مَذَاهِبُ
الْإِسْلَامِيِّينَ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ
والكَرَّامِيَة ثُمَّ قَالَ : وَأَمَّا مَذَاهِبُ أَصْحَابِنَا فَصَارَ أَهْلُ
التَّحْقِيقِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالنُّظَّارِ مِنْهُمْ إلَى أَنَّ
الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَبِهِ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَ رَأْيُهُ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ ؛ وَقَالَ
مَرَّةً : الْمَعْرِفَةُ بِوُجُودِهِ وَقِدَمِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ . وَقَالَ
مَرَّةً : التَّصْدِيقُ : قَوْلٌ فِي النَّفْسِ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ
الْمَعْرِفَةَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ دُونَهَا وَهَذَا مُقْتَضَاهُ ؛ فَإِنَّ
التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَالصِّدْقَ وَالْكَذِبَ بِالْأَقْوَالِ أَجْدَرُ
فَالتَّصْدِيقُ إذًا قَوْلٌ فِي النَّفْسِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ فَتُوصَفُ الْعِبَادَةُ بِأَنَّهَا تَصْدِيقٌ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ التَّصْدِيقِ : وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : التَّصْدِيقُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَالْمَعْرِفَةِ جَمِيعًا فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَا تَصْدِيقًا وَاحِدًا . وَمِنْهُمْ مَنْ اكْتَفَى بِتَرْكِ الْعِنَادِ ؛ فَلَمْ يَجْعَلْ الْإِقْرَارَ أَحَدَ رُكْنَيْ الْإِيمَانِ فَيَقُولُ : الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَأَوْجَبَ تَرْكَ الْعِنَادِ بِالشَّرْعِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَجُوزُ أَنْ يَعْرِفَ الْكَافِرُ اللَّهَ وَإِنَّمَا يَكْفُرُ بِالْعِنَادِ لَا لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي الْإِيمَانِ . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُقَالُ : إنَّ الْيَهُودَ كَانُوا عَالِمِينَ بِاَللَّهِ وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا عِنَادًا وَبَغْيًا وَحَسَدًا . قَالَ وَعَلَى قَوْلِ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ : كُلُّ مَنْ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ فَنَقُولُ : إنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ أَصْلًا وَلَا عَرَفَ رَسُولَهُ وَلَا دِينَهُ . قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ تِلْمِيذُهُ : كَأَنَّ الْمَعْنَى : لَا حُكْمَ لِإِيمَانِهِ وَلَا لِمَعْرِفَتِهِ شَرْعًا . قُلْت : وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَمَا قَالَهُ الْأَنْصَارِيُّ هَذَا وَلَكِنْ عَلَى قَوْلِهِمْ : الْمُعَانِدُ كَافِرٌ شَرْعًا فَيَجْعَلُ الْكُفْرَ تَارَةً بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَتَارَةً بِالْعِنَادِ ، وَيُجْعَلُ هَذَا كَافِرًا فِي الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فِي الشَّرْعِ مَعَ أَنَّ مَعَهُ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ مِثْلُ إيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ . وَالْحُذَّاقُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ ؛ كَأَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ جَهْمٍ عَرَفُوا أَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ يُفْسِدُ الْأَصْلَ
فَقَالُوا : لَا يَكُونُ أَحَدٌ كَافِرًا إلَّا إذَا ذَهَبَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالْتَزَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِكُفْرِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَلَا مَعْرِفَةِ رَسُولِهِ وَلِهَذَا أَنْكَرَ هَذَا عَلَيْهِمْ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ وَقَالُوا : هَذَا مُكَابَرَةٌ وَسَفْسَطَةٌ . وَقَدْ احْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ } الْآيَةَ . قَالُوا : وَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ لَمْ يُكْتَبْ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانُ . قَالُوا : فَإِنْ قِيلَ مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُونَ إيمَانًا مُجْزِئًا مُعْتَدًّا بِهِ أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى : لَا يُؤَدُّونَ حُقُوقَ الْإِيمَانِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَاهُ . قُلْنَا : هَذَا عَامٌّ لَا يُخَصَّصُ إلَّا بِدَلِيلِ . فَيُقَالُ لَهُمْ : هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا نَفْيُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ يُوَادُّ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِيهَا أَنَّ مَنْ لَا يُوَادُّ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ مَحَبَّةِ الْقَلْبِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَمِنْ بُغْضِ مَنْ يُحَادُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ لَمْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَرْتَفِعُ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ وَالْإِيمَانُ الَّذِي كُتِبَ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ بَلْ هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَلِهَذَا قَالَ : { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَقَدْ وَعَدَهُمْ بِالْجَنَّةِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ بِالْجَنَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ قَدْ أَدَّوْا الْوَاجِبَاتِ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّونَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْأَبْرَارَ الْمُتَّقِينَ وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْفُسَّاقَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي هَذَا الْوَعْدِ وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مُؤْمِنٌ يُوَادُّ الْكُفَّارَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ التَّصْدِيقَ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُكَذِّبْ الرَّسُولَ وَهُوَ مَعَ هَذَا يُوَادُّ بَعْضَ الْكُفَّارِ ؛ فَالسَّلَفُ يَقُولُونَ : تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ مِنْ الْقَلْبِ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِزَوَالِ عَمَلِ الْقَلْبِ - الَّذِي هُوَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ - لَا يَسْتَلْزِمُ أَلَّا يَكُونَ فِي الْقَلْبِ مِنْ التَّصْدِيقِ شَيْءٌ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ كُلُّ مَنْ نَفَى الشَّرْعُ إيمَانَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ التَّصْدِيقِ أَصْلًا وَهَذَا سَفْسَطَةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ . وَكَذَلِكَ حَكَى ابْنُ فورك عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : الْإِيمَانُ هُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِ الْمُخْبِرِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ اعْتِقَادًا هُوَ عِلْمٌ وَمِنْهُ اعْتِقَادٌ لَيْسَ بِعِلْمِ ؛ وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ - وَهُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِهِ - إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِصِدْقِهِ فِي أَخْبَارِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ حَيٌّ ؛ وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ حَيٌّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْفِعْلِ ، وَهُوَ كَوْنُ الْعَالَمِ فِعْلًا لَهُ وَقَالَ : وَكَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ قَادِرًا وَلَهُ قُدْرَةٌ وَعَالِمًا وَلَهُ
عِلْمٌ وَمُرِيدًا وَلَهُ إرَادَةٌ وَسَائِرُ مَا لَا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ شَرَائِطِ الْإِيمَانِ . قُلْت : هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلَ الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْجَهْلَ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ هَلْ يَكُونُ جَهْلًا بِالْمَوْصُوفِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ بِالْمَوْصُوفِ . وَجَعْلُ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ مِنْ الْإِيمَانِ مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْأَشْعَرِيُّ جَهْمًا فَإِنَّ جَهْمًا غَالٍ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ بَلْ وَفِي نَفْيِ الْأَسْمَاءِ . قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : ثُمَّ السَّمْعُ وَرَدَ بِضَمِّ شَرَائِطَ أُخَرَ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِ مَنْ يَأْتِيهِ فِعْلًا وَتَرْكًا وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَهُ بِتَرْكِ الْعِبَادَةِ وَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ فَلَوْ أَتَى بِهِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ اسْتَخَفَّ بِهِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ تَعْظِيمَ الْمُصْحَفِ أَوْ الْكَعْبَةِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ . قَالَ : وَأَحَدُ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى كُفْرِهِ مَا مَنَعَ الشَّرْعُ أَنْ يُقْرَنَ بِالْإِيمَانِ أَوْ أَوْجَبَ ضَمَّهُ إلَى الْإِيمَانِ لَوْ وُجِدَ دَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ مَفْقُودٌ مِنْ قَلْبِهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَفَرَ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ فَإِنَّمَا كَفَّرْنَاهُ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى فَقْدِ مَا هُوَ إيمَانٌ مِنْ قَلْبِهِ ؛ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَقْضِيَ السَّمْعُ بِكُفْرِ مَنْ مَعَهُ الْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ بِقَلْبِهِ . فَيُقَالُ : لَا رَيْبَ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْضِي بِكُفْرِ مَنْ مَعَهُ الْإِيمَانُ بِقَلْبِهِ لَكِنَّ دَعْوَاكُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْقَلْبِ غَلَطٌ ، وَلِهَذَا قَالُوا : أَعْمَالُ التَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ قَلْبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ حَكَمَتْ بِكُفْرِهِ ؛ وَالشَّرِيعَةُ لَا تَحْكُمُ بِكُفْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُصَدِّقِ ؛ وَلِهَذَا نَقُولُ : إنَّ كُفْرَ إبْلِيسَ
لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ أَشَدَّ مِنْ كُفْرِ كُلِّ كَافِرٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ اللَّهَ بِصِفَاتِهِ قَطْعًا وَلَا آمَنَ بِهِ إيمَانًا حَقِيقِيًّا بَاطِنًا وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ الْقَوْلُ وَالْعِبَادَةُ وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْكَفَرَةِ لَمْ يُوجَدْ فِي قُلُوبِهِمْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ الْمُعْتَدِّ بِهِ فِي حَالِ حُكْمِنَا لَهُمْ بِالْكُفْرِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } وَقَوْلُهُ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الْآيَةَ فَجَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمُورَ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِيمَانِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَعْرِفَةُ بِشَرَائِطَ لَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ دُونَهَا . فَيُقَالُ : إنْ قُلْتُمْ : إنَّهُ ضَمَّ إلَى مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ شُرُوطًا فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَوْ الِاسْمِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَوْلَ جَهْمٍ ؛ بَلْ يَكُونُ هَذَا قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ - كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ هُوَ - وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالدُّعَاءِ لَكِنَّ الشَّارِعَ ضَمَّ إلَيْهِ أُمُورًا إمَّا فِي الْحُكْمِ وَإِمَّا فِي الْحُكْمِ وَالِاسْمِ ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ سَلَّمَ صَاحِبُهُ أَنَّ حُكْمَ الْإِيمَانِ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تِلْكَ الشَّرَائِطِ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُمْكِنُهُ جَعْلُ الْفَاسِقِ مُؤْمِنًا إلَّا بِدَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ : إنَّ مَعَهُ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ وَمَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ هُوَ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ يَقُولُ : كُلُّ كَافِرٍ فِي النَّارِ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ التَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ شَيْءٌ لَا مَعَ إبْلِيسَ وَلَا مَعَ غَيْرِهِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُلٌّ فِيهَا إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } . فَقَدْ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ الرُّسُلَ أَتَتْهُمْ وَتَلَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ وَأَنْذَرَتْهُمْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ؛ فَقَدْ عَرَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ كُفَّارٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } فَقَدْ كَذَّبُوا بِوُجُودِهِ وَكَذَّبُوا بِتَنْزِيلِهِ . وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَعَرَفُوا الْجَمِيعَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } إلَى قَوْلِهِ : { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } إلَى آيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ فِي الْآخِرَةِ يَعْرِفُونَ رَبَّهُمْ فَإِنْ كَانَ مُجَرَّدُ الْمَعْرِفَةِ إيمَانًا كَانُوا مُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ . فَإِنْ قَالُوا : الْإِيمَانُ فِي الْآخِرَةِ لَا يَنْفَعُ وَإِنَّمَا الثَّوَابُ عَلَى الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا . قِيلَ : هَذَا صَحِيحٌ لَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِيمَانُ إلَّا مُجَرَّدَ الْعِلْمِ ؛ فَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ لَا تَخْتَلِفُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَمَلُ مِنْ الْإِيمَانِ فَالْعَارِفُ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ . لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا يَدَّعُونَهُ أَنَّهُ حِينَ مَاتَ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالرَّبِّ شَيْءٌ . وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُصَدِّقِينَ بِالرَّبِّ حَتَّى فِرْعَوْنُ الَّذِي أَظْهَرَ التَّكْذِيبَ كَانَ فِي بَاطِنِهِ مُصَدِّقًا . قَالَ تَعَالَى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } وَكَمَا قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ : { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ
مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } وَمَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ؛ بَلْ قَالَ مُوسَى : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } قَالَ اللَّهُ : { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } وَلَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ : { آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ } . قَالَ اللَّهُ : { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } . فَوَصَفَهُ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَصِفْهُ بِعَدَمِ الْعِلْمِ فِي الْبَاطِنِ كَمَا قَالَ : { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } وَكَمَا قَالَ عَنْ إبْلِيسَ : { فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } { إلَّا إبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } فَلَمْ يَصِفْهُ إلَّا بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَمُعَارَضَتِهِ الْأَمْرَ ، لَمْ يَصِفْهُ بِعَدَمِ الْعِلْمِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالصَّانِعِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } . ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : إذَا قُلْتُمْ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوْ بِهِمَا ؛ فَهَلْ هُوَ التَّصْدِيقُ الْمُجْمَلُ ؟ أَوْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ ؟ فَلَوْ صَدَّقَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَعْرِفْ صِفَاتِ الْحَقِّ هَلْ يَكُونُ مُؤْمِنًا أَمْ لَا ؟ فَإِنْ جَعَلُوهُ مُؤْمِنًا . قِيلَ : فَإِذَا بَلَغَهُ ذَلِكَ فَكَذَّبَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَصَارَ بَعْضُ الْإِيمَانِ أَكْمَلَ مِنْ بَعْضٍ ؛ وَإِنْ قَالُوا : لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا لَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مُؤْمِنًا حَتَّى يَعْرِفَ تَفْصِيلَ كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَكْثَرَ الْأُمَّةِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُمْ الْإِيمَانُ لَا يَتَفَاضَلُ إلَّا بِالدَّوَامِ فَقَطْ . قَالَ أَبُو الْمَعَالِي : فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ : أَصْلُكُمْ يَلْزَمُكُمْ أَنْ يَكُونَ إيمَانُ الْمُنْهَمِكِ فِي فِسْقِهِ كَإِيمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قُلْنَا : الَّذِي يُفَضِّلُ إيمَانَهُ عَلَى إيمَانِ مَنْ عَدَاهُ بِاسْتِمْرَارِ تَصْدِيقِهِ وَعِصْمَةِ اللَّهِ إيَّاهُ مِنْ مُخَامَرَةِ الشُّكُوكِ وَاخْتِلَاجِ الرِّيَبِ ، وَالتَّصْدِيقُ عَرَضٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ لَا يَبْقَى وَهُوَ مُتَوَالٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتٌ لِغَيْرِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَزَائِلٌ عَنْهُ فِي أَوْقَاتِ الْفَتَرَاتِ فَيَثْبُتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْدَادٌ مِنْ التَّصْدِيقِ وَلَا يَثْبُتُ لِغَيْرِهِ إلَّا بَعْضُهَا فَيَكُونُ إيمَانُهُ لِذَلِكَ أَكْثَرَ وَأَفْضَلَ ؛ قَالَ : وَلَوْ وُصِفَ الْإِيمَانُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَأُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَقِيمًا . قُلْت : فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَفْضُلُ بِهِ النَّبِيُّ غَيْرَهُ فِي الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى .
فَصْلٌ
:
قَالَ الَّذِينَ نَصَرُوا مَذْهَبَ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ
- كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَهَذَا لَفْظُهُ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَمَا
الْإِسْلَامُ عِنْدَكُمْ ؟ قِيلَ لَهُ : " الْإِسْلَامُ " :
الِانْقِيَادُ وَالِاسْتِسْلَامُ ؛ فَكُلُّ طَاعَةٍ انْقَادَ الْعَبْدُ بِهَا
لِرَبِّهِ وَاسْتَسْلَمَ فِيهَا لِأَمْرِهِ فَهِيَ إسْلَامٌ ، وَالْإِيمَانُ :
خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ ؛ وَكُلُّ إيمَانٍ إسْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ
إسْلَامٍ إيمَانًا فَإِنْ قَالَ : فَلِمَ قُلْتُمْ : إنَّ مَعْنَى الْإِسْلَامِ
مَا وَصَفْتُمْ ؟ قِيلَ : لِأَجْلِ قَوْله تَعَالَى { قَالَتِ الْأَعْرَابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } فَنَفَى عَنْهُمْ
الْإِيمَانَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِمَا أَثْبَتَهُ
الِانْقِيَادَ وَالِاسْتِسْلَامَ وَمِنْهُ : { وَأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ }
وَكُلُّ مَنْ اسْتَسْلَمَ لِشَيْءِ فَقَدْ أَسْلَمَ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَا
يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَسْلِمِ لِلَّهِ وَلِنَبِيِّهِ . " قُلْت
" : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ مَعَ بُطْلَانِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ هُوَ تَنَاقُضٌ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِيمَانَ خَصْلَةً مِنْ
خِصَالِ الْإِسْلَامِ فَالطَّاعَاتُ كُلُّهَا إسْلَامٌ وَلَيْسَ فِيهَا إيمَانٌ
إلَّا التَّصْدِيقُ . وَالْمُرْجِئَةُ وَإِنْ قَالُوا : إنَّ الْإِيمَانَ
يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ فَهُمْ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ هُوَ تَصْدِيقُ
الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَأَمَّا الْجَهْمِيَّة فَيَجْعَلُونَهُ تَصْدِيقَ
الْقَلْبِ فَلَا تَكُونُ الشَّهَادَتَانِ وَلَا الصَّلَاةُ وَلَا الزَّكَاةُ وَلَا
غَيْرُهُنَّ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَدْ
تَقَدَّمَ مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مُسْلِمًا كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ دَاخِلٌ فِي الْإِحْسَانِ فَلَا يَكُونُ مُحْسِنًا حَتَّى يَكُونَ مُؤْمِنًا . وَأَمَّا التَّنَاقُضُ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا : الْإِيمَانُ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ كَانَ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ إنَّمَا أَتَى بِخَصْلَةِ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ لَا بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ جَمِيعِهِ . فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْإِسْلَامِ كُلِّهِ كَمَا لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْإِيمَانِ كُلِّهِ وَإِلَّا فَمَنْ أَتَى بِبَعْضِ الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا وَلَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا فِي الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَالُوا : كُلُّ إيمَانٍ إسْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ إيمَانًا وَهَذَا إنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ كُلَّ إيمَانٍ هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ نَاقَضَ قَوْلَهُمْ : إنَّ الْإِيمَانَ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِهِ فَجَعَلُوا الْإِيمَانَ بَعْضَهُ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ إيَّاهُ وَإِنْ قَالُوا : كُلُّ إيمَانٍ فَهُوَ إسْلَامٌ أَيْ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ وَهَذَا مُرَادُهُمْ . قِيلَ لَهُمْ : فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ مُتَعَدِّدًا بِتَعَدُّدِ الطَّاعَاتِ وَتَكُونُ الشَّهَادَتَانِ وَحْدَهُمَا إسْلَامًا وَالصَّلَاةُ وَحْدَهَا إسْلَامًا وَالزَّكَاةُ إسْلَامًا بَلْ كُلُّ دِرْهَمٍ تُعْطِيهِ لِلْفَقِيرِ إسْلَامًا وَكُلُّ سَجْدَةٍ إسْلَامًا وَكُلُّ يَوْمٍ تَصُومُهُ إسْلَامًا وَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ تُسَبِّحُهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا إسْلَامًا . ثُمَّ الْمُسْلِمُ إنْ كَانَ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا إلَّا بِفِعْلِ كُلِّ مَا سَمَّيْتُمُوهُ إسْلَامًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْفُسَّاقُ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ مَعَ كَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ فَجَعَلْتُمْ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِي
الْإِيمَانَ عِنْدَكُمْ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ وَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الكَرَّامِيَة وَيَلْزَمُ أَنَّ الْفُسَّاقَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ ؛ وَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ بَلْ وَأَنْ يَكُونَ مَنْ تَرَكَ التَّطَوُّعَاتِ لَيْسَ مُسْلِمًا إذْ كَانَتْ التَّطَوُّعَاتُ طَاعَةً لِلَّهِ إنْ جَعَلْتُمْ كُلَّ طَاعَةٍ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا إسْلَامًا . ثُمَّ هَذَا خِلَافُ مَا احْتَجَجْتُمْ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ لِلْأَعْرَابِ : { لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } . فَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دُونَ الْإِيمَانِ وَأَيْضًا فَإِخْرَاجُكُمْ الْفُسَّاقَ مِنْ اسْمِ الْإِسْلَامِ إنْ أَخَرَجْتُمُوهُمْ أَعْظَمُ شَنَاعَةً مِنْ إخْرَاجِهِمْ مِنْ اسْمِ الْإِيمَانِ فَوَقَعْتُمْ فِي أَعْظَمِ مَا عِبْتُمُوهُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَنْفِيَانِ عَنْهُمْ اسْمَ الْإِيمَانِ أَعْظَمَ مِمَّا يَنْفِيَانِ اسْمَ الْإِسْلَامِ وَاسْمُ الْإِيمَانِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَعْظَمُ . وَإِنْ قُلْتُمْ : بَلْ كُلُّ مَنْ فَعَلَ طَاعَةً سُمِّيَ مُسْلِمًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَنْ فَعَلَ طَاعَةً مِنْ الطَّاعَاتِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ مُسْلِمًا وَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عِنْدَكُمْ لِأَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَكُمْ إسْلَامٌ فَمَنْ أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ فَيَكُونُ مُسْلِمًا عِنْدَكُمْ مَنْ تَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا أَتَى بِشَيْءِ مِنْ الْأَعْمَالِ . وَاحْتِجَاجُكُمْ بِقَوْلِهِ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } قُلْتُمْ : نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ . فَيُقَالُ : هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ لَمَّا أَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ مَعَ انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِجُزْءِ مِنْ الْإِسْلَامِ إذْ لَوْ كَانَ بَعْضُهُ لَمَا كَانُوا مُسْلِمِينَ إنْ لَمْ يَأْتُوا بِهِ وَإِنْ قُلْتُمْ : أَرَدْنَا بِقَوْلِنَا : أَثْبَتَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ أَيْ إسْلَامًا مَا فَإِنَّ كُلَّ طَاعَةٍ مِنْ الْإِسْلَامِ
إسْلَامٌ عِنْدَنَا لَزِمَكُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ يَوْمٍ إسْلَامًا وَصَدَقَةُ دِرْهَمٍ إسْلَامًا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَهُمْ يَقُولُونَ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا قَالُوا : هَذَا مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقُ وَإِلَّا فَالتَّفْصِيلُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَلَيْسَ هُوَ جَمِيعُ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ بِفِعْلِ كُلِّ طَاعَةٍ وَقَعَتْ مُوَافِقَةً لِلْأَمْرِ . وَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ . وَاسْمُ الْإِسْلَامِ شَامِلٌ لِكُلِّ طَاعَةٍ انْقَادَ بِهَا الْعَبْدُ لِلَّهِ مِنْ إيمَانٍ وَتَصْدِيقٍ وَفَرْضٍ سِوَاهُ وَنَفْلٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ التَّقَرُّبُ بِفِعْلِ مَا عَدَا الْإِيمَانَ مِنْ الطَّاعَاتِ دُونَ تَقْدِيمِ فِعْلِ الْإِيمَانِ . قَالُوا : وَالدِّينُ مَأْخُوذٌ مِنْ التَّدَيُّنِ ؛ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي الْمَعْنَى . فَيُقَالُ لَهُمْ : إذَا كَانَ هَذَا قَوْلَكُمْ : فَقَوْلُكُمْ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا يُنَاقِضُ هَذَا ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ هُوَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَلَا تَصِحُّ الطَّاعَةُ مِنْ أَحَدٍ إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ أَدْنَى الطَّاعَاتِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ فِعْلُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ أَوْ فِعْلُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كُلُّهُ إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ وَحِينَئِذٍ فَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ . ثُمَّ قَوْلُكُمْ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ إنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ بِالْإِيمَانِ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ فَقَطْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا وَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا أَتَى بِشَيْءِ
مِنْ الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ عَامَّةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا وَقَوْلُكُمْ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ لَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا بِشَيْءِ مِنْ الْمَبَانِي الْخَمْسِ بَلْ أَتَى بِمَا هُوَ طَاعَةٌ وَتِلْكَ طَاعَةٌ بَاطِنَةٌ وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُسْلِمُ الْمَعْرُوفُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَوَّلِينَ والآخرين ثُمَّ اسْتَدْلَلْتُمْ بِالْآيَةِ وَالْأَعْرَابُ إنَّمَا أَتَوْا بِإِسْلَامِ ظَاهِرٍ نَطَقُوا فِيهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانُوا صَادِقِينَ أَوْ كَاذِبِينَ فَأَثْبَتَ اللَّهُ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دُونَ الْإِيمَانِ فَيَظُنُّ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَبَيْنَهُمَا مِنْ التَّبَايُنِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ قَوْلِ السَّلَفِ وَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة بِكَثِيرِ وَلَكِنَّ قَوْلَهُمْ فِي تَخْلِيدِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَبْعَدُ عَنْ قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة . فَالْمُتَأخِّرونَ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " يُظْهِرُونَ قَوْلَ السَّلَفِ فِي هَذَا وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ وَفِي انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ حَيْثُ نَفَاهُ الْقُرْآنُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَذَلِكَ كُلُّهُ مُوَافِقٌ لِلسَّلَفِ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَإِلَّا فَقَوْلُهُمْ فِي غَايَةِ الْمُبَايَنَةِ لِقَوْلِ السَّلَفِ ؛ لَيْسَ فِي الْأَقْوَالِ أَبْعَدُ عَنْ السَّلَفِ مِنْهُ . وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ والكَرَّامِيَة فِي اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ قَوْلِ
الْجَهْمِيَّة ؛ لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْخَوَارِجَ يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ الْعُصَاةِ وَهَذَا أَبْعَدُ عَنْ قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ فَهُمْ أَقْرَبُ فِي الِاسْمِ وَأَبْعَدُ فِي الْحُكْمِ ؛ وَالْجَهْمِيَّة وَإِنْ كَانُوا فِي قَوْلِهِمْ : بِأَنَّ الْفُسَّاقَ لَا يُخَلَّدُونَ أَقْرَبُ فِي الْحُكْمِ إلَى السَّلَفِ فَقَوْلُهُمْ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَحَقِيقَتِهِمَا أَبْعَدُ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِيهِ مِنْ مُنَاقَضَةِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِمْ .
فَصْلٌ
:
وَمِمَّا يَدُلُّ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ
مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَعْمَالِ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا
الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } فَنَفَى الْإِيمَانَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ فَمَنْ
كَانَ إذَا ذَكَرَ بِالْقُرْآنِ لَا يَفْعَلُ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ
السُّجُودِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَسُجُودُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
فَرْضٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ فَفِيهِ نِزَاعٌ
؛ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يُوجِبُهُ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا
مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ : {
إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ
يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } . وَقَوْلِهِ : {
إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }
وَقَوْلِهِ { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى
يَسْتَأْذِنُوهُ } وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ
أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ
الْكَاذِبِينَ } { لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } { إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ
يَتَرَدَّدُونَ } . وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ : { لَا تَجِدُ قَوْمًا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ } وَقَوْلِهِ : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ
وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ
مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِيمَانَ لَهُ لَوَازِمُ وَلَهُ أَضْدَادٌ مَوْجُودَةٌ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ لَوَازِمِهِ وَانْتِفَاءَ أَضْدَادِهِ وَمِنْ أَضْدَادِهِ مُوَادَّةُ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمِنْ أَضْدَادِهِ اسْتِئْذَانُهُ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ اسْتِئْذَانَهُ إنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَدَلَّ قَوْلُهُ : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } " وَقَوْلُهُ : " { لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } " وَقَوْلُهُ : " { لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا } " وَقَوْلُهُ : " { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } " وَقَوْلُهُ " { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } " وَقَوْلُهُ " { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا } " .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا إذَا قُيِّدَ الْإِيمَانُ فَقُرِنَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالْعَمَلِ
الصَّالِحِ فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ
بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَهَلْ يُرَادُ بِهِ أَيْضًا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ
وَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ لَا يَكُونُ حِينَ
الِاقْتِرَانِ دَاخِلًا فِي مُسَمَّاهُ ؟ بَلْ يَكُونُ لَازِمًا لَهُ عَلَى
مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ لَا يَكُونُ بَعْضًا وَلَا لَازِمًا هَذَا فِيهِ
ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلنَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا
مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ الْأَسْمَاءِ يَتَنَوَّعُ مُسَمَّاهَا بِالْإِطْلَاقِ
وَالتَّقْيِيدِ مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ " الْمَعْرُوفِ " وَ "
الْمُنْكَرِ " إذَا أُطْلِقَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَوْلُهُ : { كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ } وَقَوْلُهُ : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ }
يَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ كُلُّ خَيْرٍ وَفِي الْمُنْكَرِ كُلُّ شَرٍّ . ثُمَّ
قَدْ يُقْرَنُ بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ
مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ
بَيْنَ النَّاسِ } فَغَايَرَ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْإِصْلَاحِ
بَيْنَ النَّاسِ - كَمَا غَايَرَ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ ؛ وَاسْمِ
الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ - وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } غَايَرَ
بَيْنَهُمَا وَقَدْ دَخَلَتْ الْفَحْشَاءُ فِي الْمُنْكَرِ فِي قَوْلِهِ : { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ثُمَّ ذَكَرَ مَعَ الْمُنْكَرِ اثْنَيْنِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } جَعَلَ الْبَغْيَ هُنَا مُغَايِرًا لَهُمَا وَقَدْ دَخَلَ فِي الْمُنْكَرِ فِي ذَيْنِك الْمَوْضِعَيْنِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الْعِبَادَةِ " فَإِذَا أُمِرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ مُطْلَقًا دَخَلَ فِي عِبَادَتِهِ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ ؛ فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } . وَقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } وَقَوْلِهِ : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } . وَقَوْلِهِ : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } . ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِهَا اسْمٌ آخَرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } . وَقَوْلِ نُوحٍ { اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } . وَكَذَلِكَ إذَا أُفْرِدَ اسْمُ " طَاعَةِ اللَّهِ " دَخَلَ فِي طَاعَتِهِ كُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَكَانَتْ طَاعَةُ الرَّسُولِ دَاخِلَةً فِي طَاعَتِهِ وَكَذَا اسْمُ " التَّقْوَى " إذَا أُفْرِدَ دَخَلَ فِيهِ فِعْلُ كُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَتَرْكُ كُلِّ مَحْظُورٍ . قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ : التَّقْوَى : أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَخَافَ عَذَابَ اللَّهِ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } .
وَقَدْ يُقْرَنُ بِهَا اسْمٌ آخَرُ كَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } وَقَوْلِهِ : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } وَقَوْلِهِ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } . وَقَوْلِهِ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } وَقَوْلِهِ : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَقَوْلُهُ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } مِثْلُ قَوْلِهِ : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } وَقَوْلِهِ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فَعَطَفَ قَوْلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ ؛ كَمَا عَطَفَ الْقَوْلَ السَّدِيدَ عَلَى التَّقْوَى ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّقْوَى إذَا أُطْلِقَتْ دَخَلَ فِيهَا الْقَوْلُ السَّدِيدُ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَإِذَا أُطْلِقَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ فِي حَقِّ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } وَإِذَا أُطْلِقَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِهَذِهِ التَّوَابِعِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } وَقَوْلُهُ : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ } الْآيَةَ
وَإِذَا قِيلَ : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ } دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : { وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } وَإِذَا قِيلَ : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَالْإِنْفَاقُ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } كَمَا يَدْخُلُ الْقَوْلُ السَّدِيدُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْبِرِّ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } { وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } وَقَوْلِهِ : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } وَقَوْلِهِ : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } فَالْبِرُّ إذَا أُطْلِقَ كَانَ مُسَمَّاهُ مُسَمَّى التَّقْوَى وَالتَّقْوَى إذَا أُطْلِقَتْ كَانَ مُسَمَّاهَا مُسَمَّى الْبِرِّ ثُمَّ قَدْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْإِثْمِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ ذَنْبٍ وَقَدْ يُقْرَنُ بِالْعُدْوَانِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الذُّنُوبِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ تَرْكُ كُلِّ وَاجِبٍ وَفِعْلُ كُلِّ مُحَرَّمٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { يَا عِبَادِيَ
الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } . ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِغَيْرِهِ كَمَا فِي
قَوْلِهِ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا }
وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْهُدَى " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ الْعِلْمَ
الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ جَمِيعًا فَيَدْخُلُ
فِيهِ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ } وَالْمُرَادُ طَلَبُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ
جَمِيعًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } . وَالْمُرَادُ بِهِ
أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِ وَيَعْمَلُونَ بِهِ وَلِهَذَا صَارُوا
مُفْلِحِينَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
هَدَانَا لِهَذَا } وَإِنَّمَا هَدَاهُمْ بِأَنْ أَلْهَمَهُمْ الْعِلْمَ
النَّافِعَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ . ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ الْهُدَى إمَّا
بِالِاجْتِبَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ
وَهَدَاهُ } { اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ
يُنِيبُ } وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } وَالْهُدَى هُنَا هُوَ الْإِيمَانُ وَدِينُ
الْحَقِّ هُوَ الْإِسْلَامُ وَإِذَا أُطْلِقَ الْهُدَى كَانَ كَالْإِيمَانِ
الْمُطْلَقِ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا وَهَذَا .
وَلَفْظُ " الضَّلَالِ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ مَنْ ضَلَّ عَنْ
الْهُدَى سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُعَذَّبًا
كَقَوْلِهِ : { إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ } { فَهُمْ عَلَى
آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } وَقَوْلِهِ : { رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا
وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ
الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } وَقَوْلِهِ : { فَمَنِ اتَّبَعَ
هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِالْغَيِّ
وَالْغَضَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ
وَمَا غَوَى } . وَفِي قَوْلِهِ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . وَقَوْلِهِ : { إنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ } . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْغَيِّ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ كُلَّ مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَنْ الشَّيْطَانِ : { وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } . وَقَدْ يُقْرَنُ بِالضَّلَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } . وَكَذَلِكَ اسْمُ " الْفَقِيرِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ الْمِسْكِينُ وَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ " الْمِسْكِينِ " تَنَاوَلَ الْفَقِيرَ وَإِذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا فَأَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ ؛ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ : { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } وَقَوْلِهِ : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } . وَ " هَذِهِ الْأَسْمَاءُ " الَّتِي تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ وَالتَّجْرِيدِ وَالِاقْتِرَانِ تَارَةً يَكُونَانِ إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا أَعَمَّ مِنْ الْآخَرِ كَاسْمِ " الْإِيمَانِ " وَ " الْمَعْرُوفِ " مَعَ الْعَمَلِ وَمَعَ الصِّدْقِ ؛ وَ " كَالْمُنْكَرِ " مَعَ الْفَحْشَاءِ وَمَعَ الْبَغْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَتَارَةً يَكُونَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ كَلَفْظِ " الْإِيمَانِ " وَ " الْبِرِّ " وَ " التَّقْوَى " وَلَفْظِ " الْفَقِيرِ " وَ " الْمِسْكِينِ " ؛ فَأَيُّهَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْآخَرُ ؛ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " التِّلَاوَةِ " فَإِنَّهَا إذَا أُطْلِقَتْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } تَنَاوَلَتْ الْعَمَلَ بِهِ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِثْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا : يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ فَيُحِلُّونَ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَيَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ التِّلَاوَةِ بِمَعْنَى الِاتِّبَاعِ كَقَوْلِهِ : { وَالْقَمَرِ إذَا تَلَاهَا }
وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَقْرَأْهُ وَقِيلَ : بَلْ مِنْ تَمَامِ قِرَاءَتِهِ أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَاهُ وَيَعْمَلَ بِهِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي : حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا : فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا . وَقَوْلُهُ : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } قَدْ فُسِّرَ بِالْقُرْآنِ وَفُسِّرَ بِالتَّوْرَاةِ . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ بِإِسْنَادِهِ الثَّابِتِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } قَالَ يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ قَالَ : يُحِلُّونَ حَلَالَهُ . وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَلَا يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَعَنْ قتادة : يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ قَالَ : أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَصَدَّقُوا بِهِ أَحَلُّوا حَلَالَهُ وَحَرَّمُوا حَرَامَهُ وَعَمِلُوا بِمَا فِيهِ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ إنَّ حَقَّ تِلَاوَتِهِ : أَنْ يُحِلَّ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ وَأَنْ نَقْرَأَهُ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا نُحَرِّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَعَنْ الْحَسَنِ : يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ قَالَ : يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ وَيَكِلُونَ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ إلَى عَالِمِهِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ : يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ وَفِي رِوَايَةٍ : يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ . ثُمَّ قَدْ يَقْرِنُ بِالتِّلَاوَةِ غَيْرَهَا كَقَوْلِهِ : { اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ : تِلَاوَةُ الْكِتَابِ : الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ كُلِّهَا ثُمَّ خُصَّ الصَّلَاةَ بِالذِّكْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } وَقَوْلِهِ : { فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
لِذِكْرِي } . وَكَذَلِكَ لَفْظُ اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ كَقَوْلِهِ : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } وَقَوْلِهِ : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } وَقَوْلِهِ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وَقَدْ يَقْرِنُ بِهِ غَيْرَهُ كَقَوْلِهِ : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَقَوْلِهِ : { اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْأَبْرَارِ " إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ تَقِيٍّ مِنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ وَإِذَا قُرِنَ بِالْمُقَرَّبِينَ كَانَ أَخَصَّ قَالَ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ : { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } { وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } وَقَالَ فِي الثَّانِي : { كَلَّا إنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } { وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } { كِتَابٌ مَرْقُومٌ } { يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ } وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ . وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ مُطْلَقًا وَخُصُوصًا أَلْفَاظُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِهِ تَزُولُ شُبُهَاتٌ كَثِيرَةٌ كَثُرَ فِيهَا نِزَاعُ النَّاسِ مِنْ جُمْلَتِهَا " مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ " فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي مُسَمَّاهُمَا أَوَّلُ اخْتِلَافٍ وَقَعَ افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ لِأَجْلِهِ وَصَارُوا مُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا قَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ شَرْحِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى وَجْهٍ يُبَيِّنُ أَنَّ الْهُدَى كُلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ
اللَّهِ
وَرَسُولِهِ بِإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ لَا بِذِكْرِ الْأَقْوَالِ
الَّتِي تُقْبَلُ بِلَا دَلِيلٍ وَتُرَدُّ بِلَا دَلِيلٍ أَوْ يَكُونُ
الْمَقْصُودُ بِهَا نَصْرَ غَيْرِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ
يَقْصِدَ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَاتِّبَاعُهُ بِالْأَدِلَّةِ
الدَّالَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَقْوَالُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي "
تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ " فَتَارَةً يَقُولُونَ : هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ .
وَتَارَةً يَقُولُونَ : هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ . وَتَارَةً يَقُولُونَ
قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ . وَتَارَةً يَقُولُونَ : قَوْلٌ
بِاللِّسَانِ وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ وَكُلُّ هَذَا
صَحِيحٌ . فَإِذَا قَالُوا : قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْقَوْلِ
قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ جَمِيعًا ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظِ
الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ . وَالنَّاسُ لَهُمْ فِي
مُسَمَّى " الْكَلَامِ " وَ " الْقَوْلِ " عِنْدَ
الْإِطْلَاقِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ
وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا كَمَا
يَتَنَاوَلُ لَفْظَ الْإِنْسَانِ لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا . وَقِيلَ : بَلْ
مُسَمَّاهُ هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى لَيْسَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ بَلْ هُوَ
مَدْلُولُ مُسَمَّاهُ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ
الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ
وَهُوَ قَوْلُ النُّحَاةِ لِأَنَّ صِنَاعَتَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَلْفَاظِ .
وَقِيلَ : بَلْ مُسَمَّاهُ هُوَ الْمَعْنَى وَإِطْلَاقُ الْكَلَامِ عَلَى
اللَّفْظِ مَجَازٌ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ
وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَقِيلَ : بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَلَهُمْ قَوْلٌ
ثَالِثٌ يُرْوَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ مَجَازٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ
حَقِيقَةٌ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ لِأَنَّ حُرُوفَ الْآدَمِيِّينَ
تَقُومُ
بِهِمْ فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ قَائِمًا بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ بِخِلَافِ
الْكَلَامِ الْقُرْآنِيِّ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ عِنْدَهُ بِاَللَّهِ
فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ وَلِبَسْطِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ
وَعَمَلٌ أَرَادَ قَوْلَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعَمَلَ الْقَلْبِ
وَالْجَوَارِحِ ؛ وَمَنْ أَرَادَ الِاعْتِقَادَ رَأَى أَنَّ لَفْظَ الْقَوْلِ لَا
يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الْقَوْلُ الظَّاهِرُ أَوْ خَافَ ذَلِكَ فَزَادَ
الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ وَمَنْ قَالَ : قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ قَالَ :
الْقَوْلُ يَتَنَاوَلُ الِاعْتِقَادَ وَقَوْلَ اللِّسَانِ وَأَمَّا الْعَمَلُ
فَقَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ النِّيَّةُ فَزَادَ ذَلِكَ وَمَنْ زَادَ اتِّبَاعَ
السُّنَّةِ فَلِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَكُونُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ إلَّا
بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَأُولَئِكَ لَمْ يُرِيدُوا كُلَّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ إنَّمَا
أَرَادُوا مَا كَانَ مَشْرُوعًا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَلَكِنْ كَانَ
مَقْصُودُهُمْ الرَّدَّ عَلَى " الْمُرْجِئَةِ " الَّذِينَ جَعَلُوهُ
قَوْلًا فَقَطْ فَقَالُوا : بَلْ هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَاَلَّذِينَ جَعَلُوهُ
" أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ " فَسَّرُوا مُرَادَهُمْ كَمَا سُئِلَ سَهْلُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري عَنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ ؟ فَقَالَ : قَوْلٌ
وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَسُنَّةٌ لِأَنَّ الْإِيمَانَ إذَا كَانَ قَوْلًا بِلَا
عَمَلٍ فَهُوَ كُفْرٌ وَإِذَا كَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا بِلَا نِيَّةٍ فَهُوَ
نِفَاقٌ وَإِذَا كَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا وَنِيَّةً بِلَا سُنَّةٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ
.
فَصْلٌ
:
وَعَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ فِي الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْكَلَامِ
يَقْتَضِي مُغَايَرَةً بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَعَ
اشْتِرَاكِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرَ
لَهُمَا وَالْمُغَايَرَةُ عَلَى مَرَاتِبَ أَعْلَاهَا أَنْ يَكُونَا
مُتَبَايِنَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرَ وَلَا جُزْأَهُ وَلَا يُعْرَفُ
لُزُومُهُ لَهُ كَقَوْلِهِ { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَوْلِهِ : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ }
وَقَوْلِهِ : { وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } { مِنْ قَبْلُ هُدًى
لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ . وَيَلِيهِ أَنْ
يَكُونَ بَيْنَهُمَا لُزُومٌ كَقَوْلِهِ : { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ }
وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
} فَإِنَّ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ بِهَذَا كُلِّهِ فَالْمَعْطُوفُ
لَازِمٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمَعْطُوفُ
عَلَيْهِ لَازِمٌ فَإِنَّهُ مَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُ الْهُدَى فَقَدْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ . وَفِي الثَّانِي
نِزَاعٌ وَقَوْلُهُ : { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا
الْحَقَّ } هُمَا مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّ مَنْ لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
فَجَعَلَهُ مَلْبُوسًا بِهِ خَفَى مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْبَاطِلِ
فَصَارَ مَلْبُوسًا وَمَنْ كَتَمَ الْحَقَّ احْتَاجَ أَنْ يُقِيمَ مَوْضِعَهُ
بَاطِلًا فَيُلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ كَتَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ بَاطِلًا . وَهَكَذَا " أَهْلُ الْبِدَعِ " لَا تَجِدُ أَحَدًا تَرَكَ بَعْضَ السُّنَّةِ الَّتِي يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهَا وَالْعَمَلُ إلَّا وَقَعَ فِي بِدْعَةٍ وَلَا تَجِدُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ إلَّا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ السُّنَّةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً إلَّا تَرَكُوا مِنْ السُّنَّةِ مِثْلَهَا } " رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ } فَلَمَّا تَرَكُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ اعتاضوا بِغَيْرِهِ فَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } أَيْ عَنْ الذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } وَقَالَ : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ وَنَهَى عَمَّا يُضَادُّ ذَلِكَ وَهُوَ اتِّبَاعُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ أَحَدَهُمَا اتَّبَعَ الْآخَرَ وَلِهَذَا قَالَ { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا سَبِيلَهُمْ كَانَ مُتَّبِعًا غَيْرَ سَبِيلِهِمْ فَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ سَبِيلِهِمْ وَاجِبٌ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَمَّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ الْمَأْمُورَ فَعَلَ بَعْضَ الْمَحْظُورِ وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ لَمْ يَفْعَلْ جَمِيعَ الْمَأْمُورِ فَلَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانَ أَنْ يَفْعَلَ جَمِيعَ مَا أُمِرَ بِهِ مَعَ فِعْلِهِ لِبَعْضِ
مَا حَظَرَ وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ كُلِّ مَا حَظَرَ مَعَ تَرْكِهِ لِبَعْضِ مَا أُمِرَ فَإِنَّ تَرْكَ مَا حَظَرَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرَ بِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ وَمِنْ الْمَحْظُورِ تَرْكُ الْمَأْمُورِ فَكُلُّ مَا شَغَلَهُ عَنْ الْوَاجِبِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ وَكُلُّ مَا لَا يُمْكِنُ فِعْلُ الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ وَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ " الْأَمْرِ " إذَا أُطْلِقَ يَتَنَاوَلُ النَّهْيَ وَإِذَا قُيِّدَ بِالنَّهْيِ كَانَ النَّهْيُ نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ فَإِذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ } دَخَلَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا نَهَاهُمْ عَنْ شَيْءٍ اجْتَنَبُوهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } فَقَدْ قِيلَ : لَا يَتَعَدَّوْنَ مَا أُمِرُوا بِهِ وَقِيلَ : يَفْعَلُونَهُ فِي وَقْتِهِ لَا يُقَدِّمُونَهُ وَلَا يُؤَخِّرُونَهُ . وَقَدْ يُقَالُ : هُوَ لَمْ يَقُلْ : وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا مَا يُؤْمَرُونَ بَلْ هَذَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } وَقَدْ قِيلَ : لَا يَعْصُونَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي الْمَاضِي وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ يُقَالُ : هَذِهِ الْآيَةُ خَبَرٌ عَمَّا سَيَكُونُ لَيْسَ مَا أُمِرُوا بِهِ هُنَا مَاضِيًا بَلْ الْجَمِيعُ مُسْتَقْبَلٌ فَإِنَّهُ قَالَ : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } وَمَا يَتَّقِي بِهِ إنَّمَا يَكُونُ مُسْتَقْبَلًا وَقَدْ يُقَالُ : تَرْكُ الْمَأْمُورِ تَارَةً يَكُونُ لِمَعْصِيَةِ الْآمِرِ وَتَارَةً يَكُونُ لِعَجْزِهِ فَإِذَا كَانَ قَادِرًا مُرِيدًا لَزِمَ وُجُودُ الْمَأْمُورِ الْمَقْدُورِ فَقَوْلُهُ { لَا يَعْصُونَ } لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ الطَّاعَةِ وَقَوْلُهُ { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } أَيْ هُمْ قَادِرُونَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَعْجِزُونَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ يَفْعَلُونَهُ كُلَّهُ فَيَلْزَمُ وُجُودُ كُلِّ مَا أُمِرُوا بِهِ وَقَدْ يَكُونُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ إلَّا الْمَأْمُورَ بِهِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : أَنَا أَفْعَلُ مَا أُمِرْت بِهِ أَيْ أَفْعَلُهُ وَلَا أَتَعَدَّاهُ إلَى زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ .
وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ } إنْ كَانَ نَهَاهُمْ عَنْ فِعْلٍ آخَرَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْهَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَذْمُومِينَ بِفِعْلِ مَا لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ لَفْظَ " الْأَمْرِ " إذَا أُطْلِقَ تَنَاوَلَ النَّهْيَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } أَيْ أَصْحَابَ الْأَمْرِ وَمَنْ كَانَ صَاحِبَ الْأَمْرِ كَانَ صَاحِبَ النَّهْيِ وَوَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِي هَذَا وَهَذَا فَالنَّهْيُ دَاخِلٌ فِي الْأَمْرِ وَقَالَ مُوسَى لِلْخَضِرِ : { سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } { قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } وَهَذَا نَهْيٌ لَهُ عَنْ السُّؤَالِ حَتَّى يُحْدِثَ لَهُ مِنْهُ ذِكْرًا وَلَمَّا خَرَقَ السَّفِينَةَ قَالَ لَهُ مُوسَى { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا } فَسَأَلَهُ قَبْلَ إحْدَاثِ الذِّكْرِ وَقَالَ فِي الْغُلَامِ { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا } فَسَأَلَهُ قَبْلَ إحْدَاثِ الذِّكْرِ وَقَالَ فِي الْجِدَارِ { لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا } وَهَذَا سُؤَالٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّ السُّؤَالَ وَالطَّلَبَ قَدْ يَكُونُ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ كَمَا تَقُولُ : لَوْ نَزَلْت عِنْدَنَا لَأَكْرَمْنَاك وَإِنْ بِتّ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا أَحْسَنْت إلَيْنَا وَمِنْهُ قَوْلُ آدَمَ { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَوْلُ نُوحٍ { رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى { إنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ الذِّكْرَ وَهَذَا مَعْصِيَةٌ لِنَهْيِهِ وَقَدْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ { وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَاصِيَ النَّهْيِ عَاصٍ الْأَمْرَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :
{
أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } وَقَدْ دَخَلَ النَّهْيُ فِي الْأَمْرِ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ }
وَقَوْلُهُ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } فَإِنَّ
نَهْيَهُ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ : إذَا عَصَيْت
أَمْرِي فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا نَهَاهَا فَعَصَتْهُ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا
فِي أَمْرِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : قِيلَ : لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ
النَّهْيِ غَيْرُ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَقِيلَ : يَدْخُلُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْهَمُ
مِنْهُ فِي الْعُرْفِ مَعْصِيَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ
لِأَنَّ مَا ذَكَرَ فِي الْعُرْفِ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ
فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ مِنْ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إذَا قِيلَ : أَطِعْ أَمْرَ
فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ يُطِيعُ أَمْرَ فُلَانٍ أَوْ لَا يَعْصِي أَمْرَهُ فَإِنَّهُ
يَدْخُلُ فِيهِ النَّهْيُ لِأَنَّ النَّاهِيَ آمِرٌ بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ
فَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وَلَمْ يَقُلْ : لَا تَكْتُمُوا
الْحَقَّ فَلَمْ يَنْهَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا لِتَلَازُمِهِمَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ
وَاوَ الْجَمْعِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْكُوفِيُّونَ وَاوَ الصَّرْفِ كَمَا قَدْ
يَظُنُّهُ بَعْضُهُمْ فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ الْمَعْنَى : لَا تَجْمَعُوا
بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ . وَ "
أَيْضًا " فَتِلْكَ إنَّمَا تَجِيءُ إذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ كَقَوْلِهِ : {
وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
} وَقَوْلِهِ : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ } {
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } .
وَمِنْ عَطْفِ الْمَلْزُومِ قَوْله تَعَالَى { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } فَإِنَّهُمْ إذَا أَطَاعُوا
الرَّسُولَ
فَقَدْ أَطَاعُوا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ
أَطَاعَ اللَّهَ } وَإِذَا أَطَاعَ اللَّهَ مَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ
فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُطِيعَ الرَّسُولَ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِلَّهِ إلَّا
بِطَاعَتِهِ . وَ " الثَّالِثُ " عَطْفُ بَعْضِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ
كَقَوْلِهِ : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى }
وَقَوْلِهِ { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ
نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } وَقَوْلِهِ : { مَنْ
كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ }
وَقَوْلِهِ : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا } وَ " الرَّابِعُ " عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى
الشَّيْءِ لِاخْتِلَافِ الصِّفَتَيْنِ كَقَوْلِهِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى
} { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } { وَالَّذِي
أَخْرَجَ الْمَرْعَى } وَقَوْلِهِ : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ } وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ عَطْفٌ
لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ فَقَطْ كَقَوْلِهِ : وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا
وَمَيْنًا . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا جَاءَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ كَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي قَوْلِهِ : ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَهَذَا
غَلَطٌ مِثْلُ هَذَا لَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ
وَغَايَةُ مَا يَذْكُرُ النَّاسُ اخْتِلَافَ مَعْنَى اللَّفْظِ كَمَا ادَّعَى
بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ :
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ * * * وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا
النَّأْيُ وَالْبُعْدُ
فَزَعَمُوا أَنَّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ . وَاسْتَشْهَدُوا بِذَلِكَ عَلَى مَا
ادَّعُوهُ مِنْ أَنَّ الشِّرْعَةَ
هِيَ
الْمِنْهَاجُ فَقَالَ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ : النَّأْيُ أَعَمُّ مِنْ الْبُعْدِ
فَإِنَّ النَّأْيَ كُلَّمَا قَلَّ بُعْدُهُ أَوْ كَثُرَ ؛ كَأَنَّهُ مِثْلُ
الْمُفَارَقَةِ . وَالْبُعْدُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا كَثُرَتْ مَسَافَةُ
مُفَارَقَتِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ
عَنْهُ } وَهُمْ مَذْمُومُونَ عَلَى مُجَانَبَتِهِ وَالتَّنَحِّي عَنْهُ سَوَاءٌ
كَانُوا قَرِيبِينَ أَوْ بَعِيدِينَ وَلَيْسَ كُلُّهُمْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ لَا
سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ قَالَ
النَّابِغَةُ : وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ .
وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُحْفَرُ حَوْلَ الْخَيْمَةِ لِيَنْزِلَ فِيهِ الْمَاءُ
وَلَا يَدْخُلَ الْخَيْمَةَ أَيْ صَارَ كَالْحَوْضِ فَهُوَ مُجَانِبٌ لِلْخَيْمَةِ
لَيْسَ بَعِيدًا مِنْهَا .
فَصْلٌ
:
فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " إذَا أُطْلِقَ فِي
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهِ مَا يُرَادُ بِلَفْظِ " الْبِرِّ
" وَبِلَفْظِ " التَّقْوَى " وَبِلَفْظِ " الدِّينِ "
كَمَا تَقَدَّمَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ
أَنَّ " { الْإِيمَانَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ : لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } "
فَكَانَ كُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ
لَفْظُ " الْبِرِّ " يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ ذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ
وَكَذَلِكَ لَفْظُ " التَّقْوَى " وَكَذَلِكَ " الدِّينُ أَوْ
دِينُ الْإِسْلَامِ " وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ الْإِيمَانِ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
} الْآيَةَ وَقَدْ فُسِّرَ الْبِرُّ بِالْإِيمَانِ وَفُسِّرَ بِالتَّقْوَى
وَفُسِّرَ بِالْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ وَالْجَمِيعُ حَقٌّ وَقَدْ
رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
فَسَّرَ الْبِرَّ بِالْإِيمَانِ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : حَدَّثَنَا
إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِي
والملائي قَالَا : حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ : { جَاءَ
رَجُلٌ إلَى أَبِي ذَرٍّ فَسَأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَرَأَ : { لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ ؛ فَقَالَ الرَّجُلُ :
لَيْسَ عَنْ الْبِرِّ سَأَلْتُك . فَقَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ الَّذِي سَأَلْتنِي عَنْهُ فَقَرَأَ
عَلَيْهِ الَّذِي قَرَأْت عَلَيْك فَقَالَ لَهُ الَّذِي قُلْت
لِي . فَلَمَّا أَبَى أَنْ يَرْضَى قَالَ لَهُ : إنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي إذَا عَمِلَ الْحَسَنَة سَرَّتْهُ وَرَجَا ثَوَابَهَا وَإِذَا عَمِلَ السَّيِّئَةَ سَاءَتْهُ وَخَافَ عِقَابَهَا } . وَقَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الجزري عَنْ مُجَاهِدٍ { أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَرَأَ عَلَيْهِ : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ } وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : سُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مقبله مِنْ الشَّامِ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَرَأَ : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُبَارَكِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ : قُلْت لِسَالِمِ الْأَفْطَسِ : رَجُلٌ أَطَاعَ اللَّهَ فَلَمْ يَعْصِهِ وَرَجُلٌ عَصَى اللَّهَ فَلَمْ يُطِعْهُ فَصَارَ الْمُطِيعُ إلَى اللَّهِ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَصَارَ الْعَاصِي إلَى اللَّهِ فَأَدْخَلَهُ النَّارَ هَلْ يَتَفَاضَلَانِ فِي الْإِيمَانِ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَطَاءِ فَقَالَ : سَلْهُمْ الْإِيمَانُ طَيِّبٌ أَوْ خَبِيثٌ ؟ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } فَسَأَلْتهمْ فَلَمْ يُجِيبُونِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْإِيمَانَ يُبْطَنُ لَيْسَ مَعَهُ عَمَلٌ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَطَاءِ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ أَمَا يَقْرَءُونَ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } ؟ . قَالَ : ثُمَّ وَصَفَ اللَّهُ عَلَى هَذَا الِاسْمِ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْعَمَلِ فَقَالَ : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } فَقَالَ : سَلْهُمْ
هَلْ دَخَلَ هَذَا الْعَمَلُ فِي هَذَا الِاسْمِ . وَقَالَ : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فَأَلْزَمَ الِاسْمَ الْعَمَلَ وَالْعَمَلَ الِاسْمَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْمَدْحُ إلَّا عَلَى إيمَانٍ مَعَهُ الْعَمَلُ لَا عَلَى إيمَانٍ خَالٍ عَنْ عَمَلٍ فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَاقِعٌ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ نِزَاعُهُمْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ يَكُونُ نِزَاعًا لَفْظِيًّا مَعَ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِي اللَّفْظِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنْ قَالُوا : إنَّهُ لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ الْعَمَلِ فَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ ؛ وَبَعْضُ النَّاسِ يُحْكَى هَذَا عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ فَرَائِضَ وَلَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَلَا يَضُرُّهُمْ تَرْكُهَا وَهَذَا قَدْ يَكُونُ قَوْلَ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ لَكِنْ مَا عَلِمْت مُعَيَّنًا أَحْكِي عَنْهُ هَذَا الْقَوْلَ وَإِنَّمَا النَّاسُ يَحْكُونَهُ فِي الْكُتُبِ وَلَا يُعَيِّنُونَ قَائِلَهُ وَقَدْ يَكُونُ قَوْلُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُسَّاقِ وَالْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ : لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ أَوْ مَعَ التَّوْحِيدِ وَبَعْضُ كَلَامِ الرَّادِّينَ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَصَفَهُمْ بِهَذَا . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } . فَقَوْلُهُ صَدَقُوا أَيْ فِي قَوْلِهِمْ : آمَنُوا ؛ كَقَوْلِهِ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } أَيْ هُمْ الصَّادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ : آمَنَّا بِاَللَّهِ بِخِلَافِ الْكَاذِبِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وَفِي { يَكْذِبُونَ } قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا فِي قَوْلِهِمْ : آمَنَّا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ صَدَّقُوهُ فِي الظَّاهِرِ وَقَالَ تَعَالَى : { الم } { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَفْتِنَ النَّاسَ أَيْ يَمْتَحِنَهُمْ وَيَبْتَلِيَهُمْ وَيَخْتَبِرَهُمْ . يُقَالُ : فَتَنْت الذَّهَبَ إذَا أَدْخَلْته النَّارَ لِتُمَيِّزَهُ مِمَّا اخْتَلَطَ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ مُوسَى : { إنْ هِيَ إلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ } أَيْ مِحْنَتُك وَاخْتِبَارُك وَابْتِلَاؤُك كَمَا ابْتَلَيْت عِبَادَك بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لِيَتَبَيَّنَ الصَّبَّارُ الشَّكُورُ مِنْ غَيْرِهِ وَابْتَلَيْتهمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ لِيَتَبَيَّنَ الْمُؤْمِنُ مِنْ الْكَافِرِ وَالصَّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ وَالْمُنَافِقُ مِنْ الْمُخْلِصِ فَتَجْعَلُ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَلَالَةِ قَوْمٍ وَهَدْيِ آخَرِينَ . وَالْقُرْآنُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا يَصِفُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّدْقِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْكَذِبِ لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ قَالَتَا بِأَلْسِنَتِهِمَا : آمَنَّا فَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ بِعَمَلِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ صَادِقٌ وَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُنَافِقٌ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }
فَلَمَّا قَالَ فِي آيَةِ الْبِرِّ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَدَقُوا فِي قَوْلِهِمْ : آمَنَّا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَكَانُوا يَقُولُونَهُ . وَلَمْ يُؤْمَرُوا أَنْ يَلْفِظُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيَقُولُوا : نَحْنُ أَبْرَارٌ أَوْ بَرَرَةٌ ؛ بَلْ إذَا قَالَ الرَّجُلُ : أَنَا بَرٌّ فَهَذَا مُزَكٍّ لِنَفْسِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ اسْمَهَا بَرَّةَ فَقِيلَ : تُزَكِّي نَفْسَهَا فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ ؛ بِخِلَافِ إنْشَاءِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِمْ : " آمَنَّا " فَإِنَّ هَذَا قَدْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوهُ قَالَ تَعَالَى { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ } وَكَذَلِكَ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } فَقَوْلُهُ : { لَا نُفَرِّقُ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا : آمَنَّا وَلَا نُفَرِّقُ وَلِهَذَا قَالَ : { وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } فَجَمَعُوا بَيْنَ قَوْلِهِمْ : آمَنَّا وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَقَدْ قَالَ فِي آيَةِ الْبِرِّ : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } فَجَعَلَ الْأَبْرَارَ هُمْ الْمُتَّقِينَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّجْرِيدِ وَقَدْ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الِاقْتِرَانِ وَالتَّقْيِيدِ فِي قَوْلِهِ : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَمُسَمَّى الْبِرِّ وَمُسَمَّى التَّقْوَى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَاحِدٌ فَالْمُؤْمِنُونَ هُمْ الْمُتَّقُونَ وَهُمْ الْأَبْرَارُ .
وَلِهَذَا جَاءَ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الصَّحِيحَةِ : " { يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } " وَفِي بَعْضِهَا : " { مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ } " وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وَذَلِكَ الَّذِي هُوَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ هُوَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ الْأَبْرَارُ الْأَتْقِيَاءُ هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ الْمُطْلَقَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الَّذِينَ وُعِدُوا بِدُخُولِهَا بِلَا عَذَابٍ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا } " فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ بَلْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ الْمُعَرَّضِينَ لِلْوَعِيدِ أُسْوَةَ أَمْثَالِهِمْ .
فَصْلٌ
:
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ نَمَطِ " أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَسْمَاءِ كِتَابِهِ
وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ وَأَسْمَاءِ دِينِهِ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ }
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } { هُوَ اللَّهُ الَّذِي
لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ
الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } {
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى
يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
فَأَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْسِهِ
الْمُقَدَّسَةِ ثُمَّ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مِنْ صِفَاتِهِ . لَيْسَ
هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ ؛ فَالْعَزِيزُ يَدُلُّ
عَلَى نَفْسِهِ مَعَ عِزَّتِهِ وَالْخَالِقُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ خَلْقِهِ
وَالرَّحِيمُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ رَحْمَتِهِ وَنَفْسُهُ تَسْتَلْزِمُ
جَمِيعَ صِفَاتِهِ فَصَارَ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ وَالصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ
بِهِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَعَلَى أَحَدِهِمَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ
وَعَلَى الصِّفَةِ الْأُخْرَى بِطَرِيقِ اللُّزُومِ . وَهَكَذَا " أَسْمَاءُ
كِتَابِهِ " الْقُرْآنُ وَالْفُرْقَانُ وَالْكِتَابُ وَالْهُدَى وَالْبَيَانُ
وَالشِّفَاءُ
وَالنُّورُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هِيَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ . وَكَذَلِكَ " أَسْمَاءُ رَسُولِهِ " : مُحَمَّدٌ وَأَحْمَد وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرُ وَالْمُقْفِي وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الْمَمْدُوحَةِ غَيْرِ الصِّفَةِ الْأُخْرَى وَهَكَذَا مَا يُثْنَى ذِكْرُهُ مِنْ الْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ كَقِصَّةِ مُوسَى وَغَيْرِهَا لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا أَنْ تَكُونَ سَمَرًا ؛ بَلْ الْمَقْصُودُ بِهَا أَنْ تَكُونَ عِبَرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } فَاَلَّذِي وَقَعَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَهُ صِفَاتٌ فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتِ مُتَنَوِّعَةٍ كُلُّ عِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يَعْتَبِرُ بِهَا الْمُعْتَبِرُونَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّكْرِيرِ فِي شَيْءٍ . وَهَكَذَا " أَسْمَاءُ دِينِهِ " الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ يُسَمَّى إيمَانًا وَبِرًّا وَتَقْوَى وَخَيْرًا وَدِينًا وَعَمَلًا صَالِحًا وَصِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ لَكِنَّ كُلَّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ لَيْسَتْ هِيَ الصِّفَةَ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْآخَرُ وَتَكُونُ تِلْكَ الصِّفَةُ هِيَ الْأَصْلَ فِي اللَّفْظِ وَالْبَاقِي كَانَ تَابِعًا لَهَا لَازِمًا لَهَا ثُمَّ صَارَتْ دَالَّةً عَلَيْهِ بِالتَّضَمُّنِ فَإِنَّ " الْإِيمَانَ " أَصْلُهُ الْإِيمَانُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ " شَيْئَيْنِ " : تَصْدِيقٍ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ . وَيُقَالُ لِهَذَا : قَوْلُ الْقَلْبِ . قَالَ " الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ " : التَّوْحِيدُ : قَوْلُ الْقَلْبِ . وَالتَّوَكُّلُ : عَمَلُ الْقَلْبِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَوْلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ ؛ ثُمَّ قَوْلُ الْبَدَنِ وَعَمَلِهِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَحُبِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَبُغْضِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَتَوَكُّلِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَعَلَهَا مِنْ الْإِيمَانِ.
ثُمَّ الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَعْرِفَةٌ وَإِرَادَةٌ سَرَى ذَلِكَ إلَى الْبَدَنِ بِالضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْبَدَنُ عَمَّا يُرِيدُهُ الْقَلْبُ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } " . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَقْرِيبٌ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنُ بَيَانًا فَإِنَّ الْمَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا فَالْجُنْدُ لَهُمْ اخْتِيَارٌ قَدْ يَعْصُونَ بِهِ مَلِكَهُمْ وَبِالْعَكْسِ فَيَكُونُ فِيهِمْ صَلَاحٌ مَعَ فَسَادِهِ أَوْ فَسَادٌ مَعَ صَلَاحِهِ ؛ بِخِلَافِ الْقَلْبِ فَإِنَّ الْجَسَدَ تَابِعٌ لَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ إرَادَتِهِ قَطُّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ } " . فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ صَالِحًا بِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ عِلْمًا وَعَمَلًا قَلْبِيًّا لَزِمَ ضَرُورَةُ صَلَاحِ الْجَسَدِ بِالْقَوْلِ الظَّاهِرِ وَالْعَمَلِ بِالْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ : قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَوْلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ وَعَمَلٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ وَالظَّاهِرُ تَابِعٌ لِلْبَاطِنِ لَازِمٌ لَهُ مَتَى صَلَحَ الْبَاطِنُ صَلَحَ الظَّاهِرُ وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ الْمُصَلِّي الْعَابِثِ : لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ فَلَا بُدَّ فِي إيمَانِ الْقَلْبِ مِنْ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فَوَصَفَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَنْدَادِهِمْ . وَفِي الْآيَةِ " قَوْلَانِ " : قِيلَ : يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْهُمْ لِأَوْثَانِهِمْ . وَقِيلَ : يُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْهُمْ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ؛ وَالْأَوَّلُ قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُحِبُّونَ الْأَنْدَادَ مِثْلَ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ وَتَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ وَالْإِرَادَةُ التَّامَّةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ الْفِعْلَ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ مُرِيدًا لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَفْعَلُهُ فَإِذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ الْإِنْسَانُ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ خَطَأُ قَوْلِ " جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ " وَمَنْ اتَّبَعَهُ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعِلْمِهِ لَمْ يَجْعَلُوا أَعْمَالَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُؤْمِنًا كَامِلَ الْإِيمَانِ بِقَلْبِهِ وَهُوَ مَعَ هَذَا يَسُبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَادِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَادِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُوَالِي أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيَقْتُلُ الْأَنْبِيَاءَ وَيَهْدِمُ الْمَسَاجِدَ وَيُهِينُ الْمَصَاحِفَ وَيُكْرِمُ الْكُفَّارَ غَايَةَ الْكَرَامَةِ وَيُهِينُ الْمُؤْمِنِينَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ قَالُوا : وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَاصٍ لَا تُنَافِي الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ بَلْ يَفْعَلُ هَذَا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنٌ قَالُوا : وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامُ الْكُفَّارِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ أَمَارَةٌ عَلَى الْكُفْرِ لِيُحْكَمَ بِالظَّاهِرِ كَمَا يُحْكَمُ
بِالْإِقْرَارِ وَالشُّهُودِ وَإِنْ كَانَ الْبَاطِنُ قَدْ يَكُونُ بِخِلَافِ مَا أَقَرَّ بِهِ وَبِخِلَافِ مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ فَإِذَا أَوْرَدَ عَلَيْهِمْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ كَافِرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُعَذَّبٌ فِي الْآخِرَةِ قَالُوا : فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ فَالْكُفْرُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْجَهْلُ وَالْإِيمَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعِلْمُ أَوْ تَكْذِيبُ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ فَإِنَّهُمْ مُتَنَازِعُونَ هَلْ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ شَيْءٌ غَيْرُ الْعِلْمِ أَوْ هُوَ هُوَ ؟ . وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ أَنَّهُ أَفْسَدُ قَوْلٍ قِيلَ فِي " الْإِيمَانِ " فَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ " أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُرْجِئَةِ " . وَقَدْ كَفَّرَ السَّلَفُ - كَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ - مَنْ يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ . وَقَالُوا : إبْلِيسُ كَافِرٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا كُفْرُهُ بِاسْتِكْبَارِهِ وَامْتِنَاعِهِ عَنْ السُّجُودِ لِآدَمَ لَا لِكَوْنِهِ كَذَّبَ خَبَرًا . وَكَذَلِكَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } بَعْدَ قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا } { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا } . فَمُوسَى وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ يَقُولُ : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْآيَاتِ وَهُوَ
مِنْ أَكْبَرِ خَلْقِ اللَّهِ عِنَادًا وَبَغْيًا لِفَسَادِ إرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ لَا لِعَدَمِ عِلْمِهِ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } . وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } . وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } . فَهَؤُلَاءِ غَلِطُوا فِي " أَصْلَيْنِ " : ( أَحَدُهُمَا : ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقٍ وَعِلْمٍ فَقَطْ لَيْسَ مَعَهُ عَمَلٌ وَحَالٌ وَحَرَكَةٌ وَإِرَادَةٌ وَمَحَبَّةٌ وَخَشْيَةٌ فِي الْقَلْبِ ؛ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ غَلَطِ الْمُرْجِئَةِ مُطْلَقًا فَإِنَّ " أَعْمَالَ الْقُلُوبِ " الَّتِي يُسَمِّيهَا بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَحْوَالًا وَمَقَامَاتٍ أَوْ مَنَازِلَ السَّائِرِينَ إلَى اللَّهِ أَوْ مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ كُلُّ مَا فِيهَا مِمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَفِيهَا مَا أَحَبَّهُ وَلَمْ يَفْرِضْهُ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ الْمُسْتَحَبِّ فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهُ وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَمَنْ فَعَلَهُ وَفَعَلَ الثَّانِيَ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ وَذَلِكَ مِثْلُ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا بَلْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَمِثْلَ خَشْيَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ خَشْيَةِ الْمَخْلُوقِينَ وَرَجَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ رَجَاءِ الْمَخْلُوقِينَ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ
مَعَ خَشْيَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } وَمِثْلَ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَالْمُوَالَاةِ لِلَّهِ وَالْمُعَادَاةِ لِلَّهِ . وَ ( الثَّانِي : ظَنُّهُمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ الشَّارِعُ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ فَإِنَّمَا ذَاكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ . وَهَذَا أَمْرٌ خَالَفُوا بِهِ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ وَالشَّرْعَ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ طَوَائِفُ بَنِي آدَمَ السليمي الْفِطْرَةِ وَجَمَاهِيرُ النُّظَّارِ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ غَيْرِهِ وَمَعَ هَذَا يَجْحَدُ ذَلِكَ لِحَسَدِهِ إيَّاهُ أَوْ لِطَلَبِ عُلُوِّهِ عَلَيْهِ أَوْ لِهَوَى النَّفْسِ وَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ الْهَوَى عَلَى أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ وَيَرُدَّ مَا يَقُولُ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَهُوَ فِي قَلْبِهِ يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ وَعَامَّةُ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ عَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ وَأَنَّهُمْ صَادِقُونَ لَكِنْ إمَّا لِحَسَدِهِمْ وَإِمَّا لِإِرَادَتِهِمْ الْعُلُوَّ وَالرِّيَاسَةَ وَإِمَّا لِحُبِّهِمْ دِينَهُمْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ مِنْ الْأَغْرَاضِ كَأَمْوَالِ وَرِيَاسَةٍ وَصَدَاقَةِ أَقْوَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَرَوْنَ فِي اتِّبَاعِ الرُّسُلِ تَرْكَ الْأَهْوَاءِ الْمَحْبُوبَةِ إلَيْهِمْ أَوْ حُصُولَ أُمُورٍ مَكْرُوهَةٍ إلَيْهِمْ فَيُكَذِّبُونَهُمْ وَيُعَادُونَهُمْ فَيَكُونُونَ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ كإبليس وَفِرْعَوْنَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَالرُّسُلَ عَلَى الْحَقِّ . وَلِهَذَا لَا يَذْكُرُ الْكُفَّارُ حُجَّةً صَحِيحَةً تَقْدَحُ فِي صِدْقِ الرُّسُلِ إنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَهْوَائِهِمْ كَقَوْلِهِمْ لِنُوحِ : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّبَاعَ الْأَرْذَلِينَ لَهُ لَا يَقْدَحُ فِي صِدْقِهِ ؛ لَكِنْ كَرِهُوا مُشَارَكَةَ أُولَئِكَ
كَمَا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبْعَادَ الضُّعَفَاءِ كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وخباب بْنِ الْأَرَتِّ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِلَالٍ وَنَحْوِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّحَابَةِ أَهْلُ الصُّفَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } . وَمِثْلُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } وَقَوْلِ فِرْعَوْنَ : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } وَمِثْلَ قَوْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ : { إنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا } وَمِثْلَ قَوْلِ قَوْمِ شُعَيْبٍ لَهُ : { أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } وَمِثْلَ قَوْلِ عَامَّةِ الْمُشْرِكِينَ : { إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } . وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَأَمْثَالُهَا لَيْسَتْ حُجَجًا تَقْدَحُ فِي صِدْقِ الرُّسُلِ بَلْ تُبَيِّنُ أَنَّهَا تُخَالِفُ إرَادَتَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ وَعَادَاتِهِمْ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَّبِعُوهُمْ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ بَلْ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ كَانُوا يُحِبُّونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحِبُّونَ عُلُوَّ كَلِمَتِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ حَسَدٌ لَهُ وَكَانُوا يَعْلَمُونَ صِدْقَهُ وَلَكِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ فِي
مُتَابَعَتِهِ فِرَاقَ دِينِ آبَائِهِمْ وَذَمَّ قُرَيْشٍ لَهُمْ فَمَا احْتَمَلَتْ نُفُوسُهُمْ تَرْكَ تِلْكَ الْعَادَةِ وَاحْتِمَالَ هَذَا الذَّمِّ فَلَمْ يَتْرُكُوا الْإِيمَانَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْإِيمَانِ بِهِ ؛ بَلْ لِهَوَى النَّفْسِ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ كُلَّ كَافِرٍ إنَّمَا كَفَرَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِاَللَّهِ . وَلَمْ يَكْفِ الْجَهْمِيَّة أَنْ جَعَلُوا كُلَّ كَافِرٍ جَاهِلًا بِالْحَقِّ حَتَّى قَالُوا : هُوَ لَا يَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ حَقٌّ وَالْكُفْرُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ هُوَ الْجَهْلُ بِأَيِّ حَقٍّ كَانَ ؛ بَلْ الْجَهْلُ بِهَذَا الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ . وَنَحْنُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يَرَوْنَ خَلْقًا مِنْ الْكُفَّارِ يَعْرِفُونَ فِي الْبَاطِنِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَيَذْكُرُونَ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ إمَّا مُعَادَاةُ أَهْلِهِمْ وَإِمَّا مَالٌ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ جِهَتِهِمْ يَقْطَعُونَهُ عَنْهُمْ وَإِمَّا خَوْفُهُمْ إذَا آمَنُوا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ حُرْمَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَحُرْمَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِهِمْ الَّتِي يُبَيِّنُونَ أَنَّهَا الْمَانِعَةُ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَدِينَهُمْ بَاطِلٌ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ يُوجَدُ مَنْ يَعْرِفُ بِقَلْبِهِ أَنَّهَا حَقٌّ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ يَجْحَدُ ذَلِكَ وَيُعَادِي أَهْلَهُ لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ يَجْلِبُ لَهُ مَنْفَعَةً وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَضَرَّةً . قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ } .
وَالْمُفَسِّرُونَ
مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ
الْإِسْلَامَ وَفِي قَلْبِهِ مَرَضٌ خَافَ أَنْ يَغْلِبَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ
فَيُوَالِي الْكُفَّارَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ لِلْخَوْفِ
الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ ؛ لَا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا كَاذِبٌ
وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى صَادِقُونَ وَأَشْهَرُ النُّقُولِ فِي ذَلِكَ { أَنَّ
عبادة بْنَ الصَّامِتِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَوَالِيَ مِنْ
الْيَهُودِ وَإِنِّي أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ فَقَالَ :
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي : لَكِنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ وَلَا أَبْرَأُ
مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ } .
" وَالْمُرْجِئَةُ " الَّذِينَ قَالُوا : الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ
الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْهُ كَانَ مِنْهُمْ
طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ وَعُبَّادِهَا ؛ وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ
مِثْلَ قَوْلِ جَهْمٍ ؛ فَعَرَفُوا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إنْ
لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْإِيمَانِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ . وَعَرَفُوا أَنَّ
إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَغَيْرَهُمَا كُفَّارٌ مَعَ تَصْدِيقِ قُلُوبِهِمْ
لَكِنَّهُمْ إذَا لَمْ يُدْخِلُوا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ فِي الْإِيمَانِ
لَزِمَهُمْ قَوْلُ جَهْمٍ وَإِنْ أَدْخَلُوهَا فِي الْإِيمَانِ لَزِمَهُمْ دُخُولُ
أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ أَيْضًا فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ لَهَا وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ
لَهُمْ حُجَجٌ شَرْعِيَّةٌ بِسَبَبِهَا اشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ
فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَّقَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْإِيمَانِ
وَالْعَمَلِ ؛ فَقَالَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ } وَرَأَوْا أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الْإِنْسَانَ بِالْإِيمَانِ
قَبْلَ وُجُودِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا
قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى
الْمَرَافِقِ } . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ }
وَقَالُوا
: لَوْ أَنَّ رَجُلًا آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ضَحْوَةً وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ
يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْمَالِ مَاتَ مُؤْمِنًا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ .
وَقَالُوا : نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ
كُلَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً وَجَبَ التَّصْدِيقُ بِهَا فَانْضَمَّ هَذَا
التَّصْدِيقُ إلَى التَّصْدِيقِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ ؛ لَكِنْ بَعْدَ كَمَالِ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مَا بَقِيَ الْإِيمَانُ يَتَفَاضَلُ عِنْدَهُمْ بَلْ إيمَانُ
النَّاسِ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ ؛ إيمَانُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كَأَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ وَإِيمَانُ أَفْجَرِ النَّاسِ كَالْحَجَّاجِ وَأَبِي مُسْلِمٍ
الْخُرَاسَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا . وَالْمُرْجِئَةُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْهُمْ
وَالْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ تُسَمَّى إيمَانًا
مَجَازًا لِأَنَّ الْعَمَلَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ وَلِأَنَّهَا
دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً
أَفْضَلُهَا قَوْلُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى
عَنْ الطَّرِيقِ } " : مَجَازٌ . "
وَالْمُرْجِئَةُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ " : الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ
مُجَرَّدُ مَا فِي الْقَلْبِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُدْخِلُ فِيهِ أَعْمَالَ
الْقُلُوبِ وَهُمْ أَكْثَرُ فِرَقِ الْمُرْجِئَةِ كَمَا قَدْ ذَكَرَ أَبُو
الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَقْوَالَهُمْ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَ فِرَقًا كَثِيرَةً
يَطُولُ ذِكْرُهُمْ لَكِنْ ذَكَرْنَا جُمَلَ أَقْوَالِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا
يُدْخِلُهَا فِي الْإِيمَانِ كَجَهْمِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كالصالحي وَهَذَا الَّذِي
نَصَرَهُ هُوَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ .
وَ الْقَوْلُ الثَّانِي : مَنْ يَقُولُ : هُوَ مُجَرَّدُ قَوْلِ اللِّسَانِ وَهَذَا
لَا يُعْرَفُ لِأَحَدِ قَبْلَ الكَرَّامِيَة " وَالثَّالِثُ : تَصْدِيقُ
الْقَلْبِ وَقَوْلُ اللِّسَانِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَهْلِ الْفِقْهِ
وَالْعِبَادَةِ مِنْهُمْ وَهَؤُلَاءِ غَلِطُوا مِنْ وُجُوهٍ :
( أَحَدُهَا ) : ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مُتَمَاثِلٌ فِي حَقِّ الْعِبَادِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى شَخْصٍ يَجِبُ مِثْلُهُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ أَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْجَبَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَالْإِيمَانُ الَّذِي كَانَ يَجِبُ قَبْلَ نُزُولِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَجِبُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَصَّلًا لَيْسَ مِثْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُجْمَلًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ لَكِنْ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ وَمَاتَ عَقِبَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ غَيْرُ ذَلِكَ . وَأَمَّا مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ وَمَا فِيهِمَا مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ الْمُفَصَّلَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّصْدِيقِ الْمُفَصَّلِ بِخَبَرِ خَبَرٍ وَأَمْرِ أَمْرٍ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا الْإِيمَانُ الْمُجْمَلُ لِمَوْتِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ شَيْءٌ آخَرُ . وَ " أَيْضًا " لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ عَاشَ فَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَامَّةِ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَكُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ وَكُلَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ بَلْ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ هُوَ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَمَنْ لَا مَالَ لَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ أَمْرَهُ الْمُفَصَّلَ فِي الزَّكَاةِ . وَمَنْ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ عَلَى الْحَجِّ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ أَمْرَهُ الْمُفَصَّلَ بِالْمَنَاسِكِ وَمَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا وَجَبَ لِلزَّوْجَةِ فَصَارَ يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا عَلَى أَشْخَاصٍ مَا لَا يَجِبُ عَلَى آخَرِينَ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : خُوطِبُوا بِالْإِيمَانِ قَبْلَ الْأَعْمَالِ . فَنَقُولُ :
إنْ قُلْتُمْ : إنَّهُمْ خُوطِبُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تَجِبَ تِلْكَ الْأَعْمَالُ فَقَبْلَ وُجُوبِهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ الْإِيمَانِ وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ مَا خُوطِبُوا بِفَرْضِهِ فَلَمَّا نَزَلَ إنْ لَمْ يُقِرُّوا بِوُجُوبِهِ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ ذِكْرُ الْحَجِّ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ كَحَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَحَدِيثِ الرَّجُلِ النَّجْدِيِّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَغَيْرُهُمَا وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ الْحَجِّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَجِبْرِيلَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجَّ آخِرُ مَا فُرِضَ مِنْ الْخَمْسِ فَكَانَ قَبْلَ فَرْضِهِ لَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَلَمَّا فُرِضَ أَدْخَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِيمَانِ إذَا أُفْرِدَ وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ إذَا قُرِنَ بِالْإِيمَانِ وَإِذَا أُفْرِدَ وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَتَى فُرِضَ الْحَجُّ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : مَنْ آمَنَ وَمَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ مَاتَ مُؤْمِنًا فَصَحِيحٌ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَعْدُ فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ فَإِنَّهُ تَزُولُ بِهِ شُبْهَةٌ حَصَلَتْ لِلطَّائِفَتَيْنِ . فَإِذَا قِيلَ : الْأَعْمَالُ الْوَاجِبَةُ مِنْ الْإِيمَانِ . فَالْإِيمَانُ الْوَاجِبُ مُتَنَوِّعٌ لَيْسَ شَيْئًا وَاحِدًا فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ يَقُولُونَ : جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ أَيْ مِنْ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِالمُسْتَحَبّاتِ . لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ . وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ
بِالمُسْتَحَبّاتِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : الْغُسْلُ يَنْقَسِمُ إلَى مُجْزِئٍ وَكَامِلٍ . فَالْمُجْزِئُ : مَا أَتَى فِيهِ بِالْوَاجِبَاتِ فَقَطْ . وَالْكَامِلُ : مَا أَتَى فِيهِ بِالمُسْتَحَبّاتِ . وَلَفْظُ الْكَمَالِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ الْوَاجِبُ . وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ فِي مَوَاضِعَ فَهَذَا صَحِيحٌ . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِيمَانَ إذَا أُطْلِقَ أَدْخَلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ الْأَعْمَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا . وَقَدْ يُقْرَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ وَذَكَرْنَا نَظَائِرَ لِذَلِكَ كَثِيرَةً . وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ . وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَازِمَةٌ لِذَلِكَ . لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إيمَانِ الْقَلْبِ الْوَاجِبِ مَعَ عَدَمِ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ بَلْ مَتَى نَقَصَتْ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كَانَ لِنَقْصِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ ؛ فَصَارَ الْإِيمَانُ مُتَنَاوِلًا لِلْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَا فِي الْقَلْبِ ؛ وَحَيْثُ عُطِفَتْ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ فَإِنَّهُ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِإِيمَانِ الْقَلْبِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ . ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلَانِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْمَعْطُوفُ دَخَلَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَوَّلًا . ثُمَّ ذَكَرَ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ تَخْصِيصًا لَهُ لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْأَوَّلِ وَقَالُوا : هَذَا فِي كُلِّ مَا عُطِفَ فِيهِ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ كَقَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وَقَوْلِهِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } وَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } فَخُصَّ الْإِيمَانُ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ بَعْدَ قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا } وَهَذِهِ نَزَلَتْ فِي الصَّحَابَةِ
وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَوْلِهِ : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } وَقَوْلِهِ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مِنْ الْعِبَادَةِ فَقَوْلُهُ : { آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } كَقَوْلِهِ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } . فَإِنَّهُ قَصَدَ " أَوَّلًا " أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا لِغَيْرِهِ ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ وَاجِبَتَانِ فَلَا يَكْتَفِي بِمُطْلَقِ الْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ دُونَهُمَا وَكَذَلِكَ يَذْكُرُ الْإِيمَانَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ ثُمَّ يَذْكُرُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فَإِنَّهُ أَيْضًا مِنْ تَمَامِ الدِّينِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا يَظُنُّ الظَّانُّ اكْتِفَاءَهُ بِمُجَرَّدِ إيمَانٍ لَيْسَ مَعَهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { الم } { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ كَابْنِ سلام وَنَحْوِهِ وَإِنَّ هَؤُلَاءِ نَوْعٌ غَيْرُ النَّوْعِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَقَدْ قِيلَ : هَؤُلَاءِ جَمِيعُ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مَنْ قَبْلِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا عُطِفُوا لِتَغَايُرِ الصِّفَتَيْنِ كَقَوْلِهِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي
قَدَّرَ فَهَدَى } { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } { فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ وَعَطَفَ بَعْضَ صِفَاتِهِ عَلَى بَعْضٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ . وَالصِّفَاتُ : إذَا كَانَتْ مَعَارِفَ كَانَتْ لِلتَّوْضِيحِ وَتَضَمَّنَتْ الْمَدْحَ أَوْ الذَّمَّ . تَقُولُ : هَذَا الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا تُعَدِّدُ مَحَاسِنَهُ وَلِهَذَا مَعَ الْإِتْبَاعِ قَدْ يَعْطِفُونَهَا وَيَنْصِبُونَ أَوْ يَرْفَعُونَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَلَا مُفْلِحِينَ وَلَا مُتَّقِينَ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مَنْ قَبْلِهِ إنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ يُنْفِقُونَ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا مُفْلِحِينَ وَلَمْ يَكُونُوا مُتَّقِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ صِفَةُ الْمُهْتَدِينَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ إلَى مُحَمَّدٍ فَقَدْ عُطِفَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ عَلَى تِلْكَ مَعَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِيهَا لَكِنَّ الْمَقْصُودَ صِفَةُ إيمَانِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ؛ وَإِلَّا فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ إلَّا الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ فَقَدْ يَقُولُ : مَنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضِ : نَحْنُ نُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ . وَلَمَّا كَانَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ سَنَامَ الْقُرْآنِ ؛ وَيُقَالُ : إنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ افْتَتَحَهَا اللَّهُ بِأَرْبَعِ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعِ عَشْرَةَ آيَةٍ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُ مِنْ حِينِ هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَارَ النَّاسُ " ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ " : إمَّا مُؤْمِنٌ وَإِمَّا كَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ وَإِمَّا مُنَافِقٌ ؛ بِخِلَافِ مَا كَانُوا وَهُوَ بِمَكَّةَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنَافِقٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ : لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مُنَافِقٌ وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ فِي قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ ؛ فَإِنَّ مَكَّةَ كَانَتْ لِلْكُفَّارِ مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهَا فَلَا يُؤْمِنُ وَيُهَاجِرُ إلَّا مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ لَيْسَ هُنَاكَ دَاعٍ يَدْعُو إلَى النِّفَاقِ ؛ وَالْمَدِينَةُ آمَنَ بِهَا أَهْلُ الشَّوْكَةِ ؛ فَصَارَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَا عِزٌّ وَمَنَعَةٌ بِالْأَنْصَارِ فَمَنْ لَمْ يُظْهِرْ الْإِيمَانَ آذَوْهُ . فَاحْتَاجَ الْمُنَافِقُونَ إلَى إظْهَارِ الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَمْ تُؤْمِنْ ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ الْبَقَرَةَ وَوَسَطَ الْبَقَرَةِ وَخَتَمَ الْبَقَرَةَ بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ؛ فَقَالَ فِي أَوَّلِهَا مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ فِي وَسَطِهَا : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } الْآيَةَ : وَقَالَ فِي آخِرِهَا : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } وَالْآيَةُ الْأُخْرَى . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ : مَنْ قَرَأَ بِهِمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ } " وَالْآيَةُ الْوُسْطَى قَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " { أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِهَا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ : وبـ { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } الْآيَةَ تَارَةً . وبـ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }
َوَ{
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَارَةً } . فَيَقْرَأُ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ
الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَوْ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ
. فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُقَالُ : الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْمَعْطُوفَةُ
عَلَى الْإِيمَانِ دَخَلَتْ فِي الْإِيمَانِ وَعُطِفَ عَلَيْهِ عَطْفَ الْخَاصِّ
عَلَى الْعَامِّ ؛ إمَّا لِذِكْرِهِ خُصُوصًا بَعْدَ عُمُومٍ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ
إذَا عُطِفَ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَامِّ . وَقِيلَ
: بَلْ الْأَعْمَالُ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ فَإِنَّ أَصْلَ
الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ وَلَكِنْ هِيَ لَازِمَةٌ لَهُ فَمَنْ لَمْ
يَفْعَلْهَا كَانَ إيمَانُهُ مُنْتَفِيًا ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ
يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ لَكِنْ صَارَتْ بِعُرْفِ الشَّارِعِ دَاخِلَةً
فِي اسْمِ الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ ذُكِرَتْ لِئَلَّا
يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ مُجَرَّدَ إيمَانِهِ بِدُونِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ
اللَّازِمَةِ لِلْإِيمَانِ يُوجِبُ الْوَعْدَ ؛ فَكَانَ ذِكْرُهَا تَخْصِيصًا
وَتَنْصِيصًا لِيَعْلَمَ أَنَّ الثَّوَابَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ
وَهُوَ الْجَنَّةُ بِلَا عَذَابٍ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ
صَالِحًا ؛ لَا يَكُونُ لِمَنْ ادَّعَى الْإِيمَانَ وَلَمْ يَعْمَلْ وَقَدْ
بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الصَّادِقَ فِي قَوْلِهِ : آمَنْت
لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْوَاجِبِ وَحَصْرُ الْإِيمَانِ فِي هَؤُلَاءِ يَدُلُّ
عَلَى انْتِفَائِهِ عَمَّنْ سِوَاهُمْ . وللجهمية هُنَا سُؤَالٌ ذَكَرَهُ أَبُو
الْحَسَنِ فِي كِتَابِ " الْمُوجِزِ " وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَفَى
الْإِيمَانَ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } وَلَمْ يَقُلْ : إنَّ هَذِهِ
الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالُوا : فَنَحْنُ نَقُولُ : مَنْ لَمْ يَعْمَلْ
هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لِأَنَّ انْتِفَاءَهَا دَلِيلٌ عَلَى
انْتِفَاءِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا
: أَنَّكُمْ سَلَّمْتُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَازِمَةٌ لِإِيمَانِ
الْقَلْبِ فَإِذَا انْتَفَتْ لَمْ يَبْقَ فِي الْقَلْبِ إيمَانٌ وَهَذَا هُوَ
الْمَطْلُوبُ ؛ وَبَعْدَ هَذَا فَكَوْنُهَا لَازِمَةً أَوْ جُزْءًا نِزَاعٌ
لَفْظِيٌّ .
الثَّانِي : أَنَّ نُصُوصًا صَرَّحَتْ بِأَنَّهَا جُزْءٌ كَقَوْلِهِ : " {
الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً } " .
الثَّالِثُ : إنَّكُمْ إنْ قُلْتُمْ بِأَنَّ مَنْ انْتَفَى عَنْهُ هَذِهِ الْأُمُورُ
فَهُوَ كَافِرٌ خَالٍ مَنْ كُلِّ إيمَانٍ كَانَ قَوْلُكُمْ قَوْلَ الْخَوَارِجِ
وَأَنْتُمْ فِي طَرَفٍ وَالْخَوَارِجُ فِي طَرَفٍ فَكَيْفَ تُوَافِقُونَهُمْ
وَمِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ
رَمَضَانَ وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَالْإِجَابَةُ إلَى حُكْمِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ ؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُكَفِّرُونَ تَارِكَهُ وَإِنْ
كَفَّرْتُمُوهُ كَانَ قَوْلُكُمْ قَوْلَ الْخَوَارِجِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : إنَّ انْتِفَاءَ بَعْضِ هَذِهِ
الْأَعْمَالِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ مِنْ
التَّصْدِيقِ بِأَنَّ الرَّبَّ حَقٌّ قَوْلٌ يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ .
الْخَامِسُ : أَنَّ هَذَا إذَا ثَبَتَ فِي هَذِهِ ثَبَتَ فِي سَائِرِ
الْوَاجِبَاتِ فَيَرْتَفِعُ النِّزَاعُ الْمَعْنَوِيُّ .
فَصْلٌ
: الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ غَلَطِ " الْمُرْجِئَةِ " :
ظَنُّهُمْ أَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ لَيْسَ إلَّا التَّصْدِيقَ
فَقَطْ دُونَ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ ؛ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ جهمية الْمُرْجِئَةِ .
الثَّالِثُ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا
بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ الْأَعْمَالَ ثَمَرَةَ
الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ مَعَ الْمُسَبِّبِ وَلَا
يَجْعَلُونَهَا لَازِمَةً لَهُ ؛ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ
التَّامِّ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ بِحَسَبِهِ لَا مَحَالَةَ
وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِالْقَلْبِ إيمَانٌ تَامٌّ بِدُونِ عَمَلٍ ظَاهِرٍ ؛
وَلِهَذَا صَارُوا يُقَدِّرُونَ مَسَائِلَ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهَا لِعَدَمِ
تَحَقُّقِ الِارْتِبَاطِ الَّذِي بَيْنَ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ مِثْلَ أَنْ
يَقُولُوا : رَجُلٌ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْلَ مَا فِي قَلْبِ أَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُوَ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً وَلَا يَصُومُ رَمَضَانَ
وَيَزْنِي بِأُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ نَهَارَ رَمَضَانَ ؛
يَقُولُونَ : هَذَا مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ فَيَبْقَى سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ
يُنْكِرُونَ ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ :
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ
الْعَبْسِيُّ قَالَ : قَدِمَ عَلَيْنَا سَالِمٌ الْأَفْطَسُ بِالْإِرْجَاءِ
فَنَفَرَ مِنْهُ أَصْحَابُنَا نُفُورًا شَدِيدًا مِنْهُمْ مَيْمُونُ بْنُ مهران
وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ
لَا يُؤْوِيَهُ وَإِيَّاهُ سَقْفُ بَيْتٍ إلَّا الْمَسْجِدُ قَالَ مَعْقِلٌ : فَحَجَجْت فَدَخَلْت عَلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي وَهُوَ يَقْرَأُ : { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قُلْت : إنَّ لَنَا حَاجَةً فأخلنا فَفَعَلَ ؛ فَأَخْبَرْته أَنَّ قَوْمًا قَبْلَنَا قَدْ أَحْدَثُوا وَتَكَلَّمُوا وَقَالُوا : إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ ؛ فَقَالَ : أَوَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } . فَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مِنْ الدِّينِ قَالَ : فَقُلْت : إنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَيْسَ فِي الْإِيمَانِ زِيَادَةٌ فَقَالَ : أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ فِيمَا أَنْزَلَ : { لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } هَذَا الْإِيمَانَ . فَقُلْت : إنَّهُمْ انتحلوك . وَبَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ ذَرٍّ دَخَلَ عَلَيْك فِي أَصْحَابٍ لَهُ ؛ فَعَرَضُوا عَلَيْك قَوْلَهُمْ فَقَبِلْته . فَقُلْت هَذَا الْأَمْرَ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ : قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَجَلَسْت إلَى نَافِعٍ فَقُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّ لِي إلَيْك حَاجَةً فَقَالَ : سِرٌّ أَمْ عَلَانِيَةٌ ؟ فَقُلْت : لَا بَلْ سِرٌّ : قَالَ : رُبَّ سِرٍّ لَا خَيْرَ فِيهِ فَقُلْت : لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا صَلَّيْنَا الْعَصْرَ قَامَ وَأَخَذَ بِثَوْبِي ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْخَوْخَةِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ الْقَاصَّ فَقَالَ : حَاجَتُك ؟ قَالَ فَقُلْت : أخلني هَذَا . فَقَالَ : تَنَحَّ ؛ قَالَ : فَذَكَرْت لَهُ قَوْلَهُمْ . فَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ : " { أُمِرْت أَنْ أَضْرِبَهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ فَإِذَا قَالُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } " قَالَ : قُلْت : إنَّهُمْ يَقُولُونَ : نَحْنُ نُقِرُّ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فَرْضٌ وَلَا نُصَلِّي ؛ وَبِأَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ وَنَشْرَبُهَا ؛ وَأَنَّ نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ حَرَامٌ وَنَحْنُ نَنْكِحُ . فَنَثَرَ يَدَهُ مِنْ يَدِي وَقَالَ : مَنْ فَعَلَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ .
قَالَ مَعْقِلٌ : فَلَقِيت الزُّهْرِيَّ فَأَخْبَرْته بِقَوْلِهِمْ . فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْخُصُومَاتِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . " { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ؛ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } " . قَالَ مَعْقِلٌ . فَلَقِيت الْحَكَمَ بْنَ عتبة فَقُلْت لَهُ : إنَّ عَبْدَ الْكَرِيمِ وَمَيْمُونًا بَلَغَهُمَا أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْك نَاسٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ فَعَرَضُوا بِقَوْلِهِمْ عَلَيْك فَقَبِلْت قَوْلَهُمْ ؛ قَالَ فَقَبِلَ ذَلِكَ عَلَيَّ مَيْمُونٌ ؛ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَأَنَا مَرِيضٌ فَقَالُوا : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ بَلَغَك { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ رَجُلٌ بِأَمَةِ سَوْدَاءَ أَوْ حَبَشِيَّةٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ أَفَتَرَى هَذِهِ مُؤْمِنَةً ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْهَدِينَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . فَقَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : وَتَشْهَدِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ . : قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : وَتَشْهَدِينَ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : وَتَشْهَدِينَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُك مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ ؟ . قَالَتْ نَعَمْ ؛ قَالَ : فَأَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } " : فَخَرَجُوا وَهُمْ يَنْتَحِلُونَ ذَلِكَ . قَالَ مَعْقِلٌ : ثُمَّ جَلَسْت إلَى مَيْمُونِ بْنِ مهران فَقُلْت يَا أَبَا أَيُّوبَ لَوْ قَرَأْت لَنَا سُورَةً فَفَسَّرْتهَا قَالَ : فَقَرَأَ : { إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } حَتَّى إذَا بَلَغَ : { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } قَالَ : ذَاكُمْ جِبْرِيلُ وَالْخَيْبَةُ لِمَنْ يَقُولُ : أَنَّ إيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَرَوَاهُ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَد وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : لَقَدْ أَتَى عَلَيَّ بُرْهَةٌ مِنْ الدَّهْرِ وَمَا أَرَانِي أُدْرِكُ قَوْمًا يَقُولُ أَحَدُهُمْ : " إنِّي مُؤْمِنٌ مُسْتَكْمِلُ الْإِيمَانِ ثُمَّ مَا رَضِيَ حَتَّى قَالَ : إيمَانِي عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ وميكائيل وَمَا زَالَ بِهِمْ الشَّيْطَانُ
حَتَّى قَالَ أَحَدُهُمْ : إنِّي مُؤْمِنٌ وَإِنْ نَكَحَ أُخْتَهُ وَأُمَّهُ وَبِنْتَهُ وَاَللَّهِ لَقَدْ أَدْرَكْت كَذَا وَكَذَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا وَهُوَ يَخْشَى النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " قَالَ : أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ ؛ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ : إيمَانُهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ . وَرَوَى البغوي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ مُجَاهِدٍ قَالَ : كُنْت عِنْدَ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَجَاءَ ابْنُهُ يَعْقُوبُ فَقَالَ : يَا أَبَتَاهُ إنَّ أَصْحَابًا لِي يَزْعُمُونَ أَنَّ إيمَانَهُمْ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ ؛ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ لَيْسَ إيمَانُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ كَإِيمَانِ مَنْ عَصَى اللَّهَ . قُلْت : قَوْلُهُ عَنْ " الْمُرْجِئَةِ " : إنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ قَدْ يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ : لَيْسَتَا مِنْ الْإِيمَانِ وَأَمَّا مِنْ الدِّينِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ : لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ ؛ وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هُمَا مِنْ الدِّينِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَاسْمِ الدِّينِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ الَّتِي يَقُولُونَهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ : وَلَمْ أَرَ أَنَا فِي كِتَابِ أَحَدٍ مُهِمٍّ أَنَّهُ قَالَ : الْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الدِّينِ بَلْ يَقُولُونَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عَمَّنْ نَاظَرَهُ مِنْهُمْ فَإِنَّ أَبَا عُبَيْدٍ وَغَيْرَهُ يَحْتَجُّونَ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الدِّينِ ؛ فَذَكَرَ قَوْلَهُ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } إنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا كَمَّلَ الدِّينَ الْآنَ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ كَانَ كَامِلًا قَبْلَ ذَلِكَ
بِعِشْرِينَ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِمَكَّةَ حِينَ دَعَا النَّاسَ إلَى الْإِقْرَارِ حَتَّى قَالَ : لَقَدْ اُضْطُرَّ بَعْضُهُمْ حِينَ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحُجَّةُ . . إلَى أَنْ قَالَ : إنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِجَمِيعِ الدِّينِ وَلَكِنَّ الدِّينَ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ : الْإِيمَانُ جُزْءٌ ؛ وَالْفَرَائِضُ جُزْءٌ وَالنَّوَافِلُ جُزْءٌ . قُلْت : هَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَوْمِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَهَذَا غَيْرُ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ أَلَا تَسْمَعُ إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } وَقَالَ { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } . وَقَالَ : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ بِرُمَّتِهِ ؛ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ ثُلُثُ الدِّينِ . قُلْت : إنَّمَا قَالُوا : إنَّ الْإِيمَانَ ثُلُثٌ وَلَمْ يَقُولُوا إنَّ الْإِيمَانَ ثُلُثُ الدِّينِ . لَكِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَمُسَمَّى الدِّينِ وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَامَ فِي مُسَمَّى هَذَا وَمُسَمَّى هَذَا فَقَدْ يُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ لَيْسَتَا مِنْ الدِّينِ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ كِلَاهُمَا مِنْ الدِّينِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَاسْمِ الدِّينِ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُعَظِّمًا لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَيَقُولُ : لَيْسَ فِي التَّابِعِينَ أَتْبَعُ لِلْحَدِيثِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ : مَا رَأَيْت مِثْلَ عَطَاءٍ وَقَدْ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْحُجَّةَ عَنْ عَطَاءٍ . فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ : حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مَيْمُونٌ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ الشَّافِعِيِّ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ لَيْلَةً للحميدي : مَا يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ يَعْنِي
أَهْلَ الْإِرْجَاءِ بِآيَةِ أَحَجُّ مِنْ قَوْلِهِ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " فِي ( بَابِ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ : يُحْتَجُّ بِأَنْ لَا تُجْزِئَ صَلَاةٌ إلَّا بِنِيَّةِ بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } " ثُمَّ قَالَ : وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَنْ أَدْرَكْنَاهُمْ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ لَا يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثِ إلَّا بِالْآخَرِ . وَقَالَ حَنْبَلٌ : حَدَّثَنَا الحميدي قَالَ : وَأُخْبِرْت أَنَّ نَاسًا يَقُولُونَ : مَنْ أَقَرَّ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَلَمْ يَفْعَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا حَتَّى يَمُوتَ وَيُصَلِّيَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَمُوتَ ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مَا لَمْ يَكُنْ جَاحِدًا إذَا عَلِمَ أَنَّ تَرْكَهُ ذَلِكَ فِيهِ إيمَانُهُ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِالْفَرَائِضِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَقُلْت : هَذَا الْكُفْرُ الصُّرَاحُ وَخِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } الْآيَةَ . وَقَالَ حَنْبَلٌ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ : مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدَ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَرَدَّ عَلَى أَمْرِهِ وَعَلَى الرَّسُولِ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ اللَّهِ . قُلْت : وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ لِلْأَمَةِ " { أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } " فَهُوَ مِنْ حُجَجِهِمْ الْمَشْهُورَةِ وَبِهِ احْتَجَّ ابْنُ كُلَّابٍ وَكَانَ يَقُولُ : الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْقَوْلُ جَمِيعًا فَكَانَ قَوْلُهُ أَقْرَبَ مِنْ قَوْلِ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ
الْإِيمَانَ
الظَّاهِرَ الَّذِي تَجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ فِي الدُّنْيَا لَا
يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ فِي الْبَاطِنِ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ مِنْ أَهْلِ
السَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا : {
آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } هُمْ فِي
الظَّاهِرِ مُؤْمِنُونَ يُصَلُّونَ مَعَ النَّاسِ . وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ
وَيَغْزُونَ وَالْمُسْلِمُونَ يُنَاكِحُونَهُمْ ويوارثونهم كَمَا كَانَ
الْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمُنَافِقِينَ بِحُكْمِ الْكُفَّارِ الْمُظْهِرِينَ لِلْكُفْرِ لَا فِي
مُنَاكَحَتِهِمْ وَلَا موارثتهم وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ ؛ بَلْ لَمَّا مَاتَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أبي ابْنُ سلول - وَهُوَ مِنْ أَشْهَرِ النَّاسِ بِالنِّفَاقِ -
وَرِثَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَذَلِكَ
سَائِرُ مَنْ كَانَ يَمُوتُ مِنْهُمْ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُؤْمِنُونَ ؛
وَإِذَا مَاتَ لِأَحَدِهِمْ . وَارِثٌ وَرِثُوهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُنَافِقِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي يَكْتُمُ
زَنْدَقَتَهُ هَلْ يَرِثُ وَيُورَثُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ
يَرِثُ وَيُورَثُ وَإِنْ عُلِمَ فِي الْبَاطِنِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَمَا كَانَ
الصَّحَابَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ
الْمِيرَاثَ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُوَالَاةِ الظَّاهِرَةِ لَا عَلَى الْمَحَبَّةِ
الَّتِي فِي الْقُلُوبِ فَإِنَّهُ لَوْ عُلِّقَ بِذَلِكَ لَمْ تُمْكِنْ مَعْرِفَتُهُ
وَالْحِكْمَةُ إذَا كَانَتْ خَفِيَّةً أَوْ مُنْتَشِرَةً عُلِّقَ الْحُكْمُ
بِمَظِنَّتِهَا وَهُوَ مَا أَظْهَرَهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَقَوْلُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ
الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ } " لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ
الْمُنَافِقُونَ وَإِنْ كَانُوا فِي الْآخِرَةِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ
النَّارِ ؛ بَلْ كَانُوا يُورَثُونَ وَيَرِثُونَ ؛ وَكَذَلِكَ كَانُوا فِي
الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَمَعَ هَذَا
لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَالَ : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } وَقَالَ { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } " وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَغَازِي كَمَا خَرَجَ ابْنُ أبي فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَالَ فِيهَا : { لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } . " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ { زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهَا شِدَّةٌ ؛ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي لِأَصْحَابِهِ : لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ . وَقَالَ : { لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته فَأَرْسَلَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي ؛ فَسَأَلَهُ فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ وَقَالُوا : كَذَبَ زَيْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوا شِدَّةٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقِي فِي { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } فَدَعَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فلووا رُءُوسَهُمْ . وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ اسْتَنْفَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَنْفَرَ غَيْرَهُمْ فَخَرَجَ بَعْضُهُمْ مَعَهُ وَبَعْضُهُمْ تَخَلَّفُوا وَكَانَ فِي الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ مَنْ هَمَّ بِقَتْلِهِ فِي الطَّرِيقِ هَمُّوا بِحَلِّ حِزَامِ
نَاقَتِهِ لِيَقَعَ فِي وَادٍ هُنَاكَ فَجَاءَهُ الْوَحْيُ فَأَسَرَّ إلَى حُذَيْفَةَ أَسْمَاءَهُمْ وَلِذَلِكَ يُقَالُ : هُوَ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ } كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي " الصَّحِيحِ " وَمَعَ هَذَا فَفِي الظَّاهِرِ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الْإِيمَانِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ شُبُهَاتٍ كَثِيرَةٍ تُورِدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا بَقِيَ فِي الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ عِنْدَهُمْ إلَّا عَدْلٌ أَوْ فَاسِقٌ وَأَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقُونَ مَا زَالُوا وَلَا يَزَالُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالنِّفَاقُ شُعَبٌ كَثِيرَةٌ وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَخَافُونَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ . فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائتمن خَانَ } " وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ : " { وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } " . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ . " { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا ائتمن خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } " . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ حَتَّى نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } وَقَالَ : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَلَا يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَلَكِنْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةٌ
لَا يَسْتَحِلُّ مِنْهُمْ مَا يَسْتَحِلُّهُ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بَلْ يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ دُونَ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } " { وَلَمَّا قَالَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ : أَقَتَلْته بَعْدَ مَا قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ قَالَ : إنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا . قَالَ : هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ ؟ وَقَالَ . إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ } " { وَكَانَ إذَا اُسْتُؤْذِنَ فِي قَتْلِ رَجُلٍ يَقُولُ : أَلَيْسَ يُصَلِّي أَلَيْسَ يَتَشَهَّدُ ؟ فَإِذَا قِيلَ لَهُ : إنَّهُ مُنَافِقٌ . قَالَ : ذَاكَ } فَكَانَ حُكْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَحُكْمِهِ فِي دِمَاءِ غَيْرِهِمْ لَا يَسْتَحِلُّ مِنْهَا شَيْئًا إلَّا بِأَمْرِ ظَاهِرٍ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ نِفَاقَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ ؛ وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ نِفَاقَهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } وَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ . وَكَانَ عُمَرُ إذَا مَاتَ مَيِّتٌ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ لِأَنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَعْيَانَهُمْ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } فَأَمَرَ بِامْتِحَانِهِنَّ هُنَا وَقَالَ : { اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } .
وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ فِي الْكَفَّارَةِ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى النَّاسِ أَلَّا يُعْتِقُوا إلَّا مَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُمْ : اُقْتُلُوا إلَّا مَنْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ . وَهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا أَنْ يُنَقِّبُوا عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا يَشُقُّوا بُطُونَهُمْ ؛ فَإِذَا رَأَوْا رَجُلًا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ جَازَ لَهُمْ عِتْقُهُ وَصَاحِبُ الْجَارِيَةِ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ هِيَ مُؤْمِنَةٌ ؟ إنَّمَا أَرَادَ الْإِيمَانَ الظَّاهِرَ الَّذِي يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ نَذْرٌ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعْتِقَ إلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ مُطْلَقًا ؛ بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ يَعْلَمُ ذَلِكَ مُطْلَقًا . وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ وَاَللَّهُ يَقُولُ لَهُ : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } . فَأُولَئِكَ إنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكُمُ فِيهِمْ كَحُكْمِهِ فِي سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَلَوْ حَضَرَتْ جِنَازَةُ أَحَدِهِمْ صَلَّى عَلَيْهَا وَلَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَ نِفَاقَهُ ؛ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَيَعْلَمَ سَرَائِرَهُمْ وَهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَشَرٌ . وَلِهَذَا لَمَّا كَشَفَهُمْ اللَّهُ بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ بِقَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ } { وَمِنْهُمْ } صَارَ يَعْرِفُ نِفَاقَ نَاسٍ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ نِفَاقَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَهُمْ بِصِفَاتِ عَلِمَهَا النَّاسُ مِنْهُمْ ؛ وَمَا كَانَ النَّاسُ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِنِفَاقِهِمْ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَظُنُّ ذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ يَعْلَمُهُ ؛ فَلَمْ يَكُنْ نِفَاقُهُمْ مَعْلُومًا عِنْدَ الْجَمَاعَةِ بِخِلَافِ حَالِهِمْ لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ كَتَمُوا النِّفَاقَ وَمَا بَقِيَ يُمْكِنُهُمْ مِنْ إظْهَارِهِ أَحْيَانًا مَا كَانَ يُمْكِنُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } { مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا } { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } فَلَمَّا تُوُعِّدُوا بِالْقَتْلِ إذَا أَظْهَرُوا النِّفَاقَ كَتَمُوهُ . وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِتَابَةِ الزِّنْدِيقِ . فَقِيلَ : يُسْتَتَابُ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ أَمْرَهُمْ إلَى اللَّهِ ؛ فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَبَعْدَ هَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ : { مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا } فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ إنْ أَظْهَرُوهُ كَمَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ قُتِلُوا فَكَتَمُوهُ . وَالزِّنْدِيقُ : هُوَ الْمُنَافِقُ وَإِنَّمَا يَقْتُلُهُ مَنْ يَقْتُلُهُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّهُ يَكْتُمُ النِّفَاقَ قَالُوا : وَلَا تُعْلَمُ تَوْبَتُهُ لِأَنَّ غَايَةَ مَا عِنْدَهُ أَنَّهُ يُظْهِرُ مَا كَانَ يُظْهِرُ ؛ وَقَدْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَهُوَ مُنَافِقٌ ؛ وَلَوْ قُبِلَتْ تَوْبَةُ الزَّنَادِقَةِ لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى تَقْتِيلِهِمْ وَالْقُرْآنُ قَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِالتَّقْتِيلِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ تِلْكَ الْأُمَّةِ بِالْإِيمَانِ الظَّاهِرِ الَّذِي عُلِّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ الظَّاهِرَةُ وَإِلَّا فَقَدَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّ سَعْدًا لَمَّا شَهِدَ لِرَجُلِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ قَالَ : " أو مُسْلِمٌ " وَكَانَ يُظْهِرُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا تُظْهِرُهُ الْأُمَّةُ وَزِيَادَةً فَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا النَّاسُ فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ حُكْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ؛ فَالْمُؤْمِنُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَنَّةِ لَا بُدَّ
أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ حَتَّى الكَرَّامِيَة الَّذِينَ يُسَمُّونَ الْمُنَافِقَ مُؤْمِنًا وَيَقُولُونَ : الْإِيمَانُ هُوَ الْكَلِمَةُ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ . وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِمْ ؛ إنَّمَا نَازَعُوا فِي الِاسْمِ لَا فِي الْحُكْمِ بِسَبَبِ شُبْهَةِ الْمُرْجِئَةِ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَفَاضَلُ ؛ وَلِهَذَا أَكْثَرُ مَا اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّقَبَةِ الَّتِي تُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ فَتَنَازَعُوا هَلْ يُجْزِئُ الصَّغِيرُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ لِلسَّلَفِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد ؛ فَقِيلَ : لَا يُجْزِئُ عِتْقُهُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالصَّغِيرُ لَمْ يُؤْمِنْ بِنَفْسِهِ إنَّمَا إيمَانُهُ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ؛ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فِي الْبَاطِنِ ؛ وَقِيلَ : بَلْ يُجْزِئُ عِتْقُهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ وَهُوَ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ ؛ فَكَمَا أَنَّهُ يَرِثُ مِنْهُمَا وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُصَلَّى إلَّا عَلَى مُؤْمِنٍ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ . وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا نِفَاقَهُمْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إذَا مَاتُوا وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْبَرَةُ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَيَاتِهِ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ يُدْفَنُ فِيهَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُنَافِقِينَ مَقْبَرَةٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ دِيَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا تَكُونُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَقْبَرَةٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهَا وَمَنْ دُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَالصَّلَاةُ لَا تَجُوزُ عَلَى مَنْ عُلِمَ نِفَاقُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْإِيمَانِ الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ حَتَّى نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ . وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِالْكُفْرِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَافِرٌ بِالْبَاطِنِ جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ بِدْعَةٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ . وَإِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ أَوْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ " الصَّلَاةَ " عَلَى بَعْضِ الْمُتَظَاهِرِينَ بِبِدْعَةِ أَوْ فُجُورٍ زَجْرًا عَنْهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرِّمًا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُ بَلْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ كَانَ يَمْتَنِعُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْغَالُّ وَقَاتِلُ نَفْسِهِ وَالْمَدِينُ الَّذِي لَا وَفَاءَ لَهُ : " { صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ } " وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلرَّجُلِ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ يَدَعُ ذَلِكَ زَجْرًا عَنْ مِثْلِ مَذْهَبِهِ كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ مُحَلَّمِ بْنِ جَثَّامَةَ . وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ إلَّا قِسْمَانِ : مُؤْمِنٌ أَوْ مُنَافِقٌ فَالْمُنَافِقُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَالْآخَرُ مُؤْمِنٌ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ نَاقِصَ الْإِيمَانِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْمُطْلَقُ وَقَدْ يَكُونُ تَامَّ الْإِيمَانِ وَهَذَا يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَأَسْمَاءِ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ ؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ أَحَدٌ بِمُجَرَّدِ ذَنْبٍ يذنبه وَلَا بِبِدْعَةِ ابْتَدَعَهَا - وَلَوْ دَعَا النَّاسَ إلَيْهَا - كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ إلَّا إذَا كَانَ مُنَافِقًا . فَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ وَقَدْ غَلِطَ فِي بَعْضِ مَا تَأَوَّلَهُ مِنْ الْبِدَعِ فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ أَصْلًا وَالْخَوَارِجُ كَانُوا مِنْ أَظْهَرِ النَّاسِ بِدْعَةً وَقِتَالًا لِلْأُمَّةِ وَتَكْفِيرًا لَهَا وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يُكَفِّرُهُمْ لَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَلَا غَيْرُهُ بَلْ حَكَمُوا
فِيهِمْ بِحُكْمِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ كَمَا ذَكَرَتْ الْآثَارُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُنَافِقًا فَهُوَ كَافِرٌ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا بَلْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي التَّأْوِيلِ كَائِنًا مَا كَانَ خَطَؤُهُ ؛ وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِهِمْ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ وَلَا يَكُونُ فِيهِ النِّفَاقُ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بَلْ وَإِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِ الْأَرْبَعَةِ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ كَفَّرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِبَعْضِ الْمَقَالَاتِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ بِكُفْرِ هَذَا لِأَنَّ هَذَا فَرْضُ مَا لَا يَقَعُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَيَفْعَلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مِثْلَ الصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَنِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ فِي الْبَاطِنِ ؛ بَلْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا لِعَدَمِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ وَلِهَذَا كَانَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يُكَفِّرُونَ أَنْوَاعًا مِمَّنْ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ وَيَجْعَلُونَهُ مُرْتَدًّا بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مَعَ النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ الَّذِي بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي الْعَمَلِ : هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ
أَمْ لَا ؟ وَلِهَذَا فَرَضَ مُتَأَخِّرُو الْفُقَهَاءِ مَسْأَلَةً يَمْتَنِعُ وُقُوعُهَا وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَدُعِيَ إلَيْهَا وَامْتَنَعَ وَاسْتُتِيبَ ثَلَاثًا مَعَ تَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى قُتِلَ هَلْ يَمُوتُ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَهَذَا الْفَرْضُ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَهَا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُعَاقِبُهُ عَلَى تَرْكِهَا وَيَصْبِرُ عَلَى الْقَتْلِ وَلَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَهُ فِي ذَلِكَ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ بَشَرٌ قَطُّ بَلْ وَلَا يُضْرَبُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُقِرُّ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ إلَّا صَلَّى لَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ بِهِ إلَى الْقَتْلِ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ إلَّا لِأَمْرِ عَظِيمٍ مِثْلَ لُزُومِهِ لِدِينِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إنْ فَارَقَهُ هَلَكَ فَيَصْبِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يُقْتَلَ وَسَوَاءٌ كَانَ الدِّينُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَمَّا مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَا يَكُونُ فِعْلُ الصَّلَاةِ أَصْعَبَ عَلَيْهِ مِنْ احْتِمَالِ الْقَتْلِ قَطُّ . وَنَظِيرُ هَذَا لَوْ قِيلَ : إنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ قِيلَ لَهُ : تَرْضَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَامْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ مَعَ مَحَبَّتِهِ لَهُمَا وَاعْتِقَادِهِ فَضْلَهُمَا وَمَعَ عَدَمِ الْأَعْذَارِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّرَضِّي عَنْهُمَا فَهَذَا لَا يَقَعُ قَطُّ . وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ : إنَّ رَجُلًا يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَقَدْ طُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ هُنَاكَ رَهْبَةٌ وَلَا رَغْبَةٌ يَمْتَنِعُ لِأَجْلِهَا فَامْتَنَعَ مِنْهَا حَتَّى قُتِلَ فَهَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ إلَّا بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين إلَّا الْجَهْمِيَّة - جَهْمًا وَمَنْ وَافَقَهُ - فَإِنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ لِكَوْنِهِ أَخْرَسَ أَوْ لِكَوْنِهِ خَائِفًا مِنْ قَوْمٍ إنْ
أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ آذَوْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ إيمَانٍ فِي قَلْبِهِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ جَهْمٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ فَإِنَّهُ جَعَلَ كُلَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مِنْ أَهْلِ وَعِيدِ الْكُفَّارِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } قِيلَ : وَهَذَا مُوَافِقٌ لِأَوَّلِهَا فَإِنَّهُ مَنْ كَفَرَ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَدْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا وَإِلَّا نَاقَضَ أَوَّلُ الْآيَةِ آخِرَهَا وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَنْ كَفَرَ هُوَ الشَّارِحُ صَدْرَهُ وَذَلِكَ يَكُونُ بِلَا إكْرَاهٍ لَمْ يُسْتَثْنَ الْمُكْرَهُ فَقَطْ بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُسْتَثْنَى الْمُكْرَهُ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ إذَا لَمْ يَشْرَحْ صَدْرَهُ وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ طَوْعًا فَقَدْ شَرَحَ بِهَا صَدْرًا وَهِيَ كُفْرٌ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ } { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } { لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ مَعَ قَوْلِهِمْ : إنَّا تَكَلَّمْنَا بِالْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لَهُ بَلْ كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ وَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ اللَّهِ كُفْرٌ وَلَا يَكُونُ هَذَا إلَّا مِمَّنْ شَرَحَ صَدْرَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ مَنَعَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ .
وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ أَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ بِحَسَبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى . { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } { وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } { وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ سَمِعُوا وَأَطَاعُوا ؛ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ .
فَصْلٌ
:
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَمَتَى ذَهَبَ بَعْضُ ذَلِكَ بَطَلَ الْإِيمَانُ
فَيَلْزَمُ تَكْفِيرُ أَهْلِ الذُّنُوبِ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ أَوْ
تَخْلِيدُهُمْ فِي النَّارِ وَسَلْبُهُمْ اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا
تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ
الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّ الْمُرْجِئَةَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ
وَالْعُبَّادِ الْمَذْكُورِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ بِخَيْرِ وَأَمَّا الْخَوَارِجُ
وَالْمُعْتَزِلَةُ فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ
مُطْبِقُونَ عَلَى ذَمِّهِمْ . قِيلَ : أَوَّلًا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ
الْقَوْلَ الَّذِي لَمْ يُوَافِقْ الْخَوَارِجَ وَالْمُعْتَزِلَةَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ هُوَ الْقَوْلُ بِتَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي
النَّارِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَشْهُورَةِ وَقَدْ
اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ ؛ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِمَّنْ فِي
قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ
نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ فِيمَنْ يَأْذَنُ اللَّهُ
لَهُ بِالشَّفَاعَةِ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ أُمَّتِهِ . فَفِي
" الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { لِكُلِّ نَبِيٍّ
دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي
يَوْمَ الْقِيَامَةِ } " وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مَذْكُورَةٌ فِي
مَوَاضِعِهَا . وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ
خِلَافًا كَمَا
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَهَذَا غَلَطٌ عَلَى الصَّحَابَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَلَا قَالَ : إنَّهُمْ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَلَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ قَالَ : إنَّ الْقَاتِلَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَعَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا وَالنِّزَاعُ فِي التَّوْبَةِ غَيْرُ النِّزَاعِ فِي التَّخْلِيدِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ فَلِهَذَا حَصَلَ فِيهِ النِّزَاعُ . . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْإِيمَانَ إذَا ذَهَبَ بَعْضُهُ ذَهَبَ كُلُّهُ فَهَذَا مَمْنُوعٌ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي تَفَرَّعَتْ عَنْهُ الْبِدَعُ فِي الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ مَتَى ذَهَبَ بَعْضُهُ ذَهَبَ كُلُّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ . ثُمَّ قَالَتْ " الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ " : هُوَ مَجْمُوعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ كَمَا قَالَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ ؛ قَالُوا : فَإِذَا ذَهَبَ شَيْءٌ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ مَعَ صَاحِبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ فَيُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَقَالَتْ " الْمُرْجِئَةُ " عَلَى اخْتِلَافِ فِرَقِهِمْ : لَا تُذْهِبُ الْكَبَائِرُ وَتَرْكُ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ شَيْئًا مِنْ الْإِيمَانِ إذْ لَوْ ذَهَبَ شَيْءٌ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَكُونُ شَيْئًا وَاحِدًا يَسْتَوِي فِيهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَنُصُوصُ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَهَابِ بَعْضِهِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ ؛ كَقَوْلِهِ : " { يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } " . وَلِهَذَا كَانَ " أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ " عَلَى أَنَّهُ يَتَفَاضَلُ وَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ : يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَزِيدُ وَلَا يَقُولُ : يَنْقُصُ كَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَتَفَاضَلُ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَقَدْ ،
ثَبَتَ لَفْظُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ فَرَوَى النَّاسُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مَشْهُورَةٍ : عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ جَدِّهِ عُمَيْرِ بْنِ حَبِيبٍ الخطمي ؛ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؛ قِيلَ لَهُ : وَمَا زِيَادَتُهُ وَمَا نُقْصَانُهُ ؟ قَالَ : إذَا ذَكَرْنَا اللَّهَ وَحَمِدْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَتِلْكَ زِيَادَتُهُ ؛ وَإِذَا غَفَلْنَا وَنَسِينَا فَتِلْكَ نُقْصَانُهُ . وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ حَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا حَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ : سَمِعْت أَشْيَاخَنَا أَوْ بَعْضَ أَشْيَاخِنَا أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَ : إنَّ مِنْ فِقْهِ الْعَبْدِ أَنْ يَتَعَاهَدَ إيمَانَهُ وَمَا نَقَصَ مَعَهُ وَمِنْ فِقْهِ الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَيَزْدَادُ الْإِيمَانُ أَمْ يَنْقُصُ ؟ وَإِنَّ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ أَنَّى تَأْتِيهِ . وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ ذَرٍّ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ : هَلُمُّوا نَزْدَدْ إيمَانًا فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " الْغَرِيبِ " فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ : إنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً فِي الْقَلْبِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْإِيمَانُ ازْدَادَتْ اللُّمْظَةُ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ الْجُمَلِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ اللُّمْظَةُ : مِثْلُ النُّكْتَةِ أَوْ نَحْوُهَا .
وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عكيم قَالَ : سَمِعْت ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ زِدْنَا إيمَانًا وَيَقِينًا وَفِقْهًا . وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ : كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ لِرَجُلِ : اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنُ نَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَرَوَى أَبُو الْيَمَانِ : حَدَّثَنَا صَفْوَانُ عَنْ شريح بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ كَانَ يَأْخُذُ بِيَدِ الرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ : قُمْ بِنَا نُؤْمِنُ سَاعَةً فَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ ذِكْرٍ . وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَثْبَتَهَا الصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ . وَصَحَّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ : ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِهِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ ؛ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالِمِ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا : تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ رَوَاهَا الْمُصَنِّفُونَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ . قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ : الْإِيمَانُ يَبْدُو فِي الْقَلْبِ ضَعِيفًا ضَئِيلًا كَالْبَقْلَةِ ؛ فَإِنْ صَاحِبُهُ تَعَاهَدَهُ فَسَقَاهُ بِالْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَأَمَاطَ عَنْهُ الدَّغَلَ وَمَا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ أَوْشَكَ أَنْ يَنْمُوَ أَوْ يَزْدَادَ وَيَصِيرَ لَهُ أَصْلٌ وَفُرُوعٌ وَثَمَرَةٌ وَظَلَّ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى حَتَّى يَصِيرَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ . وَإِنْ صَاحِبَهُ أَهْمَلَهُ وَلَمْ يَتَعَاهَدْهُ جَاءَهُ عَنْزٌ فَنَتَفَتْهَا أَوْ صَبِيٌّ فَذَهَبَ بِهَا وَأَكْثَرَ عَلَيْهَا الدَّغَلَ فَأَضْعَفَهَا أَوْ أَهْلَكَهَا أَوْ أَيْبَسَهَا كَذَلِكَ الْإِيمَانُ
وَقَالَ خيثمة بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : الْإِيمَانُ يَسْمَنُ فِي الْخِصْبِ وَيَهْزُلُ فِي الْجَدْبِ فَخِصْبُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَجَدْبُهُ الذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي . وَقِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ : يَزْدَادُ الْإِيمَانُ وَيَنْقُصُ ؟ قَالَ نَعَمْ يَزْدَادُ حَتَّى يَصِيرَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ وَيَنْقُصُ حَتَّى يَصِيرَ أَمْثَالَ الْهَبَاءِ . وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الصَّحِيحِ : " { حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ : مَا أَجْلَدَهُ مَا أَظْرَفَهُ مَا أَعْقَلَهُ ؛ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ } " وَفِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ " { تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ؛ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ : أَبْيَضُ مِثْلُ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ : مربادا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إلَّا مَا أُشْرِبَ هَوَاهُ } " ؛ وَفِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ كِفَايَةٌ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَزِيَادَتِهِ فِي تِلْكَ الْخِصَالِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ إيمَانِهِمْ ؛ وَتَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللَّهِ فِي أُمُورِهِمْ كُلِّهَا . وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اليزني { عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَالَ : أَتُحِبُّ أَنْ أُخْبِرَك بِصَرِيحِ الْإِيمَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : إذَا أَسَأْت أَوْ ظَلَمْت أَحَدًا عَبْدَك أَوْ أَمَتَك أَوْ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ حَزِنْت وَسَاءَك ذَلِكَ .
وَإِذَا تَصَدَّقْت أَوْ أَحْسَنْت اسْتَبْشَرْت وَسَرَّك ذَلِكَ } وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ يَزِيدَ عَمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ وَنُقْصَانِهِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ الْبَزَّارُ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ ثَنَا هَانِئُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ إسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ اسْتَوْجَبَ الثَّوَابَ وَاسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ خُلُقٌ يَعِيشُ بِهِ فِي النَّاسِ وَوَرَعٌ يَحْجِزُهُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَحِلْمٌ يَرُدُّ بِهِ جَهْلَ الْجَاهِلِ } " . وَ " { أَرْبَعٌ مِنْ الشَّقَاءِ : جُمُودُ الْعَيْنِ وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ وَطُولُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا } " . فَالْخِصَالُ الْأُولَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ وَالْأَرْبَعَةُ الْأُخَرُ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ وَنُقْصَانِهِ . وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الموصلي : ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ القواريري وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَا : ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زريع وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَا : حَدَّثَنَا عَوْفٌ حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المزني { قَالَ يَزِيدُ فِي حَدِيثِهِ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ : حَدَّثَنِي رَجُلٌ قَدْ سَمَّاهُ وَنَسِيَ عَوْفٌ اسْمَهُ قَالَ : كُنْت بِالْمَدِينَةِ فِي مَسْجِدٍ فِيهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ . فَقَالَ لِبَعْضِ جُلَسَائِهِ : كَيْفَ سَمِعْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْإِسْلَامِ ؟ فَقَالَ : سَمِعْته يَقُولُ : الْإِسْلَامُ بَدَأَ جِذْعًا ؛ ثُمَّ ثَنِيًّا ؛ ثُمَّ رُبَاعِيًّا ؛ ثُمَّ سُدَاسِيًّا ؛ ثُمَّ بَازِلًا . فَقَالَ عُمَرُ : فَمَا بَعْدَ الْبُزُولِ إلَّا النُّقْصَانُ } كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى فِي " مُسْنَدِ عُمَرَ " وَفِي " مُسْنَدِ " هَذَا الصَّحَابِيِّ الْمُبْهَمِ ذِكْرُهُ أَوْلَى : قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ : مَنْ أَحْسَنَ فِي لَيْلِهِ كُوفِئَ فِي نَهَارِهِ وَمَنْ أَحْسَنَ فِي نَهَارِهِ كُوفِئَ فِي لَيْلِهِ .
وَالزِّيَادَةُ قَدْ نَطَقَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } وَهَذِهِ زِيَادَةٌ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ الْآيَاتُ أَيَّ وَقْتٍ تُلِيَتْ لَيْسَ هُوَ تَصْدِيقُهُمْ بِهَا عِنْدَ النُّزُولِ وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْمُؤْمِنُ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ زَادَ فِي قَلْبِهِ بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهِ مِنْ عِلْمِ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يَكُنْ ؛ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ الْآيَةَ إلَّا حِينَئِذٍ وَيَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الرَّغْبَةِ فِي الْخَيْرِ وَالرَّهْبَةِ مِنْ الشَّرِّ مَا لَمْ يَكُنْ ؛ فَزَادَ عِلْمُهُ بِاَللَّهِ وَمَحَبَّتُهُ لِطَاعَتِهِ وَهَذِهِ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ عِنْدَ تَخْوِيفِهِمْ بِالْعَدُوِّ لَمْ تَكُنْ عِنْدَ آيَةٍ نَزَلَتْ فَازْدَادُوا يَقِينًا وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ وَثَبَاتًا عَلَى الْجِهَادِ وَتَوْحِيدًا بِأَنْ لَا يَخَافُوا الْمَخْلُوقَ ؛ بَلْ يَخَافُونَ الْخَالِقَ وَحْدَهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ } . وَهَذِهِ " الزِّيَادَةُ " لَيْسَتْ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا بَلْ زَادَتْهُمْ إيمَانًا بِحَسَبِ مُقْتَضَاهَا ؛ فَإِنْ كَانَتْ أَمْرًا بِالْجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ ازْدَادُوا رَغْبَةً وَإِنْ كَانَتْ نَهْيًا عَنْ شَيْءٍ انْتَهُوا عَنْهُ فَكَرِهُوهُ وَلِهَذَا قَالَ : { وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } وَالِاسْتِبْشَارُ غَيْرُ مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ } وَالْفَرَحُ بِذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ } { بِنَصْرِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانًا } . وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } وَهَذِهِ نَزَلَتْ لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ ؛ فَجَعَلَ السَّكِينَةَ مُوجِبَةً لِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ . وَالسَّكِينَةُ طُمَأْنِينَةٌ فِي الْقَلْبِ غَيْرُ عِلْمِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ وَلِهَذَا قَالَ يَوْمَ حنين : { ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } وَلَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَلَ يَوْمَ حنين قُرْآنٌ وَلَا يَوْمَ الْغَارِ ؛ وَإِنَّمَا أَنْزَلَ سَكِينَتَهُ وَطُمَأْنِينَتَهُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ فَلَمَّا أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرْجِعَهُمْ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَزِيدَ حَالٌ لِلْقَلْبِ وَصِفَةٌ لَهُ وَعَمَلٌ مِثْلُ طُمَأْنِينَتِهِ وَسُكُونِهِ وَيَقِينِهِ وَالْيَقِينُ قَدْ يَكُونُ بِالْعَمَلِ وَالطُّمَأْنِينَةِ كَمَا يَكُونُ بِالْعِلْمِ وَالرَّيْبُ الْمُنَافِي لِلْيَقِينِ يَكُونُ رَيْبًا فِي الْعِلْمِ وَرَيْبًا فِي طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ : " { اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِك مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيك وَمِنْ طَاعَتِك مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَك وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا } " . وَفِي حَدِيثِ الصِّدِّيقِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَالْيَقِينَ ؛ فَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ شَيْئًا
خَيْرًا
مِنْ الْعَافِيَةِ ؛ فَسَلُوهُمَا اللَّهَ تَعَالَى } " ؛ فَالْيَقِينُ
عِنْدَ الْمَصَائِبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَهَا سَكِينَةَ
الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتَهُ وَتَسْلِيمَهُ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ
بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ }
قَالَ عَلْقَمَةُ : وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ
الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ
وقَوْله تَعَالَى { يَهْدِ قَلْبَهُ } هُدَاهُ لِقَلْبِهِ هُوَ زِيَادَةٌ فِي
إيمَانِهِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى }
وَقَالَ : { إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } .
وَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " أَكْثَرُ مَا يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ
مُقَيَّدًا ؛ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ مَا أَمَرَ
اللَّهُ بِهِ ؛ بَلْ يُجْعَلُ مُوجِبًا لِلَوَازِمِهِ وَتَمَامِ مَا أَمَرَ بِهِ
وَحِينَئِذٍ يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْمُطْلَقُ قَالَ تَعَالَى : { آمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } { وَمَا
لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا
بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { هُوَ
الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ
كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي
الْآيَةِ الْأُولَى : إنَّهَا خِطَابٌ لِقُرَيْشِ ؛ وَفِي الثَّانِيَةِ إنَّهَا
خِطَابٌ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ
يَقُلْ قَطُّ لِلْكُفَّارِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ثُمَّ قَالَ
بَعْدَ ذَلِكَ : { لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ
عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } وَهَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ لَمْ يُخَاطِبْ بِهَا الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ ؛ وَقَدْ قَالَ : { وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَهَذَا لَا يُخَاطَبُ بِهِ كَافِرٌ ؛ وَكُفَّارُ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ وَإِنَّمَا أَخَذَ مِيثَاقَ الْمُؤْمِنِينَ بِبَيْعَتِهِمْ لَهُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُسْلِمًا مُهَاجِرًا كَانَ يُبَايِعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَايَعَهُ الْأَنْصَارُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إلَى تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ وَتَكْمِيلِهِ بِأَدَاءِ مَا يَجِبُ مِنْ تَمَامِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ هَدَى الْمُؤْمِنِينَ لِلْإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ جُمْلَةً لَكِنَّ الْهِدَايَةَ الْمُفَصَّلَةَ فِي جَمِيعِ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ لَمْ تَحْصُلْ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الْخَاصَّةِ الْمُفَصَّلَةِ هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ . وَبِذَلِكَ يُخْرِجُهُمْ اللَّهُ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ .
فَصْلٌ
:
وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاَلَّذِي يَكُونُ مِنْ
عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ يُعْرَفُ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : الْإِجْمَالُ وَالتَّفْصِيلُ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ
وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَوَجَبَ
عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ الْتِزَامُ مَا يَأْمُرُ بِهِ رَسُولُهُمْ مُجْمَلًا
فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَا وَجَبَ بَعْدَ نُزُولِ
الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ مِنْ الْإِيمَانِ
الْمُفَصَّلِ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ
غَيْرُهُ فَمَنْ عَرَفَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ وَمَعَانِيَهَا لَزِمَهُ مِنْ
الْإِيمَانِ الْمُفَصَّلِ بِذَلِكَ مَا لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ وَلَوْ آمَنَ
الرَّجُلُ بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ
يَعْرِفَ شَرَائِعَ الدِّينِ مَاتَ مُؤْمِنًا بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ
الْإِيمَانِ وَلَيْسَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَا مَا وَقَعَ عَنْهُ مِثْلَ إيمَانِ
مَنْ عَرَفَ الشَّرَائِعَ فَآمَنَ بِهَا وَعَمِلَ بِهَا ؛ بَلْ إيمَانُ هَذَا
أَكْمَلُ وُجُوبًا وَوُقُوعًا فَإِنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ
أَكْمَلُ وَمَا وَقَعَ مِنْهُ أَكْمَلُ . وقَوْله تَعَالَى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ } أَيْ فِي التَّشْرِيعِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَيْسَ
الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى
سَائِرِ الْأُمَّةِ وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ ؛ بَلْ فِي " الصَّحِيحَيْنِ
" { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَصَفَ
النِّسَاءَ
بِأَنَّهُنَّ
نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ } وَجُعِلَ نُقْصَانُ عَقْلِهَا أَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ
شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَنُقْصَانُ دِينِهَا أَنَّهَا إذَا حَاضَتْ لَا تَصُومُ
وَلَا تُصَلِّي وَهَذَا النُّقْصَانُ لَيْسَ هُوَ نَقْصٌ مِمَّا أُمِرَتْ بِهِ ؛
فَلَا تُعَاقَبُ عَلَى هَذَا النُّقْصَانِ لَكِنْ مَنْ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ
وَالصَّوْمِ فَفَعَلَهُ كَانَ دِينُهُ كَامِلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ
النَّاقِصَةِ الدِّينِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : الْإِجْمَالُ وَالتَّفْصِيلُ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُمْ فَمَنْ
آمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مُطْلَقًا فَلَمْ يُكَذِّبْهُ قَطُّ لَكِنْ
أَعْرَضَ عَنْ مَعْرِفَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَخَبَرِهِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ
الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ؛ فَلَمْ يَعْلَمْ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْمَلْهُ ؛
بَلْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَآخَرُ طَلَبَ عِلْمَ مَا أُمِرَ بِهِ فَعَمِلَ بِهِ
وَآخَرُ طَلَبَ عِلْمَهُ فَعَلِمَهُ وَآمَنَ بِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَإِنْ
اشْتَرَكُوا فِي الْوُجُوبِ لَكِنْ مَنْ طَلَبَ عِلْمَ التَّفْصِيلِ وَعَمِلَ بِهِ
فَإِيمَانُهُ أَكْمَلُ بِهِ ؛ فَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ عَرَفَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ
وَالْتَزَمَهُ وَأَقَرَّ بِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَهَذَا
الْمُقِرُّ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الْمُعْتَرِفُ بِذَنْبِهِ الْخَائِفُ مِنْ
عُقُوبَةِ رَبِّهِ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ أَكْمَلُ إيمَانًا مِمَّنْ لَمْ
يَطْلُبْ مَعْرِفَةَ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَلَا عَمِلَ بِذَلِكَ ؛ وَلَا
هُوَ خَائِفٌ أَنْ يُعَاقَبَ ؛ بَلْ هُوَ فِي غَفْلَةٍ عَنْ تَفْصِيلِ مَا جَاءَ
بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ مُقِرٌّ
بِنُبُوَّتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . فَكُلَّمَا عَلِمَ الْقَلْبُ مَا أَخْبَرَ
بِهِ الرَّسُولُ فَصَدَّقَهُ وَمَا أُمِرَ بِهِ فَالْتَزَمَهُ ؛ كَانَ ذَلِكَ
زِيَادَةً فِي إيمَانِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ ؛ وَإِنْ كَانَ
مَعَهُ الْتِزَامٌ عَامٌّ وَإِقْرَارٌ عَامٌّ . وَكَذَلِكَ مَنْ عَرَفَ أَسْمَاءَ
اللَّهِ وَمَعَانِيَهَا فَآمَنَ بِهَا ؛ كَانَ إيمَانُهُ أَكْمَلَ مِمَّنْ لَمْ
يَعْرِفْ
تِلْكَ الْأَسْمَاءَ بَلْ آمَنَ بِهَا إيمَانًا مُجْمَلًا أَوْ عَرَفَ بَعْضَهَا ؛
وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْإِنْسَانُ مَعْرِفَةً بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ
وَآيَاتِهِ كَانَ إيمَانُهُ بِهِ أَكْمَلَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْعِلْمَ وَالتَّصْدِيقَ نَفْسَهُ يَكُونُ بَعْضُهُ أَقْوَى
مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتَ وَأَبْعَدَ عَنْ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ وَهَذَا أَمْرٌ
يَشْهَدُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ ؛ كَمَا أَنَّ الْحِسَّ الظَّاهِرَ
بِالشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِثْلَ رُؤْيَةِ النَّاسِ لِلْهِلَالِ وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِيهَا
فَبَعْضُهُمْ تَكُونُ رُؤْيَتُهُ أَتَمَّ مِنْ بَعْضٍ ؛ وَكَذَلِكَ سَمَاعُ
الصَّوْتِ الْوَاحِدِ وَشَمُّ الرَّائِحَةِ الْوَاحِدَةِ وَذَوْقُ النَّوْعِ
الْوَاحِدِ مِنْ الطَّعَامِ فَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ
يَتَفَاضَلُ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَالْمَعَانِي
الَّتِي يُؤْمِنُ بِهَا مِنْ مَعَانِي أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَكَلَامُهُ يَتَفَاضَلُ
النَّاسُ فِي مَعْرِفَتِهَا أَعْظَمَ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ غَيْرِهَا
.
الرَّابِعُ أَنَّ التَّصْدِيقَ الْمُسْتَلْزِمَ لِعَمَلِ الْقَلْبِ أَكْمَلُ مِنْ
التَّصْدِيقِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ عَمَلَهُ ؛ فَالْعِلْمُ الَّذِي يَعْمَلُ
بِهِ صَاحِبُهُ أَكْمَلُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِهِ وَإِذَا كَانَ
شَخْصَانِ يَعْلَمَانِ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَرَسُولَهُ حَقٌّ وَالْجَنَّةَ حَقٌّ
وَالنَّارَ حَقٌّ وَهَذَا عِلْمُهُ أَوْجَبَ لَهُ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَخَشْيَتَهُ
وَالرَّغْبَةَ فِي الْجَنَّةِ وَالْهَرَبَ مِنْ النَّارِ وَالْآخَرُ عِلْمُهُ لَمْ
يُوجِبْ ذَلِكَ ؛ فَعِلْمُ الْأَوَّلِ أَكْمَلُ ؛ فَإِنَّ قُوَّةَ الْمُسَبِّبِ
دَلَّ عَلَى قُوَّةِ السَّبَبِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ نَشَأَتْ عَنْ الْعِلْمِ
فَالْعِلْمُ بِالْمَحْبُوبِ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَهُ ؛ وَالْعِلْمُ بِالْمَخُوفِ
يَسْتَلْزِمُ الْهَرَبَ مِنْهُ ؛ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ اللَّازِمُ دَلَّ عَلَى
ضَعْفِ الْمَلْزُومِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " { لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايِنِ } " فَإِنَّ مُوسَى
لَمَّا أَخْبَرَهُ
رَبُّهُ
أَنَّ قَوْمَهُ عَبَدُوا الْعِجْلَ لَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ . فَلَمَّا رَآهُمْ
قَدْ عَبَدُوهُ أَلْقَاهَا ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِشَكِّ مُوسَى فِي خَبَرِ اللَّهِ
لَكِنَّ الْمُخْبِرَ وَإِنْ جَزَمَ بِصِدْقِ الْمُخْبَرِ فَقَدْ لَا يَتَصَوَّرُ
الْمُخْبَرَ بِهِ فِي نَفْسِهِ كَمَا يَتَصَوَّرُهُ إذَا عَايَنَهُ ؛ بَلْ يَكُونُ
قَلْبُهُ مَشْغُولًا عَنْ تَصَوُّرِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا
بِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ تَصَوُّرِ
الْمُخْبَرِ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُخْبِرِ فَهَذَا التَّصْدِيقُ
أَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ التَّصْدِيقِ .
الْخَامِسُ : أَنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ مِثْلَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَجَائِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هِيَ كُلُّهَا مِنْ
الْإِيمَانِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتِّفَاقُ
السَّلَفِ ؛ وَهَذِهِ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهَا تَفَاضُلًا عَظِيمًا .
السَّادِسُ : أَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ مَعَ الْبَاطِنَةِ هِيَ أَيْضًا
مِنْ الْإِيمَانِ وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِيهَا .
السَّابِعُ : ذِكْرُ الْإِنْسَانِ بِقَلْبِهِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ
وَاسْتِحْضَارُهُ لِذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ غَافِلًا عَنْهُ ؛ أَكْمَلُ
مِمَّنْ صَدَّقَ بِهِ وَغَفَلَ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ الْغَفْلَةَ تُضَادُّ كَمَالَ
الْعِلْمِ ؛ وَالتَّصْدِيقُ وَالذِّكْرُ وَالِاسْتِحْضَارُ يُكْمِلُ الْعِلْمَ
وَالْيَقِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ عُمَيْرُ بْنُ حَبِيبٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إذَا
ذَكَرْنَا اللَّهَ وَحَمِدْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَتِلْكَ زِيَادَتُهُ ؛ وَإِذَا
غَفَلْنَا وَنَسِينَا وَضَيَّعْنَا فَذَلِكَ نُقْصَانُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ ؛
وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ : اجْلِسُوا بِنَا سَاعَةً
نُؤْمِنُ قَالَ تَعَالَى { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } {
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } ثُمَّ كُلَّمَا تَذَكَّرَ الْإِنْسَانُ مَا
عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ وَعَمِلَ بِهِ
حَصَلَ لَهُ مَعْرِفَةُ شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَرَفَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْأَثَرِ " { مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } " وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ كُلُّ مُؤْمِنٍ . وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَاَلَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ } " . قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } وَذَلِكَ أَنَّهَا تَزِيدُهُمْ عِلْمَ مَا لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ عَلِمُوهُ وَتَزِيدُهُمْ عَمَلًا بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَتَزِيدُهُمْ تَذَكُّرًا لِمَا كَانُوا نَسُوهُ وَعَمَلًا بِتِلْكَ التَّذْكِرَةِ وَكَذَلِكَ مَا يُشَاهِدُهُ الْعِبَادُ مِنْ الْآيَاتِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ . قَالَ تَعَالَى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } أَيْ إنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } . فَإِنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ فِي الْقُرْآنِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ ؛ فَآمَنَ بِهِ الْمُؤْمِنُ ثُمَّ أَرَاهُمْ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ فَبَيَّنَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ مَعَ مَا كَانَ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } { وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } فَالْآيَاتُ الْمَخْلُوقَةُ وَالْمَتْلُوَّةُ فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَفِيهَا تَذْكِرَةٌ : تَبْصِرَةٌ مِنْ الْعَمَى وَتَذْكِرَةٌ مِنْ الْغَفْلَةِ ؛ فَيُبْصِرُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَرَفَ حَتَّى يَعْرِفَ وَيَذْكُرُ مَنْ عَرَفَ وَنَسِيَ وَالْإِنْسَانُ يَقْرَأُ السُّورَةَ مَرَّاتٍ حَتَّى سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَيَظْهَرُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَالِ مِنْ مَعَانِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ خَطَرَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهَا تِلْكَ السَّاعَةُ نَزَلَتْ ؛ فَيُؤْمِنُ بِتِلْكَ الْمَعَانِي وَيَزْدَادُ عِلْمُهُ
وَعَمَلُهُ
وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ بِتَدَبُّرِ بِخِلَافِ مَنْ
قَرَأَهُ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ ثُمَّ كُلَّمَا فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ
بِهِ اسْتَحْضَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فَصَدَّقَ الْأَمْرَ فَحَصَلَ لَهُ فِي
تِلْكَ السَّاعَةِ مِنْ التَّصْدِيقِ فِي قَلْبِهِ مَا كَانَ غَافِلًا عَنْهُ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا مُنْكِرًا .
الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مُكَذِّبًا وَمُنْكِرًا
لِأُمُورِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهَا وَأَمَرَ بِهَا وَلَوْ
عَلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ يُنْكِرْ . بَلْ قَلْبُهُ جَازِمٌ بِأَنَّهُ
لَا يُخْبِرُ إلَّا بِصِدْقِ وَلَا يَأْمُرُ إلَّا بِحَقِّ ثُمَّ يَسْمَعُ
الْآيَةَ أَوْ الْحَدِيثَ أَوْ يَتَدَبَّرُ ذَلِكَ أَوْ يُفَسِّرُ لَهُ مَعْنَاهُ
أَوْ يَظْهَرُ لَهُ ذَلِكَ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ فَيُصَدِّقُ بِمَا كَانَ
مُكَذِّبًا بِهِ وَيَعْرِفُ مَا كَانَ مُنْكِرًا وَهَذَا تَصْدِيقٌ جَدِيدٌ
وَإِيمَانٌ جَدِيدٌ ازْدَادَ بِهِ إيمَانُهُ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ كَافِرًا
بَلْ جَاهِلًا ؛ وَهَذَا وَإِنْ أَشْبَهَ الْمُجْمَلَ وَالْمُفَصَّلَ لِكَوْنِ
قَلْبِهِ سَلِيمًا عَنْ تَكْذِيبٍ وَتَصْدِيقٍ لِشَيْءِ مِنْ التَّفَاصِيلِ وَعَنْ
مَعْرِفَةٍ وَإِنْكَارٍ لِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ فَيَأْتِيهِ التَّفْصِيلُ بَعْدَ
الْإِجْمَالِ عَلَى قَلْبِ سَاذِجٍ ؛ وَأَمَّا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ مِنْ
أَهْلِ الْعُلُومِ وَالْعِبَادَاتِ فَيَقُومُ بِقُلُوبِهِمْ مِنْ التَّفْصِيلِ
أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ
أَنَّهَا تُخَالِفُ فَإِذَا عَرَفُوا رَجَعُوا وَكُلُّ مَنْ ابْتَدَعَ فِي
الدِّينِ قَوْلًا أَخْطَأَ فِيهِ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا أَخْطَأَ فِيهِ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ بِالرَّسُولِ أَوْ عَرَفَ مَا قَالَهُ وَآمَنَ بِهِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ
؛ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَكُلُّ مُبْتَدِعٍ قَصْدُهُ مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ
فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَمَنْ عَلِمَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَعَمِلَ
بِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ أَخْطَأَ ذَلِكَ ؛ وَمَنْ عَلِمَ الصَّوَابَ بَعْدَ الْخَطَأِ
وَعَمِلَ بِهِ فَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ .
فَصْلٌ
:
وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ إسْلَامًا بِلَا إيمَانٍ فِي قَوْله
تَعَالَى { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا
أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } . وَقَدْ ثَبَتَ
فِي " الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : أَعْطَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا وَفِي رِوَايَةٍ قَسَمَ
قَسْمًا وَتَرَكَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُعْطَهُ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إلَيَّ فَقُلْت
: يَا رَسُولَ اللَّهِ ما لَك عَنْ فُلَانٍ ؟ فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَاهُ
مُؤْمِنًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو
مُسْلِمًا . أَقُولُهَا ثَلَاثًا وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ : إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ
وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى
وَجْهِهِ فِي النَّارِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { فَضَرَبَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي
وَقَالَ : أَقَتَّالٌ أَيْ سَعْدٌ } . فَهَذَا الْإِسْلَامُ الَّذِي نَفَى اللَّهُ
عَنْ أَهْلِهِ دُخُولَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ هَلْ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ
عَلَيْهِ ؟ أَمْ هُوَ مِنْ جِنْسِ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ
مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إسْلَامٌ يُثَابُونَ
عَلَيْهِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ . وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ
الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِين وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي
وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ ؛ وَهُوَ قَوْل حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَقَائِقِ . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : سَمِعْت هِشَامًا يَقُولُ : كَانَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ : مُسْلِمٌ وَيَهَابَانِ : مُؤْمِنٌ . وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الخزاعي قَالَ : قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : " الْإِيمَانُ " الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ وَالْعَمَلُ إلَّا أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ خَاصًّا وَالْإِسْلَامَ عَامًّا . وَ ( الْقَوْلُ الثَّانِي ) : أَنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ : هُوَ الِاسْتِسْلَامُ خَوْفَ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ مِثْلَ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ . قَالُوا : وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي قُلُوبِهِمْ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ كَافِرٌ . وَهَذَا اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَالسَّلَفُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ : أَتَيْت إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي فَقُلْت : إنَّ رَجُلًا خَاصَمَنِي يُقَالُ لَهُ : سَعِيدٌ الْعَنْبَرِيُّ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ لَيْسَ بِالْعَنْبَرِيِّ وَلَكِنَّهُ زُبَيْدِيٌّ . قَوْلُهُ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } فَقَالَ : هُوَ الِاسْتِسْلَامُ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ : لَا هُوَ الْإِسْلَامُ . وَقَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
مُجَاهِدٍ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } قَالَ : اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ . وَلَكِنَّ هَذَا مُنْقَطِعٌ سُفْيَانُ لَمْ يُدْرِكْ مُجَاهِدًا . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ هُوَ كَإِسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ لَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ قَالُوا : لِأَنَّ اللَّهَ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ وَمَنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ فَهُوَ كَافِرٌ . وَقَالَ هَؤُلَاءِ : الْإِسْلَامُ هُوَ الْإِيمَانُ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ . وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَمَنْ جَعَلَ الْفُسَّاقَ مُسْلِمِينَ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ لَزِمَهُ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ دَاخِلِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } وَفِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا دُعُوا بِاسْمِ الْإِيمَانِ لَا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ . وَجَوَابُ هَذَا أَنْ يُقَالَ : الَّذِينَ قَالُوا مِنْ السَّلَفِ : إنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُولُوا : إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ بَلْ هَذَا قَوْلُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا يَقُولُونَ : الْفُسَّاقُ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ . وَإِنَّ مَعَهُمْ إيمَانًا يَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ . لَكِنْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ اسْمُ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الثَّوَابَ وَدُخُولَ الْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ وَهُمْ يَدْخُلُونَ فِي الْخِطَابِ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِذَلِكَ هُوَ لِمَنْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا خُوطِبَ لِيَفْعَلَ تَمَامَ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ أَتَمَّهُ قَبْلَ الْخِطَابِ وَإِلَّا كُنَّا قَدْ تَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْمَأْمُورَ مِنْ الْإِيمَانِ قَبْلَ الْخِطَابِ ؛ وَإِنَّمَا صَارَ مِنْ الْإِيمَانِ بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا بِهِ فَالْخِطَابُ بِـ { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ
آمَنُوا } غَيْرُ قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ } وَنَظَائِرِهَا فَإِنَّ الْخِطَابَ بِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا } أَوَّلًا : يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ
مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ يَدْخُلُ فِيهِ فِي الظَّاهِرِ فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُ
فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا
. وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا يُقَالُ فِيهِ
: إنَّهُ مُسْلِمٌ وَمَعَهُ إيمَانٌ يَمْنَعُهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَهَذَا
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ . لَكِنْ هَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ
اسْمُ الْإِيمَانِ ؟ هَذَا هُوَ الَّذِي تَنَازَعُوا فِيهِ فَقِيلَ : يُقَالُ
مُسْلِمٌ وَلَا يُقَالُ : مُؤْمِنٌ . وَقِيلَ : بَلْ يُقَالُ : مُؤْمِنٌ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ مُؤْمِنٌ
بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ وَلَا يُعْطَى اسْمَ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ
؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ نَفَيَا عَنْهُ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ ؛ وَاسْمُ
الْإِيمَانِ يَتَنَاوَلُهُ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ
إيجَابٌ عَلَيْهِ وَتَحْرِيمٌ عَلَيْهِ وَهُوَ لَازِمٌ لَهُ كَمَا يَلْزَمُهُ
غَيْرُهُ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اسْمِ الْمَدْحِ الْمُطْلَقِ ؛ وَعَلَى هَذَا
فَالْخِطَابُ بِالْإِيمَانِ يَدْخُلُ فِيهِ " ثَلَاثُ طَوَائِفَ " :
يَدْخُلُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ حَقًّا وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُ فِي أَحْكَامِهِ
الظَّاهِرَةِ وَإِنْ كَانُوا فِي الْآخِرَةِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ
النَّارِ ؛ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ يَنْفِي عَنْهُ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ
وَفِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ لَهُ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ الظَّاهِرُ ؛
وَيَدْخُلُ فِيهِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ حَقِيقَةُ
الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ ؛ لَكِنْ مَعَهُمْ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ
وَالْإِسْلَامِ يُثَابُونَ عَلَيْهِ .
ثُمَّ قَدْ يَكُونُونَ مُفْرِطِينَ فِيمَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ لَكِنْ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الْمَفْرُوضَاتِ وَهَؤُلَاءِ كَالْأَعْرَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : آمَنَّا مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ مِنْهُمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . فَلَا دَخَلَتْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ كَانَ دَعَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجِهَادِ وَقَدْ يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْمُعَرَّضِينَ لِلْوَعِيدِ ؛ كَاَلَّذِينَ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَأْتُونَ الْكَبَائِرَ ؛ وَهَؤُلَاءِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ وَلَكِنْ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ : هَلْ يُقَالُ : إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؟ . وَأَمَّا " الْخَوَارِجُ " ؛ " وَالْمُعْتَزِلَةُ " فَيُخْرِجُونَهُمْ مِنْ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ ؛ فَإِذَا خَرَجُوا عِنْدَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ خَرَجُوا مِنْ الْإِسْلَامِ ؛ لَكِنَّ الْخَوَارِجَ تَقُولُ : هُمْ كُفَّارٌ ؛ وَالْمُعْتَزِلَةَ تَقُولُ : لَا مُسْلِمُونَ وَلَا كُفَّارُ ؛ يُنْزِلُونَهُمْ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ أَنَّهُ قَالَ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } ثُمَّ قَالَ : { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ هَذَا الْإِسْلَامِ ؛ آجَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى الطَّاعَةِ . وَالْمُنَافِقُ عَمَلُهُ حَابِطٌ فِي الْآخِرَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِخِلَافِ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ وَصَفَهُمْ بِكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } الْآيَاتِ . وَقَالَ : { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } فَالْمُنَافِقُونَ يَصِفُهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِالْكَذِبِ ؛ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَبِأَنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ ؛ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَصِفْهُمْ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ لَمَّا ادَّعَوْا الْإِيمَانَ قَالَ لِلرَّسُولِ : { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } . وَنَفْيُ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ثُمَّ قَالَ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ؛ يَكُونُ مُنَافِقًا مِنْ أَهْلِ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ بَلْ لَا يَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَنُفِيَ عَنْهُ كَمَا يُنْفَى سَائِرُ الْأَسْمَاءِ عَمَّنْ تَرَكَ بَعْضَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْأَعْرَابُ لَمْ يَأْتُوا بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ ؛ فَنُفِيَ عَنْهُمْ لِذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ . وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً ؛ بَلْ حَالُ أَكْثَرِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ
حَقَائِقَ الْإِيمَانِ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قُوتِلَ حَتَّى أَسْلَمَ كَمَا كَانَ الْكُفَّارُ يُقَاتِلُونَ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْأَسْرِ أَوْ سَمِعَ بِالْإِسْلَامِ فَجَاءَ فَأَسْلَمَ ؛ فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ مُلْتَزِمٌ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَلَمْ تَدْخُلْ إلَى قَلْبِهِ الْمَعْرِفَةُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ تَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ ذَلِكَ ؛ إمَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَإِمَّا بِمُبَاشَرَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالِاقْتِدَاءِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَإِمَّا بِهِدَايَةِ خَاصَّةٍ مِنْ اللَّهِ يَهْدِيهِ بِهَا . وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ مَا يَدْعُوهُ إلَى الدُّخُولِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُلِدَ عَلَيْهِ وَتَرَبَّى بَيْنَ أَهْلِهِ فَإِنَّهُ يُحِبُّهُ فَقَدْ ظَهَرَ لَهُ بَعْضُ مَحَاسِنِهِ وَبَعْضُ مَسَاوِئِ الْكُفَّارِ . وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَرْتَابُ إذَا سَمِعَ الشُّبَهَ الْقَادِحَةَ فِيهِ وَلَا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ فَلَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَلَيْسَ هُوَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ مُضْمِرًا لِلْكُفْرِ فَلَا هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَلَا هُوَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَلَا هُوَ أَيْضًا مِنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ بَلْ يَأْتِي بِالطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ وَلَا يَأْتِي بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا ؛ فَهَذَا مَعَهُ إيمَانٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَيُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ الطَّاعَاتِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } وَلِهَذَا قَالَ : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } يَعْنِي فِي قَوْلِكُمْ : { آمَنَّا } . يَقُولُ : إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَاَللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ؛ وَهَذَا
يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَدْ يَكُونُونَ صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ : { آمَنَّا } . ثُمَّ صَدَقَهُمْ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ اتِّصَافُهُمْ بِأَنَّهُمْ { آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كَالْمُنَافِقِينَ بَلْ مَعَهُمْ إيمَانٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَدَّعُوا مُطْلَقَ الْإِيمَانِ وَهَذَا أَشْبَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ النِّسْوَةَ الْمُمْتَحِنَاتِ قَالَ فِيهِنَّ : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } وَلَا يُمْكِنُ نَفْيُ الرَّيْبِ عَنْهُنَّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا كَذَّبَ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يُكَذِّبْ غَيْرَهُمْ ؛ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُكَذِّبْهُمْ وَلَكِنْ قَالَ : { لَمْ تُؤْمِنُوا } كَمَا قَالَ : { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } وَقَوْلُهُ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَ { لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ . وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ مَنَّوْا بِإِسْلَامِهِمْ لِجَهْلِهِمْ وَجَفَائِهِمْ وَأَظْهَرُوا مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنْ الدِّينِ لَمْ يَكُونُوا يُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِهِمْ ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الظَّاهِرَ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ . وَدَخَلَتْ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ : { أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى يُخْبِرُونَ وَيُحَدِّثُونَ كَأَنَّهُ قَالَ : أَتُخْبِرُونَهُ وَتُحَدِّثُونَهُ بِدِينِكُمْ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ . وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَخْبَرُوا بِهِ اللَّهَ هُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ : { آمَنَّا } فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَمَّا فِي قُلُوبِهِمْ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ { لَمَّا نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ صَادِقُونَ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا صَادِقِينَ أَوَّلًا فِي دُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُمْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ جِهَادٌ حَتَّى يَدْخُلُوا بِهِ فِي الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ قَالُوهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } وَلَفْظُ : ( لَمَّا يَنْفِي بِهِ مَا يَقْرُبُ حُصُولُهُ وَيَحْصُلُ غَالِبًا كَقَوْلِهِ : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ } وَقَدْ قَالَ السدي : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَعْرَابِ مزينة وَجُهَيْنَةَ وَأَسْلَمَ وَأَشْجَعَ وَغِفَارٍ وَهُمْ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَكَانُوا يَقُولُونَ : آمَنَّا بِاَللَّهِ لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَمَّا اسْتَنْفَرُوا إلَى الْحُدَيْبِيَةِ تَخَلَّفُوا ؛ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ . وَعَنْ مُقَاتِلٍ : كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَكَانُوا إذَا مَرَّتْ بِهِمْ سَرِيَّةٌ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : آمَنَّا لِيَأْمَنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ اسْتَنْفَرَهُمْ فَلَمْ يَنْفِرُوا مَعَهُ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : نَزَلَتْ فِي أَعْرَابِ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَة وَوَصَفَ غَيْرُهُ حَالَهُمْ . فَقَالَ : قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فِي سَنَةٍ مُجْدِبَةٍ فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَأَفْسَدُوا طُرُقَ الْمَدِينَةِ بِالْعَذِرَاتِ وَأَغْلَوْا أَسْعَارَهُمْ وَكَانُوا يَمُنُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ : أَتَيْنَاك بِالْأَثْقَالِ وَالْعِيَالِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَدْ قَالَ قتادة فِي قَوْلِهِ : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قَالَ : مَنَّوْا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءُوا فَقَالُوا : إنَّا أَسْلَمْنَا بِغَيْرِ قِتَالٍ لَمْ نُقَاتِلْك كَمَا قَاتَلَك بَنُو فُلَانٍ وَبَنُو فُلَانٍ فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ } . وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ : هُمْ { أَعْرَابُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَة قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَيْنَاك بِغَيْرِ قِتَالٍ وَتَرَكْنَا الْعَشَائِرَ وَالْأَمْوَالَ وَكُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْ الْعَرَبِ قَاتَلَتْك حَتَّى دَخَلُوا كُرْهًا فِي الْإِسْلَامِ ؛ فَلَنَا بِذَلِكَ عَلَيْك حَقٌّ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } } . فَلَهُ بِذَلِكَ الْمَنُّ عَلَيْكُمْ وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَيُقَالُ : مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي خُتِمَتْ بِنَارِ كُلُّ مُوجِبَةٍ مَنْ رَكِبَهَا وَمَاتَ عَلَيْهَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا . وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ ؛ وَلَا كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ وَسُورَةُ الْحُجُرَاتِ قَدْ ذَكَرَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافَ فَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } وَلَمْ يَصِفْهُمْ بِكُفْرِ وَلَا نِفَاقٍ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُخْشَى عَلَيْهِمْ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَلِهَذَا ارْتَدَّ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخَالِطْ الْإِيمَانُ بَشَاشَةَ قُلُوبِهِمْ وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } الْآيَةَ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَكَانَ قَدْ كَذَبَ فِيمَا أَخْبَرَ . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي { الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ لِيَقْبِضَ صَدَقَاتِهِمْ وَقَدْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَارَ بَعْضَ الطَّرِيقِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّهُمْ مَنَعُوا الصَّدَقَةَ وَأَرَادُوا قَتْلِي فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَعْثَ إلَيْهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ } . وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي تَمَامِهَا : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } الْآيَةَ . ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَسْخَرَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَعَنْ اللَّمْزِ وَالتَّنَابُزِ بِالْأَلْقَابِ وَقَالَ : { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } وَقَدْ قِيلَ : مَعْنَاهُ : لَا تُسَمِّيهِ فَاسِقًا وَلَا كَافِرًا بَعْدَ إيمَانِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ بَلْ الْمُرَادُ : بِئْسَ الِاسْمُ أَنْ تَكُونُوا فُسَّاقًا بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الَّذِي كَذَبَ : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } فَسَمَّاهُ فَاسِقًا . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } يَقُولُ : فَإِذَا سَابَبْتُمْ الْمُسْلِمَ وَسَخِرْتُمْ مِنْهُ وَلَمَزْتُمُوهُ اسْتَحْقَقْتُمْ أَنْ تُسَمُّوا فُسَّاقًا وَقَدْ قَالَ فِي آيَةِ الْقَذْفِ : { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } . يَقُولُ : فَإِذَا أَتَيْتُمْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تَسْتَحِقُّونَ بِهَا أَنْ تُسَمُّوا
فُسَّاقًا كُنْتُمْ قَدْ اسْتَحْقَقْتُمْ اسْمَ الْفُسُوقِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَإِلَّا فَهُمْ فِي تَنَابُزِهِمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ : فَاسِقٌ كَافِرٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَبَعْضُهُمْ يُلَقِّبُ بَعْضًا . وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : لَا تُسَمِّيهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِدِينِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ لِلْيَهُودِيِّ إذَا أَسْلَمَ : يَا يَهُودِيُّ ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ كَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ والقرظي وَقَالَ عِكْرِمَةُ : هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ : يَا كَافِرُ يَا مُنَافِقُ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : هُوَ تَسْمِيَةُ الرَّجُلِ بِالْأَعْمَالِ كَقَوْلِهِ : يَا زَانِي يَا سَارِقُ يَا فَاسِقُ وَفِي تَفْسِيرِ العوفي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : هُوَ تَعْيِيرُ التَّائِبِ بِسَيِّئَاتِ كَانَ قَدْ عَمِلَهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْمَ الْكُفْرِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السَّيِّئَاتِ لَيْسَتْ هِيَ اسْمَ الْفَاسِقِ فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ : { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ } لَمْ يُرِدْ بِهِ تَسْمِيَةَ الْمَسْبُوبِ بِاسْمِ الْفَاسِقِ فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُ كَافِرًا أَعْظَمُ بَلْ إنَّ السَّابَّ يَصِيرُ فَاسِقًا لِقَوْلِهِ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } فَجَعَلَهُمْ ظَالِمِينَ إذَا لَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ الْغِيبَةِ ثُمَّ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ التَّفَاخُرِ بِالْأَحْسَابِ وَقَالَ : { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } . ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْأَعْرَابِ : { آمَنَّا } . فَالسُّورَةُ تَنْهَى عَنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ الَّتِي فِيهَا تَعَدٍّ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ فَالْأَعْرَابُ الْمَذْكُورُونَ فِيهَا مِنْ جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ . وَأَهْلُ السِّبَابِ وَالْفُسُوقِ وَالْمُنَادِينَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ وَأَمْثَالُهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إنَّهُمْ الَّذِينَ اُسْتُنْفِرُوا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأُولَئِكَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَلَمْ يَكُونُوا فِي الْبَاطِنِ كُفَّارًا مُنَافِقِينَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : { لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُمْرَةَ - عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ - اسْتَنْفَرَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْأَعْرَابِ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ خَوْفًا مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبِ أَوْ بِصَدِّ فَتَثَاقَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ } فَهُمْ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } أَيْ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا تَخَلُّفَنَا عَنْك { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } أَيْ مَا يُبَالُونَ اسْتَغْفَرْت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَهَذَا حَالُ الْفَاسِقِ الَّذِي لَا يُبَالِي بِالذَّنْبِ وَالْمُنَافِقُونَ قَالَ فِيهِمْ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } وَلَمْ يَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِي هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ بَلْ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ صَدَقُوا فِي طَلَبِ الِاسْتِغْفَارِ نَفَعَهُمْ اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ لَهُمْ ثُمَّ قَالَ : { سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } فَوَعَدَهُمْ اللَّهُ بِالثَّوَابِ عَلَى طَاعَةِ الدَّاعِي إلَى الْجِهَادِ وَتَوَعَّدَهُمْ بِالتَّوَلِّي عَنْ طَاعَتِهِ . وَهَذَا كَخِطَابِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَالْكَبَائِرِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ
فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِمُجَرَّدِ طَاعَةِ الْأَمْرِ حَتَّى يُؤْمِنَ أَوَّلًا وَوَعِيدُهُ لَيْسَ عَلَى مُجَرَّدِ تَوَلِّيهِ عَنْ الطَّاعَةِ فِي الْجِهَادِ فَإِنَّ كُفْرَهُ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا . فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ فُسَّاقِ الْمِلَّةِ فَإِنَّ الْفِسْقَ يَكُونُ تَارَةً بِتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَتَارَةً بِفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهَؤُلَاءِ لَمَّا تَرَكُوا مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْجِهَادِ وَحَصَلَ عِنْدَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الرَّيْبِ الَّذِي أَضْعَفَ إيمَانَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ وَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي أَنَّهُمْ فِي الْبَاطِنِ مُتَدَيِّنُونَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ . وَقَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ : لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ نَفْيٌ لِمَا نَفَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا نَفَاهُ عَنْ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَعَمَّنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَعَمَّنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ؛ وَعَمَّنْ لَا يُجِيبُ إلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ . وَقَدْ يُحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } كَمَا قَالَ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } فَذَمَّ مَنْ اسْتَبْدَلَ اسْمَ الْفُسُوقِ بَعْدَ الْإِيمَانِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابَ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ . وَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا خَوْفَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ ؛ فَهَكَذَا كَانَ إسْلَامُ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَسْلَمُوا رَغْبَةً وَرَهْبَةً كَإِسْلَامِ الطُّلَقَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ أَنْ قَهَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِسْلَامِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ أَهْلِ نَجْدٍ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ لِرَغْبَةِ أَوْ رَهْبَةٍ كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ
مِنْ النَّارِ ؛ بَلْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَالطَّاعَةِ وَلَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تَكْذِيبٌ وَمُعَادَاةٌ لِلرَّسُولِ وَلَا اسْتَنَارَتْ قُلُوبُهُمْ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَلَا اُسْتُبْصِرُوا فِيهِ ؛ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْسُنُ إسْلَامُ أَحَدِهِمْ فَيَصِيرُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ كَأَكْثَرِ الطُّلَقَاءِ وَقَدْ يَبْقَى مِنْ فُسَّاقِ الْمِلَّةِ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِيرُ مُنَافِقًا مُرْتَابًا { إذَا قَالَ لَهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ : مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ : هاه هاه لَا أَدْرِي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته } . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُمْ أَسْلَمُوا بِغَيْرِ قِتَالٍ ؛ فَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَحْسَنَ إسْلَامًا مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ مَنَّوْا بِالْإِسْلَامِ وَأَنْزَلَ فِيهِمْ { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ . وَأَيْضًا قَوْلُهُ : { وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } { وَلَمَّا } إنَّمَا يَنْفِي بِهَا مَا يُنْتَظَرُ وَيَكُونُ حُصُولُهُ مُتَرَقَّبًا كَقَوْلِهِ : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } وَقَوْلِهِ : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } فَقَوْلُهُ : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْإِيمَانِ مُنْتَظَرٌ مِنْهُمْ ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً لَا يَكُونُ قَدْ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ لَكِنَّهُ يَحْصُلُ فِيمَا بَعْدُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { كَانَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ أَوَّلَ النَّهَارِ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا فَلَا يَجِيءُ آخِرَ النَّهَارِ إلَّا وَالْإِسْلَامُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ } . وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا رَغْبَةً وَرَهْبَةً دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ وَقَوْلُهُ : { وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا }
أَمْرٌ
لَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَالْمُنَافِقُ لَا يُؤْمَرُ بِشَيْءِ ثُمَّ قَالَ
: { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ
شَيْئًا } وَالْمُنَافِقُ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى
يُؤْمِنَ أَوَّلًا . وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا احْتَجَّ بِهَا أَحْمَد بْنُ
حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ دُونَ
الْإِسْلَامِ وَأَنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يَخْرُجُونَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى
الْإِسْلَامِ . قَالَ الميموني : سَأَلْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ رَأْيِهِ فِي
: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؟ فَقَالَ : أَقُولُ : مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ
اللَّهُ وَأَقُولُ : مُسْلِمٌ وَلَا أَسْتَثْنِي قَالَ : قُلْت لِأَحْمَدَ :
تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ ؟ فَقَالَ لِي : نَعَمْ فَقُلْت لَهُ
: بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْتَجُّ ؟ قَالَ لِي : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ
لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } وَذَكَرَ أَشْيَاءَ .
وَقَالَ الشالنجي : سَأَلْت أَحْمَد عَمَّنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ
نَفْسِي مِنْ طَرِيقِ الْأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ وَلَا أَعْلَمُ مَا أَنَا
عِنْدَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَيْسَ بِمُرْجِئِ . وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ
بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ : الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزٌ وَمَنْ قَالَ : أَنَا
مُؤْمِنٌ حَقًّا وَلَمْ يَقُلْ : عِنْدَ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ ؛ فَذَلِكَ
عِنْدِي جَائِزٌ وَلَيْسَ بِمُرْجِئِ وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة وَابْنُ أَبِي
شَيْبَةَ ؛ وَذَكَرَ الشالنجي أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ
الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ يَطْلُبُهَا بِجُهْدِهِ أَيْ يَطْلُبُ الذَّنْبَ بِجُهْدِهِ
إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصَّوْمَ ؛ هَلْ يَكُونُ
مُصِرًّا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ ؟ قَالَ : هُوَ مُصِرٌّ مِثْلَ قَوْلِهِ : {
لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ
وَيَقَعُ فِي الْإِسْلَامِ وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ : { وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ
حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا
يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فَقُلْت لَهُ : مَا هَذَا الْكُفْرُ ؟ قَالَ : كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ مِثْلَ الْإِيمَانِ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ ؛ فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ حَتَّى يَجِيءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } لَا يَكُونُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ يَكُونُ نَاقِصًا مِنْ إيمَانِهِ . قَالَ الشالنجي : وَسَأَلْت أَحْمَد عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ . فَقَالَ : الْإِيمَانُ قَوْل وَعَمَلٌ ؛ وَالْإِسْلَامُ : إقْرَارٌ قَالَ : وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة . وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : لَا يَكُونُ إسْلَامٌ إلَّا بِإِيمَانِ وَلَا إيمَانٌ إلَّا بِإِسْلَامِ ؛ وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ فَقَالَ : قَدْ قَبِلْت الْإِيمَانَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْإِسْلَامِ ؛ وَإِذَا قَالَ : قَدْ قَبِلْت الْإِسْلَامَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي : وَحَكَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فَقَالَ : مَنْ أَتَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ أَوْ مِثْلَهُنَّ أَوْ فَوْقَهُنَّ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا أُسَمِّيهِ مُؤْمِنًا وَمَنْ أَتَى دُونَ ذَلِكَ يُرِيدُ دُونَ الْكَبَائِرِ أُسَمِّيهِ مُؤْمِنًا نَاقِصَ الْإِيمَانِ . قُلْت : أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ كَانَ يَقُولُ تَارَةً بِهَذَا الْفَرْقِ وَتَارَةً كَانَ يَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ وَيَتَوَقَّفُ وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ عَنْهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي " السُّنَّةِ " سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ مَا تَقُولُ فِيهِ ؟ فَقَالَ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَعِيبُهُ أَيْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعِيبُهُ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إذَا كَانَ يَقُولُ : إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ
وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَاسْتَثْنَى مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ عَلَى الشَّكِّ ؛ إنَّمَا يُسْتَثْنَى لِلْعَمَلِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } أَيْ أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ بِغَيْرِ شَكٍّ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ : { وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } أَيْ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّ فِي هَذَا وَقَدْ اسْتَثْنَاهُ وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَعَلَيْهَا نُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ } يَعْنِي مِنْ الْقَبْرِ وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ } قَالَ : هَذَا كُلُّهُ تَقْوِيَةٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ . قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : وَكَأَنَّك لَا تَرَى بَأْسًا أَنْ لَا يُسْتَثْنَى . فَقَالَ : إذَا كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؛ فَهُوَ أَسْهَلُ عِنْدِي ؛ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إنَّ قَوْمًا تَضْعُفُ قُلُوبُهُمْ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ كَالتَّعَجُّبِ مِنْهُمْ وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَقِيلَ لَهُ : شَبَّابَةُ أَيُّ شَيْءٍ تَقُولُ فِيهِ ؟ : فَقَالَ : شَبَّابَةُ كَانَ يَدَّعِي الْإِرْجَاءَ قَالَ : وَحُكِيَ عَنْ شَبَّابَةَ قَوْلٌ أَخْبَثُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَا سَمِعْت عَنْ أَحَدٍ بِمِثْلِهِ ؛ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ شَبَّابَةُ : إذَا قَالَ : فَقَدْ عَمِلَ بِلِسَانِهِ كَمَا يَقُولُونَ فَإِذَا قَالَ فَقَدْ عَمِلَ بِجَارِحَتِهِ أَيْ بِلِسَانِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ ؛ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذَا قَوْلٌ خَبِيثٌ مَا سَمِعْت أَحَدًا يَقُولُ بِهِ وَلَا بَلَغَنِي قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : كُنْت كَتَبْت عَنْ شَبَّابَةَ شَيْئًا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ كُنْت كَتَبْت عَنْهُ قَدِيمًا يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ يَقُولُ بِهَذَا قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : كَتَبْت عَنْهُ بَعْدُ ؟ قَالَ : لَا وَلَا حَرْفًا . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : يَزْعُمُونَ أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ يَذْهَبُ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ . فَقَالَ : هَذَا مَذْهَبُ سُفْيَانَ الْمَعْرُوفُ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : مَنْ يَرْوِيهِ عَنْ
سُفْيَانَ فَقَالَ كُلُّ مَنْ حَكَى عَنْ سُفْيَانَ فِي هَذَا حِكَايَةً كَانَ يَسْتَثْنِي قَالَ وَقَالَ وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ : النَّاسُ عِنْدَنَا مُؤْمِنُونَ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ ؟ وَلَا نَدْرِي مَا هُمْ عِنْدَ اللَّهِ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَأَنْتَ بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ ؟ . فَقَالَ : نَحْنُ نَذْهَبُ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ . قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَأَمَّا إذَا قَالَ : أَنَا مُسْلِمٌ فَلَا يُسْتَثْنَى ؟ فَقَالَ : نَعَمْ لَا يُسْتَثْنَى إذَا قَالَ : أَنَا مُسْلِمٌ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : أَقُولُ : هَذَا مُسْلِمٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ فَذَكَرَ حَدِيثَ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ : فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : حَدَّثْنَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَنَقُولُ : الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؟ فَقَالَ : حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَذَكَرَ قَوْلَهُ { أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا } فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَذُكِرَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عِيسَى الْأَحْمَرُ وَقَوْلُهُ فِي الْإِرْجَاءِ فَقَالَ : نَعَمْ وَذَلِكَ خَبِيثُ الْقَوْلِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ سَمِعْت هِشَامًا يَقُولُ : كَانَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ : مُسْلِمٌ . وَيَهَابَانِ : مُؤْمِنٌ . قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : رَوَاهُ غَيْرُ سويد ؟ قَالَ : مَا عَلِمْت بِذَلِكَ وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ . قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى { أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } قَالَ : لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَقُولُ : إنَّهَا مُؤْمِنَةٌ يَقُولُونَ أَعْتِقْهَا . قَالَ : وَمَالِكٌ سَمِعَهُ مِنْ هَذَا الشَّيْخِ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ لَا يَقُولُ { فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ }
وَقَدْ
قَالَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ فَهِيَ حِينَ تُقِرُّ بِذَاكَ فَحُكْمُهَا
حُكْمُ الْمُؤْمِنَةِ هَذَا مَعْنَاهُ . قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : تُفَرِّقُ
بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ؟ فَقَالَ : قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ
وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ - زَعَمُوا - يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ
وَالْإِسْلَامِ قِيلَ لَهُ : مَنْ الْمُرْجِئَةُ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يَقُولُونَ :
الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ . قُلْت : فَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ يُرِدْ
قَطُّ أَنَّهُ سَلَبَ جَمِيعَ الْإِيمَانِ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ
كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي
غَيْرِ مَوْضِعٍ : بِأَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مَعَهُمْ إيمَانٌ يَخْرُجُونَ بِهِ
مِنْ النَّارِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ
إيمَانٍ } وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَهُ وَلَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ
السُّنَّةِ بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْفُسَّاقَ الَّذِينَ
لَيْسُوا مُنَافِقِينَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ يَخْرُجُونَ بِهِ مِنْ
النَّارِ هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ
لَكِنْ إذَا كَانَ مَعَهُ بَعْضُ الْإِيمَانِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَدْخُلَ فِي
الِاسْمِ الْمُطْلَقِ الْمَمْدُوحِ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ نَفَى الِاسْمَ عَنْ
هَؤُلَاءِ فَقَالَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ }
وَقَالَ : { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا
يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } وَقَالَ : { لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ
بَوَائِقَهُ } وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ مَرَّاتٍ وَقَالَ : { الْمُؤْمِنُ مَنْ
أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } .
وَ " الْمُعْتَزِلَةُ " يَنْفُونَ عَنْهُ اسْمَ الْإِيمَانِ
بِالْكُلِّيَّةِ وَاسْمَ الْإِسْلَامِ أَيْضًا وَيَقُولُونَ : لَيْسَ مَعَهُ
شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَيَقُولُونَ : نُنْزِلُهُ مَنْزِلَةً
بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ فَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لَا
يَخْرُجُ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ
وَإِلَّا لَوْ نَفَوْا مُطْلَقَ الِاسْمِ وَأَثْبَتُوا مَعَهُ شَيْئًا مِنْ الْإِيمَانِ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ النَّارِ لَمْ يَكُونُوا مُبْتَدِعَةً وَكُلُّ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُلِبَ كَمَالُ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَزَالَ بَعْضُ إيمَانِهِ الْوَاجِبِ لَكِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِنَّمَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ : الْإِيمَانُ لَا يَتَبَعَّضُ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ فَيَقُولُونَ : إنَّهُ كَامِلُ الْإِيمَانِ فَاَلَّذِي يَنْفِي إطْلَاقَ الِاسْمِ يَقُولُ : الِاسْمُ الْمُطْلَقُ مَقْرُونٌ بِالْمَدْحِ وَاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ كَقَوْلِنَا : مُتَّقٍ وَبَرٌّ وَعَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَإِذَا كَانَ الْفَاسِقُ لَا تُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ فَكَذَلِكَ اسْمُ الْإِيمَانِ وَأَمَّا دُخُولُهُ فِي الْخِطَابِ فَلِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كُلُّ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَهُمْ فَمَعَاصِيهِمْ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ الْأَمْرُ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَحْمَد فِي الْإِسْلَامِ فَاتَّبَعَ فِيهِ الزُّهْرِيَّ حَيْثُ قَالَ : فَكَانُوا يَرَوْنَ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةَ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلَ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَلِمَةُ بِتَوَابِعِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ } وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَلِمَةُ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ . لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : إسْلَامُ الْأَعْرَابِ كَانَ مِنْ هَذَا فَيُقَالُ . الْأَعْرَابُ وَغَيْرُهُمْ كَانُوا إذَا أَسْلَمُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُلْزِمُوا بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ : الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُتْرَكُ بِمُجَرَّدِ الْكَلِمَةِ بَلْ كَانَ مِنْ أَظْهَرِ الْمَعْصِيَةَ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا .
وَأَحْمَد
إنْ كَانَ أَرَادَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ
الشَّهَادَتَانِ فَقَطْ فَكُلُّ مَنْ قَالَهَا فَهُوَ مُسْلِمٌ فَهَذِهِ إحْدَى
الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى : لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى
يَأْتِيَ بِهَا وَيُصَلِّيَ فَإِذَا لَمْ يُصَلِّ كَانَ كَافِرًا . وَ "
الثَّالِثَةُ " أَنَّهُ كَافِرٌ بِتَرْكِ الزَّكَاةِ أَيْضًا . وَ "
الرَّابِعَةُ " أَنَّهُ يَكْفُرُ بِتَرْكِ الزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ
الْإِمَامَ عَلَيْهَا دُونَ مَا إذَا لَمْ يُقَاتِلْهُ وَعَنْهُ أَنَّهُ لَوْ
قَالَ : أَنَا أُؤَدِّيهَا وَلَا أَدْفَعُهَا إلَى الْإِمَامِ لَمْ يَكُنْ
لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَكَذَلِكَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَكْفُرُ
بِتَرْكِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ إذَا عَزَمَ أَنَّهُ لَا يَحُجُّ أَبَدًا .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِكُفْرِ تَارِكِ الْمَبَانِي يَمْتَنِعُ
أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ مُجَرَّدَ الْكَلِمَةِ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ إذَا
أَتَى بِالْكَلِمَةِ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ
لَهُ بِالْإِسْلَامِ وَلَا يَشْهَدُ لَهُ بِالْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ
وَلَا يُسْتَثْنَى فِي هَذَا الْإِسْلَامُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَشْهُورٌ لَكِنَّ
الْإِسْلَامَ الَّذِي هُوَ أَدَاءُ الْخَمْسِ كَمَا أُمِرَ بِهِ يَقْبَلُ
الِاسْتِثْنَاءَ فَالْإِسْلَامُ الَّذِي لَا يُسْتَثْنَى فِيهِ الشَّهَادَتَانِ
بِاللِّسَانِ فَقَطْ فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ فَلَا اسْتِثْنَاءَ
فِيهَا .
وَقَدْ صَارَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ عَلَى " ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ " : قِيلَ : هُوَ الْإِيمَانُ وَهُمَا اسْمَانِ لِمُسَمَّى وَاحِدٍ
. وَقِيلَ : هُوَ الْكَلِمَةُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ لَهُمَا وَجْهٌ سَنَذْكُرُهُ
لَكِنَّ التَّحْقِيقَ ابْتِدَاءً هُوَ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَفَسَّرَ
الْإِسْلَامَ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْإِيمَانَ بِالْإِيمَانِ
بِالْأُصُولِ الْخَمْسَةِ فَلَيْسَ لَنَا إذَا جَمَعْنَا بَيْنَ الْإِسْلَامِ
وَالْإِيمَانِ أَنْ نُجِيبَ بِغَيْرِ مَا أَجَابَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا إذَا أُفْرِدَ اسْمُ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ
يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ ؛ وَإِذَا أُفْرِدَ الْإِسْلَامُ ؛ فَقَدْ يَكُونُ مَعَ
الْإِسْلَامِ مُؤْمِنًا بِلَا نِزَاعٍ ؛ وَهَذَا
هُوَ الْوَاجِبُ ؛ وَهَلْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَلَا يُقَالُ لَهُ : مُؤْمِنٌ ؟ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ . وَكَذَلِكَ هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْإِسْلَامَ لِلْإِيمَانِ ؟ هَذَا فِيهِ النِّزَاعُ الْمَذْكُورُ وَسَنُبَيِّنُهُ وَالْوَعْدُ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ بِالْجَنَّةِ وَبِالنَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ إنَّمَا هُوَ مُعَلَّقٌ بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَأَمَّا اسْمُ الْإِسْلَامِ مُجَرَّدًا فَمَا عَلَّقَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ دُخُولَ الْجَنَّةِ لَكِنَّهُ فَرَضَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ دِينُهُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ . وَبِالْإِسْلَامِ بَعَثَ اللَّهُ جَمِيعَ النَّبِيِّينَ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَالَ : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } وَقَالَ نُوحٌ : { يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ } { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مِنْ الْعَذَابِ إلَّا الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ : { قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ } وَقَالَ : { وَأُوحِيَ إلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ } وَقَالَ نُوحٌ : { وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا } . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ دِينَهُ الْإِسْلَامُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } { إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
وَقَالَ : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } وَبِمَجْمُوعِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ عَلَّقَ السَّعَادَةَ فَقَالَ : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } كَمَا عَلَّقَهُ بِالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي هُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ مَعَ الْإِحْسَانِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ هُوَ وَالْإِيمَانُ الْمَقْرُونُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّ الْوَعْدَ عَلَى الْوَصْفَيْنِ وَعْدٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الثَّوَابُ وَانْتِفَاءُ الْعِقَابِ فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْخَوْفِ عِلَّةٌ تَقْتَضِي انْتِفَاءَ مَا يَخَافُهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } لَمْ يَقُلْ : لَا يَخَافُونَ فَهُمْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا يَخَافُونَ اللَّهَ وَنَفَى عَنْهُمْ أَنْ يَحْزَنُوا لِأَنَّ الْحُزْنَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَاضٍ فَهُمْ لَا يَحْزَنُونَ بِحَالِ لَا فِي الْقَبْرِ وَلَا فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ بِخِلَافِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِي الْبَاطِنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } . وَأَمَّا " الْإِسْلَامُ الْمُطْلَقُ الْمُجَرَّدُ " فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعْلِيقُ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِهِ كَمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعْلِيقُ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِالْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ الْمُجَرَّدِ كَقَوْلِهِ : { سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ } وَقَالَ : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } . وَقَدْ وَصَفَ الْخَلِيلَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ بِالْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } وَوَصَفَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ : { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } وَوَصَفَهُ بِأَعْلَى طَبَقَاتِ الْإِيمَانِ وَهُوَ أَفْضَلُ الْبَرِيَّةِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْخَلِيلُ إنَّمَا دَعَا بِالرِّزْقِ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فَقَالَ : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَقَالَ : { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } بَعْدَ قَوْلِهِ : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ } وَقَالَ : { وَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَدْ ذَكَرْنَا الْبُشْرَى الْمُطْلَقَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِهِ : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } . وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ السَّحَرَةَ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مَعًا فَقَالُوا : { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } وَقَالُوا : { وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا } وَقَالُوا : { إنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَالُوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } . وَوَصَفَ اللَّهُ أَنْبِيَاءَ بَنِي إسْرَائِيلَ بِالْإِسْلَامِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } وَالْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ
مُؤْمِنُونَ . وَوَصَفَ الْحَوَارِيِّينَ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَقَالَ
تَعَالَى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي
وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } و { قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ } .
وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ . وَ " الدِّينُ "
مَصْدَرُ دَانَ يَدِينُ دِينًا : إذَا خَضَعَ وَذَلَّ وَ " دِينُ
الْإِسْلَامِ " الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ هُوَ
الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ؛ فَأَصْلُهُ فِي الْقَلْبِ هُوَ الْخُضُوعُ
لِلَّهِ وَحْدَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ . فَمَنْ عَبَدَهُ
وَعَبَدَ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ بَلْ
اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَتِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَالْإِسْلَامُ هُوَ
الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَهُوَ الْخُضُوعُ لَهُ وَالْعُبُودِيَّةُ لَهُ هَكَذَا
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : أَسْلَمَ الرَّجُلُ إذَا اسْتَسْلَمَ ؛ فَالْإِسْلَامُ فِي
الْأَصْلِ مِنْ بَابِ الْعَمَلِ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ . وَأَمَّا
الْإِيمَانُ فَأَصْلُهُ تَصْدِيقٌ وَإِقْرَارٌ وَمَعْرِفَةٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ
قَوْلِ الْقَلْبِ الْمُتَضَمِّنِ عَمَلَ الْقَلْبِ ؛ وَالْأَصْلُ فِيهِ
التَّصْدِيقُ وَالْعَمَلُ تَابِعٌ لَهُ فَلِهَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْإِيمَانَ " بِإِيمَانِ الْقَلْبِ
وَبِخُضُوعِهِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ وَفَسَّرَ " الْإِسْلَامَ " بِاسْتِسْلَامِ مَخْصُوصٍ هُوَ
الْمَبَانِي الْخَمْسُ . وَهَكَذَا فِي سَائِرِ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُفَسَّرُ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ النَّوْعِ وَيُفَسَّرُ الْإِسْلَامُ
بِهَذَا وَذَلِكَ النَّوْعُ أَعْلَى . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ }
فَإِنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ يَرَاهَا النَّاسُ وَأَمَّا
مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ تَصْدِيقٍ وَمَعْرِفَةٍ وَحُبٍّ وَخَشْيَةٍ وَرَجَاءٍ فَهَذَا بَاطِنٌ ؛ لَكِنْ لَهُ لَوَازِمُ قَدْ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَاللَّازِمُ لَا يَدُلُّ إلَّا إذَا كَانَ مَلْزُومًا فَلِهَذَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِهِ مَا يَفْعَلُهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ فَلَا يَدُلُّ . . . (1) فَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَبِي هُرَيْرَةَ جَمِيعًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } فَفَسَّرَ الْمُسْلِمَ بِأَمْرِ ظَاهِرٍ وَهُوَ سَلَامَةُ النَّاسِ مِنْهُ وَفَسَّرَ الْمُؤْمِنَ بِأَمْرِ بَاطِنٍ وَهُوَ أَنْ يَأْمَنُوهُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَهَذِهِ الصِّفَةُ أَعْلَى مِنْ تِلْكَ فَإِنَّ مَنْ كَانَ مَأْمُونًا سَلِمَ النَّاسُ مِنْهُ ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ سَلِمُوا مِنْهُ يَكُونُ مَأْمُونًا فَقَدْ يَتْرُكُ أَذَاهُمْ وَهُمْ لَا يَأْمَنُونَ إلَيْهِ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ تَرَكَ أَذَاهُمْ لِرَغْبَةِ وَرَهْبَةٍ ؛ لَا لِإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ . وَفِي حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عبسة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ إطْعَامُ الطَّعَامِ . وَلِينُ الْكَلَامِ قَالَ : فَمَا الْإِيمَانُ قَالَ السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ } فَإِطْعَامُ الطَّعَامِ عَمَلٌ ظَاهِرٌ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ لِمَقَاصِدَ مُتَعَدِّدَةٍ وَكَذَلِكَ لِينُ الْكَلَامِ وَأَمَّا السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ فَخُلُقَانِ فِي النَّفْسِ . قَالَ تَعَالَى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } وَهَذَا أَعْلَى مِنْ ذَاكَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَبَّارًا شَكُورًا فِيهِ سَمَاحَةٌ بِالرَّحْمَةِ لِلْإِنْسَانِ وَصَبْرٌ عَلَى الْمَكَارِهِ وَهَذَا ضِدُّ الَّذِي خُلِقَ هَلُوعًا إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ؛ فَإِنَّ ذَاكَ لَيْسَ فِيهِ سَمَاحَةٌ عِنْدَ النِّعْمَةِ وَلَا صَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ .
وَتَمَامُ الْحَدِيثِ : { فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إيمَانًا ؟ قَالَ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْقَتْلِ أَشْرَفُ ؟ قَالَ مَنْ أُرِيقَ دَمُهُ وَعَقَرَ جَوَادَهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ الَّذِينَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ جُهْدُ الْمُقِلِّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ طُولُ الْقُنُوتِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ } وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ تَارَةً يُرْوَى مُرْسَلًا وَتَارَةً يُرْوَى مُسْنَدًا وَفِي رِوَايَةٍ : { أَيُّ السَّاعَاتِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ جَوْفُ اللَّيْلِ الْغَابِرِ } وَقَوْلُهُ : { أَفْضَلُ الْإِيمَانِ السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ } يُرْوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ إنَّمَا يُفَسَّرُ الْإِسْلَامُ بِالِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ بِالْقَلْبِ مَعَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد { عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَتَيْتُك حَتَّى حَلَفْت عَدَدَ أَصَابِعِي هَذِهِ أَنْ لَا آتِيَك فَبِاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا بَعَثَك بِهِ ؟ قَالَ : الْإِسْلَامُ . قَالَ : وَمَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَك لِلَّهِ وَأَنْ تُوَجِّهَ وَجْهَك إلَى اللَّهِ وَأَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ أَخَوَانِ نَصِيرَانِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ أَشْرَكَ بَعْدَ إسْلَامِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ { أَنْ تَقُولَ : أَسْلَمْت وَجْهِي لِلَّهِ وَتَخَلَّيْت وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَكُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى مُسْلِمٍ مُحَرَّمٌ } وَفِي لَفْظٍ تَقُولُ { أَسْلَمْت نَفَسِي لِلَّهِ وَخَلَّيْت وَجْهِي إلَيْهِ } وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ حَدِيثِ خَالِدِ
بْنِ معدان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ لِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا . وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتُسَلِّمَ عَلَى بَنِي آدَمَ إذْ لَقِيتهمْ فَإِنْ رَدُّوا عَلَيْك رَدَّتْ عَلَيْك وَعَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ وَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْك رَدَّتْ عَلَيْك الْمَلَائِكَةُ وَلَعَنَتْهُمْ إنْ سَكَتَ عَنْهُمْ وَتَسْلِيمُك عَلَى أَهْلِ بَيْتِك إذَا دَخَلْت عَلَيْهِمْ فَمَنْ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَهُوَ سَهْمٌ فِي الْإِسْلَامِ تَرَكَهُ وَمَنْ تَرَكَهُنَّ فَقَدْ نَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } قَالَ مُجَاهِدٌ : وقتادة : نَزَلَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالدُّخُولِ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَ مَنْ قَالَ : نَزَلَتْ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ فِيمَنْ لَمْ يُسْلِمْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ مَأْمُورُونَ أَيْضًا بِذَلِكَ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : { فِي السِّلْمِ } أَيْ فِي الْإِسْلَامِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هُوَ الطَّاعَةُ وَكِلَاهُمَا مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكِلَاهُمَا حَقٌّ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الطَّاعَةُ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَعْمَالِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { كَافَّةً } فَقَدْ قِيلَ : الْمُرَادُ اُدْخُلُوا كُلُّكُمْ . وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ اُدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ جَمِيعِهِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤْمَرُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ : { ادْخُلُوا } خِطَابٌ لَهُمْ كُلِّهِمْ فَقَوْلُهُ { كَافَّةً } إنْ أُرِيدَ بِهِ مُجْتَمِعِينَ لَزِمَ أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ الْإِسْلَامَ حَتَّى يُسْلِمَ غَيْرُهُ فَلَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ مَأْمُورًا بِهِ إلَّا بِشَرْطِ مُوَافَقَةِ الْغَيْرِ لَهُ كَالْجُمُعَةِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِ " { كَافَّةً } " : أَيْ اُدْخُلُوا جَمِيعُكُمْ فَكُلُّ أَوَامِرِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَآتُوا
الزَّكَاةَ } كُلُّهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ وَمَا قِيلَ فِيهَا كَافَّةً وقَوْله
تَعَالَى { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } أَيْ قَاتِلُوهُمْ كُلَّهُمْ
لَا تَدَعُوا مُشْرِكًا حَتَّى تُقَاتِلُوهُ فَإِنَّهَا أُنْزِلَتْ بَعْدَ نَبْذِ
الْعُهُودِ لَيْسَ الْمُرَادُ : قَاتِلُوهُمْ مُجْتَمِعِينَ أَوْ جَمِيعُكُمْ
فَإِنَّ هَذَا لَا يَجِبُ بَلْ يُقَاتِلُونَ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْجِهَادُ
فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَإِذَا كَانَتْ فَرَائِضُ الْأَعْيَانِ لَمْ يُؤَكِّدْ
الْمَأْمُورِينَ فِيهَا بِ " { كَافَّةً } " فَكَيْفَ يُؤَكِّدُ
بِذَلِكَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَعْمِيمُ
الْمُقَاتِلِينَ . وَقَوْلُهُ : { كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } فِيهِ
احْتِمَالَانِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالدُّخُولِ فِي جَمِيعِ الْإِسْلَامِ كَمَا
دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَجَبَ
الدُّخُولُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ لَزِمَهُ فِعْلُهُ
وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْكِفَايَةِ اُعْتُقِدَ وُجُوبُهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ
إذَا تَعَيَّنَ أَوْ أَخَذَ بِالْفَضْلِ فَفَعَلَهُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا
اعْتَقَدَ حُسْنَهُ وَأَحَبَّ فِعْلَهُ وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ { أَنَّ رَجُلًا
قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْ لِي الْإِسْلَامَ . قَالَ : تَشْهَدُ أَنْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَتُقِرُّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَتُقِيمُ
الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ قَالَ :
أَقْرَرْت ؛ } فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ فِيهَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَخَاقِيقِ
جُرْذَانَ وَأَنَّهُ قُتِلَ وَكَانَ جَائِعًا وَمَلَكَانِ يَدُسَّانِ فِي شِدْقِهِ
مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ . فَقَوْلُهُ : { وَتُقِرُّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ } . هُوَ الْإِقْرَارُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنَّهُ هُوَ
الَّذِي جَاءَ بِذَلِكَ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ أَبُو سُلَيْمَانَ
الداراني : حَدِيثُ { الْوَفْدِ الَّذِينَ قَالُوا : نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ قَالَ
: فَمَا عَلَامَةُ إيمَانِكُمْ ؟ قَالُوا : خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً : خَمْسٌ
أَمَرَتْنَا رُسُلُك أَنْ نَعْمَلَ بِهِنَّ وَخَمْسٌ أَمَرَتْنَا رُسُلُك أَنْ
نُؤْمِنَ بِهِنَّ وَخَمْسٌ تَخَلَّقْنَا بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَحْنُ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ تَكْرَهَ مِنْهَا شَيْئًا . قَالَ : فَمَا الْخَمْسُ الَّتِي أَمَرَتْكُمْ رُسُلِي أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا ؟ قَالُوا : أَنْ نَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَنُقِيمَ الصَّلَاةَ وَنُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَنَصُومَ رَمَضَانَ وَنَحُجَّ الْبَيْتَ . قَالَ : وَمَا الْخَمْسُ الَّتِي أَمَرَتْكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهَا ؟ قَالُوا أَمَرَتْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ : وَمَا الْخَمْسُ الَّتِي تَخَلَّقْتُمْ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَثَبَتُّمْ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ ؟ قَالُوا : الصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلَاءِ وَالشُّكْرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَى بِمُرِّ الْقَضَاءِ وَالصِّدْقُ فِي مَوَاطِنِ اللِّقَاءِ وَتَرْكُ الشَّمَاتَةِ بِالْأَعْدَاءِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كَادُوا مِنْ صِدْقِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ . فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَزِيدُكُمْ خَمْسًا فَتَتِمُّ لَكُمْ عِشْرُونَ خَصْلَةً : إنْ كُنْتُمْ كَمَا تَقُولُونَ فَلَا تَجْمَعُوا مَا لَا تَأْكُلُونَ وَلَا تَبْنُوا مَا لَا تَسْكُنُونَ وَلَا تُنَافِسُوا فِي شَيْءٍ أَنْتُمْ عَنْهُ غَدًا تَزُولُونَ وَعَنْهُ مُنْتَقِلُونَ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَعَلَيْهِ تُعْرَضُونَ وَارْغَبُوا فِيمَا عَلَيْهِ تَقْدُمُونَ وَفِيهِ تُخَلَّدُونَ } . فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْخَمْسِ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا فَجَعَلُوهَا الْإِسْلَامَ ؛ وَالْخَمْسِ الَّتِي يُؤْمِنُ بِهَا فَجَعَلُوهَا الْإِيمَانَ ؛ وَجَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَة { عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : أَسْلِمْ تَسْلَمْ قَالَ :
وَمَا الْإِسْلَامُ قَالَ : أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَك لِلَّهِ وَيَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِك وَيَدِك قَالَ : فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْإِيمَانُ قَالَ : وَمَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ : فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْهِجْرَةُ قَالَ : وَمَا الْهِجْرَةُ ؟ قَالَ : أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ قَالَ : فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ قَالَ : وَمَا الْجِهَادُ ؟ قَالَ : أَنْ تُجَاهِدَ الْكُفَّارَ إذَا لَقِيتهمْ وَلَا تَغُلَّ وَلَا تَجْبُنْ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا قَالَهَا ثَلَاثًا : حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ : أَوْ عُمْرَةٌ } وَقَوْلُهُ : { هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ } أَيْ بَعْدَ الْجِهَادِ ؛ لِقَوْلِهِ : { ثُمَّ عَمَلَانِ } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَعَلَ الْإِيمَانَ خُصُوصًا فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامَ أَعَمَّ مِنْهُ كَمَا جَعَلَ الْهِجْرَةَ خُصُوصًا فِي الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانَ أَعَمَّ مِنْهَا وَجَعَلَ الْجِهَادَ خُصُوصًا مِنْ الْهِجْرَةِ وَالْهِجْرَةَ أَعَمَّ مِنْهُ . فَالْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . وَهَذَا دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا غَيْرَهُ لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الآخرين وَلَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ مَعَ إرْسَالِ الرُّسُلِ إلَيْنَا إلَّا بِمَا أَمَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ لَا بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ فَإِنَّ ضِدَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ وَقَدْ خَتَمَ اللَّهُ الرُّسُلَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا إلَّا مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ بِهَا يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ فِي الْإِسْلَامِ . فَمَنْ قَالَ : الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ وَأَرَادَ هَذَا فَقَدَ صَدَقَ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْتِزَامِ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ كَالْمَبَانِي الْخَمْسِ وَمَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا نَقَصَ إسْلَامُهُ
بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { مَنْ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَهُوَ سَهْمٌ مِنْ الْإِسْلَامِ تَرَكَهُ } . وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ إذَا عَمِلَهَا الْإِنْسَانُ مُخْلِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُثِيبُهُ عَلَيْهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مَعَ إقْرَارِهِ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ هَذَا الْإِقْرَارُ وَهَذَا الْإِقْرَارُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَعَهُ مِنْ الْيَقِينِ مَا لَا يَقْبَلُ الرَّيْبَ وَلَا أَنْ يَكُونَ مُجَاهِدًا وَلَا سَائِرَ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُؤْمِنُ عَنْ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مَعَهُمْ هَذَا الْإِسْلَامُ بِلَوَازِمِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَصِلُوا إلَى الْيَقِينِ وَالْجِهَادِ فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى إسْلَامِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ بِالرَّسُولِ مُجْمَلًا وَقَدْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ جَاءَ بِكِتَابٍ وَقَدْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ جَاءَهُ مَلَكٌ وَلَا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِكَذَا وَإِذَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ الْإِقْرَارُ الْمُفَصَّلُ بِهِ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ . ثُمَّ الْإِيمَانُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَفِيهِ طُمَأْنِينَةٌ وَيَقِينٌ فَهَذَا مُتَمَيِّزٌ بِصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ فَإِنَّ أُولَئِكَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَتَفْصِيلِ الْمُعَادِ وَالْقَدَرِ مَا لَا يَعْرِفُهُ هَؤُلَاءِ . وَأَيْضًا فَفِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْيَقِينِ وَالثَّبَاتِ وَلُزُومِ التَّصْدِيقِ لِقُلُوبِهِمْ مَا لَيْسَ مَعَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ الْأَعْمَالَ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا هَذَا الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ لِأَنَّ
الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ وَالْعَمَلَ لَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الْإِيمَانِ الْخَاصِّ وَهَذَا الْفَرْقُ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَعْرِفُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَعَامَّةُ النَّاسِ إذَا أَسْلَمُوا بَعْدَ كُفْرٍ أَوْ وُلِدُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْتَزَمُوا شَرَائِعَهُ وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُمْ مُسْلِمُونَ وَمَعَهُمْ إيمَانٌ مُجْمَلٌ وَلَكِنَّ دُخُولَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ إلَى قُلُوبِهِمْ إنَّمَا يَحْصُلُ شَيْئًا فَشَيْئًا إنْ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَصِلُونَ لَا إلَى الْيَقِينِ وَلَا إلَى الْجِهَادِ وَلَوْ شُكِّكُوا لَشَكُّوا وَلَوْ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ لَمَا جَاهَدُوا وَلَيْسُوا كُفَّارًا وَلَا مُنَافِقِينَ بَلْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ وَيَقِينِهِ مَا يَدْرَأُ الرَّيْبَ وَلَا عِنْدَهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْحُبِّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مَا يُقَدِّمُونَهُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَهَؤُلَاءِ إنْ عَرَفُوا مِنْ الْمِحْنَةِ وَمَاتُوا دَخَلُوا الْجَنَّةَ . وَإِنْ اُبْتُلُوا بِمَنْ يُورِدُ عَلَيْهِمْ شُبُهَاتٍ تُوجِبُ رَيْبَهُمْ فَإِنْ لَمْ يُنْعِمْ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يُزِيلُ الرَّيْبَ وَإِلَّا صَارُوا مُرْتَابِينَ وَانْتَقَلُوا إلَى نَوْعٍ مِنْ النِّفَاقِ . وَكَذَلِكَ إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ الْجِهَادُ وَلَمْ يُجَاهِدُوا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَسْلَمَ عَامَّةُ أَهْلِهَا فَلَمَّا جَاءَتْ الْمِحْنَةُ وَالِابْتِلَاءُ نَافَقَ مَنْ نَافَقَ . فَلَوْ مَاتَ هَؤُلَاءِ قَبْلَ الِامْتِحَانِ لَمَاتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا الَّذِينَ اُبْتُلُوا فَظَهَرَ صِدْقُهُمْ . قَالَ تَعَالَى : { الم } { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } وَقَالَ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } - إلَى قَوْلِهِ - { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ } - إلَى قَوْلِهِ - { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } { لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } فَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ : قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ . وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ : إنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ بِلِسَانِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ أَوَّلًا بِقُلُوبِهِمْ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللِّسَانِ مَعَ كُفْرِ الْقَلْبِ قَدْ قَارَنَهُ الْكُفْرُ فَلَا يُقَالُ : قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا كَافِرِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّكُمْ أَظْهَرْتُمْ الْكُفْرَ بَعْدَ إظْهَارِكُمْ الْإِيمَانَ فَهُمْ لَمْ يُظْهِرُوا لِلنَّاسِ إلَّا لِخَوَاصِّهِمْ وَهُمْ مَعَ خَوَاصِّهِمْ مَا زَالُوا هَكَذَا ؛ بَلْ لَمَّا نَافَقُوا وَحَذِرُوا أَنْ تَنْزِلَ سُورَةٌ تُبَيِّنُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ النِّفَاقِ وَتَكَلَّمُوا بِالِاسْتِهْزَاءِ صَارُوا كَافِرِينَ بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى أَنَّهُمْ مَا زَالُوا مُنَافِقِينَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } فَهُنَا قَالَ : { وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ } . فَهَذَا الْإِسْلَامُ قَدْ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ إسْلَامِ الْأَعْرَابِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ : { بَعْدَ
إِيمَانُكُمْ } وَبَعْدَ إسْلَامِهِمْ سَوَاءً وَقَدْ يَكُونُونَ مَا زَالُوا مُنَافِقِينَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَالٌ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ لِكَوْنِهِمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ وَالرِّدَّةَ . وَلِهَذَا دَعَاهُمْ إلَى التَّوْبَةِ فَقَالَ : { فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا } بَعْدَ التَّوْبَةِ عَنْ التَّوْبَةِ { يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } وَهَذَا إنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ فَيُجَاهِدُهُ الرَّسُولُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَالْعُقُوبَةِ . وَلِهَذَا ذَكَرَ هَذَا فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ : { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِهَا : { وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } . وَهَؤُلَاءِ الصِّنْفُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ غَيْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ حَلَفُوا بِاَللَّهِ مَا قَالُوا وَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ الَّتِي كَفَرُوا بِهَا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَصِلُوا إلَى مَقْصُودِهِمْ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ : هَمُّوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا لَكِنْ { بِمَا لَمْ يَنَالُوا } فَصَدَرَ مِنْهُمْ قَوْلٌ وَفِعْلٌ قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } فَاعْتَرَفُوا وَاعْتَذَرُوا ؛ وَلِهَذَا قِيلَ : { لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ قَدْ أَتَوْا كُفْرًا بَلْ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرِ فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُفْرٌ يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ إيمَانِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ إيمَانٌ ضَعِيفٌ فَفَعَلُوا هَذَا الْمُحَرَّمَ الَّذِي عَرَفُوا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَلَكِنْ لَمْ يَظُنُّوهُ كُفْرًا وَكَانَ كُفْرًا كَفَرُوا بِهِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا جَوَازَهُ وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ
فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ ضَرَبَ لَهُمْ الْمَثَلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُمْ أَبْصَرُوا ثُمَّ عَمُوا وَعَرَفُوا ثُمَّ أَنْكَرُوا وَآمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا . وَكَذَلِكَ قَالَ قتادة وَمُجَاهِدٌ : ضَرَبَ الْمَثَلَ لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَسَمَاعِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَذَهَابِ نُورِهِمْ قَالَ : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ } { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ بِالنُّورِ مَا حَصَلَ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَإِذَا مَاتُوا سُلِبُوا ذَلِكَ الضَّوْءَ كَمَا سُلِبَ صَاحِبُ النَّارِ ضَوْءُهُ ؛ فَلَفْظُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ } { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } . وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ فِي الْعَذَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ } الْآيَةَ وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ الْمُنَافِقَ يُعْطَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورًا ثُمَّ يُطْفَأُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا } . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إذَا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ نُورَ الْمُنَافِقِينَ يُطْفَأُ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُتِمَّ لَهُمْ نُورَهُمْ وَيُبَلِّغَهُمْ بِهِ الْجَنَّةَ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا يُعْطَى نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ فَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَيُطْفَأُ نُورُهُ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُشْفِقُ مِمَّا رَأَى مِنْ إطْفَاءِ نُورِ الْمُنَافِقِ فَهُوَ يَقُولُ : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } وَهُوَ كَمَا قَالَ : فَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ - وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ أَطْوَلُهَا - وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ أَنَّهُ { يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ : لِتَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ ؛ فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ : نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك وَهَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ : فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتَّبِعُونَهُ } . وَفِي رِوَايَةٍ : { فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ فَيَقُولُ : { هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا فَيَقُولُونَ : نَعَمْ . فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إلَّا أَذِنَ لَهُ بِالسُّجُودِ وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ نِفَاقًا وَرِيَاءً إلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ . فَتَبْقَى ظُهُورُهُمْ مِثْلَ صَيَاصِيِ الْبَقَرِ فَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ فَإِذَا نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ وَيُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ فَيَقُولُونَ ذَرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } . فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُحْشَرُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الظَّاهِرِ كَمَا كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ وَقْتَ الْحَقِيقَةِ هَؤُلَاءِ يَسْجُدُونَ لِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ السُّجُودِ
فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْجُدُوا فِي الدُّنْيَا لَهُ بَلْ قَصَدُوا الرِّيَاءَ لِلنَّاسِ وَالْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا فَلِهَذَا أُعْطُوا نُورًا ثُمَّ طفئ لِأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ . وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ الْمَثَلَ بِذَلِكَ . وَهَذَا الْمَثَلُ هُوَ لِمَنْ كَانَ فِيهِمْ آمِنٌ ثُمَّ كَفَرَ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ فِي الْآخِرَةِ نُورًا ثُمَّ يُطْفَأُ . وَلِهَذَا قَالَ : { فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } إلَى الْإِسْلَامِ فِي الْبَاطِنِ وَقَالَ قتادة وَمُقَاتِلٌ : لَا يَرْجِعُونَ عَنْ ضَلَالِهِمْ وَقَالَ السدي : لَا يَرْجِعُونَ إلَى الْإِسْلَامِ يَعْنِي فِي الْبَاطِنِ وَإِلَّا فَهُمْ يُظْهِرُونَهُ وَهَذَا الْمَثَلُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَهَذَا الْمَثَلُ مَضْرُوبٌ لِبَعْضِهِمْ وَهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا . وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا مُنَافِقِينَ فَضَرَبَ لَهُمْ الْمَثَلَ الْآخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ . فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا هَلْ الْمَثَلَانِ مَضْرُوبَانِ لَهُمْ كُلِّهِمْ أَوْ هَذَا الْمَثَلُ لِبَعْضِهِمْ ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ " . وَ " الثَّانِي " هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ قَالَ : { أَوْ كَصَيِّبٍ } وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ مَثَلُهُمْ هَذَا وَهَذَا فَإِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْمَثَلَيْنِ بَلْ بَعْضُهُمْ يُشْبِهُ هَذَا وَبَعْضُهُمْ يُشْبِهُ هَذَا وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُشْبِهُونَ الْمَثَلَيْنِ لَمْ يَذْكُرْ ( أَوْ بَلْ يَذْكُرْ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : ( أَوْ هَاهُنَا لِلتَّخْيِيرِ - كَقَوْلِهِمْ : جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِين - لَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ يَكُونُ فِي الْأَمْرِ وَالطَّلَبَ لَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ أَوْ لِتَشْكِيكِ الْمُخَاطَبِينَ
أَوْ الْإِبْهَامِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِشَيْءِ فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ بِالْأَمْثَالِ الْبَيَانَ وَالتَّفْهِيمَ لَا يُرِيدُ التَّشْكِيكَ وَالْإِبْهَامَ . وَالْمَقْصُودُ تَفْهِيمُ الْمُؤْمِنِينَ حَالَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي " الْمَثَلِ الْأَوَّلِ " : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } وَقَالَ فِي " الثَّانِي " : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فَبَيَّنَ فِي " الْمَثَلِ الثَّانِي " أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } وَفِي " الْأَوَّلِ " كَانُوا يُبْصِرُونَ ثُمَّ صَارُوا { فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ } { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } . وَفِي " الثَّانِي " { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ } الْبَرْقُ { مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } فَلَهُمْ " حَالَانِ " : حَالُ ضِيَاءٍ وَحَالُ ظَلَامٍ وَالْأَوَّلُونَ بَقُوا فِي الظُّلْمَةِ . فَالْأَوَّلُ حَالُ مَنْ كَانَ فِي ضَوْءٍ فَصَارَ فِي ظُلْمَةٍ وَالثَّانِي حَالُ مَنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَا فِي ضَوْءٍ وَلَا فِي ظُلْمَةٍ بَلْ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تُوجِبُ مَقَامَهُ وَاسْتِرَابَتَهُ . يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ضَرَبَ لِلْكُفَّارِ أَيْضًا مَثَلَيْنِ بِحَرْفِ ( أَوْ فَقَالَ : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } " فَالْأَوَّلُ "
مِثْلُ
الْكُفْرِ الَّذِي يَحْسِبُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ وَهُوَ عَلَى بَاطِلٍ {
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ
وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ ؛ فَلِهَذَا مَثَّلَ بِسَرَابِ بِقِيعَةِ وَ
" الثَّانِي " مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُ صَاحِبُهُ
شَيْئًا بَلْ هُوَ فِي { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } مِنْ عِظَمِ
جَهْلِهِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ اعْتِقَادٌ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ ؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ
جَاهِلًا ضَالًّا فِي ظُلُمَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ . وَ " أَيْضًا " فَقَدْ
يَكُونُ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ تَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ
وَتَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ فَيَكُونُ التَّقْسِيمُ فِي الْمَثَلَيْنِ
لِتَنَوُّعِ الْأَشْخَاصِ وَلِتَنَوُّعِ أَحْوَالِهِمْ وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ
مَا ضُرِبَ لَهُ هَذَا الْمَثَلُ هُوَ مُمَاثِلٌ لِمَا ضُرِبَ لَهُ هَذَا
الْمَثَلُ لِاخْتِلَافِ الْمَثَلَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلِهَذَا لَمْ يُضْرَبْ
لِلْإِيمَانِ إلَّا مَثَلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ فَضُرِبَ مَثَلُهُ
بِالنُّورِ وَأُولَئِكَ ضُرِبَ لَهُمْ الْمَثَلُ بِضَوْءِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ .
كَالسَّرَابِ بِالْقِيعَةِ أَوْ بِالظُّلُمَاتِ الْمُتَرَاكِمَةِ وَكَذَلِكَ
الْمُنَافِقُ يُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ بِمَنْ أَبْصَرَ ثُمَّ عَمِيَ أَوْ هُوَ
مُضْطَرِبٌ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ
الْمُنَافِقِينَ مَنْ كَانَ آمَنَ ثُمَّ كَفَرَ بَاطِنًا وَهَذَا مِمَّا
اسْتَفَاضَ بِهِ النَّقْلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ
وَالسِّيَرِ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ قَدْ آمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا وَكَانَ يَجْرِي
ذَلِكَ لِأَسْبَابِ :
مِنْهَا أَمْرُ الْقِبْلَةِ لَمَّا حُوِّلَتْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِيمَانِ لِأَجْلِ
ذَلِكَ طَائِفَةٌ وَكَانَتْ مِحْنَةً امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ . قَالَ
تَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلَّا
لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ
كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ }
قَالَ : أَيْ إذَا حُوِّلَتْ ؛ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي كَانَ فِي عِلْمِنَا أَنْ نَجْعَلَهَا قِبْلَتَكُمْ ؛ فَإِنَّ الْكَعْبَةَ وَمَسْجِدَهَا وَحَرَمَهَا أَفْضَلُ بِكَثِيرِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهِيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ وَقِبْلَةُ إبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ قَطُّ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا مُوسَى وَلَا عِيسَى وَلَا غَيْرَهُمَا ؛ فَلَمْ نَكُنْ لِنَجْعَلَهَا لَك قِبْلَةً دَائِمَةً وَلَكِنْ جَعَلْنَاهَا أَوَّلًا قِبْلَةً لِنَمْتَحِنَ بِتَحْوِيلِك عَنْهَا النَّاسَ فَيَتَبَيَّنُ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ فَكَانَ فِي شَرْعِهَا هَذِهِ الْحِكْمَةُ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَشُجَّ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ ارْتَدَّ طَائِفَةٌ نَافَقُوا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } فَقَوْلُهُ : { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا } ظَاهِرٌ فِيمَنْ أَحْدَثَ نِفَاقًا وَهُوَ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يُنَافِقْ قَبْلُ وَمَنْ نَافَقَ ثُمَّ جَدَّدَ نِفَاقًا ثَانِيًا . وَقَوْلُهُ : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ } يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ أَقْرَبَ مِنْهُمْ بَلْ إمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا لِلْإِيمَانِ أَقْرَبَ وَكَذَلِكَ كَانَ ؛ فَإِنَّ ابْنَ أُبَي لَمَّا
انْخَزَلَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ . انْخَزَلَ
مَعَهُ ثُلُثُ النَّاسِ قِيلَ : كَانُوا نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَهَؤُلَاءِ لَمْ
يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ كُلُّهُمْ مُنَافِقِينَ فِي الْبَاطِنِ إذْ لَمْ يَكُنْ
لَهُمْ دَاعٍ إلَى النِّفَاقِ . فَإِنَّ ابْنَ أبي كَانَ مُظْهِرًا لِطَاعَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِهِ ؛ وَكَانَ كُلَّ
يَوْمِ جُمُعَةٍ يَقُومُ خَطِيبًا فِي الْمَسْجِدِ يَأْمُرُ بِاتِّبَاعِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ مَا فِي قَلْبِهِ
يَظْهَرُ إلَّا لِقَلِيلِ مِنْ النَّاسِ إنْ ظَهَرَ وَكَانَ مُعَظَّمًا فِي
قَوْمِهِ ؛ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيَجْعَلُوهُ مِثْلَ
الْمَلِكِ عَلَيْهِمْ ؛ فَلَمَّا جَاءَتْ النُّبُوَّةُ بَطَلَ ذَلِكَ فَحَمَلَهُ
الْحَسَدُ عَلَى النِّفَاقِ وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ دِينٌ
يَدْعُو إلَيْهِ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي الْيَهُودِ فَلَمَّا جَاءَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينِهِ وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ
حُسْنَهُ وَنُورَهُ مَالَتْ إلَيْهِ الْقُلُوبُ لَا سِيَّمَا لَمَّا نَصَرَهُ
اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَنَصَرَهُ عَلَى يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ صَارَ مَعَهُ
الدِّينُ وَالدُّنْيَا ؛ فَكَانَ الْمُقْتَضِي لِلْإِيمَانِ فِي عَامَّةِ
الْأَنْصَارِ قَائِمًا وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يُعَظِّمُ ابْنَ أبي تَعْظِيمًا
كَثِيرًا وَيُوَالِيهِ وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ أبي أَظْهَرَ مُخَالَفَةً تُوجِبُ
الِامْتِيَازَ ؛ فَلَمَّا انْخَزَلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ : يَدَعُ رَأْيِي
وَرَأْيَهُ وَيَأْخُذُ بِرَأْيِ الصِّبْيَانِ - أَوْ كَمَا قَالَ - انْخَزَلَ
مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُنَافِقْ قَبْلَ ذَلِكَ .
وَفِي الْجُمْلَةِ : فَفِي الْأَخْبَارِ عَمَّنْ نَافَقَ بَعْدَ إيمَانِهِ مَا
يَطُولُ ذِكْرُهُ هُنَا ؛ فَأُولَئِكَ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَكَانَ مَعَهُمْ
إيمَانٌ هُوَ الضَّوْءُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ بِهِ الْمَثَلَ فَلَوْ مَاتُوا
قَبْلَ الْمِحْنَةِ وَالنِّفَاقِ مَاتُوا عَلَى هَذَا الْإِسْلَامِ الَّذِي
يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا الَّذِينَ اُمْتُحِنُوا فَثَبَتُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَلَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ حَقًّا الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِيمَانِ بِالْمِحْنَةِ . وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِنَا أَوْ أَكْثَرِهِمْ إذَا اُبْتُلُوا بِالْمِحَنِ الَّتِي يَتَضَعْضَعُ فِيهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ يَنْقُصُ إيمَانُهُمْ كَثِيرًا وَيُنَافِقُ أَكْثَرُهُمْ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ الرِّدَّةَ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ غَالِبًا ؛ وَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى غَيْرُنَا مِنْ هَذَا مَا فِيهِ عِبْرَةٌ . وَإِذَا كَانَتْ الْعَافِيَةُ أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ . وَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَكِنْ إيمَانًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الْمِحْنَةِ . وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي هَؤُلَاءِ تَرْكُ الْفَرَائِضِ وَانْتِهَاكُ الْمَحَارِمِ . وَهَؤُلَاءِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا : { آمَنَّا } فَقِيلَ لَهُمْ : { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أَيْ الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ الَّذِي أَهْلُهُ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ إذَا أُطْلِقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ رَيْبٌ عِنْدَ الْمِحَنِ الَّتِي تُقَلْقِلُ الْإِيمَانَ فِي الْقُلُوبِ وَالرَّيْبُ يَكُونُ فِي عِلْمِ الْقَلْبِ وَفِي عَمَلِ الْقَلْبِ ؛ بِخِلَافِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْعِلْمِ وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ بِالْيَقِينِ إلَّا مَنْ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ عِلْمًا وَعَمَلًا ؛ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَقِّ ؛ وَلَكِنَّ الْمُصِيبَةَ أَوْ الْخَوْفَ أَوْرَثَهُ جَزَعًا عَظِيمًا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ يَقِينٍ . قَالَ تَعَالَى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } .
وَكَثِيرًا مَا تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ وَقَدْ يَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ بَعْضُ مَا يُوجِبُ النِّفَاقَ . وَيَدْفَعُهُ اللَّهُ عَنْهُ . وَالْمُؤْمِنُ يُبْتَلَى بِوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَبِوَسَاوِسِ الْكُفْرِ الَّتِي يَضِيقُ بِهَا صَدْرُهُ . كَمَا { قَالَتْ الصَّحَابَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَئِنْ يَخِرُّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . فَقَالَ : ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ } أَيْ حُصُولِ هَذَا الْوَسْوَاسِ مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ الْعَظِيمَةِ لَهُ وَدَفْعِهِ عَنْ الْقَلْبِ هُوَ مِنْ صَرِيحِ الْإِيمَانِ ؛ كَالْمُجَاهِدِ الَّذِي جَاءَهُ الْعَدُوُّ فَدَافَعَهُ حَتَّى غَلَبَهُ ؛ فَهَذَا أَعْظَمُ الْجِهَادِ وَ " الصَّرِيحُ " الْخَالِصُ كَاللَّبَنِ الصَّرِيحِ . وَإِنَّمَا صَارَ صَرِيحًا لَمَّا كَرِهُوا تِلْكَ الْوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِيَّةَ وَدَفَعُوهَا فَخَلَصَ الْإِيمَانُ فَصَارَ صَرِيحًا . وَلَا بُدَّ لِعَامَّةِ الْخَلْقِ مِنْ هَذِهِ الْوَسَاوِسِ ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجِيبُهَا فَيَصِيرُ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ غَمَرَ قَلْبَهُ الشَّهَوَاتُ وَالذُّنُوبُ فَلَا يُحِسُّ بِهَا إلَّا إذَا طَلَبَ الدِّينَ فَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا وَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ مُنَافِقًا ؛ وَلِهَذَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ مِنْ الْوَسَاوِسِ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا يَعْرِضُ لَهُمْ إذَا لَمْ يُصَلُّوا لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكْثُرُ تَعَرُّضُهُ لِلْعَبْدِ إذَا أَرَادَ الْإِنَابَةَ إلَى رَبِّهِ وَالتَّقَرُّبَ إلَيْهِ وَالِاتِّصَالَ بِهِ ؛ فَلِهَذَا يَعْرِضُ لِلْمُصَلِّينَ مَا لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِمْ وَيَعْرِضُ لِخَاصَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْعَامَّةِ وَلِهَذَا يُوجَدُ عِنْدَ طُلَّابِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مِنْ الْوَسَاوِسِ وَالشُّبُهَاتِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلُكْ شَرْعَ اللَّهِ وَمِنْهَاجَهُ ؛ بَلْ هُوَ مُقْبِلٌ عَلَى هَوَاهُ فِي غَفْلَةٍ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ . وَهَذَا مَطْلُوبُ الشَّيْطَانِ بِخِلَافِ الْمُتَوَجِّهِينَ إلَى رَبِّهِمْ بِالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ
فَإِنَّهُ عَدُوُّهُمْ يَطْلُبُ صَدَّهُمْ عَنْ اللَّهِ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } وَلِهَذَا أَمَرَ قَارِئَ الْقُرْآنِ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ تُورِثُ الْقَلْبَ الْإِيمَانَ الْعَظِيمَ وَتَزِيدُهُ يَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً وَشِفَاءً . وَقَالَ تَعَالَى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا } وَقَالَ تَعَالَى : { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } وَقَالَ تَعَالَى { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } . وَهَذَا مِمَّا يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ ؛ فَالشَّيْطَانُ يُرِيدُ بِوَسَاوِسِهِ أَنْ يَشْغَلَ الْقَلْبَ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ الْقَارِئَ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } فَإِنَّ الْمُسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مُسْتَجِيرٌ بِهِ لَاجِئٌ إلَيْهِ مُسْتَغِيثٌ بِهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ؛ فَالْعَائِذُ بِغَيْرِهِ مُسْتَجِيرٌ بِهِ ؛ فَإِذَا عَاذَ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ كَانَ مُسْتَجِيرًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ فَيُعِيذُهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَيُجِيرُهُ مِنْهُ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } { وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ
قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ طَلَبِ الْعَبْدِ الْخَيْرَ لِئَلَّا يَعُوقَهُ الشَّيْطَانُ عَنْهُ ؛ وَعِنْدَ مَا يَعْرِضُ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِّ لِيَدْفَعَهُ عَنْهُ عِنْدَ إرَادَةِ الْعَبْدِ لِلْحَسَنَاتِ ؛ وَعِنْدَ مَا يَأْمُرُهُ الشَّيْطَانُ بِالسَّيِّئَاتِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزَالُ الشَّيْطَانُ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ : مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ حَتَّى يَقُولَ : مَنْ خَلَقَ اللَّهَ ؟ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ } فَأَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَمَا يَطْلُبُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَهُ فِي شَرٍّ أَوْ يَمْنَعَهُ مِنْ خَيْرٍ ؛ كَمَا يَفْعَلُ الْعَدُوُّ مَعَ عَدُوِّهِ . وَكُلَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَعْظَمَ رَغْبَةً فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَأَقْدَرَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ تَكُونُ قُوَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَى وَرَغْبَتُهُ وَإِرَادَتُهُ فِي ذَلِكَ أَتَمَّ ؛ كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ إنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ أَعْظَمَ ؛ وَكَانَ مَا يَفْتَتِنُ بِهِ إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ أَعْظَمَ . وَلِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ : كُلُّ أُمَّةٍ عُلَمَاؤُهَا شِرَارُهَا إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ خِيَارُهُمْ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ فِي الْإِسْلَامِ ؛ كَأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْمِلَلِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ ضَالُّونَ وَإِنَّمَا يُضِلُّهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ ؛ فَعُلَمَاؤُهُمْ شِرَارُهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى هُدًى وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ الْهُدَى بِعُلَمَائِهِمْ فَعُلَمَاؤُهُمْ خِيَارُهُمْ ؛ وَكَذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَئِمَّتُهُمْ خِيَارُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْبِدَعِ أَضَرُّ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ . وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْخَوَارِجِ ؛ وَنَهَى عَنْ قِتَالِ الْوُلَاةِ الظَّلَمَةِ ؛ وَأُولَئِكَ لَهُمْ
نَهْمَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ ؛ فَصَارَ يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ الْوَسَاوِسِ الَّتِي تُضِلُّهُمْ - وَهُمْ يَظُنُّونَهَا هُدًى فَيُطِيعُونَهَا - مَا لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِمْ وَمَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ مَصَابِيحِ الْهُدَى وَيَنَابِيعِ الْعِلْمِ ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِأَصْحَابِهِ : كُونُوا يَنَابِيعَ الْعِلْمِ مَصَابِيحَ الْحِكْمَةِ سُرُجَ اللَّيْلِ ؛ جُدُدَ الْقُلُوبِ أَحْلَاسَ الْبُيُوتِ خُلْقَانَ الثِّيَابِ ؛ تُعْرَفُونَ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَتُخْفَوْنَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ .
فَصْلٌ
:
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَوْجُودَةَ فِي
الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ إذَا عُرِفَ تَفْسِيرُهَا وَمَا أُرِيدَ بِهَا مِنْ
جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْتَجْ فِي ذَلِكَ
إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَقْوَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ ؛ وَلِهَذَا
قَالَ الْفُقَهَاءُ : " الْأَسْمَاءُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " نَوْعٌ
يُعْرَفُ حَدُّهُ بِالشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ؛ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ
حَدُّهُ بِاللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ؛ وَنَوْعٌ يُعْرَفُ حَدُّهُ
بِالْعُرْفِ كَلَفْظِ الْقَبْضِ وَلَفْظِ الْمَعْرُوفِ فِي قَوْلِهِ : {
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ قَالَ : تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : تَفْسِيرٌ
تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ
بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ
إلَّا اللَّهُ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ . فَاسْمُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ
وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُرَادُ بِهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَذَلِكَ
لَفْظُ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا وَمِنْ هُنَاكَ يُعْرَفُ مَعْنَاهَا فَلَوْ أَرَادَ
أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَهَا بِغَيْرِ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي اشْتِقَاقِهَا
وَوَجْهِ دَلَالَتِهَا فَذَاكَ مِنْ جِنْسِ عِلْمِ الْبَيَانِ . وَتَعْلِيلُ
الْأَحْكَامِ هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْعِلْمِ وَبَيَانُ حِكْمَةِ أَلْفَاظِ
الْقُرْآنِ ؛ لَكِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ بِهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا .
وَاسْمُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ
هَذَا كُلِّهِ ؛
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَيَانًا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ بِالِاشْتِقَاقِ وَشَوَاهِدِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَلِهَذَا يَجِبُ الرُّجُوعُ فِي مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَى بَيَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ شَافٍ كَافٍ ؛ بَلْ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَعْلُومَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ بَلْ كُلُّ مَنْ تَأَمَّلَ مَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُرْجِئَةُ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ وَيَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُ كُلَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا كَافِرًا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا جِئْتَنَا بِهِ بِقُلُوبِنَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ؛ وَنُقِرُّ بِأَلْسِنَتِنَا بِالشَّهَادَتَيْنِ إلَّا أَنَّا لَا نُطِيعُك فِي شَيْءٍ مِمَّا أَمَرْت بِهِ وَنَهَيْت عَنْهُ فَلَا نُصَلِّي وَلَا نَصُومُ وَلَا نَحُجُّ وَلَا نُصَدِّقُ الْحَدِيثَ وَلَا نُؤَدِّي الْأَمَانَةَ وَلَا نَفِي بِالْعَهْدِ وَلَا نَصِلُ الرَّحِمَ وَلَا نَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي أَمَرْت بِهِ وَنَشْرَبُ الْخَمْرَ ؛ وَنَنْكِحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالزِّنَا الظَّاهِرِ وَنَقْتُلُ مَنْ قَدَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِك وَأُمَّتِك وَنَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ بَلْ نَقْتُلُك أَيْضًا وَنُقَاتِلُك مَعَ أَعْدَائِك ؛ هَلْ كَانَ يَتَوَهَّمُ عَاقِلٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُمْ : أَنْتُمْ مُؤْمِنُونَ كَامِلُو الْإِيمَانِ وَأَنْتُمْ مِنْ أَهْلِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُرْجَى لَكُمْ أَلَّا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ النَّارَ بَلْ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ : أَنْتُمْ أَكْفَرُ النَّاسِ بِمَا جِئْت بِهِ وَيَضْرِبُ رِقَابَهُمْ إنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ وَالزَّانِيَ وَالْقَاذِفَ وَالسَّارِقَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْعَلُهُمْ مُرْتَدِّينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ بَلْ الْقُرْآنُ وَالنَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْهُ يُبَيِّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عُقُوبَاتٌ غَيْرُ عُقُوبَةِ الْمُرْتَدِّ عَنْ الْإِسْلَامِ
كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ جَلْدَ الْقَاذِفِ وَالزَّانِي وَقَطْعَ السَّارِقِ وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ لَقَتَلَهُمْ . فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَهْلُ الْبِدَعِ إنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ الدَّاخِلُ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ وَصَارُوا يَبْنُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ يَظُنُّونَ صِحَّتَهَا . إمَّا فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ . وَإِمَّا فِي الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ . وَلَا يَتَأَمَّلُونَ بَيَانَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكُلُّ مُقَدِّمَاتٍ تُخَالِفُ بَيَانَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ ضَلَالًا وَلِهَذَا تَكَلَّمَ أَحْمَد فِي رِسَالَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَتَمَسَّكُ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِبَيَانِ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ؛ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجرجاني فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ سَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . لَا يَعْدِلُونَ عَنْ بَيَانِ الرَّسُولِ إذَا وَجَدُوا إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا ؛ وَمَنْ عَدَلَ عَنْ سَبِيلِهِمْ وَقَعَ فِي الْبِدَعِ الَّتِي مَضْمُونُهَا أَنَّهُ يَقُولُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا لَا يَعْلَمُ أَوْ غَيْرَ الْحَقِّ وَهَذَا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَقَالَ تَعَالَى فِي الشَّيْطَانِ : { إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } وَهَذَا مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ : { مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } . مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ " الْمُرْجِئَةَ " لَمَّا عَدَلُوا عَنْ مَعْرِفَةِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَخَذُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي مُسَمَّى " الْإِيمَانِ " وَ " الْإِسْلَامِ " وَغَيْرِهِمَا بِطُرُقِ ابْتَدَعُوهَا مِثْلَ أَنْ
يَقُولُوا : " الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ " هُوَ التَّصْدِيقُ وَالرَّسُولُ إنَّمَا خَاطَبَ النَّاسَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ لَمْ يُغَيِّرْهَا فَيَكُونُ مُرَادُهُ بِالْإِيمَانِ التَّصْدِيقَ ؛ ثُمَّ قَالُوا : وَالتَّصْدِيقُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ فَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ ثُمَّ عُمْدَتُهُمْ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ قَوْلُهُ : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } أَيْ بِمُصَدِّقِ لَنَا . فَيُقَالُ لَهُمْ : " اسْمُ الْإِيمَانِ " قَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَبِهِ يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ ؛ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ وَمَنْ يُوَالِي وَمَنْ يُعَادِي وَالدِّينُ كُلُّهُ تَابِعٌ لِهَذَا ؛ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُحْتَاجٌ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ ؛ أَفَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ قَدْ أَهْمَلَ بَيَانَ هَذَا كُلِّهِ . وَوَكَلَهُ إلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ؟ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّاهِدَ الَّذِي اسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ . وَنَقْلُ مَعْنَى الْإِيمَانِ مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِنْ تَوَاتُرِ لَفْظِ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فَيَنْقُلُونَهُ بِخِلَافِ كَلِمَةٍ مِنْ سُورَةٍ . فَأَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُونُوا يَحْفَظُونَ هَذِهِ السُّورَةَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَيَانُ أَصْلِ الدِّينِ مَبْنِيًّا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ وَلِهَذَا كَثُرَ النِّزَاعُ وَالِاضْطِرَابُ بَيْنَ الَّذِينَ عَدَلُوا عَنْ صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ وَسَلَكُوا السُّبُلَ وَصَارُوا مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا وَمِنْ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَهَذَا كَلَامٌ عَامٌّ مُطْلَقٌ . ثُمَّ يُقَالُ : " هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ " كِلَاهُمَا مَمْنُوعَةٌ فَمَنْ الَّذِي قَالَ : إنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ مُرَادِفٌ لِلَفْظِ التَّصْدِيقِ ؟ وَهَبْ أَنَّ الْمَعْنَى يَصِحُّ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلِمَ
قُلْت : إنَّهُ يُوجِبُ التَّرَادُفَ ؟ وَلَوْ قُلْت : مَا أَنْتَ بِمُسْلِمِ لَنَا مَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا صَحَّ الْمَعْنَى لَكِنْ لِمَ قُلْت : إنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ مُؤْمِنٍ ؟ وَإِذَا قَالَ اللَّهُ : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } . وَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ : أَتِمُّوا الصَّلَاةَ وَلَازِمُوا الصَّلَاةَ الْتَزِمُوا الصَّلَاةَ افْعَلُوا الصَّلَاةَ كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا . لَكِنْ لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى مَعْنَى : أَقِيمُوا . فَكَوْنُ اللَّفْظِ يُرَادِفُ اللَّفْظَ ؛ يُرَادُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ . ثُمَّ يُقَالُ : لَيْسَ هُوَ مُرَادِفًا لَهُ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : ( أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ لِلْمُخْبِرِ إذَا صَدَّقْته : صَدَّقَهُ وَلَا يُقَالُ : آمَنَهُ وَآمَنَ بِهِ . بَلْ يُقَالُ : آمَنَ لَهُ كَمَا قَالَ : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } وَقَالَ : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } وَقَالَ فِرْعَوْنُ : { آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } وَقَالُوا لِنُوحِ : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } . فَقَالُوا : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } وَقَالَ : { وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يُقَالُ : مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقِ لَنَا . قِيلَ : اللَّامُ تَدْخُلُ عَلَى مَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إذَا ضَعُفَ عَمَلُهُ إمَّا بِتَأْخِيرِهِ أَوْ بِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ أَوْ مَصْدَرًا أَوْ بِاجْتِمَاعِهِمَا فَيُقَالُ : فُلَانٌ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيَخَافُهُ وَيَتَّقِيهِ ثُمَّ إذَا ذَكَرَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ قِيلَ : هُوَ عَابِدٌ لِرَبِّهِ مُتَّقٍ لِرَبِّهِ خَائِفٌ لِرَبِّهِ وَكَذَلِكَ تَقُولُ : فُلَانٌ يَرْهَبُ اللَّهَ ثُمَّ تَقُولُ : هُوَ رَاهِبٌ لِرَبِّهِ وَإِذَا ذَكَرْت الْفِعْلَ وَأَخَّرْته تُقَوِّيهِ بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ : { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } وَقَدْ قَالَ : { فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } فَعَدَّاهُ
بِنَفْسِهِ وَهُنَاكَ ذَكَرَ اللَّامَ فَإِنَّ هُنَا قَوْلَهُ : { فَإِيَّايَ } أَتَمُّ مِنْ قَوْلِهِ : فَلِي . وَقَوْلُهُ هُنَالِكَ { لِرَبِّهِمْ } أَتَمُّ مِنْ قَوْلِهِ : رَبِّهِمْ فَإِنَّ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ الْمَنْصُوبَ أَكْمَلُ مِنْ ضَمِيرِ الْجَرِّ بِالْيَاءِ وَهُنَاكَ اسْمٌ ظَاهِرٌ فَتَقْوِيَتُهُ بِاللَّامِ أَوْلَى وَأَتَمُّ مِنْ تَجْرِيدِهِ ؛ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ : { إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } وَيُقَالُ : عَبَرْت رُؤْيَاهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } وَإِنَّمَا يُقَالُ : غِظْته لَا يُقَالُ : غِظْت لَهُ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فَيَقُولُ الْقَائِلُ : مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقِ لَنَا أَدْخَلَ فِيهِ اللَّامَ لِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ وَإِلَّا فَإِنَّمَا يُقَالُ : صَدَّقْته لَا يُقَالُ : صَدَّقْت لَهُ وَلَوْ ذَكَرُوا الْفِعْلَ لَقَالُوا : مَا صَدَّقْتنَا وَهَذَا بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ تَعَدَّى إلَى الضَّمِيرِ بِاللَّامِ دَائِمًا ؛ لَا يُقَالُ : آمَنْته قَطُّ وَإِنَّمَا يُقَالُ : آمَنْت لَهُ كَمَا يُقَالُ : أَقْرَرْت لَهُ فَكَانَ تَفْسِيرُهُ بِلَفْظِ الْإِقْرَارِ أَقْرَبَ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِلَفْظِ التَّصْدِيقِ مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا . ( الثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادِفًا لِلَفْظِ التَّصْدِيقِ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ غَيْبٍ يُقَالُ لَهُ فِي اللُّغَةِ : صَدَقْت كَمَا يُقَالُ : كَذَبْت . فَمَنْ قَالَ : السَّمَاءُ فَوْقَنَا قِيلَ لَهُ : صَدَقَ كَمَا يُقَالُ : كَذَبَ وَأَمَّا لَفْظُ الْإِيمَانِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْخَبَرِ عَنْ غَائِبٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ ؛ كَقَوْلِهِ : طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ أَنَّهُ يُقَالُ : آمَنَّاهُ كَمَا يُقَالُ : صَدَّقْنَاهُ وَلِهَذَا ؛ الْمُحَدِّثُونَ وَالشُّهُودُ وَنَحْوُهُمْ ؛ يُقَالُ : صَدَّقْنَاهُمْ ؛ وَمَا يُقَالُ آمَنَّا لَهُمْ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَمْنِ . فَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي خَبَرٍ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ كَالْأَمْرِ الْغَائِبِ الَّذِي يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ قَطُّ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَفْظُ آمَنَ لَهُ إلَّا فِي هَذَا النَّوْعِ ؛ وَالِاثْنَانِ إذَا اشْتَرَكَا فِي مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ
يُقَالُ : صَدَّقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَلَا يُقَالُ : آمَنَ لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَائِبًا عَنْهُ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } . { آمَنْتُمْ لَهُ } . { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } فَيُصَدِّقُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ . مِمَّا غَابَ عَنْهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَاللَّفْظُ مُتَضَمِّنٌ مَعَ التَّصْدِيقِ وَمَعْنَى الِائْتِمَانِ وَالْأَمَانَةِ ؛ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ وَالِاشْتِقَاقُ وَلِهَذَا قَالُوا : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } أَيْ لَا تُقِرُّ بِخَبَرِنَا وَلَا تَثِقُ بِهِ وَلَا تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَهُ مِمَّنْ يُؤْتَمَنُ عَلَى ذَلِكَ . فَلَوْ صَدَقُوا لَمْ يَأْمَنْ لَهُمْ . ( الثَّالِثُ : أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ لَمْ يُقَابَلْ بِالتَّكْذِيبِ كَلَفْظِ التَّصْدِيقِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ فِي اللُّغَةِ أَنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ يُقَالُ لَهُ : صَدَقْت أَوْ كَذَبْت وَيُقَالُ : صَدَّقْنَاهُ أَوْ كَذَّبْنَاهُ وَلَا يُقَالُ لِكُلِّ مُخْبِرٍ : آمَنَّا لَهُ أَوْ كَذَّبْنَاهُ ؛ وَلَا يُقَالُ أَنْتَ مُؤْمِنٌ لَهُ أَوْ مُكَذِّبٌ لَهُ ؛ بَلْ الْمَعْرُوفُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ لَفْظُ الْكُفْرِ . يُقَالُ : هُوَ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ وَالْكُفْرُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّكْذِيبِ ؛ بَلْ لَوْ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ إنَّك صَادِقٌ لَكِنْ لَا أَتَّبِعُك بَلْ أُعَادِيك وَأُبْغِضُك وَأُخَالِفُك وَلَا أُوَافِقُك لَكَانَ كُفْرُهُ أَعْظَمَ ؛ فَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ الْمُقَابِلُ لِلْإِيمَانِ لَيْسَ هُوَ التَّكْذِيبُ فَقَطْ عُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقُ فَقَطْ بَلْ إذَا كَانَ الْكُفْرُ يَكُونُ تَكْذِيبًا وَيَكُونُ مُخَالَفَةً وَمُعَادَاةً وَامْتِنَاعًا بِلَا تَكْذِيبٍ ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ تَصْدِيقًا مَعَ مُوَافَقَةٍ وَمُوَالَاةٍ وَانْقِيَادٍ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ ؛ فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ جُزْءَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ كَمَا كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الِانْقِيَادِ مَعَ التَّصْدِيقِ جُزْءَ مُسَمَّى الْكُفْرِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمًا مُنْقَادًا لِلْأَمْرِ وَهَذَا هُوَ الْعَمَلُ .
فَإِنْ
قِيلَ : فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الْإِيمَانَ
بِمَا يُؤْمِنُ بِهِ . قِيلَ : فَالرَّسُولُ ذَكَرَ مَا يُؤْمِنُ بِهِ لَمْ
يَذْكُرْ مَا يُؤْمَنُ لَهُ وَهُوَ نَفْسُهُ يَجِبُ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَيُؤْمِنَ
لَهُ فَالْإِيمَانُ بِهِ مِنْ حَيْثُ ثُبُوتُهُ غَيْبٌ عَنَّا أُخْبِرْنَا بِهِ
وَلَيْسَ كُلُّ غَيْبٍ آمَنَّا بِهِ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ وَأَمَّا مَا يَجِبُ
مِنْ الْإِيمَانِ لَهُ فَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ طَاعَتَهُ وَالرَّسُولُ يَجِبُ
الْإِيمَانُ بِهِ وَلَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ هَذَا وَأَيْضًا فَإِنَّ
طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِهِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : الْإِيمَانُ أَصْلُهُ فِي
اللُّغَةِ مِنْ الْأَمْنِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ ؛ فَآمَنَ أَيْ صَارَ
دَاخِلًا فِي الْأَمْنِ وَأَنْشَدُوا . . . (1) .
وَأَمَّا " الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ " فَيُقَالُ : إنَّهُ إذَا
فُرِضَ أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلتَّصْدِيقِ فَقَوْلُهُمْ : إنَّ التَّصْدِيقَ لَا
يَكُونُ إلَّا بِالْقَلْبِ أَوْ اللِّسَانِ ؛ عَنْهُ جَوَابَانِ . "
أَحَدُهُمَا " : الْمَنْعُ بَلْ الْأَفْعَالُ تُسَمَّى تَصْدِيقًا كَمَا
ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ ؛
وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ ؛ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا
الْبَطْشُ ؛ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى
ذَلِكَ وَيَشْتَهِي ؛ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَطَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : وَالصِّدِّيقُ مِثَالُ الْفِسِّيقِ : الدَّائِمُ التَّصْدِيقَ
. وَيَكُونُ الَّذِي يَصْدُقُ قَوْلُهُ بِالْعَمَلِ . وَقَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ : لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي وَلَكِنَّهُ
مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ وَهَذَا
مَشْهُورٌ
عَنْ الْحَسَنِ يُرْوَى عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَمَا رَوَاهُ عَبَّاسٌ
الدُّورِيُّ : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ ؛ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ النَّاجِي عَنْ
الْحَسَنِ قَالَ : لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي ؛
وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ . مَنْ قَالَ
حَسَنًا وَعَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَمَنْ قَالَ
حَسَنًا وَعَمِلَ صَالِحًا رَفَعَهُ الْعَمَلُ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : {
إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }
وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ .
وَقَوْلُهُ : لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي - يَعْنِي الْكَلَامَ - وَقَوْلُهُ
: بِالتَّحَلِّي . يَعْنِي أَنْ يَصِيرَ حِلْيَةً ظَاهِرَةً لَهُ فَيُظْهِرُهُ
مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ مِنْ قَلْبِهِ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ هُوَ مَا يَظْهَرُ مِنْ
الْقَوْلِ وَلَا مِنْ الْحِلْيَةِ الظَّاهِرَةِ وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ
وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ فَالْعَمَلُ يُصَدِّقُ أَنَّ فِي الْقَلْبِ إيمَانًا
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ كَذَّبَ أَنَّ فِي قَلْبِهِ إيمَانًا لِأَنَّ مَا فِي
الْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَمَلِ الظَّاهِرِ . وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ يَدُلُّ
عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ . وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي
بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إلَى سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ . فَأَجَابَهُ عَنْهَا : سَأَلْت
عَنْ الْإِيمَانِ فَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ أَنْ يُصَدِّقَ الْعَبْدُ
بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَمَا أَرْسَلَ
مِنْ رَسُولٍ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَسَأَلْت عَنْ التَّصْدِيقِ .
وَالتَّصْدِيقُ : أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِمَا صَدَّقَ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ
وَمَا ضَعُفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ وَفَرَّطَ فِيهِ عَرَفَ أَنَّهُ ذَنْبٌ
وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ مِنْهُ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهِ فَذَلِكَ
هُوَ التَّصْدِيقُ . وَتَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ فَالدِّينُ هُوَ الْعِبَادَةُ فَإِنَّك لَنْ تَجِدَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ تَرَكَ عِبَادَةَ أَهْلِ دِينٍ ثُمَّ لَا يَدْخُلُ فِي دِينٍ آخَرَ إلَّا صَارَ لَا دِينَ لَهُ . وَتَسْأَلُ عَنْ الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ هِيَ الطَّاعَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَفِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ فَقَدْ آثَرَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فِي دِينِهِ وَعَمَلِهِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ فَرَّطُوا : { أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ } وَإِنَّمَا كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ الشَّيْطَانَ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُ فِي دِينِهِمْ . وَقَالَ أَسَدُ بْنُ مُوسَى : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الأوزاعي حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ قَالَ : الْإِيمَانُ فِي كِتَابِ اللَّهِ صَارَ إلَى الْعَمَلِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الْآيَةَ . ثُمَّ صَيَّرَهُمْ إلَى الْعَمَلِ فَقَالَ : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قَالَ : وَسَمِعْت الأوزاعي يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ بِاللِّسَانِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ الْعَمَلُ . وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ : كُنَّا نَقُولُ الْإِسْلَامُ بِالْإِقْرَارِ وَالْإِيمَانُ بِالْعَمَلِ وَالْإِيمَانُ : قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَرِينَانِ لَا يَنْفَعُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِالْآخَرِ وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا يُوزَنُ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ ؛ فَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ أَوْزَنَ مِنْ قَوْلِهِ : صَعِدَ إلَى اللَّهِ ؛ وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ أَوْزَنَ مِنْ عَمَلِهِ لَمْ يَصْعَدْ إلَى اللَّهِ . وَرَوَاهُ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي بِإِسْنَادِهِ
الْمَعْرُوفِ . وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو : عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري عَنْ الأوزاعي قَالَ : لَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ إلَّا بِالْعَمَلِ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ إلَّا بِنِيَّةِ مُوَافِقَةٍ لِلسُّنَّةِ . وَكَانَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ ؛ الْعَمَلُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ مِنْ الْعَمَلِ ؛ وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ اسْمٌ يَجْمَعُ كَمَا يَجْمَعُ هَذِهِ الْأَدْيَانَ اسْمُهَا وَيُصَدِّقُهُ الْعَمَلُ . فَمَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَعَرَفَ بِقَلْبِهِ وَصَدَّقَ بِعَمَلِهِ فَتِلْكَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا . وَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُصَدِّقْ بِعَمَلِهِ كَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ . وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْعَمَلَ مُصَدِّقًا لِلْقَوْلِ ؛ وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَاهُ مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ : حَدَّثَنَا الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ : { أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ . فَقَالَ : الْإِيمَانُ : الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ بِالْعَمَلِ ؛ ثُمَّ تَلَا { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلَى قَوْلِهِ { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } } . قُلْت حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ هَذَا مَرْوِيٌّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ؛ فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ هُوَ لَفْظَ الرَّسُولِ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانُوا رَوَوْهُ بِالْمَعْنَى دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْمَعْرُوفِ فِي لُغَتِهِمْ أَنَّهُ يُقَالُ : صَدَقَ قَوْلُهُ بِعَمَلِهِ ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الهروي : الْإِيمَانُ تَصْدِيقٌ كُلُّهُ . وَكَذَلِكَ " الْجَوَابُ الثَّانِي " أَنَّهُ إذَا كَانَ أَصْلُهُ التَّصْدِيقَ فَهُوَ تَصْدِيقٌ
مَخْصُوصٌ
كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ وَالْحَجَّ قَصْدٌ مَخْصُوصٌ
وَالصِّيَامَ إمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ ؛ وَهَذَا التَّصْدِيقُ لَهُ لَوَازِمُ صَارَتْ
لَوَازِمُهُ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّاهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ؛ فَإِنَّ انْتِفَاءَ
اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ وَيَبْقَى النِّزَاعُ لَفْظِيًّا :
هَلْ الْإِيمَانُ دَالٌّ عَلَى الْعَمَلِ بِالتَّضَمُّنِ أَوْ بِاللُّزُومِ ؟ .
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ أَكْثَرَ التَّنَازُعِ بَيْنَ أَهْلِ
السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَإِلَّا
فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ - كَحَمَّادِ بْنِ
أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ
أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ - مُتَّفِقُونَ مَعَ جَمِيعِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ
عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ دَاخِلُونَ تَحْتَ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ وَإِنْ
قَالُوا : إنَّ إيمَانَهُمْ كَامِلٌ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ فَهُمْ يَقُولُونَ :
إنَّ الْإِيمَانَ بِدُونِ الْعَمَلِ الْمَفْرُوضِ وَمَعَ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ
يَكُونُ صَاحِبُهُ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ كَمَا تَقُولُهُ
الْجَمَاعَةُ . وَيَقُولُونَ أَيْضًا بِأَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ
يَدْخُلُ النَّارَ كَمَا تَقُولُهُ الْجَمَاعَةُ ، وَاَلَّذِينَ يَنْفُونَ عَنْ
الْفَاسِقِ اسْمَ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ
لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ . فَلَيْسَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ نِزَاعٌ فِي
أَصْحَابِ الذُّنُوبِ إذَا كَانُوا مُقِرِّينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِمَا جَاءَ
بِهِ الرَّسُولُ وَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ
وَأَنَّهُ يَدْخُلُ النَّارَ مِنْهُمْ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
بِدُخُولِهِ إلَيْهَا وَلَا يُخَلَّدُ مِنْهُمْ فِيهَا أَحَدٌ وَلَا يَكُونُونَ
مُرْتَدِّينَ مُبَاحِي الدِّمَاءِ وَلَكِنَّ " الْأَقْوَالَ الْمُنْحَرِفَةَ
" قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ كَالْخَوَارِجِ
وَالْمُعْتَزِلَةِ . وَقَوْلُ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : مَا
نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ ؛ بَلْ نَقِفُ فِي هَذَا
كُلِّهِ . وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الْجَزْمُ بِالنَّفْيِ
الْعَامِّ .
وَيُقَالُ
لِلْخَوَارِجِ : الَّذِي نَفَى عَنْ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَالشَّارِبِ
وَغَيْرِهِمْ الْإِيمَانَ ؛ هُوَ لَمْ يَجْعَلْهُمْ مُرْتَدِّينَ عَنْ
الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ عَاقَبَ هَذَا بِالْجَلْدِ وَهَذَا بِالْقَطْعِ وَلَمْ
يَقْتُلْ أَحَدًا إلَّا الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ وَلَمْ يَقْتُلْهُ قَتْلَ
الْمُرْتَدِّ ؛ فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ
وَهَذَا يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ بِلَا اسْتِتَابَةٍ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى
أَنَّهُ وَإِنْ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ فَلَيْسُوا عِنْدَهُ مُرْتَدِّينَ عَنْ
الْإِسْلَامِ مَعَ ظُهُورِ ذُنُوبِهِمْ وَلَيْسُوا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ
كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ فَأُولَئِكَ لَمْ
يُعَاقِبْهُمْ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ ظَاهِرٍ .
وَبِسَبَبِ الْكَلَامِ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " تَنَازَعَ
النَّاسُ هَلْ فِي اللُّغَةِ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ نَقَلَهَا الشَّارِعُ عَنْ
مُسَمَّاهَا فِي اللُّغَةِ أَوْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا
كَانَتْ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ لَكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا لَا
فِي مَعْنَى الْأَسْمَاءِ ؟ . وَهَكَذَا قَالُوا فِي اسْمِ " الصَّلَاةِ
" وَ " الزَّكَاةِ " وَ " الصِّيَامِ " "
وَالْحَجِّ " إنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى مَعْنَاهَا
اللُّغَوِيِّ لَكِنْ زَادَ فِي أَحْكَامِهَا . وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ
هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ .
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ إلَى أَنَّ الشَّارِعَ تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَ
أَهْلِ الْعُرْفِ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ مَجَازٌ وَبِالنِّسْبَةِ
إلَى عُرْفِ الشَّارِعِ حَقِيقَةٌ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ
يَنْقُلْهَا وَلَمْ يُغَيِّرْهَا وَلَكِنْ اسْتَعْمَلَهَا مُقَيَّدَةً لَا
مُطْلَقَةً كَمَا يَسْتَعْمِلُ نَظَائِرَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } فَذَكَرَ حَجًّا خَاصًّا وَهُوَ حَجُّ الْبَيْتِ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ } فَلَمْ يَكُنْ
لَفْظُ
الْحَجِّ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ قَصْدٍ بَلْ لِقَصْدِ مَخْصُوصٍ دَلَّ عَلَيْهِ
اللَّفْظُ نَفْسُهُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ اللُّغَةِ وَالشَّاعِرُ إذَا قَالَ :
وَاشْهَدْ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً * * * يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ
الْمُزَعْفَرَا
كَانَ مُتَكَلِّمًا بِاللُّغَةِ وَقَدْ قَيَّدَ : لَفْظَهُ : بِحَجِّ سَبِّ
الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْحَجَّ الْمَخْصُوصَ
دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ فَكَذَلِكَ الْحَجُّ الْمَخْصُوصُ الَّذِي أَمَرَ
اللَّهُ بِهِ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ أَوْ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ :
فَإِذَا قِيلَ : الْحَجُّ فَرْضٌ عَلَيْك كَانَتْ لَامُ الْعَهْدِ تُبَيِّنُ
أَنَّهُ حِجُّ الْبَيْتِ وَكَذَلِكَ " الزَّكَاةُ " هِيَ اسْمٌ لِمَا
تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ ؛ وَزَكَاةُ النَّفْسِ زِيَادَةُ خَيْرِهَا وَذَهَابُ
شَرِّهَا وَالْإِحْسَانُ إلَى النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ
؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْفَوَاحِشِ مِمَّا تَزْكُو بِهِ .
قَالَ تَعَالَى . { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا
مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } وَأَصْلُ زَكَاتِهَا بِالتَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ
الدِّينِ لِلَّهِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { الَّذِينَ
لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَهِيَ عِنْدُ الْمُفَسِّرِينَ التَّوْحِيدُ . وَقَدْ
بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ
وَسَمَّاهَا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ؛ فَصَارَ لَفْظُ الزَّكَاةِ إذَا عُرِّفَ
بِاللَّامِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا لِأَجْلِ الْعَهْدِ وَمِنْ الْأَسْمَاءِ مَا
يَكُونُ أَهْلُ الْعُرْفِ نَقَلُوهُ وَيَنْسُبُونَ ذَلِكَ إلَى الشَّارِعِ مِثْلَ
لَفْظِ " التَّيَمُّمِ " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : {
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ
} فَلَفْظُ " التَّيَمُّمِ " اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ
فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِتَيَمُّمِ الصَّعِيدِ ثُمَّ أَمَرَ بِمَسْحِ
الْوُجُوهِ وَالْأَيْدِي مِنْهُ ؛ فَصَارَ لَفْظُ التَّيَمُّمِ فِي عُرْفِ
الْفُقَهَاءِ يَدْخُلُ فِيهِ هَذَا الْمَسْحُ ؛ وَلَيْسَ
هُوَ لُغَةُ الشَّارِعِ بَلْ الشَّارِعُ فَرَّقَ بَيْنَ تَيَمُّمِ الصَّعِيدِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ وَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " أَمَرَ بِهِ مُقَيَّدًا بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْإِسْلَامِ " بِالِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؛ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْكُفْرِ " مُقَيَّدًا ؛ وَلَكِنْ لَفْظُ " النِّفَاقِ " قَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَكَلَّمَتْ بِهِ لَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِهِمْ فَإِنَّ نَفَقَ يُشْبِهُ خَرَجَ وَمِنْهُ نَفَقَتْ الدَّابَّةُ إذَا مَاتَتْ : وَمِنْهُ نَافِقَاءُ الْيَرْبُوعِ وَالنَّفَقُ فِي الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ } فَالْمُنَافِقُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ بَاطِنًا بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِ ظَاهِرًا ؛ وَقَيَّدَ النِّفَاقَ بِأَنَّهُ نِفَاقٌ مِنْ الْإِيمَانِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي مَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْمَلِكِ مُنَافِقًا عَلَيْهِ ؛ لَكِنَّ النِّفَاقَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ هُوَ النِّفَاقُ عَلَى الرَّسُولِ . فَخِطَابُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلنَّاسِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ كَخِطَابِ النَّاسِ بِغَيْرِهَا ؛ وَهُوَ خِطَابٌ مُقَيَّدٌ خَاصٌّ لَا مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا . وَقَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ تِلْكَ الْخَصَائِصَ ؛ وَالِاسْمُ دَلَّ عَلَيْهَا ؛ فَلَا يُقَالُ : إنَّهَا مَنْقُولَةٌ وَلَا إنَّهُ زِيدَ فِي الْحُكْمِ دُونَ الِاسْمِ ؛ بَلْ الِاسْمُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ عَلَى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِمُرَادِ الشَّارِعِ ؛ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مُطْلَقًا وَهُوَ إنَّمَا قَالَ : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهُمْ الصَّلَاةَ الْمَأْمُورَ بِهَا ؛ فَكَانَ التَّعْرِيفُ مُنْصَرِفًا إلَى الصَّلَاةِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا ؛ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ الصَّلَاةِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ . وَلِهَذَا كُلُّ مَنْ قَالَ فِي لَفْظِ الصَّلَاةِ : إنَّهُ عَامٌّ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ ؛ أَوْ إنَّهُ مُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَأَقْوَالُهُمْ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا وَرَدَ خَبَرًا أَوْ أَمْرًا فَالْخَبَرُ كَقَوْلِهِ : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى } { عَبْدًا إذَا صَلَّى } وَسُورَةُ { اقْرَأْ } مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ { وَكَانَ
بَعْضُ الْكُفَّارِ إمَّا أَبُو جَهْلٍ أَوْ غَيْرُهُ قَدْ نَهَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ وَقَالَ : لَئِنْ رَأَيْته يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عُنُقَهُ . فَلَمَّا رَآهُ سَاجِدًا رَأَى مِنْ الْهَوْلِ مَا أَوْجَبَ نُكُوصَهُ عَلَى عَقِبَيْهِ } فَإِذَا قِيلَ : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى } { عَبْدًا إذَا صَلَّى } فَقَدْ عَلِمْت تِلْكَ الصَّلَاةَ الْوَاقِعَةَ بِلَا إجْمَالٍ فِي اللَّفْظِ وَلَا عُمُومٍ . ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا فُرِضَتْ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ الصَّلَوَاتِ بِمَوَاقِيتِهَا صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ جبرائيل يَؤُمُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمُسْلِمُونَ يَأْتَمُّونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } عَرَفُوا أَنَّهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ وَقِيلَ : إنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ لَهُ صَلَاتَانِ طَرَفَيْ النَّهَارِ فَكَانَتْ أَيْضًا مَعْرُوفَةً فَلَمْ يُخَاطَبُوا بِاسْمِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَّا وَمُسَمَّاهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ . فَلَا إجْمَالَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُسَمَّى حَجًّا وَدُعَاءً وَصَوْمًا فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا وَذَلِكَ لَمْ يَرِدْ . وَكَذَلِكَ " الْإِيمَانُ " وَ " الْإِسْلَامُ " وَقَدْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَظْهَرِ الْأُمُورِ وَإِنَّمَا سَأَلَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ وَقَالَ : { هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } لِيُبَيِّنَ لَهُمْ كَمَالَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَحَقَائِقَهَا الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُقْصَدَ لِئَلَّا يَقْتَصِرُوا عَلَى أَدْنَى مُسَمَّيَاتِهَا وَهَذَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ الْمِسْكِينُ هَذَا الطَّوَّافَ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إلْحَافًا } فَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمِسْكِينَ وَأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ وَكَانَ ذَلِكَ
مَشْهُورًا
عِنْدَهُمْ فِيمَنْ يُظْهِرُ حَاجَتَهُ بِالسُّؤَالِ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي يُظْهِرُ حَاجَتَهُ بِالسُّؤَالِ
وَالنَّاسُ يُعْطُونَهُ تَزُولُ مَسْكَنَتُهُ بِإِعْطَاءِ النَّاسِ لَهُ
وَالسُّؤَالُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحِرْفَةِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا
يَسْتَحِقُّ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يُعْطَ مَنْ غَيْرِهَا كِفَايَتُهُ فَهُوَ
إذَا وَجَدَ مَنْ يُعْطِيهِ كِفَايَتَهُ لَمْ يَبْقَ مِسْكِينًا وَإِنَّمَا
الْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَلَا يُعْرَفُ فَيُعْطَى .
فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ فِي الْعَطَاءِ فَإِنَّهُ مِسْكِينٌ
قَطْعًا وَذَاكَ مَسْكَنَتُهُ تَنْدَفِعُ بِعَطَاءِ مَنْ يَسْأَلُهُ وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ : " الْإِسْلَامُ هُوَ الْخَمْسُ " يُرِيدُ أَنَّ هَذَا
كُلَّهُ وَاجِبٌ دَاخِلٌ فِي الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكْتَفِيَ
بِالْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ ؛ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمُفَصَّلِ لَا يَكْتَفِي فِيهِ بِالْإِيمَانِ
الْمُجْمَلِ وَلِهَذَا وَصَفَ الْإِسْلَامَ بِهَذَا .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَأْتِ
بِالشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْأَرْبَعَةُ
فَاخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا : أَهْلُ
السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِالذَّنْبِ فَإِنَّمَا
نُرِيدُ بِهِ الْمَعَاصِيَ كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَأَمَّا هَذِهِ الْمَبَانِي
فَفِي تَكْفِيرِ تَارِكِهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . وَعَنْ أَحْمَد : فِي ذَلِكَ
نِزَاعٌ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ : إنَّهُ يَكْفُرُ مَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً
مِنْهَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ
كَابْنِ حَبِيبٍ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ : لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ
الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَقَطْ وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ : لَا يَكْفُرُ إلَّا
بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا وَرَابِعَةٌ
: لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ . وَخَامِسَةٌ : لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ
شَيْءٍ مِنْهُنَّ . وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ لِلسَّلَفِ . قَالَ الْحَكَمُ
بْنُ عُتَيْبَةَ : مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ
تَرَكَ الزَّكَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ . وَمَنْ تَرَكَ الْحَجَّ
مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ . وَمَنْ تَرَكَ صَوْمَ
رَمَضَانَ
مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : مَنْ تَرَكَ
الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . وَمَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ
مُتَعَمَّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . وَمَنْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ
مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : لَا تُرْفَعُ
الصَّلَاةُ إلَّا بِالزَّكَاةِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ
أَقَامَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُؤْتِ الزَّكَاةَ فَلَا صَلَاةَ لَهُ . رَوَاهُنَّ
أَسَدُ بْنُ مُوسَى . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : مَنْ شَرِبَ
الْخَمْرَ مُمْسِيًا أَصْبَحَ مُشْرِكًا وَمَنْ شَرِبَهُ مُصْبِحًا أَمْسَى
مُشْرِكًا فَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي : كَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ
يَتْرُكُ الصَّلَاةَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَخْنَسُ فِي كِتَابِهِ : مَنْ
شَرِبَ الْمُسْكِرَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَمَنْ تَرَكَ
الصَّلَاةَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ
جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ
فَرْضِ الْحَجِّ وَالْحَجُّ إنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ . وَقَدْ
اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ قَبْلَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ
النَّاسَ بِالْإِيمَانِ . وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ مَعْنَاهُ إلَى ذَلِكَ
الْوَقْتِ بَلْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَصْلَ مَعْنَاهُ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ
لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ اسْمَ "
الْإِيمَانِ " أَوْ " الْإِسْلَامِ " فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ
قَدْ تَرَكَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ فِيهِ وَإِنْ بَقِيَ بَعْضُهَا وَلِهَذَا كَانَ
الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ
. قَالَ أَبُو دَاوُد السجستاني : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا
وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ عَنْ
أَبِي يَحْيَى قَالَ : سُئِلَ حُذَيْفَةُ عَنْ الْمُنَافِقِ . قَالَ : الَّذِي يَعْرِفُ الْإِسْلَامَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ . وَقَالَ أَبُو دَاوُد : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي البختري عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ : قَلْبٌ أَغْلَفُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ وَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ وَقَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ ؛ وَقَلْبٌ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ ؛ فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَمُدُّهَا مَاءٌ طَيِّبٌ ؛ وَمَثَلُ النِّفَاقِ مَثَلُ قُرْحَةٍ يَمُدُّهَا قَيْحٌ وَدَمٌ ؛ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَيْهِ غَلَبَ . وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا ؛ وَهُوَ فِي " الْمُسْنَدِ " مَرْفُوعًا . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حُذَيْفَةُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ } فَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِمْ نِفَاقٌ مَغْلُوبٌ فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ غَلَبَ نِفَاقُهُمْ فَصَارُوا إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبَ . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : إنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً بَيْضَاءَ فِي الْقَلْبِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ إيمَانًا ازْدَادَ الْقَلْبُ بَيَاضًا حَتَّى إذَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ ابْيَضَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ . وَإِنَّ النِّفَاقَ يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ نِفَاقًا ازْدَادَ الْقَلْبُ سَوَادًا حَتَّى إذَا اسْتَكْمَلَ الْعَبْدُ النِّفَاقَ اسْوَدَّ الْقَلْبُ وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَبْيَضَ وَلَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبِ الْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ لَوَجَدْتُمُوهُ أَسْوَدَ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ . رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ يُبَيِّنُونَ أَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ
إيمَانٌ
وَنِفَاقٌ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ شُعَبَ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ شُعَبَ
النِّفَاقِ وَقَالَ : { مَنْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ
شُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا } وَتِلْكَ الشُّعْبَةُ قَدْ يَكُونُ
مَعَهَا كَثِيرٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا قَالَ : { وَيَخْرُجُ مِنْ
النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } فَعُلِمَ
أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ أَقَلُّ الْقَلِيلِ لَمْ يَخْلُدْ فِي
النَّارِ وَأَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنْ النِّفَاقِ فَهُوَ يُعَذَّبُ فِي
النَّارِ عَلَى قَدْرِ مَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ .
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ لِلْأَعْرَابِ : { لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا
أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } نَفَى حَقِيقَةَ
دُخُولِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ
شُعْبَةٌ مِنْهُ كَمَا نَفَاهُ عَنْ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَمَنْ لَا يُحِبُّ
لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَمَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ
وَغَيْرَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ
مِمَّنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ لِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ
.
وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ : مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : أَسْلَمْنَا أَيْ
اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ السَّيْفِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : هُوَ الْإِسْلَامُ .
الْجَمِيعُ صَحِيحٌ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ
وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ
كَانَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ
النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ بِخِلَافِ
الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ الَّذِي قَلْبُهُ كُلُّهُ أَسْوَدُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَكُونُ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَخْشَوْنَ
النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَخَافُوا
التَّكْذِيبَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَقِينًا وَهَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يَعْلَمُهُ مَنْ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ وَلَكِنْ الْإِيمَانُ لَيْسَ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَعْمَالٍ قَلْبِيَّةٍ تَسْتَلْزِمُ أَعْمَالًا ظَاهِرَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَحُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَحُبُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَبُغْضُ مَا نَهَى عَنْهُ هَذَا مِنْ أَخَصِّ الْأُمُورِ بِالْإِيمَانِ وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَنَّ : { مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ } فَهَذَا يُحِبُّ الْحَسَنَةَ وَيَفْرَحُ بِهَا وَيُبْغِضُ السَّيِّئَةَ وَيَسُوءُهُ فِعْلُهَا وَإِنْ فَعَلَهَا بِشَهْوَةِ غَالِبَةٍ وَهَذَا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ مِنْ خَصَائِصِ الْإِيمَانِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّانِيَ حِينَ يَزْنِي إنَّمَا يَزْنِي لِحُبِّ نَفْسِهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَوْ قَامَ بِقَلْبِهِ خَشْيَةُ اللَّهِ الَّتِي تَقْهَرُ الشَّهْوَةَ أَوْ حُبُّ اللَّهِ الَّذِي يَغْلِبُهَا ؛ لَمْ يَزْنِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَمَنْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ حَقَّ الْإِخْلَاصِ لَمْ يَزْنِ وَإِنَّمَا يَزْنِي لِخُلُوِّهِ عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي يُنْزَعُ مِنْهُ لَمْ يُنْزَعْ مِنْهُ نَفْسُ التَّصْدِيقِ وَلِهَذَا قِيلَ : هُوَ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثَّوَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا وَإِلَّا كَانَ مُنَافِقًا ؛ لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ قَامَ بِقَلْبِهِ مِنْ الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الْوَاجِبَةِ مِثْلُ كَمَالِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِثْلُ خَشْيَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ بَلْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ
مَعَ ذَلِكَ يُرَائِي بِأَعْمَالِهِ وَيَكُونُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَقَدْ خُوطِبَ بِهَذَا الْمُؤْمِنُونَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " فَقِيلَ لَهُمْ : { إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ؛ وَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ مَنْ لَمْ يَرْتَبْ وَجَاهَدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ تَقُمْ بِقَلْبِهِ الْأَحْوَالُ الْوَاجِبَةُ فِي الْإِيمَانِ فَهُوَ الَّذِي نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّصْدِيقُ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ التَّصْدِيقِ شَيْءٌ مِنْ حُبِّ اللَّهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَإِلَّا فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ إيمَانًا أَلْبَتَّةَ بَلْ هُوَ كَتَصْدِيقِ فِرْعَوْنَ وَالْيَهُودِ وَإِبْلِيسَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ عَلَى الْجَهْمِيَّة . قَالَ الحميدي : سَمِعْت وَكِيعًا يَقُولُ : أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ . وَالْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ الْمَعْرِفَةُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ : وَهَذَا كُفْرٌ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الكلابي : سَمِعْت وَكِيعًا يَقُولُ : الْجَهْمِيَّة شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ قَالَ : وَقَالَ وَكِيعٌ : الْمُرْجِئَةُ : الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْإِقْرَارُ يُجْزِئُ عَنْ الْعَمَلِ ؛ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ هَلَكَ ؛ وَمَنْ قَالَ : النِّيَّةُ تُجْزِئُ عَنْ الْعَمَلِ فَهُوَ كُفْرٌ وَهُوَ قَوْلُ جَهْمٍ وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ .
وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ : إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ شَعَائِرِ السُّنَّةِ وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي " الْأُمِّ " : وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَنْ أَدْرَكْنَاهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ لَا يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَّا بِالْآخَرِ ؛ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ - فِي " مَنَاقِبِهِ " - : سَمِعْت حَرْمَلَةَ يَقُولُ : اجْتَمَعَ حَفْصٌ الْفَرْدُ وَمَصْلَانِ الإباضي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي دَارِ الجروي فَتَنَاظَرَا مَعَهُ فِي الْإِيمَانِ فَاحْتَجَّ مَصْلَانِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَخَالَفَهُ حَفْصٌ الْفَرْدُ فَحَمِيَ الشَّافِعِيُّ وَتَقَلَّدَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَطَحَنَ حَفْصًا الْفَرْدَ وَقَطَعَهُ . وَرَوَى أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ عَنْ مُوسَى بْنِ هَارُونَ الْحَمَّالِ قَالَ : أَمْلَى عَلَيْنَا إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ لَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا وَصَفْنَا وَإِنَّمَا عَقَلْنَا هَذَا بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالْآثَارِ الْعَامَّةِ الْمُحْكَمَةِ ؛ وَآحَادِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ وَهَلُمَّ جَرًّا عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَكَذَلِكَ فِي عَهْدِ الأوزاعي بِالشَّامِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِالْعِرَاقِ ؛ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ بِالْحِجَازِ وَمَعْمَرٍ بِالْيَمَنِ عَلَى مَا فَسَّرْنَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . وَقَالَ إسْحَاقُ : مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا حَتَّى ذَهَبَ وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى الْمَغْرِبِ ،
وَالْمَغْرِبِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ وَقَالَ تَرْكُهَا لَا يَكُونُ كُفْرًا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ - يَعْنِي تَارِكَهَا . وَقَالَ ذَلِكَ - وَأَمَّا إذَا صَلَّى وَقَالَ ذَلِكَ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ قَالَ : وَاتَّبَعَهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ عَصْرِنَا هَذَا أَهْلُ الْعِلْمِ إلَّا مَنْ بَايَنَ الْجَمَاعَةَ وَاتَّبَعَ الْأَهْوَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ فَأُولَئِكَ قَوْمٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِمْ لَمَّا بَايَنُوا الْجَمَاعَةَ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ الْإِمَامُ - وَلَهُ كِتَابٌ مُصَنَّفٌ فِي الْإِيمَانِ قَالَ - : هَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ كَانَ يَقُولُ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ : عُبَيْدُ بْن عُمَيْرٍ الليثي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرِ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ؛ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ؛ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ؛ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جَرِيحٍ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ دَاوُد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ الزَّهْرِيُّ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمْرِيُّ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي ذِئْبٍ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الماجشون - عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ : طَاوُوسٌ الْيَمَانِيُّ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ . وَمِنْ أَهْل مِصْرَ وَالشَّامِ : مَكْحُولٌ الأوزاعي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأيلي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ يَزِيدُ بْنُ شريح سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ حيوة
بْنُ
شريح ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ .
وَمَنْ سَكَنَ الْعَوَاصِمَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْجَزِيرَةِ : مَيْمُونُ بْنُ مهران
، يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ ، مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرقي ، عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَالِكٍ ، المعافي بْنُ
عِمْرَانَ ، مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرَّانِي ، أَبُو إسْحَاقَ الفزاري ،
مخلد بْنُ الْحُسَيْنِ ، عَلِيُّ بْنُ بكار ، يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ ، عَطَاءُ
بْنُ مُسْلِمٍ ، مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ ، الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ .
وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ : عَلْقَمَةُ ، الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ ، أَبُو
وَائِلٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم (1) عَامِرٌ
الشَّعْبِيُّ ، إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي ، الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ ، طَلْحَةُ
بْنُ مُصَرِّفٍ ، مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ ، سَلَمَةُ بْنُ كهيل ، مُغِيرَةُ
الضبي ، عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ ، إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ ، أَبُو
حَيَّانَ ، يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، سُلَيْمَانُ بْنُ مهران ، الْأَعْمَشُ ،
يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ ، سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ ، سُفْيَانُ
بْنُ عُيَيْنَة ، الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ ، أَبُو الْمِقْدَامِ ، ثَابِتُ بْنُ
الْعَجْلَانِ ، ابْنُ شبرمة ، ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، زُهَيْرٌ ، شَرِيكُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ ، الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ ، حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ، أَبُو بَكْرِ
بْنُ عَيَّاشٍ ، أَبُو الْأَحْوَصِ ، وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ ، عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ نُمَيْرٍ ، أَبُو أُسَامَةَ ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ ، زَيْدُ بْنُ
الحباب ، الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الجعفي ، مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ العبدي ،
يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَمُحَمَّدٌ وَيَعْلَى وَعَمْرُو بَنُو عُبَيْدٍ .
وَمِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ : الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ
سِيرِين قتادة ابْنُ دِعَامَةَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المزني أَيُّوبُ
السختياني يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ سُلَيْمَانُ التيمي
هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ الدستوائي شُعْبَةُ ابْنُ الْحَجَّاجِ حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَبُو الْأَشْهَبِ يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ
أَبُو عَوَانَةَ وهيب بْنُ خَالِدٍ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التيمي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ يَزِيدُ بْنُ زريع الْمُؤَمِّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي . وَمِنْ أَهْلِ وَاسِطٍ : هشيم بْنُ بَشِيرٍ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ صَالِحُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ : الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ النَّضْرُ بْنُ شميل جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الضبي . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هَؤُلَاءِ جَمِيعًا يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَعْمُولُ بِهِ عِنْدَنَا . قُلْت : ذَكَرَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ الْإِرْجَاءَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ كَانَ أَوَّلًا فِيهِمْ أَكْثَرَ وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَالَهُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فَاحْتَاجَ عُلَمَاؤُهَا أَنْ يُظْهِرُوا إنْكَارَ ذَلِكَ فَكَثُرَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ ؛ كَمَا أَنَّ التَّجَهُّمَ وَتَعْطِيلَ الصِّفَاتِ لَمَّا كَانَ ابْتِدَاءَ حُدُوثِهِ مِنْ خُرَاسَانَ كَثُرَ مِنْ عُلَمَاءِ خُرَاسَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَى الْجَهْمِيَّة مَا لَمْ يُوجَدْ قَطُّ لِمَنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ فِي بَلَدِهِ وَلَا سَمِعَ بِهَا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ : { إنَّ لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ بِدْعَةٍ يَكَادُ بِهَا الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِعَلَامَاتِ الْإِسْلَامِ ؛ فَاغْتَنِمُوا تِلْكَ الْمَجَالِسَ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَى أَهْلِهَا } أَوْ كَمَا قَالَ .
وَإِذَا كَانَ مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ : إنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ : إنَّهُ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَكُفْرٌ لَيْسَ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قَالُوا : كَفَرُوا كُفْرًا لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَقَدْ اتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ . قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي فِي كِتَابِ " الصَّلَاةِ " : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ حَدِيثِ جبرائيل هَذَا فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ } وَمَا ذَكَرَ مَعَهُ كَلَامٌ جَامِعٌ مُخْتَصَرٌ لَهُ غَوْرٌ وَقَدْ وَهَمَتْ الْمُرْجِئَةُ فِي تَفْسِيرِهِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ قِلَّةٌ مَعْرِفَةً مِنْهُمْ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَغَوْرُ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَفَوَاتِحَهُ وَاخْتُصِرَ لَهُ الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا . أَمَّا قَوْلُهُ : { الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ } فَأَنْ تُوَحِّدَهُ وَتُصَدِّقَ بِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَتَخْضَعَ لَهُ وَلِأَمْرِهِ بِإِعْطَاءِ الْعَزْمِ لِلْأَدَاءِ لِمَا أَمَرَ مُجَانِبًا لِلِاسْتِنْكَافِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَالْمُعَانَدَةِ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ لَزِمْت مُحَابَّهُ وَاجْتَنَبْت مساخطه . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَمَلَائِكَتِهِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِمَنْ سَمَّى اللَّهُ لَك مِنْهُمْ فِي كِتَابِهِ وَتُؤْمِنَ بِأَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سِوَاهُمْ لَا يَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَعَدَدَهُمْ إلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَكُتُبِهِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِمَا سَمَّى اللَّهُ مِنْ كُتُبِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ خَاصَّةً ؛ وَتُؤْمِنَ بِأَنَّ لِلَّهِ سِوَى ذَلِكَ كُتُبًا أَنْزَلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ لَا يَعْرِفُ أَسْمَاءَهَا وَعَدَدَهَا إلَّا الَّذِي أَنْزَلَهَا وَتُؤْمِنَ بِالْفُرْقَانِ وَإِيمَانُك بِهِ غَيْرُ إيمَانِك بِسَائِرِ الْكُتُبِ .
إيمَانُك بِغَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ إقْرَارُك بِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَإِيمَانُك بِالْفُرْقَانِ إقْرَارُك بِهِ وَاتِّبَاعُك مَا فِيهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَرُسُلِهِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِمَا سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ رُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِأَنَّ اللَّهَ سَوَّاهُمْ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ لَا يَعْلَمُ أَسْمَاءَهُمْ إلَّا الَّذِي أَرْسَلَهُمْ وَتُؤْمِنَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيمَانُك بِهِ غَيْرُ إيمَانِك بِسَائِرِ الرُّسُلِ . إيمَانُك بِسَائِرِ الرُّسُلِ إقْرَارُك بِهِمْ وَإِيمَانُك بِمُحَمَّدِ إقْرَارُك بِهِ وَتَصْدِيقُك إيَّاهُ دَائِبًا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَإِذَا اتَّبَعْت مَا جَاءَ بِهِ أَدَّيْت الْفَرَائِضَ وَأَحْلَلْت الْحَلَالَ وَحَرَّمْت الْحَرَامَ وَوَقَفْت عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَسَارَعْت فِي الْخَيْرَاتِ وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " فَأَنْ تُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَبِكُلِّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ } فَأَنْ تُؤْمِنَ بِأَنَّ مَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك وَأَنَّ مَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك وَلَا تَقُلْ : لَوْ كَانَ كَذَا لَمْ يَكُنْ كَذَا وَلَوْلَا كَذَا وَكَذَا لَمْ يَكُنْ كَذَا وَكَذَا . قَالَ : فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .
فَصْلٌ
:
وَمِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ
الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ ؛ فَلِمَاذَا قَالَ :
الْإِسْلَامُ هَذِهِ الْخَمْسُ وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَنَّ هَذِهِ
أَظْهَرَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَأَعْظَمُهَا وَبِقِيَامِ الْعَبْدِ بِهَا
يَتِمُّ إسْلَامُهُ وَتَرْكُهُ لَهَا يُشْعِرُ بِانْحِلَالِ قَيْدِ انْقِيَادِهِ .
وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذَكَرَ الدِّينَ الَّذِي هُوَ اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مُطْلَقًا الَّذِي
يَجِبُ لِلَّهِ عِبَادَةً مَحْضَةً عَلَى الْأَعْيَانِ . فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ
مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لِيَعْبُدَ اللَّهَ بِهَا مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ .
وَهَذِهِ هِيَ الْخَمْسُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِأَسْبَابِ
لِمَصَالِحَ فَلَا يَعُمُّ وُجُوبُهَا جَمِيعَ النَّاسِ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ
فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ
عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ إمَارَةٍ وَحُكْمٍ وَفُتْيَا ؛
وَإِقْرَاءٍ وَتَحْدِيثٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِسَبَبِ حَقٍّ
لِلْآدَمِيِّينَ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ وَجَبَ لَهُ وَعَلَيْهِ وَقَدْ يَسْقُطُ
بِإِسْقَاطِهِ . وَإِذَا حَصَلَتْ الْمَصْلَحَةُ أَوْ الْإِبْرَاءُ إمَّا
بِإِبْرَائِهِ وَإِمَّا بِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ فَحُقُوقُ الْعِبَادِ مِثْلُ
قَضَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الغصوب وَالْعَوَارِيّ وَالْوَدَائِعِ وَالْإِنْصَافِ
مِنْ الْمَظَالِمِ مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ ؛ إنَّمَا هِيَ
حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ وَإِذَا أُبْرِئُوا مِنْهَا سَقَطَتْ .
وَتَجِبُ عَلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ لَمْ تَجِبْ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ قَادِرٍ ؛ وَلِهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِخِلَافِ الْخَمْسَةِ فَإِنَّهَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُقُوقِ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالْجِيرَانِ وَالشُّرَكَاءِ وَالْفُقَرَاءِ . وَمَا يَجِبُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ ؛ كُلُّ ذَلِكَ يَجِبُ بِأَسْبَابِ عَارِضَةٍ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لِجَلْبِ مَنَافِعَ وَدَفْعِ مَضَارَّ لَوْ حَصَلَتْ بِدُونِ فِعْلِ الْإِنْسَانِ لَمْ تَجِبْ ؛ فَمَا كَانَ مُشْتَرِكًا فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَمَا كَانَ مُخْتَصًّا فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى زَيْدٍ دُونَ عَمْرٍو لَا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي وُجُوبِ عَمَلٍ بِعَيْنِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ قَادِرٍ سِوَى الْخَمْسِ ؛ فَإِنَّ زَوْجَةَ زَيْدٍ وَأَقَارِبِهِ لَيْسَتْ زَوْجَةَ عَمْرٍو وَأَقَارِبِهِ فَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَى هَذَا مِثْلَ الْوَاجِبِ عَلَى هَذَا بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا مَالِيًّا فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ لِلَّهِ ؛ وَالْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ مَصَارِفُهَا ؛ وَلِهَذَا وَجَبَتْ فِيهَا النِّيَّةُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهَا الْغَيْرُ عَنْهُ بِلَا إذْنِهِ وَلَمْ تُطْلَبْ مِنْ الْكُفَّارِ . وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا النِّيَّةُ وَلَوْ أَدَّاهَا غَيْرُهُ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَيُطَالَبُ بِهَا الْكُفَّارُ وَمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالْكَفَّارَاتِ هُوَ بِسَبَبِ مِنْ الْعَبْدِ وَفِيهَا شَوْبُ الْعُقُوبَاتِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ لِلَّهِ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " : عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ كَالصَّلَوَاتِ وَعُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ كَالْحُدُودِ وَمَا يُشْبِهُهَا كَالْكَفَّارَاتِ . وَكَذَلِكَ كَفَّارَاتُ الْحَجِّ وَمَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجِبُ بِسَبَبِ فِعْلٍ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ وَاجِبٌ فِي ذِمَّتِهِ .
وَأَمَّا " الزَّكَاةُ " فَإِنَّهَا تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ فِي مَالِهِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ أَيْ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ يَجِبُ بِسَبَبِ الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ وَإِلَّا فَفِيهِ وَاجِبَاتٌ بِغَيْرِ سَبَبِ الْمَالِ كَمَا تَجِبُ النَّفَقَاتُ لِلْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَةِ وَالرَّقِيقِ وَالْبَهَائِمِ وَيَجِبُ حَمْلُ الْعَاقِلَةِ وَيَجِبُ قَضَاءُ الدُّيُونِ وَيَجِبُ الْإِعْطَاءُ فِي النَّائِبَةِ وَيَجِبُ إطْعَامُ الْجَائِعِ وَكُسْوَةُ الْعَارِي فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ . لَكِنْ بِسَبَبِ عَارِضٍ وَالْمَالُ شَرْطُ وُجُوبِهَا كَالِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ فَإِنَّ الْبَدَنَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَالِاسْتِطَاعَةُ شَرْطٌ وَالْمَالُ فِي الزَّكَاةِ هُوَ السَّبَبُ وَالْوُجُوبُ مَعَهُ ؛ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا حَمَلَهَا إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ حَقٌّ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى . وَلِهَذَا قَالَ : مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ التَّكْلِيفَ شَرْطٌ فِيهَا فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ . وَأَمَّا عَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَالْجُمْهُورِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَأَوْجَبُوهَا فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّ مَالَهُمَا مِنْ جِنْسِ مَالِ غَيْرِهِمَا وَوَلِيُّهُمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا بِخِلَافِ بَدَنِهِمَا . فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِعَقْلِهِمَا ؛ وَعَقْلِهِمَا نَاقِصٌ . وَصَارَ هَذَا كَمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي أَرْضِهِمَا مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ الثَّمَانِيَةُ . وَكَذَلِكَ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ فِي مَالِهِمَا . وَالصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ إنَّمَا تَسْقُطُ لِعَجْزِ الْعَقْلِ عَنْ الْإِيجَابِ لَا سِيَّمَا إذَا انْضَمَّ إلَى عَجْزِ الْبَدَنِ كَالصَّغِيرِ . وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي الْمَالِ فَإِنَّ الْوَلِيَّ قَامَ مَقَامَهُمَا فِي الْفَهْمِ كَمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا فِي جَمِيعِ مَا يَجِبُ فِي الْمَالِ وَأَمَّا بَدَنُهُمَا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا فِيهِ شَيْءٌ .
فَصْلٌ
: (*)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَا
ذَكَرَوهُ بِالْآيَاتِ الَّتِي تَلَوْنَاهَا عِنْدَ ذِكْرِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ
الصَّلَاةَ وَسَائِرَ الطَّاعَاتِ إيمَانًا وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا قَصَّ
اللَّهُ مِنْ إبَاءِ إبْلِيسَ حِينَ عَصَى رَبَّهُ فِي سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ (*)
أُمِرَ أَنْ يَسْجُدَهَا لِآدَمَ فَأَبَاهَا . فَهَلْ جَحَدَ إبْلِيسُ رَبَّهُ
وَهُوَ يَقُولُ : { رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي } وَيَقُولُ : { رَبِّ فَأَنْظِرْنِي
إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } إيمَانًا مِنْهُ بِالْبَعْثِ وَإِيمَانًا بِنَفَاذِ
قُدْرَتِهِ فِي إنْظَارِهِ إيَّاهُ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَهَلْ جَحَدَ أَحَدًا
مِنْ أَنْبِيَائِهِ أَوْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ سُلْطَانِهِ وَهُوَ يَحْلِفُ
بِعِزَّتِهِ ؟ وَهَلْ كَانَ كُفْرُهُ إلَّا بِتَرْكِ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ أُمِرَ
بِهَا فَأَبَاهَا ؟ قَالَ : وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا
مِنْ نَبَأِ ابْنَيْ آدَمَ { إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ } إلَى قَوْلِهِ : { فَأَصْبَحَ
مِنَ الْخَاسِرِينَ } قَالُوا : وَهَلْ جَحَدَ رَبَّهُ ؟ وَكَيْفَ يَجْحَدُهُ
وَهُوَ يُقَرِّبُ الْقُرْبَانَ ؟ . قَالُوا : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا
يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } وَلَمْ يَقُلْ : إذَا ذُكِّرُوا
بِهَا أَقَرُّوا بِهَا فَقَطْ . وَقَالَ : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يَعْنِي
يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ
فَإِنْ
قِيلَ : فَهَلْ مَعَ مَا ذَكَرْت مِنْ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ تُبَيِّنُ أَنَّ
الْعَمَلَ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ ؟ قِيلَ : نَعَمْ عَامَّةُ السُّنَنِ وَالْآثَارِ تَنْطِقُ بِذَلِكَ
مِنْهَا حَدِيثُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ ؛ وَذَكَرَ حَدِيثَ شُعْبَةَ وَقُرَّةَ
بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَفْظُهُ
{ آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ } ثُمَّ قَالَ : { هَلْ تَدْرُونَ
مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ
قَالَ : شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَأَنْ
تُعْطُوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ } وَذَكَرَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً تُوجِبُ دُخُولَ
الْأَعْمَالِ فِي الْإِيمَانِ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ . . . (1) لَمَّا
سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . . . (2)
ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا
فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي
الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ :
إنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إزَالَةَ اسْمِ
الْإِيمَانِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ وَلَا يُزِيلَ
عَنْهُ اسْمَهُ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَقَالُوا : إذَا
زَنَى فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَاحْتَجُّوا لِتَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ
الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ . بِقَوْلِهِ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا }
الْآيَةُ فَقَالُوا : الْإِيمَانُ خَاصٌّ يُثْبِتُ الِاسْمَ بِهِ بِالْعَمَلِ مَعَ
التَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامُ عَامٌّ يُثْبِتُ الِاسْمَ بِهِ بِالتَّوْحِيدِ
وَالْخُرُوجِ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ وَذَكَرَهُ عَنْ { سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَعْطَى رِجَالًا وَلَمْ يُعْطِ رَجُلًا مِنْهُمْ شَيْئًا . فَقُلْت :
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْت فُلَانًا وَفُلَانًا وَلَمْ تُعْطِ فُلَانًا وَهُوَ
مُؤْمِنٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو
مُسْلِمٌ أَعَادَهَا ثَلَاثًا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ : أو مُسْلِمٌ ثُمَّ قَالَ :
إنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا وَأَمْنَعُ آخَرِينَ وَهُمْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُمْ مَخَافَةَ أَنْ يُكَبُّوا عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ } قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : وَاحْتَجُّوا بِإِنْكَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ فَقَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَجُلُّ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ عَلَى ذَلِكَ . وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : { يَخْرُجُ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَإِنْ رَجَعَ رَجَعَ إلَيْهِ } وَبِمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ : مُسْلِمٌ وَيَهَابَانِ : مُؤْمِنٌ ؛ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَبِي جَعْفَرٍ الَّذِي حَدَّثَنَاهُ إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنْبَأَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ فضيل بْنِ بَشَّارٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : هَذَا الْإِسْلَامُ وَدَوَّرَ دَارَةً وَاسِعَةً وَهَذَا الْإِيمَانُ وَدَوَّرَ دَارَةً صَغِيرَةً فِي وَسَطِ الْكَبِيرَةِ فَإِذَا زَنَى أَوْ سَرَقَ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العاص } حَدَّثَنَا بِذَلِكَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ شريح بْنِ هَانِئٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجهني أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العاص } . وَذَكَرَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَجَعَلَ
الْإِيمَانَ خَاصًّا وَالْإِسْلَامَ عَامًّا . قَالَ : فَلَنَا فِي هَؤُلَاءِ أُسْوَةٌ وَبِهِمْ قُدْوَةٌ مَعَ مَا يَثْبُتُ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ اسْمَ الْمُؤْمِنِ اسْمَ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ وَمِدْحَةٍ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا } وَقَالَ : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا } وَقَالَ : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } وَقَالَ : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } وَقَالَ : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } وَقَالَ : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } . قَالَ : ثُمَّ أَوْجَبَ اللَّهُ النَّارَ عَلَى الْكَبَائِرِ فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ زَائِلٌ عَمَّنْ أَتَى كَبِيرَةً . قَالُوا : وَلَمْ نَجِدْهُ أَوْجَبَ الْجَنَّةَ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ فَثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الْإِسْلَامِ لَهُ ثَابِتٌ عَلَى حَالِهِ وَاسْمَ الْإِيمَانِ زَائِلٌ عَنْهُ . فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا : لَيْسَ الْإِيمَانُ ضِدُّ الْكُفْرِ قَالُوا : الْكُفْرُ ضِدٌّ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ لِلْإِيمَانِ أَصْلًا وَفُرُوعًا فَلَا يَثْبُتُ الْكُفْرُ حَتَّى يَزُولَ أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ ؛ فَاَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزَالَ عَنْهُمْ اسْمَ الْإِيمَانِ هَلْ فِيهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ ؟ قَالُوا : نَعَمْ أَصْلُهُ ثَابِتٌ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَفَرُوا . أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أُنْكِرَ عَلَى الَّذِي شَهِدَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ ثُمَّ قَالَ : لَكِنَّا نُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ يُخْبِرُك أَنَّهُ قَدْ آمَنَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ صَدَقَ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْمُؤْمِنِ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُقَصِّرٌ
لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ عِنْدَهُ إلَّا مَنْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَانْتَهَى عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُوجِبَاتِ لِلنَّارِ الَّتِي هِيَ الْكَبَائِرُ . قَالُوا : فَلَمَّا أَبَانَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ يَسْتَحِقُّهُ مَنْ قَدْ اسْتَحَقَّ الْجَنَّةَ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ الْجَنَّةَ عَلَيْهِ . وَعَلِمْنَا أَنَّا قَدْ آمَنَّا وَصَدَّقْنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ التَّصْدِيقِ إلَّا بِالتَّكْذِيبِ ؛ وَلَسْنَا بِشَاكِّينَ وَلَا مُكَذِّبِينَ ؛ وَعَلِمْنَا أَنَّا عَاصُونَ لَهُ مُسْتَوْجِبُونَ لِلْعَذَابِ وَهُوَ ضِدُّ الثَّوَابِ الَّذِي حَكَمَ اللَّهُ بِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى اسْمِ الْإِيمَانِ ؛ عَلِمْنَا أَنَّا قَدْ آمَنَّا وَأَمْسَكْنَا عَنْ الِاسْمِ الَّذِي أَثْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ مِنْ اللَّهِ اسْمُ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ وَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نُزَكِّيَ أَنْفُسَنَا وَأَمَرَنَا بِالْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَوْجَبَ لَنَا الْعَذَابَ بِعِصْيَانِنَا فَعَلِمْنَا أَنَّا لَسْنَا بِمُسْتَحِقِّينَ بِأَنْ نَتَسَمَّى مُؤْمِنِينَ إذْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى اسْمِ الْإِيمَانِ الثَّنَاءَ وَالتَّزْكِيَةَ وَالرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ ؛ وَأَوْجَبَ عَلَى الْكَبَائِرِ النَّارَ وَهَذَانِ حُكْمَانِ مُتَضَادَّانِ . فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ أَمْسَكْتُمْ عَنْ اسْمِ الْإِيمَانِ أَنْ تُسَمُّوا بِهِ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَهُ صِدْقٌ ؟ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ سَمَّوْا الْأَشْيَاءَ بِمَا غَلَبَ عَلَيْهَا مِنْ الْأَسْمَاءِ فَسَمَّوْا الزَّانِيَ فَاسِقًا وَالْقَاذِفَ فَاسِقًا وَشَارِبَ الْخَمْرِ فَاسِقًا وَلَمْ يُسَمُّوا وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ مُتَّقِيًا وَلَا وَرِعًا ؛ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ فِيهِ أَصْلَ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَتَّقِي أَنْ يَكْفُرَ أَوْ يُشْرِكَ بِاَللَّهِ شَيْئًا . وَكَذَلِكَ يَتَّقِي اللَّهَ أَنْ يَتْرُكَ الْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ أَوْ الصَّلَاةِ وَيَتَّقِي أَنْ يَأْتِيَ أُمَّهُ فَهُوَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مُتَّقٍ وَقَدْ أَجْمَعَ
الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمُوَافِقِينَ وَالْمُخَالِفِينَ أَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَهُ مُتَّقِيًا وَلَا وَرِعًا إذَا كَانَ يَأْتِي بِالْفُجُورِ فَلَمَّا أَجْمَعُوا أَنَّ أَصْلَ التُّقَى وَالْوَرَعَ ثَابِتٌ فِيهِ وَأَنَّهُ قَدْ يَزِيدُ فِيهِ فَرْعًا بَعْدَ الْأَصْلِ كَتَوَرُّعِهِ عَنْ إتْيَانِ الْمَحَارِمِ ثُمَّ لَا يُسَمُّونَهُ مُتَّقِيًا وَلَا وَرِعًا مَعَ إتْيَانِهِ بَعْضَ الْكَبَائِرِ بَلْ سَمَّوْهُ فَاسِقًا وَفَاجِرًا مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ قَدْ أَتَى بِبَعْضِ التُّقَى وَالْوَرَعِ فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اسْمَ التُّقَى اسْمُ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ . قَالُوا : فَلِذَلِكَ لَا نُسَمِّيه مُؤْمِنًا وَنُسَمِّيه فَاسِقًا زَانِيًا . وَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَصْلُ اسْمِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَزَكَّاهُمْ بِهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَمِنْ ثَمَّ قُلْنَا : مُسْلِمٌ وَلَمْ نَقُلْ : مُؤْمِنٌ قَالُوا : وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُوَحِّدِينَ يَسْتَحِقُّ أَلَّا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَلَا إسْلَامٌ لَكَانَ أَحَقُّ النَّاسِ بِذَلِكَ أَهْلَ النَّارِ الَّذِينَ دَخَلُوهَا فَلَمَّا وَجَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } ثَبَتَ أَنَّ شَرَّ الْمُسْلِمِينَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَلَمَّا وَجَدْنَا الْأُمَّةَ تَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي أَلْزَمَهَا اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا يُكَفِّرُونَهُمْ وَلَا يَشْهَدُونَ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ : ثَبَتَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ إذْ أَجْمَعُوا أَنْ يُمْضُوا عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يُسَمَّوْا مُؤْمِنِينَ إذْ كَانَ الْإِسْلَامُ يُثْبِتُ لِلْمِلَّةِ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْإِنْسَانُ مِنْ جَمِيعِ الْمِلَلِ فَتَزُولُ عَنْهُ أَسْمَاءُ الْمِلَلِ إلَّا اسْمُ الْإِسْلَامِ وَتَثْبُتُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَتَزُولُ عَنْهُ أَحْكَامُ جَمِيعِ الْمِلَلِ .
فَإِنْ
قَالَ لَهُمْ قَائِلٌ : لِمَ لَمْ تَقُولُوا : كَافِرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تُرِيدُونَ بِهِ كَمَالَ الْكُفْرِ كَمَا قُلْتُمْ : مُؤْمِنُونَ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تُرِيدُونَ بِهِ كَمَالَ الْإِيمَانِ ؟ قَالُوا : لِأَنَّ الْكَافِرَ
مُنْكِرٌ لِلْحَقِّ وَالْمُؤْمِنَ أَصْلُ إيمَانِهِ الْإِقْرَارُ ، وَالْإِنْكَارُ
لَا أَوَّلَ لَهُ وَلَا آخِرَ فَتُنْتَظَرُ بِهِ الْحَقَائِقُ وَالْإِيمَانُ
أَصْلُهُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ يُنْتَظَرُ بِهِ حَقَائِقُ الْأَدَاءِ لِمَا
أَقَرَّ وَالتَّحْقِيقُ لِمَا صَدَقَ ؛ وَمَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ
عَلَيْهِمَا حَقٌّ لِرَجُلِ فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ فَقَالَ : لَيْسَ لَك
عِنْدِي حَقٌّ فَأَنْكَرَ وَجَحَدَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَنْزِلَةٌ يُحَقِّقُ بِهَا
مَا قَالَ إذَا جَحَدَ وَأَنْكَرَ وَسَأَلَ الْآخَرُ حَقَّهُ فَقَالَ : نَعَمْ لَك
عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا فَلَيْسَ إقْرَارُهُ بِاَلَّذِي يَصِلُ إلَيْهِ بِذَلِكَ
حَقُّهُ دُونَ أَنْ يُوَفِّيَهُ ؛ فَهُوَ مُنْتَظِرٌ لَهُ أَنْ يُحَقِّقَ مَا
قَالَ بِالْأَدَاءِ وَيُصَدِّقَ إقْرَارَهُ بِالْوَفَاءِ وَلَوْ أَقَرَّ ثُمَّ
لَمْ يُؤَدِّ إلَيْهِ حَقَّهُ كَانَ كَمَنْ جَحَدَهُ فِي الْمَعْنَى إذْ
اسْتَوَيَا فِي التَّرْكِ لِلْأَدَاءِ فَتَحْقِيقُ مَا قَالَ أَنْ يُؤَدِّيَ
إلَيْهِ حَقَّهُ ؛ فَإِنْ أَدَّى جُزْءًا مِنْهُ حَقَّقَ بَعْضَ مَا قَالَ وَوَفَى
بِبَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ . وَكُلَّمَا أَدَّى جُزْءًا ازْدَادَ تَحْقِيقًا لِمَا
أَقَرَّ بِهِ . وَعَلَى الْمُؤْمِنِ الْأَدَاءُ أَبَدًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ حَتَّى
يَمُوتَ . فَمِنْ ثَمَّ قُلْنَا : مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَمْ نَقُلْ :
كَافِرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِ
الْحَدِيثِ بِمِثْلِ مَقَالَةِ هَؤُلَاءِ إلَّا أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ مُسْلِمًا
لِخُرُوجِهِ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ وَلِإِقْرَارِهِ بِاَللَّهِ وَبِمَا قَالَ
وَلَمْ يُسَمُّوهُ مُؤْمِنًا . وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مَعَ تَسْمِيَتِهِمْ إيَّاهُ
بِالْإِسْلَامِ كَافِرٌ ؛ لَا كَافِرٌ بِاَللَّهِ ؛ وَلَكِنْ كَافِرٌ مِنْ طَرِيقِ
الْعَمَلِ . وَقَالُوا : كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ ؛ وَقَالُوا :
مُحَالٌ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي
الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ }
وَالْكُفْرُ ضِدُّ الْإِيمَانِ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ إلَّا وَاسْمُ الْكُفْرِ لَازِمٌ لَهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ ضِدُّ الْإِيمَانِ إلَّا أَنَّ الْكُفْرَ كُفْرَانِ : كُفْرٌ هُوَ جَحْدٌ بِاَللَّهِ وَبِمَا قَالَ فَذَاكَ ضِدُّهُ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَبِمَا قَالَ وَكُفْرٌ هُوَ عَمَلٌ فَهُوَ ضِدُّ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ عَمَلٌ أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } قَالُوا : فَإِذَا لَمْ يُؤْمِنْ فَقَدْ كَفَرَ وَلَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ كَفَرَ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ إذْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ لَا يُضَيِّعُ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ وَيَرْتَكِبُ الْكَبَائِرَ إلَّا مِنْ قِلَّةِ خَوْفِهِ وَإِنَّمَا يَقِلُّ خَوْفُهُ مِنْ قِلَّةِ تَعْظِيمِهِ لِلَّهِ وَوَعِيدِهِ فَقَدْ تَرَكَ مِنْ الْإِيمَانِ التَّعْظِيمَ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ الْخَوْفُ وَالْوَرَعُ فَأَقْسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ . ثُمَّ قَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } وَأَنَّهُ قَالَ : { إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ فَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَاءَ بِالْكُفْرِ } . فَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِ أَخَاهُ كَافِرًا وَبِقَوْلِهِ لَهُ : يَا كَافِرُ كَافِرًا ؛ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ دُونَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ . قَالُوا : فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ احْتَجَّ عَلَيْنَا فَزَعَمَ أَنَّا إذَا سَمَّيْنَاهُ كَافِرًا لَزِمَنَا أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكَافِرِينَ بِاَللَّهِ فَنَسْتَتِيبَهُ وَنُبْطِلَ الْحُدُودَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَفَرَ فَقَدْ زَالَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ الْمُؤْمِنِينَ وَحُدُودُهُمْ وَفِي ذَلِكَ إسْقَاطُ الْحُدُودِ وَأَحْكَامُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ كُلِّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً فَإِنَّا لَمْ نَذْهَبْ فِي ذَلِكَ إلَى حَيْثُ ذَهَبُوا وَلَكِنَّا نَقُولُ : لِلْإِيمَانِ أَصْلٌ وَفَرْعٌ وَضِدُّ الْإِيمَانِ الْكُفْرُ فِي كُلِّ مَعْنًى فَأَصْلُ الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ وَفَرْعُهُ إكْمَالُ الْعَمَلِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ فَضِدُّ الْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ الَّذِي
هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ : الْكُفْرُ بِاَللَّهِ وَبِمَا قَالَ وَتَرَكَ التَّصْدِيقَ بِهِ وَلَهُ وَضِدُّ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ عَمَلٌ وَلَيْسَ هُوَ إقْرَارُ كُفْرٍ لَيْسَ بِكُفْرِ بِاَللَّهِ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ ؛ وَلَكِنْ كُفْرُ تَضْيِيعِ الْعَمَلِ كَمَا كَانَ الْعَمَلُ إيمَانًا وَلَيْسَ هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ إقْرَارٌ بِاَللَّهِ فَلَمَّا كَانَ مِنْ تَرْكِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ إقْرَارٌ بِاَللَّهِ كَافِرًا يُسْتَتَابُ وَمَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ عَمَلٌ مِثْلُ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ أَوْ تَرْكِ الْوَرِعِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا قَدْ زَالَ عَنْهُ بَعْضُ الْإِيمَانِ وَلَا يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ مَنْ خَالَفَنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ مِمَّنْ قَالَ : إنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ إلَّا الْخَوَارِجُ وَحْدَهَا فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ بِقَوْلِنَا : كَافِرٌ مِنْ جِهَةِ تَضْيِيعِ الْعَمَلِ أَنْ يُسْتَتَابَ وَلَا تَزُولُ عَنْهُ الْحُدُودُ وَكَمَا لَمْ يَكُنْ بِزَوَالِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ اسْتِتَابَةٍ وَلَا إزَالَةِ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ عَنْهُ إذْ لَمْ يَزَلْ أَصْلُ الْإِيمَانِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا اسْتِتَابَتُهُ وَإِزَالَةُ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ عَنْهُ بِإِثْبَاتِنَا لَهُ اسْمَ الْكُفْرِ مِنْ قِبَلِ الْعَمَلِ إذْ لَمْ يَأْتِ بِأَصْلِ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ جَحْدٌ بِاَللَّهِ أَوْ بِمَا قَالَ . قَالُوا : وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ إيمَانًا وَالْجَهْلُ بِهِ كُفْرًا وَكَانَ الْعَمَلُ بِالْفَرَائِضِ إيمَانًا وَالْجَهْلُ بِهَا قَبْلَ نُزُولِهَا لَيْسَ بِكُفْرِ لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقَرُّوا بِاَللَّهِ أَوَّلَ مَا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا الْفَرَائِضَ الَّتِي اُفْتُرِضَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ جَهْلُهُمْ بِذَلِكَ كُفْرًا ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْفَرَائِضَ فَكَانَ إقْرَارُهُمْ بِهَا وَالْقِيَامُ بِهَا إيمَانًا وَإِنَّمَا يَكْفُرُ مَنْ جَحَدَهَا لِتَكْذِيبِهِ خَبَرَ اللَّهِ ؛ وَلَوْ لَمْ يَأْتِ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ مَا كَانَ بِجَهْلِهَا كَافِرًا وَبَعْدَ مَجِيءِ الْخَبَرِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِالْخَبَرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ بِجَهْلِهَا كَافِرًا،
وَالْجَهْلُ بِاَللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ كُفْرٌ قَبْلَ الْخَبَرِ وَبَعْدَ الْخَبَرِ . قَالُوا : فَمِنْ ثَمَّ قُلْنَا : إنَّ تَرْكَ التَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ كُفْرٌ ؛ وَإِنَّ تَرْكَ الْفَرَائِضِ مَعَ تَصْدِيقِ اللَّهِ أَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَهَا كُفْرٌ ؛ لَيْسَ بِكُفْرِ بِاَللَّهِ إنَّمَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْحَقِّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : كَفَّرْتنِي حَقِّي وَنِعْمَتِي يُرِيدُ ضَيَّعْت حَقِّي وَضَيَّعْت شُكْرَ نِعْمَتِي ؛ قَالُوا : وَلَنَا فِي هَذَا قُدْوَةٌ بِمَنْ رُوِيَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ إذْ جَعَلُوا لِلْكُفْرِ فُرُوعًا دُونَ أَصْلِهِ لَا يَنْقُلُ صَاحِبَهُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَا أَثْبَتُوا لِلْإِيمَانِ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ فُرُوعًا لِلْأَصْلِ لَا يَنْقُلُ تَرْكُهُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : حَدَّثَنَا ابْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ هِشَامٍ يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ عَنْ حجير عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَذْهَبُونَ إلَيْهِ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قَالَ هِيَ بِهِ كُفْرٌ قَالَ ابْنُ طَاوُوسٍ : وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ . حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : هُوَ بِهِ كَفَرَ وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِهِ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } فَهُوَ كَافِرٌ . قَالَ : هُوَ بِهِ كَفَرَ وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ . حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَكِّيِّ عَنْ طَاوُوسٍ قَالَ لَيْسَ بِكُفْرِ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ . حَدَّثَنَا إسْحَاقُ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ جريج عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : قَالُوا : وَقَدْ صَدَقَ عَطَاءٌ قَدْ يُسَمَّى الْكَافِرُ ظَالِمًا وَيُسَمَّى الْعَاصِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ظَالِمًا فَظُلْمٌ يَنْقُلُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَظُلْمٌ لَا يَنْقُلُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } وَقَالَ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ قَالَ : { لَمَّا نَزَلَتْ : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِذَلِكَ . أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ } .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مهران عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ نَشَرَ الْمُصْحَفَ فَقَرَأَ فِيهِ فَدَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَرَأَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ فَانْتَعَلَ وَأَخَذَ رِدَاءَهُ ثُمَّ أَتَى إلَى أبي بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَيْت قَبْلُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } وَقَدْ نَرَى أَنَّا نَظْلِمُ وَنَفْعَلُ . فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ هَذَا لَيْسَ بِذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } إنَّمَا ذَلِكَ الشِّرْكُ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : وَكَذَلِكَ " الْفِسْقُ فسقان " : فِسْقٌ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَفِسْقٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ فَيُسَمَّى الْكَافِرُ فَاسِقًا وَالْفَاسِقُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسِقًا ذَكَرَ اللَّهُ إبْلِيسَ فَقَالَ : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } وَكَانَ ذَلِكَ الْفِسْقُ مِنْهُ كُفْرًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ } يُرِيدُ الْكُفَّارَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } وَسُمِّيَ الْفَاسِقُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسِقًا وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْإِسْلَامِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فَقَالَتْ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْفُسُوقِ هَاهُنَا : هِيَ الْمَعَاصِي . قَالُوا : فَلَمَّا كَانَ الظُّلْمُ ظلمين وَالْفِسْقُ فسقين كَذَلِكَ الْكُفْرُ كُفْرَانِ :
( أَحَدُهُمَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ ) و ( الْآخَرُ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ ) وَكَذَلِكَ الشِّرْكُ " شِرْكَانِ " : شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَشِرْكٌ فِي الْعَمَلِ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَهُوَ الرِّيَاءُ قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } يُرِيدُ بِذَلِكَ الْمُرَاءَاةَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الطِّيرَةُ شِرْكٌ } . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : فَهَذَانِ مَذْهَبَانِ هُمَا فِي الْجُمْلَةِ مَحْكِيَّانِ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي مُوَافَقِيهِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ حَكَى الشالنجي إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ يَطْلُبُهَا بِجُهْدِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ هَلْ يَكُونُ مُصِرًّا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ ؟ قَالَ : هُوَ مُصِرٌّ مِثْلَ قَوْلِهِ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ وَيَقَعُ فِي الْإِسْلَامِ وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ : { لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فَقُلْت لَهُ : مَا هَذَا الْكُفْرُ ؟ فَقَالَ : كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ مِثْلَ الْإِيمَانِ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ حَتَّى يَجِيءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } لَا يَكُونُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ يَكُونُ نَاقِصًا مِنْ إيمَانِهِ قَالَ : وَسَأَلْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ " الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ " فَقَالَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْإِسْلَامُ إقْرَارٌ . قَالَ : وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ لَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ إلَّا بِإِيمَانِ وَلَا إيمَانَ إلَّا بِإِسْلَامِ .
"
قُلْت " : وَقَدْ تَقَدَّمَ تَمَامُ الْكَلَامِ بِتَلَازُمِهِمَا وَإِنْ
كَانَ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا لَيْسَ هُوَ مُسَمَّى الْآخَرِ .
وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ
الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ . قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي
" التَّمْهِيدِ " : أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ
الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَلَا عَمَلَ إلَّا بِنِيَّةٍ وَالْإِيمَانُ
عِنْدَهُمْ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَاتُ
كُلُّهَا عِنْدَهُمْ إيمَانٌ إلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ
فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُسَمَّى إيمَانًا قَالُوا إنَّمَا
الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ الْمَعْرِفَةَ
وَذَكَرَ مَا احْتَجُّوا بِهِ . . . إلَى أَنْ قَالَ : وَأَمَّا سَائِرُ
الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْآثَارِ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ
وَالشَّامِ وَمِصْرَ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ
وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِي وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بْنُ
حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ
ودَاوُد ابْنُ عَلِيٍّ والطبري وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ ؛ فَقَالُوا :
الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ
وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ مَعَ الْإِخْلَاصِ بِالنِّيَّةِ
الصَّادِقَةِ . قَالُوا : وَكُلُّ مَا يُطَاعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنْ
فَرِيضَةٍ وَنَافِلَةٍ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ يَزِيدُ
بِالطَّاعَاتِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي وَأَهْلُ الذُّنُوبِ عِنْدَهُمْ
مُؤْمِنُونَ غَيْرُ مُسْتَكْمِلِي الْإِيمَانِ مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّمَا
صَارُوا نَاقِصِي الْإِيمَانِ بِارْتِكَابِهِمْ الْكَبَائِرَ . أَلَا تَرَى إلَى
قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي
حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . الْحَدِيثُ يُرِيدُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ
وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ جَمِيعِ الْإِيمَانِ عَنْ فَاعِلِ ذَلِكَ بِدَلِيلِ
الْإِجْمَاعِ عَلَى تَوْرِيثِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ إذَا
صَلَّوْا إلَى الْقِبْلَةِ وَانْتَحَلُوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ
قَرَابَاتِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَيْسُوا
بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ ؛ ثُمَّ قَالَ : وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ شَيْءٌ وَاحِدٌ . قَالَ : وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ جِمَاعُ الطَّاعَاتِ وَمَنْ قَصَرَ مِنْهَا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ فَاسِقٌ ؛ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُتَحَقِّقُونَ بِالِاعْتِزَالِ أَصْحَابُ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ . إلَى أَنْ قَالَ : وَعَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْآثَارِ ؛ وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا فِي الْأَمْصَارِ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَتَوَقَّفَ فِي نُقْصَانِهِ . وَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى وَابْنُ نَافِعٍ أَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . ثُمَّ ذَكَرَ حُجَجَ الْمُرْجِئَةِ ؛ ثُمَّ حُجَجُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَرَدَّ عَلَى الْخَوَارِجِ التَّكْفِيرَ بِالْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ لِلْعُصَاةِ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وبالموارثة وَبِحَدِيثِ عبادة : { مَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ } وَقَالَ : الْإِيمَانُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ؛ فَلَيْسَ نَاقِصُ الْإِيمَانِ كَكَامِلِ الْإِيمَانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أَيْ حَقًّا . وَلِذَلِكَ قَالَ : { هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ ؛ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } - يَعْنِي حَقًّا - وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ : { أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ أَكْمَلَ حَتَّى يَكُونَ غَيْرُهُ أَنْقَصَ
وَقَوْلُهُ : { أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ } . وَقَوْلُهُ : { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْإِيمَانِ أَوْثَقُ وَأَكْمَلُ مِنْ بَعْضٍ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ : { مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ } الْحَدِيثُ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَإِصَابَةُ السُّنَّةِ . وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ : مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةُ : يَعْنِي الشَّهَادَتَيْنِ ؛ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ؛ وَالزَّكَاةَ وَصِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ وَالْحَجَّ . قَالَ وَأَرْكَانُ الْإِيمَانِ سَبْعَةٌ : يَعْنِي الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جبرائيل وَالْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ ؛ وَالْإِيمَانَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَكِلَاهُمَا قَدْ رُوِيَتْ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ كَمَا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . قَالَ : وَالْإِيمَانُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ ؛ وَالْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَالْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ ؛ يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْإِيمَانَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا ؛ لَكِنْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْإِنْسَانُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالْإِيمَانُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ ؛ وَأَنَّهُمَا قَدْ خُلِقَتَا قَبْلَ آدَمَ . وَالْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِيمَانُ بِجَمِيعِ أَقْدَارِ اللَّهِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا وَحُلْوِهَا وَمُرِّهَا ؛ إنَّهَا مِنْ اللَّهِ قَضَاءً وَقَدَرًا وَمَشِيئَةً وَحُكْمًا وَأَنَّ ذَلِكَ عَدْلٌ مِنْهُ وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ؛ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ غَيْبِهَا وَمَعْنَى حَقَائِقِهَا . قَالَ : وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ : إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ وَهَذَا قَدْ أَذْهَبَ التَّفَاوُتَ وَالْمَقَامَاتِ وَهَذَا يَقْرُبُ مِنْ مَذْهَبِ الْمُرْجِئَةِ : وَقَالَ آخَرُونَ : إنَّ
الْإِسْلَامَ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ أَدْخَلُوا التَّضَادَّ وَالتَّغَايُرَ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الإباضية ؛ فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ تَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ وَتَفْصِيلٍ فَمَثَلُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ الشَّهَادَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ فَشَهَادَةُ الرَّسُولِ غَيْرُ شَهَادَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ فَهُمَا شَيْئَانِ فِي الْأَعْيَانِ . وَإِحْدَاهُمَا مُرْتَبِطَةٌ بِالْأُخْرَى فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ كَشَيْءِ وَاحِدٍ كَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ أَحَدُهُمَا مُرْتَبِطٌ بِالْآخَرِ فَهُمَا كَشَيْءِ وَاحِدٍ لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا إسْلَامَ لَهُ ؛ وَلَا إسْلَامَ لِمَنْ لَا إيمَانَ لَهُ إذْ لَا يَخْلُو الْمُسْلِمُ مِنْ إيمَانٍ بِهِ يَصِحُّ إسْلَامُهُ وَلَا يَخْلُو الْمُؤْمِنُ مِنْ إسْلَامٍ بِهِ يُحَقِّقُ إيمَانَهُ مِنْ حَيْثُ اشْتَرَطَ اللَّهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْإِيمَانَ ؛ وَاشْتَرَطَ لِلْإِيمَانِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فَقَالَ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } وَقَالَ فِي تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ : { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا } فَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَعْمَالَ الْإِسْلَامِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى عُقُودِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ فَهُوَ مُنَافِقٌ نِفَاقًا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَمَنْ كَانَ عَقْدُهُ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ وَلَا يَعْمَلُ بِأَحْكَامِ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَافِرٌ كُفْرًا لَا يَثْبُتُ مَعَهُ تَوْحِيدٌ ؛ وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْغَيْبِ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ عَامِلًا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ ؛ وَلَوْلَا أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمُؤْمِنُ يَجُوزُ أَنْ لَا يُسَمَّى مُسْلِمًا ؛ وَلَجَازَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ . وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ ؛ وَكُلَّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ قَالَ : وَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ كَمَثَلِ الْقَلْبِ فِي الْجِسْمِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ ؛ لَا يَكُونُ ذُو جِسْمٍ حَيٍّ لَا قَلْبَ لَهُ ؛ وَلَا ذُو قَلْبٍ بِغَيْرِ
جِسْمٍ ؛ فَهُمَا شَيْئَانِ مُنْفَرِدَانِ ؛ وَهُمَا فِي الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى مُنْفَصِلَانِ ؛ وَمَثَلُهُمَا أَيْضًا مَثَلُ حَبَّةٍ لَهَا ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ وَهِيَ وَاحِدَةٌ . لَا يُقَالُ : حَبَّتَانِ : لِتَفَاوُتِ صِفَتِهِمَا . فَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْإِسْلَامِ هُوَ ظَاهِرُ الْإِيمَانِ ؛ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ ؛ وَالْإِيمَانُ بَاطِنُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ ؛ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } وَفِي لَفْظٍ : { الْإِيمَانُ سِرٌّ } فَالْإِسْلَامُ أَعْمَالُ الْإِيمَانِ ؛ وَالْإِيمَانُ عُقُودُ الْإِسْلَامِ ؛ فَلَا إيمَانَ إلَّا بِعَمَلِ ؛ وَلَا عَمَلَ إلَّا بِعَقْدِ . وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ الْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ ؛ أَحَدُهُمَا مُرْتَبِطٌ بِصَاحِبِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَعَمَلِ الْجَوَارِحِ ؛ وَمِثْلُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } أَيْ لَا عَمَلَ إلَّا بِعَقْدِ وَقَصْدٍ لِأَنَّ " إنَّمَا " تَحْقِيقٌ لِلشَّيْءِ وَنَفْيٌ لِمَا سِوَاهُ ؛ فَأَثْبَتَ بِذَلِكَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ ؛ وَعَمَلُ الْقُلُوبِ مِنْ النِّيَّاتِ ؛ فَمَثَلُ الْعَمَلِ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ الشَّفَتَيْنِ مِنْ اللِّسَانِ لَا يَصِحُّ الْكَلَامُ إلَّا بِهِمَا ؛ لِأَنَّ الشَّفَتَيْنِ تَجْمَعُ الْحُرُوفَ ؛ وَاللِّسَانَ يُظْهِرُ الْكَلَامَ ؛ وَفِي سُقُوطِ أَحَدِهِمَا بُطْلَانُ الْكَلَامِ ؛ وَكَذَلِكَ فِي سُقُوطِ الْعَمَلِ ذَهَابُ الْإِيمَانِ ؛ وَلِذَلِكَ حِينَ عَدَّدَ اللَّهُ نِعَمَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْكَلَامِ ذَكَرَ الشَّفَتَيْنِ مَعَ اللِّسَانِ فِي قَوْلِهِ : { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ } { وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ } بِمَعْنَى أَلَمْ نَجْعَلْهُ نَاظِرًا مُتَكَلِّمًا ؛ فَعَبَّرَ عَنْ الْكَلَامِ بِاللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا مَكَانٌ لَهُ وَذَكَرَ الشَّفَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي جَرَتْ بِهِ النِّعْمَةُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا . وَمَثَلُ " الْإِيمَانِ " و " الْإِسْلَامِ " أَيْضًا كَفُسْطَاطِ قَائِمٍ فِي الْأَرْضِ لَهُ ظَاهِرٌ
وَأَطْنَابٌ وَلَهُ عَمُودٌ فِي بَاطِنِهِ فَالْفُسْطَاطُ مِثْلُ الْإِسْلَامِ لَهُ أَرْكَانٌ مِنْ أَعْمَالِ الْعَلَانِيَةِ وَالْجَوَارِحِ وَهِيَ الْأَطْنَابُ الَّتِي تُمْسِكُ أَرْجَاءَ الْفُسْطَاطِ ، وَالْعَمُودُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْفُسْطَاطِ مَثَلُهُ كَالْإِيمَانِ لَا قِوَامَ لِلْفُسْطَاطِ إلَّا بِهِ فَقَدْ احْتَاجَ الْفُسْطَاطُ إلَيْهَا إذْ لَا قِوَامَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِمَا كَذَلِكَ الْإِسْلَامُ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا بِالْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ لَا نَفْعَ لَهُ إلَّا بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ صَالِحُ الْأَعْمَالِ . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ ضِدَّ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَاحِدًا فَلَوْلَا أَنَّهُمَا كَشَيْءِ وَاحِدٍ فِي الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى مَا كَانَ ضِدُّهُمَا وَاحِدًا فَقَالَ : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ } وَقَالَ : { أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . فَجَعَلَ ضِدَّهُمَا الْكُفْرَ . قَالَ : وَعَلَى مِثْلِ هَذَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ ؛ فَقَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ } وَقَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ إنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا إيمَانَ بَاطِنٌ إلَّا بِإِسْلَامِ ظَاهِرٍ وَلَا إسْلَامَ ظَاهِرٌ عَلَانِيَةً إلَّا بِإِيمَانِ سِرٍّ وَأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ قَرِينَانِ لَا يَنْفَعُ أَحَدُهُمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ . قَالَ : فَأَمَّا تَفْرِقَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَفْصِيلُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَعُقُودُهَا عَلَى مَا تُوجِبُ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي وَصَفْنَاهَا أَنْ تَكُونَ عُقُودًا مِنْ تَفْصِيلِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ مِمَّا يُوجِبُ الْأَفْعَالَ
الظَّاهِرَةَ
الَّتِي وَصَفَهَا أَنْ تَكُونَ عَلَانِيَةً لَا أَنَّ ذَلِكَ يُفَرِّقُ بَيْنَ
الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فِي الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِ وَتَضَادٍّ لَيْسَ فِيهِ
دَلِيلٌ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْحُكْمِ قَالَ : وَيَجْتَمِعَانِ فِي
عَبْدٍ وَاحِدٍ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٍ فَيَكُونُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عُقُودِ الْقَلْبِ
وَصْفَ قَلْبِهِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ وَصْفَ جِسْمِهِ . قَالَ : و
" أَيْضًا " فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ
آمَنَ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عُقُودِ الْقَلْبِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ مَنْ
وَصَفَ الْإِيمَانَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ وَصْفِ الْإِسْلَامِ
أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَأَنَّهُ إنْ عَمِلَ بِجَمِيعِ مَا وَصَفَ بِهِ
الْإِسْلَامُ ثُمَّ لَمْ يَعْتَقِدْ مَا وَصَفَهُ مِنْ الْإِيمَانِ أَنَّهُ لَا
يَكُونُ مُسْلِمًا وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ . قُلْت : كَأَنَّهُ أَرَادَ
بِذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ أَوْ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى
مُؤْمِنًا فِي الْأَحْكَامِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا إذَا أُنْكِرَ بَعْضَ
هَذِهِ الْأَرْكَانِ أَوْ عَلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهَا وَلَمْ
يُصَدِّقْهُ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَرَ خِلَافَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ خِلَافًا ؛
وَإِلَّا فَأَبُو طَالِبٍ كَانَ عَارِفًا بِأَقْوَالِهِمْ وَهَذَا - وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ - مُرَادُهُ فَإِنَّهُ عَقَدَ " الْفَصْلَ الثَّالِثَ
وَالثَّلَاثِينَ " فِي بَيَانِ تَفْصِيلِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَشَرْحِ
عُقُودِ مُعَامَلَةِ الْقَلْبِ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ أَجْوَدُ مِمَّا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَكِنْ يُنَازَعُ فِي
شَيْئَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ لِلثَّوَابِ لَا بُدَّ أَنْ
يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الْمُفَصَّلُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ
جِبْرِيلَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يُطْلِقُ مُؤْمِنًا دُونَ مُسْلِمٍ فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أو مُسْلِمٌ " لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَفَاضِلِهِمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ : لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ بَلْ مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ الْأَبْرَارِ فَهَذَانِ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِمَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَيَقُولُونَ : لَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ " أو مُسْلِمٌ " لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَفَاضِلِهِمْ كَالسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَنْفِي الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ عَنْ الْأَبْرَارِ الْمُقْتَصِدِينَ الْمُتَّقِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ إذَا كَانُوا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ كُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مَعَ السَّابِقِينَ الْمُقَرِّبِينَ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ مَوْعُودُونَ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ ؛ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُنْفَى الْإِيمَانُ عَنْ شَخْصٍ لِكَوْنِ غَيْرِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ إيمَانًا نُفِيَ الْإِيمَانُ عَنْ أَكْثَرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ بَلْ وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : نَفْيُ الِاسْمِ لِنَفْيِ كَمَالِهِ الْمُسْتَحَبِّ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ بَلْ هَذَا الْحَدِيثُ خُصَّ مَنْ قِيلَ فِيهِ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَاقِصًا عَنْ دَرَجَةِ الْأَبْرَارِ الْمُقْتَصِدِينَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَيَكُونُ إيمَانُهُ نَاقِصًا عَنْ إيمَانِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فَلَا يَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِ ثُمَّ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَإِنْ قَدَرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ الَّذِي اتَّصَفَ بِهِ هَؤُلَاءِ كَانَ عَاجِزًا عَنْ مِثْلِ إيمَانِهِمْ وَلَا يَكُونُ هَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ وَإِنْ
دَخَلَ الْجَنَّةَ لَا يَكُونُ كَمَنْ قُدِّرَ أَنَّهُ آمَنَ إيمَانًا مُجْمَلًا وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ تَفْصِيلُ الْإِيمَانِ وَقَبْلَ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِهِ وَيَعْمَلَ بِشَيْءِ مِنْهُ فَهُوَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَكِنْ لَا يَكُونُ مِثْلَ أُولَئِكَ . لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : الْأَبْرَارُ أَهْلُ الْيَمِينِ هُمْ أَيْضًا عَلَى دَرَجَاتٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } الْآيَةُ فَدَرَجَةُ الْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ فِي الْجَنَّةِ أَعْلَى وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَمَّلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَقَدْ يُرِيدُ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِمْ : لَيْسَ هَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا الْمَعْنَى : أَيْ لَيْسَ إيمَانُهُ كَإِيمَانِ مَنْ حَقَّقَ خَاصَّةَ الْإِيمَانِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَبْرَارِ أَوْ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرَكَ وَاجِبًا لِعَجْزِهِ عَنْهُ أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَلَا يَكُونُ مَذْمُومًا وَلَا يُمْدَحُ مَدْحَ أُولَئِكَ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبِينَ . فَيُقَالُ : وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْفِي عَنْهُ الْإِيمَانَ . فَيُقَالُ : هُوَ مُسْلِمٌ لَا مُؤْمِنٌ كَمَا يُقَالُ : لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا مُفْتٍ وَلَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } وَهَذَا كَثِيرٌ فَلَيْسَ كُلُّ مَا فُضِّلَ بِهِ الْفَاضِلُ يَكُونُ مَقْدُورًا لِمَنْ دُونَهُ فَكَذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ وَلَا أَكْثَرُهُمْ فَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَحَقَّقُوا بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي فَضَّلَ اللَّهُ بِهَا غَيْرَهُمْ وَلَا تَرَكُوا وَاجِبًا عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْإِيمَانِ
مَا هُوَ مِنْ الْمَوَاهِبِ وَالْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } وَقَالَ : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } . وَمِثْلُ هَذِهِ السَّكِينَةِ قَدْ لَا تَكُونُ مَقْدُورَةً ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَجَزَاءً عَلَى عَمَلٍ سَابِقٍ كَمَا قَالَ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } كَمَا قَالَ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } وَكَمَا قَالَ : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } وَلِهَذَا قِيلَ : مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ؛ وَهَذَا الْجِنْسُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ ؛ وَإِنْ كَانَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ هُوَ أَيْضًا بِفَضْلِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ وَإِقْدَارِهِ لَهُمْ ؛ لَكِنَّ الْأُمُورَ قِسْمَانِ : مِنْهُ مَا جِنْسُهُ مَقْدُورٌ لَهُمْ لِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُمْ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَمِنْهُ مَا جِنْسُهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُمْ ؛ إذَا قِيلَ : إنَّ اللَّهَ يُعْطِي مَنْ أَطَاعَهُ قُوَّةً فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ يَكُونُ بِهَا قَادِرًا عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْمَعْنَى . قَالَ تَعَالَى : { إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } وَقَدْ قَالَ : { إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } فَأَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ وَهَذَا الثَّبَاتُ يُوحِي إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ وَيُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يُذَمُّ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيُفَضِّلُ اللَّهُ ذَاكَ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَفْضُولُ تَرَكَ وَاجِبًا فَيُقَالُ : وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ يُؤْمَرُ الْقَادِرُ عَلَى الْفِعْلِ بِمَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَاجِزُ عَنْهُ وَيُؤْمَرُ بَعْضُ النَّاسِ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُ ؛ لَكِنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ قَدْ يُعْطَى الْإِنْسَانُ مِثْلَ أَجْرِ الْعَامِلِ إذَا كَانَ يُؤْمِنُ بِهَا وَيُرِيدُهَا جُهْدَهُ وَلَكِنَّ بَدَنَهُ عَاجِزٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ؟ قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } فَاسْتَثْنَى أُولِي الضَّرَرِ . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا } . وَفِي حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري : { هُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلَفْظُهُ : { إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةٍ : رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَمَالًا فَهُوَ يَتَّقِي فِي ذَلِكَ الْمَالِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ وَعَبْدٍ
رَزَقَهُ
اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ
فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ
مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت فِيهِ
بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ } . وَلَفْظُ ابْنِ
مَاجَه : { مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ : رَجُلٍ آتَاهُ
اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي
حَقِّهِ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَهُوَ يَقُولُ :
لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْت فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ . قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ
وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَخْتَبِطُ فِي
مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَرَجُلٍ لَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا وَلَا مَالًا
وَهُوَ يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا عَمِلْت مِثْلَ الَّذِي
يَعْمَلُ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ } .
كَالشَّخْصَيْنِ إذَا تَمَاثَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوبِ مَعْرِفَةً وَتَصْدِيقًا
وَحُبًّا وَقُوَّةً وَحَالًا وَمَقَامًا فَقَدْ يَتَمَاثَلَانِ وَإِنْ كَانَ
لِأَحَدِهِمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبَدَنِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ بَدَنُ الْآخَرِ
كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : إنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ
فِي جِسْمِهِ وَالْمُنَافِقُ قُوَّتُهُ فِي جِسْمِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ
وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ : { لَيْسَ الشَّدِيدُ ذُو الصُّرَعَةِ إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي
يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } وَقَدْ قَالَ : { رَأَيْت كَأَنِّي أَنْزِعُ
عَلَى قَلِيبٍ فَأَخَذَهَا ابْن أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ
ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ فَأَخَذَهَا ابْنُ
الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ فِي
يَدِهِ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرْيَهُ حَتَّى صَدَرَ النَّاسُ بِعَطَنِ } فَذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَضْعَفُ وَسَوَاءٌ أَرَادَ قَصْرَ مُدَّتِهِ أَوْ أَرَادَ ضَعْفَهُ عَنْ مِثْلِ قُوَّةِ عُمَرَ فَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَقْوَى إيمَانًا مِنْ عُمَرَ . وَعُمَرُ أَقْوَى عَمَلًا مِنْهُ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَازِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ ؛ وَقُوَّةُ الْإِيمَانِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنْ قُوَّةِ الْعَمَلِ وَصَاحِبُ الْإِيمَانِ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ عَمَلِ غَيْرِهِ ، وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي سِيرَتِهِ مَكْتُوبٌ مِثْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ . وَفِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُزِنَ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ } وَكَانَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ مَوْتِهِ يَحْصُلُ لِعُمَرِ بِسَبَبِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَهُوَ قَدْ دَعَاهُ إلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ خَيْرٍ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ بِجُهْدِهِ وَالْمُعِينُ عَلَى الْفِعْلِ إذَا كَانَ يُرِيدُهُ إرَادَةً جَازِمَةً كَانَ كَفَاعِلِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَّفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا } وَقَالَ : { مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ } وَقَالَ : { مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ } . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ { مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ } وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَتَمَاثَلَانِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بَلْ يَتَفَاضَلَانِ وَيَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَأَمَّا إذَا تَفَاضَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوبِ فَلَا يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْبَتَّةَ
وَإِنْ كَانَ الْمَفْضُولُ لَمْ يَهِبْهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا وَهَبَهُ لِلْفَاضِلِ وَلَا أَعْطَى قَلْبَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَنَالُ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الْفَاضِلَ مَا أَعْطَى الْمَفْضُولَ وَلِهَذَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ الْفَاضِلُ أَقَلَّ عَمَلًا مِنْ الْمَفْضُولِ كَمَا فَضَّلَ اللَّهُ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُدَّةَ نُبُوَّتِهِ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً - عَلَى نُوحٍ وَقَدْ لَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا وَفَضَّلَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَقَدْ عَمِلُوا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ عَلَى مَنْ عَمِلَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وَعَلَى مَنْ عَمِلَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ فَأَعْطَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَجْرَيْنِ وَأَعْطَى كُلًّا مِنْ أُولَئِكَ أَجْرًا أَجْرًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ كَانَ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ وَكَانَ أُولَئِكَ أَكْثَرَ عَمَلًا ؛ وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَجْرًا وَهُوَ فَضْلُهُ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تَفَضَّلَ بِهَا عَلَيْهِمْ وَخَصَّهُمْ بِهَا . وَهَكَذَا سَائِرُ مَنْ يُفَضِّلُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُفَضِّلُهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا التَّفْضِيلَ بِالْجَزَاءِ كَمَا يَخُصُّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ بِقُوَّةِ يَنَالُ بِهَا الْعِلْمَ وَبِقُوَّةِ يَنَالُ بِهَا الْيَقِينَ وَالصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ وَالْإِخْلَاصَ ؛ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُفَضِّلُهُ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّمَا فَضَّلَهُ فِي الْجَزَاءِ بِمَا فَضَّلَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } { وَلَا تُؤْمِنُوا إلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ } وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } وَقَالَ : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } وَقَالَ : { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } .
وَقَدْ بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أَسْبَابُ الْمَغْفِرَةِ وَأَسْبَابُ الْعَذَابِ وَكَذَلِكَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ قَدْ يَخُصُّ مَنْ يَشَاءُ بِأَسْبَابِ الرِّزْقِ . وَإِذَا كَانَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَيَخْتَصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ فَذَلِكَ مِمَّا يُفَضِّلُهُمْ اللَّهُ بِهِ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَنْفِي عَنْ غَيْرِهِمْ لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّفْضِيلِ فَإِنَّ الذَّمَّ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ . لَكِنْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو طَالِبٍ . يُقَالُ : فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ لَا مُؤْمِنُونَ بِاعْتِبَارِ وَيُقَالُ : إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِاعْتِبَارِ آخَرَ وَعَلَى هَذَا يُنْفَى الْإِيمَانُ عَمَّنْ فَاتَهُ الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ ؛ بَلْ الْكَمَالُ الَّذِي يُفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ فَاتَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ بَلْ يُنْفَى عَنْهُ الْكَمَالُ الَّذِي وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّهِ لَا وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا لَكِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَلَمْ يُعْرَفْ فِي كَلَامِهِ إلَّا أَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ يَقْتَضِي الذَّمَّ حَيْثُ كَانَ فَلَا يُنْفَى إلَّا عَمَّنْ لَهُ ذَنْبٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ : " أو مُسْلِمٌ " تَوَقَّفَ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ كَمَا قَالَ جَمَاهِيرُ النَّاسِ . ثُمَّ طَائِفَةٌ يَقُولُونَ : قَدْ يَكُونُ مُنَافِقًا لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْأَعْرَابُ الْمَذْكُورُونَ مُنَافِقُونَ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرَهُ طَائِفَةٌ كَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ : بَلْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ ؛ بَلْ كَانَ مَعَهُمْ تَصْدِيقٌ يُقْبَلُ مَعَهُ مِنْهُمْ مَا عَمِلُوهُ لِلَّهِ وَلِهَذَا جَعَلَهُمْ مُسْلِمِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } كَمَا
قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ مَعَ أَنَّ مَعَهُ التَّصْدِيقَ . وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيهِمْ . وَأَبُو طَالِبٍ جَعَلَ مَنْ كَانَ مَذْمُومًا لِتَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يُعْطُوا شَيْئًا وَجَعْلُ ذَلِكَ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا غَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ . وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَيَقُولُونَ : إثْبَاتُ الْإِسْلَامِ لَهُمْ دُونَ الْإِيمَانِ كَإِثْبَاتِهِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ كَانَ مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا كِلَاهُمَا مَذْمُومٌ لَا لِمُجَرَّدِ أَنَّ غَيْرَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا } وَلَمْ يَسْلُبْ عَمَّنْ دُونَهُ الْإِيمَانَ . وَقَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } . فَأَثْبَتَ الْإِيمَانَ لِلْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } { وَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمَّا حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ : لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ } وَكَانَ يَقُولُ لِمَنْ يُرْسِلُهُ فِي جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ : { إذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ ؛ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك } . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ فِي " الصَّحِيحِ " وَفِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَسْأَلُك حُكْمًا يُوَافِقُ حُكْمَك . فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَغَيْرُهَا تَدُلُّ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ
بِإِحْسَانِ
أَنَّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَخُصُّهُ اللَّهُ بِاجْتِهَادِ يَحْصُلُ لَهُ
بِهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ
وَذَلِكَ الْآخَرُ عَاجِزٌ لَهُ أَجْرٌ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ الْعِلْمُ
الَّذِي خُصَّ بِهِ هَذَا وَالْعَمَلُ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا زِيَادَةٌ فِي
إيمَانِهِ وَهُوَ إيمَانٌ يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ .
وَغَيْرُهُ عَاجِزٌ عَنْهُ فَلَا يَجِبُ . فَهَذَا قَدْ فُضِّلَ بِإِيمَانِ
وَاجِبٍ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْهُ . وَهَذَا حَالُ
جَمِيعِ الْأُمَّةِ فِيمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ
وَالْعَمَلِيَّةِ إذَا خُصَّ أَحَدُهُمَا بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي نَفْسِ
الْأَمْرِ مَعَ اجْتِهَادِ الْآخَرِ وَعَجْزِهِ كِلَاهُمَا مَحْمُودٌ مُثَابٌ
مُؤْمِنٌ وَذَلِكَ خَصَّهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ
بِمَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَى هَذَا ؛ وَذَلِكَ الْمُخْطِئُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَمًّا
وَلَا عِقَابًا وَإِنْ كَانَ ذَاكَ لَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ ذُمَّ وَعُوقِبَ كَمَا
خَصَّ اللَّهُ أُمَّةَ نَبِيِّنَا بِشَرِيعَةِ فَضَّلَهَا بِهِ وَلَوْ تَرَكَنَا
مِمَّا أَمَرَنَا بِهِ فِيهَا شَيْئًا ؛ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلذَّمِّ
وَالْعِقَابِ ؛ وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَنَا لَا يَذُمُّونَ بِتَرْكِ ذَلِكَ لَكِنْ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَى
الْأَنْبِيَاءِ وَفَضَّلَ أُمَّتَهُ عَلَى الْأُمَمِ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ لِأَحَدِ
مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا لِمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ .
وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ
الْإِيمَانِ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ
مُسْتَحِقًّا لِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجَنَّةِ فَلَوْ كَانَ مِثْلُ
هَذَا يُسَمَّى مُسْلِمًا وَلَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ
أَهْلِ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ مَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا
كَالْأَعْرَابِ وَكَالشَّخْصِ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أو مُسْلِمٌ " وَكَسَائِرِ مَنْ نُفِيَ عَنْهُ
الْإِيمَانُ مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ كَالزَّانِي وَالشَّارِبِ
وَالسَّارِقِ وَمَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَمَنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ؛ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُعَلِّقْ وَعْدَ الْجَنَّةِ إلَّا بِاسْمِ الْإِيمَانِ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ مَعَ إيجَابِهِ الْإِسْلَامَ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُ دِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ ؛ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دِينًا غَيْرَهُ وَمَعَ هَذَا فَمَا قَالَ : إنَّ الْجَنَّةَ أُعِدَّتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا قَالَ : وَعَدَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِالْجَنَّةِ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } فَهُوَ يُعَلِّقُهَا بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْمُقَيَّدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } { جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } وَقَوْلُهُ : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } وَقَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَوْلُهُ : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } وَقَوْلُهُ : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } وَقَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } وَقَالَ : { وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وَقَالَ : { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ . فَالْوَعْدُ بِالْجَنَّةِ وَالرَّحْمَةُ فِي الْآخِرَةِ وَبِالسَّلَامَةِ مِنْ الْعَذَابِ عُلِّقَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يُعَلَّقْ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ . فَلَوْ كَانَ مَنْ أَتَى مِنْ الْإِيمَانِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِهِ قَدْ يُسَمَّى مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا لَكَانَ مِنْ أَهْل الْجَنَّةِ وَكَانَتْ الْجَنَّةُ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ مُؤْمِنًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْجَنَّةُ لَمْ تُعَلَّقْ إلَّا بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ وَعْدُ الْجَنَّةِ مُعَلَّقًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا عُلِّقَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَكَمَا عُلِّقَ بِاسْمِ " التَّقْوَى " وَاسْمُ " الْبِرِّ " فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } وَبَاسِمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } فَلَمَّا لَمْ يَجْرِ اسْمُ الْإِسْلَامِ هَذَا الْمَجْرَى عُلِمَ أَنَّ مُسَمَّاهُ لَيْسَ مُلَازِمًا لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ كَمَا يُلَازِمُهُ اسْمُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَنَّ اسْمَ الْإِسْلَامِ يَتَنَاوَلُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى طَاعَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ فَهَذَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ وَلَا يُخْلِدُهُ فِي النَّارِ ؛ لِأَنَّ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ .
وَهَكَذَا سَائِرُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ إيمَانُهُمْ نَاقِصٌ وَإِذَا كَانَ فِي قَلْبِ أَحَدِهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ عُوقِبَ بِهَا إذَا لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ فَهَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ وَلَيْسُوا مُؤْمِنِينَ وَمَعَهُمْ إيمَانٌ . لَكِنَّ مَعَهُمْ أَيْضًا مَا يُخَالِفُ الْإِيمَانَ مِنْ النِّفَاقِ فَلَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُمْ مُؤْمِنِينَ بِأَوْلَى مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ مُنَافِقِينَ لَا سِيَّمَا إنْ كَانُوا لِلْكُفْرِ أَقْرَبَ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ وَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَمَا يَدْخُلُ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ وَأَوْلَى لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَعَهُمْ إيمَانٌ يَدْخُلُونَ بِهِ فِي خِطَابِ اللَّهِ بِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهْيٌ لَهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي مَعَهُمْ إنْ اقْتَضَى شُمُولَ لَفْظِ الْخِطَابِ لَهُمْ فَلَا كَلَامَ وَإِلَّا فَلَيْسُوا بِأَسْوَأِ حَالًا مِنْ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ وَتَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَيُحْشَرُ بِهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْمِلَلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَمَيَّزَ عَنْهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ وَقْتَ الْحَقِيقَةِ يُضْرَبُ { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } . فَإِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ صَالِحًا لِلَّهِ : فَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ وَيَكُونُ
مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُحْشَرُ بِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ ثُمَّ إنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الذُّنُوبِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ عُذِّبَ وَأُخْرِجَ مِنْ النَّارِ ؛ إذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ نِفَاقٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ : { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } فَلَمْ يَقُلْ : إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِمُجَرَّدِ هَذَا إذْ لَمْ يَذْكُرْ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ بَلْ هُمْ مَعَهُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَإِخْلَاصَهُ لِلَّهِ وَقَالَ : { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } فَيَكُونُ لَهُمْ حُكْمُهُمْ . وَقَدْ بَيَّنَ تَفَاضُلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَإِنَّهُ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ وَمَنْ كَانَ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَأَتَى بِالْكَبَائِرِ فَذَاكَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِيمَانُهُ يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ ؛ وَيُخْرِجُهُ بِهِ مِنْ النَّارِ وَلَوْ أَنَّهُ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ الْمُعَلَّقُ بِهِ وَعْدُ الْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ . وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ النَّاسَ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ أَوْ النِّفَاقِ وَيُسَمَّى مُسْلِمًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد . وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ ؛ وَقَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَفِيهِ كُفْرٌ دُونَ الْكُفْرِ الَّذِي يَنْقُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا قَالَ الصَّحَابَةُ : ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ . وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ فِي السَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ } . إنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ : مُسْلِمُونَ لَا مُؤْمِنُونَ ؛ وَاسْتَدَلُّوا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى نَفْيِ اسْمِ الْإِيمَانِ مَعَ إثْبَاتِ اسْمِ الْإِسْلَامِ وَبِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَمَعَهُ كُفْرٌ
12. كتاب : مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)
لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ بَلْ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قَالُوا : كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ . وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " فَإِنَّ كِتَابَ " الْإِيمَانِ " الَّذِي افْتَتَحَ بِهِ " الصَّحِيحَ " قَرَّرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَضَمَّنَهُ الرَّدَّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ الْقَائِمِينَ بِنَصْرِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الظَّاهِرِ يَجْرِي عَلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ اسْتَسْلَمُوا ظَاهِرًا ؛ وَأَتْوَ بِمَا أَتَوْا بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بِالصَّلَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالزَّكَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالْحَجِّ الظَّاهِرِ وَالْجِهَادِ الظَّاهِرِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ فَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } وَفِيهَا قِرَاءَتَانِ ( دَرْكٌ وَدَرَكٌ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ ابْنُ فَارِسٍ : الْجَنَّةُ دَرَجَاتٌ وَالنَّارُ دَرَكَاتٌ . قَالَ الضَّحَّاكُ : الدَّرَجُ : إذَا كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ . وَالدَّرْكُ : إذَا كَانَ بَعْضُهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ فَصَارَ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدُ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } وَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ } مِثْلَ قَوْلِهِ : { إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ } وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَخْشَى الْأُمَّةِ لِلَّهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِحُدُودِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { اخْتَبَأَتْ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا } . وَقَوْلُهُ : { إنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ } وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ وَكَانَ يَسْتَدِلُّ بِهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ كَمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ خَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ وَالْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَإِنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُسْلِمِينَ ظَاهِرًا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ ؛ فَمَنْ كَانَ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ يُسَمَّى مُسْلِمًا إذْ لَيْسَ هُوَ دُونَ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ وَإِذَا كَانَ نِفَاقُهُ أَغْلَبَ لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْمَ الْإِيمَانِ بَلْ اسْمُ الْمُنَافِقِ أَحَقُّ بِهِ فَإِنَّ مَا فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ وَسَوَادُهُ أَكْثَرُ مِنْ بَيَاضِهِ هُوَ بِاسْمِ الْأَسْوَدِ أَحَقُّ مِنْهُ بِاسْمِ الْأَبْيَضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ } وَأَمَّا إذَا كَانَ إيمَانُهُ أَغْلَبَ وَمَعَهُ نِفَاقٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوَعِيدَ لَمْ يَكُنْ أَيْضًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ وَهَذَا حُجَّةٌ لِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أَحْمَد وَلَمْ أَرَهُ أَنَا فِيمَا بَلَغَنِي مِنْ كَلَامِ أَحْمَد وَلَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ وَنَحْوَهُ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : وَحَكَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَتَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ : الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَالنُّهْبَةَ الَّتِي يَرْفَعُ النَّاسُ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ إلَيْهِ أَوْ مِثْلِهِنَّ أَوْ فَوْقِهِنَّ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا أُسَمِّيه
مُؤْمِنًا وَمَنْ أَتَى دُونَ الْكَبَائِرِ نُسَمِّيه مُؤْمِنًا نَاقِصَ الْإِيمَانِ فَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ : لِمَا نَفَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ نَفَيْته عَنْهُ كَمَا نَفَاهُ عَنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّسُولُ لَمْ يَنْفِهِ إلَّا عَنْ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ وَإِلَّا فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يَفْعَلُ الصَّغِيرَةَ هِيَ مُكَفِّرَةٌ عَنْهُ بِفِعْلِهِ لِلْحَسَنَاتِ وَاجْتِنَابِهِ لِلْكَبَائِرِ لَكِنَّهُ نَاقِصُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ اجْتَنَبَ الصَّغَائِرَ فَمَا أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَلَكِنْ خَلَطَهُ بِسَيِّئَاتِ كَفَّرَتْ عَنْهُ بِغَيْرِهَا وَنَقَصَتْ بِذَلِكَ دَرَجَتُهُ عَمَّنْ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ . وَأَمَّا الَّذِينَ نَفَى عَنْهُمْ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ فَنَنْفِيه كَمَا نَفَاهُ الرَّسُولُ وَأُولَئِكَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ التَّصْدِيقُ وَأَصْلُ الْإِيمَانِ فَقَدْ تَرَكُوا مِنْهُ مَا اسْتَحَقُّوا لِأَجْلِهِ سَلْبَ الْإِيمَانِ وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ نِفَاقٌ وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ وَإِيمَانٌ فَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا كَانَ صَاحِبُهُ مُسْتَحِقًّا لِلْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ . وَطَوَائِفُ " أَهْلِ الْأَهْوَاءِ " مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ كراميهم وَغَيْرِ كراميهم يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَمِنْ هُنَا غَلِطُوا فِيهِ وَخَالَفُوا فِيهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ مَعَ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ ؛ بَلْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ طَرَدُوا هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ وَقَالُوا : لَا يَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ طَاعَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الثَّوَابَ وَمَعْصِيَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْعِقَابَ وَلَا يَكُونُ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مَحْمُودًا مِنْ وَجْهٍ مَذْمُومًا مِنْ
وَجْهٍ وَلَا مَحْبُوبًا مَدْعُوًّا لَهُ مِنْ وَجْهٍ مَسْخُوطًا مَلْعُونًا مِنْ وَجْهٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ جَمِيعًا عِنْدَهُمْ بَلْ مَنْ دَخَلَ إحْدَاهُمَا لَمْ يَدْخُلْ الْأُخْرَى عِنْدَهُمْ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا خُرُوجَ أَحَدٍ مِنْ النَّارِ أَوْ الشَّفَاعَةَ فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ . وَحَكَى عَنْ غَالِيَةِ الْمُرْجِئَةِ أَنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا : إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُونَ النَّارَ مُقَابَلَةً لِأُولَئِكَ . وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ ؛ وَسَائِرُ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ والكَرَّامِيَة والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ مُرْجِئِهِمْ وَغَيْرِ مُرْجِئِهِمْ فَيَقُولُونَ : إنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ قَدْ يُعَذِّبُهُ اللَّهُ بِالنَّارِ ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَهَذَا الشَّخْصُ الَّذِي لَهُ سَيِّئَاتٌ عُذِّبَ بِهَا وَلَهُ حَسَنَاتٌ دَخَلَ بِهَا الْجَنَّةَ وَلَهُ مَعْصِيَةٌ وَطَاعَةٌ بِاتِّفَاقِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُكْمِهِ ؛ لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي اسْمِهِ . فَقَالَتْ الْمُرْجِئَةُ : جهميتهم وَغَيْرُ جهميتهم : هُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُذِّبَ كَمَا أَنَّهُ نَاقِصُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ مُؤْمِنٍ ؟ هَذَا فِيهِ الْقَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ . فَإِذَا سُئِلَ عَنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَعِتْقِهِ فِي الْكَفَّارَةِ . قِيلَ : هُوَ مُؤْمِنٌ وَكَذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْ دُخُولِهِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ . وَأَمَّا إذَا سُئِلَ عَنْ حُكْمِهِ فِي الْآخِرَةِ . قِيلَ : لَيْسَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ بَلْ مَعَهُ إيمَانٌ يَمْنَعُهُ الْخُلُودُ فِي النَّارِ وَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ بَعْدَ أَنْ يُعَذَّبَ فِي النَّارِ إنْ لَمْ يَغْفِرْ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ : هُوَ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ أَوْ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ وَاَلَّذِينَ لَا يُسَمُّونَهُ مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ : اسْمُ الْفُسُوقِ يُنَافِي اسْمَ الْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ : { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } وَقَوْلُهُ : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا } وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَبَعْضُ النَّاسِ يَكُونُ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَمَعَهُ إيمَانٌ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَسْمِيَةِ كَثِيرٍ مِنْ الذُّنُوبِ كُفْرًا مَعَ أَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ يَكُونُ مَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ فَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ . كَقَوْلِهِ { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } وَقَوْلُهُ : { لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " الصَّحِيحِ " مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فَإِنَّهُ أُمِرَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنْ يُنَادِيَ بِهِ فِي النَّاسِ فَقَدْ سَمَّى مَنْ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ بِلَا حَقٍّ كُفَّارًا ؛ وَسَمَّى هَذَا الْفِعْلَ كُفْرًا ؛ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ } فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَكِنْ فِيهِمْ مَا هُوَ كُفْرٌ وَهِيَ هَذِهِ الْخَصْلَةُ . كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا } فَقَدْ سَمَّاهُ أَخَاهُ حِينَ الْقَوْلِ ؛ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا بَاءَ بِهَا فَلَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ أَخَاهُ بَلْ فِيهِ كُفْرٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إلَّا كَفَرَ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { كَفَرَ بِاَللَّهِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ } وَكَانَ مِنْ الْقُرْآنِ الَّذِي نُسِخَ لَفْظُهُ : " لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ " فَإِنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونٌ بِحَقِّ اللَّهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْمَصِيرُ } وَقَوْلُهُ : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } فَالْوَالِدُ أَصْلُهُ الَّذِي مِنْهُ خُلِقَ وَالْوَلَدُ مِنْ كَسْبِهِ . كَمَا قَالَ : { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } فَالْجَحْدُ لَهُمَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ جَحَدَ لِمَا مِنْهُ خَلَقَهُ رَبُّهُ فَقَدْ جَحَدَ خَلْقَ الرَّبِّ إيَّاهُ وَقَدْ كَانَ فِي لُغَةِ مَنْ قَبْلَنَا يُسَمَّى الرَّبُّ أَبًا فَكَانَ فِيهِ كُفْرٌ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا كَمَنَ جَحَدَ الْخَالِقَ بِالْكُلِّيَّةِ وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحَادِيثِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ " أَصْلٍ جَامِعٍ " تَنْبَنِي عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ النُّصُوصِ وَرَدَ مَا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ النَّاسَ كَثُرَ نِزَاعُهُمْ فِي مَوَاضِعَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامُ لِكَثْرَةِ ذِكْرِهِمَا وَكَثْرَةِ كَلَامِ النَّاسِ فِيهِمَا وَالِاسْمُ كُلَّمَا كَثُرَ التَّكَلُّمُ فِيهِ فَتُكُلِّمَ بِهِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا بِقَيْدِ وَمُقَيَّدٌ بِقَيْدِ آخَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . كَانَ هَذَا سَبَبًا لِاشْتِبَاهِ بَعْضِ مَعْنَاهُ ثُمَّ كُلَّمَا كَثُرَ سَمَاعُهُ كَثُرَ مَنْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ أَنْ يَسْمَعَ بَعْضُ النَّاسِ بَعْضَ مَوَارِدِهِ وَلَا يُسْمَعُ بَعْضُهُ وَيَكُونُ مَا سَمِعَهُ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ أَوْجَبَهُ اخْتِصَاصُهُ بِمَعْنَى فَيَظُنُّ مَعْنَاهُ فِي سَائِرِ مَوَارِدِهِ كَذَلِكَ ؛ فَمَنْ اتَّبَعَ عِلْمَهُ حَتَّى عَرَفَ مَوَاقِعَ الِاسْتِعْمَالِ عَامَّةً وَعَلِمَ مَأْخَذَ
الشَّبَهِ
أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَعَلِمَ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ
اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا بَيَانَ أَتَمَّ مِنْ بَيَانِهِ ؛ وَأَنَّ مَا أَجْمَعَ
عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دِينِهِمْ الَّذِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ أَضْعَافَ
أَضْعَافِ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ .
فَالْمُسْلِمُونَ : سُنِّيُّهُمْ وَبِدْعِيُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ
الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ
وَالْحَجِّ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ؛ وَلَا يُعَذَّبُ وَعَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ
يُؤْمِنْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ
الدِّينِ وَقَوَاعِدُ الْإِيمَانِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْمُنْتَسِبُونَ
إلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَتَنَازُعُهُمْ بَعْدَ هَذَا فِي بَعْضِ
أَحْكَامِ الْوَعِيدِ أَوْ بَعْضِ مَعَانِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ أَمْرٌ خَفِيفٌ
بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ لِلْحَقِّ
الْبَيِّنِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ
مَعْرُوفُونَ بِالْبِدْعَةِ ؛ مَشْهُودٌ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالَةِ ؛ لَيْسَ
لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ وَلَا قَبُولٌ عَامٌّ كَالْخَوَارِجِ
وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَإِنَّمَا تَنَازَعَ أَهْلُ
الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ فِي أُمُورٍ دَقِيقَةٍ تَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ ؛
وَلَكِنْ يَجِبُ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
وَالرَّدُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِسْلَامِ
وَالْإِيمَانِ " يُوجِبُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الِاسْمَيْنِ وَإِنْ كَانَ مُسَمَّاهُ
وَاجِبًا لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا
مُسْلِمًا . فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ فَجَعَلَ الدِّينَ وَأَهْلَهُ "
ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ " : أَوَّلُهَا : الْإِسْلَامُ وَأَوْسَطُهَا الْإِيمَانُ
وَأَعْلَاهَا الْإِحْسَانُ وَمَنْ وَصَلَ إلَى الْعُلْيَا
فَقَدْ وَصَلَ إلَى الَّتِي تَلِيهَا . فَالْحَسَنُ مُؤْمِنٌ وَالْمُؤْمِنُ مُسْلِمٌ ؛ وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا . وَهَكَذَا جَاءَ الْقُرْآنُ فَجَعَلَ الْأُمَّةَ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ . قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } فَالْمُسْلِمُ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِوَاجِبِ الْإِيمَانِ هُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَالْمُقْتَصِدُ هُوَ الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ الَّذِي أَدَّى الْوَاجِبَ وَتَرَكَ الْمُحَرَّمَ ؛ وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ هُوَ الْمُحْسِنُ الَّذِي عَبَدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَقْسِيمَ النَّاسِ فِي الْمَعَادِ إلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي سُورَةِ ( الْوَاقِعَةِ ) وَ ( الْمُطَفِّفِينَ ) و ( هَلْ أَتَى ) وَذَكَرَ الْكُفَّارَ أَيْضًا وَأَمَّا هُنَا فَجَعَلَ التَّقْسِيمَ لِلْمُصْطَفَيْنَ مِنْ عِبَادِهِ . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الخطابي : مِمَّا أَكْثَرُ مَا يَغْلَطُ النَّاسُ فِي " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " فَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَقَالَ : الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانُ الْعَمَلُ وَاحْتَجَّ بِالْآيَةِ وَذَهَبَ غَيْرُهُ إلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ . فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } قَالَ الخطابي : وَقَدْ تَكَلَّمَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ وَرَدَّ الْآخَرُ مِنْهُمَا عَلَى الْمُتَقَدِّمِ وَصَنَّفَ عَلَيْهِ كِتَابًا يَبْلُغُ عَدَدَ أَوْرَاقِهِ الْمِائَتَيْنِ . قَالَ الخطابي : وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَيَّدَ الْكَلَامُ فِي هَذَا وَلَا يُطْلَقَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِهَا وَالْمُؤْمِنُ
مُسْلِمٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَإِذَا حَمَلْت الْأَمْرَ عَلَى هَذَا اسْتَقَامَ لَك تَأْوِيلُ الْآيَاتِ وَاعْتَدَلَ الْقَوْلُ فِيهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ شَيْءٌ مِنْهَا . " قُلْت " : الرَّجُلَانِ اللَّذَانِ أَشَارَ إلَيْهِمَا الخطابي أَظُنُّ أَحَدَهُمَا - وَهُوَ السَّابِقُ - مُحَمَّدَ بْنَ نَصْرٍ فَإِنَّهُ الَّذِي عَلَّمْته بَسْطَ الْكَلَامِ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَمَا عَلِمْت لِغَيْرِهِ قَبْلَهُ بَسْطًا فِي هَذَا . وَالْآخَرُ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ أَظُنُّهُ . . . (1) لَكِنْ لَمْ أَقِفْ عَلَى رَدِّهِ ؛ وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الخطابي هُوَ قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَأَبِي جَعْفَرٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ ؛ وَلَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ خَالَفَ هَؤُلَاءِ فَجَعَلَ نَفْسَ الْإِسْلَامِ نَفْسَ الْإِيمَانِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى هَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ الخطابي . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ التيمي الأصبهاني وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ شَارِحُ " مُسْلِمٍ " وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى السَّارِقِ وَالزَّانِي اسْمُ مُؤْمِنٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَقَدْ ذَكَرَ الخطابي : فِي " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ " كَلَامًا يَقْتَضِي تَلَازُمَهُمَا مَعَ افْتِرَاقِ اسْمَيْهِمَا [ وَذَكَرَهُ البغوي فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " فَقَالَ : قَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ اسْمًا لِمَا ظَهَرَ مِنْ الْأَعْمَالِ وَجَعَلَ الْإِيمَانَ اسْمًا لِمَا بَطَنَ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ
أَوْ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ لَيْسَ مِنْ الْإِسْلَامِ بَلْ ذَلِكَ تَفْصِيلُ الْجُمْلَةِ هِيَ كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٍ وَجِمَاعُهَا الدِّينُ ] (*) وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } وَالتَّصْدِيقُ وَالْعَمَلُ يَتَنَاوَلُهُمَا اسْمُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ جَمِيعًا ؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } وقَوْله تَعَالَى { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } فَبَيَّنَ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي رَضِيَهُ وَيَقْبَلُهُ مِنْ عِبَادِهِ هُوَ الْإِسْلَامُ وَلَا يَكُونُ الدِّينُ فِي مَحَلِّ الرِّضَى وَالْقَبُولِ إلَّا بِانْضِمَامِ التَّصْدِيقِ إلَى الْعَمَلِ . " قُلْت " : تَفْرِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَإِنْ اقْتَضَى أَنَّ الْأَعْلَى هُوَ الْإِحْسَانُ وَالْإِحْسَانُ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ وَالْإِيمَانُ يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْعَكْسِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ دَلَّ عَلَى التَّلَازُمِ فَهُوَ صَرِيحٌ بِأَنَّ مُسَمَّى هَذَا لَيْسَ مُسَمَّى هَذَا لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الدَّلَالَةَ تَخْتَلِفُ بِالتَّجْرِيدِ وَالِاقْتِرَانِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ وَمَنْ فَهِمَ هَذَا انْحَلَّتْ عَنْهُ إشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ حَادَّ عَنْهَا طَوَائِفُ - " مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ " وَغَيْرِهَا - وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ فِي مَحَلِّ الرِّضَى وَالْقَبُولِ إلَّا بِانْضِمَامِ التَّصْدِيقِ إلَى الْعَمَلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ الْعَمَلِ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ مُطْلَقًا لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ الدِّينُ لَيْسَ اسْمُهُ إسْلَامًا وَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ شَرْطًا فِي قَبُولِهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لَهُ ؛ وَلَوْ كَانَ مُلَازِمًا لَهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } إلَى آخِرِهِ ؛ { وَالْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } إلَى آخِرِهِ . قَالَ : هَذَا بَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْبَاطِنُ وَبَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ الظَّاهِرُ وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِنَّمَا أَضَافَ إلَيْهِمَا الْأَرْبَعَ لِكَوْنِهَا أَظْهَرَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَمُعْظَمَهَا وَبِقِيَامِهِ بِهَا يَتِمُّ اسْتِسْلَامُهُ وَتَرْكُهُ لَهَا يُشْعِرُ بِحَلِّ قَيْدِ انْقِيَادِهِ أَوْ انْحِلَالِهِ . ثُمَّ إنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ يَتَنَاوَلُ مَا فُسِّرَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَسَائِرُ الطَّاعَاتِ لِكَوْنِهَا ثَمَرَاتِ التَّصْدِيقِ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ مُقَوِّمَاتٌ وَمُتَمِّمَاتٌ وَحَافِظَاتٌ لَهُ وَلِهَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَإِعْطَاءِ الْخُمُسِ مِنْ الْمَغْنَمِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَقَعُ اسْمُ الْمُؤْمِنِ الْمُطْلَقِ عَلَى مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً أَوْ تَرَكَ فَرِيضَةً لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ الْكَامِلِ يَقَعُ عَلَى الْكَامِلِ مِنْهُ وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّاقِصِ ظَاهِرًا إلَّا بِقَيْدِ وَلِذَلِكَ جَازَ إطْلَاقُ نَفْيِهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . وَاسْمُ " الْإِسْلَامِ " يَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَا هُوَ " أَصْلُ الْإِيمَانِ " وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَيَتَنَاوَلُ " أَصْلَ الطَّاعَاتِ " فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ اسْتِسْلَامٌ قَالَ : فَخَرَجَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَحَقَّقْنَاهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ ؛ وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ
كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا قَالَ : فَهَذَا تَحْقِيقٌ وَافٍ بِالتَّوْفِيقِ بَيْنَ مُتَفَرِّقَاتِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الَّتِي طَالَمَا غَلِطَ فِيهَا الْخَائِضُونَ ؛ وَمَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَذَاهِبِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ . فَيُقَالُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْمُوَافَقَةِ لِمَا قَدْ بَيَّنَ مِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ : وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَا يَظْهَرُ بِهِ أَنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَقَوْلُهُ : إنَّ الْحَدِيثَ ذَكَرَ فِيهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَأَصْلُ الْإِسْلَامِ قَدْ يُورِدُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجَوَابِ بِالْحَدِّ عَنْ الْمَحْدُودِ ؛ فَيَكُونُ مَا ذَكَرَهُ مُطَابِقًا لَهُمَا لَا لِأَصْلِهِمَا فَقَطْ فَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِيمَانُ بِمَا ذَكَرَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ؛ لَكِنْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِيمَانِ تَضَمَّنَ الْإِسْلَامَ كَمَا أَنَّ الْإِحْسَانَ تَضَمَّنَ الْإِيمَانَ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : أَصْلُ الِاسْتِسْلَامِ هُوَ الْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ فَالْإِسْلَامُ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَالِانْقِيَادُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَهَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَنْ أَسْلَمَ بِظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ يُقْبَلُ ظَاهِرُهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ أَنْ يُشَقَّ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ يَتَنَاوَلُ التَّصْدِيقَ الْبَاطِنَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ . فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَهُوَ خِلَافُ مَا نُقِلَ عَنْ الْجُمْهُورِ وَلَكِنْ لَا بُدَّ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ تَصْدِيقٍ يَحْصُلُ بِهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَإِلَّا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهِ ؛ فَيَكُونُ
حِينَئِذٍ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَبَيَّنَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَدُخُولُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } وَقَوْلُهُ : { الْإِسْلَامُ هُوَ الْأَرْكَانُ الْخَمْسَةُ } لَا يَعْنِي بِهِ مَنْ أَدَّاهَا بِلَا إخْلَاصٍ لِلَّهِ بَلْ مَعَ النِّفَاقِ بَلْ الْمُرَادُ مَنْ فَعَلَهَا كَمَا أُمِرَ بِهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَذَكَرَ الْخَمْسَ أَنَّهَا هِيَ الْإِسْلَامُ لِأَنَّهَا هِيَ الْعِبَادَاتُ الْمَحْضَةُ الَّتِي تَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ عَبْدٍ مُطِيقٍ لَهَا وَمَا سِوَاهَا إمَّا وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِمَصْلَحَةِ إذَا حَصَلَتْ سَقَطَ الْوُجُوبُ وَإِمَّا مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ فِيهَا قُرْبَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَتِلْكَ تَابِعَةٌ لِهَذِهِ كَمَا قَالَ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } { وَأَفْضَلُ الْإِسْلَامِ أَنْ تُطْعِمَ الطَّعَامَ وَتُقْرِئَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ } وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذِهِ الْخَمْسُ هِيَ الْأَرْكَانُ وَالْمَبَانِي كَمَا فِي الْإِيمَانِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : الطَّاعَاتُ ثَمَرَاتُ التَّصْدِيقِ الْبَاطِنِ يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ : يُرَادُ بِهِ أَنَّهَا لَوَازِمُ لَهُ فَمَتَى وُجِدَ الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ وُجِدَتْ وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَيُرَادُ بِهِ أَنَّ الْإِيمَانَ الْبَاطِنَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا وَقَدْ يَكُونُ الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ تَامًّا كَامِلًا وَهِيَ لَمْ تُوجَدْ وَهَذَا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ غَلِطُوا فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) : ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ الْعَمَلِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ تَصْدِيقٌ بِلَا عَمَلٍ لِلْقَلْبِ . كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ وَخَوْفِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالشَّوْقِ إلَى لِقَائِهِ .
وَالثَّانِي
: ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ
الْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَهَذَا يَقُولُ بِهِ جَمِيعُ الْمُرْجِئَةِ .
وَالثَّالِثُ : قَوْلُهُمْ كُلُّ مَنْ كَفَّرَهُ الشَّارِعُ فَإِنَّمَا كَفَّرَهُ
لِانْتِفَاءِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِالرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَكَثِيرٌ مِنْ
الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَذَاهِبِ السَّلَفِ وَأَقْوَالِ
الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة ؛ لِاخْتِلَاطِ هَذَا بِهَذَا فِي كَلَامِ كَثِيرٍ
مِنْهُمْ مِمَّنْ هُوَ فِي بَاطِنِهِ يَرَى رَأْيَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ
فِي الْإِيمَانِ وَهُوَ مُعَظِّمٌ لِلسَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ فَيَظُنُّ
أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ كَلَامِ أَمْثَالِهِ وَكَلَامِ
السَّلَفِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي :
وَقَالَتْ " طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ " وَهُمْ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ
مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ : الْإِيمَانُ
الَّذِي دَعَا اللَّهُ الْعِبَادَ إلَيْهِ وَافْتَرَضَهُ عَلَيْهِمْ هُوَ
الْإِسْلَامُ الَّذِي جَعَلَهُ دِينًا وَارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ وَدَعَاهُمْ
إلَيْهِ وَهُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ الَّذِي سَخِطَهُ فَقَالَ : { وَلَا يَرْضَى
لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } وَقَالَ . { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }
وَقَالَ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ } وَقَالَ : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ
فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } فَمَدَحَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ بِمِثْلِ مَا
مَدَحَ بِهِ الْإِيمَانَ . وَجَعَلَهُ اسْمَ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ فَأَخْبَرَ
أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَهُدًى وَأَخْبَرَ أَنَّهُ
دِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ وَمَا ارْتَضَاهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ وَامْتَدَحَهُ
أَلَا تَرَى أَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَرُسُلَهُ رَغِبُوا فِيهِ إلَيْهِ
وَسَأَلُوهُ إيَّاهُ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ : { رَبَّنَا
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ }
وَقَالَ يُوسُفُ : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } وَقَالَ
: { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ
بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } إلَى قَوْلِهِ { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا } فَحُكْمُ اللَّهِ بِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ اهْتَدَى وَمَنْ آمَنَ فَقَدْ اهْتَدَى فَسَوَّى بَيْنَهُمَا . قَالَ : وَقَدْ ذَكَرْنَا تَمَامَ الْحُجَّةِ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِيمَانُ وَأَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ وَلَا يَتَبَايَنَانِ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا فَكَرِهْنَا إعَادَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَرَاهَةَ التَّطْوِيلِ وَالتَّكْرِيرِ غَيْرَ أَنَّا سَنَذْكُرُ مِنْ الْحُجَّةِ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَنُبَيِّنْ خَطَأَ تَأْوِيلِهِمْ وَالْحُجَجَ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ . " قُلْت " : مَقْصُودُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمَمْدُوحَ هُوَ الْمُؤْمِنُ الْمَمْدُوحُ ؛ وَأَنَّ الْمَذْمُومَ نَاقِصُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَكُلَّ مُسْلِمٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إيمَانٌ وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمَقْصُودُهُ أَيْضًا أَنَّ مَنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَمَقْصُودُهُ أَنَّ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا هُوَ مُسَمَّى الْآخَرِ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَإِنْ قِيلَ : هُمَا مُتَلَازِمَانِ . فالمتلازمان لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى هَذَا هُوَ مُسَمَّى هَذَا وَهُوَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ أَنَّهُ قَالَ : مُسَمَّى الْإِسْلَامِ هُوَ مُسَمَّى
الْإِيمَانِ كَمَا[ نصر ] (1) ؛ بَلْ وَلَا عَرَفْت أَنَا أَحَدًا قَالَ ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ الْجَمَاعَةِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُسْتَحِقَّ لِوَعْدِ اللَّهِ هُوَ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَحِقُّ لِوَعْدِ اللَّهِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى مَعْنَاهُ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بَلْ وَبَيْنَ فِرَقِ الْأُمَّةِ كُلِّهِمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي وُعِدَ بِالْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا وَالْمُسْلِمُ الَّذِي وُعِدَ بِالْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا وَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا عَذَابٍ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ . ثُمَّ إنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَا يَقُولُونَ : الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَعَهُمْ بَعْضُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي إطْلَاقِ الِاسْمِ فَالنُّقُول مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ السَّلَفِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ يَقُولُونَ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ لَيْسَ هُوَ الْكَلِمَةَ فَقَطْ خِلَافُ ظَاهِرِ مَا نُقِلَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَكَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا هِيَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ ظَنَّ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهَا شَيْئًا وَاحِدًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَلَيْسَ إذَا كَانَ الْإِسْلَامُ دَاخِلًا فِيهِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ إيَّاهُ ؛ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَكِنْ هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ أَوْ كَمَالَ الْإِيمَانِ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ وَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِيمَانِ وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَاكَ عَنْهُمْ فَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ مُؤْمِنُونَ .
وَكَذَلِكَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ كَانُوا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ فَغَايَةُ مَا يُقَالُ : إنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَهَذَا صَحِيحٌ إذَا أُرِيدَ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ . وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إذَا أُرِيدَ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يُثَابُ عَلَى عِبَادَتِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ فَمَا مِنْ مُسْلِمٍ إلَّا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَعَمَّنْ يَفْعَلُ الْكَبَائِرَ وَعَنْ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ فَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ التَّامَّ مُتَلَازِمَانِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرَ كَالرُّوحِ وَالْبَدَنِ فَلَا يُوجَدُ عِنْدَنَا رُوحٌ إلَّا مَعَ الْبَدَنِ وَلَا يُوجَدُ بَدَنٌ حَيٌّ إلَّا مَعَ الرُّوحِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَالْإِيمَانُ كَالرُّوحِ فَإِنَّهُ قَائِمٌ بِالرُّوحِ وَمُتَّصِلٌ بِالْبَدَنِ وَالْإِسْلَامُ كَالْبَدَنِ وَلَا يَكُونُ الْبَدَنُ حَيًّا إلَّا مَعَ الرُّوحِ بِمَعْنَى أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ لَا أَنَّ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا هُوَ مُسَمَّى الْآخَرِ ؛ وَإِسْلَامُ الْمُنَافِقِينَ كَبَدَنِ الْمَيِّتِ جَسَدٌ بِلَا رُوحٍ فَمَا مِنْ بَدَنٍ حَيٍّ إلَّا وَفِيهِ رُوحٌ وَلَكِنَّ الْأَرْوَاحَ مُتَنَوِّعَةٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ } وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ صَلَّى بِبَدَنِهِ يَكُونُ قَلْبُهُ مُنَوَّرًا بِذِكْرِ اللَّهِ وَالْخُشُوعِ وَفَهْمِ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ يُثَابُ عَلَيْهَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَهَكَذَا الْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالْإِيمَانُ بِمَنْزِلَةِ مَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ حِينَ الصَّلَاةِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالْخُشُوعِ وَتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ فَكُلُّ مَنْ خَشَعَ قَلْبُهُ
خَشَعَتْ
جَوَارِحُهُ وَلَا يَنْعَكِسُ وَلِهَذَا قِيلَ : : إيَّاكُمْ وَخُشُوعَ النِّفَاقِ
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَسَدُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ لَيْسَ بِخَاشِعِ فَإِذَا
صَلَحَ الْقَلْبُ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَلَيْسَ إذَا كَانَ الْجَسَدُ فِي
عِبَادَةٍ يَكُونُ الْقَلْبُ قَائِمًا بِحَقَائِقِهَا .
وَالنَّاسُ فِي " الْإِيمَانِ " وَ "الْإِسْلَامِ " عَلَى
ثَلَاثِ مَرَاتِبَ : ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ .
فَالْمُسْلِمُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إذَا كَانَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ
أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إيمَانٌ ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَأْتِ بِالْوَاجِبِ وَلَا
يَنْعَكِسْ وَكَذَلِكَ فِي الْآخَرِ . وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَالْآيَاتُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ
الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ
وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ دِينٌ غَيْرَهُ وَهَذَا كُلُّهُ حَقٌّ ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِي
هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِيمَانُ ؛ بَلْ وَلَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا
ذَكَرَهُ فِي حُجَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ
بِالْجَنَّةِ فِي غَيْرِ آيَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْوَعْدَ بِاسْمِ
الْإِسْلَامِ وَحِينَئِذٍ فَمَدْحُهُ وَإِيجَابُهُ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُ
تَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِ فِي الْإِيمَانِ ؛ وَأَنَّهُ بَعْضٌ مِنْهُ وَهَذَا
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلِّهِمْ يَقُولُونَ : كُلُّ
مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَكُلُّ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَقَدْ أَتَى
بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ لَكِنَّ النِّزَاعَ فِي الْعَكْسِ ؛ وَهَذَا كَمَا
أَنَّ الصَّلَاةَ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَأْمُرُ بِهَا وَيُوجِبُهَا وَيُثْنِي
عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ثُمَّ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى
أَنَّ مُسَمَّى الصَّلَاةِ مُسَمَّى الْإِيمَانِ بَلْ الصَّلَاةُ تَدْخُلُ فِي
الْإِيمَانِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُصَلٍّ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ
صَلَّى وَأَتَى الْكَبَائِرَ مُؤْمِنًا .
وَجَمِيعُ
مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْحُجَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَإِنَّ فِيهَا التَّفْرِيقَ بَيْن مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ إذَا
ذُكِرَا جَمِيعًا كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ وَفِيهَا أَيْضًا أَنَّ
اسْمَ الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ الْإِسْلَامُ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ فِي كِتَابِهِ الْمُصَنَّفِ فِي "
أُصُولِ الدِّينِ " :
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَأَمَّا الْإِسْلَامُ
فَكَلَامُ أَحْمَد يَحْتَمِلُ رِوَايَتَيْنِ . إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ
كَالْإِيمَانِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ . وَهُوَ نَصُّهُ
فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ : وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَذْهَبَ
رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ أَنَّهُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ : إنَّ
الْإِسْلَامَ قَوْلٌ يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي
الْإِيمَانِ مِنْ الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ مِنْ
شَرْطِهِ إذْ النَّصُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِهِ الصَّلَاةَ . قَالَ
: وَقَدْ قَضَيْنَا أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ اسْمَانِ لِمَعْنَيَيْنِ
وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ ذُكِرَ قَبْلُ ذَلِكَ أَنَّ
الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ اسْمَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَبِهِ قَالَ
مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ
وَالْإِيمَانِ قَالَ : وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُ أَبِي
حَنِيفَةَ : إنَّهُمَا اسْمَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ قَالَ : وَيُفِيدُ هَذَا
أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ تَنْتَفِي عَنْهُ تَسْمِيَتُهُ مَعَ بَقَاءِ الْإِسْلَامِ
عَلَيْهِ وَهُوَ بِإِتْيَانِ الْكَبَائِرِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْخَبَرِ
فَيَخْرُجُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنَّهُ مُسْلِمٌ ؛ فَإِذَا تَابَ
مِنْ ذَلِكَ عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ . وَلَا تَنْتِفِي
عَنْهُ تَسْمِيَةُ الْإِيمَانِ بِارْتِكَابِ الصَّغَائِرِ مِنْ الذُّنُوبِ بَلْ
الِاسْمُ بَاقٍ عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَدِلَّةَ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ
فِيهِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ عَلَى مَنْ يَقُولُ : الْإِسْلَامُ مُجَرَّدُ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الْكَثِيرَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ النُّصُوصُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا لَيْسَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ بِخِلَافِ التَّصْدِيقِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي النُّصُوصِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بَلْ هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا الْإِسْلَامُ الدِّينُ كَمَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُسْلِمَ وَجْهَهُ وَقَلْبَهُ لِلَّهِ فَإِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ إسْلَامٌ وَهَذَا غَيْرُ التَّصْدِيقِ ذَاكَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِ الْقَلْبِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ عِلْمِ الْقَلْبِ . وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَةُ فَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَهُوَ اتَّبَعَ هنا الزُّهْرِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنْ كَانَ مُرَادُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ إنَّهُ بِالْكَلِمَةِ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَأْتِ بِتَمَامِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا قَرِيبٌ . وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِجَمِيعِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ فَهَذَا غَلَطٌ قَطْعًا بَلْ قَدْ أَنْكَرَ أَحْمَد هَذَا الْجَوَابَ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : يُطْلِقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ مُتَابَعَةً لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ أَحْمَد جَمِيعِهِ . قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ : سَأَلْت أَحْمَد فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَقَالَ : " الْإِيمَانُ " قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْإِسْلَامُ الْإِقْرَارُ . وَقَالَ : وَسَأَلْت أَحْمَد عَمَّنْ قَالَ فِي الَّذِي قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ سَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَأَنَا مُسْلِمٌ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ قَائِلٌ : وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الَّذِي قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُسْلِمٌ أَيْضًا ؟ فَقَالَ : هَذَا مُعَانِدٌ لِلْحَدِيثِ .
فَقَدْ جَعَلَ أَحْمَد مَنْ جَعَلَهُ مُسْلِمًا إذَا لَمْ يَأْتِ بِالْخَمْسِ مُعَانِدًا لِلْحَدِيثِ مَعَ قَوْلِهِ : إنَّ الْإِسْلَامَ الْإِقْرَارُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَاكَ أَوَّلُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْخَمْسِ وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ مَشْرُوطٌ بِهَا فَإِنَّهُ ذَمَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ حَدِيثَ جِبْرِيلَ . وَأَيْضًا فَهُوَ فِي أَكْثَرِ أَجْوِبَتِهِ يُكَفِّرُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِالصَّلَاةِ ؛ بَلْ وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْمَبَانِي وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ بِلَا عَمَلٍ ؛ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ فَهَذَا يَكُونُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَبَانِي الْأَرْبَعَةِ . وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَاَلَّذِينَ لَا يَكْفُرُونَ مِنْ تَرْكِ هَذِهِ الْمَبَانِي يَجْعَلُونَهَا مِنْ الْإِسْلَامِ كَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ فَكَيْفَ لَا يَجْعَلُهَا أَحْمَد مِنْ الْإِسْلَامِ وَقَوْلُهُ فِي دُخُولِهَا فِي الْإِسْلَامِ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ حَدِيثَ سَعْدٍ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ عُمَرَ وَرَجَّحَ حَدِيثَ سَعْدٍ . قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ : سَأَلْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْإِيمَانِ أَوْكَدُ أَوْ الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ : جَاءَ حَدِيثُ عُمَرَ هَذَا وَحَدِيثُ سَعْدٍ أَحَبُّ إلَيَّ . كَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ حَدِيثَ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ مُسَمَّى الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ مُسَمَّاهُ أَفْضَلَ . وَحَدِيثُ سَعْدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ أَفْضَلُ وَلَكِنْ حَدِيثُ عُمَرَ لَمْ يَذْكُرْ الْإِسْلَامَ إلَّا الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ فَقَطْ وَهَذِهِ لَا تَكُونُ إيمَانًا إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بَعْضُ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ مُسَمَّى الْإِيمَانِ أَفْضَلَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدٍ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ : وَأَمَّا تَفْرِيقُ أَحْمَد بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَكَانَ يَقُولُهُ تَارَةً وَتَارَةً يَحْكِي
الْخِلَافَ وَلَا يَجْزِمُ بِهِ . وَكَانَ إذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا " تَارَةً " يَقُولُ الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ . " وَتَارَةً " لَا يَقُولُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ التَّكْفِيرُ بِتَرْكِ الْمَبَانِي كَانَ تَارَةً يَكْفُرُ بِهَا حَتَّى يَغْضَبَ ؛ وَتَارَةً لَا يَكْفُرُ بِهَا . قَالَ الميموني : قُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قُلْت بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْتَجُّ ؟ قَالَ : عَامَّةُ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا ثُمَّ قَالَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } قَالَ : وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ . قَالَ : وَحَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الخزاعي قَالَ : قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَذَكَرَ قَوْلَهُمْ وَقَوْلَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ : فَرْقٌ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ . قَالَ أَحْمَد : قَالَ لِي رَجُلٌ : لَوْ لَمْ يَجِئْنَا فِي الْإِيمَانِ إلَّا هَذَا لَكَانَ حَسَنًا . قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَتَذْهَبُ إلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ مَعَ السُّنَنِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قُلْت : فَإِذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْقَوْلُ . قَالَ : هُمْ يُصَيِّرُونَ هَذَا كُلَّهُ وَاحِدًا وَيَجْعَلُونَهُ مُسْلِمًا وَمُؤْمِنًا شَيْئًا وَاحِدًا عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ وَمُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانِ . قُلْت : فَمِنْ هَاهُنَا حُجَّتُنَا عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَدْ ذَكَرَ عَنْهُ الْفَرْقَ مُطْلَقًا وَاحْتِجَاجُهُ بِالنُّصُوصِ . وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد : سُئِلَ أَبِي عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ قَالَ : قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ الْإِسْلَامُ : الْقَوْلُ وَالْإِيمَانُ : الْعَمَلُ . قِيلَ لَهُ : مَا تَقُولُ أَنْتَ ؟ قَالَ : الْإِسْلَامُ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ حَدِيثَ سَعْدٍ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَهُوَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَخْتَرْ قَوْلَ مَنْ قَالَ : الْإِسْلَامُ : الْقَوْلُ ؛ بَلْ أَجَابَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ الْإِيمَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مَعَ الْقُرْآنِ . وَقَالَ حَنْبَلٌ : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِحَدِيثِ بريدة : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ إذَا خَرَجُوا إلَى الْمَقَابِرِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } . . . الْحَدِيثُ . قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ . فَمَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ فَقَدْ خَالَفَ قَوْلَهُ : مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ . فَبَيَّنَ الْمُؤْمِنَ مِنْ الْمُسْلِمِ وَرَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ مُسْتَكْمِلُ الْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ : { وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَيِّتٌ يَشُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ سَأَلْت : أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قُلْت : قَوْلُهُ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . قَالَ : قَدْ تَأَوَّلُوهُ فَأَمَّا عَطَاءٌ فَقَالَ : يَتَنَحَّى عَنْهُ الْإِيمَانُ . وَقَالَ طَاوُوسٌ : إذَا فَعَلَ ذَلِكَ زَالَ عَنْهُ الْإِيمَانُ . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : إنْ رَجَعَ رَاجَعَهُ الْإِيمَانُ . وَقَدْ قِيلَ : يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ . وَرَوَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ صَالِحٌ فَإِنَّ مَسَائِلَ أَبِي الْحَارِثِ يَرْوِيهَا صَالِحٌ أَيْضًا . وَصَالِحٌ سَأَلَ أَبَاهُ عِ ن هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَ فِيهَا : هَكَذَا يُرْوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } قَالَ : يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ فَالْإِيمَانُ مَقْصُورٌ فِي الْإِسْلَامِ ،
فَإِذَا زَنَى خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ . قَالَ الزُّهْرِيُّ - يَعْنِي - لِمَا رُوِيَ حَدِيثُ سَعْدٍ : " أو مُسْلِمٌ " فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ قَالَ أَحْمَد : وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَأَوِّلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . فَقَدْ ذَكَرَ أَقْوَالَ التَّابِعِينَ وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا قَالُوهُ حَقٌّ وَهُوَ يُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا قَدْ ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَحْمَد وَأَمْثَالُهُ مِنْ السَّلَفِ لَا يُرِيدُونَ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ ؛ بَلْ التَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ مِثْلُ التَّفْسِيرِ وَبَيَانِ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ اللَّفْظُ كَقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } وَإِلَّا فَمَا ذَكَرَهُ التَّابِعُونَ لَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ بَلْ يُوَافِقُهُ وَقَوْلُ أَحْمَد يَتَأَوَّلُهُ أَيْ يُفَسَّرُ مَعْنَاهُ ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُوَافِقُ ظَاهِرَهُ لِئَلَّا يَظُنَّ مُبْتَدِعٌ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ صَارَ كَافِرًا لَا إيمَانَ مَعَهُ بِحَالِ ؛ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا . وَاَلَّذِي نَفَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْإِيمَانَ كَانَ يَجْعَلُهُمْ مُسْلِمِينَ لَا يَجْعَلُهُمْ مُؤْمِنِينَ . قَالَ المروذي : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : نَقُولُ نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ ؟ فَقَالَ : نَقُولُ : نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ . قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : نَقُولُ : إنَّا مُؤْمِنُونَ . قَالَ : وَلَكِنْ نَقُولُ : إنَّا مُسْلِمُونَ . وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُؤَدٍّ لِجَمِيعِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ : أَنَا بَرٌّ أَنَا تَقِيٌّ أَنَا وَلِيُّ اللَّهِ ؛ كَمَا يُذْكَرُ فِي
مَوْضِعِهِ
؛ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا أَرَادَ : إنِّي مُصَدِّقٌ
فَإِنَّهُ يَجْزِمُ بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ ؛ وَلَا يَجْزِمُ
بِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ لِكُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ ؛ وَكَمَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ
يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ يُبْغِضُ الْكُفْرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا
يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي قَلْبِهِ ؛ وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ فِي الظَّاهِرِ
؛ فَلَا يُمْنَعُ أَنْ يُجْزَمَ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُ ؛ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ
مَا كَرِهَهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ إذْ يَقُولُونَ :
الْإِيمَانُ شَيْءٌ مُتَمَاثِلٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِهِ مِثْلَ كَوْنِ كُلِّ
إنْسَانٍ لَهُ رَأْسٌ ؛ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا وَأَنَا
مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ : لِي
رَأْسٌ حَقًّا وَأَنَا لِي رَأْسٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ حَقًّا : فَمَنْ جَزَمَ بِهِ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ أَخْرَجَ الْأَعْمَالَ الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ
عَنْهُ ؛ وَهَذَا مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ عِنْدَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِلنَّاسِ
فِي " مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ " كَلَامٌ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ هُنَا قَوْلَيْنِ مُتَطَرِّفَيْنِ : قَوْلُ مَنْ
يَقُولُ : الْإِسْلَامُ مُجَرَّدُ الْكَلِمَةِ وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ
لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ : مُسَمَّى
الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَاحِدٌ ؛ وَكِلَاهُمَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ
لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ وَسَائِرِ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ . وَلِهَذَا لَمَّا نَصَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي
الْقَوْلَ الثَّانِيَ : لَمْ يَكُنْ مَعَهُ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ وَلَكِنْ
احْتَجَّ بِمَا يُبْطِلُ بِهِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ؛ فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي
قِصَّةِ الْأَعْرَابِ : { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ
لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قَالَ : فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ
" الْإِسْلَامَ " هُوَ الْإِيمَانُ ،
فَيُقَالُ : بَلْ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَقُولُوا : أَسْلَمْنَا ؛ بَلْ قَالُوا : آمَنَّا وَاَللَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : أَسْلَمْنَا ثُمَّ ذَكَرَ تَسْمِيَتَهُمْ بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ : { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فِي قَوْلِكُمْ : آمَنَّا وَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ هُوَ الْإِيمَانَ لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَقُولَ : { إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فَإِنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ : { أَسْلَمْنَا } مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ قَالَ : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ } أَيْ : يَمُنُّونَ عَلَيْك مَا فَعَلُوهُ مِنْ الْإِسْلَامِ فَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى فِعْلَهُمْ إسْلَامًا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ إسْلَامًا ؛ وَإِنَّمَا قَالُوا : آمَنَّا ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْمِنَّةَ تَقَعُ بِالْهِدَايَةِ إلَى الْإِيمَانِ فَأَمَّا الْإِسْلَامُ الَّذِي لَا إيمَانَ مَعَهُ فَكَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ خَوْفًا مِنْ السَّيْفِ ؛ فَلَا مِنَّةَ لَهُمْ بِفِعْلِهِ وَإِذَا لَمْ يَمُنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ كَانَ ذَلِكَ كَإِسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ فَلَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ . فَأَمَّا إذَا كَانُوا صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ : آمَنَّا فَاَللَّهُ هُوَ الْمَانُّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ أَوَّلًا وَهُنَا عَلَّقَ مِنَّةَ اللَّهِ بِهِ عَلَى صِدْقِهِمْ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ صِدْقِهِمْ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُمْ صَارُوا صَادِقِينَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُقَالُ : الْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَيُقَالُ : لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ إيمَانٌ مَا . لَكِنْ مَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي وَصَفَهُ ثَانِيًا ؟ بَلْ مَعَهُمْ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } الْآيَةُ وَقَالَ : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } فَسَمَّى إقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ
الزَّكَاةِ دِينًا قِيَمًا وَسَمَّى الدِّينَ إسْلَامًا فَمَنْ لَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ فَقَدْ تَرَكَ مِنْ الدِّينِ الْقَيِّمِ - الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ عِنْدَهُ الدِّينُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ - بَعْضًا . قَالَ : وَقَدْ جَاءَ مُعَيِّنًا هَذِهِ الطَّائِفَةَ الَّتِي فَرَّقَتْ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَأَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَدْ سَمَّاهُمَا اللَّهُ دِينًا وَأَخْبَرَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَهُ الْإِسْلَامُ فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْإِسْلَامَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِيمَانَ وَسَمَّى الْإِيمَانَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِسْلَامَ وَبِمِثْلِ ذَلِكَ جَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَأَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ مِنْهُ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ؛ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ إذْ زَعَمَتْ أَنَّ الْإِيمَانَ إقْرَارٌ بِلَا عَمَلٍ . فَيُقَالُ : أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ جَعَلَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ مِنْ الدِّينِ وَالدِّينُ عِنْدَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ فَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ وَرَدِّهِ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْعَمَلَ خَارِجًا مِنْ الْإِسْلَامِ كَلَامٌ حَسَنٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ اللَّهَ سَمَّى الْإِيمَانَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِسْلَامَ وَسَمَّى الْإِسْلَامَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِيمَانَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا قَالَ : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِيمَانُ ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الدِّينَ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ إذَا كَانَ مِنْهُ يَكُونُ هُوَ إيَّاهُ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ أَصْلُهُ مَعْرِفَةُ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ وَقَوْلُهُ ؛ وَالْعَمَلُ تَابِعٌ لِهَذَا الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقُ مُلَازِمٌ لَهُ وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِمَا . وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ عَمَلٌ مَحْضٌ مَعَ قَوْلٍ وَالْعِلْمُ وَالتَّصْدِيقُ لَيْسَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ لَكِنْ يَلْزَمُهُ جِنْسُ التَّصْدِيقِ فَلَا يَكُونُ عَمَلٌ إلَّا بِعِلْمِ لَكِنْ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ الْمُفَصَّلَ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . وَسَائِرُ النُّصُوصِ الَّتِي تَنْفِي الْإِيمَانَ عَمَّنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِمَا ذَكَرَهُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُسْلِمٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَعَهُ تَصْدِيقٌ مُجْمَلٌ وَلَمْ يَتَّصِفْ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } وَقَالَ : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَلَمْ يَقُلْ : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَتَصْدِيقًا وَإِيمَانًا وَلَا قَالَ : رَضِيت لَكُمْ الْإِسْلَامَ تَصْدِيقًا وَعِلْمًا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ مِنْ جِنْسِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ وَالطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ ؛ فَمَنْ ابْتَغَى غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مَعَهُ وَالْإِيمَانُ طُمَأْنِينَةٌ وَيَقِينٌ أَصْلُهُ عِلْمٌ وَتَصْدِيقٌ وَمَعْرِفَةٌ وَالدِّينُ تَابِعٌ لَهُ يُقَالُ : آمَنْت بِاَللَّهِ وَأَسْلَمْت لِلَّهِ . قَالَ مُوسَى : { يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } فَلَوْ كَانَ مُسَمَّاهُمَا وَاحِدًا كَانَ هَذَا تَكْرِيرًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } كَمَا قَالَ : وَالصَّادِقِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالْخَاشِعِينَ : فَالْمُؤْمِنُ مُتَّصِفٌ بِهَذَا كُلِّهِ لَكِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَا تُطَابِقُ الْإِيمَانَ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَإِلَيْك أَنَبْت وَبِك خَاصَمْت وَإِلَيْك حَاكَمْت } كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : فِي سُجُودِهِ : { اللَّهُمَّ لَك سَجَدْت وَبِك آمَنْت وَلَك أَسْلَمْت } وَفِي الرُّكُوعِ يَقُولُ : { لَك رَكَعْت وَلَك
أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت } وَلِمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا قَالَ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمَّنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّلَامَةَ مِنْ ظُلْمِ الْإِنْسَانِ غَيْرُ كَوْنِهِ مَأْمُونًا عَلَى الدَّمِ وَالْمَالِ فَإِنَّ هَذَا أَعْلَى وَالْمَأْمُونُ يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْ ظُلْمِهِ وَلَيْسَ مَنْ سَلِمُوا مِنْ ظُلْمِهِ يَكُونُ مَأْمُونًا عِنْدَهُمْ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَأَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ مِنْهُ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ . وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ النُّصُوصَ كُلَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِسْلَامِ . قَالَ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ إذْ زَعَمَتْ أَنَّ الْإِيمَانَ إقْرَارٌ بِلَا عَمَلٍ . فَيُقَالُ : بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالزُّهْرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ يَقُولُونَ : الْأَعْمَالُ دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامُ عِنْدَهُمْ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ أَكْمَلُ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَيَقُولُونَ : النَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ بَعْضُ الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ أَفْضَلُ : وَيَقُولُونَ إيمَانُ النَّاسِ مُتَسَاوٍ فَإِيمَانُ الصَّحَابَةِ وَأَفْجَرُ النَّاسِ سَوَاءٌ وَيَقُولُونَ : لَا يَكُونُ مَعَ أَحَدٍ بَعْضُ الْإِيمَانِ دُونَ بَعْضٍ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَقَدْ أَجَابَ أَحْمَد عَنْ هَذَا السُّؤَالِ كَمَا قَالَهُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَةُ . قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَإِنَّهُ تَارَةً يُوَافِقُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَتَارَةً لَا يُوَافِقُهُ
بَلْ يَذْكُرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ الْإِيمَانِ ؛ فَلَمَّا أَجَابَ بِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ قَالَ لَهُ الْمَيْمُونِيَّ : قُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ؛ قُلْت : بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْتَجُّ ؟ قَالَ : عَامَّةُ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا ثُمَّ قَالَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } قُلْت لَهُ : فَتَذْهَبُ إلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ مَعَ السُّنَنِ ؟ قَالَ : نَعَمْ قُلْت : فَإِذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ تَقُولُ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْقَوْلُ قَالَ : هُمْ يُصَيِّرُونَ هَذَا كُلَّهُ وَاحِدًا وَيَجْعَلُونَهُ مُسْلِمًا وَمُؤْمِنًا شَيْئًا وَاحِدًا عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ وَمُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانِ ؛ قُلْت : فَمِنْ هَهُنَا حُجَّتُنَا عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَدْ أَجَابَ أَحْمَد : بِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْفَاسِقَ مُؤْمِنًا مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : يَجْعَلُونَهُ مُسْلِمًا وَمُؤْمِنًا شَيْئًا وَاحِدًا فَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : الدِّينُ وَالْإِيمَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَالْإِسْلَامُ هُوَ الدِّينُ فَيَجْعَلُونَ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ فِيمَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا وَمَعَ هَؤُلَاءِ يُنَاظِرُونَ فَالْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ الْمُرْجِئَةِ : الْفَرْقُ بَيْنَ لَفْظِ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ . وَيَقُولُونَ : الْإِسْلَامُ بَعْضُهُ إيمَانٌ وَبَعْضُهُ أَعْمَالٌ وَالْأَعْمَالُ مِنْهَا فَرْضٌ وَنَفْلٌ وَلَكِنَّ كَلَامَ السَّلَفِ كَانَ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُمْ وَيَصِلُ إلَيْهِمْ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا تَجِدُهُمْ فِي الْجَهْمِيَّة ؛ إمَّا يَحْكُونَ عَنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ كالنجارية وَهُوَ قَوْلُ عَوَامِّهِمْ
وَعُبَّادِهِمْ وَأَمَّا جُمْهُورُ نُظَّارِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ والضرارية وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّمَا يَقُولُونَ : هُوَ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ . وَكَذَلِكَ كَلَامُهُمْ فِي " الْقَدَرِيَّةِ " يَحْكُونَ عَنْهُمْ إنْكَارَ الْعِلْمِ وَالْكِتَابَةِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِيهِمْ : إذَا لَقِيت أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ وَنَهَاهُمْ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيه وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِمَّنْ يَدْخُلُ النَّارَ حَتَّى فَعَلُوا ذَلِكَ فَعَلِمَهُ بَعْدَ مَا فَعَلُوهُ وَلِهَذَا قَالُوا : الْأَمْرُ أُنُفٌ أَيْ : مُسْتَأْنَفٌ ؛ يُقَالُ : رَوْضٌ أُنُفٌ إذَا كَانَتْ وَافِرَةً لَمْ تَرْعَ قَبْلَ ذَلِكَ يَعْنِي أَنَّهُ مُسْتَأْنَفُ الْعِلْمِ بِالسَّعِيدِ وَالشَّقِيِّ وَيَبْتَدِئُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ بِذَلِكَ عِلْمٌ وَلَا كِتَابٌ فَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى مَا قَدْ قُدِّرَ فَيَحْتَذِي بِهِ حَذْوَ الْقِدْرِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُسْتَأْنَفٌ مُبْتَدَأٌ وَالْوَاحِدُ مِنْ النَّاسِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا قُدِّرَ فِي نَفْسِهِ مَا يُرِيدُ عَمَلَهُ ثُمَّ عَمِلَهُ كَمَا قُدِّرَ فِي نَفْسِهِ وَرُبَّمَا أَظْهَرَ مَا قَدَّرَهُ فِي الْخَارِجِ بِصُورَتِهِ وَيُسَمَّى هَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي فِي النَّفْسِ خُلُقًا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْت وبع ضُ النَّاسِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي يَقُولُ : إذَا قَدَّرْت أَمْرًا أَمْضَيْتَهُ وأنفذته بِخِلَافِ غَيْرِك فَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إمْضَاءِ مَا يُقَدِّرُهُ وَقَالَ تَعَالَى { إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّ مَا سَيَكُونُ وَهُوَ يَخْلُقُ بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ يَعْلَمُهُ وَيُرِيدُهُ وَعِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَقَدْ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَالَ : { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } { إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَتَبَ مَا يُقَدِّرُهُ فِيمَا يَكْتُبُهُ فِيهِ كَمَا قَالَ : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ ثُمَّ قَالَ لِعِلْمِهِ : كُنْ كِتَابًا ؛ فَكَانَ كِتَابًا ثُمَّ أَنْزَلَ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وَقَالَ : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } وَقَالَ : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَالْمَلَائِكَةُ قَدْ عَلِمَتْ مَا يَفْعَلُ بَنُو آدَمَ مِنْ الْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ سَوَاءٌ عَلِمُوهُ بِإِعْلَامِ اللَّهِ - فَيَكُونُ هُوَ أَعْلَمَ بِمَا عَلَّمَهُمْ إيَّاهُ كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : - أَوْ قَالُوهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ كَمَا قَالَهُ : طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الَّذِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ وَمَا أَوْحَاهُ إلَى أَنْبِيَائِهِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا سَيَكُونُ هُوَ أَعْلَمَ بِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءِ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَقَبْلَ أَنْ يَمْتَنِعَ إبْلِيسُ ؛ وَقَبْلَ أَنْ يَنْهَى آدَمَ عَنْ أَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ وَقَبْلَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَيَكُونُ أَكْلُهُ سَبَبَ إهْبَاطِهِ إلَى الْأَرْضِ فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ سَيَسْتَخْلِفُهُ مَعَ أَمْرِهِ لَهُ ولإبليس بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُمَا يُخَالِفَانِهِ فِيهِ وَيَكُونُ الْخِلَافُ سَبَبَ أَمْرِهِ لَهُمَا بِالْإِهْبَاطِ إلَى الْأَرْضِ وَالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ مِنْهُمَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ فَإِنَّ إبْلِيسَ امْتَنَعَ مِنْ السُّجُودِ لِآدَمَ وَأَبْغَضَهُ فَصَارَ عَدُوَّهُ فَوَسْوَسَ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْ الشَّجَرَةِ فَيُذْنِبُ آدَمَ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ تَأَلَّى إنَّهُ لَيُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وَقَدْ سَأَلَ الْإِنْظَارَ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَهُوَ حَرِيصٌ عَلَى إغْوَاءِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُ لَكِنَّ آدَمَ تَلَقَّى مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ وَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ وَهَدَاهُ بِتَوْبَتِهِ فَصَارَ لِبَنِي آدَمَ سَبِيلٌ إلَى نَجَاتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ مِمَّا يُوقِعُهُمْ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِالْإِغْوَاءِ وَهُوَ التَّوْبَةُ قَالَ تَعَالَى : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } . وَقَدَرُ اللَّهِ قَدْ أَحَاطَ بِهَذَا كُلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَإِبْلِيسُ أَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ وَسَأَلَ الْإِنْظَارَ لِيُهْلِكَ غَيْرَهُ وَآدَمُ تَابَ وَأَنَابَ وَقَالَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَاجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ وَأَنْزَلَهُ إلَى الْأَرْضِ لِيَعْمَلَ فِيهَا بِطَاعَتِهِ ؛ فَيَرْفَعُ اللَّهُ بِذَلِكَ دَرَجَتَهُ وَيَكُونُ دُخُولُهُ الْجَنَّةَ بَعْدَ هَذَا أَكْمَلَ مِمَّا كَانَ فَمَنْ أَذْنَبَ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ فَاقْتَدَى بِأَبِيهِ آدَمَ فِي التَّوْبَةِ كَانَ سَعِيدًا وَإِذَا تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
بَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ وَكَانَ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ كَسَائِرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ . وَمَنْ اتَّبَعَ مِنْهُمْ إبْلِيسَ فَأَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ وَأَرَادَ أَنْ يُغْوِيَ غَيْرَهُ كَانَ مِنْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ الْقَدَرِ ؛ وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ؛ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكُتِبَ فِي الذِّكْرِ كُلُّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ أَخْبَرَ : { أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَمَا يَعْمَلُهُ الْعِبَادُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهُ } . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : { أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَلَكًا بَعْدَ خَلْقِ الْجَسَدِ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ فَيَكْتُبُ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ } . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوَاضِعِهَا . فَهَذَا الْقَدَرُ هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ " الْقَدَرِيَّةُ " الَّذِينَ كَانُوا فِي أَوَاخِرِ زَمَنِ الصَّحَابَةِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ابْتَدَعَهُ بِالْعِرَاقِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ : سيسويه مِنْ أَبْنَاءِ الْمَجُوسِ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُ مَعْبَدٌ الجهني وَيُقَالُ : أَوَّلُ مَا حَدَثَ فِي الْحِجَازِ لَمَّا احْتَرَقَتْ الْكَعْبَةُ فَقَالَ
رَجُلٌ
: احْتَرَقَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى . فَقَالَ آخَرُ : لَمْ يُقَدِّرْ
اللَّهُ هَذَا . وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَحَدٌ
يُنْكِرُ الْقُدْرَةَ ؛ فَلَمَّا ابْتَدَعَ هَؤُلَاءِ التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ
رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ : وَكَانَ
أَكْثَرُهُ بِالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَقَلِيلٌ مِنْهُ بِالْحِجَازِ ؛ فَأَكْثَرُ
كَلَامِ السَّلَفِ فِي ذَمِّ هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ : وَلِهَذَا قَالَ وَكِيعُ
بْنُ الْجَرَّاحِ : الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ : الْأَمْرُ مُسْتَقْبَلٌ وَإِنَّ
اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ الْكِتَابَةَ وَالْأَعْمَالَ ؛ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ
: الْقَوْلُ يُجْزِئُ مِنْ الْعَمَلِ ؛ وَالْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ :
الْمَعْرِفَةُ تُجْزِئُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ . قَالَ وَكِيعٌ : وَهُوَ
كُلُّهُ كُفْرٌ وَرَوَاهُ ابْنُ . . . (1) .
وَلَكِنْ لَمَّا اشْتَهَرَ الْكَلَامُ فِي الْقَدَرِ ؛ وَدَخَلَ فِيهِ كَثِيرٌ
مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْعِبَادِ صَارَ جُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ يُقِرُّونَ
بِتَقَدُّمِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ عُمُومَ الْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فِي إنْكَارِ الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ
رِوَايَتَانِ . وَقَوْلُ أُولَئِكَ كَفَّرَهُمْ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ مُبْتَدِعُونَ ضَالُّونَ
لَكِنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ أُولَئِكَ ؛ وَفِي هَؤُلَاءِ خَلْقٌ كَثِيرٌ
مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ كُتِبَ عَنْهُمْ الْعِلْمُ . وَأَخْرَجَ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ لِجَمَاعَةِ مِنْهُمْ لَكِنْ مَنْ كَانَ دَاعِيَةً
إلَيْهِ لَمْ يُخَرِّجُوا لَهُ وَهَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ
كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ : أَنَّ مَنْ كَانَ دَاعِيَةً إلَى بِدْعَةٍ فَإِنَّهُ
يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ لِدَفْعِ ضَرَرِهِ عَنْ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ فِي
الْبَاطِنِ مُجْتَهِدًا وَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ أَنْ يُهْجَرَ فَلَا يَكُونُ لَهُ
مَرْتَبَةٌ فِي الدِّينِ
لَا يُؤْخَذُ عَنْهُ الْعِلْمُ وَلَا يُسْتَقْضَى وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ أَهْلُ الصَّحِيحِ لِمَنْ كَانَ دَاعِيَةً وَلَكِنْ رَوَوْا هُمْ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ كَانَ يَرَى فِي الْبَاطِنِ رَأْيَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ . وَقَالَ أَحْمَد : لَوْ تَرَكْنَا الرِّوَايَةَ عَنْ الْقَدَرِيَّةِ لَتَرَكْنَا أَكْثَرَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَهَذَا لَأَنَّ " مَسْأَلَةَ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ " مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ وَكَمَا أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرَهُمْ أَخْطَئُوا فِيهَا فَقَدْ أَخْطَأَ فِيهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ فَإِنَّهُمْ سَلَكُوا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مَسْلَكَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعِهِ فَنَفَوْا حِكْمَةَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرَهُ وَنَفَوْا رَحْمَتَهُ بِعِبَادِهِ وَنَفَوْا مَا جَعَلَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ خَلْقًا وَأَمْرًا وَجَحَدُوا مِنْ الْحَقَائِقِ الْمَوْجُودَةِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَشَرَائِعِهِ مَا صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُفُورِ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا قَوْلَهُمْ عَمَّا يَظُنُّونَهُ السُّنَّةَ إذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقَدَرِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي ابْتَدَعَهُ جَهْمٌ وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " السَّلَفَ " فِي رَدِّهِمْ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَرُدُّونَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُمْ وَمَا سَمِعُوهُ مِنْ بَعْضِهِمْ . وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَقَدْ يَكُونُ نَقْلًا مُغَيِّرًا . فَلِهَذَا رَدُّوا عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ وَاحِدًا ؛ وَيَقُولُونَ هُوَ الْقَوْلُ . وَأَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ حَدَثٌ فِي زَمَنِهِمْ مِنْ الْمُرْجِئَةِ مَنْ يَقُولُ : الْإِيمَانُ هُوَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ بِلَا تَصْدِيقٍ وَلَا مَعْرِفَةٍ
فِي
الْقَلْبِ . فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا أَحْدَثَهُ ابْنُ كَرَّامٍ وَهَذَا هُوَ
الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ كَرَّامٍ . وَأَمَّا سَائِرُ مَا قَالَهُ
فَأَقْوَالٌ قِيلَتْ قَبْلَهُ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْأَشْعَرِيُّ وَلَا
غَيْرُهُ مِمَّنْ يَحْكِي مَقَالَاتِ النَّاسِ عَنْهُ قَوْلًا انْفَرَدَ بِهِ
إلَّا هَذَا . وَأَمَّا سَائِرُ أَقْوَالِهِ فَيَحْكُونَهَا عَنْ نَاسٍ قَبْلَهُ
وَلَا يَذْكُرُونَهُ . وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ كَرَّامٍ فِي زَمَنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ
وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَلِهَذَا يَحْكُونَ إجْمَاعَ النَّاسِ عَلَى
خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ ؛ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ
حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمَا . وَكَانَ قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ قَبْلَهُ :
إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَتَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَقَوْلُ جَهْمٍ :
إنَّهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ ؛ فَلَمَّا قَالَ ابْنُ كَرَّامٍ : إنَّهُ مُجَرَّدُ
قَوْلُ اللِّسَانِ . صَارَتْ أَقْوَالُ الْمُرْجِئَةِ ثَلَاثَةً لَكِنَّ أَحْمَد
كَانَ أَعْلَمُ بِمَقَالَاتِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِهِ فَكَانَ يَعْرِفُ قَوْلَ
الْجَهْمِيَّة فِي الْإِيمَانِ وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ . فَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ
وَلَا يَعْرِفُ إلَّا مُرْجِئَةَ الْفُقَهَاءِ فَلِهَذَا حُكِيَ الْإِجْمَاعُ
عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة والكَرَّامِيَة .
قَالَ أَبُو ثَوْرٍ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمُرْجِئَةِ كَمَا رَوَى ذَلِكَ أَبُو
الْقَاسِمِ الطبري اللكائي وَغَيْرُهُ : عَنْ إدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ
قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ أَبَا ثَوْرٍ عَنْ الْإِيمَانِ
وَمَا هُوَ أَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؟ وَقَوْلٌ هُوَ أَوْ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ؟ أَوْ
تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ . فَأَجَابَهُ أَبُو ثَوْرٍ بِهَذَا فَقَالَ : سَأَلْت رَحِمَك
اللَّهُ وَعَفَا عَنَّا وَعَنْك عَنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؟
وَقَوْلٌ هُوَ أَوْ قَوْلٌ وَعَمَلٌ أَوْ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ ؟ فَأُخْبِرُكَ
بِقَوْلِ الطَّوَائِفِ وَاخْتِلَافِهِمْ .
اعْلَمْ يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ : أَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافٌ فِي رَجُلٍ لَوْ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاحِدٌ وَأَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ حَقٌّ وَأَقَرَّ بِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ ثُمَّ قَالَ : مَا عَقَدَ قَلْبِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا ؛ وَلَا أُصَدِّقُ بِهِ ؛ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمِ وَلَوْ قَالَ : الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ وَجَحَدَ أَمْرَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ قَالَ : لَمْ يَعْقِدْ قَلْبِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَافِرٌ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بِالْإِقْرَارِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ التَّصْدِيقُ مُؤْمِنًا وَلَا بِالتَّصْدِيقِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْإِقْرَارُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ مُقِرًّا بِلِسَانِهِ . فَإِذَا كَانَ تَصْدِيقًا بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارًا بِاللِّسَانِ كَانَ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنًا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مَعَ التَّصْدِيقِ عَمَلٌ فَيَكُونُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا اجْتَمَعَتْ مُؤْمِنًا فَلَمَّا نَفَوْا أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ بِشَيْءِ وَاحِدٍ وَقَالُوا : يَكُونُ بِشَيْئَيْنِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فِي قَوْلِ غَيْرِهِمْ . لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا إلَّا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ . فَكُلُّهُمْ يَشْهَدُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ ؛ فَقُلْنَا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الَّتِي ذَهَبَتْ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ فَيُقَالُ لَهُمْ : مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ الْعِبَادِ إذْ قَالَ لَهُمْ : أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ الْإِقْرَارَ بِذَلِكَ أَوْ الْإِقْرَارَ وَالْعَمَلَ ؟ فَإِنْ قَالَتْ : إنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْإِقْرَارَ وَلَمْ يُرِدْ الْعَمَلَ ؛ فَقَدْ كَفَرَتْ . عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ . ( ك مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ الْعِبَادِ أَنْ يُصَلُّوا وَلَا يُؤْتُوا الزَّكَاةَ ؟ وَإِنْ قَالَتْ : أَرَادَ مِنْهُمْ الْإِقْرَارَ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ أَرَادَ مِنْهُمْ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا
لِمَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَقَدْ أَرَادَهُمَا جَمِيعًا ؟ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : أَعَمَلُ جَمِيعَ مَا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ وَلَا أُقِرُّ بِهِ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا ؟ فَإِنْ قَالُوا : لَا . قِيلَ لَهُمْ : فَإِنْ قَالَ : أُقِرُّ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَلَا أَعْمَلُ بِهِ ؛ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا ؟ فَإِنْ قَالُوا : نَعَمْ . قِيلَ مَا الْفَرْقُ ؟ فَقَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِأَحَدِهِمَا مُؤْمِنًا إذَا تَرَكَ الْآخَرَ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِالْآخَرِ إذَا عَمِلَ بِهِ وَلَمْ يُقِرَّ مُؤْمِنًا لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ . فَإِنْ احْتَجَّ فَقَالَ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ فَأَقَرَّ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا بِهَذَا الْإِقْرَارِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ عَمَلٍ ؟ قِيلَ لَهُ : إنَّمَا يُطْلَقُ لَهُ الِاسْمُ بِتَصْدِيقِهِ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : أَنْ يَعْمَلَهُ فِي وَقْتِهِ إذَا جَاءَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْإِقْرَارُ بِجَمِيعِ مَا يَكُونُ بِهِ مُؤْمِنًا ؛ وَلَوْ قَالَ : أُقِرُّ وَلَا أَعْمَلُ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ . قُلْت : يَعْنِي الْإِمَامُ أَبُو ثَوْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا إذَا الْتَزَمَ بِالْعَمَلِ مَعَ الْإِقْرَارِ وَإِلَّا فَلَوْ أَقَرَّ وَلَمْ يَلْتَزِمْ الْعَمَلَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا . وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو ثَوْرٍ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرَيْنِ : الْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ الدِّينِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَلَا مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ وَلَا مَمْدُوحًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ الْأَعْمَالَ خَارِجَةً عَنْ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ جَمِيعًا . وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ إنَّهَا مِنْ الدِّينِ وَيَقُولُ : إنَّ الْفَاسِقَ مُؤْمِنٌ حَيْثُ أَخَذَ بِبَعْضِ الدِّينِ وَهُوَ الْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ وَتَرَكَ بَعْضَهُ ؛ فَهَذَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِ بِشَيْءِ آخَرَ لَكِنْ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَامَّةً احْتِجَاجُهُمْ مَعَ هَذَا الصِّنْفِ وَأَحْمَد كَانَ أَوْسَعَ عِلْمًا بِالْأَقْوَالِ وَالْحُجَجِ مِنْ
أَبِي
ثَوْرٍ . وَلِهَذَا إنَّمَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ
الكَرَّامِيَة ثُمَّ إنَّهُ تَوَرَّعَ فِي النُّطْقِ عَلَى عَادَتِهِ وَلَمْ
يَجْزِمْ بِنَفْيِ الْخِلَافِ ؛ لَكِنْ قَالَ : لَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَقُولُ
هَذَا وَهَذَا فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني ذَكَرَهَا
الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ " السُّنَّةِ " - وَهُوَ أَجْمَعَ كِتَابٍ
يُذْكَرُ فِيهِ أَقْوَالُ أَحْمَد فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ وَإِنْ
كَانَ لَهُ أَقْوَالٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِيهِ كَمَا أَنَّ كِتَابَهُ فِي
الْعِلْمِ أَجْمَعَ كِتَابٍ يُذْكَرُ فِيهِ أَقْوَالُ أَحْمَد فِي الْأُصُولِ
الْفِقْهِيَّةِ . قَالَ المروذي : رَأَيْت أَبَا عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني
عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ كَانَ ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ
: كَانَ أَبُوهُ مُرْجِئًا أَوْ قَالَ : صَاحِبَ رَأْيٍ . وَأَمَّا أَبُو عَبْدِ
الرَّحِيمِ فَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَدْ كَانَ كَتَبَ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
مِنْ خُرَاسَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ الرِّسَالَةَ مِنْ
طَرِيقَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ وَجَوَابِ أَحْمَد :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْنَا وَإِلَيْك فِي
الْأُمُورِ كُلِّهَا وَسَلَّمْنَا وَإِيَّاكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ بِرَحْمَتِهِ
أَتَانِي كِتَابُك تَذْكُرُ مَا تَذْكُرُ مِنْ احْتِجَاجِ مَنْ احْتَجَّ مِنْ
الْمُرْجِئَةِ . وَاعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الدِّينِ
لَيْسَتْ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَنَّ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ
الْقُرْآنَ بِلَا سُنَّةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ أَوْ
أَثَرٍ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَيَعْرِفُ ذَلِكَ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَوْ عَنْ أَصْحَابِهِ فَهُمْ شَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَشَهِدُوا تَنْزِيلَهُ وَمَا قَصَّهُ اللَّهُ لَهُ فِي الْقُرْآنِ
وَمَا عُنِيَ بِهِ وَمَا أَرَادَ بِهِ أَخَاصٌّ هُوَ أَمْ
عَامٌّ
؟ فَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِلَا دَلَالَةٍ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
فَهَذَا تَأْوِيلُ أَهْلِ الْبِدَعِ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ خَاصَّةً
وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمًا عَامًّا وَيَكُونُ ظَاهِرُهَا عَلَى الْعُمُومِ
وَإِنَّمَا قُصِدَتْ لِشَيْءِ بِعَيْنِهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَرَادَ
وَأَصْحَابُهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنَّا لِمُشَاهَدَتِهِمْ الْأَمْرَ وَمَا
أُرِيدَ بِذَلِكَ فَقَدْ تَكُونُ الْآيَةُ خَاصَّةً ؛ أَيْ مَعْنَاهَا مِثْلُ
قَوْله تَعَالَى . { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } وَظَاهِرُهَا عَلَى الْعُمُومِ أَيْ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ
اسْمُ وَلَدٍ فَلَهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ فَجَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَرِثَ مُسْلِمٌ كَافِرًا . وَرُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ بِالثَّبْتِ - إلَّا
أَنَّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُوَرِّثُوا قَاتِلًا فَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ الْكِتَابِ
أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا قُصِدَتْ لِلْمُسْلِمِ لَا لِلْكَافِرِ وَمَنْ حَمَلَهَا
عَلَى ظَاهِرِهَا لَزِمَهُ أَنْ يُورِثَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَلَدِ
كَافِرًا كَانَ أَوْ قَاتِلًا وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ الْوَارِثِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ آيِ كَثِيرٍ يَطُولُ بِهَا الْكِتَابُ وَإِنَّمَا
اسْتَعْمَلَتْ الْأُمَّةُ السُّنَّةَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمِنْ أَصْحَابِهِ إلَّا مَنْ دَفَعَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ
وَالْخَوَارِجِ وَمَا يُشْبِهُهُمْ فَقَدْ رَأَيْت إلَى مَا خَرَجُوا .
قُلْت : لَفْظُ الْمُجْمَلِ وَالْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ كَانَ فِي اصْطِلَاحِ
الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ
وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ لَا يُرِيدُونَ بِالْمُجْمَلِ مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ كَمَا
فَسَّرَهُ بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ بَلْ الْمُجْمَلُ
مَا لَا يَكْفِي وَحْدَهُ فِي
الْعَمَلِ
بِهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ حَقًّا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } فَهَذِهِ الْآيَةُ
ظَاهِرُهَا وَمَعْنَاهَا مَفْهُومٌ لَيْسَتْ مِمَّا لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ بِهِ
؛ بَلْ نَفْسُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ لَا يَكْفِي وَحْدَهُ فِي الْعَمَلِ فَإِنَّ
الْمَأْمُورَ بِهِ صَدَقَةٌ تَكُونُ مُطَهِّرَةً مُزَكِّيَةً لَهُمْ هَذَا إنَّمَا
يُعْرَفُ بِبَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ
أَحْمَد يَحْذَرُ الْمُتَكَلِّمُ فِي الْفِقْهِ هَذَيْنِ " الْأَصْلَيْنِ
" : الْمُجْمَلُ وَالْقِيَاسُ . وَقَالَ : أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ
مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَلَّا يَحْكُمَ بِمَا
يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَامُّ وَالْمُطْلَقُ قَبْلَ النَّظَرِ فِيمَا يَخُصُّهُ
وَيُقَيِّدُهُ وَلَا يَعْمَلَ بِالْقِيَاسِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي دَلَالَةِ
النُّصُوصِ هَلْ تَدْفَعُهُ فَإِنَّ أَكْثَرَ خَطَأِ النَّاسِ تَمَسُّكُهُمْ بِمَا
يَظُنُّونَهُ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَالْقِيَاسِ ؛ فَالْأُمُورُ الظَّنِّيَّةُ
لَا يُعْمَلُ بِهَا حَتَّى يُبْحَثَ عَنْ الْمَعَارِضِ بَحْثًا يَطْمَئِنُّ
الْقَلْبُ إلَيْهِ وَإِلَّا أَخْطَأَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ
الْوَاقِعُ فِي الْمُتَمَسِّكِينَ بِالظَّوَاهِرِ وَالْأَقْيِسَةِ وَلِهَذَا
جُعِلَ الِاحْتِجَاجُ بِالظَّوَاهِرِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ طَرِيقَ أَهْلِ الْبِدَعِ .
وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ كَبِيرٌ .
وَكَذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِالْأَقْيِسَةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ النُّصُوصِ
وَالْآثَارِ طَرِيقُ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ قَوْلٍ ابْتَدَعَهُ
هَؤُلَاءِ قَوْلًا فَاسِدًا وَإِنَّمَا الصَّوَابُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا
وَافَقُوا فِيهِ السَّلَفَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ
وقَوْله تَعَالَى { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } سَمَّاهُ عَامًّا وَهُوَ
مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ يَعُمُّهَا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ كَمَا يَعُمُّ
قَوْلُهُ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } جَمِيعَ الرِّقَابِ لَا يَعُمُّهَا كَمَا
يَعُمُّ لَفْظُ الْوَلَدِ
لِلْأَوْلَادِ . وَمَنْ أَخَذَ بِهَذَا لَمْ يَأْخُذْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ الْقُرْآنِ بَلْ أَخَذَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ مِمَّا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ فَكَانَ الظُّهُورُ لِسُكُوتِ الْقُرْآنِ عَنْهُ لَا لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ ظَاهِرٌ فَكَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِظَاهِرِ مِنْ الْقَوْلِ لَا بِظَاهِرِ الْقَوْلِ ؛ وَعُمْدَتُهُمْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا عِلْمٌ بِمَا قُيِّدَ وَإِلَّا فَكَلُّ مَا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ وَأَظْهَرَهُ فَهُوَ حَقٌّ ؛ بِخِلَافِ مَا يَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ لِمَعْنَى آخَرَ غَيْرَ نَفْسِ الْقُرْآنِ يُسَمَّى ظَاهِرَ الْقُرْآنِ كَاسْتِدْلَالَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ . قَالَ أَحْمَد : وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْإِقْرَارُ فَمَا يَقُولُ فِي الْمَعْرِفَةِ ؟ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ ؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ ؟ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ شَيْئَيْنِ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا وَمُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ فَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ؛ وَإِنْ جَحَدَ وَقَالَ : لَا يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا وَلَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَدْفَعُ الْمَعْرِفَةَ وَالتَّصْدِيقَ وَكَذَلِكَ الْعَمَلَ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ . قُلْت أَحْمَد وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا أَصْلَ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ وَهُوَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَذْهَبُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ ؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا شَيْئًا وَاحِدًا فَلَا يَكُونُ ذَا عَدَدٍ : اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ عَدَدٌ أَمْكَنَ ذَهَابُ بَعْضِهِ وَبَقَاءُ بَعْضِهِ بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا شَيْئًا وَاحِدًا وَلِهَذَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة : إنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي الْقَلْبِ . وَقَالَتْ الكَرَّامِيَة : إنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ عَلَى اللِّسَانِ كُلُّ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ
تَبَعُّضِ الْإِيمَانِ وَتَعَدُّدِهِ فَلِهَذَا صَارُوا يُنَاظِرُونَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا وَاحِدًا كَمَا قُلْتُمْ . فَأَبُو ثَوْرٍ احْتَجَّ بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ " الْفُقَهَاءُ الْمُرْجِئَةُ " مِنْ أَنَّهُ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ وَلَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ قَوْلُ مُتَكَلِّمِيهِمْ وجهميتهم أَوْ لَمْ يَعُدْ خِلَافُهُمْ خِلَافًا وَأَحْمَد ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ مَعَ الْإِقْرَارِ وَقَالَ : إنَّ مَنْ جَحَدَ الْمَعْرِفَةَ وَالتَّصْدِيقَ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا فَإِنَّ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ قَبْلَ الكَرَّامِيَة مَعَ أَنَّ الكَرَّامِيَة لَا تُنْكِرُ وُجُوبَ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ وَلَكِنْ تَقُولُ : لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ حَذَرًا مِنْ تَبَعُّضِهِ وَتَعَدُّدِهِ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ بَلْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْقَلْبِ إيمَانٌ وَكِبْرٌ وَاعْتَقَدُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ . كَمَا ذَكَرَ هَذَا الْإِجْمَاعَ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ . وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ الَّتِي أَوْقَعَتْهُمْ مَعَ عِلْمِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَعِبَادَتِهِ وَحُسْنِ إسْلَامِهِ وَإِيمَانِهِ وَلِهَذَا دَخَلَ فِي " إرْجَاءِ الْفُقَهَاءِ " جَمَاعَةٌ هُمْ عِنْدَ الْأُمَّةِ أَهْلُ عِلْمٍ وَدِينٍ . وَلِهَذَا لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ أَحَدًا مِنْ " مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ " بَلْ جَعَلُوا هَذَا مِنْ بِدَعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ؛ لَا مِنْ بِدَعِ الْعَقَائِدِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النِّزَاعِ فِيهَا لَفْظِيٌّ لَكِنَّ اللَّفْظَ الْمُطَابِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ الصَّوَابُ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ بِخِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ أَهْلِ الْإِرْجَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَإِلَى ظُهُورِ الْفِسْقِ فَصَارَ ذَلِكَ الْخَطَأُ الْيَسِيرُ فِي اللَّفْظِ سَبَبًا لِخَطَأِ عَظِيمٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ فَلِهَذَا عَظُمَ الْقَوْلُ فِي ذَمِّ " الْإِرْجَاءِ " حَتَّى قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي : لَفِتْنَتُهِمْ - يَعْنِي الْمُرْجِئَةَ - أَخْوَفُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ فِتْنَةِ
الأزارقة
. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : مَا اُبْتُدِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةٌ أَضَرُّ
عَلَى أَهْلِهِ مِنْ الْإِرْجَاءِ . وَقَالَ الأوزاعي : كَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي
كَثِيرٍ وقتادة يَقُولَانِ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْأَهْوَاءِ أَخْوَفُ عِنْدَهُمْ
عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ الْإِرْجَاءِ . وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي - وَذَكَرَ
الْمُرْجِئَةَ فَقَالَ - : هُمْ أَخْبَثُ قَوْمٍ حَسْبُك بِالرَّافِضَةِ خُبْثًا
وَلَكِنَّ الْمُرْجِئَةَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ . وَقَالَ سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ : تَرَكَتْ الْمُرْجِئَةُ الْإِسْلَامَ أَرَقَّ مِنْ ثَوْبِ سابري
وَقَالَ قتادة : إنَّمَا حَدَثَ الْإِرْجَاءُ بَعْدَ فِتْنَةِ فِرْقَةِ ابْنِ
الْأَشْعَثِ . وَسُئِلَ مَيْمُونُ بْنُ مهران عَنْ كَلَامِ " الْمُرْجِئَةِ
" فَقَالَ : أَنَا أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
لِذَرِّ الهمداني : أَلَا تَسْتَحِي مِنْ رَأْيٍ أَنْتَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَقَالَ
أَيُّوبُ السختياني : أَنَا أَكْبَرُ مِنْ دِينِ الْمُرْجِئَةِ إنَّ أَوَّلَ مَنْ
تَكَلَّمَ فِي الْإِرْجَاءِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ
يُقَالُ لَهُ : الْحَسَنُ . وَقَالَ زاذان : أَتَيْنَا الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ
فَقُلْنَا : مَا هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي وَضَعْت ؟ وَكَانَ هُوَ الَّذِي
أَخْرَجَ كِتَابَ الْمُرْجِئَةِ فَقَالَ لِي : يَا أَبَا عُمَر لَوَدِدْت أَنِّي
كُنْت مُتّ قَبْلَ أَنْ أُخْرِجَ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ أَضَعَ هَذَا الْكِتَابَ
فَإِنَّ الْخَطَأَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ لَيْسَ كَالْخَطَأِ فِي اسْمِ مُحَدِّثٍ
؛ وَلَا كَالْخَطَأِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ إذْ كانت أَحْكَامُ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ
وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ .
وَأَحْمَد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَّقَ بَيْنَ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي فِي
الْقَلْبِ وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ فَإِنَّ تَصْدِيقَ
اللِّسَانِ هُوَ الْإِقْرَارُ ؛ وَقَدْ ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَهَذَا
يَحْتَمِلُ " شَيْئَيْنِ " يَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ تَصْدِيقِ
الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ وَهَذَا قَوْلُ
ابْن
كُلَّابٍ والقلانسي ، وَالْأَشْعَرِيُّ وَأَصْحَابُهُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ
مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَبَيْنَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ فَإِنَّ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ
قَوْلُهُ . وَقَوْلُ الْقَلْبِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمُ بَلْ نَوْعًا
آخَرُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد : هَلْ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ
الْإِقْرَارِ ؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ ؟
فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ فَقَدْ
زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ شَيْئَيْنِ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ
مُقِرًّا وَمُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ فَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فَإِنْ
جَحَدَ وَقَالَ : لَا يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ. فَقَدْ أَتَى
عَظِيمًا وَلَا أَحْسَبُ امْرَأً يَدْفَعُ الْمَعْرِفَةَ وَالتَّصْدِيقَ.
وَاَلَّذِينَ قَالُوا : الْإِيمَانُ هُوَ الْإِقْرَارُ . فَالْإِقْرَارُ
بِاللِّسَانِ يَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ بِاللِّسَانِ . وَالْمُرْجِئَةُ لَمْ
تَخْتَلِفْ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ فِيهِ التَّصْدِيقُ ؛ فَعُلِمَ
أَنَّهُ أَرَادَ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتَهُ مَعَ الْإِقْرَارِ
بِاللِّسَانِ ؛ إلَّا أَنْ يُقَالَ : أَرَادَ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ
جَمِيعًا مَعَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ ؛ وَمُرَادُهُ بِالْإِقْرَارِ
الِالْتِزَامُ لَا التَّصْدِيقُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ
قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا
قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } فَالْمِيثَاقُ
الْمَأْخُوذُ عَلَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَنْصُرُونَهُ وَقَدْ أُمِرُوا بِهَذَا
وَلَيْسَ هَذَا الْإِقْرَارُ تَصْدِيقًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يُخْبِرْهُمْ بِخَبَرِ ؛ بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ إذَا جَاءَهُمْ ذَلِكَ
الرَّسُولُ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَنْصُرُوهُ . فَصَدَّقُوا بِهَذَا
الْإِقْرَارِ وَالْتَزَمُوهُ فَهَذَا هُوَ إقْرَارُهُمْ . وَالْإِنْسَانُ قَدْ
يُقِرُّ لِلرَّسُولِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلْتَزِمُ مَا يَأْمُرُ بِهِ مَعَ غَيْرِ
مَعْرِفَةٍ وَمِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ لَهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ لَكِنْ لَمْ
يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ : إنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ يَكُونُ إيمَانًا .
بَلْ لَا بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنْ الْإِقْرَارِ الْخَبَرِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ يُقِرُّ لَهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا يُقِرُّ الْمُقِرُّ بِمَا يُقِرُّ بِهِ مِنْ الْحُقُوقِ وَلَفْظُ الْإِقْرَارِ يَتَنَاوَلُ الِالْتِزَامَ وَالتَّصْدِيقَ وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا وَقَدْ يُرَادُ بِالْإِقْرَارِ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ بِدُونِ الْتِزَامِ الطَّاعَةِ ؛ وَالْمُرْجِئَةُ تَارَةً يَجْعَلُونَ هَذَا هُوَ الْإِيمَانَ وَتَارَةً يَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ التَّصْدِيقَ وَالِالْتِزَامَ مَعًا هَذَا هُوَ الْإِقْرَارُ الَّذِي يَقُولُهُ فُقَهَاءُ الْمُرْجِئَةِ : إنَّهُ إيمَانٌ وَإِلَّا لَوْ قَالَ : أَنَا أُطِيعُهُ وَلَا أُصَدِّقُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ أُصَدِّقُهُ وَلَا أَلْتَزِمُ طَاعَتَهُ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا مُؤْمِنًا عِنْدَهُمْ . وَأَحْمَد قَالَ : لَا بُدَّ مَعَ هَذَا الْإِقْرَارِ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا وَأَنْ يَكُونَ عَارِفًا وَأَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : مُصَدِّقًا بِمَا أَقَرَّ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقٍ بَاطِنٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ التَّصْدِيقِ عِنْدَهُ يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا شَوَاهِدَهُ أَنَّهُ يُقَالُ : صَدَقَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فَيَكُونُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ عِنْدَهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ مَعَ مَعْرِفَةِ قَلْبِهِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ خَضَعَ لَهُ وَانْقَادَ ؛ فَصَدَّقَهُ بِقَوْلِ قَلْبِهِ وَعَمَلِ قَلْبِهِ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ مَعْرِفَةِ قَلْبِهِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ الِانْقِيَادِ لَهُ وَلِمَا جَاءَ بِهِ إمَّا حَسَدًا وَإِمَّا كِبْرًا وَإِمَّا لِمَحَبَّةِ دِينِهِ الَّذِي يُخَالِفُهُ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ إيمَانًا . وَلَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ عِلْمِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ فَأَرَادَ أَحْمَد بِالتَّصْدِيقِ أَنَّهُ مَعَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ صَارَ الْقَلْبُ مُصَدِّقًا لَهُ تَابِعًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ مُعَظِّمًا لَهُ فَإِنَّ هَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَمَنْ دَفَعَ هَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْإِيمَانِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَنْ دَفَعَ الْمَعْرِفَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْإِيمَانِ وَهَذَا أَشْبَهُ بِأَنْ
يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَد ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ انْقِيَادِ الْقَلْبِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ ظَاهِرٌ ثَابِتٌ بِدَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بَلْ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ نَازَعَ مِنْ الْجَهْمِيَّة فِي أَنَّ انْقِيَادَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ فَهُوَ كَمَنْ نَازَعَ مِنْ الكَرَّامِيَة فِي أَنَّ مَعْرِفَةَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ فَكَانَ حَمْلُ كَلَامِ أَحْمَد عَلَى هَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِكَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَبَيْن مُجَرَّدِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ الْخَالِي عَنْ الِانْقِيَادِ الَّذِي يَجْعَلُ قَوْلَ الْقَلْبِ ؛ أَمْرٌ دَقِيقٌ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُنْكِرُونَهُ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُوجِبَ شَيْئَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَتَصَوَّرُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ وَيَقُولُونَ : إنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيُّ مِنْ الْفَرْقِ كَلَامٌ بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اعْتَرَفَ بِعَدَمِ الْفَرْقِ وَعُمْدَتُهُمْ مِنْ الْحُجَّةِ إنَّمَا هُوَ خَبَرُ الْكَاذِبِ قَالُوا : فَفِي قَلْبِهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ عِلْمِهِ فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ . فَقَالَ لَهُمْ النَّاسُ : ذَاكَ بِتَقْدِيرِ خَبَرٍ وَعِلْمٍ لَيْسَ هُوَ عِلْمًا حَقِيقِيًّا وَلَا خَبَرًا حَقِيقِيًّا وَلِمَا أَثْبَتُوهُ مِنْ قَوْلِ الْقَلْبِ الْمُخَالِفِ لِلْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ إنَّمَا يَعُودُ إلَى تَقْدِيرِ عُلُومٍ وَإِرَادَاتٍ لَا إلَى جِنْسٍ آخَرَ يُخَالِفُهَا . وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُومَ بِقَلْبِهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ عِلْمِهِ ؛ وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ وَأَمَّا أَنَّهُ يَقُومُ بِقَلْبِهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ مَا يَعْلَمُهُ فَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُ الْكَذِبِ
بِذَاتِهِ لِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَيَمْتَنِعُ قِيَامُ مَعْنًى يُضَادُّ الْعِلْمَ بِذَاتِ الْعَالِمِ وَالْخَبَرُ النَّفْسَانِيُّ الْكَاذِبُ يُضَادُّ الْعِلْمَ . فَيُقَالُ لَهُمْ : الْخَبَرُ النَّفْسَانِيُّ لَوْ كَانَ خِلَافًا لِلْعِلْمِ لَجَازَ وُجُودُ الْعِلْمِ مَعَ ضِدِّهِ كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَهِيَ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَمُوَافِقُوهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَقْلِ وَغَيْرِهَا كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي مُحَمَّدِ ابْنِ اللَّبَّانِ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ شاذان وَأَبِي الطَّيِّبِ وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَيَقُولُونَ : الْعَقْلُ نَوْعٌ مِنْ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِضِدِّ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوْعًا مِنْهُ كَانَ خِلَافًا لَهُ وَلَوْ كَانَ خِلَافًا لَجَازَ وُجُودُهُ مَعَ ضِدِّ الْعَقْلِ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً - كَمَا ضَعَّفَهَا الْجُمْهُورُ وَأَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي مِمَّنْ ضَعَّفَهَا - فَإِنَّ مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ ضِدًّا لَهُ إذْ قَدْ اجْتَمَعَا وَلَيْسَ هُوَ مِنْ نَوْعِهِ ؛ بَلْ هُوَ خِلَافٌ لَهُ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ الَّذِي يُقَسِّمُونَ فِيهِ كُلَّ اثْنَيْنِ إلَى أَنْ يَكُونَا مِثْلَيْنِ أَوْ خِلَافَيْنِ أَوْ ضِدَّيْنِ فَالْمَلْزُومُ كَالْإِرَادَةِ مَعَ الْعِلْمِ أَوْ كَالْعِلْمِ مَعَ الْحَيَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ضِدًّا وَلَا مَثَلًا ؛ بَلْ هُوَ خِلَافٌ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ وُجُودُهُ مَعَ ضِدِّ اللَّازِمِ فَإِنَّ ضِدَّ اللَّازِمِ يُنَافِيه وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُحَالٌ كَوُجُودِ الْإِرَادَةِ بِدُونِ الْعِلْمِ وَالْعِلْمِ بِدُونِ الْحَيَاةِ فَهَذَانِ خِلَافَانِ عِنْدَهُمْ وَلَا يَجُوزُ وُجُودُ أَحَدِهِمَا مَعَ ضِدِّ الْآخَرِ . كَذَلِكَ الْعِلْمُ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَقْلِ فَكُلُّ عَالِمٍ عَاقِلٌ وَالْعَقْلُ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ فَلَيْسَ مِثْلًا لَهُ وَلَا ضِدًّا وَلَا نَوْعًا مِنْهُ وَمَعَ هَذَا لَا يَجُوزُ وُجُودُهُ مَعَ ضِدِّ الْعَقْلِ
لَكِنَّ
هَذِهِ الْحُجَّةَ تُقَالُ لَهُمْ فِي الْعِلْمِ مَعَ كَلَامِ النَّفْسِ الَّذِي
هُوَ الْخَبَرُ فَإِنَّهُ لَيْسَ ضِدًّا وَلَا مِثْلًا بَلْ خِلَافًا ؛ فَيَجُوزُ
وُجُودُ الْعِلْمِ مَعَ ضِدِّ الْخَبَرِ الصَّادِقِ وَهُوَ الْكَاذِبُ فَبَطَلَتْ
تِلْكَ الْحُجَّةُ عَلَى امْتِنَاعِ الْكَذِبِ النَّفْسَانِيِّ مِنْ الْعَالِمِ
وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ
إذَا رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ عُسِّرَ عَلَيْهِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ عِلْمِهِ بِأَنَّ
الرَّسُولَ صَادِقٌ وَبَيْنَ تَصْدِيقِ قَلْبِهِ تَصْدِيقًا مُجَرَّدًا عَنْ
انْقِيَادٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ بِأَنَّهُ صَادِقٌ .
ثُمَّ احْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ
بِحُجَجِ كَثِيرَةٍ فَقَالَ وَقَدْ { سَأَلَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَالَ : شَهَادَةُ
أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ
الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا خُمُسًا
مِنْ الْمَغْنَمِ } فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ . قَالَ : وَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ
الْإِيمَانِ } وَقَالَ : { أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا
} وَقَالَ . { إنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ } . وَقَالَ { الْإِيمَانُ
بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَأَرْفَعُهَا
قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } مَعَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا : {
أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ
} وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ
الْمُنَافِقِ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ } مَعَ حُجَجٍ
كَثِيرَةٍ . وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
تَارِكِ الصَّلَاةِ وَعَنْ أَصْحَابِهِ مِنْ بَعْدِهِ ثُمَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي كِتَابِهِ
مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِثْلَ قَوْلِهِ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } وَقَالَ : { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانًا } وَقَالَ : { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } وَقَالَ تَعَالَى { فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } وَقَالَ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } وَقَالَ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } . [ قَالَ أَحْمَد : وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ : هُوَ مُؤْمِنٌ بِإِقْرَارِهِ وَإِنْ أَقَرَّ بِالزَّكَاةِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَمْ يَجِدْ فِي كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةً أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ : إذَا أَقَرَّ ثُمَّ شَدَّ الزُّنَّارَ فِي وَسَطِهِ وَصَلَّى لِلصَّلِيبِ وَأَتَى الْكَنَائِسَ وَالْبِيَعَ وَعَمِلَ الْكَبَائِرَ كُلَّهَا إلَّا أَنَّهُ فِي ذَلِكَ مُقِرٌّ بِاَللَّهِ ؛ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مُؤْمِنًا وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ أَشْنَعِ مَا يَلْزَمُهُمْ ] (*) . " قُلْت " : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد مِنْ أَحْسَنِ مَا احْتَجَّ النَّاسُ بِهِ عَلَيْهِمْ جَمَعَ فِي ذَلِكَ يَقُولُ جُمَلًا يَقُولُ غَيْرُهُ بَعْضَهَا وَهَذَا الْإِلْزَامُ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ وَلِهَذَا لَمَّا عَرَفَ مُتَكَلِّمُهُمْ مِثْلُ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ لَازِمٌ الْتَزَمُوهُ ، وَقَالُوا : لَوْ فَعَلَ
مَا فَعَلَ مِنْ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ ؛ لَكِنْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْكُفْرِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَإِذَا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِنُصُوصِ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا فِي الْآخِرَةِ . قَالُوا : فَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْبَاطِنِ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ شَيْءٌ فَإِنَّهَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَخَالَفُوا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَصَرِيحَ الشَّرْعِ . وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ فَسَادِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا وَمَعَ كَوْنِهِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا يُثْبِتُ إيمَانًا ؛ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي وَحْدَةِ الرَّبِّ أَنَّهُ ذَاتٌ بِلَا صِفَاتٍ . وَقَالُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَمَا يَقُولُهُ ابْنُ كُلَّابٍ مِنْ وَحْدَةِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ . فَقَوْلُهُمْ فِي الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ يَرْجِعُ إلَى تَعْطِيلٍ مَحْضٍ وَهَذَا قَدْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَعَصِّبِينَ للجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ ؛ بَلْ وَلِلْمُرْجِئَةِ أَيْضًا ؛ لَكِنْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْحَقَائِقِ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْهَا الْبِدَعُ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ مِثْلَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَالِكِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَكَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ؛ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْل الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّة قَوْلَهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَصِفَاتِ الرَّبِّ وَكَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ
الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَلَوْ شَتَمَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ كَافِرًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا عِنْدَهُمْ كُلِّهِمْ وَمَنْ كَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ بِسَبَبِ انْتِصَارِ أَبِي الْحَسَنِ لِقَوْلِهِ فِي الْإِيمَانِ يَبْقَى تَارَةً يَقُولُ بِقَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَتَارَةً يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُوَافِقِينَ لِجَهْمِ ؛ حَتَّى فِي مَسْأَلَةِ سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ رَأَيْت طَائِفَةً مِنْ الْحَنْبَلِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ إذَا تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ قَالُوا : إنَّ هَذَا كُفْرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . وَإِذَا تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ أُولَئِكَ قَالُوا : هَذَا كُفْرٌ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا تَامَّ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَهُمْ لَا يَتَبَعَّضُ . وَلِهَذَا لَمَّا عَرَفَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنْكَرَهُ وَنَصَرَ قَوْلَ مَالِكٍ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَأَحْسَنَ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرْت بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي كِتَابِ " الصَّارِمِ الْمَسْلُولِ عَلَى شَاتِمِ الرَّسُولِ " وَكَذَلِكَ تَجِدُهُمْ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ يَذْكُرُونَ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ وَيَبْحَثُونَ بَحْثًا يُنَاسِبُ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة لِأَنَّ الْبَحْثَ أَخَذُوهُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ . وَالرَّازِي لَمَّا صَنَّفَ " مَنَاقِبَ الشَّافِعِيِّ " ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْإِيمَانِ . وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَمَنْ لَقِيَهُ اسْتَشْكَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ جِدًّا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ شُبْهَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الْإِيمَانِ : مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة والكَرَّامِيَة
وَسَائِرِ
الْمُرْجِئَةِ وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُرَكَّبَ إذَا زَالَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ
لَزِمَ زَوَالُهُ كُلُّهُ ؛ لَكِنْ هُوَ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا ظَاهِرَ شُبْهَتِهِمْ
. وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ هُوَ سَهْلٌ فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ لَهُ أَنَّ
الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لَمْ تَبْقَ مُجْتَمِعَةً كَمَا كَانَتْ ؛ لَكِنْ
لَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ بَعْضِهَا زَوَالُ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ .
وَالشَّافِعِيُّ مَعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ السَّلَفِ يَقُولُونَ
: إنَّ الذَّنْبَ يَقْدَحُ فِي كَمَالِ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا نَفَى الشَّارِعُ
الْإِيمَانَ عَنْ هَؤُلَاءِ فَذَلِكَ الْمَجْمُوعُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ لَمْ
يَبْقَ مَجْمُوعًا مَعَ الذُّنُوبِ لَكِنْ يَقُولُونَ بَقِيَ بَعْضُهُ : إمَّا
أَصْلٌ وَإِمَّا أَكْثَرُهُ وَإِمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَيَعُودُ الْكَلَامُ إلَى
أَنَّهُ يَذْهَبُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ . وَلِهَذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ
تَنْفِرُ مِنْ لَفْظِ النَّقْصِ أَعْظَمَ مِنْ نُفُورِهَا مِنْ لَفْظِ
الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَقَصَ لَزِمَ ذَهَابُهُ كُلُّهُ عِنْدَهُمْ إنْ
كَانَ مُتَبَعِّضًا مُتَعَدِّدًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ وَهُمْ
الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ . وَإِمَّا الْجَهْمِيَّة فَهُوَ وَاحِدٌ
عِنْدَهُمْ لَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ ؛ فَيُثْبِتُونَ وَاحِدًا لَا حَقِيقَةَ
لَهُ ؛ كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي وَحْدَانِيَّةِ الرَّبِّ وَوَحْدَانِيَّةِ
صِفَاتِهِ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهَا مِنْهُمْ
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذَا اعْتِقَادُهُمْ
أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْإِنْسَانِ بَعْضُ الْإِيمَانِ وَبَعْضُ الْكُفْرِ
أَوْ مَا هُوَ إيمَانٌ وَمَا هُوَ كُفْرٌ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ
فَلِأَجْلِ اعْتِقَادِهِمْ هَذَا الْإِجْمَاعَ وَقَعُوا فِيمَا هُوَ مُخَالِفٌ
لِلْإِجْمَاعِ الْحَقِيقِيِّ إجْمَاعِ
السَّلَفِ الَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ وَصَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكُفْرِ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ . وَلِهَذَا نَظَائِرُ مُتَعَدِّدَةٌ ؛ يَقُولُ الْإِنْسَانُ قَوْلًا مُخَالِفًا لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ حَقِيقَةً وَيَكُونُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَهَذَا إذَا كَانَ مَبْلَغُ عِلْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ ؛ فَاَللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى مَا أَطَاعَ اللَّهَ فِيهِ مِنْ اجْتِهَادِهِ وَيَغْفِرُ لَهُ مَا عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ مِنْ الصَّوَابِ الْبَاطِنِ وَهُمْ لَمَّا تَوَهَّمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ نَوْعٌ وَاحِدٌ ؛ صَارَ بَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ . فَقَالَ لِي مَرَّةً بَعْضُهُمْ : الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إيمَانٌ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ . فَقُلْت لَهُ : قَوْلُك مِنْ حَيْثُ هُوَ ؛ كَمَا تَقُولُ : الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إنْسَانٌ وَالْحَيَوَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَيَوَانٌ وَالْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ وَالسَّوَادُ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَوَادٌ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَالصِّفَاتِ ؛ فَتُثْبِتُ لِهَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ وُجُودًا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ وَالصِّفَاتِ وَهَذَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُقَدِّرُهُ الْإِنْسَانُ فِي ذِهْنِهِ كَمَا يُقَدِّرُ مَوْجُودًا لَا قَدِيمًا وَلَا حَادِثًا وَلَا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَيُقَدِّرُ إنْسَانًا لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا وَيَقُولُ : الْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ لَا تُوصَفُ بِوُجُودِ وَلَا عَدَمٍ وَالْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ شَيْءٌ يُقَدِّرُهُ الذِّهْنُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ . وَأَمَّا تَقْدِيرُ شَيْءٍ لَا يَكُونُ فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ فَمُمْتَنِعٌ وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ كَسَائِرِ تَقْدِيرِ الْأُمُورِ الْمُمْتَنِعَةِ ؛ مِثْلَ تَقْدِيرِ صُدُورِ الْعَالَمِ عَنْ صَانِعِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُقَدَّرَاتِ فِي الذِّهْنِ .
فَهَكَذَا تَقْدِيرُ إيمَانٍ لَا يَتَّصِفُ بِهِ مُؤْمِنٌ ؛ بَلْ هُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ . وَتَقْدِيرُ إنْسَانٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا ؛ بَلْ مَا ثَمَّ إيمَانٌ إلَّا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا ثَمَّ إنْسَانِيَّةٌ إلَّا مَا اتَّصَفَ بِهَا الْإِنْسَانُ ؛ فَكُلُّ إنْسَانٍ لَهُ إنْسَانِيَّةٌ تَخُصُّهُ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَهُ إيمَانٌ يَخُصُّهُ ؛ فَإِنْسَانِيَّةُ زَيْدٍ تُشْبِهُ إنْسَانِيَّةَ عُمَرَ وَلَيْسَتْ هِيَ هِيَ . وَإِذَا اشْتَرَكُوا فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمَا يَشْتَبِهَانِ فِيمَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ وَيَشْتَرِكَانِ فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ مُطْلَقٍ يَكُونُ فِي الذِّهْنِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : إيمَانُ زَيْدٍ مِثْلُ إيمَانِ عَمْرٍو ؛ فَإِيمَانُ كُلِّ وَاحِدٍ يَخُصُّهُ . فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَمَاثَلُ لَكَانَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إيمَانٌ يَخُصُّهُ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ مُخْتَصٌّ مُعَيَّنٌ لَيْسَ هُوَ الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ ؛ بَلْ هُوَ إيمَانٌ مُعَيَّنٌ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ . وَاَلَّذِينَ يَنْفُونَ التَّفَاضُلَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ يَتَصَوَّرُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ إيمَانًا مُطْلَقًا أَوْ إنْسَانًا مُطْلَقًا أَوْ وُجُودًا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمُعَيَّنَةِ لَهُ ثُمَّ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمَوْجُودُ فِي النَّاسِ وَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ وَلَا يَقْبَلُ فِي نَفْسِهِ التَّعَدُّدَ ؛ إذْ هُوَ تَصَوُّرٌ مُعَيَّنٌ قَائِمٌ فِي نَفْسِ مُتَصَوِّرِهِ . وَلِهَذَا يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمُشْتَرَكَةَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ هِيَ وَاحِدَةٌ بِالشَّخْصِ وَالْعَيْنِ . حَتَّى انْتَهَى الْأَمْرُ بِطَائِفَةِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ عِلْمًا وَعِبَادَةً إلَى أَنْ جَعَلُوا الْوُجُودَ كَذَلِكَ ؛ فَتَصَوَّرُوا أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ مُشْتَرِكَةٌ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَتَصَوَّرُوا هَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ فَظَنُّوهُ فِي الْخَارِجِ كَمَا هُوَ فِي أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّهُ اللَّهُ ؛ فَجَعَلُوا الرَّبَّ هُوَ هَذَا الْوُجُودُ الَّذِي لَا يُوجَدُ قَطُّ إلَّا فِي نَفْسِ مُتَصَوِّرِهِ ؛ وَلَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ .
وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ تَصَوَّرُوا أَعْدَادًا مُجَرَّدَةً وَحَقَائِقَ مُجَرَّدَةً وَيُسَمُّونَهَا الْمُثُلَ الْأَفْلاطونيَّةَ وَزَمَانًا مُجَرَّدًا عَنْ الْحَرَكَةِ وَالْمُتَحَرَّكِ وَبُعْدًا مُجَرَّدًا عَنْ الْأَجْسَامِ وَصِفَاتِهَا ثُمَّ ظَنُّوا وُجُودَ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَا فِي الْأَذْهَانِ بِمَا فِي الْأَعْيَانِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَجْعَلُونَ الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ وَالِاثْنَيْنِ وَاحِدًا ؛ فَتَارَةً يَجِيئُونَ إلَى الْأُمُورِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْمُتَفَاضِلَةِ فِي الْخَارِجِ فَيَجْعَلُونَهَا وَاحِدَةً أَوْ مُتَمَاثِلَةً وَتَارَةً يَجِيئُونَ إلَى مَا فِي الْخَارِجِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَيَجْعَلُونَ الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ . وَالْمُتَفَلسِفَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَقَعُوا فِي هَذَا وَهَذَا فَجَاءُوا إلَى صِفَاتِ الرَّبِّ الَّتِي هِيَ أَنَّهُ عَالِمٌ وَقَادِرٌ فَجَعَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ عَيْنُ الْأُخْرَى وَجَعَلُوا الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفُ . وَهَكَذَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ فِي بَنِي آدَمَ غَلِطُوا فِي كَوْنِهِ وَاحِدًا وَفِي كَوْنِهِ مُتَمَاثِلًا كَمَا غَلِطُوا فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ " التَّوْحِيدِ " و " الصِّفَاتِ " و " الْقُرْآنِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَكَانَ غَلَطُ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ فِي الْإِيمَانِ كَغَلَطِهِمْ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَفِي كَلَامِهِ وَصِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَكَذَلِكَ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ يَقْبَلُ الِاشْتِدَادَ وَالضَّعْفَ ؛ بَلْ عَامَّةُ الصِّفَاتِ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الْمَوْصُوفُونَ تَقْبَلُ التَّفَاضُلَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعَقْلُ يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ وَالْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمُ يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ فَيَكُونُ إيجَابٌ أَقْوَى مِنْ إيجَابٍ وَتَحْرِيمٌ أَقْوَى مِنْ تَحْرِيمٍ . وَكَذَلِكَ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ تَقْبَلُ التَّفَاضُلَ
عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَفِي هَذَا كُلِّهِ نِزَاعٌ فَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ تُنْكِرُ التَّفَاضُلَ فِي هَذَا كُلِّهِ كَمَا يَخْتَارُ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَد فِي التَّفَاضُلِ فِي الْمَعْرِفَةِ رِوَايَتَانِ . وَإِنْكَارُ التَّفَاضُلِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ هُوَ مِنْ جِنْسِ أَصْلِ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ وَلَكِنْ يَقُولُهُ مَنْ يُخَالِفُ الْمُرْجِئَةَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : التَّفَاضُلُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَعْمَالِ وَأَمَّا الْإِيمَانُ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ فَلَا يَتَفَاضَلُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوهُ بَلْ جَمِيعُ ذَلِكَ يَتَفَاضَلُ وَقَدْ يَقُولُونَ : إنَّ أَعْمَالَ الْقَلْبِ تَتَفَاضَلُ ؛ بِخِلَافِ مَعَارِفِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ إيمَانُ الْقُلُوبِ يَتَفَاضَلُ مِنْ جِهَةِ مَا وَجَبَ عَلَى هَذَا وَمِنْ جِهَةِ مَا وَجَبَ عَلَى هَذَا فَلَا يَسْتَوُونَ فِي الْوُجُوبِ . وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ الْإِيمَانُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ فَوُجُوبُ الْإِيمَانِ بِالشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَبْلُغَ الْعَبْدُ إنْ كَانَ خَبَرًا وَعَلَى أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ إنْ كَانَ أَمْرًا وَعَلَى الْعِلْمِ بِهِ إنْ كَانَ عِلْمًا وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ خَبَرٍ وَكُلَّ أَمْرٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَعْرِفُ مَعْنَاهُ وَيَعْلَمُهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ . فَالْوُجُوبُ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ النَّاسِ فِيهِ ؛ ثُمَّ قَدْرُهُمْ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ مُتَفَاوِتَةٌ ؛ ثُمَّ نَفْسُ الْمَعْرِفَةِ تَخْتَلِفُ بِالْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَدَوَامِ الْحُضُورِ وَمَعَ الْغَفْلَةِ فَلَيْسَتْ الْمُفَصَّلَةُ الْمُسْتَحْضَرَةُ الثَّابِتَةُ الَّتِي يُثَبِّتُ اللَّهُ صَاحِبَهَا بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ كَالْمُجْمَلَةِ الَّتِي غَفَلَ
عَنْهَا وَإِذَا حَصَلَ لَهُ مَا يُرِيبُهُ فِيهَا وَذَكَرَهَا فِي قَلْبِهِ ثُمَّ
رَغِبَ إلَى اللَّهِ فِي كَشْفِ الرَّيْبِ . ثُمَّ أَحْوَالُ الْقُلُوبِ
وَأَعْمَالُهَا مِثْلُ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ
وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالصَّبْرِ عَلَى حُكْمِهِ وَالشُّكْرِ لَهُ
وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لَهُ مَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ
فِيهَا تَفَاضُلًا لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ
أَنْكَرَ تَفَاضُلَهُمْ فِي هَذَا فَهُوَ إمَّا جَاهِلٌ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ
وَإِمَّا مُعَانِدٌ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ لَا
يَقْبَلُونَ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا
زِيَادَتُهُ وَأَنَّهَا غَيْرُ مَحْدُودَةٍ فَمَا يَقُولُونَ فِي أَنْبِيَاءِ
اللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ؟ هَلْ يُقِرُّونَ بِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ ؟
وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ فَإِذَا قَالُوا : نَعَمْ ؛ قِيلَ
لَهُمْ : هَلْ تَحْدُونَهُمْ وَتَعْرِفُونَ عَدَدَهُمْ ؟ أَلَيْسَ إنَّمَا
يَصِيرُونَ فِي ذَلِكَ إلَى الْإِقْرَارِ بِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ يَكُفُّونَ
عَنْ عَدَدِهِمْ ؟ فَكَذَلِكَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ . وَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ
كَوْنَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مُنْتَهَى زِيَادَتِهِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ
الْإِقْرَارِ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ ؛ كَمَا أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْأَنْبِيَاءِ
وَالْكُتُبِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ عَدَدَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ . وَهَذَا
الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَد وَذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَغَيْرُهُمَا
يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا عَدَدَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَأَنَّ
حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ سَوَّى بَيْنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَقَالَ : إنَّ
اللَّهَ سَمَّى الْإِيمَانَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِسْلَامَ ؛ وَسَمَّى
الْإِسْلَامَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِيمَانَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ قَدْ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِأَنَّهُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا أُمِرَ بِهِ يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهُ الْإِيمَانَ بِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ إسْلَامًا ؛ بَلْ إنَّمَا سَمَّى الْإِسْلَامَ الِاسْتِسْلَامَ لَهُ بِقَلْبِهِ وَقَصْدِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِمَا أُمِرَ بِهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ خَالِصًا لِوَجْهِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ إسْلَامًا وَجَعَلَهُ دِينًا وَقَالَ : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } وَلَمْ يُدْخِلْ فِيمَا خُصَّ بِهِ الْإِيمَانَ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ؛ بَلْ وَلَا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ جَعَلَهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَالْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ يَتَّصِفُ بِهَا وَلَيْسَ إذَا اتَّصَفَ بِهَا الْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ بَلْ هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَرْضٌ وَالْإِيمَانُ فَرْضٌ وَالْإِسْلَامُ دَاخِلٌ فِيهِ ؛ فَمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْمُتَنَاوَلِ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ وَمَنْ أَتَى بِمَا يُسَمَّى إسْلَامًا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ إلَّا بِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ كَمَا عُلِمَ أَنَّ مَنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ إلَى الْحَوَارِيِّينَ كُلِّهِمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا كَانُوا مُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ الْحَوَارِيُّونَ : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } وَقَالَ : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهَذَا وَبِهَذَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَعَمَلُهُ مَرْدُودٌ وَهُوَ خَاسِرٌ فِي الْآخِرَةِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ دِينِ الْإِسْلَامِ وَبُطْلَانَ مَا سِوَاهُ لَا يَقْتَضِي أَنَّ مُسَمَّى الدِّينِ هُوَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ ؛ بَلْ أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ : { آمَنَّا بِاللَّهِ } وَأُمِرْنَا أَنْ نَقُولَ { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فَأُمِرْنَا بِاثْنَيْنِ ؛ فَكَيْفَ نَجْعَلُهُمَا وَاحِدًا ؟ وَإِذَا جَعَلُوا الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا . فَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا : اللَّفْظُ مُتَرَادِفٌ فَيَكُونُ هَذَا تَكْرِيرًا مَحْضًا ثُمَّ مَدْلُولُ هَذَا اللَّفْظِ عَيْنُ مَدْلُولِ هَذَا اللَّفْظِ وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا : بَلْ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ غَيْرِ الصِّفَةِ الْأُخْرَى كَمَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَسْمَاءِ كِتَابِهِ ؛ لَكِنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِهِمَا جَمِيعًا وَلَكِنْ يَقْتَضِي أَنْ يُذْكَرَ تَارَةً بِهَذَا الْوَصْفِ وَتَارَةً بِهَذَا الْوَصْفِ ؛ فَلَا يَقُولُ قَائِلٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْك الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَهَذَا هُوَ هَذَا . وَالْعَطْفُ بِالصِّفَاتِ يَكُونُ إذَا قُصِدَ بَيَانُ الصِّفَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ ؛ كَقَوْلِهِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } لَا يُقَالُ : صَلِّ لِرَبِّك الْأَعْلَى وَلِرَبِّك الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ لَا يَفْتَرِقَانِ فَمَنْ صَدَّقَ بِاَللَّهِ فَقَدْ آمَنَ بِهِ وَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ فَقَدْ خَضَعَ لَهُ وَقَدْ أَسْلَمَ لَهُ ؛ وَمَنْ صَامَ وَصَلَّى وَقَامَ بِفَرَائِضِ اللَّهِ وَانْتَهَى عَمَّا
نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ الْمُفْتَرَضَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَنْ يَزُولَ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ وَلَا الْإِسْلَامُ إلَّا أَنَّهُ أَنْقَصُ مَنْ غَيْرِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ مَنْ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَ حَقٌّ لَا بَاطِلٌ وَصِدْقٌ لَا كَذِبٌ وَلَكِنْ يَنْقُصُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَخُضُوعٌ لِلْهَيْبَةِ وَالْجَلَالِ وَالطَّاعَةِ لِلْمُصَدِّقِ بِهِ وَهُوَ اللَّهُ فَمِنْ ذَلِكَ يَكُونُ النُّقْصَانُ لَا مِنْ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَ صِدْقٌ . فَيُقَالُ : مَا ذَكَرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ ؛ وَهَذَا حَقٌّ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَنْ أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ فَقَوْلُهُ : مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ فَقَدْ خَضَعَ لَهُ وَقَدْ اسْتَسْلَمَ لَهُ حَقٌّ ؛ لَكِنْ أَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ وَخَضَعَ لَهُ فَقَدْ آمَنَ بِهِ وَبِمَلَائِكَتِهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ؟ وَقَوْلُهُ : إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ لَا يَفْتَرِقَانِ إنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَهُمَا جَمِيعًا وَنَهَى عَنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَهَذَا حَقٌّ ؛ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُسَمَّى هَذَا مُسَمَّى هَذَا فَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تُخَالِفُ ذَلِكَ وَمَا ذَكَرَ قَطُّ نَصًّا وَاحِدًا يَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَانْتَهَى عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ فَهَذَا صَحِيحٌ إذَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَيَكُونُ قَدْ اُسْتُكْمِلَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إيمَانُهُ وَإِسْلَامُهُ مُسَاوِيًا لِلْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الَّذِي فَعَلَهُ أُولُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ كَالْخَلِيلِ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ
خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَلْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِ . وَقَوْلُهُ : مَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَنْ يَزُولَ عَنْهُ اسْمُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ إلَّا أَنَّهُ أَنْقَصُ مِنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ . فَيُقَالُ : إنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ بَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَهَذَا حَقٌّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِلَا تَقْيِيدِ مُؤْمِنٍ وَمُسْلِمٍ فِي سِيَاقِ الثَّنَاءِ وَالْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ ؛ فَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَدَخَلُوا فِي قَوْلِهِ : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا وُعِدُوا فِيهِ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ . وَأَيْضًا : فَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ نَفَى عَنْهُمْ الِاسْمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بَلْ قَالَ : { قِتَالُ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ } وَقَالَ : { لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } وَإِذَا احْتَجَّ بِقَوْلِهِ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } وَنَحْوِ ذَلِكَ قِيلَ : كُلُّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا سُمُّوا بِهِ مَعَ التَّقْيِيدِ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا هَذِهِ الْأُمُورَ لِيُذْكَرَ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ هُمْ وَمَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُمْ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : لَا يَكُونُ النُّقْصَانُ مِنْ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَهُ صِدْقٌ فَيُقَالُ : بَلْ النُّقْصَانُ يَكُونُ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ وَمَنْ عَلَّمَهُمْ فَلَا تَكُونُ مَعْرِفَتُهُمْ وَتَصْدِيقُهُمْ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ كَمَعْرِفَةِ غَيْرِهِمْ وَتَصْدِيقِهِ ؛ لَا مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ وَلَا مِنْ
جِهَةِ
الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الذِّكْرِ وَالْغَفْلَةِ وَهَذِهِ
الْأُمُورُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِمَا أَرْسَلَ بِهِ
رَسُولَهُ وَكَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ
مُتَمَاثِلًا فِي الْقُلُوبِ أَمْ كَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ شَدِيدُ الْعِقَابِ ؛ لَيْسَ هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ
مُسْلِمًا أَنْ يَقُولَ : إنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ
وَلَا يَدَّعِي تَمَاثُلَ النَّاسِ فِيهِ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَنْقُصُ كَمَا يَنْقُصُ
الْإِيمَانُ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ
الصَّحِيحَةُ ؛ فَإِنَّ مَنْ نَقَصَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَوْ الصَّوْمِ
أَوْ الْحَجِّ شَيْئًا فَقَدْ نَقَصَ مِنْ إسْلَامِهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَمَنْ
قَالَ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَةُ فَقَطْ وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ
لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَقَوْلُهُ خَطَأٌ . وَرَدُّ الَّذِينَ جَعَلُوا الْإِسْلَامَ
وَالْإِيمَانَ سَوَاءٌ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ إلَى هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ
فِي الْإِسْلَامِ يُشْبِهُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ فِي الْإِيمَانِ . وَلِهَذَا
صَارَ النَّاسُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ
" فَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ : الْإِسْلَامُ أَفْضَلُ ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ
فِيهِ الْإِيمَانُ . وَآخَرُونَ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ سَوَاءٌ
وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ
وَالسُّنَّةِ وَحَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ جُمْهُورِهِمْ وَلَيْسَ
كَذَلِكَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّ الْإِيمَانَ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَهَذَا
هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهُوَ
الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ .
ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْإِسْلَامُ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كُلُّهَا وَأَحْمَد إنَّمَا مَنَعَ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ : هُوَ الْكَلِمَةُ . هَكَذَا نَقَلَ الْأَثْرَمُ وَالْمَيْمُونِيَّ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ . وَأَمَّا عَلَى جَوَابِهِ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَخْتَرْ فِيهِ قَوْلَ مَنْ قَالَ : الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ فَيُسْتَثْنَى فِي الْإِسْلَامِ كَمَا يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ كُلَّ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ . وَإِذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } و { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ } فَجَزْمُهُ بِأَنَّهُ فِعْلُ الْخَمْسِ بِلَا نَقْصٍ كَمَا أُمِرَ كَجَزْمِهِ بِإِيمَانِهِ . فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } أَيْ الْإِسْلَامِ كَافَّةً أَيْ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ . وَتَعْلِيلُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ مَا ذَكَرُوهُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ يَجِيءُ فِي اسْمِ الْإِسْلَامِ فَإِذَا أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ الْكَلِمَةُ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ كُلِّهَا فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ كَالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ صَارَ مُسْلِمًا مُتَمَيِّزًا عَنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ هَذَا مِمَّا يَجْزِمُ بِهِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ فِيهِ فَلِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ : الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ . وَعَلَى ذَلِكَ وَافَقَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَحِينَ وَافَقَهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْوَاجِبَ هُوَ الْكَلِمَةُ وَحْدَهَا فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ أَجَلُّ مَنْ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا أَحْمَد لَمْ يُجِبْ بِهَذَا فِي جَوَابِهِ الثَّانِي خَوْفًا مِنْ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ هُوَ إلَّا الْكَلِمَةَ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ الْأَثْرَمُ
لِأَحْمَدَ : فَإِذَا قَالَ : أَنَا مُسْلِمٌ فَلَا يَسْتَثْنِي ؟ قَالَ نَعَمْ : لَا يَسْتَثْنِي إذَا قَالَ : أَنَا مُسْلِمٌ . فَقُلْت لَهُ أَقُولُ : هَذَا مُسْلِمٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ فَذَكَرَ حَدِيثَ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ . فَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ الْإِسْلَامَ إذَا كَانَ هُوَ الْكَلِمَةَ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهَا فَحَيْثُ كَانَ هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْ لَفْظِ الْإِسْلَامِ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ وَلَوْ أُرِيدَ بِالْإِيمَانِ هَذَا كَمَا يُرَادُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } فَإِنَّمَا أُرِيدَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي عُلِّقَتْ بِهِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا هُوَ الْإِيمَانُ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ فِي الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْأَثْرَمُ لِأَحْمَدَ احْتِجَاجَ الْمُرْجِئَةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } أَجَابَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ حُكْمُهَا فِي الدُّنْيَا حُكْمُ الْمُؤْمِنَةِ ؛ لَمْ يُرِدْ أَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَسْتَحِقُّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِلَا نَارٍ إذَا لَقِيته بِمُجَرَّدِ هَذَا الْإِقْرَارِ وَهَذَا هُوَ الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ الْمَوْعُودُ بِالْجَنَّةِ بِلَا نَارٍ إذَا مَاتَ عَلَى إيمَانِهِ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ يُلْزِمُونَ مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ أَنْ يَشْهَدَ لَهَا بِالْجَنَّةِ ؛ يَعْنُونَ إذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ عَرَفَ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا . فَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ : أَنَا مُؤْمِنٌ قَطْعًا وَأَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ . قِيلَ لَهُ : فَاقْطَعْ بِأَنَّك تَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا عَذَابٍ إذَا مُتّ عَلَى هَذَا الْحَالِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ
فِي الْجَنَّةِ . وَأَنْكَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثَ ابْنِ عَمِيرَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجَعَ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ ؛ فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا قِيلَ لَهُ : إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ : إنَّا مُؤْمِنُونَ فَقَالَ : أَفَلَا سَأَلْتُمُوهُمْ أَفِي الْجَنَّةِ هُمْ ؟ وَفِي رِوَايَةٍ : أَفَلَا قَالُوا : نَحْنُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ لَهُ : إنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ ؛ قَالَ : فَاسْأَلُوهُ أَفِي الْجَنَّةِ هُوَ أَوْ فِي النَّارِ ؟ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ : اللَّهُ أَعْلَمُ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ : فَهَلَّا وَكَلْت الْأُولَى كَمَا وَكَلْت الثَّانِيَةَ ؟ مَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ : أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ وَمَنْ قَالَ : هُوَ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي النَّارِ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ وُجُوهٍ مُرْسَلًا مِنْ حَدِيثِ قتادة وَنُعَيْمِ ابْنِ أَبِي هِنْدٍ وَغَيْرِهِمَا . وَالسُّؤَالُ الَّذِي تُورِدُهُ الْمُرْجِئَةُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَيَقُولُونَ : إنَّ يَزِيدَ بْنَ عَمِيرَةَ أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ جَعَلَ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ حَالَهُ الْآنَ وَمَا يَدْرِي مَاذَا يَمُوتُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا السُّؤَالِ صَارَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ يَقُولُونَ : الْمُؤْمِنُ هُوَ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُخْتَمُ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَالْكَافِرُ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ كَافِرٌ وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا يَجْعَلُونَ الِاسْتِثْنَاءَ وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ وَأَصْحَابِهِ . وَلَكِنَّ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ السَّلَفِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَقْصُودَهُمْ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْمَأْمُورَاتِ . فَقَوْلُهُ : أَنَا مُؤْمِنٌ . كَقَوْلِهِ : أَنَا وَلِيُّ اللَّهِ وَأَنَا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَأَنَا مِنْ الْأَبْرَارِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ عَلَى مَاذَا يَمُوتُ
فَإِنَّ
ابْنَ مَسْعُودٍ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ : سَلُوهُ هَلْ
هُوَ فِي الْجَنَّةِ إنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ ؟ كَأَنَّهُ قَالَ : سَلُوهُ
أَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ ؟ فَلَمَّا قَالَ :
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : أَفَلَا وَكَلْت الْأُولَى كَمَا وَكَلْت
الثَّانِيَةَ . يَقُولُ : هَذَا التَّوَقُّفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّك لَا تَشْهَدُ
لِنَفْسِك بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ . فَإِنَّهُ مَنْ
شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ شَهِدَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إنْ
مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَلِهَذَا صَارَ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ الِاسْتِثْنَاءَ
لِأَجْلِ الْحَالِ الْحَاضِرِ بَلْ لِلْمُوَافَاةِ لَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّ اللَّهَ
يَقْبَلُ تَوْبَةَ تَائِبٍ كَمَا لَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يُعَاقِبُ مُذْنِبًا فَإِنَّهُمْ لَوْ قَطَعُوا بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ لَزِمَهُمْ
أَنْ يَقْطَعُوا لَهُ الْجَنَّةَ وَهُمْ لَا يَقْطَعُونَ لِأَحَدِ مِنْ أَهْلِ
الْقِبْلَةِ لَا بِجَنَّةِ وَلَا نَارٍ ؛ إلَّا مَنْ قَطَعَ لَهُ النَّصُّ .
وَإِذَا قِيلَ : الْجَنَّةُ هِيَ لِمَنْ أَتَى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ مِنْ
جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ . قَالُوا : وَلَوْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ التَّوْبَةِ لَمْ
يُقْطَعْ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَهُمْ لَا يَسْتَثْنُونَ فِي الْأَحْوَالِ بَلْ
يَجْزِمُونَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ وَلَكِنَّ
عِنْدَهُمْ الْإِيمَانَ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ مَا يُوَافِي بِهِ فَمَنْ قَطَعُوا
لَهُ بِأَنَّهُ مَاتَ مُؤْمِنًا لَا ذَنْبَ لَهُ قَطَعُوا لَهُ بِالْجَنَّةِ
فَلِهَذَا لَا يَقْطَعُونَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ لِئَلَّا يَلْزَمُهُمْ أَنْ
يَقْطَعُوا بِالْجَنَّةِ وَأَمَّا أَئِمَّةُ السَّلَفِ فَإِنَّمَا لَمْ يَقْطَعُوا
بِالْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّهُ فَعَلَ الْمَأْمُورَ وَتَرَكَ
الْمَحْظُورَ وَلَا أَنَّهُ أَتَى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَإِلَّا فَهُمْ
يَقْطَعُونَ بِأَنَّ مَنْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ .
وَجِمَاعُ الْأَمْرِ أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ يُنْفَى وَيُثْبَتُ بِحَسَبِ
الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فَلَا يَجِبُ إذَا أُثْبِتَ أَوْ نُفِيَ فِي
حُكْمِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ وَهَذَا فِي
كَلَامِ الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ . مِثَالُ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ قَدْ يُجْعَلُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعٍ ؛ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُقَالُ : مَا هُمْ مِنْهُمْ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَلِيلًا } { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } فَهُنَالِكَ جَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْخَائِفِينَ مِنْ الْعَدُوِّ النَّاكِلِينَ عَنْ الْجِهَادِ النَّاهِينَ لِغَيْرِهِمْ الذَّامِّينَ لِلْمُؤْمِنِينَ : مِنْهُمْ . وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } وَهَؤُلَاءِ ذَنْبُهُمْ أَخَفُّ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُؤْذُوا الْمُؤْمِنِينَ لَا بِنَهْيٍ وَلَا سَلْقٍ بِأَلْسِنَةِ حِدَادٍ وَلَكِنْ حَلَفُوا بِاَللَّهِ إنَّهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْبَاطِنِ بِقُلُوبِهِمْ وَإِلَّا فَقَدْ عَلِمَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ فِي الظَّاهِرِ فَكَذَّبَهُمْ اللَّهُ وَقَالَ : { وَمَا هُمْ مِنْكُمْ } وَهُنَاكَ قَالَ : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ } فَالْخِطَابُ لِمَنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِأَنَّ مِنْكُمْ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بَلْ أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ فَهُوَ مِنْكُمْ فِي الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ . وَلِهَذَا لَمَّا اُسْتُؤْذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ قَالَ : { لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ } فَإِنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الظَّاهِرِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُهُ لَيْسَ فِيهِمْ نِفَاقٌ
كَاَلَّذِينَ عَلَّمُوا سُنَّتَهُ النَّاسَ وَبَلَّغُوهَا إلَيْهِمْ وَقَاتَلُوا الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاَلَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَأَهْلُ بَدْرٍ وَغَيْرُهُمْ بَلْ الَّذِينَ كَانُوا مُنَافِقِينَ غَمَرَتْهُمْ النَّاسُ . وَكَذَلِكَ الْأَنْسَابُ مِثْلَ كَوْنِ الْإِنْسَانِ أَبًا لِآخَرَ أَوْ أَخَاهُ يَثْبُتُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ ؛ [ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ { لَمَّا اخْتَصَمَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زمعة بْنِ الْأَسْوَدِ فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زمعة ] (*) وَكَانَ عتبة بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ فَجَرَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا فَقَالَ عتبة لِأَخِيهِ سَعْدٍ : إذَا قَدِمْت مَكَّةَ فَانْظُرْ ابْنَ وَلِيدَةِ زمعة فَإِنَّهُ ابْنِي فَاخْتَصَمَ فِيهِ هُوَ وَعَبْدُ بْنُ زمعة إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عتبة عَهِدَ إلَيَّ أَخِي عتبة فِيهِ إذَا قَدِمْت مَكَّةَ اُنْظُرْ إلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زمعة فَإِنَّهُ ابْنِي أَلَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ شَبَهَهُ بعتبة ؟ فَقَالَ عَبْدٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي ؛ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي فَرَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَهًا بَيِّنًا بعتبة فَقَالَ : هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زمعة الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ } لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ الْبَيِّنِ بعتبة . فَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ زمعة لِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَجَعَلَهُ أَخًا لِوَلَدِهِ بِقَوْلِهِ : { فَهُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زمعة } وَقَدْ صَارَتْ سَوْدَةُ أُخْتَه يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ ؛ لِأَنَّهُ ابْن أَبِيهَا زمعة وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ . وَمَعَ هَذَا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ الْبَيِّنِ بعتبة فَإِنَّهُ قَامَ فِيهِ دَلِيلَانِ مُتَعَارِضَانِ : الْفِرَاشُ وَالشَّبَهُ وَالنَّسَبُ فِي الظَّاهِرِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ أَقْوَى وَلِأَنَّهَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ مُبَاحٌ وَالْفُجُورُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُعْلَمُ وَيَجِبُ سَتْرُهُ لَا إظْهَارُهُ كَمَا قَالَ : { لِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } كَمَا يُقَالُ : بِفِيك الكَثْكَث (1) وَبِفِيك الأثلبَ (2) أَيْ : عَلَيْك أَنْ تَسْكُتَ عَنْ إظْهَارِ الْفُجُورِ فَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ ذَلِكَ وَلَمَّا كَانَ احْتِجَابُهَا مِنْهُ مُمْكِنًا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ لِمَا ظَهَرَ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَخَاهَا فِي الْبَاطِنِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ يُنْفَى فِي حُكْمٍ وَيَثْبُتُ فِي حُكْمٍ . فَهُوَ أَخٌ فِي الْمِيرَاثِ وَلَيْسَ بِأَخٍ فِي المحرمية . وَكَذَلِكَ وَلَدُ الزِّنَا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ إلَّا مَنْ شَذَّ ؛ لَيْسَ بِوَلَدِ فِي الْمِيرَاثِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ وَلَدٌ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ والمحرمية . وَلَفْظُ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ فِي الْأَمْرِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْوَطْءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } وَقَوْلُهُ : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَفِي النَّهْيِ يَعُمُّ النَّاقِصَ وَالْكَامِلَ ؛ فَيَنْهَى عَنْ الْعَقْدِ مُفْرَدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطْءٌ كَقَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } وَهَذَا لِأَنَّ الْآمِرَ مَقْصُودُهُ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ وَتَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِالدُّخُولِ كَمَا لَوْ قَالَ : اشْتَرِ لِي طَعَامًا ؛ فَالْمَقْصُودُ مَا يَحْصُلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ وَالنَّاهِي مَقْصُودُهُ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ فَيَدْخُلُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ مَفْسَدَةٌ
وَكَذَلِكَ
النَّسَبُ وَالْمِيرَاثُ مُعَلَّقٌ بِالْكَامِلِ مِنْهُ وَالتَّحْرِيمُ مُعَلَّقٌ
بِأَدْنَى سَبَبٍ حَتَّى الرَّضَاعِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَكُونُ لَهُ
مُبْتَدَأٌ وَكَمَالٌ يُنْفَى تَارَةً بِاعْتِبَارِ انْتِفَاءِ كَمَالِهِ وَيَثْبُتُ
تَارَةً بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ مَبْدَئِهِ . فَلَفْظُ الرِّجَالِ يَعُمُّ
الذُّكُورَ وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَإِنْ كَانُوا
إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } وَلَا
يَعُمُّ الصِّغَارَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ
هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا } فَإِنَّ بَابَ الْهِجْرَةِ
وَالْجِهَادِ عَمَلٌ يَعْمَلُهُ الْقَادِرُونَ عَلَيْهِ فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى
ذِكْرِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ لَظُنَّ أَنَّ الْوِلْدَانَ غَيْرُ
دَاخِلِينَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِهِ وَهُمْ ضُعَفَاءُ فَذَكَرَهُمْ
بِالِاسْمِ الْخَاصِّ لِيُبَيِّنَ عُذْرَهُمْ فِي تَرْكِ الْهِجْرَةِ وَوُجُوبِ
الْجِهَادِ . وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَهُ مَبْدَأٌ وَكَمَالٌ وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ
فَإِذَا عُلِّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ الْحُقُوقِ
وَالْحُدُودِ كَحَقْنِ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْمَوَارِيثِ وَالْعُقُوبَاتِ
الدُّنْيَوِيَّةِ عُلِّقَتْ بِظَاهِرِهِ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ إذْ تَعْلِيقُ
ذَلِكَ بِالْبَاطِنِ مُتَعَذِّرٌ ؛ وَإِنْ قُدِّرَ أَحْيَانًا فَهُوَ مُتَعَسِّرٌ
عِلْمًا وَقُدْرَةً ؛ فَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ عِلْمًا يَثْبُتُ بِهِ فِي الظَّاهِرِ
وَلَا يُمْكِنُ عُقُوبَةُ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ .
وَبِهَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَمْتَنِعُ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُنَافِقِينَ ؛ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ
يَعْرِفُهُمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ ؛ وَاَلَّذِينَ كَانَ يَعْرِفُهُمْ
لَوْ عَاقَبَ بَعْضَهُمْ لَغَضِبَ لَهُ قَوْمُهُ ؛ وَلَقَالَ النَّاسُ : إنَّ
مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ؛ فَكَانَ يَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ
نُفُورٌ
عَنْ الْإِسْلَامِ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ الذَّنْبُ ظَاهِرًا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي
مَعْرِفَتِهِ . وَلَمَّا هَمَّ بِعُقُوبَةِ مَنْ يَتَخَلَّفُ عَنْ الصَّلَاةِ
مَنَعَهُ مَنْ فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَأَمَّا
مَبْدَؤُهُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِذَا قَالَ
اللَّهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ }
وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ أَمْرٌ فِي الظَّاهِرِ لِكُلِّ مَنْ أَظْهَرَهُ وَهُوَ
خِطَابٌ فِي الْبَاطِنِ لِكُلِّ مَنْ عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ
لِلرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبَاتِ
الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَفْظُ : { الَّذِينَ
آمَنُوا } يَتَنَاوَلُهُمْ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ
فَذَاكَ لِذُنُوبِهِمْ فَلَا تَكُونُ ذُنُوبُهُمْ مَانِعَةً مِنْ أَمْرِهِمْ
بِالْحَسَنَاتِ الَّتِي إنْ فَعَلُوهَا كَانَتْ سَبَبَ رَحْمَتِهِمْ وَإِنْ
تَرَكُوهَا كَانَ أَمْرُهُمْ بِهَا وَعُقُوبَتُهُمْ عَلَيْهَا عُقُوبَةً عَلَى
تَرْكِ الْإِيمَانِ وَالْكَافِرُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا لَكِنْ لَا يَصِحُّ
مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِي
الْبَاطِنِ حَتَّى يُؤْمِنَ .
وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ أَوَّلَ الْإِيمَانِ فَهَذَا يَصِحُّ مِنْهُ لِأَنَّ
مَعَهُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاطِنِ بِوُجُوبِ مَا أَوْجَبَهُ الرَّسُولُ
وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ وَهَذَا سَبَبُ الصِّحَّةِ وَأَمَّا كَمَالِهِ
فَيَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ وَالنُّصْرَةِ وَالسَّلَامَةِ
مِنْ النَّارِ فَإِنَّ هَذَا الْوَعْدَ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ
وَتَرَكَ الْمَحْظُورَ وَمَنْ فَعَلَ بَعْضًا وَتَرَكَ بَعْضًا فَيُثَابُ عَلَى
مَا فَعَلَهُ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَهُ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِي اسْمِ
الْمُؤْمِنِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ دُونَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ
. وَمَنْ نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ فَنَفَى الْإِيمَانَ فِي هَذَا
الْحُكْمِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ . وَالْوَعِيدُ إنَّمَا
يَكُونُ بِنَفْيِ مَا يَقْتَضِي الثَّوَابَ وَيَدْفَعُ الْعِقَابَ وَلِهَذَا مَا
فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَفْيِ الْإِيمَانِ
عَنْ أَصْحَابِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا هُوَ فِي خِطَابِ الْوَعِيدِ وَالذَّمِّ لَا فِي خِطَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا . وَاسْمُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ هِيَ أَسْمَاءٌ مَمْدُوحَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا لِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ لِأَهْلِهَا فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ الْحَسَنَةَ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ ؛ أَوْ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ جَمِيعًا وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ كُفَّارًا إنَّمَا نَفَى ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الثَّوَابُ لَمْ يَنْفِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا . لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ ظَنَّتْ أَنَّهُ إذَا انْتَفَى الِاسْمُ انْتَفَتْ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ فَلَمْ يَجْعَلُوا مَعَهُمْ شَيْئًا مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَجَعَلُوهُمْ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ لَكِنْ كَانُوا كَالْمُنَافِقِينَ . وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُنَافِقِ الَّذِي يُكَذِّبُ الرَّسُولَ فِي الْبَاطِنِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ الْمُذْنِبِ فَالْمُعْتَزِلَةُ سَوَّوْا بَيْنَ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي نَفْيِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ عَنْهُمْ بَلْ قَدْ يُثْبِتُونَهُ لِلْمُنَافِقِ ظَاهِرًا وَيَنْفُونَهُ عَنْ الْمُذْنِبِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمًا وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا - الْإِيمَانَ الْكَامِلَ - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَعَ الْقُرْآنِ وَكَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَمَّنْ ذَكَرَ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الطَّاعَاتُ الظَّاهِرَةُ وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ لِأَنَّ " الْإِسْلَامَ فِي الْأَصْلِ " هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ
وَهَذَا هُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ وَالْإِيمَانُ فِيهِ مَعْنَى التَّصْدِيقِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَتَرَكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مُخْلِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ؟ أَلَيْسَ هَذَا مُسْلِمًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا . قُلْنَا : قَدْ ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ إذْ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ لَكَانَ مُعَرَّضًا لِلْوَعِيدِ ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يُخَاطِبْ بِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْمَوْصُوفَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَالْإِسْلَامَ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بَلْ وَلَا أَوْجَبَا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ أَهْلَ الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مُسْلِمُونَ وَمَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ دِينًا غَيْرَهُ ؛ وَهُوَ دِينُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ والآخرين لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِمَا أَمَرَ فَقَدْ تَتَنَوَّعُ أَوَامِرُهُ فِي الشَّرِيعَةِ الْوَاحِدَةِ فَضْلًا عَنْ الشَّرَائِعِ فَيَصِيرُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْضُ الْإِيمَانِ بِمَا يَخْرُجُ عَنْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَالصَّلَاةِ إلَى الصَّخْرَةِ كَانَ مِنْ الْإِسْلَامِ حِين كَانَ اللَّهُ أَمَرَ بِهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ لِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَمْ تَجِبْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَلْ الصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَفَرَائِضُ الزَّكَاةِ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالْمَدِينَةِ ؛ وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ إنَّمَا
وَجَبَتْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ ؛ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَجِّ لِتَأَخُّرِ وُجُوبِهِ إلَى سَنَةِ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ؛ وَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَنْ اتَّبَعَهُ وَآمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا ؛ وَإِذَا مَاتَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ هَذَا زَادَ " الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ " حَتَّى قَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ فَإِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ الْمُفَصَّلَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الْعَلَقِ وَالْمُدَّثِّرِ بَلْ إنَّمَا جَاءَ هَذَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ كَالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِيمَانُ الْمُفَصَّلُ وَاجِبًا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلَنَا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُسْلِمًا يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَمَعَهُ الْإِيمَانُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَيْسَ مَعَهُ هَذَا الْإِيمَانُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَكِنَّ هَذَا يُقَالُ : مَعَهُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَقَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا يَعْبُدُ اللَّهَ كَمَا أُمِرَ وَلَا يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَخْلُصْ إلَى قَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَلَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ ؛ وَأَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَأَنْ يَخَافَ اللَّهَ لَا يَخَافَ غَيْرَهُ ؛ وَأَنْ لَا يَتَوَكَّلَ إلَّا عَلَى اللَّهِ ؛ وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ ؛ وَلَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْخُضُوعَ لِلَّهِ وَحْدَهُ ؛ وَالِانْقِيَادَ لَهُ وَالْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ ؛ وَهَذَا قَدْ يَتَضَمَّنُ خَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ . وَأَمَّا طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِمَحَبَّتِهِ وَحْدَهُ وَأَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَبِأَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ
لِنَفْسِهِ ؛ فَهَذِهِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَكَذَلِكَ وَجَلُ قَلْبِهِ إذَا ذَكَرَ اللَّهُ وَكَذَلِكَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَفَوَاتُ هَذَا الْإِيمَانِ مِنْ الذُّنُوبِ أَمْ لَا ؟ قِيلَ : إذَا لَمْ يَبْلُغْ الْإِنْسَانُ الْخِطَابَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ لَا يَكُونُ تَرْكُهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَأَمَّا إنْ بَلَغَهُ الْخِطَابُ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ كَانَ تَرْكُهُ مِنْ الذُّنُوبِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ هَذِهِ التَّفَاصِيلُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّهُمْ قَائِمُونَ بِالطَّاعَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُمْ ذُنُوبٌ تَابُوا وَاسْتَغْفَرُوا مِنْهَا ؛ وَحَقَائِقُ الْإِيمَانِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ لَا يَعْرِفُونَ وُجُوبَهَا ؛ بَلْ وَلَا أَنَّهَا مِنْ الْإِيمَانِ بَلْ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَعْرِفُهَا مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّهَا مِنْ النَّوَافِلِ الْمُسْتَحَبَّةِ إنْ صَدَّقَ بِوُجُوبِهَا . " فَالْإِسْلَامُ " يَتَنَاوَلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ وَيَتَنَاوَلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مَعَ التَّصْدِيقِ الْمُجْمَلِ فِي الْبَاطِنِ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ كُلَّهُ لَا مِنْ هَذَا وَلَا هَذَا وَهُمْ الْفُسَّاقُ يَكُونُ فِي أَحَدِهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَيَتَنَاوَلُ مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ وَلَمْ يَأْتِ بِتَمَامِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ . وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا فُسَّاقًا تَارِكِينَ فَرِيضَةً ظَاهِرَةً وَلَا مُرْتَكِبِينَ مُحَرَّمًا ظَاهِرًا لَكِنْ تَرَكُوا مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا بِالْقَلْبِ يَتَّبِعُهُ بَعْضُ الْجَوَارِحِ مَا كَانُوا بِهِ مَذْمُومِينَ .
وَهَذَا هُوَ " النِّفَاقُ " الَّذِي كَانَ يَخَافُهُ السَّلَفُ عَلَى نُفُوسِهِمْ . فَإِنَّ صَاحِبَهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ . وَبَعْدَ هَذَا مَا مَيَّزَ اللَّهُ بِهِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ إيمَانٍ وَتَوَابِعِهِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا مِمَّا فُضِّلَ بِهِ الْمُؤْمِنُ : إيمَانٌ وَإِسْلَامٌ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى غَيْرِهِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ } فَإِنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا الْإِنْكَارِ مَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ حَتَّى يَفْعَلَهُ الْمُؤْمِنُ ؛ بَلْ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ آخِرُ حُدُودِ الْإِيمَانِ لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ : وَلِهَذَا قَالَ : لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ " فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ وَكُلٌّ مِنْهُمْ فَعَلَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا كَانَ أَقْدَرَهُمْ كَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْمَلَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي وَكَانَ مَا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي أَكْمَلَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ مَعَ بُلُوغِ الْخِطَابِ إلَيْهِمْ كُلِّهِمْ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا " الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ " بِقَوْلِ الرَّجُلِ :
أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى " ثَلَاثَةِ "
أَقْوَالٍ : مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يُجَوِّزُ الْأَمْرَيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ ؛ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ .
فَاَلَّذِينَ يُحَرِّمُونَهُ هُمْ الْمُرْجِئَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوُهُمْ
مِمَّنْ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ
نَفْسِهِ كَالتَّصْدِيقِ بِالرَّبِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِي قَلْبِهِ ؛
فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي مُؤْمِنٌ كَمَا أَعْلَمُ أَنِّي
تَكَلَّمْت بِالشَّهَادَتَيْنِ وَكَمَا أَعْلَمُ أَنِّي قَرَأْت الْفَاتِحَةَ
وَكَمَا أَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ ؛ وَأَنِّي أُبْغِضُ الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى . فَقَوْلِي : أَنَا مُؤْمِنٌ كَقَوْلِي : أَنَا مُسْلِمٌ
وَكَقَوْلِي : تَكَلَّمْت بِالشَّهَادَتَيْنِ وَقَرَأَتْ الْفَاتِحَةَ وَكَقَوْلِي
: أَنَا أُبْغِضُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ
الْحَاضِرَةِ الَّتِي أَنَا أَعْلَمُهَا وَأَقْطَعُ بِهَا وَكَمَا أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : أَنَا قَرَأْت الْفَاتِحَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَذَلِكَ
لَا يَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَكِنْ إذَا كَانَ يَشُكُّ فِي
ذَلِكَ فَيَقُولُ : فَعَلْته إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالُوا : فَمَنْ اسْتَثْنَى فِي
إيمَانِهِ فَهُوَ شَاكٌّ فِيهِ وَسَمَّوْهُمْ الشَّكَّاكَةَ . وَاَلَّذِينَ
أَوْجَبُوا الِاسْتِثْنَاءَ لَهُمْ مَأْخَذَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِيمَانَ
هُوَ مَا مَاتَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ ؛ وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَكُونُ
عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا بِاعْتِبَارِ الْمُوَافَاةِ وَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا عِبْرَةَ بِهِ . قَالُوا : وَالْإِيمَانُ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ الْكُفْرُ فَيَمُوتُ صَاحِبُهُ كَافِرًا لَيْسَ بِإِيمَانِ كَالصَّلَاةِ الَّتِي يُفْسِدُهَا صَاحِبُهَا قَبْلَ الْكَمَالِ ؛ وَكَالصِّيَامِ الَّذِي يُفْطِرُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَصَاحِبُ هَذَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَافِرٌ لِعِلْمِهِ بِمَا يَمُوتُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْكُفْرِ وَهَذَا الْمَأْخَذُ مَأْخَذُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْصُرَ مَا اُشْتُهِرَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِمْ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ وَيُرِيدُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَفَاضَلُ ؛ وَلَا يَشُكُّ الْإِنْسَانُ فِي الْمَوْجُودِ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَشُكُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَسُخْطُهُ وَبُغْضُهُ قَدِيمٌ . ثُمَّ هَلْ ذَلِكَ هُوَ الْإِرَادَةُ أَمْ صِفَاتٌ أُخَرُ ؟ لَهُمْ فِي ذَلِكَ " قَوْلَانِ " . وَأَكْثَرُ قُدَمَائِهِمْ يَقُولُونَ : إنَّ الرِّضَى وَالسُّخْطَ وَالْغَضَبَ وَنَحْوَ ذَلِكَ صِفَاتٌ لَيْسَتْ هِيَ الْإِرَادَةُ كَمَا أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَكَذَلِكَ الْوِلَايَةُ وَالْعَدَاوَةُ . هَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ عِنْد أَبِي مُحَمَّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمِنْ أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . قَالُوا : وَاَللَّهُ يُحِبُّ فِي أَزَلِهِ مَنْ كَانَ كَافِرًا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا . فَالصَّحَابَةُ مَا زَالُوا مَحْبُوبِينَ لِلَّهِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مُدَّةً مِنْ الدَّهْرِ وَإِبْلِيسُ مَا زَالَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكْفُرْ بَعْدُ . وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَهُمْ فَالرِّضَى وَالسُّخْطُ
يَرْجِعُ إلَى الْإِرَادَةِ وَالْإِرَادَةُ تُطَابِقُ الْعِلْمَ ، فَالْمَعْنَى : مَا زَالَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُثِيبَ هَؤُلَاءِ بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَيُعَاقِبَ إبْلِيسَ بَعْدَ كُفْرِهِ . وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ . فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ كُلَّ مَا عَلِمَ أَنْ سيخلقه . وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُهَا صِفَاتٍ أُخَرَ يَقُولُ : هُوَ أَيْضًا حُبُّهُ تَابِعٌ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُثِيبَهُ . فَكُلُّ مَنْ أَرَادَ إثَابَتَهُ فَهُوَ يُحِبُّهُ وَكُلُّ مَنْ أَرَادَ عُقُوبَتَهُ فَإِنَّهُ يُبْغِضُهُ وَهَذَا تَابِعٌ لِلْعِلْمِ . وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَا يَرْضَى عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ سَاخِطًا عَلَيْهِ وَلَا يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدٍ بَعْدَ أَنْ تَابَ عَلَيْهِ بَلْ مَا زَالَ يَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِ . وَالْفَرَحُ عِنْدَهُمْ إمَّا الْإِرَادَةُ وَإِمَّا الرِّضَى . وَالْمَعْنَى مَا زَالَ يُرِيدُ إثَابَتَهُ أَوْ يَرْضَى عَمَّا يُرِيدُ إثَابَتَهُ . وَكَذَلِكَ لَا يَغْضَبُ عِنْدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ . بَلْ غَضَبُهُ قَدِيمٌ إمَّا بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ وَإِمَّا بِمَعْنَى آخَرَ . فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إذَا عَلِمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُوتُ كَافِرًا لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا لِعُقُوبَتِهِ فَذَاكَ الْإِيمَانُ الَّذِي كَانَ مَعَهُ بَاطِلٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ . فَلَيْسَ هَذَا بِمُؤْمِنِ أَصْلًا وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا لِإِثَابَتِهِ وَذَاكَ الْكُفْرُ الَّذِي فَعَلَهُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ . فَلَمْ يَكُنْ هَذَا كَافِرًا عِنْدَهُمْ أَصْلًا . فَهَؤُلَاءِ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ وَكَذَلِكَ بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمْ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْكُفْرِ مِثْلَ أَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي فَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُطَّرِدٌ فِيهِمَا . وَلَكِنْ جَمَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى فِي الْكُفْرِ وَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ بِدْعَةٌ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَكِنْ هُوَ لَازِمٌ لَهُمْ . وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا مِنْ هَؤُلَاءِ قَالُوا : نَسْتَثْنِي فِي الْإِيمَانِ رَغْبَةً إلَى اللَّهِ فِي أَنْ
يُثَبِّتَنَا عَلَيْهِ إلَى الْمَوْتِ وَالْكُفْرُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ أَحَدٌ . لَكِنْ يُقَالُ : إذَا كَانَ قَوْلُك : مُؤْمِنٌ كَقَوْلِك : فِي الْجَنَّةِ . فَأَنْتَ تَقُولُ عَنْ الْكَافِرِ : هُوَ كَافِرٌ . وَلَا تَقُولُ : هُوَ فِي النَّارِ إلَّا مُعَلِّقًا بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فِي الْحَالِ قَطْعًا . وَإِنْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ . وَسَوَاءٌ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ . فَلَوْ قِيلَ عَنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ : هَذَا كَافِرٌ قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا ؛ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ أَحَدًا مُؤْمِنًا إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَيْهِ ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَصْحَابِ ابْنِ كُلَّابٍ وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ لَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الَّذِينَ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْإِيمَانِ يُعَلِّلُونَ بِهَذَا لَا أَحْمَد وَلَا مَنْ قَبْلَهُ . وَمَأْخَذُ هَذَا الْقَوْلِ طَرَدَهُ طَائِفَةٌ مِمَّنْ كَانُوا فِي الْأَصْلِ يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَكَانُوا قَدْ أَخَذُوا الِاسْتِثْنَاءَ عَنْ السَّلَفِ وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ شَدِيدَيْنِ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفريابي صَاحِبُ الثَّوْرِيِّ مُرَابِطًا بِعَسْقَلَانَ لَمَّا كَانَتْ مَعْمُورَةً وَكَانَتْ مِنْ خِيَارِ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ وَلِهَذَا كَانَ فِيهَا فَضَائِلُ لِفَضِيلَةِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَاسْتَثْنَوْا أَيْضًا فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ : صَلَّيْت إنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْقَبُولِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ . ثُمَّ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِآخِرَةِ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَيَقُولُ هَذَا ثَوْبِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا حَبْلٌ
إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَإِذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ : هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ ؛ قَالَ : نَعَمْ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ لَكِنْ إذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ غَيَّرَهُ ؛ فَيُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ جَوَازَ تَغْيِيرِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ كَأَنَّ الْحَقِيقَةَ عِنْدَهُمْ الَّتِي لَا يُسْتَثْنَى فِيهَا مَا لَمْ تَتَبَدَّلْ كَمَا يَقُولُهُ أُولَئِكَ فِي الْإِيمَانِ : إنَّ الْإِيمَانَ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَتَبَدَّلُ حَتَّى يَمُوتَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ . لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ . قَالَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِاجْتِهَادِ وَنَظَرٍ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ تَلَقَّوْا ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَتْبَاعِ شَيْخِهِمْ وَشَيْخُهُمْ الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ يُقَالُ لَهُ : أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ مَرْزُوقٍ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَرَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ بَلْ كَانَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ ؛ وَلَكِنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ وَكَانَ شَيْخُهُمْ مُنْتَسِبًا إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد وَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ المقدسي وَأَبُو الْفَرَجِ مِنْ تَلَامِذَةِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد فَهُمْ يُوَافِقُونَ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي كَانَ أَحْمَد يُنْكِرُهُ عَلَى الْكُلَّابِيَة وَأَمَرَ بِهَجْرِ الْحَارِثِ المحاسبي مِنْ أَجْلِهِ كَمَا وَافَقَهُ عَلَى أَصْلِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ كَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي مَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا كَمَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؟ أَمْ الْقُرْآنُ لَازِمٌ لِذَاتِهِ ؟ وَقَوْلُهُمْ فِي " الِاسْتِثْنَاءِ " مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ .
وَكَذَلِكَ
بَنَاهُ الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ
كلابية يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ
وَلَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ إيمَانِهِ وَكُفْرِهِ وَلَا
يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ . وَلِهَذَا وَافَقُوا
السَّلَفَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . ثُمَّ
قَالُوا : إنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا فِي الْقَدِيمِ أَهُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ ؟ أَمْ
حُرُوفٌ قَدِيمَةٌ مَعَ تَعَاقُبِهَا ؟ كَمَا بُسِطَتْ أَقْوَالُهُمْ وَأَقْوَالُ
غَيْرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ
تُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ : قَطْعًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ مَعَ غُلُوِّهِمْ
فِي الِاسْتِثْنَاءِ حَتَّى صَارَ هَذَا اللَّفْظُ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ وَإِنْ
قَطَعُوا بِالْمَعْنَى فَيَجْزِمُونَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ
اللَّهَ رَبُّهُمْ وَلَا يَقُولُونَ : قَطْعًا . وَقَدْ اجْتَمَعَ بِي طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ فَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ ؛ وَامْتَنَعَتْ مِنْ فِعْلِ
مَطْلُوبِهِمْ حَتَّى يَقُولُوا : قَطْعًا وَأَحْضَرُوا لِي كِتَابًا فِيهِ
أَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ
يَقُولَ الرَّجُلُ : قَطْعًا وَهِيَ أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ مُخْتَلَقَةٌ قَدْ
افْتَرَاهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ " لَمَّا
عُلِّلَ بِمِثْلِ تِلْكَ الْعِلَّةِ طَرَدَ أَقْوَامٌ تِلْكَ الْعِلَّةَ فِي
الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَوْجُودَةَ الْآنَ إذَا
كَانَتْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَتَبَدَّلُ أَحْوَالُهَا ؛ فَيُسْتَثْنَى فِي
صِفَاتِهَا الْمَوْجُودَةِ فِي الْحَالِ وَيُقَالُ : هَذَا صَغِيرٌ إنْ شَاءَ
اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَجْعَلُهُ كَبِيرًا وَيُقَالُ : هَذَا مَجْنُونٌ
إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَجْعَلُهُ عَاقِلًا وَيُقَالُ
لِلْمُرْتَدِّ :
هَذَا كَافِرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَتُوبَ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَثْنَوْا فِي الْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ ظَنُّوا هَذَا قَوْلَ السَّلَفِ . وَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَنْصُرُونَ مَا ظَهَرَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَنْصُرُ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيَنْصُرُونَ إثْبَاتَ الصَّانِعِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَيَنْصُرُونَ مَعَ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا يَنْصُرُ ذَلِكَ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ يَنْصُرُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ لَا يَكْفُرُونَ بِالذَّنْبِ وَلَا يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ شَفَاعَةٌ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّ فِتْنَةَ الْقَبْرِ حَقٌّ وَعَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ وَحَوْضَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآخِرَةِ حَقٌّ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي شَاعَ أَنَّهَا مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . كَمَا يَنْصُرُونَ خِلَافَةَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَفَضِيلَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَنْصُرُهُ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِحَقِيقَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ وَلَا مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَلَا مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ . فَيَنْصُرُ مَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِمْ بِغَيْرِ الْمَآخِذِ الَّتِي كَانَتْ مَآخِذَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ بِمَآخِذَ أُخَرَ قَدْ تَلَقَّوْهَا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فَيَقَعُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالِاضْطِرَابِ وَالْخَطَأِ مَا ذَمَّ بِهِ السَّلَفُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي ذَمِّ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ كَثِيرٌ . وَالْكَلَامُ الْمَذْمُومُ هُوَ الْمُخَالِفُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلِّ مَا خَالَفَ
الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } . فَهَؤُلَاءِ لَمَّا اُشْتُهِرَ عِنْدَهُمْ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ إلَّا إذَا جُعِلَ الْإِيمَانُ هُوَ مَا يَمُوتُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ السَّلَفِ هُوَ هَذَا ؛ فَصَارُوا يَحْكُونَ هَذَا عَنْ السَّلَفِ ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ ؛ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ حَكَوْهُ عَنْهُمْ بِحَسَبِ ظَنِّهِمْ : لِمَا رَأَوْا أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يَتَوَجَّهُ إلَّا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ مَا نَصَرُوهُ مِنْ أَصْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ هُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ وَالنُّظَّارِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ . وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي مَذَاهِبِ السَّلَفِ الَّتِي خَالَفَهَا بَعْضُ النُّظَّارِ وَأَظْهَرَ حُجَّتَهُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ قَوْلِ السَّلَفِ ؛ فَيَقُولُ مَنْ عَرَفَ حُجَّةَ هَؤُلَاءِ دُونَ السَّلَفِ أَوْ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ لِمَا يَرَاهُ مِنْ تَمَيُّزِهِمْ عَلَيْهِ : هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ . وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ . وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ الْمُخَالَفَةِ لِلْعَقْلِ مَعَ الشَّرْعِ ؛ وَهَذَا كَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُبْتَدِعِينَ وَبَعْضِ الْمُلْحِدِينَ وَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَإِيمَانًا ؛ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ التَّحْقِيقِ إلَّا مَا هُوَ دُونَ تَحْقِيقِ السَّلَفِ لَا فِي الْعِلْمِ وَلَا فِي الْعَمَلِ وَمَنْ كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِالنَّظَرِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وبالعمليات عَلِمَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابَةِ دَائِمًا أَرْجَحُ مِنْ قَوْل مَنْ بَعْدَهُمْ وَأَنَّهُ لَا يَبْتَدِعُ أَحَدٌ قَوْلًا فِي الْإِسْلَامِ إلَّا كَانَ خَطَأً وَكَانَ الصَّوَابُ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ مِنْ قَبْلِهِ .
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي الْحَسَنِ وَأَصْحَابِهِ فِي الْإِيمَانِ وَصَحَّحَ أَنَّهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ قَالَ : وَمِنْ أَصْحَابِنَا ؛ مَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ وَشَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ أَنْ يُوَافِيَ رَبَّهُ بِهِ وَيَخْتِمَ عَلَيْهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهِ فِي الْحَالِ . قَالَ الْأَنْصَارِيُّ : لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مُعْظَمَ أَئِمَّةِ السَّلَفِ كَانُوا يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ قَالَ : الْأَكْثَرُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْمُوَافَاةِ . وَمَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ فَإِنَّمَا يَقُولُهُ فِيمَنْ لَمْ يُرِدْ الْخَبَرَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . وَأَمَّا مَنْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ عَلَى إيمَانِهِ كَالْعَشَرَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ . ثُمَّ قَالَ : وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ ؛ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ . وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَقْوَالِهِمْ فِي الْمُوَافَاةِ ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتُهُ فِي الْحَالِ وَكَوْنُهُ مُعْتَدًّا عِنْدَ اللَّهِ بِهِ وَفِي حُكْمِهِ فَمَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِيهِ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْإِطْلَاقِ فِي الْحَالِ ؛ لَا أَنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِي حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ ؛ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَا يَدْرِي أَيَّ الْإِيمَانِ الَّذِي نَحْنُ مَوْصُوفُونَ بِهِ فِي الْحَالِ هَلْ هُوَ مُعْتَدٌّ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ ؟ عَلَى مَعْنَى أَنَّا نَنْتَفِعُ بِهِ فِي الْعَاقِبَةِ وَنَجْتَنِي مِنْ ثِمَارِهِ . فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : أَمُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ حَقًّا ؟ أو تَقُولُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؟ أو تَقُولُونَ نَرْجُو ؟ فَيَقُولُونَ نَحْنُ مُؤْمِنُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَعْنُونَ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ فِي الْعَاقِبَةِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ إيمَانًا مُعْتَدًّا بِهِ فِي حُكْمِ
اللَّهِ
إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَمَ الْفَوْزِ وَآيَةَ النَّجَاةِ وَإِذَا كَانَ صَاحِبُهُ -
وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - فِي حُكْمِ اللَّهِ مِنْ الْأَشْقِيَاءِ يَكُونُ
إيمَانُهُ الَّذِي تَحَلَّى بِهِ فِي الْحَالِ عَارِيَةً . قَالَ : وَلَا فَرْقَ عِنْدَ
الصَّائِرِينَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ : أَنَا مُؤْمِنٌ مِنْ
أَهْلِ الْجَنَّةِ قَطْعًا ؛ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا . قُلْت
: هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ مُتَنَاوَلًا
لِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ فَمَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا
كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجَهْمِيَّة
وَالْمُرْجِئَةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَصَرُوا
قَوْلَ جَهْمٍ ؛ فَإِنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْإِيمَانِ قَطْعًا وَيَكُونُ كَامِلَ
الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ مَعَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ
الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَلَا يَلْزَمُ إذَا وَافَى بِالْإِيمَانِ أَنْ
يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . وَهَذَا اللَّازِمُ لِقَوْلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى
فَسَادِهِ لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ . وَكَذَلِكَ
قَالُوا : لَا سِيَّمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ : { وَعَدَ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ } الْآيَةَ . قَالَ :
فَهَؤُلَاءِ - يَعْنِي الْقَائِلِينَ بِالْمُوَافَاةِ جَعَلُوا الثَّبَاتَ عَلَى
هَذَا التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ إلَى الْعَاقِبَةِ
وَالْوَفَاءَ بِهِ فِي الْمَآلِ شَرْطًا فِي الْإِيمَانِ شَرْعًا لَا لُغَةً وَلَا
عَقْلًا . قَالَ : وَهَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْأَكْثَرِينَ
؛ قَالَ : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فورك ؛ وَكَانَ
الْإِمَامُ مُحَمَّدُ ابْنُ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة يَغْلُو فِيهِ وَكَانَ
يَقُولُ : مَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ .
وَأَمَّا مَذْهَبُ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ
وَالثَّوْرِيِّ
وَابْنِ عُيَيْنَة وَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ فِيمَا يَرْوِيه عَنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ . وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ لَكِنْ لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : أَنَا أَسْتَثْنِي لِأَجْلِ الْمُوَافَاةِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ إنَّمَا هُوَ اسْمٌ لِمَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ ؛ بَلْ صَرَّحَ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ فَلَا يَشْهَدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ كَمَا لَا يَشْهَدُونَ لَهَا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ وَهُوَ تَزْكِيَةٌ لِأَنْفُسِهِمْ بِلَا عِلْمٍ ؛ كَمَا سَنَذْكُرُ أَقْوَالَهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا الْمُوَافَاةُ ؛ فَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ عَلَّلَ بِهَا الِاسْتِثْنَاءَ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يُعَلِّلُ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ ؛ كَمَا يُعَلِّلُ بِهَا نُظَّارُهُمْ كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا قَوْلَ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ . ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إذَا قُلْتُمْ إنَّ الْإِيمَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ مَا وَصَفْتُمُوهُ بِشَرَائِطِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُتَلَقًّى مِنْ اللُّغَةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ قَوْلُكُمْ إنَّ الْإِيمَانَ لُغَوِيٌّ ؟ قُلْنَا الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ لُغَةً وَشَرْعًا غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ ضَمَّ إلَى التَّصْدِيقِ أَوْصَافًا وَشَرَائِطَ : مَجْمُوعُهَا يَصِيرُ مَجْزِيًّا مَقْبُولًا كَمَا قُلْنَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهَا وَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ : هِيَ الدُّعَاءُ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ ضَمَّ إلَيْهَا شَرَائِطَ . فَيُقَالُ : هَذَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرُوهُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ وَالشَّرْعُ لَمْ يُغَيِّرْهُ أَوْرَدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ .
فَإِنْ
قِيلَ : أَلَيْسَ الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ مَعْدُولَةً عَنْ اللُّغَةِ
مُسْتَعْمَلَةً فِي غَيْرِ مَذْهَبِ أَهْلِهَا . قُلْنَا : قَدْ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُقَرَّرَةٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ
أَهْلِ اللُّغَةِ وَمُبْقَاةٌ عَلَى مُقْتَضَيَاتِهَا وَلَيْسَتْ مَنْقُولَةً
إلَّا أَنَّهَا زِيدَ فِيهَا أُمُورٌ . فَلَوْ سَلَّمْنَا لِلْخَصْمِ كَوْنَ
هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَنْقُولَةً أَوْ مَحْمُولَةً عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْمَجَازِ
بِدَلِيلِ مَقْطُوعٍ بِهِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ
فِي الْإِيمَانِ . فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إزَالَةُ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ بِسَبَبِ
إزَالَةِ ظَاهِرٍ مِنْهَا . فَيُقَالُ : أَنْتُمْ فِي الْإِيمَانِ جَعَلْتُمْ
الشَّرْعَ زَادَ فِيهِ وَجَعَلْتُمُوهُ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَعَ أَنَّهُ
لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا مِنْ الشَّرْعِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ
الْإِيمَانَ لَا يُسَمَّى بِهِ إلَّا الْمُوَافَاةُ بِهِ وَبِتَقْدِيرِ ذَلِكَ
فَمَعْلُومٌ أَنَّ دَلَالَةَ الشَّرْعِ عَلَى ضَمِّ الْأَعْمَالِ إلَيْهِ أَكْثَرُ
وَأَشْهَرُ فَكَيْفَ لَمْ تَدْخُلْ الْأَعْمَالُ فِي مُسَمَّاهُ شَرْعًا ؟
وَقَوْلُهُ : لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ عَنْهُ جَوَابَانِ :
أَحَدُهُمَا : النَّقْضُ بِالْمُوَافَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ فِيهِ . (
الثَّانِي : لَا نُسَلِّمُ بَلْ نَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ حُبَّ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةَ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ
فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمُ مِمَّا نَقْطَعُ بِبَعْضِ أَفْعَالِ
الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ كَمَسَائِلِ النِّزَاعِ . ثُمَّ أَبُو
الْحَسَنِ وَابْنُ فورك وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْمُوَافَاةِ هُمْ
لَا يَجْعَلُونَ الشَّرْعَ ضَمَّ إلَيْهِ شَيْئًا بَلْ عِنْدَهُمْ كُلُّ مَنْ
سَلَبَهُ الشَّرْعُ اسْمَ الْإِيمَانِ فَقَدْ فَقَدَ مِنْ قَلْبِهِ التَّصْدِيقَ .
قَالَ : وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْمُوَافَاةَ عَلَى الْإِيمَانِ
شَرْطًا فِي كَوْنِهِ إيمَانًا
حَقِيقِيًّا فِي الْحَالِ وَإِنْ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني وَكَلَامُ الْقَاضِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَالَ : وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا أَبِي الْمَعَالِي ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : الْإِيمَانُ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ قَطْعًا لَا شَكَّ فِيهِ وَلَكِنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْفَوْزِ وَآيَةُ النَّجَاةِ إيمَانُ الْمُوَافَاةِ . فَاعْتَنَى السَّلَفُ بِهِ وَقَرَنُوهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلَمْ يَقْصِدُوا الشَّكَّ فِي الْإِيمَانِ النَّاجِزِ . قَالَ : وَمَنْ صَارَ إلَى هَذَا يَقُولُ : الْإِيمَانُ صِفَةٌ يُشْتَقُّ مِنْهَا اسْمُ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالتَّصْدِيقُ ؛ كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعِلْمِ فَإِذَا عَرَفْت ذَلِكَ مِنْ نَفْسِي قَطَعْت بِهِ كَمَا قَطَعْت بِأَنِّي عَالِمٌ وَعَارِفٌ وَمُصَدِّقٌ فَإِنْ وَرَدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا يُزِيلُهُ خَرَجَ إذْ ذَاكَ عَنْ اسْتِحْقَاقِ هَذَا الْوَصْفِ . وَلَا يُقَالُ : تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إيمَانًا مَأْمُورًا بِهِ بَلْ كَانَ إيمَانًا مَجْزِيًّا فَتَغَيَّرَ وَبَطَلَ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ : أَنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَغِيبٌ عَنْهُ وَهُوَ مَرْجُوٌّ . قَالَ : وَمَنْ صَارَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَتَمَسَّكُ بِأَشْيَاءَ . مِنْهَا أَنْ يُقَالَ : الْإِيمَانُ عِبَادَةُ الْعُمْرِ وَهُوَ كَطَاعَةِ وَاحِدَةٍ فَيَتَوَقَّفُ صِحَّةُ أَوَّلِهَا عَلَى سَلَامَةِ آخِرِهَا . كَمَا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ . قَالُوا : وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى فِي الْحَالِ وَلِيًّا وَلَا سَعِيدًا وَلَا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يُسَمَّى فِي الْحَالِ عَدُوًّا لِلَّهِ وَلَا شَقِيًّا إلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَعْدَاءِ فِي الْحَالِ لِإِظْهَارِهِ مِنْ نَفْسِهِ عَلَامَتَهُمْ . قُلْت : هَذَا الَّذِي قَالُوهُ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ
وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَأَمَّا أَكْثَرُ النَّاسِ فَيَقُولُونَ : بَلْ هُوَ إذَا كَانَ كَافِرًا فَهُوَ عَدُوٌّ لِلَّهِ ثُمَّ إذَا آمَنَ وَاتَّقَى صَارَ وَلِيًّا لِلَّهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ } إلَى قَوْلِهِ : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَكَذَلِكَ كَانَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ مَكَّةَ الَّذِينَ كَانُوا يُعَادُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَبْلَ الْفَتْحِ آمَنَ أَكْثَرُهُمْ وَصَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَابْنُ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعُهُ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَمَعْنَاهَا إرَادَةُ إثَابَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ وَهَذَا الْمَعْنَى تَابِعٌ لِعِلْمِ اللَّهِ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا لَمْ يَزَلْ وَلِيًّا لِلَّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُرِيدًا لِإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ وَكَذَلِكَ الْعَدَاوَةُ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ : الْوِلَايَةُ وَالْعَدَاوَةُ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَبُغْضَهُ وَسُخْطَهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَرْضَى عَنْ الْإِنْسَانِ وَيُحِبُّهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْمِنَ وَيَعْمَلَ صَالِحًا ؛ وَإِنَّمَا يَسْخَطُ عَلَيْهِ وَيَغْضَبُ بَعْدَ أَنْ يَكْفُرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَعْمَالَ أَسْخَطَتْهُ ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : أَغْضَبُونَا وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ ؛ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ؛ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي
يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي ؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ : لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يُحِبَّهُ ثُمَّ قَالَ : فَإِذَا أَحْبَبْته : كُنْت كَذَا وَكَذَا . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ حُبَّهُ لِعَبْدِهِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِمُحَابِّهِ . وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } فَقَوْلُهُ : ( يُحْبِبْكُمْ جَوَابُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ : فَاتَّبِعُونِي وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَزَاءِ مَعَ الشَّرْطِ وَلِهَذَا جُزِمَ وَهَذَا ثَوَابُ عَمَلِهِمْ وَهُوَ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ فَأَثَابَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ أَحَبَّهُمْ ؛ وَجَزَاءُ الشَّرْطِ وَثَوَابُ الْعَمَلِ وَمُسَبِّبُ السَّبَبِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَهُ لَا قَبْلَهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وقَوْله تَعَالَى { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وَقَوْلُهُ : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } وَكَانُوا قَدْ سَأَلُوهُ : لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ . وَقَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذْ
تُدْعَوْنَ إلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّهُ وَمَقْتَهُ جَزَاءٌ لِعَمَلِهِمْ وَأَنَّهُ يُحِبُّهُمْ إذَا اتَّقَوْا وَقَاتَلُوا ؛ وَلِهَذَا رَغَّبَهُمْ فِي الْعَمَلِ بِذَلِكَ كَمَا يُرَغِّبُهُمْ بِسَائِرِ مَا يَعِدُهُمْ بِهِ ؛ وَجَزَاءُ الْعَمَلِ بَعْدَ الْعَمَلِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَمْقُتُهُمْ إذْ يَدْعُونَ إلَى الْإِيمَانِ فَيَكْفُرُونَ ؛ وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } فَقَوْلُهُ : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ } ؛ بَيَّنَ أَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُمْ هَذَا الْوَقْتَ فَإِنَّ حَرْفَ ( إذْ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ ذَاكَ الْوَقْتَ رَضِيَ عَنْهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَأَثَابَهُمْ عَلَيْهِ وَالْمُسَبِّبُ لَا يَكُونُ قَبْلَ سَبَبِهِ وَالْمُوَقَّتُ بِوَقْتِ لَا يَكُونُ قَبْلَ وَقْتِهِ ؛ وَإِذَا كَانَ رَاضِيًا عَنْهُمْ مِنْ جِهَةٍ فَهَذَا الرِّضَى الْخَاصُّ الْحَاصِلُ بِالْبَيْعَةِ لَمْ يَكُنْ إلَّا حِينَئِذٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ : { يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ رَضِيتُمْ ؛ فَيَقُولُونَ : يَا رَبَّنَا وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِك فَيَقُولُ : أَلَا أُعْطِيكُمْ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ : يَا رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ؛ فَيَقُولُ : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَصَلَ لَهُمْ هَذَا الرِّضْوَانُ الَّذِي لَا يَتَعَقَّبُهُ سُخْطٌ أَبَدًا . وَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الرِّضْوَانِ قَدْ يَتَعَقَّبُهُ سُخْطٌ . " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ { يَقُولُ : كُلٌّ مِنْ الرُّسُلِ : إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ } وَفِي " الصِّحَاحِ " : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ
أَنَّهُ قَالَ : { لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضِ دَوِيَّةٍ مُهْلِكَةٍ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَطَلَبَهَا فَلَمْ يَجِدْهَا ؛ فَاضْطَجَعَ يَنْتَظِرُ الْمَوْتَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ إذَا دَابَّتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ - وَفِي رِوَايَةٍ - كَيْفَ تَجِدُونَ فَرَحَهُ بِهَا ؟ قَالُوا : عَظِيمًا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ قَالَ : لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ } وَكَذَلِكَ ضَحِكُهُ إلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ؛ وَضَحِكُهُ إلَى الَّذِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ آخِرَ النَّاسِ وَيَقُولُ أَتَسْخَرُ بِي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؛ فَيَقُولُ : لَا وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ وَكُلُّ هَذَا فِي " الصَّحِيحِ " . وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ : ( تَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْت ) وَالْقَدِيمُ لَا يُتَصَوَّرُ طَلَبُهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } وَقَالَ : { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } . فَهَذَا التَّوَلِّي لَهُمْ جَزَاءُ صَلَاحِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ وَمُسَبِّبٌ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا صَارُوا صَالِحِينَ وَمُتَّقِينَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ ؛ لَكِنْ تَعَلَّقَ بِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ وَصَالِحِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّوَلِّيَ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ مِثْلَ كَوْنِهِ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَالصَّالِحِينَ بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ ؛ لَيْسَ ذَلِكَ قَبْلَ كَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ وَصَالِحِينَ وَهَكَذَا الرَّحْمَةُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( { الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } عَلَّقَ الرِّضَا بِهِ تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ وَالْمُسَبِّبِ بِالسَّبَبِ وَالْجَزَاءِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الشَّرْطِ
وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ }
. يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَشَاءُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : {
إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ؛
" فَإِذَا " ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ . فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُ إذَا أَرَادَ كَوْنَهُ . قَالَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ . وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ } فَبَيَّنَ فِيهِ
أَنَّهُ سَيَرَى ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا عَمِلُوهُ .
وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ
يَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَبْدَهُ كُلَّهُ ؛ وَتَرْكَ
الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا ؛ فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ : أَنَا مُؤْمِنٌ بِهَذَا
الِاعْتِبَارِ فَقَدْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ مِنْ الْأَبْرَارِ
الْمُتَّقِينَ الْقَائِمِينَ بِفِعْلِ جَمِيعِ مَا أُمِرُوا بِهِ ؛ وَتَرْكِ كُلِّ
مَا نُهُوا عَنْهُ فَيَكُونُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ؛ وَهَذَا مِنْ تَزْكِيَةِ
الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَلَوْ
كَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ صَحِيحَةً لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْهَدَ
لِنَفْسِهِ بِالْجَنَّةِ إنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ وَلَا أَحَدَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ
بِالْجَنَّةِ ؛ فَشَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ كَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ
بِالْجَنَّةِ إذَا مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ ؛ وَهَذَا مَأْخَذُ عَامَّةِ
السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ وَإِنْ جَوَّزُوا تَرْكَ
الِاسْتِثْنَاءِ بِمَعْنَى آخَرَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ
بْنُ الْأَشْعَثِ يَعْنِي أَبَا دَاوُد السجستاني قَالَ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : قِيلَ لِي أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ ؟
قُلْت نَعَمْ ؛ هَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؟ هَلْ النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ
وَكَافِرٌ ؟ فَغَضِبَ أَحْمَد وَقَالَ : هَذَا كَلَامُ الْإِرْجَاءِ ؛ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ
لِأَمْرِ اللَّهِ } مِنْ هَؤُلَاءِ ثُمَّ قَالَ أَحْمَد : أَلَيْسَ الْإِيمَانُ قَوْلًا وَعَمَلًا قَالَ لَهُ الرَّجُلُ : بَلَى . قَالَ فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ . قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَجِئْنَا بِالْعَمَلِ . قَالَ : لَا . قَالَ : فَكَيْفَ تَعِيبُ أَنْ يَقُولَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَسْتَثْنِي . [ قَالَ أَبُو دَاوُد : أَخْبَرَنِي أَحْمَد بْنُ أَبِي شريح أَنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ كَتَبَ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ وَلَمْ نَجِئْ بِالْعَمَلِ فَنَحْنُ نَسْتَثْنِي فِي الْعَمَلِ ] (*) . وَذَكَرَ الْخَلَّالُ هَذَا الْجَوَابَ مِنْ رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ . وَقَالَ : زَادَ الْفَضْلُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ يَحْمِلُ هَذَا عَلَى التَّقَبُّلِ ؛ يَقُولُ : نَحْنُ نَعْمَلُ وَلَا نَدْرِي يُتَقَبَّلُ مِنَّا أَمْ لَا ؟ قُلْت : وَالْقَبُولُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِهِ كَمَا أُمِرَ . فَكُلُّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ فِي عَمَلِهِ فَفَعَلَهُ كَمَا أُمِرَ فَقَدْ تُقُبِّلَ مِنْهُ . لَكِنْ هُوَ لَا يَجْزِمُ بِالْقَبُولِ لِعَدَمِ جَزْمِهِ بِكَمَالِ الْفِعْلِ كَمَا { قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } قَالَتْ عَائِشَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَخَافُ ؟ فَقَالَ : لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ بَلْ هُوَ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ } . وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : لَا نَجِدُ بُدًّا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُمْ إذَا قَالُوا : مُؤْمِنٌ فَقَدْ جَاءَ بِالْقَوْلِ . فَإِنَّمَا الِاسْتِثْنَاءُ بِالْعَمَلِ لَا بِالْقَوْلِ . وَعَنْ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ قَالَ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : أَذْهَبَ إلَى حَدِيثِ
ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْعَمَلُ الْفِعْلُ فَقَدْ جِئْنَا بِالْقَوْلِ وَنَخْشَى أَنْ نَكُونَ فَرَّطْنَا فِي الْعَمَلِ ؛ فَيُعْجِبُنِي أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي الْإِيمَانِ بِقَوْلِ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } الِاسْتِثْنَاءُ هَاهُنَا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَقَعُ ؟ قَالَ : عَلَى الْبِقَاعِ لَا يَدْرِي أَيُدْفَنُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَلَّمَ عَلَيْهِ أَمْ فِي غَيْرِهِ . [ وَعَنْ الْمَيْمُونِيَّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْلِهِ وَرَأْيِهِ فِي : مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ . قَالَ : أَقُولُ : مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَمُؤْمِنٌ أَرْجُو لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي كَيْفَ الْبَرَاءَةُ لِلْأَعْمَالِ عَلَى مَا اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ أَمْ لَا ] (*) . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ أَحْمَد وَأَمْثَالِهِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْقَائِمُ بِالْوَاجِبَاتِ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَنَّةِ إذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ الْمُفَرِّطَ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ أَوْ فِعْلِ الْمَحْظُورِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ ؛ وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْبَرُّ التَّقِيُّ وَلِيُّ اللَّهِ فَإِذَا قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ قَطْعًا كَانَ كَقَوْلِهِ : أَنَا بَرٌّ تَقِيٌّ وَلِيُّ اللَّهِ قَطْعًا . وَقَدْ كَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ مَعَ هَذَا يَكْرَهُونَ سُؤَالَ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ : أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ ؟ وَيَكْرَهُونَ الْجَوَابَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْمُرْجِئَةُ لِيَحْتَجُّوا بِهَا لِقَوْلِهِمْ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرِ ؛ بَلْ يَجِدُ قَلْبَهُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَيَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ فَيُثْبِتُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ لِأَنَّك تَجْزِمُ بِأَنَّك مُؤْمِنٌ وَلَا تَجْزِمُ ؛ بِأَنَّك فَعَلْت كُلَّ مَا أُمِرْت بِهِ ؛ فَلَمَّا عَلِمَ السَّلَفُ
مَقْصِدَهُمْ صَارُوا يَكْرَهُونَ الْجَوَابَ أَوْ يُفَصِّلُونَ فِي الْجَوَابِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ لَفْظَ " الْإِيمَانِ " فِيهِ إطْلَاقٌ وَتَقْيِيدٌ فَكَانُوا يُجِيبُونَ بِالْإِيمَانِ الْمُقَيَّدِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ شَاهِدٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ بِالْكَمَالِ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرِنَ كَلَامَهُ بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ الْكَامِلَ وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَد يَكْرَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَى الْمُطْلَقِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ يُقَدِّمُهُ . وَقَالَ المروذي : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ نَقُولُ : نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ ؟ فَقَالَ نَقُولُ : نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ وَقَالَ أَيْضًا : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : نَقُولُ إنَّا مُؤْمِنُونَ ؟ قَالَ : وَلَكِنْ نَقُولُ : إنَّا مُسْلِمُونَ ؛ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ قَصْدَ الْمُرْجِئَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ بَلْ يَكْرَهُ تَرْكَهُ لِمَا يَعْلَمُ أَنَّ فِي قَلْبِهِ إيمَانًا وَإِنْ كَانَ لَا يَجْزِمُ بِكَمَالِ إيمَانِهِ ؟ قَالَ الْخَلَّالُ : أَخْبَرَنِي أَحْمَد بْنُ أَصْرَمَ المزني أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ : إذَا سَأَلَنِي الرَّجُلُ فَقَالَ : أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ ؟ قَالَ سُؤَالُك إيَّايَ بِدْعَةٌ لَا يَشُكُّ فِي إيمَانِهِ أَوْ قَالَ لَا نَشُكُّ فِي إيمَانِنَا . قَالَ المزني : وَحِفْظِي أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : أَقُولُ كَمَا قَالَ طَاوُوسٌ : آمَنْت بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ .
وَقَالَ الْخَلَّالُ : أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَأَبُو دَاوُد قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت أَحْمَد : قَالَ : سَمِعْت سُفْيَانَ يَعْنِي ابْنَ عُيَيْنَة - يَقُولُ : إذَا سُئِلَ أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ ؟ لَمْ يُجِبْهُ وَيَقُولُ : سُؤَالُك إيَّايَ بِدْعَةٌ وَلَا أَشُكُّ فِي إيمَانِي وَقَالَ : إنْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَيْسَ يَكْرَهُ وَلَا يُدَاخِلُ الشَّكُّ فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ : لَا نَشُكُّ فِي إيمَانِنَا وَإِنَّ السَّائِلَ لَا يَشُكُّ فِي إيمَانِ الْمَسْئُولِ وَهَذَا أَبْلَغُ وَهُوَ إنَّمَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ مُقِرٌّ مُصَدِّقٌ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْوَاجِبَاتِ . فَعُلِمَ أَنَّ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ السَّلَفِ كَانُوا يَجْزِمُونَ وَلَا يَشُكُّونَ فِي وُجُودِ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَيَجْعَلُونَ الِاسْتِثْنَاءَ عَائِدًا إلَى الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ الْمُتَضَمِّنِ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَيَحْتَجُّونَ أَيْضًا بِجَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا لَا يَشُكُّ فِيهِ وَهَذَا " مَأْخَذٌ ثَانٍ " وَإِنْ كُنَّا لَا نَشُكُّ فِيمَا فِي قُلُوبِنَا مِنْ الْإِيمَانِ فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ قَدْ جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ . وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ قَالَ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ فَقَالَ : نَعَمْ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى شَكٍّ مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لِلْعَمَلِ وَقَدْ اسْتَثْنَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ } . وَقَالَ فِي الْمَيِّتِ : " وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَقَدْ بَيَّنَ أَحْمَد أَنَّهُ يَسْتَثْنِي مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لِلْعَمَلِ فَإِنَّهُ يَخَافُ أَنْ لَا يَكُونُ قَدْ كَمَّلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَيَحْتَاطُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَقَالَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى شَكٍّ ؛ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ
شَكٍّ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ يَشُكُّ فِي تَكْمِيلِ الْعَمَلِ الَّذِي خَافَ أَنْ لَا يَكُونَ كَمَّلَهُ ؛ فَيَخَافُ مِنْ نَقْصِهِ وَلَا يَشُكُّ فِي أَصْلِهِ . قَالَ الْخَلَّالُ : وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ : أَنَّ حبيش بْنَ سَنِّدِي حَدَّثَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَقَفَ عَلَى الْمَقَابِرِ فَقَالَ : وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } وَقَدْ نُعِيَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ صَائِرٌ إلَى الْمَوْتِ وَفِي قِصَّةِ صَاحِبِ الْقَبْرِ " وَعَلَيْهِ حَيِيت وَعَلَيْهِ مُتّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ " وَفِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي وَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا } { وَفِي مَسْأَلَةِ الرَّجُلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُنَا يُصْبِحُ جُنُبًا يَصُومُ ؟ فَقَالَ : إنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ ثُمَّ أَصُومُ فَقَالَ : إنَّك لَسْت مِثْلَنَا أَنْتَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ } . وَهَذَا كَثِيرٌ وَأَشْبَاهُهُ عَلَى الْيَقِينِ . قَالَ : وَدَخَلَ عَلَيْهِ شَيْخٌ فَسَأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَالَ لَهُ : قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . فَقَالَ لَهُ : أَقُولُ : مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ لَهُ : إنَّهُمْ يَقُولُونَ لِي إنَّك شَاكٍ ؛ قَالَ : بِئْسَ مَا قَالُوا ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ : رُدُّوهُ فَقَالَ : أَلَيْسَ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : هَؤُلَاءِ يَسْتَثْنُونَ . قَالَ لَهُ : كَيْفَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ : قُلْ لَهُمْ : زَعَمْتُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَالْقَوْلُ قَدْ أَتَيْتُمْ بِهِ وَالْعَمَلُ لَمْ تَأْتُوا بِهِ فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ لِهَذَا الْعَمَلِ قِيلَ لَهُ
يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ أَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَسْتَثْنِي عَلَى الْيَقِينِ لَا عَلَى الشَّكِّ ؛ ثُمَّ قَالَ : قَالَ اللَّهُ : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ . فَقَدْ بَيَّنَ أَحْمَد فِي كَلَامِهِ أَنَّهُ يَسْتَثْنِي مَعَ تَيَقُّنِهِ بِمَا هُوَ الْآنَ مَوْجُودٌ فِيهِ يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ وَيَسْتَثْنِي لِكَوْنِ الْعَمَلِ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ وَهُوَ لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ أَكْمَلَهُ بَلْ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ فَنَفَى الشَّكَّ وَأَثْبَتَ الْيَقِينَ فِيمَا يَتَيَقَّنُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَأَثْبَتَ الشَّكَّ فِيمَا لَا يَعْلَمُ وُجُودَهُ وَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُسْتَحَبٌّ لِهَذَا الثَّانِي الَّذِي لَا يَعْلَمُ هَلْ أَتَى بِهِ أَمْ لَا وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا لِمَا يَتَيَقَّنُهُ فَلَوْ اسْتَثْنَى لِنَفْسِ الْمَوْجُودِ فِي قَلْبِهِ جَازَ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ } وَهَذَا أَمْرٌ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ كَوْنُهُ أَخْشَانَا ؛ فَإِنَّهُ لَا يَرْجُو أَنْ يَصِيرَ أَخْشَانَا لِلَّهِ ؛ بَلْ هُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ حِينَ هَذَا الْقَوْلِ أَخْشَانَا لِلَّهِ . كَمَا يَرْجُو الْمُؤْمِنُ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هُوَ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ } وَالْقَبُولُ هُوَ أَمْرٌ حَاضِرٌ أَوْ مَاضٍ وَهُوَ يَرْجُوهُ وَيَخَافُهُ وَذَلِكَ أَنَّ مَا لَهُ عَاقِبَةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ مَحْمُودَةً أَوْ مَذْمُومَةً وَالْإِنْسَانُ يَجُوزُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ . يُقَالُ : إنَّهُ يَرْجُوهُ وَإِنَّهُ يَخَافُهُ . فَتَعَلَّقَ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ بِالْحَاضِرِ وَالْمَاضِي لِأَنَّ عَاقِبَتَهُ الْمَطْلُوبَةَ وَالْمَكْرُوهَةَ مُسْتَقْبَلَةٌ . فَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَقَبَّلَ عَمَلَهُ فَيُثِيبَهُ عَلَيْهِ فَيَرْحَمَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَيَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ
تَقَبَّلَهُ
فَيُحْرَمَ ثَوَابَهُ . كَمَا يَخَافُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ سَخِطَ عَلَيْهِ
فِي مَعْصِيَتِهِ فَيُعَاقِبَهُ عَلَيْهَا .
وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَسْعَى فِيمَا يَطْلُبُهُ كَتَاجِرِ أَوْ بَرِيدٍ
أَرْسَلَهُ فِي حَاجَتِهِ يَقْضِيهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَإِذَا مَضَى
ذَلِكَ الْوَقْتُ يَقُولُ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ قَدْ قَضَى ذَلِكَ
الْأَمْرَ وَقَضَاؤُهُ مَاضٍ لَكِنْ مَا يَحْصُلُ لِهَذَا مِنْ الْفَرَحِ
وَالسُّرُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِهِ مُسْتَقْبَلٌ . وَيَقُولُ
الْإِنْسَانُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ الْحَاجِّ بِدُخُولِهِمْ إلَى
مَكَّةَ : أَرْجُو أَنْ يَكُونُوا دَخَلُوا وَيَقُولُ فِي سَرِيَّةٍ بُعِثَتْ إلَى
الْكُفَّارِ : نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ وغنمهم
وَيُقَالُ فِي نِيلِ مِصْرَ عِنْدَ وَقْتِ ارْتِفَاعِهِ : نَرْجُو أَنْ يَكُونَ
قَدْ صَعِدَ النِّيلُ كَمَا يَقُولُ الْحَاضِرُ فِي مِصْرَ مِثْلَ هَذَا الْوَقْتِ
: نَرْجُو أَنْ يَكُونَ النِّيلُ فِي هَذَا الْعَامِ نِيلًا مُرْتَفِعًا وَيُقَالُ
لِمَنْ لَهُ أَرْضٌ يُحِبُّ أَنْ تُمْطِرَ إذَا مَطَرَتْ بَعْضُ النَّوَاحِي
أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْمَطَرُ عَامًّا وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ قَدْ مُطِرَتْ
الْأَرْضُ الْفُلَانِيَّةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْجُوَّ هُوَ مَا يَفْرَحُ
بِوُجُودِهِ وَيُسْرِهِ فَالْمَكْرُوهُ مَا يَتَأَلَّمُ بِوُجُودِهِ . وَهَذَا
يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ مُسْتَقْبَلٌ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ
الْمُسْلِمِينَ انْتَصَرُوا وَالْحَاجَّ قَدْ دَخَلُوا أَوْ الْمَطَرَ قَدْ نَزَلَ
فَرِحَ بِذَلِكَ وَحَصَلَ بِهِ مَقَاصِدُ أُخَرُ لَهُ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ
بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْمَحْبُوبُ الْمَطْلُوبُ فَيَقُولُ :
أَرْجُو وَأَخَافُ لِأَنَّ الْمَحْبُوبَ وَالْمَكْرُوهَ مُتَعَلِّقٌ بِالْعِلْمِ
بِذَلِكَ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ وَكَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ بِالْإِيمَانِ مِنْ
السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ هُوَ أَمْرُ مُسْتَقْبَلٍ فَيُسْتَثْنَى فِي الْحَاضِرِ
بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهِ مُسْتَقْبَلٌ ثُمَّ كُلُّ مَطْلُوبٍ
مُسْتَقْبَلٌ تَعَلَّقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ
وَإِنْ
جَزَمَ بِوُجُودِهِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْتَقْبَلٌ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ
. فَقَوْلُنَا : يَكُونُ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ حَقٌّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ
إلَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَاللَّفْظُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا التَّعْلِيقُ وَلَيْسَ
مِنْ ضَرُورَةِ التَّعْلِيقِ الشَّكُّ . بَلْ هَذَا بِحَسَبِ عِلْمِ
الْمُتَكَلِّمِ فَتَارَةً يَكُونُ شَاكًّا وَتَارَةً لَا يَكُونُ شَاكًّا ؛
فَلَمَّا كَانَ الشَّكُّ يَصْحَبُهَا كَثِيرًا لِعَدَمِ عِلْمِ الْإِنْسَانِ
بِالْعَوَاقِبِ ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ الشَّكَّ دَاخِلٌ فِي مَعْنَاهَا وَلَيْسَ
كَذَلِكَ .
فَقَوْلُهُ : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } لَا
يُتَصَوَّرُ فِيهِ شَكٌّ مِنْ اللَّهِ ؛ بَلْ وَلَا مِنْ رَسُولِهِ الْمُخَاطَبِ
وَالْمُؤْمِنِينَ وَلِهَذَا قَالَ ثَعْلَبٌ : هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ اللَّهِ
وَقَدْ عَلِمَهُ وَالْخَلْقُ يَسْتَثْنُونَ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ . وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ إنَّ إنْ بِمَعْنَى إذْ أَيْ : إذْ شَاءَ
اللَّهُ وَمَقْصُودُهُ بِهَذَا تَحْقِيقُ الْفِعْلِ بـ ( إنْ ) كَمَا يَتَحَقَّقُ
مَعَ إذْ . وَإِلَّا فَإِذْ ظَرْفُ تَوْقِيتٍ و ( إنْ ) حَرْفُ تَعْلِيقٍ . فَإِنْ
قِيلَ : فَالْعَرَبُ تَقُولُ : إذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ فَأْتِنِي وَلَا تَقُولُ :
إنْ احْمَرَّ الْبُسْرُ . قِيلَ : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا تَوْقِيتُ
الْإِتْيَانِ بِحِينِ احْمِرَارِهِ فَأَتَوْا بِالظَّرْفِ الْمُحَقِّقِ وَلَفْظِ :
( إنْ لَا يَدُلُّ عَلَى تَوْقِيتٍ بَلْ هِيَ تَعْلِيقٌ مَحْضٌ تَقْتَضِي
ارْتِبَاطَ الْفِعْلِ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ وَنَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ أَنْ
يَقُولُوا : الْبُسْرُ يَحْمَرُّ وَيَطِيبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا حَقٌّ فَهَذَا
نَظِيرُ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : فَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَرُّوا مِنْ هَذَا
الْمَعْنَى وَجَعَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ لِأَمْرِ مَشْكُوكٍ فِيهِ فَقَالَ
الزَّجَّاجُ : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } أَيْ : أَمَرَكُمْ
اللَّهُ بِهِ وَقِيلَ : الِاسْتِثْنَاءُ يَعُودُ إلَى الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ . أَيْ : لَتَدْخُلُنَّهُ آمِنِينَ فَأَمَّا الدُّخُولُ فَلَا شَكَّ فِيهِ . وَقِيلَ : لَتَدْخُلُنَّ جَمِيعُكُمْ أَوْ بَعْضُكُمْ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمُوتُ فَالِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا جَمِيعَهُمْ . قِيلَ : كُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَقَعَ أَصْحَابُهَا فِيمَا فَرُّوا مِنْهُ ؛ مَعَ خُرُوجِهِمْ عَنْ مَدْلُولِ الْقُرْآنِ فَحَرَّفُوهُ تَحْرِيفًا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فَإِنَّ قَوْل مَنْ قَالَ : أَيْ : أَمَرَكُمْ اللَّهُ بِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ هَلْ يَأْمُرُهُمْ أَوْ لَا يَأْمُرُهُمْ فَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ سَيَأْمُرُهُمْ بِدُخُولِهِ كَعِلْمِهِ بِأَنْ يَدْخُلُوا فَعَلَّقُوا الِاسْتِثْنَاءَ بِمَا لَمْ يَدُلّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَعِلْمُ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُظْهَرِ وَالْمُضْمَرِ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ أَمْنُهُمْ وَخَوْفُهُمْ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ آمِنِينَ أَوْ خَائِفِينَ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ آمِنِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ آمِنِينَ فَكِلَاهُمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَكٌّ عِنْدَ اللَّهِ ؛ بَلْ وَلَا عِنْدَ رَسُولِهِ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : جَمِيعُهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ يُقَالُ : الْمُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ دُخُولُ مَنْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْجَمِيعَ فَالْجَمِيعُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلُوهُ وَإِنْ أُرِيدَ الْأَكْثَرُ كَانَ دُخُولُهُمْ هُوَ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ وَمَا لَمْ يُرِدْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بـ ( إنْ وَإِنَّمَا عُلِّقَ بـ ( إنْ مَا سَيَكُونُ ؛ وَكَانَ هَذَا وَعْدًا مَجْزُومًا بِهِ . وَلِهَذَا لَمَّا { قَالَ عُمَر لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ : أَلَمْ تَكُنْ تُحَدِّثُنَا أَنَّا نَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَالَ : بَلَى قُلْت لَك : إنَّك تَأْتِيهِ هَذَا الْعَامَ ؟ قَالَ : لَا قَالَ : فَإِنَّك آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ } . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يُعَلِّقْ غَيْرَ هَذَا مِنْ مَوَاعِيدِ الْقُرْآنِ ؟ قِيلَ : لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ مَرْجِعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ
مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا قَدْ اعْتَمَرُوا ذَلِكَ الْعَامَ وَاجْتَهَدُوا فِي الدُّخُولِ فَصَدَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَرَجَعُوا وَبِهِمْ مِنْ الْأَلَمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ فَكَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِتَحْقِيقِ هَذَا الْوَعْدِ ذَلِكَ الْعَامَ إذْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَهُمْ وَعْدًا مُطْلَقًا . وَقَدْ { رُوِيَ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَصْبَحَ فَحَدَّثَ النَّاسَ بِرُؤْيَاهُ وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إلَى الْعُمْرَةِ فَلَمْ تَحْصُلْ لَهُمْ الْعُمْرَةُ ذَلِكَ الْعَامَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ } وَاعِدَةً لَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي كَانُوا يَظُنُّونَ حُصُولَهُ ذَلِكَ الْعَامَ . وَكَانَ قَوْلُهُ : { إنْ شَاءَ اللَّهُ } هُنَا تَحْقِيقًا لِدُخُولِهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُحَقِّقُ ذَلِكَ لَكُمْ ؛ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ فِيمَا عَزَمَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ لَا مَحَالَةَ : وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقُولُهَا لِشَكِّ فِي إرَادَتِهِ وَعَزْمِهِ بَلْ تَحْقِيقًا لِعَزْمِهِ وَإِرَادَتِهِ فَإِنَّهُ يَخَافُ إذَا لَمْ يَقُلْ : إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْقُضَ اللَّهُ عَزْمَهُ وَلَا يَحْصُلَ مَا طَلَبَهُ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ كُلٌّ مِنْهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسِ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : قُلْ : إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ } فَهُوَ إذَا قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ لِشَكِّ فِي طَلَبِهِ وَإِرَادَتِهِ بَلْ لِتَحْقِيقِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهُ إذْ الْأُمُورُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَإِذَا تَأَلَّى الْعَبْدُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ بِمَشِيئَتِهِ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَأَلَّى عَلَى اللَّهِ يُكَذِّبُهُ وَلِهَذَا يُرْوَى : " لَا أَتْمَمْت لِمُقَدَّرِ أَمْرًا " .
وَقِيلَ
لِبَعْضِهِمْ : بِمَاذَا عَرَفْت رَبَّك ؟ قَالَ : بِفَسْخِ الْعَزَائِمِ وَنَقْضِ
الْهِمَمِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ
ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } فَإِنَّ قَوْلَهُ : لَأَفْعَلَنَّ
فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ وَالْخَبَرِ وَطَلَبُهُ جَازِمٌ وَأَمَّا كَوْنُ
مَطْلُوبِهِ يَقَعُ فَهَذَا يَكُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَطَلَبُهُ لِلْفِعْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اللَّهِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ ،
فَفِي الطَّلَبِ : عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ ، وَفِي الْخَبَرِ : لَا
يُخْبِرُ إلَّا بِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ ؛ فَإِذَا جَزَمَ بِلَا تَعْلِيقٍ كَانَ كَالتَّأَلِّي
عَلَى اللَّهِ فَيُكَذِّبُهُ اللَّهُ ، فَالْمُسْلِمُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ
عَازِمٌ عَلَيْهِ وَمُرِيدٌ لَهُ وَطَالِبٌ لَهُ طَلَبًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ
يَقُولُ : " إنْ شَاءَ اللَّهُ " لِتَحْقِيقِ مَطْلُوبِهِ وَحُصُولِ مَا
أَقْسَمَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ لَا
لِتَرَدُّدِ فِي إرَادَتِهِ ، وَالرَّبُّ تَعَالَى مُرِيدٌ لِإِنْجَازِ مَا
وَعَدَهُمْ بِهِ إرَادَةً جَازِمَةً لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيهَا وَمَا شَاءَ فَعَلَ
فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ لَيْسَ
كَالْعَبْدِ الَّذِي يُرِيدُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يُرِيدُ .
فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { إنْ شَاءَ اللَّهُ } تَحْقِيقُ أَنَّ مَا وَعَدْتُكُمْ
بِهِ يَكُونُ لَا مَحَالَةَ بِمَشِيئَتِي وَإِرَادَتِي فَإِنَّ مَا شِئْتُ كَانَ وَمَا
لَمْ أَشَأْ لَمْ يَكُنْ ؛ فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ هُنَا لِقَصْدِ التَّحْقِيقِ
لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مَطْلُوبُهُمْ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ ذَلِكَ
الْعَامَ ، وَأَمَّا سَائِرُ مَا وُعِدُوا بِهِ فَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ .
وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَرَادَ بِاسْتِثْنَائِهِ فِي
الْيَمِينِ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ التَّحْقِيقُ فِي اسْتِثْنَائِهِ لَا
التَّعْلِيقُ : هَلْ يَكُونُ مُسْتَثْنِيًا بِهِ أَمْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ
إذَا حَنِثَ ؟ بِخِلَافِ مَنْ تَرَدَّدَتْ إرَادَتُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ
مُسْتَثْنِيًا بِلَا نِزَاعٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ
يَكُونُ فِي الْجَمِيعِ مُسْتَثْنِيًا لِعُمُومِ الْمَشِيئَةِ وَلِأَنَّ الرَّجُلَ وَإِنْ كَانَتْ إرَادَتُهُ لِلْمَحْلُوفِ بِهِ جَازِمَةً فَقَدْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَهُوَ يَجْزِمُ بِإِرَادَتِهِ لَهُ لَا يَجْزِمُ بِحُصُولِ مُرَادِهِ وَلَا هُوَ أَيْضًا مُرِيدٌ لَهُ بِتَقْدِيرِ أَلَّا يَكُونَ ؛ فَإِنَّ هَذَا تَمْيِيزٌ لَا إرَادَةَ فَهُوَ إنَّمَا الْتَزَمَهُ إذَا شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِيَمِينِهِ وَلَا حَلَفَ أَنَّهُ يَكُونُ : وَإِنْ كَانَتْ إرَادَتُهُ لَهُ جَازِمَةً فَلَيْسَ كُلُّ مَا أُرِيدَ الْتَزَمَ بِالْيَمِينِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : إنْ شَاءَ اللَّهُ يَكُونُ مَعَ كَمَالِ إرَادَتِهِ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ يَقُولُهَا لِتَحْقِيقِ الْمَطْلُوبِ ؛ لِاسْتِعَانَتِهِ بِاَللَّهِ فِي ذَلِكَ لَا لِشَكِّ فِي الْإِرَادَةِ هَذَا فِيمَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَيُرِيدُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } فَإِنَّهُ خَبَرٌ عَمَّا أَرَادَ اللَّهُ كَوْنَهُ ، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنْ سَيَكُونُ وَقَدْ عَلَّقَهُ بِقَوْلِهِ : { إنْ شَاءَ اللَّهُ } فَكَذَلِكَ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِ مِمَّا هُوَ جَازِمٌ بِإِرَادَتِهِ ، وَجَازِمٌ بِوُقُوعِهِ فَيَقُولُ فِيهِ : " إنْ شَاءَ اللَّهُ " لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لَا لِلشَّكِّ لَا فِي إرَادَتِهِ وَلَا فِي الْعِلْمِ بِوُقُوعِهِ . وَلِهَذَا يَذْكُرُ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَ كَمَالِ الرَّغْبَةِ فِي الْمُعَلَّقِ ، وَقُوَّةِ إرَادَةِ الْإِنْسَانِ لَهُ . فَتَبْقَى خَوَاطِرُ الْخَوْفِ تُعَارِضُ الرَّجَاءَ ؛ فَيَقُولُ : " إنْ شَاءَ اللَّهُ " لِتَحْقِيقِ رَجَائِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنْ سَيَكُونُ كَمَا يَسْأَلُ اللَّهَ وَيَدْعُوهُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ كَمَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ قَدْ أَخْبَرَهُمْ بِمَصَارِعِ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ هُوَ بَعْدَ هَذَا يَدْخُلُ إلَى الْعَرِيشِ يَسْتَغِيثُ رَبَّهُ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي } لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَا يُقَدِّرُهُ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ قَدَّرَهُ بِأَسْبَابِ ، وَالدُّعَاءُ مِنْ أَعْظَمِ
أَسْبَابِهِ
، كَذَلِكَ رَجَاءُ رَحْمَةِ اللَّهِ وَخَوْفُ عَذَابِهِ مِنْ أَعْظَمِ
الْأَسْبَابِ فِي النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ وَحُصُولِ رَحْمَتِهِ .
وَالِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ يَحْصُلُ فِي الْخَبَرِ الْمَحْضِ وَفِي
الْخَبَرِ الَّذِي مَعَهُ طَلَبٌ ؛ فَالْأَوَّلُ إذَا حَلَفَ عَلَى جُمْلَةٍ
خَبَرِيَّةٍ لَا يَقْصِدُ بِهِ حَضًّا وَلَا مَنْعًا بَلْ تَصْدِيقًا أَوْ
تَكْذِيبًا كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَيَكُونَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ
لَا يَكُونُ كَذَا . وَالْمُسْتَثْنِي قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِأَنَّ هَذَا
يَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { لَتَدْخُلُنَّ } فَإِنَّ هَذَا
جَوَابٌ غَيْرُ مَحْذُوفٍ . وَالثَّانِي : مَا فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ ،
كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ ؛ فَالصِّيغَةُ صِيغَةُ خَبَرٍ ضَمَّنَهَا الطَّلَبَ وَلَمْ يَقُلْ :
وَاَللَّهِ إنِّي لَمُرِيدٌ هَذَا وَلَا عَازِمٌ عَلَيْهِ بَلْ قَالَ : وَاَللَّهِ
لَيَكُونَنَّ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَقَدْ حَنِثَ لِوُقُوعِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ
مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَحَنِثَ فَإِذَا قَالَ : " إنْ شَاءَ اللَّهُ "
فَإِنَّمَا حَلَفَ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ : إنْ يَشَأْ اللَّهُ لَا مُطْلَقًا .
وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ مَتَى لَمْ يُوجَدْ
الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ حَنِثَ أَوْ مَتَى وَجَدَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَنَّهُ
لَا يَفْعَلُهُ حَنِثَ سَوَاءٌ كَانَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ جَاهِلًا
فَإِنَّهُمْ لَحَظُوا أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْخَبَرِ فَإِذَا وُجِدَ بِخِلَافِ
مُخْبِرِهِ فَقَدْ حَنِثَ ، وَقَالَ الْآخَرُونَ : بَلْ هَذَا مَقْصُودُهُ الْحَضُّ
وَالْمَنْعُ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَتَى نُهِيَ الْإِنْسَانُ عَنْ شَيْءٍ
فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا فَكَذَلِكَ هَذَا .
قَالَ الْأَوَّلُونَ : فَقَدْ يَكُونُ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَيَقَعَنَّ الْمَطَرُ أَوْ لَا يَقَعُ وَهَذَا خَبَرٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ حَضٌّ وَلَا مَنْعٌ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى اعْتِقَادِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ حَنِثَ وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَلِفِ عَلَى الْمَاضِي وَالْحِلْفِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ ، فَإِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمَاضِي غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ فَإِذَا أَخْطَأَ فِيهَا لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ كَالْغَمُوسِ بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبَلِ . وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا كَانَ فَعَلَهُ . قَالَ تَعَالَى : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } فَأَمَرَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَا سَيَكُونُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْحَاضِرِ فِي قَوْلِهِ : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ } وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا } . وَقَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَا قَتَلَ ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَا قُتِلَ } وَقَالَ : { إذَا هَلَكَ كِسْرَى أَوْ لِيَهْلِكَ كِسْرَى ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ . وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَكِلَاهُمَا فِي " الصَّحِيحِ " . فَأَقْسَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ
الشَّيْخُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْوَرِعُ النَّاسِكُ ؛ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
بَقِيَّةُ السَّلَفِ الْكِرَامِ " أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ
الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الشَّامِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
تَضَمَّنَ حَدِيثُ سُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
" الْإِسْلَامِ " و " الْإِيمَانِ " و " الْإِحْسَانِ
" ؛ وَجَوَابُهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ : { هَذَا
جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } . فَجَعَلَ هَذَا كُلَّهُ مِنْ
الدِّينِ . وَلِلنَّاسِ فِي " الْإِسْلَامِ " و " الْإِيمَانِ
" مِنْ الْكَلَامِ الْكَثِيرِ : مُخْتَلِفِينَ تَارَةً وَمُتَّفِقِينَ
أُخْرَى . مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ مَعَهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ ؛
وَهَذَا يَكُونُ بِأَنْ تُبَيَّنَ الْأُصُولُ الْمَعْلُومَةُ الْمُتَّفَقُ
عَلَيْهَا . ثُمَّ بِذَلِكَ يُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ
الْمُتَنَازَعِ فِيهَا ؛ فَنَقُولُ : مَا عُلِمَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالْإِجْمَاعِ وَهُوَ مِنْ الْمَنْقُولِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ - دِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلَى عَهْدِهِ بِالْمَدِينَةِ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ " : مُؤْمِنٌ ، وَكَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ ، وَمُنَافِقٌ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَافِرٌ . وَلِهَذَا التَّقْسِيمِ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذِكْرَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فَأَنْزَلَ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ . وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ . فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } الْآيَتَيْنِ : فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ كُفَّارًا . وَقَوْلُهُ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } . الْآيَاتُ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ ؛ إلَى أَنْ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلَيْنِ : أَحَدُهُمَا بِالنَّارِ ، وَالْآخَرُ بِالْمَاءِ ؛ كَمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِهَذَيْنِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } الْآيَةَ .
وَأَمَّا
قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ لَمْ
يَكُنْ هُنَاكَ مُنَافِقٌ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ فَكَانَ
مَنْ آمَنَ آمَنَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ فَهُوَ كَافِرٌ .
فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ
وَصَارَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَا عِزٌّ وَأَنْصَارٌ وَدَخَلَ جُمْهُورُ أَهْلِهَا
فِي الْإِسْلَامِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا : كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ أَقَارِبِهِمْ
وَمِنْ غَيْرِ أَقَارِبِهِمْ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مُوَافَقَةً رَهْبَةً
أَوْ رَغْبَةً وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَافِرٌ . وَكَانَ رَأْسُ هَؤُلَاءِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أبي ابْنُ سلول وَقَدْ نَزَلَ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ مِنْ
الْمُنَافِقِينَ آيَاتٌ . وَالْقُرْآنُ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ
فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا ذَكَرَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ
وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَسُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَالْأَحْزَابِ . وَكَانَ
هَؤُلَاءِ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَادِيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } .
وَكَانَ فِي الْمُنَافِقِينَ مَنْ هُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَسُورَةِ الْفَتْحِ
وَالْقِتَالِ وَالْحَدِيدِ وَالْمُجَادَلَةِ وَالْحَشْرِ وَالْمُنَافِقِينَ . بَلْ
عَامَّةُ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ : يَذْكُرُ فِيهَا الْمُنَافِقِينَ . قَالَ
تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي
الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا
} إلَى قَوْلِهِ : { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا
قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا } الْآيَاتِ . وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } إلَى قَوْلِهِ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } { إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } الْآيَاتِ . وَقَالَ : { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } إلَى قَوْلِهِ :
{ إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ } { وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } إلَى قَوْلِهِ : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } . وَأَمَّا سُورَةُ " بَرَاءَةٌ " فَأَكْثَرُهَا فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ وَذَمِّهِمْ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ : الْفَاضِحَةُ وَالْمُبَعْثِرَةُ وَهِيَ نَزَلَتْ عَامَ تَبُوكَ . وَكَانَتْ تَبُوكُ سَنَةَ تِسْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَكَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ آخِرَ مَغَازِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي غَزَاهَا بِنَفْسِهِ . وَتَمَيَّزَ فِيهَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ تَمَيَّزَ . فَذَكَرَ اللَّهُ مِنْ صِفَاتِهِمْ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الْآيَاتِ . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ
لَيَقُولُنَّ إنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } وَذَكَرَ فِيهِ شَأْنَهُمْ فِي الْأَحْزَابِ . وَذَكَرَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَجُبْنِهِمْ وَهَلَعِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا } إلَى قَوْلِهِ { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَلِيلًا } { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } { يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } { مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا } إلَى قَوْلِهِ : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقِتَالِ : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } إلَى مَا فِي السُّورَةِ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ .
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَتْحِ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا } { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ } . وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } . إلَى قَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . وَقَوْلُهُ : { مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ } كَقَوْلِهِ : { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تُعِيرُ إلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } { لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ } { لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ } الْآيَةَ . وَقَدْ ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ : { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . و ( الْمَقْصُودُ بَيَانُ كَثْرَةِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَأَوْصَافِهِمْ . و " الْمُنَافِقُونَ " هُمْ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمُونَ وَقَدْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةَ لَا سِيَّمَا فِي آخِرِ الْأَمْرِ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ؛ لِعِزِّ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ إذْ ذَاكَ بِالْحُجَّةِ وَالسَّيْفِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } وَلِهَذَا قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ : - وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الصَّحَابَةِ بِصِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَأَعْيَانِهِمْ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَسَرَّ إلَيْهِ عَامَ تَبُوكَ أَسْمَاءَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ بِأَعْيَانِهِمْ فَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ : هُوَ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ . وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ . قَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النِّفَاقُ الْيَوْمَ أَكْثَرُ مِنْهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي رِوَايَةٍ : كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسِرُّونَهُ وَالْيَوْمَ يُظْهِرُونَهُ - وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْن أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ } { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } وَقَدْ كَانُوا يَشْهَدُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَغَازِيَهُ كَمَا شَهِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي ابْنُ سلول وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ " الْغَزْوَةَ " الَّتِي قَالَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي : { لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ
لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } . وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَهُ قَوْمٌ حَتَّى أَنْزَلَ
اللَّهُ الْقُرْآنَ بِتَصْدِيقِهِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّاسَ يَنْقَسِمُونَ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى : "
مُؤْمِنٍ " و " مُنَافِقٍ " كَافِرٍ فِي الْبَاطِنِ مَعَ كَوْنِهِ
مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ وَإِلَى كَافِرٍ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . وَلَمَّا
كَثُرَتْ الْأَعَاجِمُ فِي الْمُسْلِمِينَ تَكَلَّمُوا بِلَفْظِ "
الزِّنْدِيقِ " وَشَاعَتْ فِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي
الزِّنْدِيقِ : هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ ؟ فِي الظَّاهِرِ : إذَا عُرِفَ
بِالزَّنْدَقَةِ وَدُفِعَ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ قَبْلَ تَوْبَتِهِ فَمَذْهَبُ
مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَطَائِفَةٍ مِنْ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي
حَنِيفَةَ : أَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُقْبَلُ . وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ : قَبُولُهَا كَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد وَهُوَ
الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ " الزِّنْدِيقَ " فِي عُرْفِ هَؤُلَاءِ
الْفُقَهَاءِ هُوَ الْمُنَافِقُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنَ
غَيْرَهُ سَوَاءٌ أَبْطَنَ دِينًا مِنْ الْأَدْيَانِ : كَدِينِ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى أَوْ غَيْرِهِمْ . أَوْ كَانَ مُعَطِّلًا جَاحِدًا لِلصَّانِعِ
وَالْمَعَادِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ :
" الزِّنْدِيقُ " هُوَ الْجَاحِدُ الْمُعَطِّلُ . وَهَذَا يُسَمَّى
الزِّنْدِيقَ فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْعَامَّةِ وَنَقَلَةِ مَقَالَاتِ النَّاسِ ؛ وَلَكِنَّ الزِّنْدِيقَ الَّذِي تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ : هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ هُوَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَغَيْرِ الْكَافِرِ وَالْمُرْتَدِّ وَغَيْرِ الْمُرْتَدِّ وَمَنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ أَوْ أَسَرَّهُ . وَهَذَا الْحُكْمُ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْكُفَّارِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَإِنْ تَفَاوَتَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِزِيَادَةِ الْكُفْرِ كَمَا أَخْبَرَ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } وَتَارِكُ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَرْكَانِ أَوْ مُرْتَكِبِي الْكَبَائِرِ كَمَا أَخْبَرَ بِزِيَادَةِ عَذَابِ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } . فَهَذَا " أَصْلٌ " يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ فِي هَذَا الْبَابِ . فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي " مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ " - لِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ - لَمْ يَلْحَظُوا هَذَا الْبَابَ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْحُكْمِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثَابِتٌ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ ؛ بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا عَلِمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ : قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا مُخْطِئًا جَاهِلًا ضَالًّا عَنْ بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ يَكُونُ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ . وَهُنَا " أَصْلٌ آخَرُ " وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَصْفُ أَقْوَامٍ بِالْإِسْلَامِ دُونَ الْإِيمَانِ . فَقَالَ تَعَالَى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَاحِدٌ . وَعَارَضُوا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ تُوَافِقُ الْآيَةَ الْأُولَى لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَخْرَجَ مَنْ كَانَ فِيهَا مُؤْمِنًا وَأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَذَلِكَ لِأَنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ كانت فِي أَهْلِ الْبَيْتِ الْمَوْجُودِينَ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ الْمُخْرَجِينَ الَّذِينَ نَجَوْا ؛ بَلْ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ وَكَانَتْ فِي الظَّاهِرِ مَعَ زَوْجِهَا عَلَى دِينِهِ وَفِي الْبَاطِنِ مَعَ قَوْمِهَا عَلَى دِينِهِمْ خَائِنَةً لِزَوْجِهَا تَدُلُّ قَوْمَهَا عَلَى أَضْيَافِهِ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } . وَكَانَتْ خِيَانَتُهُمَا لَهُمَا فِي الدِّينِ لَا فِي الْفِرَاشِ . فَإِنَّهُ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ ؛ إذْ " نِكَاحُ الْكَافِرَةِ " قَدْ يَجُوزُ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ وَيَجُوزُ فِي شَرِيعَتِنَا نِكَاحُ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ وَهُنَّ الْكِتَابِيَّاتُ وَأَمَّا " نِكَاحُ الْبَغِيِّ " فَهُوَ : دِيَاثَةٌ . وَقَدْ صَانَ اللَّهُ النَّبِيَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ دَيُّوثًا . وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْبَغِيِّ حَتَّى تَتُوبَ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً وَلَمْ تَكُنْ مِنْ النَّاجِينَ الْمُخْرَجِينَ فَلَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وَكَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الْمُسْلِمِينَ وَمِمَّنْ وُجِدَ فِيهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } . وَبِهَذَا تَظْهَرُ حِكْمَةُ الْقُرْآنِ حَيْثُ ذَكَرَ الْإِيمَانَ لَمَّا أَخْبَرَ بِالْإِخْرَاجِ وَذَكَرَ الْإِسْلَامَ لَمَّا أَخْبَرَ بِالْوُجُودِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ فِي الْقُرْآنِ . و " أَيْضًا " فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالًا وَلَمْ يُعْطِ رَجُلًا . فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْت فُلَانًا وَتَرَكْت فُلَانًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ . فَقَالَ : أو مُسْلِمٌ ؟ قَالَ : ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْت فُلَانًا وَفُلَانًا وَتَرَكْت فُلَانًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَقَالَ أو مُسْلِمٌ ؟ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَذَكَرَ فِي تَمَامِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُعْطِي رِجَالًا وَيَدَعُ مَنْ هُوَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْهُمْ ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ } . قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ فَأَجَابَ سَعْدًا بِجَوَابَيْنِ " أَحَدُهُمَا " : أَنَّ هَذَا الَّذِي شَهِدَتْ لَهُ بِالْإِيمَانِ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا . " الثَّانِي " : إنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أُولَئِكَ فَأَنَا قَدْ أُعْطِي مَنْ هُوَ أَضْعَفُ إيمَانًا ؛ لِئَلَّا يَحْمِلَهُ الْحِرْمَانُ عَلَى الرِّدَّةِ فَيُكِبَّهُ اللَّهُ فِي
النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ . وَهَذَا مِنْ إعْطَاء الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ . وَحِينَئِذٍ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَثْبَتَ لَهُمْ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْإِسْلَامَ ؛ دُونَ الْإِيمَانِ هَلْ هُمْ الْمُنَافِقُونَ الْكُفَّارُ فِي الْبَاطِنِ ؟ أَمْ يَدْخُلُ فِيهِمْ قَوْمٌ فِيهِمْ بَعْضُ الْإِيمَانِ ؟ هَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ : بَلْ هُمْ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ اسْتَسْلَمُوا وَانْقَادُوا فِي الظَّاهِرِ وَلَمْ يَدْخُلْ إلَى قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ . وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ قَدْ يَقُولُونَ الْإِسْلَامُ الْمَقْبُولُ هُوَ الْإِيمَانُ ؛ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَسْلَمُوا ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا فَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ فِي الْبَاطِنِ وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ . وَقَالُوا : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } . بَيَانُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ فَمَا لَيْسَ مِنْ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ مَقْبُولًا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَان مِنْهُ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ إذَا كَانَ مُسْلِمًا فِي الْبَاطِنِ . وَأَمَّا الْكَافِرُ الْمُنَافِقُ فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا يُسَمَّوْنَ بِمُؤْمِنِينَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ . إلَّا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَهُمْ الكَرَّامِيَة الَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ فِي الظَّاهِرِ . فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ : كَانَ مُؤْمِنًا وَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا فِي الْبَاطِنِ وَسَلَّمُوا أَنَّهُ مُعَذَّبٌ مُخَلَّدٌ فِي الْآخِرَةِ . فَنَازَعُوا فِي اسْمِهِ لَا فِي
حُكْمِهِ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْكِي عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِمْ . وَمَعَ هَذَا فَتَسْمِيَتُهُمْ لَهُ مُؤْمِنًا : بِدْعَةٌ ابْتَدَعُوهَا مُخَالَفَةً لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الشَّنْعَاءُ هِيَ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الكَرَّامِيَة دُون سَائِرِ مَقَالَاتِهِمْ . قَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : بَلْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وُصِفُوا بِالْإِسْلَامِ دُونَ الْإِيمَانِ قَدْ لَا يَكُونُونَ كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ بَلْ مَعَهُمْ بَعْضُ الْإِسْلَامِ الْمَقْبُولِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : الْإِسْلَامُ أَوْسَعُ مِنْ الْإِيمَانِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا . وَيَقُولُونَ : فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ - حِينَ يَسْرِقُ - وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ - حِينَ يَشْرَبُهَا - وَهُوَ مُؤْمِنٌ } إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَدَوَّرُوا لِلْإِسْلَامِ دَارَةً وَدَوَّرُوا لِلْإِيمَانِ دَارَةً أَصْغَرَ مِنْهَا فِي جَوْفِهَا وَقَالُوا : إذَا زَنَى خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَى الْكُفْرِ . وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } . فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } وَهَذَا الْحَرْفُ - أَيْ ( لَمَّا - يُنْفَى بِهِ مَا قَرُبَ وُجُودُهُ وَانْتُظِرَ وُجُودُهُ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدُ . فَيَقُولُ لِمَنْ يَنْتَظِرُ غَائِبًا أَيْ " لَمَّا " . وَيَقُولُ قَدْ جَاءَ لَمَّا يَجِئْ بَعْدُ . فَلَمَّا قَالُوا : { آمَنَّا } قِيلَ : { لَمْ تُؤْمِنُوا } بَعْدُ بَلْ الْإِيمَانُ مَرْجُوٌّ مُنْتَظَرٌ مِنْهُمْ . ثُمَّ قَالَ : { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ } أَيْ : لَا يُنْقِصْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ الْمُثْبَتَةِ ( شَيْئًا أَيْ : فِي هَذِهِ الْحَالِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ فَائِدَةٌ لَهُمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ ؛ إذْ كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُثَابُونَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِهِ . فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : الْمُطَاعُ يُثَابُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَعْرِفُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ . و " أَيْضًا " فَالْخِطَابُ لِهَؤُلَاءِ الْمُخَاطَبِينَ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ : لَمَّا يَدْخُلْ فِي قُلُوبِهِمْ وَقِيلَ لَهُمْ : { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُثَابِينَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَكَانَ خِلَافَ مَدْلُولِ الْخِطَابِ فَبَيَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَخْرَجَ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَهَذَا نَعْتُ مُحَقِّقِ
الْإِيمَانِ ؛ لَا نَعْتُ مَنْ مَعَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وقَوْله
تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى
يَسْتَأْذِنُوهُ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ .
فَدَلَّ الْبَيَانُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَنْفِيَّ عَنْ هَؤُلَاءِ
الْأَعْرَابِ : هُوَ هَذَا الْإِيمَانُ الَّذِي نُفِيَ عَنْ فُسَّاقِ أَهْلِ
الْقِبْلَةِ الَّذِينَ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعَ
أَحَدِهِمْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَنَفْيُ هَذَا الْإِيمَانِ لَا
يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْكُفْرِ الَّذِي يُخَلِّدُ صَاحِبَهُ فِي النَّارِ .
وَبِتَحَقُّقِ " هَذَا الْمَقَامِ " يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ وَيُعْلَمُ أَنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ قِسْمًا لَيْسَ هُوَ مُنَافِقًا
مَحْضًا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ
} . وَلَا مِنْ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا
} فَلَا هُمْ مُنَافِقُونَ وَلَا هُمْ
مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّادِقِينَ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَلَا مِنْ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا عِقَابٍ . بَلْ لَهُ طَاعَاتٌ وَمَعَاصٍ وَحَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ وَمَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَا يَخْلُدُ مَعَهُ فِي النَّارِ وَلَهُ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا يَسْتَوْجِبُ دُخُولَ النَّارِ . وَهَذَا الْقِسْمُ قَدْ يُسَمِّيه بَعْضُ النَّاسِ : الْفَاسِقُ الْمِلِّي وَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي اسْمِهِ وَحُكْمِهِ . وَالْخِلَافُ فِيهِ أَوَّلُ خِلَافٍ ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ فِي مَسَائِلِ " أُصُولِ الدِّينِ " . فَنَقُولُ : لَمَّا قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَسَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى الْعِرَاقِ وَحَصَلَ بَيْنَ الْأُمَّةِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ ثُمَّ يَوْمَ صفين مَا هُوَ مَشْهُورٌ : خَرَجَتْ ( الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ أَخْبَرَ بِهِمْ وَذَكَرَ حُكْمَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَهَذِهِ الْعَشَرَةُ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مُوَافَقَةً لِأَحْمَدَ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْهَا عِدَّةَ أَوْجُهٍ وَرَوَى أَحَادِيثَهُمْ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ . وَمِنْ أَصَحِّ حَدِيثِهِمْ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ : إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَوَاَللَّهِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ وَإِنْ حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ
أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةِ فِي أَدَمٍ مَقْرُوضٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا فَقَالَ : فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كُنَّا أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ قَالَ : فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً قَالَ : فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاشِزُ الْجَبْهَةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمِّرُ الْإِزَارِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ فَقَالَ : وَيْلَك أَوَلَسْت أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ قَالَ : ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ ؟ فَقَالَ : لَا : لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي قَالَ خَالِدٌ : وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ ؛ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ قَالَ ثُمَّ نَظَرَ إلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ : إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ قَالَ : أَظُنُّهُ قَالَ : لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ } . اللَّفْظُ لِمُسْلِمِ .
وَلِمُسْلِمِ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ قَوْمًا يَكُونُونَ فِي أُمَّتِهِ يَخْرُجُونَ فِي فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ ثُمَّ قَالَ شَرُّ الْخَلْقِ أَوْ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَفِي لَفْظٍ لَهُ : { تَقْتُلُهُمْ أَقْرَبُ الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ : إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } فَبَيَّنَ أَنَّ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ كَانَتْ مُؤْمِنَةً وَأَنَّ اصْطِلَاحَ الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ كَانَ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اقْتِتَالِهِمَا وَأَنَّ اقْتِتَالَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَنَّ قِتَالَ الْخَوَارِجِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ . وَهَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ لَهُمْ أَسْمَاءٌ يُقَالُ لَهُمْ : " الحرورية " لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِمَكَانِ يُقَالُ لَهُ حَرُورَاءُ وَيُقَالُ لَهُمْ أَهْلُ النهروان : لِأَنَّ عَلِيًّا قَاتَلَهُمْ هُنَاكَ وَمِنْ أَصْنَافِهِمْ " الإباضية " أَتْبَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبَاضٍ و " الأزارقة " أَتْبَاعُ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ و " النَّجَدَاتُ " أَصْحَابُ نَجْدَةَ الحروري . وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ كَفَّرَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِالذُّنُوبِ بَلْ بِمَا يَرَوْنَهُ هُمْ مِنْ الذُّنُوبِ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَلِكَ فَكَانُوا كَمَا نَعَتَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ " وَكَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عفان وَمَنْ وَالَاهُمَا وَقَتَلُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَحِلِّينَ لِقَتْلِهِ قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ المرادي مِنْهُمْ وَكَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخَوَارِجِ مُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ لَكِنْ كَانُوا جُهَّالًا فَارَقُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ ؛ فَقَالَ هَؤُلَاءِ : مَا النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ ؛ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ فَعَلَ جَمِيعَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرَكَ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ ؛ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ . ثُمَّ جَعَلُوا كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ كَذَلِكَ فَقَالُوا : إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَنَحْوَهُمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَظَلَمُوا فَصَارُوا كُفَّارًا . وَمَذْهَبُ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ بِدَلَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ دُونَ قَتْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا لَوَجَبَ قَتْلُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَقَالَ { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٍ بَعْدَ إسْلَامٍ وَزِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ يُقْتَلُ بِهَا } وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجْلَدَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ لَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا ، وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُجْلَدَ قَاذِفُ الْمُحْصَنَةِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِدُ شَارِبَ الْخَمْرِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ : { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَيْهِ جَلَدَهُ فَأُتِيَ بِهِ إلَيْهِ مَرَّةً فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَنَهَى عَنْ لَعْنِهِ بِعَيْنِهِ وَشَهِدَ لَهُ بِحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ لَعَنَ شَارِبَ الْخَمْرِ عُمُومًا . وَهَذَا مِنْ أَجْوَدِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي " الثَّالِثَةِ " و " الرَّابِعَةِ " مَنْسُوخٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَتَى بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَقَدْ أَعْيَا الْأَئِمَّةَ الْكِبَارَ جَوَابُ هَذَا الْحَدِيثِ ؛ وَلَكِنَّ نَسْخَ الْوُجُوبِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : يَجُوزُ قَتْلُهُ إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى الثَّمَانِينَ لَيْسَ حَدًّا مُقَدَّرًا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ بَلْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ إلَى الثَّمَانِينَ تَرْجِعُ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فَيَفْعَلُهَا عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ وَكَذَلِكَ صِفَةُ الضَّرْبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ جَلْدُ الشَّارِبِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ بِخِلَافِ الزَّانِي وَالْقَاذِفِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : قَتْلُهُ فِي الرَّابِعَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ . و " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَالَ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } . فَقَدْ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْأُخُوَّةِ وَأَمَرَنَا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ . فَلَمَّا شَاعَ فِي الْأُمَّةِ أَمْرُ " الْخَوَارِجِ " تَكَلَّمَتْ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ وَرَوَوْا عَنْ
النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحَادِيثَ فِيهِمْ وَبَيَّنُوا مَا فِي
الْقُرْآنِ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَظَهَرَتْ بِدْعَتُهُمْ فِي الْعَامَّةِ ؛
فَجَاءَتْ بَعْدَهُمْ " الْمُعْتَزِلَةُ " - الَّذِينَ اعْتَزَلُوا
الْجَمَاعَةَ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَهُمْ : عَمْرُو بْنُ
عُبَيْدٍ ، وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ الْغَزَالُ وَأَتْبَاعُهُمَا - فَقَالُوا :
أَهْلُ الْكَبَائِرِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ كَمَا قَالَتْ الْخَوَارِجُ وَلَا
نُسَمِّيهِمْ لَا مُؤْمِنِينَ وَلَا كُفَّارًا ؛ بَلْ فُسَّاقٌ نُنْزِلُهُمْ مَنْزِلَةً
بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ . وَأَنْكَرُوا شَفَاعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْ
النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَهَا . قَالُوا : مَا النَّاسُ إلَّا رَجُلَانِ :
سَعِيدٌ لَا يُعَذَّبُ أَوْ شَقِيٌّ لَا يُنَعَّمُ ، وَالشَّقِيُّ نَوْعَانِ :
كَافِرٌ وَفَاسِقٌ وَلَمْ يُوَافِقُوا الْخَوَارِجَ عَلَى تَسْمِيَتِهِمْ
كُفَّارًا . وَهَؤُلَاءِ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ مَا رَدُّوا بِهِ عَلَى
الْخَوَارِجِ .
فَيُقَالُ لَهُمْ كَمَا أَنَّهُمْ قَسَّمُوا النَّاسَ إلَى مُؤْمِنٍ لَا ذَنْبَ
لَهُ وَكَافِرٍ لَا حَسَنَةَ لَهُ قَسَّمْتُمْ النَّاسَ إلَى مُؤْمِنٍ لَا ذَنْبَ
لَهُ وَإِلَى كَافِرٍ وَفَاسِقٍ لَا حَسَنَةَ لَهُ فَلَوْ كَانَتْ حَسَنَاتُ هَذَا
كُلُّهَا مُحْبَطَةً وَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ لَاسْتَحَقَّ الْمُعَادَاةَ
الْمَحْضَةَ بِالْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ كَمَا يَسْتَحِقُّهَا الْمُرْتَدُّ ؛
فَإِنَّ هَذَا قَدْ أَظْهَرَ دِينَهُ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ . وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فَجَعَلَ مَا دُونَ ذَلِكَ
الشِّرْكِ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى
التَّائِبِ ؛ فَإِنَّ التَّائِبَ لَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ
الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ . كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } فَهُنَا عَمَّمَ وَأَطْلَقَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّائِبُ وَهُنَاكَ خُصَّ وَعَلَّقَ . وَقَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } { الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } . فَقَدْ قَسَّمَ سُبْحَانَهُ الْأُمَّةَ الَّتِي أَوْرَثَهَا الْكِتَابَ وَاصْطَفَاهَا " ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ " : ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ ينطبقون عَلَى الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ : " الْإِسْلَامُ " و " الْإِيمَانُ " و " الْإِحْسَانُ " . كَمَا سَنَذْكُرُهُ " إنْ شَاءَ اللَّهُ " . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ إنْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ وَالتَّائِبُ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ فَذَلِكَ مُقْتَصِدٌ أَوْ سَابِقٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ يَخْلُو عَنْ ذَنْبٍ ؛ لَكِنْ مَنْ تَابَ كَانَ مُقْتَصِدًا أَوْ سَابِقًا ؛ كَذَلِكَ مَنْ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ كُفِّرَتْ عَنْهُ السَّيِّئَاتُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مَوْعُودٌ بِالْجَنَّةِ وَلَوْ بَعْدَ عَذَابٍ يُطَهِّرُ مِنْ الْخَطَايَا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ : أَنَّ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمَصَائِبِ مِمَّا يُجْزِئُ بِهِ وَيُكَفَّرُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ
مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى
حَتَّى الشَّوْكَةُ يشاكها إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } وَفِي
الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ { لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { مَنْ
يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جَاءَتْ
قَاصِمَةُ الظَّهْرِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ
أَلَسْت تَنْصَبُ ؟ أَلَسْت تَحْزَنُ ؟ أَلَسْت تُصِيبُك اللَّأْوَاءُ ؟ فَذَلِكَ
مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ } . و " أَيْضًا " فَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّهُ يَخْرُجُ
أَقْوَامٌ مِنْ النَّارِ بَعْدَ مَا دَخَلُوهَا وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ فِي أَقْوَامٍ دَخَلُوا النَّارِ . وَهَذِهِ
الْأَحَادِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ : " الوعيدية " الَّذِينَ
يَقُولُونَ : مَنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا
وَعَلَى " الْمُرْجِئَةِ الْوَاقِفَةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا
نَدْرِي هَلْ يَدْخُلُ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ النَّارَ أَحَدٌ أَمْ لَا كَمَا
يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الشِّيعَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ كَالْقَاضِي أَبِي
بَكْرٍ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ " غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ " أَنَّهُمْ
قَالُوا : لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ فَلَا نَعْرِفُ
قَائِلًا مَشْهُورًا مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْعِلْمِ يُذْكَرُ عَنْهُ هَذَا
الْقَوْلُ . و " أَيْضًا " فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدّ شَهِدَ لِشَارِبِ الْخَمْرِ الْمَجْلُودِ مَرَّاتٍ بِأَنَّهُ
يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنَهَى عَنْ لَعْنَتِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ
أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ كَانَ فِيهِمْ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ لَمَّا حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَصِلَهُ : { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ مِسْطَحًا وَأَمْثَالَهُ تَابُوا لَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَشْرُطْ فِي الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَالصَّفْحِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ التَّوْبَةَ . وَكَذَلِكَ { حَاطِبُ بْنُ أَبِي بلتعة كَاتَبَ الْمُشْرِكِينَ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ قَتْلَهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْل بَدْرٍ فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ ؟ } . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَقْتَضِي : أَنَّ السَّيِّئَاتِ مَغْفُورَةٌ بِتِلْكَ الْحَسَنَاتِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ مَعَ ذَلِكَ تَوْبَةً ؛ وَإِلَّا فَلَا اخْتِصَاصَ لِأُولَئِكَ بِهَذَا ؛ وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي الْمَغْفِرَةَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ . وَإِذَا قِيلَ : إنَّ هَذَا لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا صَغَائِرُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ أَيْضًا . وَأَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ تَجْوِيزَ الْكَبِيرَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَغْفُورِ لَهُمْ و " أَيْضًا " قَدْ دَلَّتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الذُّنُوبِ تَزُولُ عَنْ الْعَبْدِ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ . " أَحَدُهَا " التَّوْبَةُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ تَعَالَى :
{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ " السَّبَبُ الثَّانِي " الِاسْتِغْفَارُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ : أَيْ رَبِّ أَذْنَبْت ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ : عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْت لِعَبْدِي ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ أَذْنَبْت ذَنْبًا آخَرَ . فَاغْفِرْهُ لِي فَقَالَ رَبُّهُ : عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْت لِعَبْدِي فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ قَالَ ذَلِكَ : فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمِ يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ } . وَقَدْ يُقَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الِاسْتِغْفَارُ هُوَ مَعَ التَّوْبَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ { مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } وَقَدْ يُقَالُ : بَلْ الِاسْتِغْفَارُ بِدُونِ التَّوْبَةِ مُمْكِنٌ وَاقِعٌ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِغْفَارَ إذَا كَانَ مَعَ التَّوْبَةِ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ عَامٌّ فِي كُلِّ تَائِبٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ التَّوْبَةِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُسْتَغْفِرِينَ الَّذِينَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ عِنْدَ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ الْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ مَا يَمْحُو الذُّنُوبَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ بِأَنَّ قَوْلَ : لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ ثَقُلَتْ بِتِلْكَ السَّيِّئَاتِ ؛ لَمَّا قَالَهَا بِنَوْعِ مِنْ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ الَّذِي يَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَكَمَا غَفَرَ لِلْبَغِيِّ بِسَقْيِ الْكَلْبِ لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِهَا إذْ ذَاكَ مِنْ الْإِيمَانِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . " السَّبَبُ الثَّالِثُ " : الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ } وَقَالَ : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَقَالَ : { مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَقَالَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَقَالَ : { فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ . } وَقَالَ : { مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ } وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا فِي الصِّحَاحِ . وَقَالَ : { الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَالْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ } . وَسُؤَالُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَقُولُوا الْحَسَنَاتُ إنَّمَا تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ فَقَطْ فَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا تُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : " مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ " فَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِوُجُوهِ .
أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَاءَ فِي الْفَرَائِضِ . كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } فَالْفَرَائِضُ مَعَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ مُقْتَضِيَةٌ لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الزَّائِدَةُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثَوَابٌ آخَرُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } . ( الثَّانِي ) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ قَدْ تَكُونُ مَعَ الْكَبَائِرِ كَمَا فِي { قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ } وَفِي السُّنَنِ { أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ . فَقَالَ : أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقْ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ . } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي { حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ . } . ( الثَّالِثُ ) : أَنَّ { قَوْلَهُ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَنَحْوِهِمْ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ } إنْ حُمِلَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَوْ عَلَى الْمَغْفِرَةِ مَعَ التَّوْبَةِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ . فَكَمَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الْكُفْرِ لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مُجَرَّدِ الصَّغَائِرِ الْمُكَفَّرَةِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ . ( الرَّابِعُ ) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ { حَدِيثٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ
عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ فَإِنْ أَكْمَلَهَا وَإِلَّا قِيلَ : اُنْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ بِهِ الْفَرِيضَةُ ثُمَّ يُصْنَعُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ كَذَلِكَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ النَّقْصَ الْمُكَمِّلَ لَا يَكُونُ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْمُسْتَحَبِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى جبران وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبِّ الْمَتْرُوكِ وَالْمَفْعُولِ فَعُلِمَ أَنَّهُ يَكْمُلُ نَقْصُ الْفَرَائِضِ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ . وَهَذَا لَا يُنَافِي مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ مَعَ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مُعَارِضًا لِلْأَوَّلِ لَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ وَأَشْهَرُ وَهَذَا غَرِيبٌ رَفْعُهُ وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ فِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْر لِعُمَرِ ؛ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَحْمَد فِي " رِسَالَتِهِ فِي الصَّلَاةِ " . وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبُولَ النَّافِلَةِ يُرَادُ بِهِ الثَّوَابُ عَلَيْهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى النَّافِلَةِ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ النَّافِلَةَ مَعَ نَقْصِ الْفَرِيضَةِ كَانَتْ جَبْرًا لَهَا وَإِكْمَالًا لَهَا . فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَوَابُ نَافِلَةٍ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : النَّافِلَةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَغَيْرُهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَغْفِرَةِ . وَتَأَوَّلَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } وَلَيْسَ إذَا فَعَلَ نَافِلَةً وَضَيَّعَ فَرِيضَةً تَقُومُ النَّافِلَةُ مَقَامَ الْفَرِيضَةِ مُطْلَقًا بَلْ قَدْ تَكُونُ عُقُوبَتُهُ عَلَى تَرْكِ الْفَرِيضَةِ أَعْظَمَ مِنْ ثَوَابِ النَّافِلَةِ . فَإِنْ قِيلَ : الْعَبْدُ إذَا نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . فَلَوْ كَانَ لَهَا بَدَلٌ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ . قِيلَ : هَذَا خَطَأٌ فَإِنْ قِيلَ هَذَا يُقَالُ فِي جَمِيعِ مُسْقِطَاتِ الْعِقَابِ ، فَيُقَالُ : إذَا كَانَ الْعَبْدُ
يُمْكِنُهُ رَفْعُ الْعُقُوبَةِ بِالتَّوْبَةِ لَمْ يَنْهَ عَنْ الْفِعْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَبْدَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ ؛ لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِذَلِكَ سَبَبٌ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَإِنْ جَازَ مَعَ إخْلَالِهِ أَنْ يَرْتَفِعَ الْعِقَابُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَمِيَ مِنْ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ وَإِنْ كَانَ مَعَ تَنَاوُلِهِ لَهَا يُمْكِنُ رَفْعُ ضَرَرِهَا بِأَسْبَابِ مِنْ الْأَدْوِيَةِ . وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ - أَمَرَهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يُفْسِدُهُمْ ثُمَّ إذَا وَقَعُوا فِي أَسْبَابِ الْهَلَاكِ لَمْ يؤيسهم مِنْ رَحْمَتِهِ بَلْ جَعَلَ لَهُمْ أَسْبَابًا يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إلَى رَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ الْفَقِيهَ كُلُّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ . وَلِهَذَا يُؤْمَرُ الْعَبْدُ بِالتَّوْبَةِ كُلَّمَا أَذْنَبَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِشَيْخِهِ : إنِّي أُذْنِبُ قَالَ : تُبْ قَالَ : ثُمَّ أَعُودُ ، قَالَ : تُبْ قَالَ : ثُمَّ أَعُودُ ، قَالَ : تُبْ قَالَ : إلَى مَتَى قَالَ : إلَى أَنْ تُحْزِنَ الشَّيْطَانَ . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ } . وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَصَلَاتُهُ إذَا اسْتَيْقَظَ أَوْ ذَكَرَهَا كَفَّارَةً لَهَا تَبْرَأُ بِهَا الذِّمَّةُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ وَيَرْتَفِعُ عَنْهُ الذَّمُّ وَالْعِقَابُ وَيَسْتَوْجِبُ بِذَلِكَ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ فَلَا نَعْلَمُ الْقَدْرَ الَّذِي يَقُومُ ثَوَابُهُ مَقَامَ ذَلِكَ وَلَوْ عُلِمَ فَقَدْ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ مَعَ سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ ثُمَّ إذَا قَدَّرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ صَارَ وَاجِبًا فَلَا يَكُونُ تَطَوُّعًا وَالتَّطَوُّعَاتُ شُرِعَتْ لِمَزِيدِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى . فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ } الْحَدِيثَ
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ قَدْ أَدَّى الْفَرَائِضَ كَمَا أُمِرَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَقْصُودُ النَّوَافِلِ وَلَا يَظْلِمُهُ اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ بَلْ يُقِيمُهَا مَقَامَ نَظِيرِهَا مِنْ الْفَرَائِضِ كَمَنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ لِأُنَاسِ يُرِيدُ أَنْ يَتَطَوَّعَ لَهُمْ بِأَشْيَاءَ : فَإِنْ وَفَّاهُمْ وَتَطَوَّعَ لَهُمْ كَانَ عَادِلًا مُحْسِنًا . وَإِنْ وَفَّاهُمْ وَلَمْ يَتَطَوَّعْ كَانَ عَادِلًا ، وَإِنْ أَعْطَاهُمْ مَا يَقُومُ مَقَامَ دِينِهِمْ وَجَعَلَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا كَانَ غالطا فِي جَعْلِهِ ؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ الْوَاجِبِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ " الْمُعْتَزِلَةَ " يَفْتَخِرُونَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ " التَّوْحِيدِ " وَ " الْعَدْلِ " وَهُمْ فِي تَوْحِيدِهِمْ نَفَوْا الصِّفَاتِ نَفْيًا يَسْتَلْزِمُ التَّعْطِيلَ وَالْإِشْرَاكَ . وَأَمَّا " الْعَدْلُ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ " فَهُوَ أَنْ لَا يَظْلِمَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَأَنَّهُ : مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وَهُمْ يَجْعَلُونَ جَمِيعَ حَسَنَاتِ الْعَبْدِ وَإِيمَانِهِ حَابِطًا بِذَنْبِ وَاحِدٍ مِنْ الْكَبَائِرِ وَهَذَا مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَكَانَ وَصْفُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْعَدْلِ هُوَ التَّكْذِيبُ بِقَدَرِ اللَّهِ . ( الْخَامِسُ ) : أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الْكُفْرَ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةَ . وَ " الْمُعْتَزِلَةُ مَعَ الْخَوَارِجِ " يَجْعَلُونَ الْكَبَائِرَ مُحْبِطَةً لِجَمِيعِ الْحَسَنَاتِ حَتَّى الْإِيمَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } فَعَلَّقَ الْحُبُوطَ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ يَعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ . وَقَالَ تَعَالَى :
{ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وَقَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ : { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَقَالَ : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } . فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ إذَا لَمْ يُغْفَرْ وَأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ حُبُوطُ حَسَنَاتِ صَاحِبِهِ ، وَلَمَّا ذَكَرَ سَائِرَ الذُّنُوبِ غَيْرَ الْكُفْرِ لَمْ يُعَلِّقْ بِهَا حُبُوطَ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ ، وَقَوْلُهُ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } . لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ ، وقَوْله تَعَالَى { لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَضَمَّنُ الْكُفْرَ فَيَقْتَضِي الْحُبُوطَ وَصَاحِبُهُ لَا يَدْرِي كَرَاهِيَةَ أَنْ يُحْبَطَ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يُحْبَطَ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْكُفْرِ الْمُقْتَضِي لِلْحُبُوطِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلْكُفْرِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ ؛ فَيَنْهَى عَنْهَا خَشْيَةَ أَنْ تُفْضِيَ إلَى الْكُفْرِ الْمُحْبِطِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } - وَهِيَ الْكُفْرُ - { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَإِبْلِيسُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فَصَارَ كَافِرًا ؛ وَغَيْرُهُ أَصَابَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَقَدْ احْتَجَّتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }
قَالُوا : فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ فَلَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْهُ عَمَلًا فَلَا يَكُونُ لَهُ حَسَنَةٌ وَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الْإِيمَانُ فَلَا يَكُونُ مَعَهُ إيمَانٌ فَيَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَقَدْ أَجَابَتْهُمْ الْمُرْجِئَةُ : بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَّقِينَ مَنْ يَتَّقِي الْكُفْرَ فَقَالُوا لَهُمْ : اسْمُ الْمُتَّقِينَ فِي الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } وَأَيْضًا فَابْنَا آدَمَ حِينَ قَرَّبَا قُرْبَانًا لَمْ يَكُنْ الْمُقَرِّبُ الْمَرْدُودُ قُرْبَانُهُ حِينَئِذٍ كَافِرًا وَإِنَّمَا كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَتَقَرَّبْ وَأَيْضًا فَمَا زَالَ السَّلَفُ يَخَافُونَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَوْ أُرِيدَ بِهَا مَنْ يَتَّقِي الْكُفْرَ لَمْ يَخَافُوا وَأَيْضًا فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُتَّقِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَيْسَ بِكَافِرِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي خِطَابِ الشَّارِعِ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ . وَ " الْجَوَابُ الصَّحِيحُ " : أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قِيلَ : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ فَمَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ - كَأَهْلِ الرِّيَاءِ - لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَهُ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ } وَقَالَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ
حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارِ } وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } أَيْ فَهُوَ مَرْدُودٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ . فَمَنْ اتَّقَى الْكُفْرَ وَعَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَّقِيًا فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ مُتَّقِيًا لِلشِّرْكِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } وَفِي حَدِيثِ { عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَخَافُ أَنْ يُعَذَّبُ ؟ قَالَ : لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ } . وَخَوْفُ مَنْ خَافَ مِنْ السَّلَفِ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ لِخَوْفِهِ أَنْ لَا يَكُونَ أَتَى بِالْعَمَلِ عَلَى وَجْهِهِ الْمَأْمُورِ : وَهَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي اسْتِثْنَاءِ مَنْ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَفِي أَعْمَالِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ : أَنَا مُؤْمِنٌ " إنْ شَاءَ اللَّهُ " - وَصَلَّيْت - إنْ شَاءَ اللَّهُ - لِخَوْفِ أَنْ لَا يَكُونَ آتَى بِالْوَاجِبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا عَلَى جِهَةِ الشَّكِّ فِيمَا بِقَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَةِ : إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ إلَّا مِمَّنْ يَتَّقِي الذُّنُوبَ كُلَّهَا لِأَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ لَيْسَ مُتَّقِيًا فَإِنْ كَانَ قَبُولُ الْعَمَلِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِ الْفَاعِلِ حِينَ فِعْلِهِ لَا ذَنْبَ لَهُ امْتَنَعَ قَبُولُ التَّوْبَةِ . بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَطَ التَّقْوَى فِي الْعَمَلِ فَإِنَّ التَّائِبَ حِينَ يَتُوبُ يَأْتِي بِالتَّوْبَةِ الْوَاجِبَةِ وَهُوَ حِينَ شُرُوعِهِ فِي التَّوْبَةِ مُنْتَقِلٌ مِنْ الشَّرِّ إلَى الْخَيْرِ
لَمْ يَخْلُصْ مِنْ الذَّنْبِ بَلْ هُوَ مُتَّقٍ فِي حَالِ تَخَلُّصِهِ مِنْهُ . وَ " أَيْضًا " فَلَوْ أَتَى الْإِنْسَانُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى كَبِيرَةٍ ثُمَّ تَابَ لَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ سَيِّئَاتُهُ بِالتَّوْبَةِ وَتُقْبَلُ مِنْهُ تِلْكَ الْحَسَنَاتُ وَهُوَ حِينَ أَتَى بِهَا كَانَ فَاسِقًا . وَ " أَيْضًا " فَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ لِلنَّاسِ مَظَالِمُ مِنْ قَتْلٍ وَغَصْبٍ وَقَذْفٍ - وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا أَسْلَمَ - قَبْلَ إسْلَامِهِ مَعَ بَقَاءِ مَظَالِمِ الْعِبَادِ عَلَيْهِ ؛ فَلَوْ كَانَ الْعَمَلُ لَا يُقْبَلُ إلَّا مِمَّنْ لَا كَبِيرَةَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُ الذِّمِّيِّ حَتَّى يَتُوبَ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالْمَظَالِمِ ؛ بَلْ يَكُونُ مَعَ إسْلَامِهِ مُخَلَّدًا وَقَدْ كَانَ النَّاسُ مُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُمْ ذُنُوبٌ مَعْرُوفَةٌ وَعَلَيْهِمْ تَبِعَاتٌ فَيُقْبَلُ إسْلَامُهُمْ وَيَتُوبُونَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ التَّبِعَاتِ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لَمَّا أَسْلَمَ وَكَانَ قَدْ رَافَقَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَغَدَرَ بِهِمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَجَاءَ فَأَسْلَمَ فَلَمَّا جَاءَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْمُغِيرَةُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ دَفَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِالسَّيْفِ فَقَالَ : مَنْ هَذَا فَقَالُوا : ابْنُ أُخْتِك الْمُغِيرَةُ فَقَالَ يَا غُدَرُ أَلَسْت أَسْعَى فِي غُدْرَتِكَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُهُ وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْءٍ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } وَقَالُوا
لِنُوحِ
: { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } { قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ } { إنْ حِسَابُهُمْ إلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } .
وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ جَاءَهُ ذِمِّيٌّ يُسْلِمُ فَقَالَ
لَهُ لَا يَصِحُّ إسْلَامُك حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَيْك ذَنْبٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ
أَعْمَالِ الْبِرِّ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ .
السَّبَبُ الرَّابِعُ - الدَّافِعُ لِلْعِقَابِ - : دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ
لِلْمُؤْمِنِ مِثْلُ صَلَاتِهِمْ عَلَى جِنَازَتِهِ فَعَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ
مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَا
مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جِنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا
لَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا شَفَّعَهُمْ اللَّهُ فِيهِ } رَوَاهُمَا
مُسْلِمٌ . وَهَذَا دُعَاءٌ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ
الْمَغْفِرَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ الَّذِي اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ
وَكُفِّرَتْ عَنْهُ الصَّغَائِرُ وَحْدَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ عِنْدَ
الْمُتَنَازِعِينَ . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ أَسْبَابِ
الْمَغْفِرَةِ لِلْمَيِّتِ .
السَّبَبُ الْخَامِسُ : مَا يُعْمَلُ لِلْمَيِّتِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ؟
كَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ هَذَا يَنْتَفِعُ بِهِ بِنُصُوصِ السُّنَّةِ
الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ
وَالْحَجُّ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ
مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } وَثَبَتَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي
الصَّحِيحِ مِنْ صَوْمِ النَّذْرِ مِنْ
وُجُوهٍ
أُخْرَى وَلَا يَجُوزُ أَنَّ يُعَارَضَ هَذَا بِقَوْلِهِ : { وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } لِوَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ
سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْتَفِعُ بِمَا لَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ
كَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَاسْتِغْفَارِهِمْ لَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } الْآيَةَ . وَدُعَاءُ
النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارُهُمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : {
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ
مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } وَقَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }
كَدُعَاءِ الْمُصَلِّينَ لِلْمَيِّتِ وَلِمَنْ زَارُوا قَبْرَهُ - مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ - .
الثَّانِي : أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي ظَاهِرِهَا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ
إلَّا سَعْيُهُ وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا
سَعْيَ نَفْسِهِ وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ ؛
لَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْفَعَهُ اللَّهُ وَيَرْحَمُهُ بِهِ ؛ كَمَا
أَنَّهُ دَائِمًا يَرْحَمُ عِبَادَهُ بِأَسْبَابِ خَارِجَةٍ عَنْ مَقْدُورِهِمْ .
وَهُوَ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ يَرْحَمُ الْعِبَادَ بِأَسْبَابِ
يَفْعَلُهَا الْعِبَادُ لِيُثِيبَ أُولَئِكَ عَلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ فَيَرْحَمُ
الْجَمِيعَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِدَعْوَةِ إلَّا
وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ قَالَ الْمَلَكُ
الْمُوَكَّلُ بِهِ : آمِينَ وَلَك
بِمِثْلِ
} وَكَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ
أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ ؛ وَمَنْ
تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ ؛ أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ }
فَهُوَ قَدْ يَرْحَمُ الْمُصَلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ بِدُعَائِهِ لَهُ وَيَرْحَمُ
الْمَيِّتَ أَيْضًا بِدُعَاءِ هَذَا الْحَيِّ لَهُ .
السَّبَبُ السَّادِسُ : شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَغَيْرُهُ فِي أَهْلِ الذُّنُوبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَدْ تَوَاتَرَتْ
عَنْهُ أَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ
أُمَّتِي } . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُيِّرْت بَيْنَ
أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ ؛ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ فَاخْتَرْت
الشَّفَاعَةَ لِأَنَّهَا أَعَمُّ وَأَكْثَرُ ؛ أَتَرَوْنَهَا لِلْمُتَّقِينَ ؟ لَا
. وَلَكِنَّهَا لِلْمُذْنِبِينَ المتلوثين الْخَطَّائِينَ } .
السَّبَبُ
السَّابِعُ : الْمَصَائِبُ الَّتِي يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا فِي
الدُّنْيَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ ؛ وَلَا نَصَبٍ ؛ وَلَا
هَمٍّ ؛ وَلَا حَزَنٍ ؛ وَلَا غَمٍّ ؛ وَلَا أَذًى - حَتَّى الشَّوْكَةُ
يَشَاكُهَا - إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } .
السَّبَبُ الثَّامِنُ : مَا يَحْصُلُ فِي الْقَبْرِ مِنْ الْفِتْنَةِ
وَالضَّغْطَةِ وَالرَّوْعَةِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُكَفَّرُ بِهِ الْخَطَايَا .
السَّبَبُ التَّاسِعُ : أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَرْبُهَا وَشَدَائِدُهَا
.
السَّبَبُ الْعَاشِرُ : رَحْمَةُ اللَّهِ وَعَفْوُهُ وَمَغْفِرَتُهُ بِلَا سَبَبٍ
مِنْ الْعِبَادِ . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ قَدْ يُدْفَعُ عَنْ
أَهْلِ الذُّنُوبِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الْعَشَرَةِ كَانَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ
عُقُوبَاتِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ مُخَالِفٌ
لِذَلِكَ .
فَصْلٌ :
فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ : قَوْلُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِمُطْلَقِ
الذُّنُوبِ وَيُخَلِّدُونَ فِي النَّارِ ؛ وَقَوْلُ مَنْ يُخَلِّدُهُمْ فِي
النَّارِ وَيَجْزِمُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ إلَّا بِالتَّوْبَةِ
وَيَقُولُ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِمَا
أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ بَلْ هُمَا مِنْ
الْأَقْوَالِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ
وَقَفَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ وَقَالَ لَا أَعْلَمُ
أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ هُوَ أَيْضًا مِنْ الْأَقْوَالِ
الْمُبْتَدَعَةِ ؛ بَلْ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا
تَوَاتَرَتْ بِهِ النُّصُوصُ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ
قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا . وَأَمَّا مَنْ جَزَمَ
بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَهَذَا لَا نَعْرِفُهُ قَوْلًا لِأَحَدِ . وَبَعْدَهُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : مَا ثَمَّ عَذَابٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ تَخْوِيفٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَهَذَا مِنْ أَقْوَالِ الْمَلَاحِدَةِ وَالْكُفَّارِ . وَرُبَّمَا احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ : { ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ } فَيُقَالُ لِهَذَا : التَّخْوِيفُ إنَّمَا يَكُونُ تَخْوِيفًا إذَا كَانَ هُنَاكَ مَخُوفٌ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ بِالْمَخُوفِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ امْتَنَعَ التَّخْوِيفُ لَكِنْ يَكُونُ حَاصِلُهُ إيهَامُ الْخَائِفِينَ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا تَوَهَّمَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَحْصُلُ بِهِ تَخْوِيفٌ لِلْعُقَلَاءِ الْمُمَيِّزِينَ . لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ مَخُوفٌ زَالَ الْخَوْفُ وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا تَقُولُ " الْمَلَاحِدَةُ " الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْقَرَامِطَةُ وَنَحْوُهُمْ : مِنْ أَنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ : خَاطَبُوا النَّاسَ بِإِظْهَارِ أُمُورٍ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا هِيَ أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِتُفْهَمَ حَالُ النَّفْسِ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ وَمَا أَظْهَرُوهُ لَهُمْ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَإِنَّمَا يُعَلَّقُ لِمَصْلَحَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إذْ كَانَ لَا يُمْكِنُ تَقْوِيمُهُمْ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ . وَ " هَذَا الْقَوْلُ " مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ ؛ فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ خَوَاصُّ الرُّسُلِ الْأَذْكِيَاءِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَإِذَا عَلِمُوهُ زَالَتْ مُحَافَظَتُهُمْ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا يُصِيبُ خَوَاصَّ مَلَاحِدَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ : مِنْ الإسْماعيليَّةِ وَالْنُصَيْرِيَّة وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّ الْبَارِعَ مِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ
وَالْمَعْرِفَةِ يَزُولُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَتُبَاحُ لَهُ الْمَحْظُورَاتُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْوَاجِبَاتُ فَتَظْهَرُ أَضْغَانُهُمْ وَتَنْكَشِفُ أَسْرَارُهُمْ وَيَعْرِفُ عُمُومُ النَّاسِ حَقِيقَةَ دِينِهِمْ الْبَاطِنِ حَتَّى سَمَّوْهُمْ بَاطِنِيَّةً ؛ لِإِبْطَانِهِمْ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ . فَلَوْ كَانَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - دِينُ الرُّسُلِ كَذَلِكَ لَكَانَ خَوَاصُّهُ قَدْ عَرَفُوهُ وَأَظْهَرُوا بَاطِنَهُ . وَكَانَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ مِنْ جِنْسِ دِينِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِبَاطِنِ الرَّسُولِ وَظَاهِرِهِ وَأَخْبَرَ النَّاسِ بِمَقَاصِدِهِ وَمُرَادَاتِهِ كَانُوا أَعْظَمَ الْأُمَّةِ لُزُومًا لِطَاعَةِ أَمْرِهِ - سِرًّا وَعَلَانِيَةً - وَمُحَافَظَةً عَلَى ذَلِكَ إلَى الْمَوْتِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ إلَيْهِ وَبِهِ أَخَصُّ وَبِبَاطِنِهِ أَعْلَمُ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - كَانُوا أَعْظَمَهُمْ لُزُومًا لِلطَّاعَةِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَمُحَافَظَةً عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَقَدْ أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَلَاحِدَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ : الَّذِينَ يَجْعَلُونَ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ وَاجِبًا عَلَى السَّالِكِ حَتَّى يَصِيرَ عَارِفًا مُحَقِّقًا فِي زَعْمِهِمْ ؛ وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَيَتَأَوَّلُونَ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } زَاعِمِينَ أَنَّ الْيَقِينَ هُوَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينُ هُنَا الْمَوْتُ وَمَا بَعْدَهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ } { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } { حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ
وَتَلَا
هَذِهِ الْآيَةَ . وَمِنْهُ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ : أَمَّا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَقَدْ
أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ } وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَشْهَدُونَ الْقَدَرَ
أَوَّلًا وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ وَيَظُنُّونَ أَنَّ غَايَةَ
الْعَارِفِ أَنْ يَشْهَدَ الْقَدَرَ وَيَفْنَى عَنْ هَذَا الشُّهُودِ وَذَلِكَ
الْمَشْهَدُ لَا تَمْيِيزَ فِيهِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ
وَمَحْبُوبَاتِ اللَّهِ وَمَكْرُوهَاتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ . وَقَدْ
يَقُولُ أَحَدُهُمْ : الْعَارِفُ شَهِدَ أَوَّلًا الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ
ثُمَّ شَهِدَ طَاعَةً بِلَا مَعْصِيَةٍ - يُرِيدُ بِذَلِكَ طَاعَةَ الْقَدَرِ -
كَقَوْلِ بَعْضِ شُيُوخِهِمْ : أَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يُعْصَى وَقِيلَ لَهُ عَنْ
بَعْضِ الظَّالِمِينَ : هَذَا مَالُهُ حَرَامٌ فَقَالَ : إنْ كَانَ عَصَى
الْأَمْرَ فَقَدْ أَطَاعَ الْإِرَادَةَ . ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ " إلَى
الْمَشْهَدِ الثَّالِثِ " لَا طَاعَةَ وَلَا مَعْصِيَةَ وَهُوَ مَشْهَدُ
أَهْلِ الْوَحْدَةِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَهَذَا غَايَةُ إلْحَادِ
الْمُبْتَدَعَةِ جهمية الصُّوفِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْقَرْمَطَةَ آخِرُ إلْحَادِ
الشِّيعَةِ وَكِلَا الْإِلْحَادَيْنِ يَتَقَارَبَانِ . وَفِيهِمَا مِنْ الْكُفْرِ
مَا لَيْسَ فِي دِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي اسْمِ الْمُؤْمِنِ وَالْإِيمَانِ
نِزَاعًا كَثِيرًا ، مِنْهُ لَفْظِيٌّ ،
وَكَثِيرٌ مِنْهُ مَعْنَوِيٌّ ، فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يُنَازِعُوا فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَعْلَمَ بِالدِّينِ وَأَقْوَمَ بِهِ مِنْ بَعْضٍ وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْأَسْمَاءِ كَتَنَازُعِهِمْ فِي الْإِيمَانِ هَلْ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؟ وَهَلْ يُسْتَثْنَى فِيهِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الْأَعْمَالُ مِنْ الْإِيمَانِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الْفَاسِقُ الْمِلِّي مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ أَمْ لَا ؟ وَالْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ كَمَا قَالَ عُمَيْرُ بْنُ حَبِيبٍ الخطمي وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ : الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَقِيلَ لَهُ : وَمَا زِيَادَتُهُ وَنُقْصَانُهُ ؟ فَقَالَ : إذَا ذَكَرْنَا اللَّهَ وَحَمِدْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَتِلْكَ زِيَادَتُهُ . وَإِذَا غَفَلْنَا وَنَسِينَا وَضَيَّعْنَا فَذَلِكَ نُقْصَانُهُ . فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْمَأْثُورَةُ عَنْ جُمْهُورِهِمْ . وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَرُبَّمَا قَالَ آخَرُ : قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ ؛ وَرُبَّمَا قَالَ : قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَاعْتِقَادٌ بِالْجِنَانِ وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ أَيْ بِالْجَوَارِحِ . وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النُّسْخَةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى أَبِي الصَّلْتِ الهروي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى الرِّضَا وَذَلِكَ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتفاق أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَدِيثِهِ . وَلَيْسَ بَيْنَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ اخْتِلَافٌ مَعْنَوِيٌّ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ الْمُطْلَقَ وَالْعَمَلَ الْمُطْلَقَ ؛ فِي كَلَامِ السَّلَفِ يَتَنَاوَلُ قَوْلَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعَمَلَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ فَقَوْلُ اللِّسَانِ
بِدُونِ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ هُوَ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ وَهَذَا لَا يُسَمَّى قَوْلًا إلَّا بِالتَّقْيِيدِ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } وَكَذَلِكَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ بِدُونِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْمُنَافِقِينَ ؛ الَّتِي لَا يَتَقَبَّلُهَا اللَّهُ . فَقَوْلُ السَّلَفِ : يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ قَدْ لَا يَفْهَمُ دُخُولَ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ : وَنِيَّةٌ . ثُمَّ بَيَّنَ آخَرُونَ : أَنَّ مُطْلَقَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالنِّيَّةِ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ . وَهَذَا حَقٌّ أَيْضًا فَإِنَّ أُولَئِكَ قَالُوا : قَوْلٌ وَعَمَلٌ لِيُبَيِّنُوا اشْتِمَالَهُ عَلَى الْجِنْسِ وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُمْ ذِكْرَ صِفَاتِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ ؛ وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ . جَعَلَ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ اسْمًا لِمَا يَظْهَرُ ؛ فَاحْتَاجَ أَنْ يَضُمَّ إلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَ الْقَلْبِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُدْخِلَ فِي قَوْلِهِ : اعْتِقَادَ الْقَلْبِ أَعْمَالَ الْقَلْبِ الْمُقَارِنَةِ لِتَصْدِيقِهِ مِثْلُ حَبِّ اللَّهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ ؛ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ دُخُولَ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فِي الْإِيمَانِ أَوْلَى مِنْ دُخُولِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ باتفاق الطَّوَائِفِ كُلِّهَا . وَكَانَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ لَمْ يُوَافِقُوا فِي إطْلَاقِ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا ذِكْرَ الزِّيَادَةِ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَجِدُوا ذِكْرَ النَّقْصِ وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ ؛ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ كَقَوْلِ سَائِرِهِمْ : إنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؛ وَبَعْضُهُمْ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ إلَى لَفْظِ التَّفَاضُلِ فَقَالَ أَقُولُ : الْإِيمَانُ يَتَفَاضَلُ وَيَتَفَاوَتُ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ
وَكَانَ مَقْصُودُهُ الْإِعْرَاضَ عَنْ لَفْظٍ وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ إلَى مَعْنًى لَا رَيْبَ فِي ثُبُوتِهِ . وَأَنْكَرَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ تَفَاضُلَ الْإِيمَانِ وَدُخُولَ الْأَعْمَالِ فِيهِ وَالِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ ؛ وَهَؤُلَاءِ مِنْ مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي - إمَامُ أَهْلِ الْكُوفَةِ شَيْخُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ - وَأَمْثَالُهُ ؛ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ : كعلقمة وَالْأَسْوَدِ ؛ فَكَانُوا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُخَالَفَةً لِلْمُرْجِئَةِ وَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ ؛ لَكِنَّ حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ خَالَفَ سَلَفَهُ ؛ وَاتَّبَعَهُ مَنْ اتَّبَعَهُ وَدَخَلَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . ثُمَّ إنَّ " السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ " اشْتَدَّ إنْكَارُهُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ وَتَبْدِيعُهُمْ وَتَغْلِيظُ الْقَوْلِ فِيهِمْ ؛ وَلَمْ أَعْلَمِ أَحَدًا مِنْهُمْ نَطَقَ بِتَكْفِيرِهِمْ ؛ بل هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُكَفَّرُونَ فِي ذَلِكَ ؛ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ : عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ الْمُرْجِئَةِ . وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَحْمَد أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ تَكْفِيرًا لِهَؤُلَاءِ ؛ أَوْ جَعَلَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُتَنَازَعِ فِي تَكْفِيرِهِمْ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا عَظِيمًا ؛ وَالْمَحْفُوظُ عَنْ أَحْمَد وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ ؛ إنَّمَا هُوَ تَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُشَبِّهَةِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يُكَفِّرْ أَحْمَد " الْخَوَارِجَ " وَلَا " الْقَدَرِيَّةَ " إذَا أَقَرُّوا بِالْعِلْمِ ؛ وَأَنْكَرُوا خَلْقَ الْأَفْعَالِ وَعُمُومَ الْمَشِيئَةِ ؛ لَكِنْ حُكِيَ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِهِمْ رِوَايَتَانِ . وَأَمَّا " الْمُرْجِئَةُ " فَلَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ تَكْفِيرِهِمْ ؛ مَعَ أَنَّ أَحْمَد لَمْ يُكَفِّرْ أَعْيَانَ الْجَهْمِيَّة وَلَا كُلَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ جهمي كَفَّرَهُ وَلَا كُلَّ مَنْ وَافَقَ الْجَهْمِيَّة فِي
بَعْضِ بِدَعِهِمْ ؛ بَلْ صَلَّى خَلْفَ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ دَعَوْا إلَى قَوْلِهِمْ وَامْتَحَنُوا النَّاسَ وَعَاقَبُوا مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ بِالْعُقُوبَاتِ الْغَلِيظَةِ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ أَحْمَد وَأَمْثَالُهُ ؛ بَلْ كَانَ يَعْتَقِدُ إيمَانَهُمْ وَإِمَامَتَهُمْ ؛ وَيَدْعُو لَهُمْ ؛ وَيَرَى الِائْتِمَامَ بِهِمْ فِي الصَّلَوَاتِ خَلْفَهُمْ وَالْحَجَّ وَالْغَزْوَ مَعَهُمْ وَالْمَنْعَ مِنْ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ مَا يَرَاهُ لِأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَيُنْكِرُ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْقَوْلِ الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ عَظِيمٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا هُمْ أَنَّهُ كُفْرٌ ؛ وَكَانَ يُنْكِرُهُ وَيُجَاهِدُهُمْ عَلَى رَدِّهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ؛ فَيَجْمَعُ بَيْنَ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي إظْهَارِ السُّنَّةِ وَالدِّينِ وَإِنْكَارِ بِدَعِ الْجَهْمِيَّة الْمُلْحِدِينَ ؛ وَبَيْنَ رِعَايَةِ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَّةِ ؛ وَإِنْ كَانُوا جُهَّالًا مُبْتَدِعِينَ ؛ وَظَلَمَةً فَاسِقِينَ . وَهَؤُلَاءِ الْمَعْرُوفُونَ مِثْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ كَانُوا يَجْعَلُونَ قَوْلَ اللِّسَانِ ؛ وَاعْتِقَادَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَأَمْثَالِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَا نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ . لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ حَكَوْهُ عَنْ " الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ " ذَكَرُوا أَنَّهُ قَالَ : الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ وَاشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ لِذَلِكَ حَتَّى أَطْلَقَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا كُفْرَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّة ؛ وَقَالُوا : إنَّ فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ وَأَبَا طَالِبٍ وَالْيَهُودَ وَأَمْثَالَهُمْ ؛ عُرِفُوا بِقُلُوبِهِمْ وَجَحَدُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ ؛ فَقَدْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ . وَذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ : { وَجَحَدُوا
بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } ، وَقَوْلُهُ : { الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ }
وَقَوْلُهُ : { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ
اللَّهِ يَجْحَدُونَ } وَقَالُوا : إبْلِيسٌ لَمْ يُكَذِّبْ خَبَرًا وَلَمْ
يَجْحَدْ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِلَا رَسُولٍ وَلَكِنْ عَصَى وَاسْتَكْبَرَ ؛
وَكَانَ كَافِرًا مِنْ غَيْرِ تَكْذِيبٍ فِي الْبَاطِنِ وَتَحْقِيقُ هَذَا
مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَحَدَثَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ قَوْلُ " الكَرَّامِيَة " ؛ إنَّ الْإِيمَانَ
قَوْلُ اللِّسَانِ دُونَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ مِثْلَ هَذَا
يُعَذَّبُ فِي الْآخِرَةِ وَيُخَلَّدُ فِي النَّارِ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الصالحي : إنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ
لَكِنْ لَهُ لَوَازِمُ فَإِذَا ذَهَبَتْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِ
الْقَلْبِ وَإِنَّ كُلَّ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ ظَاهِرٍ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى
أَنَّهُ كُفْرٌ كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ
وَمَعْرِفَتِهِ وَلَيْسَ الْكُفْرُ إلَّا تِلْكَ الْخَصْلَةُ الْوَاحِدَةُ
وَلَيْسَ الْإِيمَانُ إلَّا مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ
وَالْمَعْرِفَةِ وَهَذَا أَشْهَرُ قَوْلَيْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ
وَعَلَيْهِ أَصْحَابُهُ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْمَعَالِي
وَأَمْثَالِهِمَا وَلِهَذَا عَدَّهُمْ أَهْلُ الْمَقَالَاتِ مِنْ "
الْمُرْجِئَةِ " وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عَنْهُ كَقَوْلِ السَّلَفِ وَأَهْلِ
الْحَدِيثِ : إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ
الْحَدِيثِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ . وَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ
عِنْدَهُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمُوَافَاةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَهُ يَعُودُ
إلَى ذَلِكَ ؛
لَا إلَى الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ وَالْحَالِ . وَقَدْ مَنَعَ أَنْ يُطْلَقَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي " كِتَابِ الْمَقَالَاتِ " . وَقَالَ إنَّهُ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ . وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - كَأَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي وَأَمْثَالِهِ - إلَى نَظِيرِ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْأَصْلِ وَقَالُوا إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ وَأَنَّ الْقَوْلَ الظَّاهِرَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِهِمْ وَأَصْلِ نِزَاعِ هَذِهِ الْفِرَقِ فِي الْإِيمَانِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا إذَا زَالَ بَعْضُهُ زَالَ جَمِيعُهُ وَإِذَا ثَبَتَ بَعْضُهُ ثَبَتَ جَمِيعُهُ فَلَمْ يَقُولُوا بِذَهَابِ بَعْضِهِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ } . ثُمَّ قَالَتْ " الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ " الطَّاعَاتُ كُلُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ فَإِذَا ذَهَبَ بَعْضُهَا ذَهَبَ بَعْضُ الْإِيمَانِ فَذَهَبَ سَائِرُهُ فَحَكَمُوا بِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ . وَقَالَتْ " الْمُرْجِئَةُ وَالْجَهْمِيَّة " : لَيْسَ الْإِيمَانُ إلَّا شَيْئًا وَاحِدًا لَا يَتَبَعَّضُ أَمَّا مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ كَقَوْلِ الْجَهْمِيَّة أَوْ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ كَقَوْلِ الْمُرْجِئَةِ قَالُوا : لِأَنَّا إذَا أَدْخَلْنَا فِيهِ الْأَعْمَالَ صَارَتْ جُزْءًا مِنْهُ فَإِذَا ذَهَبَتْ ذَهَبَ بَعْضُهُ فَيَلْزَمُ إخْرَاجُ ذِي الْكَبِيرَةِ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ لَهُ لَوَازِمُ وَدَلَائِلُ
فَيُسْتَدَلُّ بِعَدَمِهِ عَلَى عَدَمِهِ . وَكَانَ كُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَفِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مُتَنَاقِضِينَ حَيْثُ قَالُوا : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَقَالُوا مَعَ ذَلِكَ لَا يَزُولُ بِزَوَالِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ حَتَّى إنَّ ابْنَ الْخَطِيبِ وَأَمْثَالَهُ جَعَلُوا الشَّافِعِيَّ مُتَنَاقِضًا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَلَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ كَلَامٌ مَشْهُورٌ وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ " الْأُمِّ " إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلَمَّا صَنَّفَ ابْنُ الْخَطِيبِ تَصْنِيفًا فِيهِ وَهُوَ يَقُولُ فِي الْإِيمَانِ بِقَوْلِ جَهْمٍ والصالحي اسْتَشْكَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَرَآهُ مُتَنَاقِضًا . وَجِمَاعُ شُبْهَتِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُرَكَّبَةَ تَزُولُ بِزَوَالِ بَعْضِ أَجْزَائِهَا كَالْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ إذَا زَالَ بَعْضُهَا لَمْ تَبْقَ عَشَرَةً ؛ وَكَذَلِكَ الْأَجْسَامُ الْمُرَكَّبَةُ كالسكنجبين إذَا زَالَ أَحَدُ جُزْأَيْهِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ سكنجبينا . قَالُوا فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ مُرَكَّبًا مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ لَزِمَ زَوَالُهُ بِزَوَالِ بَعْضِهَا . وَهَذَا قَوْل الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا : وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا بِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ كَافِرًا بِمَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ فَيَقُومُ بِهِ كُفْرٌ وَإِيمَانٌ وَادَّعَوْا أَنَّ هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَلِهَذِهِ الشُّبْهَةِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - امْتَنَعَ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَقُولَ بِنَقْصِهِ ؛ كَأَنَّهُ ظَنَّ : إذَا قَالَ ذَلِكَ يَلْزَمُ ذَهَابَهُ كُلَّهُ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا زَادَ .
ثُمَّ إنَّ " هَذِهِ الشُّبْهَةَ " هِيَ شُبْهَةُ مَنْ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِي الرَّجُلِ الْوَاحِدِ طَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ لِأَنَّ الطَّاعَةَ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْمَعْصِيَةَ جُزْءٌ مِنْ الْكُفْرِ فَلَا يَجْتَمِعُ فِيهِ كُفْرٌ وَإِيمَانٌ وَقَالُوا مَا ثَمَّ إلَّا مُؤْمِنٌ مَحْضٌ أَوْ كَافِرٌ مَحْضٌ ثُمَّ نَقَلُوا حُكْمَ الْوَاحِدِ مِنْ الْأَشْخَاصِ إلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْأَعْمَالِ فَقَالُوا : لَا يَكُونُ الْعَمَلُ الْوَاحِدُ مَحْبُوبًا مِنْ وَجْهٍ مَكْرُوهًا مِنْ وَجْهٍ وَغَلَا فِيهِ أَبُو هَاشِمٍ فَنَقَلَهُ إلَى الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ فَقَالَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جِنْسُ السُّجُودِ أَوْ الرُّكُوعِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ طَاعَةً وَبَعْضُهَا مَعْصِيَةً ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُوصَفُ بِوَصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بَلْ الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ تَتَعَلَّقُ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَهُوَ قَصْدُ السَّاجِدِ دُونَ عَمَلِهِ الظَّاهِرِ . وَاشْتَدَّ نَكِيرُ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَذَكَرُوا مِنْ مُخَالَفَتِهِ لِلْإِجْمَاعِ ، وَجَحْدِهِ لِلضَّرُورِيَّاتِ شَرْعًا وَعَقْلًا مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ فَسَادُهُ . وَهَؤُلَاءِ مُنْتَهَى نَظَرِهِمْ أَنْ يَرَوْا حَقِيقَةً مُطْلَقَةً مُجَرَّدَةً تَقُومُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَيَقُولُونَ : الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَالسُّجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَفَاضَلَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ؛ وَلَوْ اهْتَدَوْا لَعَلِمُوا أَنَّ الْأُمُورَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ عَنْ الذِّهْنِ مُتَمَيِّزَةٌ بِخَصَائِصِهَا وَأَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُجَرَّدَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ وَأَنَّ النَّاسَ إذَا تَكَلَّمُوا فِي التَّفَاضُلِ وَالِاخْتِلَافِ فَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي تَفَاضُلِ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ وَاخْتِلَافِهَا لَا فِي تَفَاضُلِ أَمْرٍ مُطْلَقٍ مُجَرَّدٍ فِي الذِّهْنِ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّوَادَ مُخْتَلِفٌ فَبَعْضُهُ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ وَكَذَلِكَ الْبَيَاضُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَلْوَانِ . وَأَمَّا إذَا قَدَّرْنَا السَّوَادَ الْمُجَرَّدَ الْمُطْلَقَ
الَّذِي
يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ فَهَذَا لَا يَقْبَلُ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَاضُلَ
لَكِنَّ هَذَا هُوَ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . وَمِثْلُ هَذَا
الْغَلَطِ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ حَيْثُ
أَنْكَرُوا تَفَاضُلَ الْعَقْلِ أَوْ الْإِيجَابِ أَوْ التَّحْرِيمِ وَإِنْكَارُ
التَّفَاضُلِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عَقِيلٍ
وَأَمْثَالِهِمَا لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ البربهاري وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى
وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ وَقَعَ نَظِيرُ هَذَا لِأَهْلِ
الْمَنْطِقِ وَالْفَلْسَفَةِ وَلِمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ
وَالِاتِّحَادِ فِي تَوْحِيدِ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَوَحْدَتِهِ حَتَّى
أَخْرَجَهُمْ الْأَمْرُ إلَى مَا يَسْتَلْزِمُ التَّعْطِيلَ الْمَحْضَ كَمَا
بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَأَهْلُ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِ مُضْطَرِبُونَ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَقُولُ
أَحَدُهُمْ الْقَوْلَ وَيَقُولُ نَقِيضَهُ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ
وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ فَنَقُولُ - وَلَا حَوْلَ
وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ - الْكَلَامُ فِي " طَرَفَيْنِ " .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ شُعَبَ الْإِيمَانِ هَلْ هِيَ مُتَلَازِمَةٌ فِي
الِانْتِفَاءِ ؟ ؟
وَالثَّانِي : هَلْ هِيَ مُتَلَازِمَةٌ فِي الثُّبُوتِ ؟
أَمَّا " الْأَوَّلُ " فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ الْجَامِعَةَ لِأُمُورِ - سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْأَعْيَانِ أَوْ الْأَعْرَاضِ - إذَا زَالَ بَعْضُ تِلْكَ الْأُمُورِ فَقَدْ يَزُولُ سَائِرُهَا وَقَدْ لَا يَزُولُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُجْتَمِعَةِ زَوَالُ سَائِرِهَا وَسَوَاءٌ سُمِّيَتْ مُرَكَّبَةً أَوْ مُؤَلَّفَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ زَوَالُ سَائِرِهَا . وَمَا مَثَّلُوا بِهِ مِنْ الْعَشَرَةِ والسكنجبين مُطَابِقٌ لِذَلِكَ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ الْعَشَرَةِ إذَا زَالَ لَمْ يَلْزَمْ زَوَالُ التِّسْعَةِ بَلْ قَدْ تَبْقَى التِّسْعَةُ فَإِذَا زَالَ أَحَدُ جُزْأَيْ الْمُرَكَّبِ لَا يَلْزَمُ زَوَالُ الْجُزْءِ الْآخَرِ ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا يَقُولُونَ زَالَتْ الصُّورَةُ الْمُجْتَمِعَةُ وَزَالَتْ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ وَزَالَ ذَلِكَ الِاسْمُ الَّذِي اسْتَحَقَّتْهُ الْهَيْئَةُ بِذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّرْكِيبِ كَمَا يَزُولُ اسْمُ الْعَشَرَةِ والسكنجبين . فَيُقَالُ : أَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ الْمُجْتَمَعِ الْمُرَكَّبِ مَا بَقِيَ عَلَى تَرْكِيبِهِ فَهَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ وَلَا يَدَّعِي عَاقِلٌ أَنَّ الْإِيمَانَ أَوْ الصَّلَاةَ أَوْ الْحَجَّ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِأُمُورِ إذَا زَالَ بَعْضُهَا بَقِيَ ذَلِكَ الْمُجْتَمَعُ الْمُرَكَّبُ كَمَا كَانَ قَبْلَ زَوَالِ بَعْضِهِ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ : إنَّ الشَّجَرَةَ أَوْ الدَّارَ إذَا زَالَ بَعْضُهَا بَقِيَتْ مُجْتَمِعَةً كَمَا كَانَتْ وَلَا أَنَّ الْإِنْسَانَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ إذَا زَالَ بَعْضُ
أَعْضَائِهِ
بَقِيَ مَجْمُوعًا . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ
يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً
جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ } فَالْمُجْتَمِعَةُ الْخَلْقِ
بَعْدَ الْجَدْعِ لَا تَبْقَى مُجْتَمِعَةً وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ زَوَالُ
بَقِيَّةِ الْأَجْزَاءِ .
وَأَمَّا زَوَالُ الِاسْمِ فَيُقَالُ لَهُمْ هَذَا : " أَوَّلًا "
بَحْثٌ لَفْظِيٌّ إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَهُ أَبْعَادٌ وَشُعَبٌ ؛ كَمَا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ
الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا
قَوْلُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ
وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ لَهُ
أَجْزَاءٌ وَشُعَبٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ شُعْبَةٍ مِنْ شُعَبِهِ زَوَالُ
سَائِرِ الْأَجْزَاءِ وَالشُّعَبِ ؛ كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ بَعْضِ
أَجْزَاءِ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ زَوَالُ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ . فَدَعْوَاهُمْ
أَنَّهُ إذَا زَالَ بَعْضُ الْمُرَكَّبِ زَالَ الْبَعْضُ الْآخَرُ لَيْسَ
بِصَوَابِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ لَهُمْ أَنَّهُ مَا بَقِيَ إلَّا بَعْضُهُ لَا
كُلُّهُ وَأَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ مَا بَقِيَتْ كَمَا كَانَتْ .
يَبْقَى النِّزَاعُ هَلْ يَلْزَمُ زَوَالُ الِاسْمِ بِزَوَالِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ
فَيُقَالُ لَهُمْ : الْمُرَكَّبَاتُ فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْهَا : مَا
يَكُونُ التَّرْكِيبُ شَرْطًا فِي إطْلَاقِ الِاسْمِ وَمِنْهَا : مَا لَا يَكُونُ
كَذَلِكَ فَالْأَوَّلُ كَاسْمِ الْعَشَرَةِ وَكَذَلِكَ السكنجبين وَمِنْهَا
مَا يَبْقَى الِاسْمُ بَعْدَ زَوَالِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ ؛ وَجَمِيعُ الْمُرَكَّبَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ الْأَجْزَاءِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَجْزَاءِ فَإِنَّ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ تُسَمَّى حِنْطَةً وَهِيَ بَعْدَ النَّقْصِ حِنْطَةٌ وَكَذَلِكَ التُّرَابُ وَالْمَاءُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ وَالْخَيْرِ وَالْحَسَنَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِيهِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ يُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَيْهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَعِنْدَ زَوَالِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ وَبَقَاءِ بَعْضٍ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْقُرْآنِ " فَيُقَالُ عَلَى جَمِيعِهِ وَعَلَى بَعْضِهِ وَلَوْ نَزَلَ قُرْآنٌ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا لَسُمِّيَ قُرْآنًا وَقَدْ تُسَمَّى الْكُتُبُ الْقَدِيمَةُ قُرْآنًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُفِّفَ عَلَى دَاوُد الْقُرْآنُ } وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَالْمَنْطِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى الْكَثِيرِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ يُقَالُ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْجَبَلِ يُقَالُ عَلَى الْجَبَلِ وَإِنْ ذَهَبَ مِنْهُ أَجْزَاءٌ كَثِيرَةٌ . وَلَفْظُ الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ يُقَالُ عَلَيْهِ وَإِنْ نَقَصَتْ أَجْزَاؤُهُ وَكَذَلِكَ الْمَدِينَةُ وَالدَّارُ وَالْقَرْيَةُ وَالْمَسْجِدُ وَنَحْوُ ذَلِكَ يُقَالُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُجْتَمِعَةِ ثُمَّ يَنْقُصُ كَثِيرٌ مِنْ أَجْزَائِهَا وَالِاسْمُ بَاقٍ وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ كَلَفْظِ الشَّجَرَةِ يُقَالُ عَلَى جُمْلَتِهَا فَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَغْصَانُ وَغَيْرُهَا ثُمَّ يُقْطَعُ مِنْهَا مَا يُقْطَعُ وَالِاسْمُ بَاقٍ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ يُقَالُ عَلَى الْحَيَوَانِ الْمُجْتَمِعِ الْخَلْقِ ثُمَّ
يَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنْ أَعْضَائِهِ وَالِاسْمُ بَاقٍ وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ بَعْضِ الْأَعْلَامِ : كَزَيْدِ وَعَمْرٍو يَتَنَاوَلُ الْجُمْلَةَ الْمُجْتَمِعَةَ ثُمَّ يَزُولُ بَعْضُ أَجْزَائِهَا وَالِاسْمُ بَاقٍ . وَإِذَا كَانَتْ الْمُرَكَّبَاتُ عَلَى نَوْعَيْنِ بَلْ غَالِبُهَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُمْ إنَّهُ إذَا زَالَ جُزْؤُهُ لَزِمَ أَنْ يَزُولَ الِاسْمُ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَبْقَى الِاسْمُ مَعَ بَقَاءِ الْجُزْءِ الْبَاقِي . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْمَ " الْإِيمَانِ " مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إذَا زَالَتْ الْإِمَاطَةُ وَنَحْوُهَا لَمْ يَزَلْ اسْمُ الْإِيمَانِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَتَبَعَّضُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ وَأَنَّ ذَاكَ مِنْ الْإِيمَانِ فَعُلِمَ أَنَّ بَعْضَ الْإِيمَانِ يَزُولُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ وَهَذَا يَنْقُضُ مَآخِذَهُمْ الْفَاسِدَةَ وَيُبَيِّنُ أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ مِثْلَ اسْمِ الْقُرْآنِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَمَّا الْحَجُّ وَنَحْوُهُ فَفِيهِ أَجْزَاءٌ يَنْقُصُ الْحَجُّ بِزَوَالِهَا عَنْ كَمَالِهِ الْوَاجِبَ وَلَا يَبْطُلُ كَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالْمَبِيتِ بِمِنَى وَنَحْوِ ذَلِكَ وَفِيهِ أَجْزَاءٌ يَنْقُصُ بِزَوَالِهَا مِنْ كَمَالِهِ الْمُسْتَحَبِّ كَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالْإِهْلَالِ وَالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ الْأَوَّلِ . وَكَذَلِكَ " الصَّلَاةُ " فِيهَا أَجْزَاءٌ تَنْقُصُ بِزَوَالِهَا عَنْ كَمَالِ الِاسْتِحْبَابِ وَفِيهَا
أَجْزَاءٌ وَاجِبَةٌ تَنْقُصُ بِزَوَالِهَا عَنْ الْكَمَالِ الْوَاجِبِ مَعَ الصِّحَّةِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَمَالِكٍ وَفِيهَا مَا لَهُ أَجْزَاءٌ إذَا زَالَتْ جُبِرَ نَقْصُهَا بِسُجُودِ السَّهْوِ وَأُمُورٌ لَيْسَتْ كَذَلِكَ . فَقَدْ رَأَيْت أَجْزَاءَ الشَّيْءِ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا شَرْعًا وَطَبْعًا فَإِذَا قَالَ الْمُعْتَرِضُ : هَذَا الْجُزْءُ دَاخِلٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَهَذَا خَارِجٌ مِنْ الْحَقِيقَةِ قِيلَ لَهُ : مَاذَا تُرِيدُ بِالْحَقِيقَةِ فَإِنْ قَالَ : أُرِيدُ بِذَلِكَ مَا إذَا زَالَ صَارَ صَاحِبُهُ كَافِرًا قِيلَ لَهُ : لَيْسَ لِلْإِيمَانِ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ مِثْلُ حَقِيقَةِ مُسَمَّى " مُسْلِمٍ " فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مِثْلُ حَقِيقَةِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ ؛ بَلْ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِ وَبُلُوغِ التَّكْلِيفِ لَهُ وَبِزَوَالِ الْخِطَابِ الَّذِي بِهِ التَّكْلِيفُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْوَاجِبُ عَلَى غَيْرِهِ مُطْلَقٌ ؛ لَا مِثْلَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولًا إلَى الْخَلْقِ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْخَلْقِ تَصْدِيقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتَهُ فِيمَا أَمَرَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ حِينَئِذٍ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَا صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَا حَجِّ الْبَيْتِ وَلَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَمْرَ وَالرِّبَا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَا كَانَ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ قَدْ نَزَلَ فَمَنْ صَدَّقَهُ حِينَئِذٍ فِيمَا نَزَّلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَأَقَرَّ بِمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ حِينَئِذٍ مُؤْمِنًا تَامَّ الْإِيمَانِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِيمَانِ لَوْ أَتَى بِهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ كَانَ كَافِرًا . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : كَانَ بَدْءُ الْإِيمَانِ نَاقِصًا فَجَعَلَ يَزِيدُ حَتَّى كَمُلَ ، وَلِهَذَا
قَالَ
تَعَالَى عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } .
وَ " أَيْضًا " فَبَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَإِكْمَالِ الدِّينِ إذَا
بَلَغَ الرَّجُلَ بَعْضُ الدِّينِ دُونَ بَعْضٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَدِّقَ مَا
جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ جُمْلَةً وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُ مُفَصَّلًا وَأَمَّا مَا
لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ مَعْرِفَتُهُ فَذَاكَ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ
يَعْرِفَهُ مُفَصَّلًا إذَا بَلَغَهُ وَ " أَيْضًا " فَالرَّجُلُ إذَا
آمَنَ بِالرَّسُولِ إيمَانًا جَازِمًا وَمَاتَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ
أَوْ وُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ مَاتَ كَامِلَ الْإِيمَانِ الَّذِي وَجَبَ
عَلَيْهِ فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ وَصَارَ
يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الْقَادِرُ
عَلَى الْحَجِّ وَالْجِهَادِ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ
التَّصْدِيقِ الْمُفَصَّلِ وَالْعَمَلِ بِذَلِكَ . فَصَارَ مَا يَجِبُ مِنْ
الْإِيمَانِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ نُزُولِ الْوَحْيِ مِنْ السَّمَاءِ
وَبِحَالِ الْمُكَلَّفِ فِي الْبَلَاغِ وَعَدَمِهِ وَهَذَا مِمَّا يَتَنَوَّعُ
بِهِ نَفْسُ التَّصْدِيقِ وَيَخْتَلِفُ حَالُهُ بِاخْتِلَافِ الْقُدْرَةِ
وَالْعَجْزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ وَهَذِهِ يَخْتَلِفُ بِهَا
الْعَمَلُ أَيْضًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا
يُمَاثِلُ الْوَاجِبَ عَلَى الْآخَرِ . فَإِذَا كَانَ نَفْسُ مَا وَجَبَ مِنْ
الْإِيمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ الْوَاحِدَةِ يَخْتَلِفُ وَيَتَفَاضَلُ - وَإِنْ
كَانَ بَيْنَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ مَوْجُودٌ فِي
الْجَمِيعِ : كَالْإِقْرَارِ بِالْخَالِقِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ
وَالْإِقْرَارِ بِرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ -
فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ إذَا أَتَى بِبَعْضِ مَا يَجِبُ
عَلَيْهِ دُونَ بَعْضٍ كَانَ قَدْ تَبَعَّضَ مَا أَتَى فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ كَتَبَعُّضِ
سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ .
يَبْقَى
أَنْ يُقَالَ : فَالْبَعْضُ الْآخَرُ قَدْ يَكُونُ شَرْطًا فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ
وَقَدْ لَا يَكُونُ شَرْطًا فِيهِ فَالشَّرْطُ كَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ
وَكَفَرَ بِبَعْضِهِ أَوْ آمَنَ بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَكَفَرَ بِبَعْضِهِمْ كَمَا
قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ
أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ
وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } {
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا
مُهِينًا } . وَقَدْ يَكُونُ الْبَعْضُ الْمَتْرُوكُ لَيْسَ شَرْطًا فِي وُجُودِ
الْآخَرِ وَلَا قَبُولِهِ .
وَحِينَئِذٍ فَقَدَ يَجْتَمِعُ فِي الْإِنْسَانِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ . وَبَعْضُ
شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَرْبَعٌ
مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ
مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا
حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا ائتمن خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ
فَجَرَ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ
عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ : إنَّك امْرُؤٌ فِيك
جَاهِلِيَّةٌ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَنْ يَدَعُوهُنَّ :
الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ
وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ
وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ : الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ } وَهَذَا مِنْ الْقُرْآنِ الَّذِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ : لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ - وَهُوَ يَعْلَمُهُ - إلَّا كَفَرَ وَمَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَمَنْ رَمَى رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَّا رَجَعَ عَلَيْهِ } . وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ { لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إلَّا كَفَرَ بِاَللَّهِ وَمَنْ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ مِنْهُمْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ وَابْنِ عُمَرَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ : أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ اللَّيْلَةَ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : قَالَ : أَصْبَحَ مِنْ
عِبَادِي
مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ
وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ :
مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَاكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَلَمْ تَرَوْا إلَى مَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالَ : مَا أَنْعَمْت عَلَى
عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ ؛ إلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ
يَقُولُونَ : بِالْكَوْكَبِ وَبِالْكَوَاكِبِ } وَنَظَائِرُ هَذَا مَوْجُودَةٌ فِي
الْأَحَادِيثِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ فِي
قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ } { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } و { الظَّالِمُونَ } كُفْرٌ
دُونَ كُفْرٍ ؛ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ . وَقَدْ ذَكَرَ
ذَلِكَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا .
الْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ شُعَبَ الْإِيمَانِ قَدْ تَتَلَازَمُ عِنْدَ
الْقُوَّةِ وَلَا تَتَلَازَمُ عِنْدَ الضَّعْفِ فَإِذَا قَوِيَ مَا فِي الْقَلْبِ
مِنْ التَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْجَبَ
بُغْضَ أَعْدَاءِ اللَّهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ }
وَقَالَ : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ
أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } . وَقَدْ تَحْصُلُ
لِلرَّجُلِ مُوَادَّتُهُمْ
لِرَحِمِ أَوْ حَاجَةٍ فَتَكُونُ ذَنْبًا يَنْقُصُ بِهِ إيمَانُهُ وَلَا يَكُونُ بِهِ كَافِرًا كَمَا حَصَلَ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة لَمَّا كَاتَبَ الْمُشْرِكِينَ بِبَعْضِ أَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } . وَكَمَا حَصَلَ لِسَعْدِ بْنِ عبادة لَمَّا انْتَصَرَ لِابْنِ أبي فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ . فَقَالَ : لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ : كَذَبْت وَاَللَّهِ ؛ لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ : وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ . وَلِهَذِهِ الشُّبْهَةِ { سَمَّى عُمَرُ حَاطِبًا مُنَافِقًا فَقَالَ دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ إنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا } فَكَانَ عُمَرُ مُتَأَوِّلًا فِي تَسْمِيَتِهِ مُنَافِقًا لِلشُّبْهَةِ الَّتِي فَعَلَهَا . وَكَذَلِكَ قَوْلُ أسيد بْنِ حضير لِسَعْدِ بْن عبادة ؛ كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ ؛ إنَّمَا أَنْتَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ ؛ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ مَالِكِ بْنِ الدخشم : مُنَافِقٌ وَإِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لِمَا رَأَى فِيهِ مِنْ نَوْعِ مُعَاشَرَةٍ وَمَوَدَّةٍ لِلْمُنَافِقِينَ . وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْمُتَّهَمُونَ بِالنِّفَاقِ نَوْعًا وَاحِدًا بَلْ فِيهِمْ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ ؛ وَفِيهِمْ مَنْ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ ؛ وَفِيهِمْ مَنْ إيمَانُهُ غَالِبٌ وَفِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ . وَكَانَ كَثِيرٌ ذُنُوبُهُمْ بِحَسَبِ ظُهُورِ الْإِيمَانِ ؛ وَلَمَّا قَوِيَ الْإِيمَانُ وَظَهَرَ الْإِيمَانُ وَقُوَّتُهُ عَامَ تَبُوكَ ؛ صَارُوا يُعَاتَبُونَ مِنْ النِّفَاقِ عَلَى مَا لَمْ يَكُونُوا يُعَاتَبُونَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ ؛
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَنَحْوِهِ مِنْ السَّلَفِ ؛ أَنَّهُمْ سَمَّوْا الْفُسَّاقَ مُنَافِقِينَ ؛ فَجَعَلَ أَهْلَ الْمَقَالَاتِ هَذَا قَوْلًا مُخَالِفًا لِلْجُمْهُورِ ؛ إذَا حَكَوْا تَنَازُعَ النَّاسِ فِي الْفَاسِقِ الْمِلِّي هَلْ هُوَ كَافِرٌ ؟ أَوْ فَاسِقٌ لَيْسَ مَعَهُ إيمَانٌ ؟ أَوْ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ ؟ أَوْ مُؤْمِنٌ بِمَا مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ فَاسِقٌ بِمَا مَعَهُ مِنْ الْفِسْقِ ؟ أَوْ مُنَافِقٌ وَالْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَقُلْ مَا خَرَجَ بِهِ عَنْ الْجَمَاعَةِ لَكِنْ سَمَّاهُ مُنَافِقًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ . وَالنِّفَاقُ كَالْكُفْرِ نِفَاقٌ دُونَ نِفَاقٍ وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يُقَالُ : كُفْرٌ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَكُفْرٌ لَا يَنْقُلُ وَنِفَاقٌ أَكْبَرُ وَنِفَاقٌ أَصْغَرُ كَمَا يُقَالُ : الشِّرْكُ شِرْكَانِ أَصْغَرِ وَأَكْبَرُ ؛ وَفِي صَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَنْجُو مِنْهُ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ؟ فَقَالَ : أَلَا أُعَلِّمُك كَلِمَةً إذَا قُلْتهَا نَجَوْت مَنْ دِقِّهِ وَجِلِّهِ ؟ قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أُشْرِكَ بِك وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا أَعْلَمُ } . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّارِعَ يَنْفِي اسْمَ الْإِيمَانِ عَنْ الشَّخْصِ ؛ لِانْتِفَاءِ كَمَالِهِ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ بَعْضُ أَجْزَائِهِ كَمَا قَالَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ؛ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ؛ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا
السِّلَاحَ
فَلَيْسَ مِنَّا } . فَإِنَّ صِيغَةَ " أَنَا " وَ " نَحْنُ "
وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ -
الْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ - الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الثَّوَابَ . بِلَا
عِقَابٍ وَمِنْ هُنَا قِيلَ إنَّ الْفَاسِقَ الْمِلِّي يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ :
هُوَ مُؤْمِنٌ بِاعْتِبَارِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ مُؤْمِنًا
بِاعْتِبَارِ . وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا لَا
مُؤْمِنًا وَلَا مُنَافِقًا مُطْلَقًا بَلْ يَكُونُ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ
دُونَ حَقِيقَتِهِ الْوَاجِبَةِ . وَلِهَذَا أَنْكَرَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ
الْأَئِمَّةِ عَلَى مَنْ فَسَّرَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" لَيْسَ مِنَّا " لَيْسَ مِثْلَنَا أَوْ لَيْسَ مِنْ خِيَارِنَا
وَقَالَ هَذَا تَفْسِيرُ " الْمُرْجِئَةِ " وَقَالُوا : لَوْ لَمْ
يَفْعَلْ هَذِهِ الْكَبِيرَةَ كَانَ يَكُونُ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ
بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ
فِي النَّارِ ؛ تَأْوِيلٌ مُنْكَرٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا هَذَا وَلَا هَذَا .
وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ
الْمَحْبُوبِ تَقْتَضِي حُبَّهُ وَمَعْرِفَةُ الْمُعَظَّمِ تَقْتَضِي تَعْظِيمَهُ
وَمَعْرِفَةُ الْمُخَوَّفِ تَقْتَضِي خَوْفَهُ ، فَنَفْسُ الْعِلْمِ
وَالتَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ وَمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ
الْعُلَى يُوجِبُ مَحَبَّةَ الْقَلْبِ لَهُ وَتَعْظِيمَهُ وَخَشْيَتَهُ ؛ وَذَلِكَ
يُوجِبُ إرَادَةَ طَاعَتِهِ وَكَرَاهِيَةَ مَعْصِيَتِهِ .
وَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ
وَوُجُودَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْهُ ؛ فَالْعَبْدُ إذَا كَانَ مُرِيدًا
لِلصَّلَاةِ
إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا ؛ صَلَّى فَإِذَا لَمْ يُصَلِّ مَعَ
الْقُدْرَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ الْإِرَادَةِ . وَبِهَذَا يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ
فِي " هَذَا الْمَقَامِ " .
فَإِنَّ النَّاسَ تَنَازَعُوا فِي الْإِرَادَةِ بِلَا عَمَلٍ ؛ هَلْ يَحْصُلُ
بِهَا عِقَابٌ ؟ . وَكَثُرَ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ . فَمَنْ قَالَ : لَا يُعَاقَبُ
احْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي فِي
الصَّحِيحَيْنِ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ
أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } وَبِمَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إذَا
هَمَّ الْعَبْدُ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ
عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً
كَامِلَةً ؛ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلَى سَبْعِمِائَةِ
ضِعْفٍ وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً ؛
فَإِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي } . وَمَنْ قَالَ : يُعَاقَبُ احْتَجَّ بِمَا
فِي الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا . فَالْقَاتِلُ
وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ ؛ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ
فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؛ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ }
وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ
الأنماري { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّجُلَيْنِ
اللَّذَيْنِ أُوتِيَ أَحَدُهُمَا عِلْمًا وَمَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي طَاعَةِ
اللَّهِ ؛ وَرَجُلٌ أُوتِيَ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتَ مَالًا ؛ فَقَالَ : لَوْ أَنَّ
لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ فُلَانٌ قَالَ :
فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ ؛ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ
عِلْمًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ؛ وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ
اللَّهُ عِلْمًا وَلَا مَالًا فَقَالَ : لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ
لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ فُلَانٌ ؛ قَالَ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ
سَوَاءٌ } .
وَالْفَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : فَرْقٌ بَيْنَ الْهَمِّ وَالْإِرَادَةِ " فَالْهَمُّ " قَدْ لَا يَقْتَرِنُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فَهَذَا لَا عُقُوبَةَ فِيهِ بِحَالِ بَلْ إنْ تَرَكَهُ لِلَّهِ كَمَا تَرَكَ يُوسُفُ هَمَّهُ أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا أُثِيبَ يُوسُفُ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد : الْهَمُّ هَمَّانِ : هَمُّ خَطِرَاتٍ ، وَهَمُّ إصْرَارٍ وَلِهَذَا كَانَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ ذَنَبٌ أَصْلًا بَلْ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ ؛ مَعَ مَا حَصَلَ مِنْ الْمُرَاوَدَةِ وَالْكَذِبِ وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِ بِالنِّسْوَةِ وَحَبْسِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَكَادُ بَشَرٌ يَصْبِرُ مَعَهَا عَنْ الْفَاحِشَةِ وَلَكِنَّ يُوسُفَ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ فَأَثَابَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا . { وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } . وَأَمَّا " الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ " فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ فِعْلُ الْمَقْدُورِ وَلَوْ بِنَظْرَةِ أَوْ حَرَكَةِ رَأْسٍ أَوْ لَفْظَةٍ أَوْ خُطْوَةٍ أَوْ تَحْرِيكِ بَدَنٍ ؛ وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ } . فَإِنَّ الْمَقْتُولَ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ فَعَمِلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْقِتَالِ وَعَجَزَ عَنْ حُصُولِ الْمُرَادِ وَكَذَلِكَ الَّذِي قَالَ : لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ فُلَانٌ فَإِنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْكَلَامُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ (*) وَلِهَذَا كَانَ مَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَرَادَ ضَلَالَهُمْ فَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ دُعَائِهِمْ إذْ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى ذَلِكَ .
وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فِي " الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ " : فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَعِلْمُهُ يَقْتَضِي عَمَلَ الْقَلْبِ كَمَا يَقْتَضِي الْحِسُّ الْحَرَكَةَ الْإِرَادِيَّةَ لِأَنَّ النَّفْسَ فِيهَا قُوَّتَانِ : قُوَّةُ الشُّعُورِ بِالْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِي وَالْإِحْسَاسِ بِذَلِكَ وَالْعَمَلِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ ، وَقُوَّةُ الْحُبِّ لِلْمُلَائِمِ وَالْبُغْضِ لِلْمُنَافِي وَالْحَرَكَةِ عَنْ الْحِسِّ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ . وَإِدْرَاكُ الْمُلَائِمِ يُوجِبُ اللَّذَّةَ وَالْفَرَحَ وَالسُّرُورَ وَإِدْرَاكُ الْمُنَافِي يُوجِبُ الْأَلَمَ وَالْغَمَّ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ } . فَالْقُلُوبُ مَفْطُورَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِاَللَّهِ تَصْدِيقًا بِهِ وَدِينًا لَهُ لَكِنْ يَعْرِضُ لَهَا مَا يُفْسِدُهَا وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ تَقْتَضِي مَحَبَّتَهُ ، وَمَعْرِفَةُ الْبَاطِلِ تَقْتَضِي بُغْضَهُ ؛ لِمَا فِي الْفِطْرَةِ مِنْ حُبِّ الْحَقِّ وَبُغْضِ الْبَاطِلِ لَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لَهَا مَا يُفْسِدُهَا إمَّا مِنْ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَصُدُّهَا عَنْ التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ وَإِمَّا مِنْ الشَّهَوَاتِ الَّتِي تَصُدُّهَا عَنْ اتِّبَاعِهِ وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَقُولَ فِي الصَّلَاةِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } لِأَنَّ الْيَهُودَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَلَا يَتْبَعُونَهُ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ الَّذِي يُوجِبُ بُغْضَ الْحَقِّ وَمُعَادَاتَهُ . وَالنَّصَارَى لَهُمْ عِبَادَةٌ وَفِي قُلُوبِهِمْ رَأْفَةٌ وَرَحْمَةٌ وَرَهْبَانِيَّةٌ ابْتَدَعُوهَا لَكِنْ بِلَا عِلْمٍ فَهُمْ ضُلَّالٌ . هَؤُلَاءِ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِلَا قَصْدٍ صَحِيحٍ وَهَؤُلَاءِ
لَهُمْ قَصْدٌ فِي الْخَيْرِ بِلَا مَعْرِفَةٍ لَهُ وَيَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ الظَّنُّ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى ؛ فَلَا يَبْقَى فِي الْحَقِيقَةِ مَعْرِفَةٌ نَافِعَةٌ ؛ وَلَا قَصْدٌ نَافِعٌ بَلْ يَكُونُ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ مُشْرِكِي أَهْلِ الْكِتَابِ : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } . فَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ لَا يَكُونُ إيمَانًا بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقٍ لَيْسَ مَعَهُ عَمَلُ الْقَلْبِ وَمُوجِبُهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ كَمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إيمَانًا بِمُجَرَّدِ ظَنٍّ وَهَوًى ؛ بَلْ لَا بُدَّ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ مِنْ قَوْلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِ الْقَلْبِ ، وَلَيْسَ لَفْظُ الْإِيمَانِ مُرَادِفًا لِلَفْظِ التَّصْدِيقِ كَمَا يَظُنُّهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ ؛ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ خَبَرٍ فَيُقَالُ لِمَنْ أَخْبَرَ بِالْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ مِثْلُ : الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ ، وَالسَّمَاءُ فَوْقَ الْأَرْضِ مُجِيبًا : صَدَقْت وَصَدَّقْنَا بِذَلِكَ ؛ وَلَا يُقَالُ : آمَنَّا لَك وَلَا آمَنَّا بِهَذَا حَتَّى يَكُونَ الْمُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ فَيُقَالُ لِلْمُخْبِرِ آمَنَّا لَهُ وَلِلْمُخْبَرِ بِهِ آمَنَّا بِهِ كَمَا قَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } أَيْ بِمُقِرِّ لَنَا وَمُصَدِّقٍ لَنَا لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ عَنْ غَائِبٍ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } وقَوْله تَعَالَى { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } وقَوْله تَعَالَى { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } وقَوْله تَعَالَى { وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } أَيْ : أَقَرَّ لَهُ .
وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ يُفَارِقُ التَّصْدِيقَ أَيْ : لَفْظًا وَمَعْنًى ؛ فَإِنَّهُ أَيْضًا يُقَالُ : صَدَّقْته فَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إلَى الْمُصَدَّقِ وَلَا يُقَالُ أَمِنْته إلَّا مِنْ الْأَمَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِخَافَةِ بَلْ آمَنْت لَهُ وَإِذَا سَاغَ أَنْ يُقَالَ : مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقِ لِفُلَانِ كَمَا يُقَالُ : هَلْ أَنْتَ مُصَدِّقٌ لَهُ . لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ بِنَفْسِهِ إذَا قُدِّمَ مَفْعُولُهُ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ الْعَامِلُ اسْمَ فَاعِلٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَضْعُفُ عَنْ الْفِعْلِ فَقَدْ يُعَدُّونَهُ بِاللَّامِ تَقْوِيَةً لَهُ كَمَا يُقَالُ : عَرَّفْت هَذَا وَأَنَا بِهِ عَارِفٌ وضربت هَذَا وَأَنَا لَهُ ضَارِبٌ وَسَمَّعْت هَذَا وَرَأَيْته وَأَنَا لَهُ سَامِعٌ وَرَاءٍ كَذَلِكَ يُقَالُ صَدَّقْته وَأَنَا لَهُ مُصَدِّقٌ وَلَا يُقَالُ صَدَّقْت لَهُ بِهِ وَهَذَا خِلَافُ آمَنَ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ إذَا أَرَدْت التَّصْدِيقَ آمَنْته كَمَا يُقَالُ أَقْرَرْت لَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ آمَنْت لَهُ كَمَا يُقَالُ أَقْرَرْت لَهُ فَهَذَا فَرْقٌ فِي اللَّفْظِ . وَ " الْفَرْقُ الثَّانِي " : مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْأَخْبَارِ بَلْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَدْخُلُهَا الرَّيْبُ . فَإِذَا أَقَرَّ بِهَا الْمُسْتَمِعُ قِيلَ آمَنَ بِخِلَافِ لَفْظِ التَّصْدِيقِ فَإِنَّهُ عَامٌّ مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِ الْأَخْبَارِ . وَأَمَّا " الْمَعْنَى " : فَإِنَّ الْإِيمَانَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَمْنِ الَّذِي هُوَ الطُّمَأْنِينَةُ ؛ كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْإِقْرَارِ : مَأْخُوذٌ مِنْ قريقر وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ آمَنَ يَأْمَنُ ؛ لَكِنَّ الصَّادِقَ يُطْمَأَنُّ إلَى خَبَرِهِ ؛ وَالْكَاذِبَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ الصِّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ وَالْكَذِبُ رِيبَةٌ ؛ فَالْمُؤْمِنُ دَخَلَ فِي الْأَمْنِ كَمَا أَنَّ الْمُقِرَّ دَخَلَ فِي الْإِقْرَارِ وَلَفْظُ الْإِقْرَارِ يَتَضَمَّنُ الِالْتِزَامَ ثُمَّ إنَّهُ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا
: الْإِخْبَارُ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَلَفْظِ التَّصْدِيقِ ؛
وَالشَّهَادَةِ وَنَحْوِهِمَا . وَهَذَا مَعْنَى الْإِقْرَارِ الَّذِي يَذْكُرُهُ
الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ .
وَالثَّانِي : إنْشَاءُ الِالْتِزَامِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا
وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } . وَلَيْسَ هُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْخَبَرِ
الْمُجَرَّدِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ
أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي } . فَهَذَا الِالْتِزَامُ
لِلْإِيمَانِ وَالنَّصْرِ لِلرَّسُولِ وَكَذَلِكَ " لَفْظُ الْإِيمَانِ
" فِيهِ إخْبَارٌ وَإِنْشَاءٌ وَالْتِزَامٌ ؛ بِخِلَافِ لَفْظِ التَّصْدِيقِ
الْمُجَرَّدِ فَمَنْ أَخْبَرَ الرَّجُلَ بِخَبَرِ لَا يَتَضَمَّنُ طُمَأْنِينَةً
إلَى الْمُخْبِرِ ؛ لَا يُقَالُ فِيهِ آمَنَ لَهُ بِخِلَافِ الْخَبَرِ الَّذِي
يَتَضَمَّنُ طُمَأْنِينَةً إلَى الْمُخْبَرِ وَالْمُخْبِرُ قَدْ يَتَضَمَّنُ
خَبَرُهُ طَاعَةَ الْمُسْتَمِعُ لَهُ وَقَدْ لَا يَتَضَمَّنُ إلَّا مُجَرَّدَ
الطُّمَأْنِينَةِ إلَى صِدْقِهِ فَإِذَا تَضَمَّنَ طَاعَةَ الْمُسْتَمِعِ لَمْ
يَكُنْ مُؤْمِنًا لِلْمُخْبِرِ ؛ إلَّا بِالْتِزَامِ طَاعَتِهِ مَعَ تَصْدِيقِهِ ؛
بَلْ قَدْ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْكُفْرِ - الْمُقَابِلِ لِلْإِيمَانِ - فِي نَفْسِ
الِامْتِنَاعِ عَنْ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ ؛ فَقِيَاسُ ذَلِكَ أَنْ
يُسْتَعْمَلَ لَفْظُ الْإِيمَانِ كَمَا اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْإِقْرَارِ فِي
نَفْسِ الْتِزَامِ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ إبْلِيسَ
بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ . وَ
" أَيْضًا " فَلَفْظُ التَّصْدِيقِ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي جِنْسِ
الْإِخْبَارِ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ
إخْبَارٌ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ ؛ وَالتَّكْذِيبَ إخْبَارٌ بِكَذِبِ الْمُخْبِرِ ؛ فَقَدْ يُصَدَّقُ الرَّجُلُ الْكَاذِبُ تَارَةً ، وَقَدْ يُكَذَّبُ الرَّجُلُ ، الصَّادِقُ أُخْرَى فَالتَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ نَوْعَانِ مِنْ الْخَبَرِ ، وَهُمَا خَبَرٌ عَنْ الْخَبَرِ فَالْحَقَائِقُ الثَّابِتَةُ فِي نَفْسِهَا الَّتِي قَدْ تُعْلَمُ بِدُونِ خَبَرٍ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا لَفْظُ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ إنْ لَمْ يَقْدِرْ مُخْبِرٌ عَنْهَا بِخِلَافِ الْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ وَالْجُحُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْحَقَائِقَ وَالْإِخْبَارَ عَنْ الْحَقَائِقِ أَيْضًا . وَأَيْضًا فَالذَّوَاتُ الَّتِي تُحَبُّ تَارَةً وَتُبْغَضُ أُخْرَى وتوالى تَارَةً وَتُعَادَى أُخْرَى وَتُطَاوَعُ تَارَةً وَتُعْصَى أُخْرَى وَيُذَلُّ لَهَا تَارَةً وَيُسْتَكْبَرُ عَنْهَا أُخْرَى تَخْتَصُّ هَذِهِ الْمَعَانِي فِيهَا بِلَفْظِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ وَأَمَّا لَفْظُ التَّصْدِيقِ وَالصِّدْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَتَعَلَّقُ بِمُتَعَلِّقِهَا كَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ فَيُقَالُ : حُبٌّ صَادِقٌ . وَبُغْضٌ صَادِقٌ فَكَمَا أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فِي إثْبَاتِ الْحَقَائِقِ وَنَفْيِهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبَرِ النَّافِي وَالْمُثْبِتِ دُونَ الْحَقِيقَةِ ابْتِدَاءً . فَكَذَلِكَ فِي الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالْحُبِّ وَالْبُغْضِ . دُونَ الْحَقِيقَةِ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الذَّوَاتَ بِلَا وَاسِطَةِ إقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ أَوْ حُبٍّ أَوْ بُغْضٍ أَوْ طُمَأْنِينَةٍ أَوْ نُفُورٍ . وَيَشْهَدُ لِهَذَا الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ { اللَّهُمَّ إيمَانًا بِك وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك وَوَفَاءً بِعَهْدِك وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَقَالَ إيمَانًا بِك وَلَمْ يَقُلْ تَصْدِيقًا بِك كَمَا قَالَ تَصْدِيقًا بِكِتَابِك وَقَالَ تَعَالَى عَنْ
مَرْيَمَ : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } فَجَعَلَ التَّصْدِيقَ بِالْكَلِمَاتِ وَالْكُتُبِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا إيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِكَلِمَاتِي وَيُرْوَى إيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي وَيُرْوَى لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ } فَفِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ جَعَلَ لَفْظَ التَّصْدِيقِ بِالْكَلِمَاتِ وَالرُّسُلِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ { ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَازِلَ عَالِيَةً فِي الْجَنَّةِ فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : تِلْكَ مَنَازِلُ لَا يَبْلُغُهَا إلَّا الْأَنْبِيَاءُ فَقَالَ : بَلَى وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ } . وَمَا يُحْصَى الْآنَ الِاسْتِعْمَالُ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ صَدَّقْت بِاَللَّهِ ، أَوْ فُلَانٌ يُصَدِّقُ بِاَللَّهِ أَوْ صَدَّقَ بِاَللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا جَاءَ فُلَانٌ يُؤْمِنُ وَآمَنَ بِاَللَّهِ وَإِيمَانًا بِاَللَّهِ وَنُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَنُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَكَلَامَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مَمْلُوءٌ مِنْ لَفْظِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَآمَنَ بِاَللَّهِ وَنُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَمَا أَعْلَمُ قِيلَ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ أَوْ صَدَّقُوا بِاَللَّهِ أَوْ يَا أَيُّهَا الَّذِي صَدَّقَ اللَّهَ وَنَحْوُ ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لَا يَحْضُرُنِي السَّاعَةَ وَمَا أَظُنُّهُ . وَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَبَرِ أَيْضًا كَمَا يُقَالُ : { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ } أَيْ أَقَرَّ لَهُ وَالرَّسُولُ يُؤْمِنُ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُخْبِرٌ وَيُؤْمِنُ بِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ رِسَالَتَهُ مِمَّا أَخْبَرَ بِهَا كَمَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ . " فَالْإِيمَانُ " مُتَضَمِّنٌ لِلْإِقْرَارِ بِمَا أَخْبَرَ
بِهِ وَالْكُفْرُ " تَارَةً " يَكُونُ بِالنَّظَرِ إلَى عَدَمِ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ يَشْتَرِكُ فِيهِ كُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ . وَ " تَارَةً " بِالنَّظَرِ إلَى عَدَمِ الْإِقْرَارِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْإِخْبَارُ بِاَللَّهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَلِهَذَا كَانَ جَحْدُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ أَعْظَمَ مَنْ جَحْدِ غَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ أَخْبَرَ بِكِلَيْهِمَا ثُمَّ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِهِ فِي الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ بِثُبُوتِ مَا أَخْبَرَ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ طَاعَةٌ لِأَمْرِهِ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا وَلَا مَحَبَّةٌ لِلَّهِ وَلَا تَعْظِيمٌ لَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إيمَانًا . وَكُفْرُ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَالْيَهُودِ وَنَحْوُهُمْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ ؛ فَإِنَّ إبْلِيسَ لَمْ يُخْبِرْهُ أَحَدٌ بِخَبَرِ بَلْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ فَكُفْرُهُ بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ ؛ لَا لِأَجْلِ تَكْذِيبٍ . وَكَذَلِكَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا وَقَالَ لَهُ مُوسَى : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فَاَلَّذِي يُقَالُ هُنَا أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يُقَالَ الِاسْتِكْبَارُ وَالْإِبَاءُ وَالْحَسَدُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا الْكُفْرُ بِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَإِلَّا فَمَنْ كَانَ عِلْمُهُ وَتَصْدِيقُهُ تَامًّا أَوْجَبَ اسْتِسْلَامُهُ وَطَاعَتُهُ مَعَ الْقُدْوَةِ كَمَا أَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَ الْقُدْرَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَا فِي الْقَلْبِ هِمَّةٌ وَلَا إرَادَةٌ ؛ فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُوجَدْ مُوجَبُ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ مِنْ حُبِّ الْقَلْبِ وَانْقِيَادِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَاصِلَ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ بِتَصْدِيقِ وَلَا عِلْمٍ بَلْ هُنَا شُبْهَةٌ
وَرَيْبٌ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ وَهُوَ أَصْلُ قَوْلِ جَهْمٍ والصالحي وَالْأَشْعَرِيِّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِمَّنْ يَجْعَلُ الْأَعْمَالَ الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ لَا مِنْ نَفْسِهِ وَيَجْعَلُ مَا يَنْتَفِي الْإِيمَانُ بِانْتِفَائِهِ مِنْ لَوَازِمِ التَّصْدِيقِ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُ تَصْدِيقُ بَاطِنٍ مَعَ كُفْرٍ قَطُّ . أَوْ أَنْ يُقَالَ : قَدْ يُحْمَلُ فِي الْقَلْبِ عِلْمٌ بِالْحَقِّ وَتَصْدِيقٌ بِهِ وَلَكِنْ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ اسْتِسْلَامِ الْقَلْبِ وَانْقِيَادِهِ وَمَحَبَّتِهِ ؛ وَلَيْسَ هَذَا كَالْإِرَادَةِ مَعَ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ مُسْتَلْزَمَةٌ لِلْمُرَادِ وَلَيْسَ الْعِلْمُ بِالْحَقِّ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِمُوجِبِ ذَلِكَ الْعَمَلِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ إرَادَةِ الْحَقِّ وَالْحُبِّ لَهُ . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مُسْتَلْزَمَةٌ لِوُجُودِ الْمُرَادِ الْمَقْدُورِ مُوجِبَةٌ لِحُصُولِ الْمَقْدُورِ لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِرَادَةِ . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ خَطَأُ مَنْ قَالَ : إنَّ مُجَرَّدَ عِلْمِ اللَّهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ مُوجِبٌ لِوُجُودِهَا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ ؛ كَمَا يَغْلَطُ النَّاسُ مَنْ يَقُولُ إنَّ مُجَرَّدَ إرَادَةِ الْمُمْكِنَاتِ بِدُونِ الْقُدْرَةِ مُوجِبٌ وُجُودَهَا ، وَكَمَا خَطَّئُوا مَنْ قَالَ : إنَّ مُجَرَّدَ الْقُدْرَةِ كَافِيَةٌ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فِي وُجُودِ الْمَقْدُورِ وَالْمُرَادِ ؛ وَالْإِرَادَةُ مُسْتَلْزَمَةٌ لِتَصَوُّرِ الْمُرَادِ وَالْعِلْمِ بِهِ ؛ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ : إنَّهَا مُتَلَازِمَةٌ فِي الْحَيِّ أَوْ أَنَّ الْحَيَاةَ مُسْتَلْزَمَةٌ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَوْ أَنَّ بَعْضَ الصِّفَاتِ مَشْرُوطٌ بِالْبَعْضِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَعْلُومٍ مُرَادًا
مَحْبُوبًا وَلَا مَقْدُورًا وَلَا كُلُّ مَقْدُورٍ مُرَادًا مَحْبُوبًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مَعْلُومًا مُصَدَّقًا بِهِ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا مَعْبُودًا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ ؛ وَأَمْرٌ آخَرُ بِهِ يَكُونُ هَذَا مُحِبًّا وَهَذَا مَحْبُوبًا . فَقَوْلُ مَنْ جَعَلَ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ فِي الْعَبْدِ هُوَ الْإِيمَانُ وَأَنَّهُ مُوجِبٌ لِأَعْمَالِ الْقَلْبِ فَإِذَا انْتَفَتْ دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الْعِلْمِ ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ : مُجَرَّدُ عِلْمِ اللَّهِ بِنِظَامِ الْعَالِمِ مُوجِبٌ لِوُجُودِهِ ؛ بِدُونِ وُجُودِ إرَادَةٍ مِنْهُ وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ : إنَّ سَعَادَةَ النَّفْسِ فِي مُجَرَّدِ أَنْ تَعْلَمَ الْحَقَائِقَ وَلَمْ يَقْرِنُوا ذَلِكَ بِحُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ الَّتِي لَا تَتِمُّ السَّعَادَةُ إلَّا بِهَا ؛ وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ يَقُولُ : كَمَالُ الْجِسْمِ أَوْ النَّفْسِ فِي الْحُبِّ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ الْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ بِهِ ، وَمَنْ يَقُولُ : اللَّذَّةُ فِي مُجَرَّدِ الْإِدْرَاكِ وَالشُّعُورِ . وَهَذَا غَلَطٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إدْرَاكِ الْمُلَائِمِ ؛ وَالْمُلَائِمَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِمَحَبَّةِ بَيْنَ الْمُدْرِكِ وَالْمُدْرَكِ وَتِلْكَ الْمَحَبَّةُ وَالْمُوَافَقَةُ وَالْمُلَائِمَةُ لَيْسَتْ نَفْسَ إدْرَاكِهِ وَالشُّعُورِ بِهِ . وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ إنَّ " اللَّذَّةَ " إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ وَهَذَا تَقْصِيرٌ مِنْهُمْ بَلْ اللَّذَّةُ حَالٌ يَعْقُبُ إدْرَاكَ الْمُلَائِمِ ؛ كَالْإِنْسَانِ الَّذِي يُحِبُّ الْحُلْوَ وَيَشْتَهِيهِ فَيُدْرِكُهُ بِالذَّوْقِ وَالْأَكْلِ ؛ فَلَيْسَتْ اللَّذَّةُ مُجَرَّدَ ذَوْقِهِ بَلْ أَمْرٌ يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ يَحْصُلُ مَعَ الذَّوْقِ فَلَا بُدَّ " أَوَّلًا " مِنْ أَمْرَيْنِ ؛ وَ " آخِرًا " مِنْ أَمْرَيْنِ : لَا بُدَّ " أَوَّلًا " : مِنْ شُعُورٍ بِالْمَحْبُوبِ ؛ وَمَحَبَّةٍ لَهُ ؛ فَمَا لَا شُعُورَ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُشْتَهَى وَمَا يُشْعَرُ بِهِ وَلَيْسَ فِي النَّفْسِ مَحَبَّةٌ لَهُ لَا يُشْتَهَى ثُمَّ إذَا
حَصَلَ إدْرَاكُهُ بِالْمَحْبُوبِ نَفْسِهِ حَصَلَ عَقِيبَ ذَلِكَ اللَّذَّةُ وَالْفَرَحُ مَعَ ذَلِكَ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك وَالشَّوْقَ إلَى لِقَائِك ؛ مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ : نَادَى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه فَيَقُولُونَ : مَا هُوَ ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلَنَا الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ قَالَ : فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ ؛ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ . فَاللَّذَّةُ مَقْرُونَةٌ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ ؛ وَلَا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ لِمَا يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ مِنْ اللَّذَّةِ ؛ لَا أَنَّ نَفْسَ النَّظَرِ هُوَ اللَّذَّةُ . وَفِي " الْجُمْلَةِ " فَلَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ مِنْ تَصْدِيقٍ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ مَعَ الْبُغْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ؛ وَمُعَادَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ إيمَانًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَيْسَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ يَسْتَلْزِمُ الْحُبَّ إلَّا إذَا كَانَ الْقَلْبُ سَلِيمًا مِنْ الْمَعَارِضِ كَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ لِأَنَّ النَّفْسَ مَفْطُورَةٌ عَلَى حُبِّ الْحَقِّ وَهُوَ الَّذِي يُلَائِمُهَا . وَلَا شَيْءَ أَحَبُّ إلَى الْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ مِنْ اللَّهِ وَهَذَا هُوَ الْحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ } { إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } فَلَيْسَ مُجَرَّدُ
الْعِلْمِ مُوجِبًا لِحُبِّ الْمَعْلُومِ ؛ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي النَّفْسِ قُوَّةٌ أُخْرَى تُلَائِمُ الْمَعْلُومَ وَهَذِهِ الْقُوَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي النَّفْسِ . وَكُلٌّ مِنْ الْقُوَّتَيْنِ تَقْوَى بِالْأُخْرَى فَالْعِلْمُ يُقَوِّي الْعَمَلَ وَالْعَمَلُ يُقَوِّي الْعِلْمَ فَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَقَلْبُهُ سَلِيمٌ أَحَبَّهُ ؛ وَكُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ مَعْرِفَةً ازْدَادَ حُبُّهُ لَهُ ؛ وَكُلَّمَا ازْدَادَ حُبُّهُ لَهُ ازْدَادَ ذِكْرُهُ لَهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ؛ فَإِنَّ قُوَّةَ الْحُبِّ تُوجِبُ كَثْرَةَ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ ؛ كَمَا أَنَّ الْبُغْضَ يُوجِبُ الْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ الْمُبْغِضِ فَمَنْ عَادَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَحَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِإِعْرَاضِهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْخَيْرِ ؛ وَعَنْ ذِكْرِ مَا يُوجِبُ الْمَحَبَّةَ فَيَضْعُفُ عِلْمُهُ بِهِ حَتَّى قَدْ يَنْسَاهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } وَقَدْ يَحْصُلُ مَعَ ذَلِكَ تَصْدِيقٌ وَعِلْمٌ مَعَ بُغْضٍ وَمُعَادَاةٍ لَكِنْ تَصْدِيقٌ ضَعِيفٌ وَعِلْمٌ ضَعِيفٌ ؛ وَلَكِنْ لَوْلَا الْبُغْضُ وَالْمُعَادَاةُ لَأَوْجَبَ ذَلِكَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا يَصِيرُ بِهِ مُؤْمِنًا . فَمِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ وُجُودُ الْعِلْمِ التَّامِّ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّ الْجَهْلَ بِبَعْضِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ كَافِرًا إذَا كَانَ مُقِرًّا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَبْلُغْهُ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَا جَهِلَهُ عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي كُفْرُهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْهُ كَحَدِيثِ الَّذِي أَمَرَ أَهْلَهُ بِتَحْرِيقِهِ ثُمَّ تَذْرِيَتِهِ ؛ بَلْ الْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْعِلْمِ بِهِ . وَلِهَذَا يُوصَفُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ :
سَأَلْت
أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَقَالُوا لِي : كُلُّ مَنْ عَصَى
اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ ؛ وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ
قَرِيبٍ . وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا .
وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ جَهْلًا . وَقِيلَ لِلشَّعْبِيِّ : أَيُّهَا
الْعَالِمُ فَقَالَ : الْعَالِمُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {
إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } . وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ
التيمي : " الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ " : عَالِمٌ بِاَللَّهِ ؛ وَبِأَمْرِ
اللَّهِ ؛ وَعَالِمٌ بِاَللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ وَعَالِمٌ
بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِاَللَّهِ . فَالْعَالِمُ بِاَللَّهِ الَّذِي
يَخْشَاهُ . وَالْعَالِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي يَعْلَمُ حُدُودَهُ
وَفَرَائِضَهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ
اللَّهَ فَهُوَ عَالِمٌ . وَهُوَ حَقٌّ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ
يَخْشَاهُ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِهِ مُوجِبًا لِلْخَشْيَةِ عِنْدَ
عَدَمِ الْمُعَارِضِ كَانَ عَدَمُهُ دَلِيلًا عَلَى ضَعْفِ الْأَصْلِ إذْ لَوْ
قَوِيَ لَدَفَعَ الْمُعَارِضَ . وَهَكَذَا لَفْظُ " الْعَقْلِ " يُرَادُ
بِهِ الْغَرِيزَةُ الَّتِي بِهَا يُعْلَمُ وَيُرَادُ بِهَا أَنْوَاعٌ مِنْ
الْعِلْمِ . وَيُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ بِمُوجِبِ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ
لَفْظُ " الْجَهْلِ " يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ عَدَمِ الْعِلْمِ وَيُعَبَّرُ
بِهِ عَنْ عَدَمِ الْعَمَلِ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ
وَلَا يَجْهَلْ فَإِنْ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إنِّي امْرُؤٌ
صَائِمٌ } وَالْجَهْلُ هُنَا هُوَ الْكَلَامُ الْبَاطِلُ بِمَنْزِلَةِ الْجَهْلِ
الْمُرَكَّبِ . وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا * * * فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ
الْجَاهِلِينَا
وَمِنْ هَذَا سُمِّيَتْ " الْجَاهِلِيَّةُ " جَاهِلِيَّةً وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِعَدَمِ الْعِلْمِ أَوْ لِعَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ وَمِنْهُ { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ : إنَّك امْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّةٌ لَمَّا سَابَّ رَجُلًا وَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } . فَإِنَّ الْغَضَبَ وَالْحَمِيَّةَ تَحْمِلُ الْمَرْءَ عَلَى فِعْلِ مَا يَضُرُّهُ وَتَرْكِ مَا يَنْفَعُهُ وَهَذَا مِنْ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ عَمَلٌ بِخِلَافِ الْعِلْمِ حَتَّى يُقْدِمَ الْمَرْءُ عَلَى فِعْلِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضُرُّهُ ، وَتَرْكِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ ؛ لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الْبُغْضِ وَالْمُعَادَاةِ لِأَشْخَاصِ وَأَفْعَالٍ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسَ عَدِيمَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ بِالْكُلِّيَّةِ لَكِنَّهُ لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ بُغْضٍ وَحَسَدٍ غَلَبَ مُوجِبُ ذَلِكَ لِمُوجِبِ الْعِلْمِ فَدَلَّ عَلَى ضَعْفِ الْعِلْمِ لِعَدَمِ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْمُوجِبَ وَالنَّتِيجَةَ لَا تُوجَدُ عَنْهُ وَحْدَهُ بَلْ عَنْهُ وَعَمَّا فِي النَّفْسِ مِنْ حُبِّ مَا يَنْفَعُهَا وَبُغْضِ مَا يَضُرُّهَا فَإِذَا حَصَلَ لَهَا مَرَضٌ فَفَسَدَتْ بِهِ أَحَبَّتْ مَا يَضُرُّهَا وَأَبْغَضَتْ مَا يَنْفَعُهَا فَتَصِيرُ النَّفْسُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَتَنَاوَلُ مَا يَضُرُّهُ لِشَهْوَةِ نَفْسِهِ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَضُرُّهُ . " قُلْت " : هَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ } رَوَاهُ البيهقي مُرْسَلًا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } فَوَصَفَهُمْ بِالْقُوَّةِ فِي الْعَمَلِ وَالْبَصِيرَةِ فِي الْعِلْمِ وَأَصْلُ الْقُوَّةِ قُوَّةُ الْقَلْبِ الْمُوجِبَةُ لِمَحَبَّةِ الْخَيْرِ وَبُغْضِ الشَّرِّ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ وَالْمُنَافِقُ قُوَّتُهُ فِي جِسْمِهِ وَضِعْفُهُ فِي قَلْبِهِ فَالْإِيمَانُ لَا بُدَّ
فِيهِ مِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ : التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ فَهَذَا أَصْلُ الْقَوْلِ وَهَذَا أَصْلُ الْعَمَلِ . ثُمَّ الْحُبُّ التَّامُّ مَعَ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ حَرَكَةَ الْبَدَنِ بِالْقَوْلِ الظَّاهِرِ ، وَالْعَمَلُ الظَّاهِرُ ضَرُورَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَمَنْ جَعَلَ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ مُوجِبًا لِجَمِيعِ مَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَكُلُّ مَا سُمِّيَ إيمَانًا فَقَدْ غَلِطَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحُبِّ وَالْعِلْمُ شَرْطٌ فِي مَحَبَّةِ الْمَحْبُوبِ كَمَا أَنَّ الْحَيَاةَ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ ؛ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالتَّصْدِيقِ بِثُبُوتِهِ مَحَبَّتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْمَعْلُومِ مَعْنًى فِي الْمُحِبِّ أَحَبَّ لِأَجْلِهِ وَلِهَذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يُصَدِّقُ بِثُبُوتِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَيَعْلَمُهَا وَهُوَ يُبْغِضُهَا كَمَا يُصَدِّقُ بِوُجُودِ الشَّيَاطِينِ وَالْكُفَّارِ وَيُبْغِضُهُمْ وَنَفْسُ التَّصْدِيقِ بِوُجُودِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي مَحَبَّتَهُ ؛ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ لِذَاتِهِ أَنْ يُحَبَّ وَيُعْبَدَ وَأَنْ يُحَبَّ لِأَجْلِهِ رَسُولُهُ ، وَالْقُلُوبُ فِيهَا مَعْنًى يَقْتَضِي حُبَّهُ وَطَاعَتَهُ كَمَا فِيهَا مَعْنًى يَقْتَضِي الْعِلْمَ وَالتَّصْدِيقَ بِهِ ؛ فَمَنْ صَدَّقَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُحِبًّا لَهُ وَلِرَسُولِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ الْحُبِّ لَهُ وَلِرَسُولِهِ . وَإِذَا قَامَ بِالْقَلْبِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَالْمَحَبَّةُ لَهُ لَزِمَ ضَرُورَةَ أَنْ يَتَحَرَّكَ الْبَدَنُ بِمُوجِبِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ ؛ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فَمَا يَظْهَرُ عَلَى الْبَدَنِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ هُوَ مُوجَبُ مَا فِي الْقَلْبِ وَلَازِمُهُ ؛ وَدَلِيلُهُ وَمَعْلُولُهُ كَمَا أَنَّ مَا يَقُومُ بِالْبَدَنِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ لَهُ أَيْضًا تَأْثِيرٌ فِيمَا فِي الْقَلْبِ . فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُؤَثِّرُ فِي الْآخَرِ لَكِنَّ الْقَلْبَ هُوَ الْأَصْلُ ، وَالْبَدَنَ فَرْعٌ لَهُ وَالْفَرْعُ يُسْتَمَدُّ مِنْ أَصْلِهِ ، وَالْأَصْلُ يَثْبُتُ وَيَقْوَى بِفَرْعِهِ . كَمَا فِي الشَّجَرَةِ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ لِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ ، قَالَ
تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } وَهِيَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَالشَّجَرَةُ كُلَّمَا قَوِيَ أَصْلُهَا وَعَرِقَ وَرُوِيَ قَوِيَتْ فَرْعُهَا . وَفُرُوعُهَا أَيْضًا إذَا اغْتَذَتْ بِالْمَطَرِ وَالرِّيحِ أَثَّرَ ذَلِكَ فِي أَصْلِهَا . وَكَذَلِكَ " الْإِيمَانُ " فِي الْقَلْبِ وَ " الْإِسْلَامِ " عَلَانِيَةً وَلَمَّا كَانَتْ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَازِمَةً وَمُسْتَلْزَمَةً لِلْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ كَانَ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَيْهَا : كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَا يُوجَدُونَ مُوَادِّينَ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . بَلْ نَفْسُ الْإِيمَانِ يُنَافِي مَوَدَّتَهُمْ . فَإِذَا حَصَلَتْ الْمُوَادَّةُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى خَلَلِ الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الصَّادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ : آمَنَّا وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّاسَ فِي قَوْلِهِمْ : آمَنَّا صَادِقٌ وَكَاذِبٌ وَالْكَاذِبُ فِيهِ نِفَاقٌ بِحَسَبِ كَذِبِهِ . قَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ :
{
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا
هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا
يَكْذِبُونَ } وَفِي يَكْذِبُونَ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ . وَفِي الْحَدِيثِ
{ أَسَاسُ النِّفَاقِ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ الْكَذِبُ } وَقَالَ تَعَالَى : {
إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ
لَكَاذِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ
آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } {
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ }
{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا
أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وَقَالَ : {
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ .
وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَلَا يَسْتَرِيبُ مَنْ تَدَبَّرَ مَا يَقُولُ فِي
أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقٍ فِي الْقَلْبِ مَعَ
بُغْضِهِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَمُعَادَاته
لَهُ وَلِرَسُولِهِ وَلِهَذَا كَانَ جَمَاهِيرُ الْمُرْجِئَةِ عَلَى أَنَّ عَمَلَ
الْقَلْبِ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ كَمَا نَقَلَهُ أَهْلُ الْمَقَالَاتِ عَنْهُمْ
مِنْهُمْ الْأَشْعَرِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ فِي " الْمَقَالَاتِ
" : اخْتَلَفَ الْمُرْجِئَةُ فِي الْإِيمَانِ مَا هُوَ ؟ وَهُمْ "
اثْنَتَا عَشْرَةَ فِرْقَةً " . " الْفِرْقَةُ الْأُولَى "
مِنْهُمْ : يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ هُوَ الْمَعْرِفَةُ
بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِجَمِيعِ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَقَطْ
وَأَنَّ مَا سِوَى الْمَعْرِفَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ وَالْخُضُوعِ بِالْقَلْبِ
وَالْمَحَبَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُمَا وَالْخَوْفِ
وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ فَلَيْسَ بِإِيمَانِ وَزَعَمُوا أَنَّ الْكُفْرَ
بِاَللَّهِ هُوَ الْجَهْلُ بِهِ وَهَذَا قَوْلٌ يُحْكَى عَنْ الْجَهْمِ
بْنِ صَفْوَانَ قَالَ : وَزَعَمَتْ الْجَهْمِيَّة أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَتَى بِالْمَعْرِفَةِ ثُمَّ جَحَدَ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِجَحْدِهِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ لَا يَكُونَانِ إلَّا فِي الْقَلْبِ دُونَ الْجَوَارِحِ قَالَ : وَ " الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ " مِنْ الْمُرْجِئَةِ : يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ فَقَطْ وَالْكَفْرُ بِهِ هُوَ الْجَهْلُ بِهِ فَقَطْ فَلَا إيمَانَ بِاَللَّهِ إلَّا الْمَعْرِفَةُ بِهِ وَلَا كُفْرَ بِاَللَّهِ إلَّا الْجَهْلُ بِهِ وَإِنَّ قَوْل الْقَائِلِ : إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ لَيْسَ بِكُفْرِ وَلَكِنَّهُ لَا يَظْهَرُ إلَّا مِنْ كَافِرٍ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ كَفَّرَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يَقُولُهُ إلَّا كَافِرٌ وَزَعَمُوا أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ هِيَ الْمَحَبَّةُ لَهُ وَهِيَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ . وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ إيمَانٌ بِالرَّسُولِ وَيَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ إلَّا مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ . لَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ وَلَكِنَّ الرَّسُولَ قَالَ { مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ بِاَللَّهِ } وَزَعَمُوا أَيْضًا أَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ بِعِبَادَةِ لِلَّهِ وَأَنَّهُ لَا عِبَادَةَ إلَّا الْإِيمَانَ بِهِ وَهُوَ مَعْرِفَتُهُ وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَهُوَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ وَالْقَائِلُ بِهَذَا الْقَوْلِ أَبُو الْحُسَيْنِ الصالحي وَقَدْ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْمُوجَزِ " قَوْلَ الصالحي هَذَا وَغَيْرِهِ ثُمَّ قَالَ : وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ فِي الْأَسْمَاءِ قَوْلَ الصالحي وَفِي الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ أَنِّي لَا أَقْطَعُ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ عَلَى الْعُمُومِ وَلَا عَلَى الْخُصُوصِ إذْ كَانَ يُحْتَمَلُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا وَأَقِفُ فِي ذَلِكَ وَلَا أَقْطَعُ عَلَى عُمُومٍ وَلَا عَلَى خُصُوصٍ إلَّا بِتَوْقِيفِ أَوْ إجْمَاعٍ . ثُمَّ قَالَ فِي " الْمَقَالَاتِ " . وَ " الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ الْمُرْجِئَةِ " : يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ
وَالْخُضُوعُ لَهُ ، وَهُوَ تَرْكُ الِاسْتِكْبَارِ عَلَيْهِ ، وَالْمَحَبَّةُ لِلَّهِ فَمَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَزَعَمُوا أَنَّ إبْلِيسَ كَانَ عَارِفًا بِاَللَّهِ غَيْرَ أَنَّهُ كَفَرَ بِاسْتِكْبَارِهِ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا قَوْلُ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِ يُونُسَ السمري . وَ " الْفِرْقَةُ الرَّابِعَةُ " : وَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي شِمْرٍ وَيُونُسَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ وَالْمَحَبَّةُ لَهُ وَالْخُضُوعُ لَهُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ أَنَّهُ وَاحِدٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ مَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ حُجَّةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةُ الْأَنْبِيَاءِ فَالْإِيمَانُ الْإِقْرَارُ بِهِمْ وَالتَّصْدِيقُ لَهُمْ وَالْمَعْرِفَةُ لِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَنْهُمْ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ وَلَا يُسَمُّونَ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ إيمَانًا وَلَا بَعْضَ إيمَانٍ حَتَّى تَجْتَمِعَ هَذِهِ الْخِصَالُ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ سَمَّوْهَا إيمَانًا لِاجْتِمَاعِهَا وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالْبَيَاضِ إذَا كَانَ فِي دَابَّةٍ لَمْ يُسَمُّوهَا بَلْقَاء إلَّا مَعَ السَّوَادِ وَجَعَلُوا تَرْكَ كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ كُفْرًا وَلَمْ يَجْعَلُوا الْإِيمَانَ مُتَبَعِّضًا وَلَا مُحْتَمِلًا لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ . وَذَكَرَ عَنْ " الْخَامِسَةِ " أَصْحَابَ أَبِي ثوبان : أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ إلَّا أَنْ يَفْعَلَهُ . وَذَكَرَ عَنْ " الْفِرْقَةِ السَّادِسَةِ " : أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ وَفَرَائِضِهِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَالْخُضُوعُ لَهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَزَعَمُوا أَنَّ خِصَالَ الْإِيمَانِ كُلٌّ مِنْهَا طَاعَةٌ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ إذَا فُعِلَتْ دُونَ الْأُخْرَى لَمْ تَكُنْ طَاعَةً كَالْمَعْرِفَةِ بِلَا إقْرَارٍ وَأَنَّ تَرْكَ كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ ؛ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكْفُرُ
بِتَرْكِ خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي إيمَانِهِمْ وَيَكُونُ بَعْضُهُمْ أَعْلَمَ وَأَكْثَرَ تَصْدِيقًا لَهُ مِنْ بَعْضٍ وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَهَذَا قَوْل الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّجَّارِ وَأَصْحَابِهِ . وَ " الْفِرْقَةُ السَّابِعَةُ " الغيلانية أَصْحَابُ غَيْلَانَ يَزْعُمُونَ : أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ الثَّانِيَةُ ؛ وَالْمَحَبَّةُ وَالْخُضُوعُ وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْأُولَى عِنْدَهُ اضْطِرَارٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَكَيْنَا قَوْلَهُمْ : مِنْ " الشمرية " وَ " الْجَهْمِيَّة " وَ " الغيلانية " وَ " النجارية " يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ فِي الْكُفَّارِ إيمَانٌ وَأَنْ يُقَالَ فِيهِمْ بَعْضُ إيمَانٍ إذْ كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَتَبَعَّضُ عِنْدَهُمْ . قَالَ : وَ " الْفِرْقَةُ الثَّامِنَةُ " مِنْ الْمُرْجِئَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ شَبِيبٍ يَزْعُمُونَ : أَنَّ الْإِيمَانَ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَالْمَعْرِفَةُ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . وَالْإِقْرَارُ وَالْمَعْرِفَةُ بِأَنْبِيَائِهِ وَبِرُسُلِهِ وَبِجَمِيعِ مَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَنَقَلُوهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ . وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ وَهُوَ تَرْكُ الِاسْتِكْبَارِ عَلَيْهِ وَزَعَمُوا أَنَّ إبْلِيسَ قَدْ عَرَفَ اللَّهَ وَأَقَرَّ بِهِ وَإِنَّمَا كَانَ كَافِرًا لِأَنَّهُ اسْتَكْبَرَ وَلَوْلَا اسْتِكْبَارُهُ مَا كَانَ كَافِرًا وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَتَبَعَّضُ وَيَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ وَأَنَّ الْخَصْلَةَ مِنْ الْإِيمَانِ قَدْ تَكُونُ طَاعَةً وَبَعْضَ إيمَانٍ وَيَكُونُ صَاحِبُهَا كَافِرًا بِتَرْكِ بَعْضِ الْإِيمَانِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا بِإِصَابَةِ الْكُلِّ وَكُلُّ رَجُلٍ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَيَجْحَدُ الْأَنْبِيَاءَ فَهُوَ كَافِرٌ بِجَحْدِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَهِيَ مَعْرِفَتُهُ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ . " الْفِرْقَةُ التَّاسِعَةُ " : مِنْ الْمُرْجِئَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْسِيرِ . " الْفِرْقَةُ الْعَاشِرَةُ " : مِنْ الْمُرْجِئَةِ أَصْحَابُ أَبِي مُعَاذٍ التومني يَزْعُمُونَ : أَنَّ الْإِيمَانَ تَرْكُ مَا عَظُمَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَهُوَ اسْمٌ لِخِصَالِ إذَا تَرَكَهَا أَوْ تَرَكَ خَصْلَةً مِنْهَا كَانَ كَافِرًا فَتِلْكَ الْخَصْلَةُ الَّتِي يَكْفُرُ بِتَرْكِهَا إيمَانٌ وَكُلُّ طَاعَةٍ إذَا تَرَكَهَا التَّارِكُ لَمْ يُجْمِعْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِهِ فَتِلْكَ الطَّاعَةُ شَرِيعَةٌ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ تَارِكُهَا إنْ كَانَتْ فَرِيضَةً يُوصَفُ بِالْفِسْقِ فَيُقَالُ لَهُ إنَّهُ يَفْسُقُ وَلَا يُسَمَّى بِالْفِسْقِ وَلَا يُقَالُ فَاسِقٌ وَلَيْسَتْ تَخْرُجُ الْكَبَائِرُ مِنْ الْإِيمَانِ إذَا لَمْ تَكُنْ كُفْرًا وَتَارِكُ الْفَرَائِضِ مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ عَلَى الْجُحُودِ بِهَا وَالرَّدِّ لَهَا وَالِاسْتِخْفَافِ بِهَا كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَإِنَّمَا كَفَرَ لِلِاسْتِخْفَافِ وَالرَّدِّ وَالْجُحُودِ ، وَإِنْ تَرَكَهَا غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لِتَرْكِهَا مُتَشَاغِلًا مُسَوِّفًا يَقُولُ : السَّاعَةَ أُصَلِّي وَإِذَا فَرَغْت مِنْ لَهْوِي وَعَمَلِي فَلَيْسَ بِكَافِرِ وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي يَوْمًا وَوَقْتًا مِنْ الْأَوْقَاتِ . وَلَكِنْ نُفَسِّقُهُ . وَكَانَ أَبُو مُعَاذٍ يَقُولُ : مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ لَطَمَهُ كَفَرَ وَلَيْسَ مِنْ أَجْلِ اللَّطْمَةِ كَفَرَ وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ الِاسْتِخْفَافِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبُغْضِ لَهُ .
وَالْفِرْقَةُ " الْحَادِيَةَ عَشَرَ " مِنْ الْمُرْجِئَةِ : أَصْحَابُ بِشْرٍ المريسي يَقُولُونَ : إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ وَمَا لَيْسَ بِتَصْدِيقِ فَلَيْسَ بِإِيمَانِ وَيَزْعُمُ أَنَّ التَّصْدِيقَ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَبِاللِّسَانِ جَمِيعًا وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ كَانَ يَذْهَبُ ابْن الراوندي وَكَانَ ابْن الراوندي يَزْعُمُ أَنَّ الْكُفْرَ هُوَ الْجَحْدُ وَالْإِنْكَارُ وَالسَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكُفْرُ إلَّا مَا كَانَ فِي اللُّغَةِ كُفْرًا وَلَا يَجُوزُ إيمَانٌ إلَّا مَا كَانَ فِي اللُّغَةِ إيمَانًا وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّ السُّجُودَ لِلشَّمْسِ لَيْسَ بِكُفْرِ وَلَا السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ كُفْرٌ وَلَكِنَّهُ عَلَمٌ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ لِلشَّمْسِ إلَّا كَافِرٌ . قَالَ وَ " الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَ " مِنْ الْمُرْجِئَةِ : الكَرَّامِيَة أَصْحَابُ مُحَمَّدِ بْنِ كَرَّامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ وَأَنْكَرُوا أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَةُ الْقَلْبِ أَوْ شَيْءٌ غَيْرُ التَّصْدِيقِ بِاللِّسَانِ إيمَانًا . فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأَشْعَرِيُّ عَنْ الْمُرْجِئَةِ يَتَضَمَّنُ أَكْثَرُهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ بَعْضِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ عِنْدَهُمْ وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ فِرْقَةٌ يَسِيرَةٌ : كَجَهْمِ والصالحي . وَقَدْ ذَكَرَ أَيْضًا فِي " الْمَقَالَاتِ " جُمْلَةَ قَوْلِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ . قَالَ : جُمْلَةُ مَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَرُدُّونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَأَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً
وَلَا وَلَدًا وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفَ كَمَا قَالَ : { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَكَمَا قَالَ : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ كَمَا قَالَ : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } . وَأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ لَا يُقَالُ إنَّهَا غَيْرُ اللَّهِ كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ . إلَى أَنْ قَالَ : وَيَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْكَلَامُ فِي الْوَقْفِ وَاللَّفْظِ بِدْعَةٌ مَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ أَوْ اللَّفْظِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ عِنْدَهُمْ لَا يُقَالُ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَلَا يُقَالُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . إلَى أَنْ قَالَ : وَلَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ يَرْتَكِبُهُ : كَنَحْوِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَهُمْ بِمَا مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ مُؤْمِنُونَ وَإِنْ ارْتَكَبُوا الْكَبَائِرَ ، وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ : هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُمْ وَمَا أَصَابَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُمْ وَالْإِسْلَامُ هُوَ : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَالْإِسْلَامُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ الْإِيمَانِ . إلَى أَنْ قَالَ : وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَلَا يَقُولُونَ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ : وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ
مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ : وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ . فَهَذَا قَوْلُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَافَقَ فِيهِ أَهْلَ السُّنَّةِ وَأَصْحَابَ الْحَدِيثِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الَّذِي نَصَرَهُ فِي الْمُوجَزِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ عَامَّةَ فِرَقِ الْأُمَّةِ تُدْخِلُ مَا هُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ حَتَّى عَامَّةِ فِرَقِ الْمُرْجِئَةِ تَقُولُ بِذَلِكَ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ فَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ مَنْ اتَّبَعَ جَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ شَاذٌّ كَمَا أَنَّ قَوْلَ الكَرَّامِيَة الَّذِينَ يَقُولُونَ هُوَ مُجَرَّدُ قَوْلِ اللِّسَانِ شَاذٌّ أَيْضًا . وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " هَلْ تَدْخُلُ فِيهِ الْأَعْمَالُ ؟ وَهَلْ هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ؟ يَظُنُّ أَنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هُوَ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ قَوْلُ اللِّسَانِ وَهَذَا غَلَطٌ ؛ بَلْ الْقَوْلُ الْمُجَرَّدُ عَنْ اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ لَيْسَ إيمَانًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَلَيْسَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ بِالْبَاطِنِ هُوَ الْإِيمَانَ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا مَنْ شَذَّ مِنْ أَتْبَاعِ جَهْمٍ والصالحي وَفِي قَوْلِهِمْ مِنْ السَّفْسَطَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْمُخَالَفَةِ فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي قَوْلِ ابْنِ كَرَّامٍ إلَّا مَنْ شَذَّ مِنْ أَتْبَاعِ ابْنِ كَرَّامٍ وَكَذَلِكَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ حُبٌّ لِلَّهِ وَلَا تَعْظِيمٌ بَلْ فِيهِ بُغْضٌ وَعَدَاوَةٌ لِلَّهِ وَرُسُلِهِ لَيْسَ إيمَانًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَوْلُ ابْنِ كَرَّامٍ فِيهِ مُخَالَفَةٌ فِي الِاسْمِ دُونَ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ - وَإِنْ سَمَّى الْمُنَافِقِينَ مُؤْمِنِينَ - يَقُولُ إنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ فَيُخَالِفُ الْجَمَاعَةَ فِي الِاسْمِ دُونَ الْحُكْمِ وَأَتْبَاعُ جَهْمٍ يُخَالِفُونَ فِي الِاسْمِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا .
فَصْلٌ
:
إذَا عُرِفَ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ فَاسْمُ " الْإِيمَانِ
" تَارَةً يُطْلَقُ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْأَقْوَالِ
الْقَلْبِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالْمَحَبَّةِ
وَالتَّعْظِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَتَكُونُ الْأَقْوَالُ الظَّاهِرَةُ
وَالْأَعْمَالُ لَوَازِمُهُ وَمُوجِبَاتُهُ وَدَلَائِلُهُ وَتَارَةً عَلَى مَا فِي
الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ جُعِلَا لِمُوجَبِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ دَاخِلًا فِي
مُسَمَّاهُ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ تُسَمَّى
إسْلَامًا وَأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ تَارَةً وَلَا تَدْخُلُ
فِيهِ تَارَةً .
وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهُ بِالْإِفْرَادِ
وَالِاقْتِرَانِ فَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ الْإِفْرَادِ فِيهِ عُمُومٌ لِمَعْنَيَيْنِ
وَعِنْدَ الِاقْتِرَانِ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى أَحَدِهِمَا كَلَفْظِ الْفَقِيرِ
وَالْمِسْكِينِ إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا تَنَاوَلَ الْآخَرَ وَإِذَا جَمَعَ
بَيْنَهُمَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مُسَمًّى يَخُصُّهُ وَكَذَلِكَ لَفْظُ
الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ إذَا أُطْلِقَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } دَخَلَ فِيهِ
الْفَحْشَاءُ وَالْبَغْيُ وَإِذَا قَرَنَ بِالْمُنْكَرِ أَحَدَهُمَا كَمَا فِي
قَوْلِهِ : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } أَوْ
كِلَاهُمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } كَانَ اسْمُ الْمُنْكَرِ مُخْتَصًّا بِمَا خَرَجَ
مِنْ ذَلِكَ عَلَى قَوْلٍ أَوْ مُتَنَاوِلًا لِلْجَمِيعِ عَلَى قَوْلٍ - بِنَاءً
عَلَى
أَنَّ
الْخَاصَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْعَامِّ هَلْ يَمْنَعُ شُمُولَ الْعَامِّ لَهُ ؟
أَوْ يَكُونُ قَدْ ذَكَرَ مَرَّتَيْنِ فِيهِ نِزَاعٌ - وَالْأَقْوَالُ
وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ نَتِيجَةُ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَلَازِمُهَا .
وَإِذَا أُفْرِدَ اسْمُ " الْإِيمَانِ " فَقَدْ يَتَنَاوَلُ هَذَا
وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِيمَانُ
بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } . وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ
الْإِسْلَامُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَجُزْءًا مِنْهُ فَيُقَالُ
حِينَئِذٍ : إنَّ " الْإِيمَانَ " اسْمٌ لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ
الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ . وَمِنْهُ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ
أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ
وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَتُؤَدُّوا خُمُسَ الْمَغْنَمِ } أَخْرَجَاهُ فِي
الصَّحِيحَيْنِ . فَفَسَّرَ الْإِيمَانَ هُنَا بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْإِسْلَامَ
لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّهَادَتَيْنِ هُنَا أَنْ يَشْهَدَ بِهِمَا بَاطِنًا
وَظَاهِرًا وَكَانَ الْخِطَابُ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَكَانُوا مِنْ خِيَارِ
النَّاسِ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِبَلَدِهِمْ بَعْدَ جُمُعَةِ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا { قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ
فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ جُمُعَةِ الْمَدِينَةِ جُمُعَةٌ بجواثى - قَرْيَةٍ مِنْ
قُرَى الْبَحْرَيْنِ - وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَك
هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّار مُضَرَ وَإِنَّا لَا نَصِلُ إلَيْك إلَّا فِي شَهْرٍ
حَرَامٍ فَمُرْنَا بِأَمْرِ فَصْلٍ نَعْمَلُ بِهِ وَنَدْعُو إلَيْهِ مَنْ
وَرَاءَنَا وَأَرَادُوا بِذَلِكَ أَهْلَ نَجْدٍ مِنْ تَمِيمٍ وَأَسَدٍ وغطفان
وَغَيْرِهِمْ كَانُوا كُفَّارًا } فَهَؤُلَاءِ كَانُوا صَادِقِينَ رَاغِبِينَ فِي
طَلَبِ الدِّينِ فَإِذَا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَقْوَالِ وَأَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ فَعَلُوهَا
بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَكَانُوا بِهَا مُؤْمِنِينَ .
وَأَمَّا إذَا قَرَنَ الْإِيمَانَ بِالْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ فِي
الْقَلْبِ وَالْإِسْلَامَ ظَاهِرٌ كَمَا فِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ
عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ وَالْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ
خَيْرِهِ وَشَرِّهِ } وَمَتَى حَصَلَ لَهُ هَذَا الْإِيمَانُ وَجَبَ ضَرُورَةً
أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ الشَّهَادَتَانِ وَالصَّلَاةُ
وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ ؛ لِأَنَّ إيمَانَهُ بِاَللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ يَقْتَضِي الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ .
وَالِانْقِيَادَ لَهُ وَإِلَّا فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ
لَهُ الْإِقْرَارُ وَالْحُبُّ وَالِانْقِيَادُ بَاطِنًا وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي
الظَّاهِرِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَمَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْإِرَادَةِ
الْجَازِمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ بِدُونِ وُجُودِ الْمُرَادِ . وَبِهَذَا تَعْرِفُ
أَنَّ مَنْ آمَنَ قَلْبُهُ إيمَانًا جَازِمًا امْتَنَعَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ
بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَعَدَمُ الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ مُسْتَلْزَمٌ
انْتِفَاءَ الْإِيمَانِ الْقَلْبِيِّ التَّامِّ ؛ وَبِهَذَا يَظْهَرُ خَطَأُ
جَهْمٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ مُجَرَّدَ إيمَانٍ بِدُونِ
الْإِيمَانِ الظَّاهِرِ يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ إذْ
لَا يَحْصُلُ الْإِيمَانُ التَّامُّ فِي الْقَلْبِ إلَّا وَيَحْصُلُ فِي
الظَّاهِرِ مُوجِبُهُ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ مِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ
يُحِبَّ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ حُبًّا جَازِمًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى
مُوَاصَلَتِهِ وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ حَرَكَةٌ ظَاهِرَةٌ إلَى ذَلِكَ . وَأَبُو
طَالِبٍ إنَّمَا كَانَتْ مَحَبَّتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ لَا لِلَّهِ وَإِنَّمَا
نَصَرَهُ
وَذَبَّ عَنْهُ لِحَمِيَّةِ النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ
يَتَقَبَّلْ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ إيمَانٍ فِي
الْقَلْبِ لَتَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ضَرُورَةً وَالسَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ
نَصْرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْحَمِيَّةُ -
هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ امْتِنَاعَهُ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ بِخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ وَنَحْوِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } {
الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ
تُجْزَى } { إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } { وَلَسَوْفَ يَرْضَى }
وَمَنْشَأُ الْغَلَطِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنْ وُجُوهٍ . ( أَحَدُهَا ) أَنَّ
الْعِلْمَ وَالتَّصْدِيقَ مُسْتَلْزِمٌ لِجَمِيعِ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ . (
الثَّانِي ) : ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ مَا فِي الْقُلُوبِ لَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ
فِيهِ . ( الثَّالِثُ ) ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ
الْمَقْبُولِ يُمْكِنُ تَخَلُّفُ الْقَوْلِ الظَّاهِرِ وَالْعَمَلِ الظَّاهِرِ
عَنْهُ . ( الرَّابِعُ ) : ظَنَّ الظَّانُّ أَنْ لَيْسَ فِي الْقَلْبِ إلَّا
التَّصْدِيقُ وَأَنْ لَيْسَ الظَّاهِرُ إلَّا عَمَلُ الْجَوَارِحِ . وَالصَّوَابُ
أَنَّ الْقَلْبَ لَهُ عَمَلٌ مَعَ التَّصْدِيقِ وَالظَّاهِرُ قَوْلٌ ظَاهِرٌ
وَعَمَلٌ ظَاهِرٌ وَكِلَاهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْبَاطِنِ .
وَ " الْمُرْجِئَةُ " أَخْرَجُوا الْعَمَلَ الظَّاهِرَ عَنْ الْإِيمَانِ
؛ فَمَنْ قَصَدَ مِنْهُمْ إخْرَاجَ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ أَيْضًا وَجَعَلَهَا هِيَ
التَّصْدِيقَ فَهَذَا ضَلَالٌ بَيِّنٌ وَمَنْ قَصَدَ إخْرَاجَ الْعَمَلِ
الظَّاهِرِ قِيلَ لَهُمْ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ لَازِمٌ لِلْعَمَلِ الْبَاطِنِ لَا
يَنْفَكُّ عَنْهُ وَانْتِفَاءُ الظَّاهِرِ دَلِيلُ انْتِفَاءِ الْبَاطِنِ
فَبَقِيَ
النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ هَلْ هُوَ جُزْءٌ مِنْ مُسَمَّى
الْإِيمَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالتَّضَمُّنِ أَوْ لَازِمٌ لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ
. وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّهُ تَارَةً يَدْخُلُ فِي الِاسْمِ وَتَارَةً
يَكُونُ لَازِمًا لِلْمُسَمَّى - بِحَسَبِ إفْرَادِ الِاسْمِ وَاقْتِرَانِهِ -
فَإِذَا قُرِنَ الْإِيمَانُ بِالْإِسْلَامِ كَانَ مُسَمَّى الْإِسْلَامِ خَارِجًا
عَنْهُ كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ وَكَذَلِكَ إذَا
قُرِنَ الْإِيمَانُ بِالْعَمَلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فَقَدْ يُقَالُ : اسْمُ الْإِيمَانِ لَمْ يَدْخُلْ
فِيهِ الْعَمَلُ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ ؛ وَقَدْ يُقَالُ : بَلْ دَخَلَ فِيهِ
وَعُطِفَ عَلَيْهِ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ ؛ وَبِكُلِّ حَالٍ
فَالْعَمَلُ تَحْقِيقٌ لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ وَتَصْدِيقٌ لَهُ وَلِهَذَا قَالَ
طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ - كَالشَّيْخِ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ ؟
وَغَيْرِهِ - : الْإِيمَانُ كُلُّهُ تَصْدِيقٌ فَالْقَلْبُ يُصَدِّقُ مَا جَاءَتْ
بِهِ الرُّسُلُ ، وَاللِّسَانُ يُصَدِّقُ مَا فِي الْقَلْبِ ، وَالْعَمَلُ
يُصَدِّقُ الْقَوْلَ كَمَا يُقَالُ : صَدَّقَ عَمَلُهُ قَوْلَهُ . وَمِنْهُ قَوْلُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ
وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا السَّمْعُ
وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ
وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ
يُكَذِّبُهُ } وَالتَّصْدِيقُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَبَرِ وَفِي الْإِرَادَةِ
يُقَالُ : فُلَانٌ صَادِقُ الْعَزْمِ وَصَادِقُ الْمَحَبَّةِ وَحَمَلُوا حَمْلَةً
صَادِقَةً .
وَ " السَّلَفُ " اشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى الْمُرْجِئَةِ لَمَّا
أَخْرَجُوا الْعَمَلَ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَالُوا إنَّ الْإِيمَانَ يَتَمَاثَلُ
النَّاسُ فِيهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُمْ بِتَسَاوِي إيمَانِ النَّاسِ
مِنْ أَفْحَشِ الْخَطَأِ بَلْ لَا يَتَسَاوَى النَّاسُ فِي التَّصْدِيقِ وَلَا فِي الْحُبِّ وَلَا فِي الْخَشْيَةِ وَلَا فِي الْعِلْمِ ؛ بَلْ يَتَفَاضَلُونَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . وَ " أَيْضًا " فَإِخْرَاجُهُمْ الْعَمَلَ يُشْعِرُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ أَيْضًا وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا فَإِنَّ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ وَأَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ بِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ فَهُوَ كَافِرٌ قَطْعًا بِالضَّرُورَةِ وَإِنْ أَدْخَلُوا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ فِي الْإِيمَانِ أَخْطَئُوا أَيْضًا ؛ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ حَرَكَةِ بَدَنٍ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ كُلِّ مُعَيَّنٍ ؛ بَلْ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقَلْبِهِ هَلْ يَتَصَوَّرُ إذَا رَأَى الرَّسُولَ وَأَعْدَاءَهُ يُقَاتِلُونَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِمْ وَيَحُضَّ عَلَى نَصْرِ الرَّسُولِ بِمَا لَا يَضُرُّهُ هَلْ يُمْكِنُ مِثْلُ هَذَا فِي الْعَادَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ حَرَكَةٌ مَا إلَى نَصْرِ الرَّسُولِ ؟ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ الْمُتَعَيَّنُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مِنْ الْإِيمَانِ وَكَانَ عَدَمُهُ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ { مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ } وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِيهِ بَعْضُ شُعَبِ النِّفَاقِ مَعَ مَا مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَ " أَيْضًا " فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{
مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ
وَفِي رِوَايَةٍ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ حَبَّةِ
خَرْدَلٍ } . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ بُغْضُ
مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ كَانَ عَادِمًا لِلْإِيمَانِ
وَالْبُغْضُ وَالْحُبُّ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ
إبْلِيسَ وَنَحْوَهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ هَذِهِ
الْأُمُورَ وَلَا يُبْغِضُونَهَا بَلْ يَدْعُونَ إلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ .
وَ " أَيْضًا " فَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِقَوْلِ جَهْمٍ والصالحي
قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ سَبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَالتَّكَلُّمَ
بِالتَّثْلِيثِ وَكُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلَامِ الْكُفْرِ لَيْسَ هُوَ كُفْرًا فِي
الْبَاطِنِ وَلَكِنَّهُ دَلِيلٌ فِي الظَّاهِرِ عَلَى الْكُفْرِ وَيَجُوزُ مَعَ
هَذَا أَنْ يَكُونَ هَذَا السَّابُّ الشَّاتِمُ فِي الْبَاطِنِ عَارِفًا
بِاَللَّهِ مُوَحِّدًا لَهُ مُؤْمِنًا بِهِ فَإِذَا أُقِيمَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ
بِنَصِّ أَوْ إجْمَاعٍ أَنَّ هَذَا كَافِرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . قَالُوا : هَذَا
يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّكْذِيبِ الْبَاطِنِ وَأَنَّ
الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ ذَلِكَ ؛ فَيُقَالُ لَهُمْ : مَعَنَا أَمْرَانِ
مَعْلُومَانِ . ( أَحَدُهُمَا ) : مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ الدِّينِ . وَ (
الثَّانِي ) مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ أَنْفُسِنَا عِنْدَ التَّأَمُّلِ .
أَمَّا " الْأَوَّلُ " : فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ سَبَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ طَوْعًا بِغَيْرِ كُرْهٍ ؛ بَلْ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَاتِ الْكُفْرِ
طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ وَمَنْ اسْتَهْزَأَ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ
فَهُوَ
كَافِرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَأَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ مِثْلَ هَذَا قَدْ يَكُونُ فِي الْبَاطِنِ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ كَافِرٌ فِي الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ قَالَ قَوْلًا مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ كَلِمَاتِ الْكُفَّارِ فِي الْقُرْآنِ وَحَكَمَ بِكُفْرِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ الْوَعِيدَ بِهَا وَلَوْ كَانَتْ أَقْوَالُهُمْ الكفرية بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِمْ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ الَّذِي يَغْلَطُ فِيهِ الْمُقِرُّ لَمْ يَجْعَلْهُمْ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ صِدْقًا وَقَدْ تَكُونُ كَذِبًا بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ إلَّا بِشَرْطِ صِدْقِ الشَّهَادَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَأَمَّا " الثَّانِي " : فَالْقَلْبُ إذَا كَانَ مُعْتَقِدًا صِدْقَ الرَّسُولِ وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَكَانَ مُحِبًّا لِرَسُولِ اللَّهِ مُعَظِّمًا لَهُ امْتَنَعَ مَعَ هَذَا أَنْ يَلْعَنَهُ وَيَسُبَّهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا مَعَ نَوْعٍ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ وَبِحُرْمَتِهِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مُجَرَّدَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ صَادِقٌ لَا يَكُونُ إيمَانًا إلَّا مَعَ مَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ بِالْقَلْبِ . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } وَقَالَ : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } فَتَبَيَّنَ أَنَّ الطَّاغُوتَ يُؤْمَنُ بِهِ وَيُكْفَرُ بِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بِوُجُودِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ ؛ فَإِنَّ الْأَصْنَامَ وَالشَّيْطَانَ وَالسِّحْرَ يَشْتَرِكُ فِي الْعِلْمِ بِحَالِهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي السِّحْرِ : { حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ
مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُوَا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَنَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَمَعَ هَذَا فَيَكْفُرُونَ . وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِمَا يَحْصُلُ بِالسِّحْرِ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْجِبْتِ وَكَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِ الشَّيْطَانِ وَالْأَصْنَامِ وَمَا يَحْصُلُ بِهَا مِنْ الْفِتْنَةِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ أَحَدٌ فِيهَا أَنَّهَا تَخْلُقُ الْأَعْيَانَ وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا تَشَاءُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَلَكِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِعِبَادَتِهَا لَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الْمَطَالِبِ كَمَا كَانَتْ الشَّيَاطِينُ تُخَاطِبُهُمْ مِنْ الْأَصْنَامِ وَتُخْبِرُهُمْ بِأُمُورِ . وَكَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ فِي الْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُهَا أَهْلُ الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ وَكَانَ كُفْرُهُمْ بِهَا الْخُضُوعَ لَهَا وَالدُّعَاءَ وَالْعِبَادَةَ وَاِتِّخَاذَهَا وَسِيلَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ لَا مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بِمَا يَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ فَإِنَّ هَذَا يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَيُصَدِّقُ بِوُجُودِهِ لَكِنَّهُ يَعْلَمُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيُبْغِضُهُ ؛ وَالْكَافِرُ قَدْ يَعْلَمُ وُجُودَ ذَلِكَ الضَّرَرِ لَكِنَّهُ يَحْمِلُهُ حُبُّ الْعَاجِلَةِ عَلَى الْكُفْرِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } { لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } فَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ وَذَكَرَ وَعِيدَهُ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ قَالَ { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ } . وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْوَعِيدَ اسْتَحَقُّوهُ بِهَذَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَابَ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا الْوَعِيدَ لِزَوَالِ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ حُبَّ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ اسْتِحْبَابَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُوجِبُ لِلْخُسْرَانِ وَاسْتِحْبَابُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ قَدْ يَكُونُ مَعَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ بِأَنَّ الْكُفْرَ يَضُرُّ فِي الْآخِرَةِ وَبِأَنَّهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتَثْنَى الْمُكْرَهَ مِنْ الْكُفَّارِ وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَكْذِيبِ الْقَلْبِ وَجَهْلِهِ لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ الْمُكْرَهَ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَعُلِمَ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ لَا فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ . وقَوْله تَعَالَى { وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أَيْ : لِاسْتِحْبَابِهِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضِ مِنْ الدُّنْيَا } وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُسْتَضْعَفِينَ
لَمَّا أَكْرَهَهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَلَى سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كَلِمَاتِ الْكُفْرِ فَمِنْهُمْ مَنْ
أَجَابَ بِلِسَانِهِ كَعَمَّارِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَبَرَ عَلَى الْمِحْنَةِ
كَبِلَالِ وَلَمْ يُكْرَهْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا فِي قَلْبِهِ بَلْ
أُكْرِهُوا عَلَى التَّكَلُّمِ فَمَنْ تَكَلَّمَ بِدُونِ الْإِكْرَاهِ لَمْ
يَتَكَلَّمْ إلَّا وَصَدْرُهُ مُنْشَرِحٌ بِهِ . وَأَيْضًا فَقَدْ { جَاءَ نَفَرٌ مِنْ
الْيَهُودِ إلَى النَّبِيِّ فَقَالُوا : نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولٌ وَلَمْ
يَكُونُوا مُسْلِمِينَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ
الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ نَعْلَمُ وَنَجْزِمُ أَنَّك رَسُولُ
اللَّهِ قَالَ : فَلِمَ لَا تَتَّبِعُونِي ؟ قَالُوا : نَخَافُ مِنْ يَهُودَ }
فَعُلِمَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ لَيْسَ بِإِيمَانِ
حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِالْإِيمَانِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْشَاءِ الْمُتَضَمِّنِ
لِلِالْتِزَامِ وَالِانْقِيَادِ مَعَ تَضَمُّنِ ذَلِكَ الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي
أَنْفُسِهِمْ . فَالْمُنَافِقُونَ قَالُوا مُخْبِرِينَ كَاذِبِينَ فَكَانُوا
كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ وَهَؤُلَاءِ قَالُوهَا غَيْرَ مُلْتَزِمِينَ وَلَا
مُنْقَادِينَ فَكَانُوا كُفَّارًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَكَذَلِكَ أَبُو
طَالِبٍ قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ
وَأُنْشِدَ عَنْهُ :
وَلَقَدْ عَلِمْت بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ * * * مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ
الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَكِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ حُبًّا لِدِينِ
سَلَفِهِ وَكَرَاهَةَ أَنْ يُعَيِّرَهُ قَوْمُهُ فَلَمَّا لَمْ يَقْتَرِنْ
بِعِلْمِهِ الْبَاطِنِ الْحُبُّ وَالِانْقِيَادُ الَّذِي يَمْنَعُ مَا يُضَادُّ
ذَلِكَ مِنْ حُبِّ الْبَاطِلِ وَكَرَاهَةِ الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا .
وَأَمَّا
إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ وَالْيَهُودُ وَنَحْوُهُمْ فَمَا قَامَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ
الْكُفْرِ وَإِرَادَةِ الْعُلُوِّ وَالْحَسَدِ مَنْعٌ مِنْ حُبِّ اللَّهِ
وَعِبَادَةِ الْقَلْبِ لَهُ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ وَصَارَ
فِي الْقَلْبِ مِنْ كَرَاهِيَةِ رِضْوَانِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ مَا أَسْخَطَهُ مَا
كَانَ كُفْرًا لَا يَنْفَعُ مَعَهُ الْعِلْمُ .
فَصْلٌ :
وَالتَّفَاضُلُ فِي الْإِيمَانِ بِدُخُولِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فِيهِ يَكُونُ
مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ : ( أَحَدُهَا ) الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ ؛ فَإِنَّ
النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِيهَا وَتَزِيدُ وَتَنْقُصُ وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ
النَّاسُ عَلَى دُخُولِ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ لَكِنْ نِزَاعُهُمْ فِي
دُخُولِ ذَلِكَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ . فالْنُّفَاةِ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ
ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ فَأُدْخِلَ فِيهِ مَجَازًا بِهَذَا
الِاعْتِبَارِ وَهَذَا مَعْنَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ وَنَقْصِهِ أَيْ
زِيَادَةِ ثَمَرَاتِهِ وَنُقْصَانِهَا فَيُقَالُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ
لَوَازِمِ الْإِيمَانِ وَمُوجِبَاتِهِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إيمَانٌ
تَامٌّ فِي الْقَلْبِ بِلَا قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ ظَاهِرٍ وَأَمَّا كَوْنُهُ
لَازِمًا أَوْ جُزْءًا مِنْهُ فَهَذَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ حَالِ اسْتِعْمَالِ
لَفْظِ الْإِيمَانِ مُفْرَدًا أَوْ مَقْرُونًا بِلَفْظِ الْإِسْلَامِ وَالْعَمَلِ
كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ الزِّيَادَةُ فِي الْعَمَلِ الظَّاهِرِ لَا
فِي مُوجِبِهِ وَمُقْتَضِيهِ فَهَذَا غَلَطٌ ،
فَإِنْ تَفَاضَلَ مَعْلُولُ الْأَشْيَاءِ . وَمُقْتَضَاهَا يَقْتَضِي تَفَاضُلَهَا فِي أَنْفُسِهَا وَإِلَّا فَإِذَا تَمَاثَلَتْ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لَزِمَ تَمَاثُلُ مُوجِبِهَا وَمُقْتَضَاهَا فَتَفَاضُلُ النَّاسِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ يَقْتَضِي تَفَاضُلَهُمْ فِي مُوجِبِ ذَلِكَ وَمُقْتَضِيهِ وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ : ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) : فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ : وَهُوَ زِيَادَةُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَنَقْصِهَا فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالذَّوْقِ الَّذِي يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَفِي سَلَامَةِ الْقُلُوبِ مِنْ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالرَّحْمَةِ لِلْخَلْقِ وَالنُّصْحِ لَهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْإِيمَانِيَّةِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا } . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ } وَقَالَ : { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } { وَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي قَالَ : لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك قَالَ : فَلَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي قَالَ : الْآنَ يَا عُمَرُ } .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَنَحْوُهَا فِي الصِّحَاحِ وَفِيهَا بَيَانُ تَفَاضُلِ الْحُبِّ وَالْخَشْيَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ يُحِبُّهُ تَارَةً أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّهُ تَارَةً وَيَخَافُهُ تَارَةً أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُهُ تَارَةً وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ قَوْلًا بِدُخُولِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهِ لِمَا يَجِدُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَإِنَّمَا زَادَهُمْ طُمَأْنِينَةً وَسُكُونًا . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا } . ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) : أَنَّ نَفْسَ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ يَتَفَاضَلُ بِاعْتِبَارِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ فَلَيْسَ تَصْدِيقُ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ مُجْمَلًا مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُ بِتَفَاصِيلِ أَخْبَارِهِ كَمَنْ عَرَفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْأُمَمِ وَصَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَلَيْسَ مَنْ الْتَزَمَ طَاعَتَهُ مُجْمَلًا وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ تَفْصِيلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ كَمَنْ عَاشَ حَتَّى عَرَفَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا وَأَطَاعَهُ فِيهِ . ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ ) : أَنَّ نَفْسَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ يَتَفَاضَلُ وَيَتَفَاوَتُ كَمَا يَتَفَاضَلُ سَائِرُ صِفَاتِ الْحَيِّ مِنْ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ بَلْ سَائِرُ الْأَعْرَاضِ مِنْ الْحَرَكَةِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى الشَّيْءِ تَتَفَاوَتُ فَكَذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ يَتَفَاوَتُ وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ
الْوَاحِدِ لَا يَتَفَاضَلُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَقْدُورِ الْوَاحِدِ لَا تَتَفَاضَلُ وَقَوْلُهُ : وَرُؤْيَةُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا تَتَفَاضَلُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْهِلَالَ الْمَرْئِيَّ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِي رُؤْيَتِهِ وَكَذَلِكَ سَمْعُ الصَّوْتِ الْوَاحِدِ يَتَفَاضَلُونَ فِي إدْرَاكِهِ وَكَذَلِكَ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ يَتَكَلَّمُ بِهَا الشَّخْصَانِ وَيَتَفَاضَلُونَ فِي النُّطْقِ بِهَا وَكَذَلِكَ شَمُّ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَذَوْقِهِ يَتَفَاضَلُ الشَّخْصَانِ فِيهِ . فَمَا مِنْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَيِّ وَأَنْوَاعِ إدْرَاكَاتِهِ وَحَرَكَاتِهِ بَلْ وَغَيْرِ صِفَاتِ الْحَيِّ إلَّا وَهِيَ تَقْبَلُ التَّفَاضُلَ وَالتَّفَاوُتَ إلَى مَا لَا يَحْصُرُهُ الْبَشَرُ حَتَّى يُقَالَ : لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ مِثْلَ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ عِلْمُ اللَّهِ بِالشَّيْءِ أَكْمَلُ مِنْ عِلْمِ غَيْرِهِ بِهِ كَيْفَ مَا قَدَّرَ الْأَمْرَ وَلَيْسَ تَفَاضُلُ الْعِلْمَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ فَقَطْ ؛ بَلْ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى . وَالْإِنْسَانُ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ عِلْمَهُ بِمَعْلُومِهِ يَتَفَاضَلُ حَالُهُ فِيهِ كَمَا يَتَفَاضَلُ حَالُهُ فِي سَمْعِهِ لِمَسْمُوعِهِ ؛ وَرُؤْيَتِهِ لِمَرْئِيِّهِ ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى مَقْدُورِهِ وَحُبِّهِ لِمَحْبُوبِهِ وَبُغْضِهِ لِبَغِيضِهِ وَرِضَاهُ بِمُرْضِيهِ وَسَخَطِهِ لِمَسْخُوطِهِ ، وَإِرَادَتِهِ لِمُرَادِهِ ، وَكَرَاهِيَتِهِ لِمَكْرُوهِهِ وَمَنْ أَنْكَرَ التَّفَاضُلَ فِي هَذِهِ الْحَقَائِقِ كَانَ مُسَفْسِطًا . ( الْوَجْهُ الْخَامِسُ ) : أَنَّ التَّفَاضُلَ يَحْصُلُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ جِهَةِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهَا ؛ فَمَنْ كَانَ مُسْتَنِدٌ تَصْدِيقَهُ وَمَحَبَّتَهُ أَدِلَّةً تُوجِبُ الْيَقِينَ وَتُبَيِّنُ فَسَادَ الشُّبْهَةِ الْعَارِضَةِ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ تَصْدِيقُهُ لِأَسْبَابِ دُونِ ذَلِكَ بَلْ مَنْ جُعِلَ لَهُ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تُعَارِضُهُ
الشُّبَهُ وَيُرِيدُ إزَالَتَهَا بِالنَّظَرِ وَالْبَحْثِ وَلَا يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ أَنَّ الْعِلْمَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَقُوَّتِهَا وَبِفَسَادِ الشُّبَهِ الْمُعَارِضَةِ لِذَلِكَ وَبَيَانِ بُطْلَانِ حُجَّةِ الْمُحْتَجِّ عَلَيْهَا لَيْسَ كَالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الْحَاصِلُ عَنْ دَلِيلٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ الشُّبَهَ الْمُعَارِضَةَ لَهُ ؛ فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا قَوِيَتْ أَسْبَابُهُ وَتَعَدَّدَتْ وَانْقَطَعَتْ مَوَانِعُهُ وَاضْمَحَلَّتْ كَانَ أَوْجَبَ لِكَمَالِهِ وَقُوَّتِهِ وَتَمَامِهِ . ( الْوَجْهُ السَّادِسُ ) : أَنَّ التَّفَاضُلَ يَحْصُلُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ جِهَةِ دَوَامِ ذَلِكَ وَثَبَاتِهِ وَذِكْرِهِ وَاسْتِحْضَارِهِ كَمَا يَحْصُلُ الْبُغْضُ مِنْ جِهَةِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ وَالْإِعْرَاضِ وَالْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَا فِي الْقَلْبِ هِيَ صِفَاتٌ وَأَعْرَاضٌ وَأَحْوَالٌ تَدُومُ وَتَحْصُلُ بِدَوَامِ أَسْبَابِهَا وَحُصُولِ أَسْبَابِهَا . وَالْعِلْمُ وَإِنْ كَانَ فِي الْقَلْبِ فَالْغَفْلَةُ تُنَافِي تَحَقُّقَهُ وَالْعَالِمُ بِالشَّيْءِ فِي حَالِ غَفْلَتِهِ عَنْهُ دُونَ الْعَالِمِ بِالشَّيْءِ فِي ذِكْرِهِ لَهُ . قَالَ عُمَيْرُ بْنُ حَبِيبٍ الخطمي مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ قَالُوا : وَمَا زِيَادَتُهُ وَنَقْصُهُ ؟ قَالَ : إذَا حَمِدْنَا اللَّهَ وَذَكَرْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَذَلِكَ زِيَادَتُهُ فَإِذَا غَفَلْنَا وَنَسِينَا وَضَيَّعْنَا فَذَلِكَ نُقْصَانُهُ . ( الْوَجْهُ السَّابِعُ ) أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ فِيمَا يَقُومُ بِالْإِنْسَانِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمُورِ أَعْظَمُ تَفَاضُلًا وَتَفَاوُتًا مِنْ الْإِيمَانِ فَكُلَّمَا تَقَرَّرَ إثْبَاتُهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ مَعَ تَفَاضُلِهِ فَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ تَفَاضُلًا مِنْ ذَلِكَ . مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ تَفَاضُلَ الْحُبِّ الَّذِي يَقُومُ بِقَلْبِهِ سَوَاءٌ كَانَ حُبًّا لِوَلَدِهِ أَوْ لِامْرَأَتِهِ
أَوْ لِرِيَاسَتِهِ أَوْ وَطَنِهِ أَوْ صَدِيقِهِ أَوْ صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ أَوْ خَيْلِهِ أَوْ بُسْتَانِهِ أَوْ ذَهَبِهِ أَوْ فِضَّتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِ فَكَمَا أَنَّ الْحُبَّ أَوَّلُهُ عَلَاقَةٌ لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ ثُمَّ صَبَابَةٌ لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ نَحْوَهُ ثُمَّ غَرَامٌ لِلُزُومِهِ الْقَلْبَ كَمَا يَلْزَمُ الْغَرِيمُ غَرِيمَهُ ثُمَّ يَصِيرُ عِشْقًا إلَى أَنْ يَصِيرَ تتيما - وَالتَّتْمِيمُ التَّعَبُّدُ وَتَيَّمَ اللَّهُ عَبْدَ اللَّهِ - فَيَصِيرُ الْقَلْبُ عَبْدًا لِلْمَحْبُوبِ مُطِيعًا لَهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ عَنْ أَمْرِهِ وَقَدْ آلَ الْأَمْرُ بِكَثِيرِ مِنْ عُشَّاقِ الصُّوَرِ إلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ مِثْلُ مَنْ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ وَقَتْلِ مَعْشُوقِهِ أَوْ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوْ أَفْضَى بِهِ إلَى الْجُنُونِ وَزَوَالِ الْعَقْلِ أَوْ أَوْجَبَ خُرُوجَهُ عَنْ الْمَحْبُوبَاتِ الْعَظِيمَةِ مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ أَوْ إمْرَاضِ جِسْمِهِ وَأَسْنَانِهِ . فَمَنْ قَالَ الْحُبُّ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ كَانَ قَوْلُهُ مِنْ أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ فَسَادًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي حُبِّ اللَّهِ أَعْظَمَ مَنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي حُبِّ كُلِّ مَحْبُوبٍ فَهُوَ سُبْحَانَهُ اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَاِتَّخَذَ مُحَمَّدًا أَيْضًا خَلِيلًا كَمَا اسْتَفَاضَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا ؛ وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ } يَعْنِي نَفْسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } وَالْخُلَّةُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمَحَبَّةِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّونَ اللَّهَ وَيُحِبُّهُمْ اللَّهُ كَمَا قَالَ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَيُحِبُّ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ بِحُبِّهِ لِغَيْرِ وَاحِدٍ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ قَالَ لِلْحَسَنِ وَأُسَامَةَ : اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحُبّ مَنْ يُحِبُّهُمَا } { وَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ العاص أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْك ؟ قَالَ : عَائِشَةُ قَالَ فَمِنْ الرِّجَالِ ؟ قَالَ : أَبُوهَا } . وَقَالَ : { وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّكُمْ } . وَالنَّاسُ فِي حُبِّ اللَّهِ يَتَفَاوَتُونَ مَا بَيْنَ أَفْضَلِ الْخَلْقِ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ إلَى أَدْنَى النَّاسِ دَرَجَةً مِثْلُ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدَّيْنِ مِنْ الدَّرَجَاتِ لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ مَا يَتَفَاضَلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ كَبَنِي آدَمَ فَإِنَّ الْفَرَسَ الْوَاحِدَةَ مَا تَبْلُغُ أَنْ تساوي أَلْفَ أَلْفٍ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ { حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ فَقَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَعْرِفُ هَذَا ؟ قُلْت : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ وَإِنْ غَابَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ ثُمَّ مَرَّ بِرَجُلِ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَعْرِفُ هَذَا ؟ قُلْت : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ ضُعَفَاءِ النَّاسِ هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَلَّا يُنْكَحَ وَإِنْ قَالَ أَلَّا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ وَإِنْ غَابَ أَلَّا يُسْأَلَ عَنْهُ فَقَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ لَهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا } . فَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ الَّذِي لَا يُجَاوِزُ فِيمَا يَقُولُ : إنَّ الْوَاحِدَ مِنْ بَنِي آدَمَ
يَكُونُ خَيْرًا مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَإِذَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ شَرٌّ مِنْ الْبَهَائِمِ كَانَ التَّفَاضُلُ الَّذِي فِيهِمْ أَعْظَمَ مِنْ تَفَاضُلِ الْمَلَائِكَةِ . وَأَصْلُ تَفَاضُلِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ فَعُلِمَ أَنَّ تَفَاضُلَهُمْ فِي هَذَا لَا يَضْبُطُهُ إلَّا اللَّهُ وَكُلُّ مَا يُعْلَمُ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي حُبِّ الشَّيْءِ مِنْ مَحْبُوبَاتِهِمْ فَتَفَاضُلُهُمْ فِي حُبِّ اللَّهِ أَعْظَمُ . وَهَكَذَا تَفَاضُلُهُمْ فِي خَوْفِ مَا يَخَافُونَهُ وَتَفَاضُلُهُمْ فِي الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ لِمَا يَذِلُّونَ لَهُ وَيَخْضَعُونَ وَكَذَلِكَ تَفَاضُلُهُمْ فِيمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ الْمَعْرُوفَاتِ وَيُصَدِّقُونَ بِهِ وَيُقِرُّونَ بِهِ فَإِنْ كَانُوا يَتَفَاضَلُونَ فِي مَعْرِفَةِ الْمَلَائِكَةِ وَصِفَاتِهِمْ وَالتَّصْدِيقِ بِهِمْ فَتَفَاضُلُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ أَعْظَمُ . وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا يَتَفَاضَلُونَ فِي مَعْرِفَةِ رُوحِ الْإِنْسَانِ وَصِفَاتِهَا وَالتَّصْدِيقِ بِهَا أَوْ فِي مَعْرِفَةِ الْجِنِّ وَصِفَاتِهِمْ وَفِي التَّصْدِيقِ بِهِمْ أَوْ فِي مَعْرِفَةِ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ - كَمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَلْبُوسَاتِ وَالْمَنْكُوحَاتِ وَالْمَسْكُونَاتِ - فَتَفَاضُلُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ " الرُّوحِ " الَّتِي هِيَ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ . وَمَعْرِفَةِ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ . بَلْ إنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي مَعْرِفَةِ أَبْدَانِهِمْ وَصِفَاتِهَا وَصِحَّتِهَا وَمَرَضِهَا وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَتَفَاضُلُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا يُعْلَمُ وَيُقَالُ يَدْخُلُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ إذْ لَا مَوْجُودَ إلَّا وَهُوَ خَلَقَهُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَقْدَارِ وَالْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا شَوَاهِدُ وَدَلَائِلُ عَلَى
مَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى إذْ كُلُّ كَمَالٍ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَمِنْ أَثَرِ كَمَالِهِ ، وَكُلُّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهِ ، وَكُلُّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ مَخْلُوقٌ فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِتَنْزِيهِهِ عَنْهُ ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ كُلِّ طَائِفَةٍ وَاصْطِلَاحِهَا . فَهَذَا يَقُولُ كَمَالُ الْمَعْلُولِ مِنْ كَمَالِ عِلَّتِهِ وَهَذَا يَقُولُ : كَمَالُ الْمَصْنُوعِ الْمَخْلُوقِ مِنْ كَمَالِ صَانِعِهِ وَخَالِقِهِ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَصَابَ عَبْدًا هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك ابْنُ أَمَتِك نَاصِيَتِي بِيَدِك مَاضٍ فِيَّ حُكْمُك عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُك أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مَنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي إلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا . قَالُوا . يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ ؟ قَالَ : بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ } . فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً اسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ مُتَضَمِّنَةٌ لِصِفَاتِهِ لَيْسَتْ أَسْمَاءَ أَعْلَامٍ مَحْضَةً بَلْ أَسْمَاؤُهُ تَعَالَى : كَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ وَالرَّحِيمِ وَالْحَكِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ مِنْ مَعَانِي صِفَاتِهِ مَعَ اشْتِرَاكِهَا كُلِّهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَاتِهِ وَإِذَا كَانَ مِنْ أَسْمَائِهِ مَا اخْتَصَّ هُوَ بِمَعْرِفَتِهِ وَمِنْ أَسْمَائِهِ مَا خُصَّ بِهِ
مَنْ
شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ عُلِمَ أَنَّ تَفَاضُلَ النَّاسِ فِي مَعْرِفَتِهِ أَعْظَمُ
مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ كُلِّ مَا يَعْرِفُونَهُ .
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ
أَنَّهُمْ عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لَهُ صِفَةٌ
إلَّا عَرَفُوهَا وَأَنَّ مَا لَمْ يَعْرِفُوهُ وَلَمْ يَقُمْ لَهُمْ دَلِيلٌ
عَلَى ثُبُوتِهِ كَانَ مَعْدُومًا مُنْتَفِيًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَوْمٌ غالطون
مُخْطِئُونَ مُبْتَدِعُونَ ضَالُّونَ وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ دَاحِضَةٌ فَإِنَّ
عَدَمَ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ عَلَى الشَّيْءِ دَلِيلٌ عَلَى
انْتِفَائِهِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ثُبُوتَهُ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ
الدَّلِيلِ . مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ لَوْ وُجِدَ لَتَوَفَّرَتْ الْهِمَمُ
وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَيَكُونُ هَذَا لَازِمًا لِثُبُوتِهِ فَيُسْتَدَلُّ
بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ ؛ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ
لَوْ كَانَ بَيْنَ الشَّامِ وَالْحِجَازِ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ مِثْلُ بَغْدَادَ
وَمِصْرَ لَكَانَ النَّاسُ يَنْقُلُونَ خَبَرَهَا فَإِذَا نَقَلَ ذَلِكَ وَاحِدٌ
وَاثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ عُلِمَ كَذِبُهُمْ . وَكَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ
ادَّعَى النُّبُوَّةَ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَثَلُ مُسَيْلِمَةَ والعنسي وطليحة وسجاح لَنَقَلَ النَّاسُ خَبَرَهُ
كَمَا نَقَلُوا أَخْبَارَ هَؤُلَاءِ وَلَوْ عَارَضَ الْقُرْآنَ مُعَارِضٌ أَتَى
بِمَا يَظُنُّ النَّاسُ أَنَّهُ مِثْلُ الْقُرْآنِ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ قُرْآنُ
مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَكَمَا نَقَلُوا الْفُصُولَ وَالْغَايَاتِ لِأَبِي
الْعَلَاءِ المعري وَكَمَا نَقَلُوا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُعَارِضِينَ
( و لَوْ بِخُرَافَاتِ لَا يَظُنُّ عَاقِلٌ أَنَّهَا مِثْلُهُ فَكَانَ النَّقْلُ
لِمَا تَظْهَرُ فِيهِ الْمُشَابَهَةُ وَالْمُمَاثَلَةُ أَقْوَى فِي الْعَادَةِ
وَالطِّبَاعِ فِي ذَلِكَ وَأَرْغَبُ - سَوَاءٌ كَانُوا مُحِبِّينَ أَوْ
مُبْغِضِينَ - هَذَا أَمْرٌ جُبِلَ عَلَيْهِ بَنُو آدَمَ .
كَمَا يُعْلَمُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَوْ طَلَبَ الْخِلَافَةَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَقَاتَلَ عَلَيْهَا لَنَقَلَ ذَلِكَ النَّاسُ كَمَا نَقَلُوا مَا جَرَى بَعْدَ هَؤُلَاءِ ؛ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ صَلَاتَهُمْ لَنَقَلُوا ذَلِكَ كَمَا نَقَلُوا أَمْرَهُ لِأَبِي بَكْرٍ وَصَلَاتَهُ بِالنَّاسِ وَكَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ عَهِدَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ لَنَقَلُوا ذَلِكَ كَمَا نَقَلُوا مَا دُونَهُ ؛ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْتَمِعُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى اسْتِمَاعِ دُفٍّ أَوْ كَفٍّ وَلَا عَلَى رَقْصٍ وَزَمْرٍ ؛ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ يَجْتَمِعُ هُوَ وَهُمْ عَلَى دُعَاءٍ وَرَفْعِ أَيْدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَنَقَلُوهُ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْعِشَاءَ أَرْبَعًا وَأَنَّهُ لَوْ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا بَعْضَ الْأَوْقَاتِ لَنَقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ كَمَا نَقَلُوا جَمْعَهُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ . بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَاتِ وَحْدَهُ بَلْ إنَّمَا كَانَ يُصَلِّيهِنَّ فِي الْجَمَاعَةِ ؛ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَحْمِلُونَ التُّرَابَ فِي السَّفَرِ لِلتَّيَمُّمِ وَلَا يُصَلُّونَ كُلَّ لَيْلَةٍ عَلَى مَنْ يَمُوتُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَنْوُونَ الِاعْتِكَافَ كُلَّمَا دَخَلُوا مَسْجِدًا لِلصَّلَاةِ ؛ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى غَائِبٍ غَيْرَ النَّجَاشِيِّ ؛ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ دَائِمًا يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ أَوْ غَيْرِهَا بِقُنُوتِ مَسْنُونٍ يَجْهَرُ بِهِ لَنَقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ - كَمَا نَقَلُوا قُنُوتَهُ الْعَارِضَ الَّذِي دَعَا فِيهِ لِقَوْمِ وَعَلَى قَوْمٍ وَكَانَ نَقْلُهُمْ لِذَلِكَ أَوْكَدَ - وَكَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمَّا صَلَّى بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ قَصْرًا وَجَمْعًا لَوْ أَمَرَ أَحَدًا خَلْفَهُ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَوْ أَنْ لَا يَجْمَعَ مَعَهُ لَنَقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ كَمَا نَقَلُوا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ .
وَكَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ الْحُيَّضَ فِي زَمَانِهِ الْمُبْتَدَآتِ بِالْحَيْضِ أَنْ يَغْتَسِلْنَ عِنْدَ انْقِضَاءِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَصْحَابَهُ أَنْ يَغْسِلُوا مَا يُصِيبُ أَبْدَانَهُمْ وَثِيَابَهُمْ مِنْ الْمَنِيِّ وَأَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ لِلنَّاسِ لَفْظًا مُعَيَّنًا لَا فِي نِكَاحٍ وَلَا فِي بَيْعٍ وَلَا إجَارَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمَّا حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ لَمْ يَعْتَمِرْ عَقِيبَ الْحَجِّ وَأَنَّهُ لَمَّا أَفَاضَ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ يَوْمَ النَّحْرِ مَا طَافَ وَسَعَى أَوَّلًا ثُمَّ طَافَ ثَانِيًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ . وَمَنْ تَتَبَّعَ كُتُبَ الصَّحِيحَيْنِ وَنَحْوَهَا مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ وَوَقَفَ عَلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ قَفَا مِنْهَاجَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَرْضِيِّينَ - قَدِيمًا وَحَدِيثًا - عَلِمَ صِحَّةَ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا ) أَنَّ الْمَدْلُولَ إذَا كَانَ وُجُودُهُ مُسْتَلْزِمًا لِوُجُودِ دَلِيلِهِ كَانَ انْتِفَاءُ دَلِيلِهِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَائِهِ أَمَّا إذَا أَمْكَنَ وُجُودُهُ وَأَمْكَنَ أَنْ لَا نَعْلَمَ نَحْنُ دَلِيلَ ثُبُوتِهِ لَمْ يَكُنْ عَدَمُ عِلْمِنَا بِدَلِيلِ وُجُودِهِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِهِ ، فَأَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا مَا يَدُلُّنَا عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِانْتِفَائِهَا إذْ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّا لَا بُدَّ أَنْ نَعْلَمَ كُلَّ مَا هُوَ ثَابِتٌ لَهُ تَعَالَى مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بَلْ قَدْ قَالَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَعْلَمُهُمْ بِاَللَّهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ { فَأَخِرّ سَاجِدًا فَأَحْمَدَ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْصِيهَا الْآنَ } . فَإِذَا كَانَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ لَا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ وَلَا يَعْرِفُ الْآنَ مَحَامِدَهُ الَّتِي يَحْمَدُهُ بِهَا عِنْدَ السُّجُودِ لِلشَّفَاعَةِ ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ غَيْرُهُ عَارِفًا بِجَمِيعِ مَحَامِدِ اللَّهِ
وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَكُلُّ مَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي مَحَامِدِهِ وَفِيمَا يُثْنِي عَلَيْهِ بِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ كَانَ بِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَعْلَمَ وَأَعْرَفَ كَانَ بِاَللَّهِ أَعْلَمَ وَأَعْرَفَ ؛ بَلْ مَنْ كَانَ بِأَسْمَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَاتِهِ أَعْلَمَ كَانَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ فَلَيْسَ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ كَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ رَسُولٌ وَلَا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ رَسُولٌ كَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَاتَمُ الرُّسُلِ وَلَا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ خَاتَمُ الرُّسُلِ كَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ كَمَنْ عَلِمَ مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَالْمِلَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا مِنْ خَصَائِصِهِ يَكُونُ كَافِرًا بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَسْمَعْ بِكَثِيرِ مِنْ فَضَائِلِهِ وَخَصَائِصِهِ فَكَذَلِكَ لَيْسَ كُلُّ مَنْ جَهِلَ بَعْضَ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ يَكُونُ كَافِرًا إذْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَسْمَعْ كَثِيرًا مِمَّا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ . فَهَذِهِ الْوُجُوهُ وَنَحْوُهَا مِمَّا تُبَيِّنُ تَفَاضُلَ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ ؛ وَأَمَّا تَفَاضُلُهُمْ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فَلَا تَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
:
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا وَعُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ مِنْ
التَّصْدِيقِ وَالْحُبِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْأُمُورَ الظَّاهِرَةَ
مِنْ الْأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ ؛ كَمَا أَنَّ
الْقَصْدَ التَّامَّ مَعَ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ وَأَنَّهُ
يَمْتَنِعُ مَقَامَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فِي الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ
مُوجِبِ ذَلِكَ وَمُقْتَضَاهُ زَالَتْ " الشُّبَهُ الْعِلْمِيَّةُ " فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا " نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ " فِي
أَنَّ مُوجِبَ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ هَلْ هُوَ جُزْءٌ مِنْهُ دَاخِلٌ فِي
مُسَمَّاهُ فَيَكُونُ لَفْظُ الْإِيمَانِ دَالًّا عَلَيْهِ بِالتَّضَمُّنِ
وَالْعُمُومِ ؟ أَوْ هُوَ لَازِمٌ لِلْإِيمَانِ وَمَعْلُولٌ لَهُ وَثَمَرَةٌ لَهُ
فَتَكُونُ دَلَالَةُ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ ؟ وَ "
حَقِيقَةُ الْأَمْرِ " أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ يُسْتَعْمَلُ تَارَةً هَكَذَا
وَتَارَةً هَكَذَا كَمَا قَدْ تَقَدَّمَ ؛ فَإِذَا قُرِنَ اسْمُ الْإِيمَانِ
بِالْإِسْلَامِ أَوْ الْعَمَلِ كَانَ دَالًّا عَلَى الْبَاطِنِ فَقَطْ . وَإِنْ
أُفْرِدَ اسْمُ الْإِيمَانِ فَقَدْ يَتَنَاوَلُ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ وَبِهَذَا
تَأْتَلِفُ النُّصُوصُ . فَقَوْلُهُ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً
: أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ
الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } . أُفْرِدَ لَفْظُ
الْإِيمَانِ فَدَخَلَ فِيهِ الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ : { الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ
بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }
ذَكَرَهُ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ
أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللَّهِ
وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ
الْبَيْتَ } فَلَمَّا أَفْرَدَهُ عَنْ اسْمِ الْإِسْلَامِ ذَكَرَ مَا يَخُصُّهُ
الِاسْمُ فِي ذَاكَ الْحَدِيثِ مُجَرَّدًا عَنْ الِاقْتِرَانِ . وَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ مَقْرُونٌ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ وقَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } دَخَلَ فِيهِ الْبَاطِنُ
فَلَوْ أَتَى بِالْعَمَلِ الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ أَتَى
بِالدِّينِ الَّذِي هُوَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ . وَأَمَّا إذَا قُرِنَ
الْإِسْلَامُ بِالْإِيمَانِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { قَالَتِ الْأَعْرَابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } وَقَوْلُهُ : {
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا
غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وقَوْله تَعَالَى { إنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فَقَدْ يُرَادُ
بِالْإِسْلَامِ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي فِي
الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ
دَلَالَةَ اللَّفْظِ تَخْتَلِفُ بِالْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ كَمَا فِي اسْمِ
الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَكَمَا فِي لُغَاتِ سَائِرِ الْأُمَمِ ؟ عَرَبِهَا
وَعَجَمِهَا زَاحَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ فِي هَذَا لِلْبَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ ؛ اسْمُ " الْإِيمَانِ " إنَّمَا يَتَنَاوَلُ
الْأَعْمَالَ مَجَازًا قِيلَ : " أَوَّلًا " لَيْسَ هَذَا بِأَوْلَى
مِمَّنْ قَالَ : إنَّمَا تَخْرُجُ عَنْهُ الْأَعْمَالُ مَجَازًا بَلْ هَذَا
أَقْوَى لِأَنَّ خُرُوجَ الْعَمَلِ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ مَقْرُونًا
بِاسْمِ الْإِسْلَامِ وَالْعَمَلِ وَأَمَّا دُخُولُ الْعَمَلِ فِيهِ فَإِذَا
أُفْرِدَ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِيمَانُ
بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً
أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } فَإِنَّمَا يَدُلُّ مَعَ الِاقْتِرَانِ أَوْلَى بِاسْمِ الْمَجَازِ مِمَّا يَدُلُّ عِنْدَ التَّجْرِيدِ وَالْإِطْلَاقِ . وَقِيلَ لَهُ " ثَانِيًا " لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ هُوَ فَرْعٌ عَنْ الْبَاطِنِ وَمُوجِبٌ لَهُ وَمُقْتَضَاهُ ؛ لَكِنْ هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الِاسْمِ وَجُزْءٌ مِنْهُ أَوْ هُوَ لَازِمٌ لِلْمُسَمَّى كَالشَّرْطِ الْمُفَارِقِ وَالْمُوجِبِ التَّابِعِ ؟ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الشَّرْعِيَّةَ وَالدِّينِيَّةَ : كَاسْمِ " الصَّلَاةِ " وَ " الزَّكَاةِ " وَ " الْحَجِّ " وَنَحْوِ ذَلِكَ هِيَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحَجِّ الشَّرْعِيِّ وَمَنْ قَالَ إنَّ الِاسْمَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي اللُّغَةِ . وَإِنَّ مَا زَادَهُ الشَّارِعُ إنَّمَا هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْحُكْمِ وَشَرْطٌ فِيهِ لَا دَاخِلٌ فِي الِاسْمِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَمَنْ وَافَقَهُمَا عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ زَادَ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً جَعَلَهَا شُرُوطًا فِي الْقَصْدِ ، وَالْأَعْمَالُ وَالدُّعَاءُ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ فَقَوْلُهُمْ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاهِيرِ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْعِلْمِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ . فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ : إنَّ اسْمَ " الْإِيمَانِ " إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مُجَرَّدَ مَا هُوَ تَصْدِيقٌ وَأَمَّا كَوْنُهُ تَصْدِيقًا بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَكَوْنُ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ شَرْطٌ فِي الْحُكْمِ لَا دَاخِلٌ فِي الِاسْمِ إنْ لَمْ يَكُنْ أَضْعَفَ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ فَلَيْسَ دُونَهُ فِي الضَّعْفِ فَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ
لَوَازِمُ لِلْبَاطِنِ لَا تَدْخُلُ فِي الِاسْمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُشْبِه قَوْلُهُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَالشَّارِعُ إذَا قَرَنَ بِالْإِيمَانِ الْعَمَلَ فَكَمَا يَقْرِنُ بِالْحَجِّ مَا هُوَ مِنْ تَمَامِهِ كَمَا إذَا قَالَ مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ وَطَافَ وَسَعَى وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ وَرَمَى الْجِمَارَ ؛ وَمَنْ صَلَّى فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ كَمَا قَالَ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَوْمًا شَرْعِيًّا إنْ لَمْ يَكُنْ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا . وَقَالَ : { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّفَثَ الَّذِي هُوَ الْجِمَاعُ يُفْسِدُ الْحَجَّ وَالْفُسُوقُ يُنْقِصُ ثَوَابَهُ وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا } . فَلَا يَكُونُ مُصَلِّيًا إنْ لَمْ يَسْتَقْبِلْ قِبْلَتَنَا فِي الصَّلَاةِ وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ } فَذَكَرَ الْمُحَافِظَ عَلَيْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُصَلِّيًا لَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ إلَّا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا . وَلَكِنْ بَيَّنَ أَنَّ الْوَعِيدَ مَشْرُوطٌ بِذَلِكَ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْمُحَافَظَةِ أَنْ لَا يُصَلِّيَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ فَلَا يَكُونُ مُحَافِظًا عَلَيْهَا . إذْ الْمُحَافَظَةُ تَسْتَلْزِمُ فِعْلَهَا كَمَا قَالَ : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } نَزَلَتْ لَمَّا أُخِّرَتْ الْعَصْرُ عَامَ الْخَنْدَقِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ } .
وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ لَا يَكْفُرُ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْمُحَافَظَةِ لَا يَكْفُرُ فَإِذَا صَلَّاهَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَكْفُرْ ؛ وَلِهَذَا جَاءَتْ فِي " { الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُقَاتِلُهُمْ ؟ قَالَ : لَا مَا صَلَّوْا } وَكَذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْله تَعَالَى { أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } قَالَ هُوَ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا فَقِيلَ لَهُ : كُنَّا نَظُنُّ ذَلِكَ تَرْكَهَا فَقَالَ : لَوْ تَرَكُوهَا كَانُوا كُفَّارًا . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ فِي " الِاسْمِ الْمُطْلَقِ " أُمُورٌ كَثِيرَةٌ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تُخَصُّ بِالذِّكْرِ . وَقِيلَ لِمَنْ قَالَ : دُخُولُ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ مَجَازٌ نِزَاعُك لَفْظِيٌّ ؛ فَإِنَّك إذَا سَلَّمْت أَنَّ هَذِهِ لَوَازِمَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَمُوجِبَاتِهِ كَانَ عَدَمُ اللَّازِمِ مُوجِبًا لِعَدَمِ الْمَلْزُومِ فَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ هَذَا الظَّاهِرِ عَدَمُ الْبَاطِنِ فَإِذَا اعْتَرَفْت بِهَذَا كَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَإِنْ قُلْت : مَا هُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ الْإِيمَانُ التَّامُّ الْوَاجِبُ فِي الْقَلْبِ مَعَ إظْهَارِ مَا هُوَ كُفْرٌ وَتَرْكِ جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ قِيلَ لَك : فَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَك إنَّ الظَّاهِرَ لَازِمٌ لَهُ وَمُوجِبٌ لَهُ بَلْ قِيلَ : حَقِيقَةُ قَوْلِك إنَّ الظَّاهِرَ يُقَارِنُ الْبَاطِنَ تَارَةً وَيُفَارِقُهُ أُخْرَى فَلَيْسَ بِلَازِمِ لَهُ وَلَا مُوجِبٍ وَمَعْلُولٍ لَهُ وَلَكِنَّهُ دَلِيلٌ إذَا وُجِدَ دَلَّ عَلَى وُجُودِ الْبَاطِنِ وَإِذْ عُدِمَ لَمْ يَدُلَّ عَدَمُهُ عَلَى الْعَدَمِ وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِك .
وَهُوَ أَيْضًا خَطَأٌ عَقْلًا كَمَا هُوَ خَطَأٌ شَرْعًا وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدَلِيلِ قَاطِعٍ إذْ هَذَا يَظْهَرُ مِنْ الْمُنَافِقِ فَإِنَّمَا يَبْقَى دَلِيلًا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِدَارِ الدُّنْيَا كَدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِك فَيُقَالُ لَك : فَلَا يَكُونُ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْأَعْمَالِ ثَمَرَةً لِلْإِيمَانِ الْبَاطِنِ وَلَا مُوجِبًا لَهُ وَمِنْ مُقْتَضَاهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِهَذَا الظَّاهِرِ إنْ كَانَ هُوَ نَفْسُ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ لَمْ يَتَوَقَّفْ وُجُودُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ مَا كَانَ مَعْلُولًا لِلشَّيْءِ وَمُوجِبًا لَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُهُ فَلَوْ كَانَ الظَّاهِرُ مُوجِبَ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ إذَا وُجِدَ الْمُوجَبُ وُجِدَ الْمُوجِبُ . وَأَمَّا إذَا وُجِدَ مَعَهُ تَارَةً وَعُدِمَ أُخْرَى أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُوجِبِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَإِنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ إمَّا مُسْتَقِلٌّ بِالْإِيمَانِ أَوْ مُشَارِكٌ لِلْإِيمَانِ وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ الظَّاهِرُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا مَعًا : عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ وَعَلَى الْإِيمَانِ ؛ بَلْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ يُوجَدُ بِدُونِ الْإِيمَانِ ؛ كَمَا فِي أَعْمَالِ الْمُنَافِقِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِيمَانِ وَلَا لَازِمًا لَهُ بَلْ يُوجَدُ مَعَهُ تَارَةً وَمَعَ نَقِيضِهِ تَارَةً وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ عِلَّةً لَهُ وَلَا مُوجِبًا وَلَا مُقْتَضِيًا فَيَبْطُلُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَلْزِمَ الْمَدْلُولَ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ فَإِنَّ مُجَرَّدَ التَّكَلُّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَيْسَ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِيمَانِ النَّافِعِ عِنْدَ اللَّهِ . وَلِهَذَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ لَمَّا قَالَ : هُوَ مُؤْمِنٌ . قَالَ أو
مُسْلِمٌ ؟ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ إظْهَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْإِيمَانِ فِي الْبَاطِنِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَحْتَجْ الْمُهَاجِرَاتُ اللَّاتِي جِئْنَ مُسْلِمَاتٍ إلَى الِامْتِحَانِ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بِالِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ يَتَبَيَّنُ بَاطِنُ الْإِنْسَانِ فَيُعْلَمُ أَهُوَ مُؤْمِنٌ أَمْ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ : { إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ } الْآيَةَ } . فَإِذَا قِيلَ : الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ تَكُونُ مِنْ مُوجِبِ الْإِيمَانِ تَارَةً ، وَمُوجِبِ غَيْرِهِ أُخْرَى ؛ كَالتَّكَلُّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ : تَارَةً يَكُونُ مِنْ مُوجِبِ إيمَانِ الْقَلْبِ وَتَارَةً يَكُونُ تَقِيَّةً كَإِيمَانِ الْمُنَافِقِينَ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } . وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا : هِيَ مِنْ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ إذَا كَانَتْ صَادِرَةً عَنْ إيمَانِ الْقَلْبِ لَا عَنْ نِفَاقٍ قِيلَ : فَإِذَا كَانَتْ صَادِرَةً عَنْ إيمَانٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْإِيمَانِ مُوجِبًا لَهَا وَإِمَّا أَنْ تَقِفَ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ فَإِذَا كَانَ نَفْسُ الْإِيمَانِ مُوجِبًا لَهَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَازِمَةٌ لِإِيمَانِ الْقَلْبِ مَعْلُولَةٌ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ ؛ وَإِنْ تَوَقَّفَتْ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ كَانَ الْإِيمَانُ جُزْءَ السَّبَبِ جَعَلَهَا ثَمَرَةً لِلْجُزْءِ الْآخَرِ وَمَعْلُولَةً لَهُ إذْ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهَا مَعْلُولَةٌ لَهُمَا وَثَمَرَةٌ لَهُمَا . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ الصَّالِحَةَ لَا تَكُونُ ثَمَرَةً لِلْإِيمَانِ الْبَاطِنِ وَمَعْلُولَةً
لَهُ
إلَّا إذَا كَانَ مُوجِبًا لَهَا وَمُقْتَضِيًا لَهَا وَحِينَئِذٍ فَالْمُوجَبُ
لَازِمٌ لِمُوجِبِهِ ، وَالْمَعْلُولُ لَازِمٌ لِعِلَّتِهِ وَإِذَا نَقَصَتْ
الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ الْوَاجِبَةُ كَانَ ذَلِكَ لِنَقْصِ مَا فِي الْقَلْبِ
مِنْ الْإِيمَانِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مَعَ كَمَالِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ الَّذِي
فِي الْقَلْبِ أَنْ تُعْدَمَ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ الْوَاجِبَةُ ؛ بَلْ
يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ هَذَا كَامِلًا وُجُودُ هَذَا كَامِلًا ، كَمَا يَلْزَمُ
مِنْ نَقْصِ هَذَا نَقْصُ هَذَا ؛ إذْ تَقْدِيرُ إيمَانٍ تَامٍّ فِي الْقَلْبِ
بِلَا ظَاهِرٍ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ كَتَقْدِيرِ مُوجَبٍ تَامٍّ بِلَا مُوجِبِهِ
وَعِلَّةٍ تَامَّةٍ بِلَا مَعْلُولِهَا وَهَذَا مُمْتَنِعٌ . وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ
يَتَبَيَّنُ فَسَادُ قَوْلِ جَهْمٍ والصالحي وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا فِي "
الْإِيمَانِ " كَالْأَشْعَرِيِّ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ وَأَكْثَرِ
أَصْحَابِهِ وَطَائِفَةٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ :
كالماتريدي وَنَحْوِهِ حَيْثُ جَعَلُوهُ مُجَرَّدَ تَصْدِيقٍ فِي الْقَلْبِ
يَتَسَاوَى فِيهِ الْعِبَادُ وَأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْدَمَ ، وَإِمَّا أَنْ
يُوجَدَ لَا يَتَبَعَّضُ وَأَنَّهُ يُمْكِنُ وُجُودُ الْإِيمَانِ تَامًّا فِي
الْقَلْبِ مَعَ وُجُودِ التَّكَلُّمِ بِالْكُفْرِ وَالسَّبِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
طَوْعًا مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ وَأَنَّ مَا عُلِمَ مِنْ الْأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ
أَنَّ صَاحِبَهُ كَافِرٌ ؛ فَلِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ عَدَمَ ذَلِكَ
التَّصْدِيقِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ ، فِي الْأَفْعَالِ . . . (1) وَأَنَّ
الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الظَّاهِرَةَ لَيْسَتْ لَازِمَةً لِلْإِيمَانِ
الْبَاطِنِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ ؛ بَلْ يُوجَدُ إيمَانُ الْقَلْبِ تَامًّا
بِدُونِهَا فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِيهِ خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا مَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ حُبٍّ لِلَّهِ
وَخَشْيَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
أَنْ
يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ .
وَثَانِيهَا : جَعَلُوا مَا عُلِمَ أَنَّ صَاحِبَهُ كَافِرٌ - مِثْلُ إبْلِيسَ
وَفِرْعَوْنَ وَالْيَهُودِ وَأَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِمْ - أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ
كَافِرًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِ فِي الْبَاطِنِ
وَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْحِسِّ ، وَكَذَلِكَ جَعَلُوا مَنْ يُبْغِضُ
الرَّسُولَ وَيَحْسُدُهُ كَرَاهَةَ دِينِهِ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِ الْعِلْمِ
بِأَنَّهُ صَادِقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَ ( ثَالِثُهَا ) : أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَا
يُوجَدُ مِنْ التَّكَلُّمِ بِالْكُفْرِ مِنْ سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ،
وَالتَّثْلِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُجَامِعًا لِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ
الَّذِي فِي الْقَلْبِ ، وَيَكُونُ صَاحِبُ ذَلِكَ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ
حَقِيقَةً سَعِيدًا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ، وَهَذَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ
بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَ ( رَابِعُهَا ) : أَنَّهُمْ
جَعَلُوا مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْإِيمَانِ قَطُّ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ
وَلَا أَطَاعَ اللَّهَ طَاعَةً ظَاهِرَةً مَعَ وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ
وَقُدْرَتِهِ يَكُونُ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ تَامَّ الْإِيمَانِ سَعِيدًا فِي
الدَّارِ الْآخِرَةِ . وَهَذِهِ الْفَضَائِحُ تَخْتَصُّ بِهَا الْجَهْمِيَّة دُونَ
الْمُرْجِئَةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ . وَ ( خَامِسُهَا ) : وَهُوَ يَلْزَمُهُمْ
وَيَلْزَمُ الْمُرْجِئَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ
مُؤْمِنًا تَامَّ الْإِيمَانِ إيمَانُهُ مِثْلُ إيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ
وَالصِّدِّيقِينَ وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا لَا صَلَاةً وَلَا صِلَةً وَلَا
صِدْقَ حَدِيثٍ وَلَمْ يَدَعْ كَبِيرَةً إلَّا رَكِبَهَا فَيَكُونُ
الرَّجُلُ عِنْدَهُمْ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى دَوَامِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَنَقْضِ الْعُهُودِ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً ، وَلَا يُحْسِنُ إلَى أَحَدٍ حَسَنَةً ، وَلَا يُؤَدِّي أَمَانَةً وَلَا يَدَعُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ كَذِبٍ وَظُلْمٍ وَفَاحِشَةٍ إلَّا فَعَلَهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ ، إيمَانُهُ مِثْلُ إيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَهَذَا يَلْزَمُ كُلَّ مَنْ لَمْ يَقُلْ إنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ فَإِذَا قَالَ : إنَّهَا مِنْ لَوَازِمِهِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ الْبَاطِنَ يَسْتَلْزِمُ عَمَلًا صَالِحًا ظَاهِرًا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ ، قَوْلُهُ : إنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ لَازِمَةٌ لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ أَوْ جُزْءٌ مِنْهُ ( نِزَاعًا لَفْظِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ ) . وَ ( سَادِسُهَا ) : أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ أَنَّ مَنْ سَجَدَ لِلصَّلِيبِ وَالْأَوْثَانِ طَوْعًا وَأَلْقَى الْمُصْحَفَ فِي الْحُشِّ عَمْدًا ، وَقَتَلَ النَّفْسَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَتَلَ كُلَّ مَنْ رَآهُ يُصَلِّي وَسَفَكَ دَمَ كُلِّ مَنْ يَرَاهُ يَحُجُّ الْبَيْتَ ؛ وَفَعَلَ مَا فَعَلَتْهُ الْقَرَامِطَةُ بِالْمُسْلِمِينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنًا وَلِيًّا لِلَّهِ ، إيمَانُهُ مِثْلُ إيمَانِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْبَاطِنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنَافِيًا لِهَذِهِ الْأُمُورِ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ مُنَافِيًا ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا أَمْكَنَ وُجُودُهَا مَعَهُ فَلَا يَكُونُ وُجُودُهَا إلَّا مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ . وَإِنْ كَانَ مُنَافِيًا لِلْإِيمَانِ الْبَاطِنِ كَانَ تَرْكُ هَذِهِ مِنْ مُوجَبِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ وَلَازِمِهِ فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ إلَّا مَنْ تَرَكَ هَذِهِ الْأُمُورَ فَمَنْ لَمْ يَتْرُكْهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ إيمَانِهِ الْبَاطِنِ وَإِذَا كَانَتْ الْأَعْمَالُ والتروك
الظَّاهِرَةُ
لَازِمَةً لِلْإِيمَانِ الْبَاطِنِ كَانَتْ مِنْ مُوجَبِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَكَانَ
مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهَا تَقْوَى بِقُوَّتِهِ وَتَزِيدُ بِزِيَادَتِهِ
وَتَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ فَإِنَّ الشَّيْءَ الْمَعْلُولَ لَا يَزِيدُ إلَّا
بِزِيَادَةِ مُوجَبِهِ وَمُقْتَضِيهِ وَلَا يَنْقُصُ إلَّا بِنُقْصَانِ ذَلِكَ ؛
فَإِذَا جُعِلَ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ مُوجَبَ الْبَاطِنِ وَمُقْتَضَاهُ لَزِمَ
أَنْ تَكُونَ زِيَادَتُهُ لِزِيَادَةِ الْبَاطِنِ فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى
زِيَادَةِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ وَنَقْصِهِ لِنَقْصِ الْبَاطِنِ فَيَكُونُ
نَقْصُهُ دَلِيلًا عَلَى نَقْصِ الْبَاطِنِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَهَذِهِ
الْأُمُورُ كُلُّهَا إذَا تَدَبَّرَهَا الْمُؤْمِنُ بِعَقْلِهِ تَبَيَّنَ لَهُ
أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ ؛ الَّذِي لَا عُدُولَ عَنْهُ
؛ وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ لَزِمَهُ فَسَادٌ مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ
وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ كَسَائِرِ مَا يَلْزَمُ الْأَقْوَالَ الْمُخَالِفَةَ
لِأَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ : إنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ
وَالتَّصْدِيقِ وَهُوَ بِذَلِكَ وَحْدَهُ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ وَالسَّعَادَةَ
يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ :
إنَّ سَعَادَةَ الْإِنْسَانِ فِي مُجَرَّدِ أَنْ يَعْلَمَ الْوُجُودَ عَلَى مَا
هُوَ عَلَيْهِ ؛ كَمَا أَنَّ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة وَهَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ فِي
" مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " وَ " مَسَائِلِ الْجَبْرِ
وَالْقَدَرِ " مُتَقَارِبَانِ وَكَذَلِكَ فِي " مَسَائِلِ الْإِيمَانِ
" وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ وَبَيَّنَّا بَعْضَ مَا فِيهِ
مِنْ الْفَسَادِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، مِثْلُ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ
أَحَدُ قُوَّتَيْ النَّفْسِ فَإِنَّ النَّفْسَ لَهَا " قُوَّتَانِ " :
قُوَّةُ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ ، وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ كَمَا
أَنَّ الْحَيَوَانَ لَهُ " قُوَّتَانِ " : قُوَّةُ الْحِسِّ ، وَقُوَّةُ
الْحَرَكَةِ بِالْإِرَادَةِ .
وَلَيْسَ
صَلَاحُ الْإِنْسَانِ فِي مُجَرَّدِ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ دُونَ أَلَّا
يُحِبَّهُ وَيُرِيدَهُ وَيَتَّبِعَهُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ سَعَادَتُهُ فِي أَنْ
يَكُونَ عَالِمًا بِاَللَّهِ مُقِرًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ دُونَ أَنْ يَكُونَ
مُحِبًّا لِلَّهِ عَابِدًا لِلَّهِ مُطِيعًا لِلَّهِ بَلْ أَشَدُّ النَّاسِ
عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ ؛
فَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ الْحَقَّ وَأَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا
مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛
كَمَا أَنَّ مَنْ كَانَ قَاصِدًا لِلْحَقِّ طَالِبًا لَهُ - وَهُوَ جَاهِلٌ بِالْمَطْلُوبِ
وَطَرِيقِهِ - كَانَ فِيهِ مِنْ الضَّلَالِ وَكَانَ مُسْتَحِقًّا مِنْ اللَّعْنَةِ
- الَّتِي هِيَ الْبُعْدُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ - مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ
لَيْسَ مِثْلُهُ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَقُولَ : { اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . وَ " الْمَغْضُوبُ
عَلَيْهِمْ " عَلِمُوا الْحَقَّ فَلَمْ يُحِبُّوهُ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ وَ
" الضَّالُّونَ " قَصَدُوا الْحَقَّ لَكِنْ بِجَهْلِ وَضَلَالٍ بِهِ
وَبِطَرِيقِهِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ
الْعَابِدِ الْجَاهِلِ وَهَذَا حَالُ الْيَهُودِ فَإِنَّهُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ ،
وَهَذَا حَالُ النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ ضَالُّونَ . كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ
عَلَيْهِمْ ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } .
وَ " الْمُتَفَلْسِفَةُ " أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ جَهْلِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ
وَبَيْنَ فُجُورِ هَؤُلَاءِ وَظُلْمِهِمْ فَصَارَ فِيهِمْ مِنْ الْجَهْلِ
وَالظُّلْمِ مَا لَيْسَ فِي الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى حَيْثُ جَعَلُوا
السَّعَادَةَ فِي مُجَرَّدِ أَنْ يَعْلَمُوا الْحَقَائِقَ حَتَّى يَصِيرَ
الْإِنْسَانُ عَالَمًا مَعْقُولًا مُطَابِقًا لِلْعَالَمِ الْمَوْجُودِ ثُمَّ لَمْ
يَنَالُوا مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ
وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ إلَّا شَيْئًا نَزْرًا قَلِيلًا فَكَانَ جَهْلُهُمْ أَعْظَمَ مِنْ عِلْمِهِمْ ، وَضَلَالُهُمْ أَكْبَرَ مَنْ هُدَاهُمْ وَكَانُوا مُتَرَدِّدِينَ بَيْنَ الْجَهْلِ الْبَسِيطِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ ؛ فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي الطَّبِيعَاتِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ لَا يُفِيدُ كَمَالَ النَّفْسِ وَصَلَاحَهَا وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَكَلَامُهُمْ فِيهِ : لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ . فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي " وَاجِبِ الْوُجُودِ " مَا بَيْنَ حَقٍّ قَلِيلٍ وَبَاطِلٍ فَاسِدٍ كَثِيرٍ وَكَذَلِكَ فِي " الْعُقُولِ " وَ " النُّفُوسِ " الَّتِي تَزْعُمُ أَتْبَاعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ زَعْمُهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ جِنْسِ زَعْمِهِمْ أَنَّ " وَاجِبَ الْوُجُودِ " هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ وَكَذَلِكَ كَلَامُهُمْ فِي الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ يَعُودُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَى أُمُورٍ مُقَدَّرَةٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ ثُمَّ فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَإِثْبَاتِ رَبٍّ مُبْدِعٍ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ سِوَاهُ - لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ لَهُ - وَإِثْبَاتُ رَبٍّ مُبْدِعٍ لِكُلِّ مَا تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ هُوَ مَعْلُولُ الرَّبِّ فَوْقَهُ ، ذَلِكَ الرَّبُّ مَعْلُولٌ لِرَبِّ فَوْقَهُ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْ كَلَامِ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ : إنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلَيْسَ لِمُقَدِّمِيهِمْ كَلَامٌ فِي " النُّبُوَّاتِ " أَلْبَتَّةَ وَمُتَأَخِّرُوهُمْ حَائِرُونَ فِيهَا مِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ بِهَا ؛ كَمَا فَعَلَ ابْنُ زَكَرِيَّا الرَّازِي وَأَمْثَالُهُ مَعَ قَوْلِهِمْ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ .
أَثْبَتُوا الْقُدَمَاءَ الْخَمْسَةَ وَأَخَذُوا مِنْ الْمَذَاهِبِ مَا هُوَ مِنْ شَرِّهَا وَأَفْسَدِهَا ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَدِّقُ بِهَا مَعَ قَوْلِهِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ لَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ النَّبِيَّ بِمَنْزِلَةِ مَلَكٍ عَادِلٍ فَيَجْعَلُونَ النُّبُوَّةَ كُلَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْكَشْفِ وَالتَّأْثِيرِ وَالتَّخَيُّلِ فَيَجْعَلُونَ خَاصَّةَ النَّبِيِّ " ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ " : قُوَّةُ الْحَدْسِ الصَّائِبِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْقُوَّةَ الْقُدْسِيَّةَ وَقُوَّةُ التَّأْثِيرِ فِي الْعَالَمِ ، وَقُوَّةُ الْحِسِّ الَّتِي بِهَا يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ الْمَعْقُولَاتِ مُتَخَيَّلَةً فِي نَفْسِهِ فَكَلَامُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَمَلَائِكَتِهِ هِيَ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الصُّوَرِ وَالْأَنْوَارِ وَهَذِهِ الْخِصَالُ تَحْصُلُ لِغَالِبِ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالصَّفَا ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ النُّبُوَّةُ عِنْدَهُمْ مُكْتَسَبَةً . وَصَارَ كُلُّ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ كالسهروردي الْمَقْتُولِ وَابْنِ سَبْعِينَ الْمَغْرِبِيِّ وَأَمْثَالِهِمَا - يَطْلُبُ النُّبُوَّةَ وَيَطْمَعُ أَنْ يُقَالَ لَهُ قُمْ فَأَنْذِرْ هَذَا يَقُولُ : لَا أَمُوتُ حَتَّى يُقَالَ لِي : قُمْ فَأَنْذِرْ وَهَذَا يُجَاوِرُ بِمَكَّةَ وَيَعْمِدُ إلَى غَارِ حِرَاءٍ وَيَطْلُبُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ فِيهِ الْوَحْيُ كَمَا نَزَلَ عَلَى الْمُزَّمِّلِ وَالْمُدَّثِّرِ مِثْلُهُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا ، وَمَنْ أَمْثَالُهُمَا يَسْعَى بِأَنْوَاعِ السِّيمِيَاءِ الَّتِي هِيَ مِنْ السِّحْرِ وَيَتَوَهَّمُ أَنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ السيميائي . وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ طَلَبُ النُّبُوَّةِ وَادِّعَاؤُهَا - لِعِلْمِهِ بِقَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ : { لَا نَبِيَّ بَعْدِي } أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ - كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ طَلَبَ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ النُّبُوَّةِ وَأَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَعْظَمُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ
وَالنَّبِيُّ يَأْخُذُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ ، وَبُنِيَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ مَتْبُوعِيهِ الْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ : مَا يُتَصَوَّرُ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ أَوْ الْوَلِيِّ هِيَ الْمَلَائِكَةُ : مِنْ الْأَشْكَالِ النُّورَانِيَّةِ الْخَيَالِيَّةِ " فَالْمَلَائِكَةُ " عِنْدَهُمْ مَا يَتَخَيَّلُهُ فِي نَفْسِهِ . وَ " النَّبِيُّ " عِنْدَهُمْ مَا يَتَلَقَّى بِوَاسِطَةِ هَذَا التَّخَيُّلِ وَ " الْوَلِيُّ " يَتَلَقَّى الْمَعَارِفَ الْعَقْلِيَّةَ بِدُونِ هَذَا التَّخَيُّلِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ تَلَقَّى الْمَعَارِفَ بِلَا تَخَيُّلٍ كَانَ أَكْمَلَ مِمَّنْ تَلَقَّاهَا بِتَخَيُّلِ . فَلَمَّا اعْتَقَدُوا فِي النُّبُوَّةِ مَا يَعْتَقِدُهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ صَارُوا يَقُولُونَ : إنَّ الْوِلَايَةَ أَعْظَمُ مِنْ النُّبُوَّةِ كَمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ : إنَّ الْفَيْلَسُوفَ أَعْظَمُ مِنْ النَّبِيِّ ؛ فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ الْفَارَابِيِّ وَمُبَشِّرِ بْنِ فَاتِكٍ وَغَيْرِهِمَا ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ النُّبُوَّةُ أَفْضَلُ الْأُمُورِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ لَا عِنْدَ الْخَاصَّةِ . وَيَقُولُونَ : خَاصَّةُ النَّبِيِّ جَوْدَةُ التَّخْيِيلِ وَالتَّخَيُّلِ فَجَاءَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخْرَجُوا الْفَلْسَفَةَ فِي قَالَبِ الْوِلَايَةِ وَعَبَّرُوا عَنْ الْمُتَفَلْسِفِ بِالْوَلِيِّ وَأَخَذُوا مَعَانِيَ الْفَلَاسِفَةِ وَأَبْرَزُوهَا فِي صُورَةِ الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ وَقَالُوا : إنَّ الْوَلِيَّ أَعْظَمُ مِنْ النَّبِيِّ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الْمُجَرَّدَةَ يَأْخُذُهَا عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةِ تَخَيُّلٍ لِشَيْءِ فِي نَفْسِهِ ، وَالنَّبِيُّ يَأْخُذُهَا بِوَاسِطَةِ مَا يَتَخَيَّلُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الصُّوَرِ وَالْأَصْوَاتِ وَلَمْ يَكْفِهِمْ هَذَا الْبُهْتَانُ حَتَّى ادَّعَوْا أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ يَسْتَفِيدُونَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِاَللَّهِ وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ ، وَالْعِلْمُ بِاَللَّهِ هُوَ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ " الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ " السَّارِي فِي الْكَائِنَاتِ فَوُجُودُ كُلِّ مَوْجُودٍ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ وَاجِبِ الْوُجُودِ . وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ - قَوْلُ الدَّهْرِيَّةِ الطَّبعيَّةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِ
مُبْدِعٌ أَبْدَعَهُ هُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ ؛ بَلْ يَقُولُونَ : الْعَالَمُ نَفْسُهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ . فَحَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الدَّهْرِيَّةِ الإلهيين وَهُوَ يَعُودُ عِنْدَ التَّحَقُّقِ إلَى قَوْلِ الدَّهْرِيَّةِ الطَّبِيعِيِّينَ وَقَدْ حَدَّثُونَا : أَنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ تَنَازَعَ هُوَ وَالشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ السهروردي : هَلْ يُمْكِنُ وَقْتَ تَجَلِّي الْحَقِّ لِعَبْدِ مُخَاطَبَةٌ لَهُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ السهروردي : نَعَمْ يُمْكِنُ ذَلِكَ . فَقَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ : لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ وَأَظُنُّ الْكَلَامَ كَانَ فِي غَيْبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَقِيلَ لِابْنِ عَرَبِيٍّ : إنَّ السهروردي يَقُولُ كَذَا وَكَذَا . فَقَالَ : مِسْكِينٌ نَحْنُ تَكَلَّمْنَا فِي مُشَاهَدَةِ الذَّاتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي مُشَاهَدَةِ الصِّفَاتِ . وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالسُّلُوكِ وَالطَّالِبِينَ لِطَرِيقِ التَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ - مَعَ أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُتَابِعُونَ لِلرُّسُلِ وَأَنَّهُمْ مُتَّقُونَ لِلْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ - يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ وَيُعَظِّمُونَهُ وَيُعَظِّمُونَ ابْنَ عَرَبِيٍّ لِقَوْلِهِ مِثْلَ هَذَا وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ فِي الْإِلْحَادِ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالِاتِّحَادِ ؛ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الرَّبِّ عِنْدَهُ وُجُودٌ مُجَرَّدٌ لَا اسْمٌ لَهُ وَلَا صِفَةٌ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَى فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَلَا لَهُ كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ وَلَا عِلْمٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُرَى ظَاهِرًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مُتَجَلِّيًا فِي الْمَصْنُوعَاتِ وَهُوَ عِنْدَهُ غَيْرُ وُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ وَشَبَهِهِ ، وَتَارَةً بِظُهُورِ الْكُلِّيِّ فِي جُزْئِيَّاتِهِ كَظُهُورِ الْجِنْسِ فِي أَنْوَاعِهِ وَالنَّوْعِ فِي الْخَاصَّةِ كَمَا تَظْهَرُ الْحَيَوَانِيَّةُ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ والإنسانية فِي كُلِّ إنْسَانٍ . وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى غَلَطِ أَسْلَافِهِ " الْمَنْطِقِيِّينَ الْيُونَانِيِّينَ " حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ
الْمَوْجُودَاتِ الْعَيْنِيَّةَ يُقَارِنُهَا جَوَاهِرُ عَقْلِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا تَحْمِلُ لَهَا مِنْ الْكُلِّيَّاتِ فَيَظُنُّونَ أَنَّ فِي الْإِنْسَانِ الْمُعَيَّنِ إنْسَانًا عَقْلِيًّا وَحَيَوَانًا عَقْلِيًّا وَنَاطِقًا عَقْلِيًّا وَحَسَّاسًا عَقْلِيًّا وَجِسْمًا عَقْلِيًّا وَذَاكَ هُوَ الْمَاهِيَّةُ الَّتِي يَعْرِضُ لَهَا الْوُجُودُ وَتِلْكَ الْمَاهِيَّةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ جَمِيعِ الْمُعَيَّنَاتِ وَهَذَا الْكَلَامُ لَهُ وَقْعٌ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ وَيَتَدَبَّرْهُ . فَإِذَا فَهِمَ حَقِيقَتَهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ بِكَلَامِ الْمَجَانِينِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِكَلَامِ الْعُقَلَاءِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَإِنَّمَا أَتَى فِيهِ هَؤُلَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ تَصَوَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَعَانِيَ " كُلِّيَّةً مُطْلَقَةً " فَظَنُّوا أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ . فَضُلَّالُهُمْ فِي هَذَا عَكْسُ ضُلَّالِهِمْ فِي أَمْرِ الْأَنْبِيَاءِ شَاهَدَتْ أُمُورًا خَارِجَةً عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، فَزَعَمَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ فِي أَنْفُسِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ شَهِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أُمُورًا " كُلِّيَّةً مُطْلَقَةً " فَظَنُّوا أَنَّهَا فِي الْخَارِجِ وَلَيْسَتْ إلَّا فِي أَنْفُسِهِمْ فَجَعَلُوا مَا فِي أَنْفُسِهِمْ فِي الْخَارِجِ وَلَيْسَ فِيهِ وَجَعَلُوا مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْخَارِجِ فَلِهَذَا كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالْغَيْبِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ جَعَلُوا وُجُودَ الرَّبِّ الْخَالِقِ لِلْعَالَمِينَ الْبَائِنِ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ أَجْمَعِينَ هُوَ مِنْ جِنْسِ وُجُودِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْأَنَاسِيِّ والحيوانية فِي الْحَيَوَانِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَوُجُودِ الْوُجُودِ فِي الثُّبُوتِ - عِنْدَ مَنْ يَقُولُ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ - فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ شَيْئًا مَوْجُودًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ مُغَايَرَتِهِ لَهَا فَضَرَبُوا لَهُ مَثَلًا تَارَةً بِالْكُلِّيَّاتِ وَتَارَةً بِالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَتَارَةً بِالْوُجُودِ الْمُغَايِرِ لِلثُّبُوتِ وَإِذَا مَثَّلُوهُ بِالْمَحْسُوسَاتِ مَثَّلُوهُ بِالشُّعَاعِ فِي الزُّجَاجِ أَوْ بِالْهَوَاءِ فِي الصُّوفَةِ
فَضَرَبُوا
لِرَبِّ الْعَالَمِينَ الْأَمْثَالَ ؛ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ؛
وَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَمْثَالِ ضَالُّونَ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : إنَّمَا مَثَّلُوا بِهِ مِنْ الْمَادَّةِ مَعَ الصُّورَةِ
وَالْكُلِّيَّاتِ مَعَ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْوُجُودِ مَعَ الثُّبُوتِ : كُلُّ
ذَلِكَ يَرْجِعُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا شَيْئَيْنِ
فَجَعَلُوا الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ كَمَا جَعَلُوا الِاثْنَيْنِ وَاحِدًا فِي مِثْلِ
صِفَاتِ اللَّهِ يَجْعَلُونَ الْعِلْمَ هُوَ الْعَالِمُ ، وَالْعِلْمَ هُوَ
الْمَعْلُومُ وَالْعِلْمَ هُوَ الْقُدْرَةُ ، وَالْعِلْمَ هُوَ الْإِرَادَةُ
وَأَنْوَاعُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي إذَا تَدَبَّرَهَا الْعَاقِلُ تَبَيَّنَ
لَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ ،
وَأَعْظَمِ النَّاسِ قَوْلًا لِلْبَاطِلِ ؛ مَعَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ وَنُفُوسِ
أَتْبَاعِهِمْ مِنْ الدَّعَاوَى الْهَائِلَةِ الطَّوِيلَةِ الْعَرِيضَةِ كَمَا
يَدَّعِي إخْوَانُهُمْ الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ أَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ
مَعْصُومُونَ مِثْلُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَضَلِّهِمْ
وَأَكْفَرِهِمْ . ( الثَّانِي ) : أَنَّهُمْ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنْ هَذِهِ
التَّقْدِيرَاتِ يَجْعَلُونَ وُجُودَهُ مَشْرُوطًا بِوُجُودِ غَيْرِهِ الَّذِي
لَيْسَ هُوَ مُبْدِعًا لَهُ ؛ فَإِنَّ وُجُودَ الْكُلِّيَّاتِ فِي الْخَارِجِ
مَشْرُوطٌ بِالْجُزْئِيَّاتِ ، وَوُجُودَ الْمَادَّةِ مَشْرُوطٌ بِالصُّورَةِ وَكَذَلِكَ
بِالْعَكْسِ ، وَوُجُودَ الْأَعْيَانِ مَشْرُوطٌ بِثُبُوتِهَا الْمُسْتَقِرِّ فِي
الْعَدَمِ ؛ فَيَلْزَمُهُمْ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ أَنْ يَكُونَ وَاجِبُ
الْوُجُودِ مَشْرُوطًا بِمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ مُبْدِعَاتِهِ ، وَمَا كَانَ
وُجُودُهُ مَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِهِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ مَصْنُوعًا لَهُ لَمْ
يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا بَيِّنٌ .
الثَّالِثُ
: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَعُودُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَى أَنْ يَكُونَ وُجُودُ
الْخَالِقِ عَيْنَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُمْ يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ ؛ لَكِنْ
يَدَّعُونَ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ : أَوْ بَيْنَ
الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ : وَبَيْنَ الْكُلِّ وَالْجُزْءِ ، وَهُوَ
الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ ؛ فَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ
: بِالْحُلُولِ . تَارَةً يَجْعَلُونَ الْخَالِقَ حَالًّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ ،
وَتَارَةً مَحَلًّا لَهَا وَإِذَا حَقَّقَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ
الْمُغَايَرَةِ كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ نَفْسُ
الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا خَالِقَ وَلَا مَخْلُوقَ وَإِنَّمَا الْعَالَمُ وَاجِبُ
الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِمَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ " التَّوْحِيدِ
" عَنْ التَّعَدُّدِ فِي صِفَاتِهِ الْوَاجِبَةِ ؛ وَأَسْمَائِهِ ؛ وَقِيَامِ
الْحَوَادِثِ بِهِ وَعَنْ كَوْنِهِ جِسْمًا ؛ أَوْ جَوْهَرًا ؛ ثُمَّ هُمْ عِنْدَ
التَّحْقِيقِ يَجْعَلُونَهُ عَيْنَ الْأَجْسَامِ الْكَائِنَةِ الْفَاسِدَةِ
الْمُسْتَقْذَرَةِ وَيَصِفُونَهُ بِكُلِّ نَقْصٍ كَمَا صَرَّحُوا بِذَلِكَ قَالُوا
: أَلَا تَرَى الْحَقَّ يَظْهَرُ بِصِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ ؟ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ
نَفْسِهِ وَبِصِفَاتِ النَّقْصِ ؛ وَبِصِفَاتِ الذَّمِّ ، وَقَالُوا : الْعَلِيُّ
لِذَاتِهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ الْكَمَالُ الَّذِي يَسْتَغْرِقُ بِهِ
جَمِيعَ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ وَالنِّسَبِ الْعَدَمِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ
مَحْمُودَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا ؛ أَوْ مَذْمُومَةً عُرْفًا وَعَقْلًا
وَشَرْعًا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِمُسَمَّى اللَّهِ خَاصَّةً فَهُوَ مُتَّصِفٌ
عِنْدَهُمْ بِكُلِّ صِفَةٍ مَذْمُومَةٍ كَمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِكُلِّ صِفَةٍ
مَحْمُودَةٍ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ فَإِنَّ أَمْرَهُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُبْسَطَ هُنَا . وَلَكِنَّ
الْمَقْصُودَ التَّنْبِيهُ عَلَى تَشَابُهِ رُؤُوسِ الضَّلَالِ حَتَّى إذَا فَهِمَ
الْمُؤْمِنُ
قَوْلَ أَحَدِهِمْ أَعَانَهُ عَلَى فَهْمِ قَوْلِ الْآخَرِ ؛ وَاحْتَرَزَ مِنْهُمْ ، وَبَيَّنَ ضَلَالَهُمْ لِكَثْرَةِ مَا أَوْقَعُوا فِي الْوُجُودِ مِنْ الضَّلَالَاتِ . فَابْنُ عَرَبِيٍّ بِزَعْمِهِ : إنَّمَا تَجَلِّي الذَّاتِ عِنْدَهُ شُهُودٌ مُطْلَقٌ ؛ هُوَ وُجُودُ الْمَوْجُودَاتِ ؛ مُجَرَّدًا مُطْلَقًا لَا اسْمَ لَهُ وَلَا نَعْتَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ تَصَوَّرَ هَذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ عَنْهُ خِطَابٌ ؛ فَلِهَذَا زَعَمَ أَنَّ عِنْدَ تَجَلِّي الذَّاتِ لَا يَحْصُلُ خِطَابٌ . وَأَمَّا أَبُو حَفْصٍ السهروردي فَكَانَ أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ وَأَتْبَعَ لِلسُّنَّةِ مِنْ هَذَا وَخَيْرًا مِنْهُ ؛ وَقَدْ رَأَى أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ وَيُخَاطِبُهُمْ حِينَ تَجَلِّيهِ لَهُمْ فَآمَنَ بِذَلِكَ ؛ لَكِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ فِي فَلْسَفَتِهِ أَشْهَرُ مِنْ هَذَا فِي سُنَّتِهِ . وَلِهَذَا كَانَ أَتْبَاعُهُمَا يُعَظِّمُونَ ابْنَ عَرَبِيٍّ عَلَيْهِ مَعَ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ السهروردي أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ كَمَا حَدَّثَنِي الشَّيْخُ الْمُلَقَّبُ بِحُسَامِ الدِّينِ الْقَادِمِ السَّالِكِ طَرِيقَ ابْنِ حموية الَّذِي يُلَقِّبُهُ أَصْحَابُهُ " سُلْطَانَ الْأَقْطَابِ " ؛ وَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ التَّعْظِيمِ لِابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ حموية ؛ وَالْغُلُوُّ فِيهِمَا أَمْرٌ عَظِيمٌ فَبَيَّنَتْ لَهُ كَثِيرًا مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُمَا مِنْ الْفَسَادِ وَالْإِلْحَادِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَرَى فِي ذَلِكَ فُصُولٌ ؛ لِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ التَّعْظِيمِ مَعَ عَدَمِ فَهْمِ حَقِيقَةِ أَقْوَالِهِمَا وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الضَّلَالَاتِ . وَكَانَ مِمَّنْ حَدَّثَنِي عَنْ شَيْخِهِ الطاووسي الَّذِي كَانَ بهمدان عَنْ سَعْدِ الدِّينِ
بْنِ حمويه أَنَّهُ قَالَ : مُحْيِي الدِّينِ ابْنُ عَرَبِيٍّ بَحْرٌ لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلَاءُ ؛ لَكِنَّ نُورَ الْمُتَابَعَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ السهروردي شَيْءٌ آخَرُ فَقُلْت لَهُ : هَذَا كَمَا يُقَالُ : كَانَ هَؤُلَاءِ أُوتُوا مَنْ مُلْكِ الْكُفَّارِ مُلْكًا عَظِيمًا . لَكِنَّ نُورَ الْإِسْلَامِ الَّذِي عَلَى شِهَابِ غَازِيٍّ صَاحِبِ " ميافا رُقِّينَ " شَيْءٌ آخَرُ . فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ ابْنَ عَرَبِيٍّ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْخَ شِهَابَ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَعْرِفَةِ السُّنَّةِ وَمُتَابَعَتِهَا وَتَحْقِيقِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ؛ كَتَمَكُّنِ ابْنِ عَرَبِيٍّ فِي طَرِيقِهِ الَّتِي سَلَكَهَا وَجَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ . وَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يَقْطَعُ دَابِرَهُمْ الْمُبَايَنَةُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَإِثْبَاتُ تَعَيُّنِهِ مُنْفَصِلًا عَنْ الْمَخْلُوقِ تُرْفَعُ إلَيْهِ الْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ وَإِلَيْهِ كَانَ مِعْرَاجُ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ ذَكَرَ السهروردي فِي عَقِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ قَوْلَهُ : " بِلَا إشَارَةٍ وَلَا تَعْيِينٍ " وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي اسْتَطَالَ بِهَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّهُ مَتَى نُفِيَتْ الْإِشَارَةُ وَالتَّعْيِينُ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ ؛ وَالتَّعْطِيلُ أَوْ الْإِلْحَادُ وَالْوَحْدَةُ وَالْحُلُولُ . وَابْنُ سَبْعِينَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ يَقُولُونَ هَكَذَا : لَا إشَارَةَ وَلَا تَعْيِينَ بَلْ عَيْنُ مَا تَرَى ذَاتٌ لَا تُرَى وَذَاتٌ لَا تُرَى عَيْنُ مَا تَرَى وَيَقُولُونَ فِي أَذْكَارِهِمْ : لَيْسَ إلَّا اللَّهُ بَدَلَ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لِأَنَّ مُعْتَقَدَهُمْ أَنَّهُ وُجُودُ كُلِّ مَوْجُودٍ ؛ فَلَا مَوْجُودَ إلَّا هُوَ ؛ وَالْمُسْلِمُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ ؛ وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا جُزْءًا مِنْهَا ؛ وَلَا صِفَةً لَهَا ؛ بَلْ هُوَ بَائِنٌ عَنْهَا وَيَقُولُونَ إنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ
الْمَوْجُودَاتِ
فَلَا إلَهَ إلَّا هُوَ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ
إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } وَقَالَ : {
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } .
وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ مَا عِنْدَهُمْ غَيْرُ يُمْكِنُ أَنْ يُعْبَدَ وَلَا
غَيْرُ يُمْكِنُ أَنْ يُتَّخَذَ وَلِيًّا وَلَا إلَهًا ؛ بَلْ هُوَ الْعَابِدُ
وَالْمَعْبُودُ ؛ وَالْمُصَلِّي وَالْمُصَلَّى لَهُ ؛ كَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ
ابْنُ الْفَارِضِ فِي قَصِيدَتِهِ " نَظْمِ السُّلُوكِ " :
لَهَا صَلَوَاتِي بِالْمَقَامِ أُقِيمُهَا * * * وَأَشْهَدُ فِيهَا أَنَّهَا لِي
صَلَّتْ
كِلَانَا مُصَلٍّ وَاحِدٌ سَاجِدٌ إلَى * * * حَقِيقَتِهِ بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ
سَجْدَةِ
إلَى قَوْلِهِ :
وَمَا كَانَ لِي صَلَّى سِوَايَ وَلَمْ تَكُنْ * * * صَلَاتِي لِغَيْرِي فِي أَدَا
كُلِّ رَكْعَةِ
إلَيَّ رَسُولًا كُنْت مِنِّي مُرْسَلًا * * * وَذَاتِي بِآيَاتِي عَلَيَّ
اسْتَدَلَّتْ
وَقَوْلُهُ : وَمَازِلْت إيَّاهَا وَإِيَّايَ لَمْ تَزَلْ * * * وَلَا فَرْقَ بَلْ
ذَاتِي لِذَاتِي أَحَبَّتْ
فَهَؤُلَاءِ " الْجَهْمِيَّة " مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالصُّوفِيَّةِ
فِي قَوْلِهِمْ : إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ
يَقُولُونَ : الْمَعْرُوفُ هُوَ الْمَوْجُودُ الْمَوْصُوفُ بِالسَّلْبِ
وَالنَّفْيِ كَقَوْلِهِمْ : لَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ ؛ وَلَا خَارِجُهُ ؛
وَلَا مُبَايِنُ الْعَالَمِ وَلَا محايث ثُمَّ
يَعُودُونَ
فَيَجْعَلُونَهُ حَالًّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ مَحَلًّا لَهَا أَوْ هُوَ
عَيْنُهَا ؛ أَوْ يُعَطِّلُونَهُ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ فَهُمْ فِي هَذَا نَظِيرُ
الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَشَّائِينَ : الَّذِينَ يَجْعَلُونَ كَمَالَ الْإِنْسَانِ
بِالْعِلْمِ ؛ وَ " الْعِلْمُ الْأَعْلَى " - عِنْدَهُمْ - وَ "
الْفَلْسَفَةُ الْأُولَى " - عِنْدَهُمْ - النَّظَرُ فِي الْوُجُودِ
وَلَوَاحِقِهِ وَيَجْعَلُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ وُجُودًا مُطْلَقًا بِشَرْطِ
الْإِطْلَاقِ لَكِنْ أُولَئِكَ يُغَيِّرُونَ الْعِبَارَاتِ وَيُعَبِّرُونَ
بِالْعِبَارَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَنْ الْإِلْحَادَاتِ
الْفَلْسَفِيَّةِ وَالْيُونَانِيَّةِ وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ قُرِّرَ ؛ وَبُسِطَ
الْقَوْلُ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَصْلٌ أَوَّلُ مَا فِي الْحَدِيثِ سُؤَالُهُ عَنْ " الْإِسْلَامِ " :
فَأَجَابَهُ بِأَنَّ { الْإِسْلَامَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ
وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ } وَهَذِهِ الْخَمْسُ هِيَ
الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ { بُنِيَ
الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَامِ
رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } . وَهَذَا
قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ فَرَضَ اللَّهُ
الْحَجَّ فَلِهَذَا ذَكَرَ الْخَمْسَ : وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ لَا يُوجَدُ
فِيهَا ذِكْرُ الْحَجِّ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ { آمُرُكُمْ
بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ . أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ
وَحْدَهُ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصِيَامُ رَمَضَانَ وَأَنْ
تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ } .
وَحَدِيثُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ أَشْهَرِ الْأَحَادِيثِ وَأَصَحِّهَا . وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ لَمْ يَذْكُرْ الصِّيَامَ لَكِنْ هُوَ مَذْكُورٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ طُرُقِهِ وَفِي مُسْلِمٍ وَهُوَ أَيْضًا مَذْكُورٌ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ وَاتَّفَقَا عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِإِيتَاءِ الْخُمُسِ مِنْ الْمَغْنَمِ ؛ وَالْخُمُسُ إنَّمَا فُرِضَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ ، وَشَهْرُ رَمَضَانَ فُرِضَ قَبْلَ ذَلِكَ . وَوَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ خِيَارِ الْوَفْدِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُدُومُهُمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ وَقَدْ قِيلَ قَدِمُوا سَنَةَ الْوُفُودِ : سَنَةَ تِسْعٍ وَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ قَدِمُوا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَك هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ - يَعْنُونَ أَهْلَ نَجْدٍ - وَإِنَّا لَا نَصِلُ إلَيْك إلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ وَسَنَةَ تِسْعٍ كَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ ذَلَّتْ وَتَرَكَتْ الْحَرْبَ وَكَانُوا بَيْنَ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ خَائِفٍ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ ثُمَّ هَزَمُوا هَوَازِنَ يَوْمَ حنين وَإِنَّمَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ فَتْحَ مَكَّةَ وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْدَفَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِتَنْفِيذِ الْعُهُودِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْعَرَبِ إلَّا أَنَّهُ أَجَّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } الْآيَةَ وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي أَجَّلُوهَا الْأَرْبَعَةُ الْحُرُمُ .
وَلِهَذَا غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّصَارَى بِأَرْضِ الرُّومِ عَامَ تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ قَبْلَ إرْسَالِ أَبِي بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ وَإِنَّمَا أَمْكَنَهُ غَزْوُ النَّصَارَى لَمَّا اطْمَأَنَّ مِنْ جِهَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا خَوْفَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدِ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْقِتَالِ فِي التَّخَلُّفِ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ إلَّا مُنَافِقٌ : أَوْ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ أَوْ مَعْذُورٌ وَلِهَذَا لَمَّا { اسْتَخْلَفَ عَلِيًّا عَلَى الْمَدِينَةِ عَامَ تَبُوكَ طَعَنَ الْمُنَافِقُونَ فِيهِ لِضَعْفِ هَذَا الِاسْتِخْلَافِ وَقَالُوا : إنَّمَا خَلَّفَهُ لِأَنَّهُ يُبْغِضُهُ . فَاتَّبَعَهُ عَلِيٌّ وَهُوَ يَبْكِي فَقَالَ : أَتُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ؟ فَقَالَ : أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي } . وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ وَفِيهَا رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ بِأَرْضِ الْعَرَبِ لَا بِمَكَّةَ وَلَا بِنَجْدِ وَنَحْوِهِمَا مَنْ يُقَاتِلُ أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ - مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمَا - وَلَا يُخِيفُهُمْ : ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ أَقَرَّ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْمَوْسِمِ يُقِيمُ الْحَجَّ وَالصَّلَاةَ وَيَأْمُرُ أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عريان وَأَتْبَعَهُ بِعَلِيِّ لِأَجْلِ نَقْضِ الْعُهُودِ ؛ إذْ كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ لَا يَقْبَلُوا إلَّا مِنْ الْمُطَاعِ الْكَبِيرِ أَوْ مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ . وَ ( الْمَقْصُودُ : أَنَّ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ قُدُومَ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَمَّا " حَدِيثُ ضِمَامٍ " فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ { أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ يَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُولُك فَزَعَمَ أَنَّك تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَك قَالَ : صَدَقَ
قَالَ : فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ ؟ قَالَ : اللَّهُ قَالَ : فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ ؟ قَالَ : اللَّهُ قَالَ : فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ ؟ قَالَ : اللَّهُ قَالَ : فَبِاَلَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَنَصَبَ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَك قَالَ : نَعَمْ قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُك أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا قَالَ : صَدَقَ قَالَ : فَبِاَلَّذِي أَرْسَلَك آللَّهُ أَمَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : وَزَعَمَ رَسُولُك أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا قَالَ : صَدَقَ قَالَ : فَبِاَلَّذِي أَرْسَلَك آللَّهُ أَمَرَك بِهَذَا قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : وَزَعَمَ رَسُولُك أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ : صَدَقَ ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ وَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقَصُ مِنْهُنَّ فَقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ } . { وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ إذْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ؛ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ ؟ - وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظهرانيهم - فَقُلْنَا : هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟ فَقَالَ لَهُ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَبْتُك فَقَالَ الرَّجُلُ : لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّنِي سَائِلُك فَمُشَدِّدٌ عَلَيْك فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدُ عَلَيَّ فِي نَفْسِك ؛ فَقَالَ : سَلْ عَمَّا بَدَا لَك ؟ فَقَالَ : أَسْأَلُك بِرَبِّك وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ ؟ آللَّهُ أَرْسَلَك إلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ ؟ فَقَالَ : اللَّهُمَّ نَعَمْ وَذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ الصِّيَامَ وَالْحَجَّ فَقَالَ : الرَّجُلُ آمَنْت بِمَا جِئْت بِهِ وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي ؛ وَأَنَا ضِمَامُ
بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ } . هَذَانِ الطَّرِيقَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَوَّلِ الْحَجَّ ؛ بَلْ ذَكَرَ الصِّيَامَ ؛ وَالسِّيَاقُ الْأَوَّلُ أَتَمُّ ؛ وَالنَّاسُ يَجْعَلُونَ الْحَدِيثَيْنِ حَدِيثًا وَاحِدًا . وَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ رَأَى أَنَّ ذِكْرَ الْحَجِّ فِيهِ وَهْمًا لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ؛ هُمْ مِنْ هَوَازِنَ وَهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَوَازِنُ كانت مَعَهُمْ وَقْعَةُ حنين بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَسْلَمُوا كُلُّهُمْ بَعْدَ الْوَقْعَةِ وَدَفَعَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ بَعْدَ أَنْ قَسَمَهَا عَلَى الْمُعَسْكَرِ وَاسْتَطَابَ أَنْفُسَهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الزِّيَارَةُ إلَّا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ ، وَالْحَجُّ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ إذْ ذَاكَ . وَحَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ حَدِيثُ ضِمَامٍ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ . قَالَ : وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ : لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ : وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقَصُ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ } وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ
طُرُقِهِ ذِكْرُ الْحَجِّ بَلْ فِيهِ ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ كَمَا فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا " { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْته دَخَلْت الْجَنَّةَ فَقَالَ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ قَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا أَبَدًا وَلَا أَنْقَصُ مِنْهُ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إلَى هَذَا } وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضِمَامًا وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَقَطْ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ أَوْ بِزِمَامِهَا ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ يَا مُحَمَّدُ . أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنْ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ قَالَ : فَكَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ وُفِّقَ أَوْ لَقَدْ هُدِيَ ثُمَّ قَالَ : كَيْفَ قُلْت ؟ قَالَ : فَأَعَادَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي مُسْلِمٍ . وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ قوقل رَوَاهُ مُسْلِمٌ { عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَرَأَيْت إذَا
صَلَّيْت الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ وَصُمْت رَمَضَانَ وَأَحْلَلْت الْحَلَالَ وَحَرَّمْت الْحَرَامَ وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا أَدْخُلُ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا } . وَفِي لَفْظٍ " أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّعْمَانُ بْنُ قوقل . وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ هَذَا قَدِيمٌ ؛ فَإِنَّ النُّعْمَانَ بْنَ قوقل قُتِلَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ قَتَلَهُ بَعْضُ بَنِي سَعْدِ بْنِ العاص كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ خَرَجَتْ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلِينَ . أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَأَحَادِيثُ الدَّعْوَةِ وَالْقِتَالِ فِيهَا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } . وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ { قَالَ : أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ . فَكَانَ مِنْ فِقْهِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْمُخْتَصَرِ أَنَّ الْقِتَالَ عَلَى الزَّكَاةِ قِتَالٌ عَلَى حَقِّ الْمَالِ وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادَهُ بِذَلِكَ فِي اللَّفْظِ الْمَبْسُوطِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ . وَالْقُرْآنُ صَرِيحٌ فِي مُوَافَقَةِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } .
وَحَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ . فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ذَكَرَ بَعْضَ الْأَرْكَانِ دُونَ بَعْضٍ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ . فَأَجَابَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَنَّ سَبَبَ هَذَا أَنَّ الرُّوَاةَ اخْتَصَرَ بَعْضُهُمْ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا طَعْنٌ فِي الرُّوَاةِ وَنِسْبَةٌ لَهُمْ إلَى الْكَذِبِ إذْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إنَّمَا يَقَعُ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ مِثْلُ حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ حَيْثُ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ الصِّيَامَ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَحَدِيثُ ضِمَامٍ حَيْثُ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ الْخَمْسَ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ قَوقَل حَيْثُ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الصِّيَامَ ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَذْكُرْهُ فَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ أَحَدَ الرَّاوِيَيْنِ اخْتَصَرَ الْبَعْضُ أَوْ غَلِطَ فِي الزِّيَادَةِ . فَأَمَّا الْحَدِيثَانِ الْمُنْفَصِلَانِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِمَا كَذَلِكَ لَا سِيَّمَا وَالْأَحَادِيثُ قَدْ تَوَاتَرَتْ بِكَوْنِ الْأَجْوِبَةِ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً وَفِيهِمَا مَا بُيِّنَ قَطْعًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِهَذَا تَارَةً وَبِهَذَا تَارَةً وَالْقُرْآنُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ عَلَّقَ الْأُخُوَّةَ الْإِيمَانِيَّةَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَقَطْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } كَمَا أَنَّهُ عَلَّقَ تَرْكَ الْقِتَالِ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مُوَافِقًا لِهَذِهِ الْآيَةِ وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ ذَكَرَ خُمُسَ الْمَغْنَمِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً يُقَاتِلُونَ
وَمِثْلُ
هَذَا لَا يُذْكَرُ جَوَابُ سُؤَالِ سَائِلٍ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ
نَفْسِهِ وَلَكِنْ عَنْ هَذَا " جَوَابَانِ " :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ
بِحَسَبِ نُزُولِ الْفَرَائِضِ وَأَوَّلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ الشَّهَادَتَيْنِ
ثُمَّ الصَّلَاةَ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْوَحْيِ
؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ { فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ : {
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } -
إلَى قَوْلِهِ - { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ثُمَّ أُنْزِلَ
عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } { قُمْ فَأَنْذِرْ } }
فَهَذَا الْخِطَابُ إرْسَالٌ لَهُ إلَى النَّاسِ وَالْإِرْسَالُ بَعْدَ الْإِنْبَاءِ
؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ الْأَوَّلَ لَيْسَ فِيهِ إرْسَالٌ وَآخِرُ سُورَةِ اقْرَأْ {
وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } . فَأَوَّلُ السُّورَةِ أَمْرٌ بِالْقِرَاءَةِ وَآخِرُهَا
أَمْرٌ بِالسُّجُودِ وَالصَّلَاةُ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ
فَأَفْضَلُ أَقْوَالِهَا الْقِرَاءَةُ وَأَفْضَلُ أَعْمَالِهَا السُّجُودُ
وَالْقِرَاءَةُ أَوَّلُ أَقْوَالِهَا الْمَقْصُودَةِ وَمَا بَعْدَهُ تَبَعٌ لَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ
بِالْغَدَاةِ وَرَكْعَتَيْنِ بِالْعَشِيِّ ثُمَّ فُرِضَتْ الْخَمْسُ لَيْلَةَ
الْمِعْرَاجِ وَكَانَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ؛ فَلَمَّا هَاجَرَ أُقِرَّتْ
صَلَاةُ السَّفَرِ ؛ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَكَانَتْ الصَّلَاةُ تُكْمَلُ
شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَكَانُوا أَوَّلًا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ
يَكُنْ فِيهَا تَشَهُّدٌ ثُمَّ أُمِرُوا بِالتَّشَهُّدِ ؛ وَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ
الْكَلَامُ ؛ وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ لَهُمْ أَذَانٌ . وَإِنَّمَا
شُرِعَ الْأَذَانُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ؛ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ
الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ ؛ وَالْكُسُوفِ ؛ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَقِيَامِ رَمَضَانَ
وَغَيْرِ ذَلِكَ . إنَّمَا شُرِعَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ .
وَأُمِرُوا بِالزَّكَاةِ ؛ وَالْإِحْسَانِ فِي مَكَّةَ أَيْضًا ؛ وَلَكِنَّ فَرَائِضَ الزَّكَاةِ وَنُصُبَهَا إنَّمَا شُرِعَتْ بِالْمَدِينَةِ . وَأَمَّا " صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ " فَهُوَ إنَّمَا فُرِضَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَأَدْرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ رمضانات . وَأَمَّا " الْحَجُّ " فَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي وُجُوبِهِ ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ فُرِضَ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ قَالُوا : وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ وَوُجُوبِ الْعُمْرَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِتْمَامِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِابْتِدَاءِ الْفِعْلِ وَإِتْمَامِهِ . وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : إنَّمَا وَجَبَ الْحَجُّ مُتَأَخِّرًا قِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ ؛ وَقِيلَ سَنَةَ عَشْرٍ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّ آيَةَ الْإِيجَابِ إنَّمَا هِيَ قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي آلَ عِمْرَانَ فِي سِيَاقِ مُخَاطَبَتِهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ ، وَصَدْرُ آلَ عِمْرَانَ وَمَا فِيهَا مِنْ مُخَاطَبَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ نَزَلَ لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ نَجْرَانَ النَّصَارَى وَنَاظَرُوهُ فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ ؛ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ أَدَّى الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ إنْزَالِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ الَّتِي شَرَعَ فِيهَا الْجِزْيَةَ وَأَمَرَ فِيهَا بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَغَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ الَّتِي غَزَا فِيهَا النَّصَارَى لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ وُجُوبَ الْحَجِّ فِي عَامَّةِ الْأَحَادِيثِ وَإِنَّمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَأَخِّرَةِ . وَقَدْ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ وَكَانَ قُدُومُهُمْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَك هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَهْلَ نَجْدٍ : مِنْ تَمِيمٍ وَأَسَدٍ وغطفان لِأَنَّهُمْ بَيْنَ الْبَحْرِينِ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ وَعَبْدُ الْقَيْسِ هُمْ مِنْ رَبِيعَةَ لَيْسُوا مِنْ مُضَرَ وَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ زَالَ هَذَا الْخَوْفُ وَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ؛ وَصِيَامِ رَمَضَانَ ؛ وَخُمُسِ الْمَغْنَمِ ؛ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْحَجِّ وَحَدِيثُ ضِمَامَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْحَجَّ كَمَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي حَدِيثِ طَلْحَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا مَعَ قَوْلِهِمْ : إنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ هِيَ مِنْ قِصَّةِ ضِمَامٍ وَهَذَا مُمْكِنٌ ؛ مَعَ أَنَّ تَارِيخَ قُدُومِ ضِمَامٍ هَذَا لَيْسَ مُتَيَقَّنًا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا الْأَمْرُ بِإِتْمَامِ ذَلِكَ وَذَلِكَ يُوجِبُ إتْمَامَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ دَخَلَ فِيهِ فَنَزَلَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ لَمَّا أَحْرَمُوا بِالْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ أُحْصِرُوا فَأُمِرُوا بِالْإِتْمَامِ وَبَيَّنَ لَهُمْ حُكْمَ الْإِحْصَارِ وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ لَا عُمْرَةٌ وَلَا حَجٌّ . ( الْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَا يُنَاسِبُهُ فَيَذْكُرُ تَارَةً الْفَرَائِضَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي تُقَاتَلُ عَلَى تَرْكِهَا الطَّائِفَةُ الْمُمْتَنِعَةُ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ
وَيُذْكَرُ تَارَةً مَا يَجِبُ عَلَى السَّائِلِ فَمَنْ أَجَابَهُ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ يُؤَدِّيهَا وَمَنْ أَجَابَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي مِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَنَحْوِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ مِمَّنْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ فَلَهُمَا شَأْنٌ لَيْسَ لِسَائِرِ الْفَرَائِضِ ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْقِتَالَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ ؛ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ وَهُوَ مِمَّا ائتمن عَلَيْهِ النَّاسُ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَلَّا يَنْوِيَ الصَّوْمَ وَأَنْ يَأْكُلَ سِرًّا كَمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتُمَ حَدَثَهُ وَجَنَابَتَهُ وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ فَأَمْرٌ ظَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ . وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ فِي الْإِسْلَامِ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي يُقَاتَلُ عَلَيْهَا النَّاسُ وَيَصِيرُونَ مُسْلِمِينَ بِفِعْلِهَا ؛ فَلِهَذَا عَلَّقَ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ دُونَ الصِّيَامِ وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ وَاجِبًا كَمَا فِي آيَتَيْ بَرَاءَةٌ فَإِنَّ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ فَرْضِ الصِّيَامِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . وَكَذَلِكَ { لَمَّا بَعَثَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ : إنَّك تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ ؛ فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ : شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوك لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ ؛ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ
فَإِيَّاكَ
وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَمُعَاذٌ
أَرْسَلَهُ إلَى الْيَمَنِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ فَرْضِ الصِّيَامِ ؛ بَلْ
بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بَلْ بَعْدَ تَبُوكَ وَبَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ
وَالْجِزْيَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ
وَمُعَاذٌ بِالْيَمَنِ وَإِنَّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ وَلَمْ
يَذْكُرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصِّيَامَ لِأَنَّهُ تَبَعٌ وَهُوَ بَاطِنٌ وَلَا
ذَكَرَ الْحَجَّ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ خَاصٌّ لَيْسَ بِعَامِّ وَهُوَ لَا يَجِبُ
فِي الْعُمُرِ إلَّا مَرَّةً .
وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي تَكْفِيرِ مَنْ يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ
هَذِهِ " الْفَرَائِضِ الْأَرْبَعِ " بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا
؛ فَأَمَّا " الشَّهَادَتَانِ " إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِمَا مَعَ
الْقُدْرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ كَافِرٌ بَاطِنًا
وَظَاهِرًا عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَجَمَاهِيرِ عُلَمَائِهَا
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَهُمْ جهمية الْمُرْجِئَةِ : كَجَهْمِ
وَالصَّالِحِيَّ وَأَتْبَاعِهِمَا إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ
كَانَ كَافِرًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ
عَلَى أَصْلِ هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ
يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْبَاطِنَ
يَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ الظَّاهِرَ ؛ بَلْ وَغَيْرَهُ وَأَنَّ وُجُودَ
الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ تَصْدِيقًا وَحُبًّا وَانْقِيَادًا بِدُونِ الْإِقْرَارِ
الظَّاهِرِ مُمْتَنِعٌ . وَأَمَّا " الْفَرَائِضُ الْأَرْبَعُ " فَإِذَا
جَحَدَ وُجُوبَ شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ بُلُوغِ الْحُجَّةِ
فَهُوَ
كَافِرٌ وَكَذَلِكَ مَنْ جَحَدَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ
الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرُ تَحْرِيمُهَا كَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ
وَالْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ
مِثْلَ أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةِ
بَعِيدَةٍ لَمْ تَبْلُغْهُ فِيهَا شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوْ
غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يُسْتَثْنَوْنَ
مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَمَا غَلِطَ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ اسْتَتَابَهُمْ
عُمَرُ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يُسْتَتَابُونَ وَتُقَامُ الْحُجَّةُ
عَلَيْهِمْ فَإِنْ أَصَرُّوا كَفَرُوا حِينَئِذٍ وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِمْ
قَبْلَ ذَلِكَ ؛ كَمَا لَمْ يَحْكُمْ الصَّحَابَةُ بِكُفْرِ قدامة بْنِ مَظْعُونٍ
. وَأَصْحَابِهِ لَمَّا غَلِطُوا فِيمَا غَلِطُوا فِيهِ مِنْ التَّأْوِيلِ .
وَأَمَّا مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْوُجُوبِ إذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ
الْأَرْبَعَةِ فَفِي التَّكْفِيرِ أَقْوَالٌ لِلْعُلَمَاءِ هِيَ رِوَايَاتٌ عَنْ
أَحْمَد :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَكْفُرُ بِتَرْكِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ حَتَّى
الْحَجِّ وَإِنْ كَانَ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ
فَمَتَى عَزَمَ عَلَى تَرْكِهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَفَرَ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ
مِنْ السَّلَفِ وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا أَبُو
بَكْرٍ
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَعَ
الْإِقْرَارِ بِالْوُجُوبِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ
الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ
إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا ابْنُ بَطَّةَ وَغَيْرُهُ .
وَالثَّالِثُ : لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَ ( الرَّابِعُ : يَكْفُرُ بِتَرْكِهَا وَتَرْكِ الزَّكَاةِ فَقَطْ . وَ ( الْخَامِسُ : بِتَرْكِهَا وَتَرْكِ الزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا دُونَ تَرْكِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا طَرَفَانِ . ( أَحَدُهُمَا فِي إثْبَاتِ الْكُفْرِ الظَّاهِرِ . وَ ( الثَّانِي فِي إثْبَاتِ الْكُفْرِ الْبَاطِنِ . فَأَمَّا " الطَّرَفُ الثَّانِي " فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةِ كَوْنِ الْإِيمَانِ قَوْلًا وَعَمَلًا كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إيمَانًا ثَابِتًا فِي قَلْبِهِ بِأَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ وَيَعِيشُ دَهْرَهُ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً وَلَا يَصُومُ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا يُؤَدِّي لِلَّهِ زَكَاةً وَلَا يَحُجُّ إلَى بَيْتِهِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَلَا يَصْدُرُ هَذَا إلَّا مَعَ نِفَاقٍ فِي الْقَلْبِ وَزَنْدَقَةٍ لَا مَعَ إيمَانٍ صَحِيحٍ ؛ وَلِهَذَا إنَّمَا يَصِفُ سُبْحَانَهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ السُّجُودِ الْكُفَّارَ كَقَوْلِهِ : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ } { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمَا فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ حَدِيثِ التَّجَلِّي { أَنَّهُ إذَا تَجَلَّى تَعَالَى لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَجَدَ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ وَبَقِيَ ظَهْرُ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً مِثْلَ الطَّبَقِ لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ } فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ مَنْ سَجَدَ رِيَاءً فَكَيْفَ حَالُ مَنْ لَمْ يَسْجُدْ قَطُّ وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّارَ تَأْكُلُ مِنْ ابْنِ آدَمَ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا مَوْضِعَ السُّجُودِ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَهُ } فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَسْجُدُ لِلَّهِ تَأْكُلُهُ النَّارُ كُلَّهُ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُ أُمَّتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ غُرًّا مُحَجَّلًا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَكُونُ مِنْ أُمَّتِهِ . وقَوْله تَعَالَى { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إنَّكُمْ مُجْرِمُونَ } { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ } { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } وقَوْله تَعَالَى { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ } { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى } { وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } { قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } { وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ } { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } { حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } فَوَصَفَهُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ كَمَا وَصَفَهُ بِتَرْكِ التَّصْدِيقِ وَوَصَفَهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالتَّوَلِّي وَ " الْمُتَوَلِّي " هُوَ الْعَاصِي الْمُمْتَنِعُ مِنْ الطَّاعَةِ ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } . وَكَذَلِكَ وَصَفَ أَهْلَ سَقَرٍ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُصَلِّينَ وَكَذَلِكَ قَرَنَ التَّكْذِيبَ بِالتَّوَلِّي فِي قَوْلِهِ : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى } { عَبْدًا إذَا صَلَّى } { أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى } { أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى } { أَرَأَيْتَ إنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } { كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ } { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } . وَ " أَيْضًا " فِي الْقُرْآنِ عَلَّقَ الْأُخُوَّةَ فِي الدِّينِ عَلَى نَفْسِ إقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ كَمَا عَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ الْكُفْرِ فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ انْتَفَتْ الْأُخُوَّةُ وَ " أَيْضًا " فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ } . وَفِي الْمُسْنَدِ { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ } . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ شِعَارَ الْمُسْلِمِينَ الصَّلَاةُ وَلِهَذَا يُعَبِّرُ عَنْهُمْ بِهَا فَيُقَالُ : اخْتَلَفَ أَهْلُ الصَّلَاةِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَالْمُصَنِّفُونَ لِمَقَالَاتِ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ : " مَقَالَاتُ الْإِسْلَامِيِّينَ وَاخْتِلَافُ الْمُصَلِّينَ " وَفِي الصَّحِيحِ { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا ؛ وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا ؛ وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا ؛ فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ لَهُ مَا لَنَا ؛ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا } وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَكْفُرُوا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا ؛ فَلَيْسَتْ لَهُمْ حُجَّةٌ إلَّا وَهِيَ
مُتَنَاوِلَةٌ لِلْجَاحِدِ كَتَنَاوُلِهَا لِلتَّارِكِ فَمَا كَانَ جَوَابُهُمْ عَنْ الْجَاحِدِ كَانَ جَوَابًا لَهُمْ عَنْ التَّارِكِ ؛ مَعَ أَنَّ النُّصُوصَ عَلَّقَتْ الْكُفْرَ بِالتَّوَلِّي كَمَا تَقَدَّمَ ؛ وَهَذَا مِثْلُ اسْتِدْلَالِهِمْ بالعمومات الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْمُرْجِئَةُ كَقَوْلِهِ { مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٍ مِنْهُ . . . أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ . وَأَجْوَدُ مَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ . فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ . وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ } . قَالُوا : فَقَدْ جَعَلَ غَيْرَ الْمُحَافِظِ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ . وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا ؛ فَإِنَّ الْوَعْدَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَالْمُحَافَظَةُ فِعْلُهَا فِي أَوْقَاتِهَا كَمَا أَمَرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } وَعَدَمُ الْمُحَافَظَةِ يَكُونُ مَعَ فِعْلِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ كَمَا أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } فَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ : مَا إضَاعَتُهَا ؟ فَقَالَ : تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا فَقَالُوا : مَا كُنَّا نَظُنُّ ذَلِكَ إلَّا تَرْكَهَا فَقَالَ : لَوْ تَرَكُوهَا لَكَانُوا كُفَّارًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ }
ذَمَّهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ ؛ لِأَنَّهُمْ سَهَوْا عَنْ حُقُوقِهَا الْوَاجِبَةِ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ وَإِتْمَامِ أَفْعَالِهَا الْمَفْرُوضَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } فَجَعَلَ هَذِهِ صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ لِكَوْنِهِ أَخَّرَهَا عَنْ الْوَقْتِ وَنَقَرَهَا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْأُمَرَاءَ بَعْدَهُ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا يُنْكَرُ ؛ وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ قَالَ : لَا مَا صَلَّوْا } وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { سَيَكُونُ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } فَنَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ إذَا صَلَّوْا وَكَانَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يُصَلُّوا قُوتِلُوا وَبَيْنَ أَنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا وَذَلِكَ تَرْكُ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا لَا تَرْكُهَا . وَإِذَا عُرِفَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَدْخَلَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَا مَنْ تَرَكَ وَنَفْسُ الْمُحَافَظَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ صَلَّوْا وَلَمْ يُحَافِظُوا عَلَيْهَا وَلَا يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يُحَافِظْ فَإِنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَ ذَلِكَ قُتِلُوا كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ بِلَا رَيْبٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَادَةِ أَنَّ رَجُلًا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ مُقِرًّا بِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ مُلْتَزِمًا لِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ يَأْمُرُهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ فَيَمْتَنِعُ حَتَّى يُقْتَلَ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ قَطُّ لَا يَكُونُ إلَّا كَافِرًا وَلَوْ قَالَ أَنَا مُقِرٌّ بِوُجُوبِهَا غَيْرَ أَنِّي لَا أَفْعَلُهَا
كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ كَذِبًا مِنْهُ كَمَا لَوْ أَخَذَ يُلْقِي الْمُصْحَفَ فِي الْحَشِّ وَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّ مَا فِيهِ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ جَعَلَ يَقْتُلُ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُنَافِي إيمَانَ الْقَلْبِ فَإِذَا قَالَ أَنَا مُؤْمِنٌ بِقَلْبِي مَعَ هَذِهِ الْحَالِ كَانَ كَاذِبًا فِيمَا أَظْهَرَهُ مِنْ الْقَوْلِ . فَهَذَا الْمَوْضِعُ يَنْبَغِي تَدَبُّرُهُ فَمَنْ عَرَفَ ارْتِبَاطَ الظَّاهِرِ بِالْبَاطِنِ زَالَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالْوُجُوبِ وَامْتَنَعَ عَنْ الْفِعْلِ لَا يُقْتَلُ أَوْ يُقْتَلُ مَعَ إسْلَامِهِ ؛ فَإِنَّهُ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الشُّبْهَةُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَاَلَّتِي دَخَلَتْ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ لَا يَكُونُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْفِعْلِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُمْتَنِعُونَ مِنْ قَتْلِ هَذَا مِنْ الْفُقَهَاءِ بَنَوْهُ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " وَأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جِنْسَ الْأَعْمَالِ مِنْ لَوَازِمِ إيمَانِ الْقَلْبِ وَأَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ التَّامِّ بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ مُمْتَنِعٌ سَوَاءٌ جَعَلَ الظَّاهِرَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ أَوْ جُزْءًا مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَفْعَلُ بَعْضَ الْمَأْمُورَاتِ وَيَتْرُكُ بَعْضَهَا كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِحَسَبِ مَا فَعَلَهُ وَالْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَيَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ . كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اُئْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } .
وَبِهَذَا
تَزُولُ الشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ ؛ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ لَا يَكُونُونَ مُحَافِظِينَ عَلَى
الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَا هُمْ تَارِكُوهَا بِالْجُمْلَةِ بَلْ يُصَلُّونَ
أَحْيَانًا وَيَدَعُونَ أَحْيَانًا فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ
وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ فِي الْمَوَارِيثِ
وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إذَا جَرَتْ عَلَى
الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ - كَابْنِ أبي وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ -
فَلَأَنْ تَجْرِيَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَبَيَانُ " هَذَا
الْمَوْضِعِ " مِمَّا يُزِيلُ الشُّبْهَةَ : فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ
الْفُقَهَاءِ يَظُنُّ أَنَّ مَنْ قِيلَ هُوَ كَافِرٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ
تَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ رِدَّةً ظَاهِرَةً فَلَا يَرِثُ وَلَا
يُورَثُ وَلَا يُنَاكَحُ حَتَّى أَجْرَوْا هَذِهِ الْأَحْكَامَ عَلَى مَنْ
كَفَّرُوهُ بِالتَّأْوِيلِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛
فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا " ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ "
: مُؤْمِنٌ ؛ وَكَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ وَمُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِسْلَامِ
مُبْطِنٌ لِلْكُفْرِ . وَكَانَ فِي الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَعْلَمُهُ النَّاسُ
بِعَلَامَاتِ وَدَلَالَاتٍ بَلْ مَنْ لَا يَشُكُّونَ فِي نِفَاقِهِ وَمَنْ نَزَلَ
الْقُرْآنُ بِبَيَانِ نِفَاقِهِ - كَابْنِ أبي وَأَمْثَالِهِ - وَمَعَ هَذَا
فَلَمَّا مَاتَ هَؤُلَاءِ وَرِثَهُمْ وَرَثَتُهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَكَانَ إذَا
مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ آتَوْهُمْ مِيرَاثَهُ وَكَانَتْ تُعْصَمُ دِمَاؤُهُمْ حَتَّى
تَقُومَ السُّنَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى أَحَدِهِمْ بِمَا يُوجِبُ عُقُوبَتَهُ.
وَلَمَّا خَرَجَتْ الحرورية عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَاعْتَزَلُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لَهُمْ : إنَّ لَكُمْ
عَلَيْنَا أَلَّا نَمْنَعَكُمْ الْمَسَاجِدَ وَلَا نَمْنَعَكُمْ نَصِيبَكُمْ مِنْ
الْفَيْءِ فَلَمَّا اسْتَحَلُّوا قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ
قَاتَلَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛
حَيْثُ
قَالَ : { يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ
صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا
يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ
مِنْ الرَّمْيَةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ
أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . فَكَانَتْ
الحرورية قَدْ ثَبَتَ قِتَالُهُمْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ أَصْحَابِهِ وَلَمْ يَكُنْ قِتَالُهُمْ قِتَالَ فِتْنَةٍ
كَالْقِتَالِ الَّذِي جَرَى بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ فِي الْمُسْلِمِينَ ؛
بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ { قَالَ لِلْحَسَنِ
ابْنِهِ : إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ
عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : {
تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَتَقْتُلُهُمْ
أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مَا
فَعَلَهُ الْحَسَنُ مِنْ تَرْكِ الْقِتَالِ إمَّا وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا لَمْ
يَمْدَحْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ
أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَدَلَّ الْحَدِيثُ الْآخَرُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ قَاتَلُوا
الْخَوَارِجَ وَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِنْ
مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ ؛ وَأَنَّ قِتَالَ الْخَوَارِجِ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ قِتَالُهُمْ كَالْقِتَالِ فِي الْجَمَلِ
وصفين الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ مِنْ النَّبِيِّ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ
لَمْ يَحْكُمُوا بِكُفْرِهِمْ وَلَا قَاتَلُوهُمْ حَتَّى بَدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ.
وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ
وَتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ وَمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا مَنْ حُكِيَ عَنْهُ
فِي ذَلِكَ " قَوْلَانِ "
كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَصَارَ بَعْضُ أَتْبَاعِهِمْ يَحْكِي هَذَا النِّزَاعَ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْبِدَعِ ؛ وَفِي تَخْلِيدِهِمْ حَتَّى الْتَزَمَ تَخْلِيدَهُمْ كُلُّ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ بِعَيْنِهِ وَفِي هَذَا مِنْ الْخَطَأِ مَا لَا يُحْصَى ؛ وَقَابَلَهُ بَعْضُهُمْ فَصَارَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ كُفْرُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ؛ وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَتَوْا مِنْ الْإِلْحَادِ وَأَقْوَالِ أَهْلِ التَّعْطِيلِ وَالِاتِّحَادِ . وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا كَمَقَالَاتِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ كُفْرٌ فَيُطْلِقُ الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِ الْقَائِلِ ؛ كَمَا قَالَ السَّلَفُ مَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَا يَكْفُرُ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ كَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ . وَالزَّكَاةَ وَاسْتَحَلَّ الْخَمْرَ ؛ وَالزِّنَا وَتَأَوَّلَ . فَإِنَّ ظُهُورَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْ ظُهُورِ هَذِهِ فَإِذَا كَانَ الْمُتَأَوِّلُ الْمُخْطِئُ فِي تِلْكَ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ إلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ لَهُ وَاسْتِتَابَتِهِ - كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ فِي الطَّائِفَةِ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا الْخَمْرَ - فَفِي غَيْرِ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ . { فِي الَّذِي قَالَ : إذَا أَنَا مت فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ } وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لِهَذَا مَعَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِعَادَتِهِ إذَا حَرَقُوهُ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَإِنْ
قِيلَ : فَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي
آيَتَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ فَإِذَا كَانَ الْمُنَافِقُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ
الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ مُجَاهَدَتُهُ ؟.
قِيلَ مَا يَسْتَقِرُّ فِي الْقَلْبِ مِنْ إيمَانٍ وَنِفَاقٍ لَا بُدَّ أَنْ
يَظْهَرَ مُوجِبُهُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَا
أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إلَّا أَبْدَاهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ
وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ : {
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } . فَإِذَا أَظْهَرَ الْمُنَافِقُ مِنْ
تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ
الْعُقُوبَةَ عُوقِبَ عَلَى الظَّاهِرِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ
بَاطِنِهِ بِلَا حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ عَرَّفَهُ اللَّهُ بِهِمْ
وَكَانُوا يَحْلِفُونَ لَهُ وَهُمْ كَاذِبُونَ ؛ وَكَانَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ
وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ . وَأَسَاسَ النِّفَاقِ الَّذِي بَنَى
عَلَيْهِ أَنَّ الْمُنَافِقَ لَا بُدَّ أَنْ تَخْتَلِفَ سَرِيرَتُهُ
وَعَلَانِيَتُهُ وَظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ وَلِهَذَا يَصِفُهُمْ اللَّهُ فِي
كِتَابِهِ بِالْكَذِبِ كَمَا يَصِفُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّدْقِ ؛ قَالَ تَعَالَى
: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } . وَقَالَ : {
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } . وَأَمْثَالُ هَذَا
كَثِيرٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَالَ : { لَيْسَ الْبِرَّ
أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } - إلَى قَوْلِهِ -
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } . وَ "
بِالْجُمْلَةِ " فَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْكُفْرَ
" نَوْعَانِ " : كُفْرٌ ظَاهِرٌ
وَكُفْرُ نِفَاقٍ فَإِذَا تَكَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ كَانَ حُكْمُ الْمُنَافِقِ حُكْمَ الْكُفَّارِ وَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَقَدْ تَجْرِي عَلَى الْمُنَافِقِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الدِّينَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقَلْبِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَلَمْ يُؤَدِّ وَاجِبًا ظَاهِرًا وَلَا صَلَاةً وَلَا زَكَاةً وَلَا صِيَامًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لَا لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَهَا مِثْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ أَوْ يُصَدِّقَ الْحَدِيثَ أَوْ يَعْدِلَ فِي قَسَمِهِ وَحُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ إيمَانٍ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ مِنْ الْكُفْرِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ يَرَوْنَ وُجُوبَ هَذِهِ الْأُمُورِ فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِإِيجَابِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَنْ قَالَ : بِحُصُولِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ بِدُونِ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ سَوَاءٌ جَعَلَ فِعْلَ تِلْكَ الْوَاجِبَاتِ لَازِمًا لَهُ ؛ أَوْ جُزْءًا مِنْهُ فَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ كَانَ مُخْطِئًا خَطَأً بَيِّنًا وَهَذِهِ بِدْعَةُ الْإِرْجَاءِ الَّتِي أَعْظَمَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ الْكَلَامَ فِي أَهْلِهَا وَقَالُوا فِيهَا مِنْ الْمَقَالَاتِ الْغَلِيظَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَالصَّلَاةُ هِيَ أَعْظَمُهَا وَأَعَمُّهَا وَأَوَّلُهَا وَأَجَلُّهَا .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا " الْإِحْسَانُ " فَقَوْلُهُ : { أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ
كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك } . قَدْ قِيلَ :
إنَّ الْإِحْسَانَ هُوَ الْإِخْلَاصُ وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْإِحْسَانَ
يَتَنَاوَلُ الْإِخْلَاصَ وَغَيْرَهُ وَالْإِحْسَانُ يَجْمَعُ كَمَالَ
الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَيَجْمَعُ الْإِتْيَانَ بِالْفِعْلِ الْحَسَنِ الَّذِي
يُحِبُّهُ اللَّهُ قَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ
وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } فَذَكَرَ إحْسَانَ الدِّينِ أَوَّلًا
ثُمَّ ذَكَرَ الْإِحْسَانَ ثَانِيًا فَإِحْسَانُ الدِّينِ هُوَ - وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ - الْإِحْسَانُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ فَإِنَّهُ
سَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ ؛ فَفِي . . . (1)
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَدْ ذَكَرْت فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَوَاعِدِ : أَنَّ " الْإِسْلَامَ
" الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ ؛ وَأَرْسَلَ
بِهِ رُسُلَهُ ؛ وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؛
فَيَسْتَسْلِمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَكُونُ سَالِمًا لَهُ
بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَأَلِّهًا لَهُ غَيْرَ مُتَأَلِّهٍ لِمَا سِوَاهُ كَمَا
بَيَّنَتْهُ أَفْضَلُ الْكَلَامِ وَرَأْسُ الْإِسْلَامِ : وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ
لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَلَهُ ضِدَّانِ : الْكِبْرُ وَالشِّرْكُ وَلِهَذَا
رُوِيَ { أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بَنِيهِ بِلَا إلَهِ إلَّا
اللَّهُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ الْكِبْرِ وَالشِّرْكِ } فِي
حَدِيثٍ قَدْ ذَكَرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ الْمُسْتَكْبِرَ عَنْ
عِبَادَةِ اللَّهِ لَا يَعْبُدُهُ فَلَا يَكُونُ مُسْتَسْلِمًا لَهُ وَاَلَّذِي
يَعْبُدُهُ وَيَعْبُدُ غَيْرَهُ يَكُونُ مُشْرِكًا بِهِ فَلَا يَكُونُ سَالِمًا
لَهُ بَلْ يَكُونُ لَهُ فِيهِ شِرْكٌ . وَلَفْظُ " الْإِسْلَامِ " يَتَضَمَّنُ
الِاسْتِسْلَامَ وَالسَّلَامَةَ الَّتِي هِيَ الْإِخْلَاصُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ
الرُّسُلَ جَمِيعَهُمْ بُعِثُوا بِالْإِسْلَامِ الْعَامِّ الْمُتَضَمِّنِ لِذَلِكَ
كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا }
وَقَالَ مُوسَى : { إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ
كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ
لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ } وَقَالَ الْخَلِيلُ لَمَّا قَالَ لَهُ رَبُّهُ : { أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } - أَيْضًا وَصَّى بِهَا بَنِيهِ - { يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ يُوسُفُ : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا } وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَعُلِمَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ هُوَ إمَامُ الْحُنَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ كَمَا جَعَلَهُ أُمَّةً وَإِمَامًا وَجَاءَتْ الرُّسُلُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ بِذَلِكَ فَابْتَدَعَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مَا ابْتَدَعُوهُ مِمَّا خَرَجَ بِهِمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ وَلِهَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَقُولَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } وَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ خَرَجَتْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَغَلَبَ عَلَيْهَا أَحَدُ ضِدَّيْهِ فَالْيَهُودُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الْكِبْرُ وَيَقِلُّ فِيهِمْ الشِّرْكُ وَالنَّصَارَى يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الشِّرْكُ وَيَقِلُّ فِيهِمْ الْكِبْرُ . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ فِي الْيَهُودِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ } . وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ . إلَى قَوْلِهِ : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } . وَهَذَا اللَّفْظُ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ ؛ هُوَ إنْكَارٌ لِذَلِكَ عَلَيْهِمْ . وَذَمٌّ لَهُمْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُذَمُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوهُ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى
أَنْفُسُهُمْ اسْتَكْبَرُوا فَيَقْتُلُونَ فَرِيقًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَيُكَذِّبُونَ فَرِيقًا ؛ وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَكْبِرِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مَا لَا يَهْوَاهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ فَسَّرَ الْكِبْرَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِأَنَّهُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ . قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَاكَ ؟ فَقَالَ : لَا إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ وَلَكِنَّ الْكِبْرَ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } وَبَطَرُ الْحَقِّ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ وَغَمْطُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ " الْكِبْرَ " فِي قَوْلِهِ بَعْدَ أَنْ قَالَ : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } إلَى أَنْ قَالَ : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } . وَهَذَا حَالُ الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ بَلْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَهُوَ الْغَاوِي كَمَا قَالَ : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } الْآيَةَ وَهَذَا مِثْلُ عُلَمَاءِ السُّوءِ وَقَدْ قَالَ لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَيْهِمْ : { وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } فَاَلَّذِينَ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ ؛ خِلَافُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } .
فَأُولَئِكَ الْمُسْتَكْبِرُونَ الْمُتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ مَصْرُوفُونَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ لَمَّا تَرَكُوا الْعَمَلَ بِمَا عَلِمُوهُ اسْتِكْبَارًا وَاتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ عُوقِبُوا بِأَنْ مُنِعُوا الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ حَرْبٌ لِلْمُتَعَالِي كَمَا أَنَّ السَّيْلَ حَرْبٌ لِلْمَكَانِ الْعَالِي وَاَلَّذِينَ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوهُ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ عِلْمًا وَرَحْمَةً إذْ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وَلِهَذَا لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ النَّصَارَى : { بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا } . وَالرُّهْبَانُ : مِنْ الرَّهْبَنَةِ { وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } كَانُوا بِذَلِكَ أَقْرَبَ مَوَدَّةً إلَى الَّذِينَ آمَنُوا . كَمَا قَالَ : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } . فَلَمَّا كَانَ فِيهِمْ رَهْبَةٌ وَعَدَمُ كِبْرٍ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْهُدَى فَقَالَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَعَ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ وَهُمْ الْأُمَّةُ الشُّهَدَاءُ فَإِنَّ النَّصَارَى لَهُمْ قَصْدٌ وَعِبَادَةٌ وَلَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ وَشَهَادَةٌ ؛ وَلِهَذَا فَإِنْ كَانَ الْيَهُودُ شَرًّا مِنْهُمْ ؛ بِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ كِبْرًا وَأَقَلُّ رَهْبَةً وَأَعْظَمُ قَسْوَةً فَإِنَّ النَّصَارَى شَرٌّ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ أَعْظَمُ ضَلَالًا وَأَكْثَرُ شِرْكًا وَأَبْعَدُ عَنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِالشِّرْكِ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ كَمَا وَصَفَ الْيَهُودَ بِالْكِبْرِ الَّذِي هَوُوهُ فَقَالَ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } إلَى قَوْلِهِ : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } الْآيَةَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قَوْلَهُمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَقَوْلُهُمْ : اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ؛ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ وَبَيَّنَ عَظِيمَ فِرْيَتِهِمْ وَشَتْمَهُمْ لِلَّهِ وَقَوْلَهُمْ " الْإِدُّ " الَّذِي : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا } وَلِهَذَا يَدْعُوهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ إلَى أَلَّا يَعْبُدُوا إلَّا إلَهًا وَاحِدًا كَقَوْلِهِ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } إلَى قَوْلِهِ { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا } وَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِمَخْلُوقِ مِنْ الْبَشَرِ أَوْ غَيْرَهُمْ يَصِيرُونَ هُمْ مُشْرِكُونَ . وَيَصِيرُ الَّذِي أَشْرَكُوا بِهِ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مُسْتَكْبِرًا كَمَا قَالَ : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ عِبَادَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَإِنْ أَشْرَكَ بِهِمْ الْمُشْرِكُونَ . وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلَّا إلَهٌ وَاحِدٌ } إلَى قَوْلِهِ : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ كَمَا فَعَلُوهُ . وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ دِينِ الْيَهُودِ الْكِبْرَ عَاقَبَهُمْ بِالذِّلَّةِ : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا } . وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ دِينِ النَّصَارَى الْإِشْرَاكَ لِتَعْدِيدِ الطُّرُقِ إلَى اللَّهِ أَضَلَّهُمْ عَنْهُ ؛ فَعُوقِبَ كُلٌّ مِنْ الْأُمَّتَيْنِ عَلَى مَا اجْتَرَمَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } . كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { يُحْشَرُ الْجَبَّارُونَ والمتكبرون يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُوَرِ الذَّرِّ يَطَؤُهُمْ النَّاسُ بِأَرْجُلِهِمْ } . وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا : { مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا فِي رَأْسِهِ حِكْمَةٌ فَإِنْ تَوَاضَعَ قِيلَ لَهُ : انْتَعِشْ نَعَشَك اللَّهُ وَإِنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قِيلَ لَهُ : انْتَكِسْ نَكَسَك اللَّهُ } . وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ } { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ } . وَلِهَذَا اسْتَوْجَبُوا الْغَضَبَ وَالْمَقْتَ . وَالنَّصَارَى لَمَّا دَخَلُوا فِي الْبِدَعِ : أَضَلَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَضَّلُوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَهُمْ إنَّمَا ابْتَدَعُوهَا لِيَتَقَرَّبُوا بِهَا إلَيْهِ وَيَعْبُدُوهُ فَأَبْعَدَتْهُمْ عَنْهُ وَأَضَلَّتْهُمْ عَنْهُ وَصَارُوا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ .
فَتَدَبَّرْ
هَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَهْدِينَا صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ . وَقَدْ
وَصَفَ بَعْضَ الْيَهُودِ بِالشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } وَفِي قَوْلِهِ : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ
مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ
وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } فَفِي
الْيَهُودِ مَنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ وَعَبَدَ الْبَشَرَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ
الْمُسْتَكْبِرَ عَنْ الْحَقِّ يُبْتَلَى بِالِانْقِيَادِ لِلْبَاطِلِ فَيَكُونُ
الْمُسْتَكْبِرُ مُشْرِكًا كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ :
أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ اسْتِكْبَارِهِمْ وَجُحُودِهِمْ مُشْرِكِينَ فَقَالَ عَنْ
مُؤْمِنِ آلَ فِرْعَوْنَ : { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ
وَتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ } { تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ
بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ
} { لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي
الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ } . وَقَالَ : { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ
قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ } الْآيَةَ . وَقَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ لَهُمْ : { يَا
صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ
إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ
الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي
نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَكُونُ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مُشْرِكِينَ ؟ وَقَدْ أَخْبَرَ
اللَّهُ عَنْ فِرْعَوْنَ
أَنَّهُ جَحَدَ الْخَالِقَ فَقَالَ : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي } وَقَالَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وَقَالَ عَنْ قَوْمِهِ : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } وَالْإِشْرَاكُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ مُقِرٍّ بِاَللَّهِ وَإِلَّا فَالْجَاحِدُ لَهُ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ . قِيلَ : لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ جُحُودَ الصَّانِعِ إلَّا عَنْ فِرْعَوْنَ مُوسَى وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ يُوسُفَ فَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِاَللَّهِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ بِهِ وَلِهَذَا كَانَ خِطَابُ يُوسُفَ لِلْمَلِكِ وَلِلْعَزِيزِ وَلَهُمْ : يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ كَقَوْلِهِ : { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ } إلَى قَوْلِهِ { إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } { وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَدْ قَالَ مُؤْمِنُ آلَ - حم - { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا } فَهَذَا يَقْتَضِي : أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ يُوسُفُ كَانُوا يُقِرُّونَ بِاَللَّهِ . وَلِهَذَا كَانَ إخْوَةُ يُوسُفَ يُخَاطِبُونَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّهُ يُوسُفُ وَيَظُنُّونَهُ مِنْ آلَ فِرْعَوْنَ بِخِطَابِ يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ بِالصَّانِعِ كَقَوْلِهِمْ : { تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } وَقَالَ لَهُمْ : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } وَقَالَ : { مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ } وَقَالُوا لَهُ :
==========
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق