ج 47. و48..مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)
47. مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)
اولا اعرض الواجهة الصحيحة للطلاق للعدة ثم نستأنف فتوي ابن تيمية
قلت المدون نماذج من حيود العلماء عن الحق في فتاواهم الفقهية لانصرافهم عن إعمال عنصر التراخي الزمني بين السورتين (سورة البقرة المنزلة في العام 1و2 هجري) ،، (وسورة الطلاق المنزلة في العام 5 هجري) وسهولة الرد علي تلك الفتاوي بدون تكلف وتأويل وتحوير
نماذج من حيود العلماء عن الحق في فتاواهم الفقهية لانصرافهم عن إعمال عنصر التراخي الزمني بين السورتين (سورة البقرة المنزلة في العام 1و2 هجري) ،، (وسورة الطلاق المنزلة في العام 5 هجري) وسهولة الرد علي تلك الفتاوي بدون تكلف وتأويل وتحوير
السؤال هو في حكم الطلاق في حالة الغضب:
س :/ امرأة مسلمة قال لها زوجها كثيرا وهو في حالة غضب شديد أنت طالق فما حكم ذلك خاصة وهم لديهم أطفال ؟.
ج:/(في حالة تشريع سورة الطلاق المنزل في العام 5 هـ بعد نسخ أحكام الطلاق السابقة بالتبديل التي سادت زمانا في سورة البقرة والمنزلة في العام (1و2 هـ) الرد: هو : لا طلاق أصلاً قد حدث لأن الله تعالي قد رَحَّل موضع التطليق لنهاية العدة وكلف كل عازمٍ علي الطلاق أن يُحْصِي عدة قدرها :
1.ثلاثة قروء لأمرأته التي تحيض وهي عدة ذوات الأقراء والتي تمددت ضمناً من سورة البقرة1و2 هـ الي تشريع أحكام العدد في سورة الطلاق 5 هـ لسكوت الله تعالي عن ذكرها وهي ممن لم ينسخ فيها من سورة البقرة إلا تبديل موضع العدة من الطلاق فبعد أن كان طلاقاً ثم عدة قدرها ثلاثة قروء في سورة البقرة تبدلت في سورة الطلاق الي عدة قدرها ثلاثة قروء في سورة الطلاق ثم تطليق ثم تفريق ثم إشهاد ==
الجزء السابع من سؤال وجواب في الطلاق زيادة يوم 18-8-2021 ..الشهادة في الطلاق
س1 / ما الحكم إذا جامع الرجل زوجته في عدة الطلاق دون نية لرجوعها ؟
ج1 / العدة الموجودة سابقا في طلاق سورة البقرة2هـ هي عد استبراء وتتميز بأنها
1.من خصائص سورة البقرة
2.ولا تبقي المطلقة في بيت طليقها لانها خلوة بين أجنبيين
3.فهذا الافتراض مستحيل
4.انما تقضي المطلقة حسب سورة البقرة عدتها عند أوليائها لحين الانتهاء حين كانت أحكام سورة البقرة2هـ مفعلة ثم تسرح فالتسريح تفريق بعد تفريق
س2 / وما هو الإفتراض الاخر ؟
ج2 / أما الافتراض الآخر وقد كُلف به الزوجان هنا فهو من خصائص سورة الطلاق5هـ الناسخة لمعظم أحكام طلاق سورة البقرة فسورة الطلاق تتميز::
1.بأنها الناسخة
2.وانها المنزلة لاحقا
3.وان العدة فيها قد تبدَّل موضعها بموضع الطلاق
4.وأن التلفظ بالطلاق قد ترحَّل الي بعد العدة
.لذا صارت الزوجة فيها مثل سائر الزوجات تحل كلها لزوجها في كل شيئ الا الجماع ليس لأنه مُحرم بينهما لكنه:
1/ لكنه شرط في الوصول الي بعد العدة
2/ وشرطٌ للتمهيد للفراق بينهما
3/ فإذا غلبت نفس أحدهما وتواطئا فعليهما استئناف اجراءات الاحصاء والعد من الاول وهكذا مغزي قوله تعالي{ لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}
س3 / كم تستغرق قضية الطلاق للضرر؟|الطلاق للضرر وحقوق الزوجه|الطلاق للضرر فى القانون المصرى
ج 3 / / لا نتناول المسألة قانونا لكننا هنا نناقشها شرعا ونري أن المحكمة تحكم بتشريع سورة البقرة 2هـ وتخلط بينه وبين تشريع سورة الطلاق5هـ رغم ان سورة الطلاق5هـ نسخت معظم أحكام الطلاق بسورة البقرة2هـ
س4. / كيف يتم الطلاق في المحكمة قانونا
لكن يتم الطلاق شرعا مرورا بالترتيبات التالية بالترتيب
ج4. اولا:
1.علي الزوج أن يشعر زوجته أنه شارع في تطليقها بعد العدة
2. يتأهب الزوجان للإحصاء لبلوغ أجل النهاية
3. لاتخرج الزوجة من البيت ولا يخرجها زوجها
4. حتي اذا بلغا نهاية العدة وانتهت
5. فهما في وقت الطلاق فإما يراجع الزوج نفسه فيمسكها ولا يطلقها ولا ملامة عليه أو إن أبي الا الطلاق فهذا وقت الطلاق بعد انتهاء العدة يعني في الطهر الثالث هكذا حدد الله ورسوله قرانا وسنة
س 5./ حقوق المراة اذا طلبت الطلاق للضرر
ج 5/ ذلك حكم الخلع نتعرض له هنا بصورة أسرع قال الله تعالي{ إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) /البقرة}
// والخلع شُرِّع له هنا في سورة البقـرة 2هـ ولم يجري نسخة فبقي بحاله لم ينسخ وهو صورة من صور التفريق وليس الطلاق لحديث التفريق بينهما الأصح بين المختلعة وزوجها علي فدية يطلبها الزوج وحده الامثل ان ترد عليه مهره الذي امهرها اياه أما حده الاعلي لم يوضحه النبي ص لكنه حدد حده الامثل
س6./ وما الحديث الصحيح في ذلك
ج6./ الحديث رواه البخاري لأ زهر بن / باب: الخلع وكيفية الطلاق فيه.
وقول الله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله – إلى قوله – الظالمون} /البقرة: 229/.
وقال طاوس: {إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله} فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة والصحبة، ولم يقل قول السفهاء: لا يحل حتى تقول لا أغتسل لك من جنابة.
*حدثنا أزهر بن جميل: حدثنا عبد الوهاب الثقفي: حدثنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس:
أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله ﷺ : (أتردين عليه حديقته). قالت: نعم، قال رسول الله ﷺ : (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة). قال أبو عبد الله: لا يتابع فيه عن ابن عباس.
**وحدثنا إسحاق الواسطي: حدثنا خالد، عن خالد الحذاء، عن عكرمة: أن أخت عبد الله بن أبي: بهذا، وقال: (تردين حديقته)، قالت: نعم، فردتها، وأمره يطلقها.
وقال إبراهيم بن طهمان، عن خالد، عن عكرمة، عن النبي ﷺ : (وطلقها}
/ وعن أيوب بن أبي تميمة، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله، إني لا أعتب على ثابت في دين ولا خلق، ولكني لا أطيقه، فقال رسول الله ﷺ : (فتردين عليه حديقته). قالت: نعم.
*حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي: حدثنا قراد بن نوح: حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق، إلا أني أخاف الكفر، فقال رسول الله ﷺ : (فتردين عليه حديقته). قالت: نعم، فردت عليه، وأمره ففارقها.
حدثنا سليمان: حدثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة: أن جميلة، فذكر الحديث.
= / (آتيتموهن) أعطيتموهن من المهر. (يخافا) أي الزوجان. (يقيما) يلزما. حدود الله) ما لزم كل منهما من حقوق زوجية. تتمتها: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به -- تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يعتد فأولئك هم الظالمون}. (فلا…) فلا إثم عليها في بذله ولا إثم عليه في أخذه. (فيما افتدت به) ما تعطيه من مال تفتدي نفسها ليطلقها. (تلك حدود الله) أحكام شريعته التي أمركم بالوقوف عندها. (تعتدوها) تتجاوزوها. (دون سلطان) أي بغير حضور القاضي ولا علمه، والخلع هو أن يفارق الزوج زوجته مقابل مال تعطيه إياه. (دون…) المعنى: أن المخالع له أن يأخذ كل ما تملكه المرأة حتى ما دون عقاص رأسها، إذا افتدت منه بذلك، والعقاص جمع عقيصة وهي الضفيرة. وقيل هي الخيط التي تربط فيه الضفيرة. (لم يقل) أي لم يقل الله تعالى قول السفهاء، والمراد: يقول السفهاء أنهم يقولون: لا يحل للرجال أن يأخذوا شيئا حتى تقول المرأة: لا أغتسل لك من الجنابة، وقولها هذا كناية عن عدم السماح له بالوطء، فتكون عندها ناشزا}
(امرأة ثابت) اسمها جميلة بنت أبي بن سلول. (ما أعتب عليه) لا أعيبه ولا ألومه. (أكره الكفر) أي أن أقع في أسباب الكفر، من سوء العشرة مع الزوج ونقصانه حقه ونحو ذلك. (حديقته) بستانه الذي أعطاها إياه مهرا. (تطليقة) طلقة واحدة رجعية. (لا يتابع فيه) أي لا يتابعأزهر بن جميل على ذكر ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الحديث .
قراد) هو لقب، واسمه عبد الرحمن بن غزوان، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع .
س7./ ما الحكم إذا قال الزوج سأطلقك أو سأعطيك ورقتك؟
ج7./ لا يقع بذلك طلاق غير أنه تعامل معها بغير معروف لكننا وضحنا في كل مدونة النخبة في شرعة الطلاق ومدونة قانون الحق الالهي أن التطليق أصبح منهجا وشريعة محكمة ليس لها صورتان او شكلان هو تشريع سورة الطلاق وجاءت العدة فيه حائلا بين الزوجة | Ù| والطلاق فلا يتم الطلاق الا بعد عدة الاحصاء
س8/ ما الحكم إذا جامع الرجل زوجته في عدة الطلاق دون نية لرجوعها ؟
ج8/.العدة الموجودة سابقا في طلاق سورة البقرة2هـ هي عدة استبراء وتتميز بأنها من خصائص سورة البقرة ولا تبقي المطلقة في بيت طليقها لانها خلوة بين أجنبيين فهذا الافتراض مستحيل انما تقضي المطلقة أثناء سورة البقرة عدتها عند أوليائها لحين الانتهاء ثم تسرح فالتسريح تفريق بعد تفريق
أما الافتراض المسؤل عنه هنا فهو من خصائص سورة الطلاق الناسخة لمعظم أحكام طلاق سورة البقرة فسورة الطلاق تتميز بأنها الناسخة وانها امنزلة لاحقا وان العدة فيها تبدل موضعها بموضع الطلاق وأن التلفظ بالطلاق ترحل الي بعد العدة لذا صارت الزوجة فيها مثل سائر الزوجات تحل كلها لزوجها في كل شيئ الا الجماع ليس لأنه مح رم بينهما لكنه شرط في الوصول الي بعد العدة وشرط للتمهيد الفراق بينهما فإذا غلبت نفس أحدهما وتواطئا فعليهما استئناف اجراءات الاحصاء والعد من الاول وهكذا مغزي قوله تعالي لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا
س9/ كم تستغرق قضية الطلاق للضرر؟|الطلاق للضرر وحقوق الزوجه|الطلاق للضرر فى القانون المصرى
ج9. لا نتناول المسألة قانونا لكننا هنا نناقشها شرعا ونري أن المحكم تحكم بتشريع سورة البقرة وتخلط بينه وبين تشريع سورة الطلاق رغم ان سورة الطلاق5هـ نسخت معظم أحكام الطلاق بسورة البقرة2هـ ـ
س 10./ كيف يتم الطلاق في المحكمة قانونا لكن يتم الطلاق الشرعي مرورا بالترتيبات التالية بالترتيب
ج10.علي الزوج أن يشعر زوجته أنه شارع في تطليقها بعد العدة
2. يتأهب الزوجان للإحصاء لبلوغ أجل النهاية
3.لاتخرج الزوجة من البيت ولا يخرجها زوجها
4.حتي اذا بلغا نهاية العدة وانتهت
5.فهما في وقت الطلاق اما يراجع الزوج نفسه فيمسكها ولا يطلقها ولا ملامة عليه فإن أبي الا الطلاق فهذا وقت الطلاق بعد انتهاء العدة يعني في الطهر الثالث هكذا حدد الله ورسوله قرانا وسنة
س 11.حقوق المراة اذا طلبت الطلاق للضرر
ج11. لها حق المتعة فقط وليس لها أي شيء أخر الا المعروف
س 12.] ما الحكم إذا قال الزوج سأطلقك أو سأعطيك ورقتك؟!
ج 12.لم يقع بذلك طلاقا بل خرج الزوج عن حيز التعامل بالمعروف وعليه الكف عن ذلك والاستغفار
س 13...ماهي المراجل المميزة للطلاق
ج 13.
1. اولا مرحلة الانذار والشروع {في اول المسار}
2- ثانيا مرحلة الاعتداد وعدم ترك البيت لانهما ما زالا زوجين {في وسط المسار طول مدة العدة}
3. ثالثا مرحلة التحقيق وتنفيذ الطلاق {بعد اصرام العدة وبعد نهايتها}ان لم يرد الزوج امساك زوجته
س 14.الطلاق للشقاق واستحكام الخلاف
ج14. و عاشروهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ونوع الفراق بالمعروف يختاره المتضرر اكثران كانت الزوجة فخلع وان كان الزوج فطلاق
س 14. ما الحكم إذا طهرت النفساء ثم عاد إليها الدم قليلا ؟
ج14. النفساء هي المرأة الحامل التي وضعت حملها ووضْع الحمل هو ميقات تطليقها ان اراد الزوج والا فليمسكها ولا يطلقها
س 15. ما حكم طلب الزوجة الطلاق بسبب زواج زوجها بواحدة اخرى
ج15.عليها التوبة والاستغفار ولترضي بشرع الله ولتصبر لان الزواج الثاني والثالث والرابع شرع منزل لا ينبغي التأفف منه
س16. نسبة نفقة الاولاد من مرتب الزوج|نفقة الزوجة قبل الطلاق|ما هي نفقة الزوجة بعد الطلاق؟
ج 16. لينفق ذو سعة من سعته {سورة الطلاق}
س17.ماهى حقوق الزوجه عند الطلاق ؟|وماهى حقوق الزوج عند الطلاق ؟
ج17. حق الزوجة عند الطلاق التمتيع{المتعة}
س18.حكم طلاق الثلاث بلفظ واحد
ج18. لا هو واحد ولا هو ثلاثة انما لابد من عدة احصاء أولا ثم يحين بعدها ميقات وأجل التلفظ بالتطليق
س19. ما حكم طلب الطلاق بسبب عدم الانجاب
ج19.من حق الزوجة طلب الاولاد بالحلال ولها الحق في الخلع ان لم يستجب الزوج ولم يطلقها
س 20.ما حال الرجل بعد الطلاق و ما هي مشاعره
..؟؟
س21.ما كفارة الحلف بالطلاق أثناء الغضب
ج21.الطلاق لم يشرع للحلف به وكفارة هذا الخطأ التوبة والاستغفار وعدم اللغو هذا مرة اخري ثم ان منهج الطلاق صار عدة اولا ثم طلاقا اخرا واشهادا
///// س 22. ما هى اجراءات الطلاق
الغيابى
س23. ما صحة حديث إن أبغض الحلال عند الله الطلاق؟
=23. ضعيف
س24. ما هو الطلاق البدعي وهل يقع؟
ما معنى الطلاق البائن في الإسلام؟
ما حقوق الزوجة عند الطلاق علمًا بأنها السبب فيه؟
ما الحكم فى منع الزوجة زوجها من رؤية أبنائه بعد الطلاق ؟
س 29.ما الحكم فى منع الزوجة زوجها من رؤية أبنائه بعد الطلاق ؟
س 30.طلقها وأرجعها بدون إشهاد ثم طلقها وأرجعها بدون إشهاد ثم طلقها، ما الحكم في هذا الطلاق؟
س 31.ما الحكم في رجل أفطر بالجماع في نهار رمضان متعمداً؟ الشيخ صالح بن محمد اللحيدان
س 32.ما كفارة يمين الطلاق
س 33.ما حكم من حلف بيمين الطلاق وهو غير متزوج؟
س 34. ما حكم إنكار الزوج ليمين الطلاق؟
حكم الطلاق فى التليفون
س 35.ما معنى بينونة صغرى في حكم الطلاق من المحكمة؟
س 36.ما حكم يمين الطلاق بعد طلقتين رسميتين عند المأذون
================ترقيم ثاني ====
س37 / ما الفرق بين طلاق سورة البقرة2هـ وطلاق سورة الطلاق 5هـ
ج38./ طلاق سورة البقرة كان تطليقا يتبعه عدة استبراء ثم تسريح فبدله الله تعالي في سورة الطلاق الي عدة إحصاء ثم إمساك أو طلاق ثم إشهاد
س39./ لاحظت ان في شريعة الطلاق في سورة البقرة مساره هو بالترتيب تلفظ بالطلاق ثم اعتداد استبرائي ثم تسريح واختلف في سورة الطلاق ليكون بالترتيب اعتداد احصائي ثم امساك أو طلاق ثم اشهاد
سورة البقرة تلفظ بالطلاق ثم عدة استبراء ثم تسريح
سورة الطلاق عدة احصاء ثم امساك أو طلاق ثم اشهاد
سورة البقرة2هـ منسوخ منها أكثر أحكام الطلاق والمنسوخ منها هو
س40./ ما هي تفصيلات أحكام عدة الإحصاء لبلوغ أجل الإمساك أو الطلاق
ج40. / . وَ الواو هنا واو العطف ولا بد من معطوفٍ عليه في مستهل تفصيل أحكام عدة النساء وأقول المدون : أنها تعطف ما سيُذكر من عِدَد النساء علي تفصيل سابق تمدد وجوده من سورة البقرة الي سورة الطلاق وأبلغ الله ذكره هنا بلفظٍ أو قل حرفٍ واحد هو (و-----) هو عدة ذوات الأقراء (وهي ثلاثة قروء كما ذكرته آية العدة للائي يحضن في سورة البقرة((1و2 هـ))
2. اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ
3. وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ قلت المدون أقول لكل معرضٍ عن اتباع ما جاء بسورة الطلاق من تشريع ناسخٍ لما سبق نزوله في سورة البقرة إلا الذي أبقي عليه الله تعالي ولم يبدله نسخا ومحوا مثل الثلاثة قروء وبعض ما سنذكره هنا من الأحكام المتمددة دون نسخ من سورة البقرة الي سورة الطلاق أقول لهم لن تراعوا فقد أمركم الله تعالي بإتقائه وذلك بتطبيق أحكامه التي أنزلها في سورة الطلاق فقال تعالي: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ
وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ
وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
س41./ فماذا بعد أن تضع الحامل وتلد فبعد أن يضعن حملهن ويصرن الي طلاق ولم يُمسكهن أزواجهن فسيظهر في أفق المطلقين تداعيات الطلاق التي تبدأ بالإرضاع (الزوج المطلق والزوجة التي طلقت في نهاية العدة(بعد وضعها الحمل بسقط أو ولادة)
ج41./ تظهر بينهما مسائل الإرضاع وأجر الإرضاع لكون المرأة قد صارت مطلقة بعد وضع حملها وبلوغ أجل طلاقها ،والإنفاق علي الطفل وحضانة أمه والتي هي مطلقته كما ذكرها الله تعالي هنا في الآيات التالية :- فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)/سورة الطلاق المنزلة في العام السادس أو السابع الهجري
س42./ طلّقت زوجتي و هى حامل فى الشّهر الثامن، و سمعت أنّ هذا طلاقاً بدعياً، لأنّ الحامل طاهرة وقد جامعتها قبل ذلك، وهذا يعد جماعاً فى طهر قد طلّقتها فيه، فهل بقولي لها: "أنت طالق" عند ذلك يكون طلاقاً بدعياً لا يقع، أم يقع؟
ج43./ أقول لهذا الذي طلق امرأته في الشهر الثامن وهي حامل لم يفلق تلفظك عقد الزوجية ولو جمعت الأرض جميعا ليساعدوك علي فلقه لأن الله تعالي منع التلفظ منك علي الحقيقة وحرزه في دُبُرِ العدة وإن تلفظت بمثل الأرض طلاقا فميقات تفعيل اللفظ ليكون قادرا علي فلق عقد الزواج وإحداث أثره من الطلاق والفراق هو بلوغ الأجل واتمام عدة الإحصاء ونهاية العدة [ سواءا كانت المرأة من ذوات الأقراء فنهاية عدتها هي حلول نهاية الطهر الثالث وبعده الذي حُرِّز إليه التلفظ بالطلاق أو من اللائي لا يحضن فتوقيت طلاقها بعد نهاية الشهر الثالث القمري أو من أولات الأحمال فتوقيت طلاقهن بعد نهاية الحمل ووضعه والذي يُستدل عليه بوضع الحمل ( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(
وبلوغ الأجل هو الذي شُرِّعَ لأجله حكم إحصاء العدة وهو ميقات نهاية العدة وهو ميقات تفعيل التلفظ والاستحواذ الفاعل علي لفظ التطليق وذلك لإحداث التفريق واتمام الإشهاد إن لم يمسك الزوج زوجته وعزم علي تطليقها فهنا وهنا فقط يكون الطلاق ولا قيمة لأي تلفظ بالطلاق في غير هذا التوقيت
كذلك قال الله تعالي }فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ { ↞ 🔔فالإمساك متعلق بشرط واحد هو بلوغ المعتدَّين نهاية اجل العدة وبعدها↞🔔
والتطليق متعلق بشرطين هما .
1.إعراض الزوج عن إمساك زوجته
2.وبلوغ أجل نهاية عدة الإحصاء وبعدها
لقد فصل النبي محمد صلي الله عليه وسلم ذلك في حديث السلسلة الذهبية من طريق مالك عن نافع عن بن عمر مرفوعا ولفظه في صحيح البخاري ووافقه علي مسلم بن الحجاج تفصيلا وتوضيحا كما جاءت به آيات سورة الطلاق مما ذكرنا من تفصيلات أحكامها وتفصيلات أحكامه صلي الله عليه وسلم وختم روايته بقول النبي صلي الله عليه وسلم [فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء] مما يُطِيِحُ بآراء كل الذين يقولون ]يطلق لطهرها] بل قال الله تعالي ورسوله [فطلقوهن لعدتهن] وأتساءل المدون أين ومتي قال الله تعالي فطلقوهن لطهرهن؟؟؟؟؟؟؟!!!!! وهو الذي قال ورسوله [فطلقوهن لعدتهن] كالآتي
لقد فصل النبي محمد صلي الله عليه وسلم ذلك في حديث السلسلة الذهبية من طريق مالك عن نافع عن بن عمر مرفوعا ولفظه في صحيح البخاري ووافقه علي مسلم بن الحجاج تفصيلا وتوضيحا كما جاءت به آيات سورة الطلاق مما ذكرنا من تفصيلات أحكامها وتفصيلات أحكامه صلي الله عليه وسلم وختم روايته بقول النبي صلي الله عليه وسلم [فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء] مما يُطِيِحُ بآراء كل الذين يقولون ]يطلق لطهرها] بل قال الله تعالي ورسوله [فطلقوهن لعدتهن] وأتساءل المدون أين ومتي قال الله تعالي فطلقوهن لطهرهن؟؟؟؟؟؟؟!!!!! وهو الذي قال ورسوله [فطلقوهن لعدتهن] كالآتي :
*حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال حدثني مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء
وفي
سورة الطلاق المنزلة هـ5 او6/7 للهجرة ]يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ
[ قلت المدون ولم يقل [فطلقوهن لطهرهن{
ثم يقول رب العزة:
{وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ}
/لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ(
/ وَلَا يَخْرُجْنَ} إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
/ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ(
/ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1(
ونهاية
عدة الحامل = هي وضع الحمل بسقط أو ولادة لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن
يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} [الطلاق:4[
وللزوج في عدة الإحصاء أن يفعل بها كما يفعل الأزواج خلا المواطئة فإن واطئها فقد
هدم كل اجراءات العدة وعليه أن يعتد من جديد إن بقي علي عزمه وعاند في رغبته في أن
يطلق 🔔فإن
تخلِّي عن عزمه للطلاق ولم يُطلق في نهاية العدة فهي مازالت زوجته فعليه أن
يمسكها وأقول للزوج المعتد مع زوجته في بيت واحد ومضجع واحد وخلوة شرعها
الله تعالي لكونهما زوجين أقول: فإن غُلِبْتَ علي أمرك وواطئْتها فقد هدمت كل
إجراءات الطلاق وعليك أن تُعيدها من أولها فإن عجزت علي أن تمنع نفسك من زوجتك
طيلة ساعات وأيام وأسابيع وأشهر العدة حتي تصل الي نهايتها فلن تصل إذن أبدا إلي
لحظة تفعيل لفظ الطلاق المحرز هناك في دُبُرِ العدة وبعد نهايتها
س43./ ما ترجمة محمد بن عبد الرحمن مولي طلحة
ج43./ محمد بن عبد الرحمن بن عبيد القرشي التيمي مولى آل طلحة كوفي هو المنفرد بحديث طلاق الحامل في حملها برغم الطعن في حفظه وضبطه
* بخ م 4 البخاري في الأدب المفرد ومسلم والأربعة
قلت المدون هذه الترجمة في كتاب التهذيب لابن حجر العسقلاني الحافظ حرف الميم باب من اسمه محمد على ترتيب الحروف في الآباء
روى عن السائب بن يزيد وعيسى وموسى ابني طلحة وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسالم بن عبد الله بن عمر وكريب مولى بن عباس وسليمان بن يسار والزهري وعكرمة وعلي بن ربيعة الوالبي وعدة
روى عنه شعبة ومسعر والثوري وشريك والحسن بن عمارة والمسعودي وإسرائيل وسعد بن الصلت قاضي شيراز وسفيان بن عيينة وغيرهم
قال البخاري قال لنا علي عن بن عيينة كان أعلم من عندنا بالعربية قلت المدون لقد أعرض البخاري عنه فلم يجعله من الرجال الموصوفين عنده لرواية جامعه الصحيح المسند لريبته في حفظه وضبطه وما قاله البخاري هو قدح في حفظ وضبط الراوي محمد بن عبد الرحمن فأعرض عنه بطريقة لائقة بأن مدحه في غير مجال الرواية وهو اسلوب أدبي جَمّْ لعدم إذا رفض راوٍ لرواية حديثه وكذلك لم يوثقه في رواياتة للحديث هذا فقال عنه قال لنا علي عن بن عيينة: كان أعلم من عندنا بالعربية قلت المدون وهي صياغة مؤدبة جدا للغمز في ضبطه وليس في عدالته وأكد ذلك بإعراضه عن تسجيله التاريخي ضمن رجال الجامع الصحيح المسند
قلت المدون وحديث أمثاله لا يناطح أحاديث الثقات ولا يقوي علي معارضتهم مثل مالك عن نافع والي آخره..
قلت
المدون وقال أبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود صالح الحديث [قلت المدون وهذه صياغة للطعن في ضبطه وليس في
عدالته] وقال النسائي ليس به بأس
[قلت المدون وهذه صياغة تنحط به عن مرتبة الضابطين
الأعدل منه
]وكذلك ما نقل عن عباس الدوري وغيره عن بن معين
ليس به بأس قلت المدون: وليس الكلام علي العدالة هنا إنما مجال النقد في
الضبط والحفظ وكلام النسائي قي ضبطه يحط من حفظه ويثبت أخلاطه في الرواية برغم
عدالته وقال أبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود صالح الحديث وقال النسائي ليس به بأس وذكره
بن حبان في الثقات قلت وقال الترمذي وأبو علي الطوسي ويعقوب بن سفيان ثقة- لذلك
فروايته لحديث الطلاق في الحمل شاذ جدا يصل الي حد النكارة
محمد
بن عبد الرحمن مولي طلحة 288. يحي بن معين ليس
به بأس
انظر
:/الجرح والتعديل 3-2-318//تهذيب التهذيب 9-300-- وحمل
كتاب تاريخ ابن معين (
رواية الدوري + رواية الدارمي ) دار المأمون للتراث محمد بن عبد الرحمن مولي
طلحة رقم88***
_________________
س44. / ما الحكمة المستشعرة بعد تبديل أحكام الطلاق في سورة الطلاق(5هجري)وتأجيل الطلاق إلي ما بعد انقضاء العدة
ج44./ ………………
1.إن الإمساك هو الشح بالعطاء والشح في الإنفاق
.2 وهو هنا يعني شُحَّ الرجل أن يعطي زوجته إلي غيره من الخطاب إذا أرسلها بالطلاق أو بالتفريق
.3 وهو دليل علي تملك الممسك لما يُمسكه واستحواذه عليه
.4وهو دليل هنا علي عدم تغير حال رباط الزوجية بإجراءات الإحصاء والعدة في سورة الطلاق
.5لأن الطلاق وقت الله تعالي له أن يكون في دُبُرِ العدة وخلف جدارها المنيع
س45/ . ما الفرق الفرق بين التسريح والتفريق
ج45/ التسريح هو درجة أكبر لتفريق المتفرقين
أما التفريق فهو أول درجة لتفريق الحبيبين أو تفريق الزوجين
س46. / هل هناك معني آخريقرب المفهوم
ج46. / قلت المدون : الفراق ضد السراح
وهو مختلف عنه،وقولنا فرق الخصام بين الرجلين أي فصل وباعد بينهما بعد ان كانا اصحاب ،وسرحه أي فارقه نهائيا بعد أن فارقه ابتداءاً،
( يعني فارق ما بقي من أثرهما بعد تفريقهما أصلاً)، وهو هنا مفارقة المرأة لعدتها التي كانت حائلا بينها وبين زوجها أصلاً
السراح هو الخصام الاخير بعد الخصام والفراق الأولي
الفراق هو الخصام والفراق بعد المودة والزوجية
........................
س47./ يعني أفهم أنه اي التسريح فراق بعد فراق فالسراح إذن هو الفراق الاخير بعد الفراق الاول بالتلفظ بالطلاق
ج47 / أما الفراق فهو من خصائص سورة الطلاق5هـ ويميز جدا تحول العدة للصدر وتحول الطلاق للدبر لتكون المرأة زوجة في العدة ليفجعها الفراق بعد العدة وبعد رفض زوجها امساكها
11111111111*111111
س48./ هل لذلك دلالة معينة ؟ طلاق بعد طلاق ؟
ج48/ نعم وهذا يدل علي أن المرأة المُسَرَّحة قد سبق لها الخروج1 من بيتها بعد تلفظ زوجها بالطلاق2. ثم أخرجت بالغداة إلي منزل أهلها بعد استيفاء عدة استبرائها ،
..............*.....................
س49./ هل يجوز أن نقول للمعتدة احصاءا مُسَرَّحة ؟
ج49./ لا فلا يقال للخارجة من بيتها بيت زوجها مُسرَّحة انما نقول مطلقة مفارقة حسب سورة الطلاق إنما تُسرح التي خرجت من بيتها اولا حسب سورة البقرة2هـ قبل نسخ احكامها في الطلاق كما قدمنا
................
ولفظة(سرحوهن بمعروف) هي من خصائص سورة البقرة 2هـ ،وهي دليل قاطع علي أن المرأة في نفسها، المنقضية عدتها بناءاً علي أحكام سورة البقرة(2هجري) لم يكن يمنعها من التسريح غير الاعتداد استبراءاً للرحم، ومعني هذا أنها قد فورقت من قبل العدة أي أُخرِجت من بيتها من قبل العدة ثم سُرِحَت تلقائيا عند انتهاء العدة،
.....................
س50./ ما معني س ر ح .
ج50./ إن مادة(س_ر_ح) تدل علي (الفراق بعد الفراق)،أي التحرك الحر ابتعاداً(الإرسال) بعد الخروج من قيدٍ،
.......................
فروي مالك عن نافع عن ابن عمر أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهي حامل فقال ابن عمر إذا وضعت حملها فقد حلت فأخبره رجل من الأنصار أن عمر بن الخطاب قال لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن لحلت
3.وبه عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي في مسكن حفصة وكانت طريقه إلى المسجد فكان يسلك الطريق الآخر من أدبار البيوت كراهية أن يستأذن عليها حتى راجعها
*فالمرأة في عدتها حين سريان أحكام سورة البقرة(2هجري) كانت قد فرض عليها أن تخرج من بيت الزوجية بعد إلقاء لفظة الطلاق عليها اضغط رابط !!! سلسلة الذهب،لكنها عُقِلَت في بيت أبيها ثلاثة قروء لاستبراء رحمها، فبانقضاء أقرائها فهي مُسَرَّحة يعني تسير بلا قيد عليه من قيود الزوجية حتي قيد العدة قد انفكت منه،لذلك يقول تعالي في سورة البقرة(فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)،بينما سنري في أحكام سورة الطلاق المنزلة في العام الخامس الهجري أن القرآن قد استخدم لفظة(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)،والفراق معروف أنه الخروج للتو من اللقاء، والإجتماع، ومن الحياة المشتركة التي سبقت الفراق الذي وقع بين الفرقاء)،وليس في هذه الآية أي تطبيق أو تشريع لمدلول التسريح، إذ الفراق ضد السراح وهو مختلف عنه،وقولنا فرق الشيء بين الرجلين أي فصل،وباعد بينهما ،لكن السراح هو الفراق بعد الفراق،
.............................
س51./ اذن ما الخلاصةً
ج51./ أقول : [ أن التسريح هو تفريق بعد تفريق
لكن التفريق هو تفريق بعد توثيق]،
=====================/===
س52./ ما معني قوله تعالي(وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ )
ج52./ قلت المدون صارت المرأة في سورة الطلاق5هـ زوجة وكل الزوجات من حقهن النفقة والسكني والمعروف في معاملتهن واي مكائد تنشأ بسبب الزوج محرمة بنص الاية
جاء في لسان العرب قول ابن منظور :
وقيل الضَّرَر ما تَضُرّ بِه صاحبك وتنتفع أَنت به
والضِّرار أَن تَضُره من غير أَن تنتفع
والمضارة اسم مبالغة من الضرار وهو أن تضرها ولا تنتفع أنت مما أحدثته من الضرار وهو يدل علي العناد والنكاية والتجأر تجبرا للغيظ ولأجل التضييق عليهن وهذا كله قد حرمه الله تعالي ونهي عنه وقد ذهب بعض المفسرين الي تقسيم المضارة من الأزواج فقال مجاهد: في المسكن. وقال مقاتل: في النفقة؛ وهو قول أبي حنيفة./ وقلت المدون وفي المعاملة بالمعروف
س53./ فماذا تقول للحائرين الملتاعين الذين أحرقتهم نيران الفراق وألهبتهم لوعات الطلاق ولم ترحمهم اختلافات الفقهاء...
ج53./ أقول لهم هلموا إلي رحمة الله وعفوه هلموا إلي سورة الطلاق5هـ فقد أنزل الله فيها تبديل قسوة الطلاق الماضية سابقا والتي صنعها البشر بتصرفاتهم وتهوراتهم كما جاء وصفه في سورة البقرة2هـ بما امتن الله بها علي عبادة في سورة الطلاق 5هــ.
س54./ هل يعتبر الطلاق حسب سورة البقرة اليوم صحيحا ويعتد به ويحتسب وتترتب عليه حقوق
ج54. / لا .. الا للذي لم يُبَدِّله الباري سبحانه
.........................
س / لماذا ؟
ج / أحكام طلاق سورة البقرة2هـ تم تبديله من عند الله الباري بأحكام طلاق سورة الطلاق 5هـ وانتهي جُلُّ تشريع الطلاق بسورة البقرة 2هــ الا ما لم يتم تبديلة فهو باقٍ علي حاله لكن في الإطار العام لترتيب أحداث طلاق سورة الطلاق5ه يعني بقي علي حاله لكن تقدمت العدة علي التلفظ بالطلاق وحرز التلفظ خلف العدة وبقي الرسم الننسوخ كما هو لم بمحه الله الباري من المصحف لحكمة يعلمها الله نتوسم منها ابتلاء من في قلوبهم زيغ أو قلة يقينهم بربهم وأصحاب المراء والمجدلين في الحق
س / هل العدة في السورتين مختلفة
ج / نعم ففي سورة البقرة2هـ كانت العدة عدة استبراء لسبق وقوع التلفظ والتطليق باللفظ اما في سورة الطلاق صارت العدة {عدة احصاء} حائلا بين التلفظ والطلاق لتأجيل التلفظ لما بعد نهايتها وحيلولة العدة بين التلفظ وبين التفريق
س / افهم من ذلك أن سورة الطلاق جعلت العدة لحساب الزوجين بدلا من حسابها عليهم
ج نعم فمشروع التطليق بدأ شروعا وتأهبا بينهما لكن تحقيقه لن يكون الا بعد انقضاء العدة
س/ ماذا تقصد بالشروع والتحقيق وهل يوجد فرق بين الشروع والتحقيق؟
ج/ الشروع هو مجرد التأهب لخطوة التحقيق
س/ مماذا اتبين الفرق بين الشروع والتحقيق
ج/ الشروع هو في الايات من سورة الطلاق يدل عليه أسلوب الشرط غير الجازم {إذا طلقتم فطلقوا } معناه إذا أردتم التطليق {شروع}
فطلقوهن {تحقيق} يعني فحققوا ما قد شرعتم فيه بالتنفيذ والتفريق بعد العدة وانقضائها
س/ أفهم من ذلك أن الشروع في التطليق يكون في أول العدة وتحقيقه يكون بعد انقضاء العدة
ج/ نعم والعدد التي فرضها الله تعالي هي
1.عدة اللائي يحضن وقدرها ثلاثة قروء ومشروعيتها جاءت من تمدد فرضها من سورة البقره2هـ وظلت علي حالها لم تتغير ثلاثة قروء والقرء حيضة وطهر
2.عدة اللائي لم يحضن وهن
أ} اليائسات من المحيض
ب}والصغيرات اللائي لم يحضن
ج}وبعض من يرضعن أولادهن
3.وعدة أولات الأحمال وأجلهن هو نهاية الحمل بوضعهن حملهن بسقط أو ولادة –عند هذا الوضع يكون طلاق الزوجة-
س/هل كانت هذه العدد في سورة البقرة ؟
ج/لا لم يكن موجودٌ الا عدة اللائي يحضن فقط وانتقلت مشروعيتها الي سورة الطلاق بالتمدد وعُبِّرَ عن ذلك بحرف العطف { و }
س/ هل بهذا التشريع لسورة الطلاق يعتبر تمام تشريعات الطلاق قد أحكمه الله
ج/ نعم وقد ارتضاه الله لنا دينا وقانونا نسير عليه والي يوم القيامة ودليل ذلك أن انقطعت تنزيلات أحكام الطلاق بتاتا بعد تنزيل سورة الطلاق5هـ
س/ يعني هل يمكنني أن أقول أن محتوي سورة الطلاق5هـ قد نسخ محتوي تشريع أحكام الطلاق بسورة البقرة2هـ وما نوع النسخ؟
ج/ نعم ونوع النسخ هو نسخ البدل .
س/ هل أشار القران الي هذا النوع من نسخ البدل
ج/ قال الله تعالي {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) /سورة النحل}
و قوله تعالي {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)/سورة البقرة}
س / هل يمكن تلخيص تشريع سورة الطلاق ومقارنة بسيطة بينه وبين تشريع سورة البقرة
ج/ تشريع سورة الطلاق هو تشريع الإحكام واليقين والكمال والتمام وارتضاه الله لنا من دين الاسلام ولا تشريع بعده الي يوم القيامة ونهاية الخلافات في أحكام الطلاق
س/ هل وصفه الله تعالي بأوصاف الحدود او فرض هيمنته إلي يوم الدين
ج/ نعم فقال تعالي
= واتقوا الله ربكم
= وتلك حدود الله
= ومن يتعدي حدود الله فقد ظلم نفسه
= لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا
= وأشهدوا ذوي عدل منكم
= وأقيموا الشهادة لله
= ذلك أمر الله أنزله إليكم
= ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
= وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ
= وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
= إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ق
=َ قد جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
س / ماهو التكليف المحدد إذن
ج/ هو أمر الله للنبي والمؤمنين أن إذا أراد أحدهم الشروع في تطليق زوجته أن 1. يحصي لذلك عدة قدرها ثلاثة قروء او ثلاثة أشهر قمرية أو ما بقي من مدة الحمل حتي تضع الحامل حملها ثم بانقضاء الأجل او العدة يحين وقت التطليق الحقيقي
س/ هل عليه أن يطلق اذا حان الأجل وماذا لو راجع نفسه فأراد أن لا يطلق؟
ج/ لقد تجلت رحمة الله بشكل أذهل العقول إذ مقتضي العدل أن من احصي العدة وحان الأجل أن يُلْزَم بفعله ويطلق ولكن الله الرحيم اللطيف الخبير بأحوال عباده أعطي الزوج فرصة قبل انفراط العقد وتدمير البيت وتشتيت الاولاد والزوجة فللمرة الاخيرة خيَّر الزوج في الامساك ورفع عنه الملامة والجناح لعله يفيق ويتراجع ويمسك زوجته ولا يطلقها فإن أبي الا الطلاق فليشهد ذوي عدل من المسلمين ويطلق ولا يلومن الا نفسه بعد هذا التسامح الالهي معه فالله تعالي أمهلهما مدة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر أو طول ما بقي من زمن الحمل ثم هو سبحانه يخيره قبل انطلاق سهم الطلاق فيمُنُّ عليه بالتخيير في الإمساك فإن ابي فبالطلاق والاشهاد
س / ما حكم الرجل يطلق زوجتة اليوم بالتلفظ بالطلاق
ج / انقضي زمن التلفظ بالطلاق في صدر العدة بنزول سورة الطلاق بحيث يبطل التلفظ بالطلاق الا بعد قضاء مدة بمنزل الزوجية قدرها ثلاثة قروء للاتي يحضن وثلاثة أشهر قمرية للائي يئسن من المحيض واللائي لا يحضن مثل الصغيرات والمرضعات اللائي يغيب عنهن الحيض بسبب الرضاعة وأولات الأحمال حتي نهاية حملهن بالوضع أو بالسقط
س / ما الدليل القطعي علي ذلك من القران وسنة نبينا محمد صلي الله عليه وسلم
ج / الدليل من القران هو الايات المنزلة بسورة الطلاق عام الخامس الهجري 5هـ
س / اذكر هذا الدليل القراني
ج / قال تعالي {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) /سورة الطلاق }
س / فما الدليل من السنة الصحيحة ولا يعارضة دليل واه
ج / حديث عبد الله بن عمر برواية السلسلة الذهبية مالك عن نافع عن بن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم
/ حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال حدثني مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء [ ص: 258 ] / صحيح البخاري}
س / ما الحجة في الاية والحديث ؟
ج / الحجة في الاية
قوله تعالي [[[ إذا طلقتم .... فطلقوهن لـــ. عدتهن ... وأحصوا العدة ... لا تخرجوهن من بيوتهن .. ولا يخرجن ... وتلك حدود الله ...... فإذا بلغن أجلهن ...فأمسكوهن ... أو فارقوهن... [موضع الطلاق هنا بعد ان ان يبلغن أجلهن وهو تلك اللحظة المرتقبة بعد بلوغ الأجل ]
س / وما الحجة في كل ذلك ؟
ج / الحجة تكمن في كل لفظ جاء القران به في هذه الايات
س / كيف ؟
ج / {{{ إذا طلقتم .... فطلقوهن ....]]] هو اسلوب شرط غير جازم يفيد تحقيق الشروع في الطلاق لمن يريد الطلاق فيما يُسْتَقْبلُ من الزمان الذي حددته الاية {{ فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن أو {{ فارقوهن}} أو يفيد تحقق الفراق في زمان جواب الشرط المسبق ذكره في فعل الشرط بلام الأجل لــ يعني بمعني [ بعد]
2. لـــ . عدتهن وهي لام بمعني بعد عدتهن وانقضائها{كل لام تأتي مثل هذه اللام تفيد حتما معني بعد وهي تدخل علي الأسماء في مسار زمان مذكور في السياق
/ مثل قوله تعالي وواعدنا موسي { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِـــ. ..مِيقَاتِنَا {يعني بعد نهاية ميقاتنا المحدد له} وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) /سورة الأعراف}}
3. وأحصوا العدة والإحصاء هو العد لنهاية محددة أما العد فلا يطلق علي ما لا نهاية محددة لمعدوده..انما يُطلق علي المعدود بدون نهاية محددة .
/ والإحصاء اقطع دليل يفيد تأجيل وقوع الفراق[ الطلاق] لنهاية المعدود[ العدة وتسمي عِدة الإحصاء]
4.إذا طلقتم .... فطلقوهن .... لــــ عدتهن وأحصوا العدة ...
5. ودليل اباحة الخلوة بين الزوجين بلفظ {{ لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن }} هي أقطع دليل علي تأجيل الطلاق لما بعد العدة تلك الآية أية جواز الخلوة بين الزوجين بدرجة الالتصاق والتحضين في البيت بينهما الا الجماع فهو من لزمات الاعداد للتفريق آخر العدة بحيث لو جامع الزوج زوجته تنهار اجراءات الاحصاء وعليهما ان أرادا استئناف لحالة الطلاق أن يبدءا العد من الأول {لا تخرجوهن من بيوتهن .... ولا يخرجن} الا في حالة يستوي فيها كل النساء سواءا المنذرة بالطلاق او الغافلة في بيتها كزوجة وهي حالة اتيان الفاحشة اي الزنا وثبوتها .
6. وتلك حدود الله حيث صار هذا الشكل من الطلاق لــ بعد العدة حدا من حدود الله بنص الآية لا يمكن للمؤمنين تعديها
. 1. لارتباطها بقدر الله في تشريع ما لا ندريه والله يدريه
. 2. . ولأمرة سبحانه بها حدا من حدوده
7. فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن... والإمساك ضد الإرسال لقول الله تعالي { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) /سورة فاطر} والمعني الابقاء علي الزوجة التي اتمت الاحصاء زوجة كما هي إن اراد زوجها ان لا يطلقها فما زال الوقت يسمح بالإبقا عليها زوجة كما هي لأن الله تعالي قد رَحَّل وأجَّل التطليق لدبر العدة
أو فارقوهن...
8.
دليل الآية [ لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن] هو اجازة للخلوة بين الزوجين لا لشيئ غير أنهما لم يزالا زوجين علي الميثاق والعهد أثناء عدة الإحصاء لأن الله تعالي رحل وأجل الطلاق لما بعد العدة {عدة الإحصاء }
9. وتلك حدود الله صار هذا التشريع حدا من حدود الله لا يمكن تعديه أو تجاوزه أو تخطيه يعني صار الطلاق في سورة الطلاق 5 هـ الذي هو عدة ثم الإمساك أو التفريق حسب ارادة الزوج حدا من حدود الله
1- . فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن ... أو فارقوهن ...
وقلنا أن الإمساك دليل قاطع في ذاته لعدم وقوع الفراق حتي تاريخه أي حتي انتهاء العدة وتخير الزوج في نهاية هذه العدة فيما إن ظل عازما علي الطلاق{التفريق} أو ينتكس ويتراجع عنه {يعني يختار الامساك} وليس له خيار ثالث فإما التراجع وإما الطلاق في نهاية العدة .
س / هل إذا اختار التراجع يعني الإمساك يكون مستهزئا متلاعبا بأيات الله ؟
ج / لا قطعا .. فهذا التشريع بهذا التسامح والتجاوز الإلهي هو الذي شرعه الله ولا ملامة علي شرع الله وهو المعني الذي قصده الباري جل وعلا في قوله { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) /الطلاق}
ما هو الدليل من السنة المطهرة ؟
حديث مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا
[[[حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال حدثني مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء [ ص: 258 ] /صحيحي البخاري ومسلم بنفس السياق واللفظ تقريبا]]]
/ وقد اخترنا رواية مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا ... لأنها رواية السلسلة الذهبية بفم البخاري وابن حجر ... وهما قمم في الحفظ والنقد والضبط والاتقان .... خاصة في ابن عمر ... ولا إلتفات لم قال بخلاف ذلك
/ فهي الرواية العمدة والمقياس التي تُضْبَطُُ عليها كل روايات عبد الله ابن عمر و
/ مالك لا يعلوه ولا يكافئه في كل أمر الحديث أحد إن في الحفظ أو الضبط أو الاتقان
/ فضلا عن دخول الروايات الأخري عن عبد الله بن عمر كثير من علل المتن والإسناد ... والرواية بالمعني والتصور والإجمال و الإختصار والفهم الشخصي كعلة حديث محمد بن عبد الرحمن مولي طلحة في روايته لحديث الطلاق في الحمل ... ولم يتابع عليه من أي راوٍ في أي طريق أو شاهد
/ بل ومخالف لتشريع القران الكريم في منصوص العِدَدْ وميقات التطليق .
/ والعلة فيه جاءت من توهمه أن الطلاق لا يكون إلا في الطهر والحامل في تصورة طاهر إذن يحل في تصوره طلاقها فرواه من خيال نفسه وهما ومخالفة للأثبات الضابطين عنه وشذ شذوذا عظيما بروايته
/ كما أنها أي رواية مالك عن نافع عن بن عمر موافقة لنص القران في كل شيئ في تأجيل الطلاق للدبر وفي مسارات العدد وفي توقيت التطليق لبعد العدة وهكذا
وفي العدد قال النبي صلي الله عليه وسلم {{ مره فليراجعها حتي تطهر ثم تحيض ثم تطهر { هذان قَرآن كل قَرْء منهما حيضة وطهر } والقرء الثالث عبر عنه النبي الذي أوتي جوامع الكلم وأخُتصرت له الحكمة اختصارا بظرفي الزمان ان يمسك الزوج بعد أو يطلق قبل أن يمس فكل ظرف زماني منهما قد حدد القرء الثالث فقوله فإن شاء أمسك بعد حد دت الحيضة الثالثة وان شاء طلق قبل أن يمس حددت الطهر الثالث لأن المس يعني الجماع وهو حتي لحظة الطهر الثالث مسموح له ان يمسك زوجته كأحد الخيارين المعطاة للزوج في آخر العدة إما الإمساك وآخر زمانة دخول الحيضة الثالثة بمثابة الإشعار لناقوس الخطر وتقلص وقت التصرف بالإمساك وإما التطليق ولا ثالث هذا ما جاء به حديث مالك عن نافع عن ابن عمر عمدة أحاديث الطلاق لابن عمر
س /هل تَبَدَلَ شكل التكليف حينما يريد المسلم أن يطلق امرأته بين سورة البقرة 2هــ وسورة الطلاق5هــ ؟
ج / نعم تبدل الشكل والمضمون ففي سورة البقرة2هــ كان الشكل أن يقع الطلاق ثم يترتب عليه المضمون حيث كان الشكل في سورة البقرة ان يحدث الطلاق ثم تعتد المرأة [عدة الإستبراء] ويترتب عليه التبعات المتضمنة في سورة البقرة2هـ فتبدل هذا هذا الشكل وبناءا عليه تبدل مضمونه حين نزول سورة الطلاق 5هــ إلي فرض حدوث العدة أولا [عدة الإحصاء] ثم إيقاع الطلاق لمن أعرض عن الإمساك
س 1. هل هناك تنزيلان لتشريع الطلاق وبأي تشريع نلتزم ؟؟ ولماذا يفعل الباري جل وعلا ذلك واعلم ان الله لا يسأل عن شيئ وهم يسألون
ج 1 /نعم لا يسأل عن شيئ وهم يُسألون سبحانه وتعالي جلت قدرته وما نحن الا منحصرين في فلك الله وفلك شريعته لأنه هو القائل سبحانه {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)/سورة البقرة}
وهو جل شأنه القائل {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) / سورة النحل}
ومن هنا علمنا أن الله تعالي له مطلق الإرادة في أن ينزل ما يشاء ويُبدِّل ما يريد في مسار تشريعاته المنزلة لكننا خبرنا أنه سبحانه ينزل القران محتويا شرعة ليطابق تنزيله طاقات البشر [في كل مرحلة من مراحل التشريع حين كان ينزل التشريع] ويتدرج معهم في التكليفات الإلهية حتي يسمو بهم إلي اليقين والإحكام التكليفي الذي سيبقي والي يوم القيامة { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) /سورة ال عمران}
أما قوله تعالي ولا مبد ل لكلماته في الاية [ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)/سورة الأنعام – في السنن التي ختم الله عليها في كل أمره سبحانه فيما عدي التشريع فإنه سيأخذ شكل الثبات الأبدي بعد استكماله بوضع التنجيم بنزول الوحي علي النبي [صلي الله عليه وسلم] فإذا اكتمل وعلامته أن يقرر الباري أنه اكتمل فحينها يتأهل النبي [صلي الله عليه وسلم] للمغادرة ليخير فيختار الرفيق الأعلي وينقطع الوحي ويختم علي التشريع بالكمال والتمام والرضا ومن ساعتها فقضي الله أن لا مُبدل لكلماته ويختم علي التشريع بالثبات وامتناع التدخل فيه تغييرا او تبديلا او تحريفا ومن يفعل ذلك من المجرمين فهو كالواهم في السراب بأنه ماء
إستئناف الفتاوي ////وَأَمَّا كُلُّ عَمَلٍ يَعْلَمُ الْمُسْلِمُ
أَنَّهُ بِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا ؛ فَإِنَّ الْعَالِمَ بِذَلِكَ لَا يُجَوِّزُ
الْوَقْفَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَشْرُطُ بَعْضُهُمْ
بَعْضَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ الشَّرِيعَةَ أَوْ مَنْ هُوَ
يُقَلِّدُ فِي ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا
بَاطِلٌ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إلَى السُّنَّةِ
. وَلِمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا
فَهُوَ رَدٌّ } . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ
الْعَادِلِ إذَا خَالَفَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا لَمْ يَعْلَمْهُ فَهُوَ مَنْقُوضٌ
فَكَيْفَ بِتَصَرُّفِ مَنْ لَيْسَ يَعْلَمُ هَذَا الْبَابَ مِنْ وَاقِفٍ لَا
يَعْلَمُ حُكْمَ الشَّرِيعَةِ ؛ وَمَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُ مِنْ وُكَلَائِهِ .
وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِصُورَةِ ذَلِكَ وَلُزُومِهِ فَغَايَتُهُ
أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَادِلًا فَلَا : يُنَفِّذُ مَا خَالَفَ فِيهِ نَصًّا أَوْ
إجْمَاعًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَالشُّرُوطُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْأَمْرِ
بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالنَّهْيِ عَنْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُخَالَفَةٌ
لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ
فَإِنَّ طَاعَتَهُ فِيهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ
فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ
} .
فَهَذِهِ
الْقَوَاعِدُ هِيَ الْكَلِمَاتُ الْجَامِعَةُ ؛ وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي
تَنْبَنِي عَلَيْهَا هَذِهِ الْمَسَائِلُ ؛ وَنَحْوُهَا . وَقَدْ ذَكَرْنَا
مِنْهَا نُكَتًا جَامِعَةً بِحَسَبِ مَا تَحْتَمِلُهُ الْوَرَقَةُ يَعْرِفُهَا
الْمُتَدَرِّبُ فِي فِقْهِ الدِّينِ . وَبَعْدَ هَذَا يُنْظَرُ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ
الْحُكْمِ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ وَغَيْرِهَا بِنَظَرِهِ . فَمَا تَبَيَّنَ
أَنَّهُ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ أُلْغِيَ ؛ وَمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ شَرْطٌ
مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَمِلَ بِهِ ؛ وَمَا اشْتَبَهَ أَمْرُهُ أَوْ كَانَ
فِيهِ نِزَاعٌ فَلَهُ حُكْمُ نَظَائِرِهِ . وَمِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْبَاطِلَةِ
مَا يَحْتَاجُ تَغْيِيرُهُ إلَى هِمَّةٍ قَوِيَّةٍ ؛ وَقُدْرَةٍ نَافِذَةٍ .
وَيُؤَيِّدُهَا اللَّهُ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ . وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ قِيَامِ
الشَّخْصِ فِي هَوَى نَفْسِهِ لِجَلْبِ دُنْيَا أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ
دُنْيَوِيَّةٍ إذَا أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ
عَنْ الْمُنْكَرِ لَا يَكَادُ يَنْجَحُ سَعْيُهُ . وَإِنْ كَانَ مُتَظَلِّمًا
طَالِبًا مَنْ يُعِينُهُ فَإِنْ أَعَانَهُ اللَّهُ بِمَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ
أَوْ بِمَا يُقَدِّرُهُ لَهُ مِنْ جِهَةٍ تُعِينُهُ حَصَلَ مَقْصُودُهُ . وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا
بِاَللَّهِ .
وَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُونَ فَرْضُ تَمَامِ الْوُجُودِ
. وَاَللَّهُ يُسَهِّلُ لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُعِينُهُمْ عَلَى
خَيْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . فَمِمَّا لَا
نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَبِيتَ الشَّخْصِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ
دَائِمًا لَيْسَ قُرْبَةً وَلَا طَاعَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَلَا يَكُونُ
ذَلِكَ إلَّا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إذَا كَانَ فِي التَّعْيِينِ مَصْلَحَةٌ
شَرْعِيَّةٌ : مِثْلُ الْمَبِيتِ فِي لَيَالِي مِنًى ؛ وَمِثْلَ
مَبِيتِ الْإِنْسَانِ فِي الثَّغْرِ لِلرِّبَاطِ . أَوْ مَبِيتِهِ فِي الْحَرَسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . أَوْ عِنْدَ عَالِمٍ أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ يَنْتَفِعُ بِهِ . وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَأَمَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرَابِطَ دَائِمًا بِبُقْعَةِ بِاللَّيْلِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ الدِّينِ . بَلْ لَوْ كَانَ الْمَبِيتُ عَارِضًا وَكَانَ يَشْرَعُ فِيهَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَيْضًا مِنْ الدِّينِ . وَمَنْ شَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَوَقَفَ عَلَيْهِ الْمَالَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَلَا رَيْبَ فِي بُطْلَانِ مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ وَسُقُوطِهِ . بَلْ تَعْيِينُ مَكَانٍ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ إهْدَائِهِ غَيْرَ مَا عَيَّنَهُ الشَّارِعُ لَيْسَ أَيْضًا مَشْرُوعًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . حَتَّى لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ يَقْرَأَ أَوْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ بِعَيْنِهِ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ . وَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ ؛ لَكِنْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِفَوَاتِ التَّعْيِينِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَالْعُلَمَاءُ لَهُمْ فِي وُصُولِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ : كَالْقِرَاءَةِ ؛ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ إلَى الْمَيِّتِ قَوْلَانِ : أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَصِلُ ؛ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالتَّفَاضُلِ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ . وَلَا قَالَ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ : إنَّ الصَّلَاةَ أَوْ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَفْضَلُ مِنْهَا عِنْدَ غَيْرِهِ ؛ بَلْ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَتِهَا فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ . وَمَالِكٌ وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَطَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ . وَرَخَّصَ فِيهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى
مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَلَيْسَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ نَصٌّ نَعْرِفُهُ . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَفْضَلُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ عِنْدَ الْقَبْرِ يَنْتَفِعُ الْمَيِّتُ بِسَمَاعِهَا دُونَ مَا إذَا بَعُدَ الْقَارِئُ : فَقَوْلُهُ هَذَا بِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ مُخَالِفَةٌ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ . وَالْمَيِّتُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَنْتَفِعُ بِأَعْمَالِ يَعْمَلُهَا هُوَ بَعْدُ بَاطِلَةٌ : لَا مِنْ اسْتِمَاعٍ وَلَا قِرَاءَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِآثَارِ مَا عَمِلَهُ فِي حَيَاتِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } . وَيُنْتَفَعُ أَيْضًا بِمَا يُهْدَى إلَيْهِ مِنْ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ : كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ ؛ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِمْ . وَإِلْزَامُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَعْمَلُوا وَلَا يَتَصَدَّقُوا إلَّا فِي بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِثْلَ كَنَائِسِ النَّصَارَى بَاطِلٌ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَالِاسْتِخْلَافُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوطَة جَائِزٌ وَكَوْنُهَا عَنْ الْوَاقِفِ إذَا كَانَ النَّائِبُ مِثْلَ الْمُسْتَنِيبِ فَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْأَعْمَالِ الْمَشْرُوطَة فِي الْإِجَارَةِ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ لِأَنَّ
التَّعْيِينَ
فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ . فَشَرْطٌ بَاطِلٌ . وَمَتَى نَقَصُوا مِنْ الْمَشْرُوطِ
لَهُمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُنْقِصُوا مِنْ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ
ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
قَاعِدَةٌ فِيمَا يَشْتَرِطُ النَّاسُ فِي الْوَقْفِ : (*)
فَإِنَّ فِيهَا مَا فِيهِ عِوَضٌ دُنْيَوِيٌّ
وَأُخْرَوِيٌّ ؛ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَفِي بَعْضِهَا تَشْدِيدٌ عَلَى
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ . فَنَقُولُ
: الْأَعْمَالُ الْمَشْرُوطَة فِي الْوَقْفِ عَلَى
الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مِثْلَ الْوَقْفِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ
وَالْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ بِالْعِبَادَاتِ أَوْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ
:
أَحَدُهَا عَمَلٌ يَقْتَرِبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَهُوَ الْوَاجِبَاتُ والمستحبات الَّتِي رَغِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وَحَضَّ عَلَى تَحْصِيلِهَا : فَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ
يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ وَيَقِفُ اسْتِحْقَاقُ الْوَقْفِ عَلَى حُصُولِهِ فِي
الْجُمْلَةِ . وَالثَّانِي عَمَلٌ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ فَاشْتِرَاطُ مِثْلِ
هَذَا الْعَمَلِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ لِمَا قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِهِ
فَقَالَ :
{ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ خَرَجَ بِسَبَبِ شَرْطِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتَقِ فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ . وَكَذَا مَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ مُسْتَلْزِمًا وُجُودَ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ نُهِيَ عَنْهُ بِبَعْضِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا عَلِمَ أَنَّهُ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ لَكِنْ قَدْ يَخْتَلِفُ اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ؟ فَيَخْتَلِفُ اجْتِهَادُهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّرْطِ ؛ بِنَاءً عَلَى هَذَا . وَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْأُمَّةِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الْمُشْتَرَطُ لَيْسَ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ مُنَافٍ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمِثَالُ هَذِهِ الشُّرُوطِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى أَهْلِ الرِّبَاطِ مُلَازَمَتَهُ وَهَذَا مَكْرُوهٌ فِي الشَّرِيعَةِ مِمَّا أَحْدَثَهُ النَّاسُ أَوْ يَشْتَرِطُ عَلَى الْفُقَهَاءِ اعْتِقَادَ بَعْضِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ بَعْضِ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ يَشْتَرِطُ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ الْمُؤَذِّنِ تَرْكَ بَعْضِ سُنَنِ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ أَوْ فِعْلَ بَعْضِ بِدَعِهِمَا مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْفَجْرِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ أَوْ أَنْ يَصِلَ الْأَذَانَ بِذِكْرِ غَيْرِ مَشْرُوعٍ أَوْ أَنْ يُقِيمَ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَدْرَسَةِ أَوْ الْمَسْجِدِ مَعَ إقَامَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ : أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا . وَمِمَّا يَلْحَقُ بِهَذَا الْقِسْمِ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مُسْتَلْزِمًا تَرْكَ مَا نَدَبَ إلَيْهِ الشَّارِعُ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى أَهْلِ رِبَاطٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ إلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ أَنْ يُصَلُّوا فِيهَا فَرْضَهُمْ : فَإِنَّ هَذَا دُعَاءٌ إلَى تَرْكِ الْفَرْضِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مِثْلِ هَذَا بَلْ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ هُوَ الْأَفْضَلُ ؛ بَلْ الْوَاجِبُ هَدْمُ مَسَاجِدِ الضِّرَارِ مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اشْتِرَاطُ الْإِيقَادِ عَلَى الْقُبُورِ : إيقَادُ الشَّمْعِ أَوْ الدُّهْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } وَبِنَاءُ الْمَسْجِدِ وَإِسْرَاجُ الْمَصَابِيحِ عَلَى الْقُبُورِ مِمَّا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ خِلَافًا أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَتَفَاصِيلُ هَذِهِ الشُّرُوطِ يَطُولُ جِدًّا وَإِنَّمَا نَذْكُرُهَا هُنَا جِمَاعَ الشُّرُوطِ . ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ : عَمَلٌ لَيْسَ بِمَكْرُوهِ فِي الشَّرْعِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ . بَلْ هُوَ مُبَاحٌ مُسْتَوَى الطَّرَفَيْنِ فَهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ . وَالْجُمْهُورُ مِنْ الْعُلَمَاءِ : مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ شَرْطَهُ بَاطِلٌ فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَشْرِطَ إلَّا مَا كَانَ قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْذُلَ مَالَهُ إلَّا لِمَا لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا فَمَا دَامَ
الْإِنْسَانُ
حَيًّا فَلَهُ أَنْ يَبْذُلَ مَالَهُ فِي تَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ الْمُبَاحَةِ لِأَنَّهُ
يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ . فَأَمَّا الْمَيِّتُ فَمَا بَقِيَ بَعْدَ الْمَوْتِ
يَنْتَفِعُ مِنْ أَعْمَالِ الْأَحْيَاءِ ؛ إلَّا بِعَمَلِ صَالِحٍ قَدْ أَمَرَ
بِهِ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ أَوْ أَهْدَى إلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَأَمَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي
لَيْسَتْ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمَيِّتُ بِحَالِ
؛ فَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُوصِي أَوْ الْوَاقِفُ عَمَلًا أَوْ صِفَةً لَا ثَوَابَ
فِيهَا ؛ كَانَ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهَا سَعْيًا فِيمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ
فِي دُنْيَاهُ وَلَا فِي آخِرَتِهِ ؛ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ ؛ وَهَذَا
إنَّمَا مَقْصُودُهُ بِالْوَقْفِ التَّقَرُّبَ . . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ أَوْقَفَ رِبَاطًا ؛ وَجَعَلَ فِيهِ جَمَاعَةً
مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ ؛ وَجَعَلَ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ مَا يَكْفِيهِمْ ؛
وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ : مِنْهَا أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي
وَقْتَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ مِنْ النَّهَارِ ؛ فَيَقْرَءُونَ شَيْئًا مُعَيَّنًا
مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَوْقَفَهُ لَا فِي غَيْرِهِ ؛
مُجْتَمِعِينَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مُتَفَرِّقِينَ ؛ وَشَرَطَ أَنْ يُهْدُوا لَهُ
ثَوَابَ التِّلَاوَةِ ؛ وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا شَرَطَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي
أَوْقَفَهُ لَمْ يَأْخُذْ مَا جَعَلَ لَهُ . فَهَلْ جَمِيعُ الشُّرُوطِ لَازِمَةٌ
لِمَنْ أَخَذَ الْمَعْلُومَ ؟ أَمْ بَعْضُهَا ؟ أَمْ لَا أَثَرَ لِجَمِيعِهَا ؟
وَهَلْ إذَا لَزِمَتْ الْقِرَاءَةُ . فَهَلْ يَلْزَمُ جَمِيعُ مَا شَرَطَهُ
مِنْهَا ؟ أَمْ يَقْرَءُونَ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ قِرَاءَتُهُ مِنْ غَيْرِ
أَنْ يُهْدُوا شَيْئًا ؟ .
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ
مَا شُرِطَ مِنْ الْعَمَلِ مِنْ الْوُقُوفِ الَّتِي تُوقَفُ عَلَى الْأَعْمَالِ
فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قُرْبَةً ؛ إمَّا وَاجِبًا ؛ وَإِمَّا مُسْتَحَبًّا
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ عَمَلٍ مُحَرَّمٍ فَلَا يَصِحُّ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ ؛ وَكَذَلِكَ الْمُبَاحُ عَلَى
الصَّحِيحِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ
تَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ .
كَالشُّرُوطِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ . وَمَنْ قَالَ
مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ نُصُوصٌ كَأَلْفَاظِ الشَّارِعِ فَمُرَادُهُ
أَنَّهَا كَالنُّصُوصِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مُرَادِ الْوَاقِفِ ؛ لَا فِي
وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا : أَيْ أَنَّ مُرَادَ الْوَاقِفِ يُسْتَفَادُ مِنْ
أَلْفَاظِهِ الْمَشْرُوطَة ؛ كَمَا يُسْتَفَادُ مُرَادُ الشَّارِعِ مِنْ
أَلْفَاظِهِ ؛ فَكَمَا يُعْرَفُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ وَالْإِطْلَاقُ
وَالتَّقْيِيدُ وَالتَّشْرِيكُ وَالتَّرْتِيبُ فِي الشَّرْعِ مِنْ أَلْفَاظِ
الشَّارِعِ . فَكَذَلِكَ تُعْرَفُ فِي الْوَقْف مِنْ أَلْفَاظِ الْوَاقِفِ . مَعَ
أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذَا أَنَّ لَفْظَ الْوَاقِفِ وَلَفْظَ الْحَالِفِ
وَالشَّافِعِ وَالْمُوصِي وَكُلِّ عَاقِدٍ يُحْمَلُ عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابِهِ
وَلُغَتِهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا ؛ سَوَاءٌ وَافَقَتْ الْعَرَبِيَّةَ
الْعَرْبَاءَ ؛ أَوْ الْعَرَبِيَّةَ الْمُوَلَّدَةَ ؛ أَوْ الْعَرَبِيَّةَ
الْمَلْحُونَةَ ؛ أَوْ كَانَتْ غَيْرَ عَرَبِيَّةٍ وَسَوَاءٌ وَافَقَتْ لُغَةَ
الشَّارِعِ ؛ أَوْ لَمْ تُوَافِقْهَا ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَلْفَاظِ
دَلَالَتُهَا عَلَى مُرَادِ النَّاطِقِينَ بِهَا ؛ فَنَحْنُ نَحْتَاجُ إلَى
مَعْرِفَةِ كَلَامِ الشَّارِعِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ لُغَتِهِ وَعُرْفِهِ
وَعَادَتِهِ تَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِهِ وَكَذَلِكَ فِي
خِطَابِ كُلِّ أُمَّةٍ وَكُلِّ قَوْمٍ ؛ فَإِذَا تَخَاطَبُوا بَيْنَهُمْ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ . أَوْ الْوَقْفِ أَوْ الْوَصِيَّةِ أَوْ النَّذْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِكَلَامِ رَجَعَ إلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِهِمْ وَإِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِمْ مِنْ عَادَتِهِمْ فِي الْخِطَابِ ؛ وَمَا يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ . وَأَمَّا أَنْ تُجْعَلَ نُصُوصُ الْوَاقِفِ أَوْ نُصُوصُ غَيْرِهِ مِنْ الْعَاقِدِينَ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا ؛ فَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ إذْ لَا أَحَدَ يُطَاعُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْبَشَرِ - بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالشُّرُوطُ إنْ وَافَقَتْ كِتَابَ اللَّهِ كَانَتْ صَحِيحَةً . وَإِنْ خَالَفَتْ كِتَابَ اللَّهِ كَانَتْ بَاطِلَةً . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِهِ وَقَالَ : { مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ . وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ ؛ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } . وَهَذَا الْكَلَامُ حُكْمُهُ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْوَقْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . سَوَاءٌ تَنَاوَلَهُ لَفْظُ الشَّارِعِ . أَوْ لَا ؛ إذْ الْأَخْذُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ . أَوْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ عُمُومًا مَعْنَوِيًّا .
وَإِذَا
كَانَتْ شُرُوطُ الْوَاقِفِ تَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَبَاطِلٍ : بِالِاتِّفَاقِ ؛
فَإِنْ شَرَطَ فِعْلًا مُحَرَّمًا ظَهَرَ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ
فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَإِنْ شَرَطَ مُبَاحًا لَا قُرْبَةَ فِيهِ كَانَ
أَيْضًا بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ شَرْطًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَا لَهُ وَلَا
لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَا يَنْتَفِعُ إلَّا بِالْإِعَانَةِ
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى . وَأَمَّا بَذْلُ الْمَالِ فِي مُبَاحٍ : فَهَذَا
إذَا بَذَلَهُ فِي حَيَاتِهِ مِثْلَ الِابْتِيَاعِ ؛ وَالِاسْتِئْجَارِ جَازَ ؛
لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِتَنَاوُلِ الْمُبَاحَاتِ فِي حَيَاتِهِ .
وَأَمَّا الْوَاقِفُ وَالْمُوصِي فَإِنَّهُمَا لَا
يَنْتَفِعَانِ بِمَا يَفْعَلُ الْمُوصَى لَهُ وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ
الْمُبَاحَاتِ فِي الدُّنْيَا وَلَا يُثَابَانِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي ذَلِكَ
فِي الْآخِرَةِ فَلَوْ بَذَلَ الْمَالَ فِي ذَلِكَ عَبَثًا وَسَفَهًا لَمْ يَكُنْ
فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى تَنَاوُلِ الْمَالِ فَكَيْفَ إذَا أَلْزَمَ بِمُبَاحِ لَا
غَرَضَ لَهُ فِيهِ فَلَا هُوَ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي
الْآخِرَةِ ؛ بَلْ يَبْقَى هَذَا مُنْفِقًا لِلْمَالِ فِي الْبَاطِلِ مُسَخَّرٌ
مُعَذَّبٌ آكِلٌ لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ .
وَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ قَالَ : { لَا سَبْقَ
إلَّا فِي خُفٍّ ؛ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ } فَلِمَ يُجَوِّزْ بِالْجُعْلِ
شَيْئًا لَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْجِهَادِ . وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا وَقَدْ
يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ كَمَا فِي الْمُصَارَعَةِ وَالْمُسَابَقَةِ عَلَى
الْأَقْدَامِ فَكَيْفَ يَبْذُلُ الْعِوَضَ الْمُؤَبَّدَ فِي عَمَلٍ لَا مَنْفَعَةَ
فِيهِ لَا سِيَّمَا وَالْوَقْفُ مُحْبَسٌ مُؤَبَّدٌ فَكَيْفَ يَحْبِسُ الْمَالَ
دَائِمًا مُؤَبَّدًا عَلَى عَمَلٍ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ هُوَ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَامِلُ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى حَبْسِ الْوَرَثَةِ وَسَائِرِ الْآدَمِيِّينَ بِحَبْسِ الْمَالِ عَلَيْهِمْ بِلَا مَنْفَعَةٍ حَصَلَتْ لِأَحَدِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْمُتَنَاوِلِينَ بِاسْتِعْمَالِهِمْ فِي عَمَلٍ هُمْ فِيهِ مُسَخَّرُونَ يَعُوقُهُمْ عَنْ مَصَالِحِهِمْ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا فَائِدَةَ تَحْصُلُ لَهُ وَلَا لَهُمْ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ مُجْتَمِعِينَ بِصَوْتِ وَاحِدٍ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ تُسَمَّى " قِرَاءَةَ الْإِرَادَةِ " وَقَدْ كَرِهَهَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : كَمَالِكِ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَمَنْ رَخَّصَ فِيهَا - كَبَعْضِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد - لَمْ يَقُلْ إنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الِانْفِرَادِ يَقْرَأُ كُلٌّ مِنْهُمْ جَمِيعَ الْقُرْآنِ . وَأَمَّا هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فَلَا يَحْصُلُ لِوَاحِدِ جَمِيعُ الْقُرْآنِ بَلْ هَذَا يُتِمُّ مَا قَرَأَهُ هَذَا وَهَذَا يُتِمُّ مَا قَرَأَهُ هَذَا وَمَنْ كَانَ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ يَتْرُكُ قِرَاءَةَ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ . وَلَيْسَ فِي الْقِرَاءَةِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَضِيلَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ يُقَدِّمُ بِهَا الْقِرَاءَةَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ أَوْ بَعْدَ الْفَجْرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ فَلَا قُرْبَةَ فِي تَخْصِيصِ مِثْلِ ذَلِكَ بِالْوَقْتِ . وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ صِيَامًا أَوْ قِرَاءَةً أَوْ اعْتِكَافًا فِي مَكَانٍ بِعَيْنِهِ
فَإِنْ كَانَ لِلتَّعْيِينِ مَزِيَّةٌ فِي الشَّرْعِ : كَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَزِيَّةٌ : كَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ فِي مَسَاجِدِ الْأَمْصَارِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالنَّذْرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ . وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . فَإِذَا كَانَ النَّذْرُ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لَا يَجِبُ أَنْ يُوَفَّى بِهِ إلَّا مَا كَانَ طَاعَةً بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يُوَفَّى مِنْهُ بِمُبَاحِ كَمَا لَا يَجِبُ أَنْ يُوَفَّى مِنْهُ بِمُحَرَّمِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فِي الصُّورَتَيْنِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ : كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . فَكَيْفَ بِغَيْرِ النَّذْرِ مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي لَيْسَ فِي لُزُومِهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا فِي النَّذْرِ . وَأَمَّا اشْتِرَاطُ إهْدَاءِ ثَوَابِ التِّلَاوَةِ فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى إهْدَاءِ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ : كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ؛ وَالْقِرَاءَةِ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةَ يَجُوزُ إهْدَاءُ ثَوَابِهَا بِلَا نِزَاعٍ وَأَمَّا الْبَدَنِيَّةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ . فَمَنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إهْدَاءُ ثَوَابِهَا : كَأَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ عِنْدَهُمْ بَاطِلًا كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَحْمِلَ عَنْ الْوَاقِفِ دُيُونَهُ فَإِنَّهُ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . وَمَنْ كَانَ مَنْ مَذْهَبُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ إهْدَاءُ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ : كَأَحْمَدَ
وَأَصْحَابِ
أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ . فَهَذَا يُعْتَبَرُ أَمْرًا
آخَرَ وَهُوَ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا قَصَدَ بِهَا وَجْهَ
اللَّهِ فَأَمَّا مَا يَقَعُ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ إجَارَةٍ أَوْ جِعَالَةٍ
فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قُرْبَةً فَإِنْ جَازَ أَخْذُ الْأَجْرِ وَالْجُعْلِ
عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ
وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ نَقُولُ . . . (1) .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ وَقَفَ مَدْرَسَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَشَرَطَ
عَلَى أَهْلِهَا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِيهَا فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ ؟
وَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُنْزَلِينَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى دُونَهَا . وَيَتَنَاوَلُونَ مَا قُرِّرَ لَهُمْ ؟ أَمْ لَا يَحِلُّ
التَّنَاوُلُ إلَّا بِفِعْلِ هَذَا الشَّرْطِ ؟ .
فَأَجَابَ
:
لَيْسَ هَذَا شَرْطًا صَحِيحًا يَقِفُ الِاسْتِحْقَاقُ
عَلَيْهِ كَمَا كَانَ يُفْتِي بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِعَيْنِهَا
الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛
لِأَدِلَّةِ مُتَعَدِّدَةٍ . وَقَدْ بَسَطْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَعَ مَا
فِي ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ . وَيَجُوزُ لِلْمُنْزَلِينَ أَنْ
يُصَلُّوا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَا يُصَلُّوهَا
فِي الْمَدْرَسَةِ . وَيَسْتَحِقُّونَ مَعَ ذَلِكَ مَا قُدِّرَ لَهُمْ وَذَلِكَ أَفْضَلُ
لَهُمْ
مِنْ
أَنْ يُصَلُّوا فِي الْمَدْرَسَةِ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ فِي الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى لِأَجْلِ حِلِّ الْجَارِي : وَرَعٌ فَاسِدٌ يُمْنَعُ صَاحِبُهُ الثَّوَابَ
الْعَظِيمَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ :
فِي وَاقِفٍ وَقَفَ رِبَاطًا عَلَى الصُّوفِيَّةِ
وَكَانَ هَذَا الرِّبَاطُ قَدِيمًا جَارِيًا عَلَى قَاعِدَةِ الصُّوفِيَّةِ فِي
الرَّبْطِ : مِنْ الطَّعَامِ وَالِاجْتِمَاعِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَطْ ؟
فَتَوَلَّى نَظْرَهُ شَخْصٌ فَاجْتَهَدَ فِي تَبْطِيلِ قَاعِدَتِهِ وَشَرَطَ عَلَى
مَنْ بِهِ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي الرِّبَاطِ أَصْلًا ثُمَّ إنَّهُمْ يُصَلُّونَ
الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي هَذَا الرِّبَاطِ وَيَقْرَءُونَ بَعْدَ الصُّبْحِ
قَرِيبًا مِنْ جُزْءٍ وَنِصْفٍ وَبَعْدَ الْعَصْرِ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ
أَجْزَاءٍ حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ إذَا غَابَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ قِرَاءَةِ كُتُبٍ
عَلَيْهِ غَيْبَةً مَعَ أَنَّ هَذَا الرِّبَاطَ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ كِتَابُ وَقْفٍ
؛ وَلَا شَرْطٌ . فَهَلْ يَجُوزُ إحْدَاثُ هَذِهِ الشُّرُوطِ عَلَيْهِمْ ؟ أَمْ
لَا ؟ وَهَلْ يَأْثَمُ مَنْ أَحْدَثَهَا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَحِلُّ لِلنَّاظِرِ
الْآنَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِمْ غَيْبَةً أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ إبْطَالُ
هَذِهِ الشُّرُوطِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُثَابُ وَلِيُّ الْأَمْرِ إذَا أَبْطَلَهَا
أَمْ لَا ؟ وَإِذْ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ قَدْ شَرَطَهَا الْوَاقِفُ : هَلْ
يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا أَمْ لَا ؟ وَمَا الصُّوَرُ فِي الَّذِي يَسْتَحِقُّ
ذَلِكَ ؟ وَهَلْ إذَا كَانَ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ هُوَ مُشْتَغِلٌ بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ
يَكُونُ أَوْلَى مِمَّنْ هُوَ مُتَرَسِّمٌ بِرَسْمِ ظَاهِرٍ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ ؟
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَأَدِّبًا
بِالْآدَابِ
الشَّرْعِيَّةِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . أَمْ لَا ؟ وَإِذَا
كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مُشْتَغِلٌ بِالْعِلْمِ الشَّرِيفِ . وَلَهُ مِنْ الدُّنْيَا
مَا لَا يَقُومُ بِبَعْضِ كِفَايَتِهِ . هَلْ يَكُونُ أَوْلَى مِمَّنْ لَيْسَ
مُتَأَدِّبًا بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ . وَلَا عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ
أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ . وَبَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا بِالدَّلِيلِ
مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ .
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
لَا يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ إحْدَاثُ هَذِهِ الشُّرُوطِ
وَلَا غَيْرِهَا فَإِنَّ النَّاظِرَ إنَّمَا هُوَ مُنَفِّذٌ لِمَا شَرَطَهُ
الْوَاقِفُ . لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ شُرُوطًا لَمْ يُوجِبْهَا الْوَاقِفُ
وَلَا أَوْجَبَهَا الشَّارِعُ وَيَأْثَمُ مَنْ أَحْدَثَهَا . فَإِنَّهُ مَنَعَ
الْمُسْتَحِقِّينَ حَقَّهُمْ حَتَّى يَعْمَلُوا أَعْمَالًا لَا تَجِبُ . وَلَا
يَحِلُّ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى مَنْ أَخَلَّ بِذَلِكَ غَيْبَةً ؛ بَلْ يَجِبُ
إبْطَالُ هَذِهِ الشُّرُوطِ . وَيُثَابُ السَّاعِي فِي إبْطَالِهَا مُبْتَغِيًا بِذَلِكَ
وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى . وَأَمَا الصُّوفِيُّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ
عَلَى الصُّوفِيَّةِ ؛ فَيُعْتَبَرُ لَهُ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ . أَحَدُهَا : أَنْ
يَكُونَ عَدْلًا فِي دِينِهِ ؛ يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ . الثَّانِي :
أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لِغَالِبِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ فِي غَالِبِ
الْأَوْقَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً مِثْلَ آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ
وَاللِّبَاسِ وَالنَّوْمِ
وَالسَّفَرِ وَالرُّكُوبِ وَالصُّحْبَةِ وَالْعِشْرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَلْقِ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآدَابِ الشَّرِيفَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا . وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ الْآدَابِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا فِي الدِّينِ ؛ مِنْ الْتِزَامِ شَكْلٍ مَخْصُوصٍ فِي اللُّبْسَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يُسْتَحَبُّ فِي الشَّرِيعَةِ . فَإِنَّ مَبْنَى الْآدَابِ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَلَا يُلْتَفَتُ أَيْضًا إلَى مَا يُهْدِرُهُ بَعْضُ الْمُتَفَقِّهَةِ مِنْ الْآدَابِ الْمَشْرُوعَةِ يَعْتَقِدُ - لِقِلَّةِ عِلْمِهِ - أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ ؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ فِيمَا بَلَغَهُ مِنْ الْعِلْمِ أَوْ طَالَعَهُ مِنْ كُتُبِهِ ؛ بَلْ الْعِبْرَةُ فِي الْآدَابِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ : قَوْلًا وَفِعْلًا وَتَرْكًا ؛ كَمَا أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْفَرَائِضِ وَالْمَحَارِمِ بِذَلِكَ أَيْضًا . وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ فِي الصُّوفِيِّ : قَنَاعَتُهُ بِالْكَفَافِ مِنْ الرِّزْقِ ؛ بِحَيْثُ لَا يُمْسِكُ مِنْ الدُّنْيَا مَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ ؛ فَمَنْ كَانَ جَامِعًا لِفُضُولِ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَقْصِدُ إجْرَاءَ الْأَرْزَاقِ عَلَيْهِمْ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُفْسِحُ لَهُمْ فِي مُجَرَّدِ السُّكْنَى فِي الرَّبْطِ وَنَحْوِهَا . فَمَنْ حَمَلَ هَذِهِ الْخِصَالَ الثَّلَاثَ كَانَ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الْمَقْصُودِينَ بِالرَّبْطِ وَالْوَقْفِ عَلَيْهَا . وَمَا فَوْقَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَرْبَابِ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ وَذَوِي الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ وَالْمِنَحِ الرَّبَّانِيَّةِ : فَيَدْخُلُونَ فِي الْعُمُومِ ؛ لَكِنْ لَا يَخْتَصُّ الْوَقْفُ بِهِمْ لِقِلَّةِ هَؤُلَاءِ ؛ وَلِعُسْرِ تَمْيِيزِ الْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ عَلَى غَالِبِ الْخَلْقِ ؛ فَلَا يُمْكِنُ رَبْطُ اسْتِحْقَاقِ الدُّنْيَا بِذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ قَدْ لَا يُنْزِلُ الرَّبْطَ إلَّا نَادِرًا . وَمَا دُونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى مُجَرَّدِ رَسْمٍ فِي لُبْسَةٍ أَوْ مِشْيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ : لَا يَسْتَحِقُّونَ الْوَقْفَ ؛ وَلَا يَدْخُلُونَ فِي مُسَمَّى الصُّوفِيَّةِ ؛ لَا سِيَّمَا
إنْ كَانَ ذَلِكَ مُحْدَثًا لَا أَصْلَ لَهُ فِي السُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ بَذْلَ الْمَالِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الرُّسُومِ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ ؛ وَأَكْلٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَصُدُودٌ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ . وَمَنْ كَانَ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الْمَذْكُورِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ فِيهِ قَدْرٌ زَائِدٌ : مِثْلَ اجْتِهَادٍ فِي نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ ؛ أَوْ سَعْيٍ فِي تَصْحِيحِ أَحْوَالِ الْقَلْبِ ؛ أَوْ طَلَبِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْيَانِ ؛ أَوْ عِلْمِ الْكِفَايَةِ : فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَأَدِّبًا بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ ؛ وَطَالِبُ الْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ تَمَامُ الْكِفَايَةِ : أَوْلَى مِمَّنْ لَيْسَ فِيهِ الْآدَابُ الشَّرْعِيَّةُ ؛ وَلَا عِلْمَ عِنْدِهِ ؛ بَلْ مِثْلُ هَذَا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا.
مَا
تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءَ :
فِي الشُّرُوطِ الَّتِي قَدْ جَرَتْ الْعَوَائِدُ فِي
اشْتِرَاطِ أَمْثَالِهَا مِنْ الْوَاقِفِينَ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ مِمَّا
بَعْضُهُ لَهُ فَائِدَةٌ ظَاهِرَةٌ وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ مَطْلُوبَةٌ وَبَعْضُهَا
لَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ غَرَضٍ لِلْوَاقِفِ ؛ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ؛ فَإِنْ وَفَى بِهِ شَقَّ عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ أَهْمَلَهُ
خَشِيَ الْإِثْمَ وَأَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لِلْحَرَامِ وَذَلِكَ كَشَرْطِ
وَاقِفِ الرِّبَاطِ أَوْ الْمَدْرَسَةِ الْمَبِيتَ وَالْعُزُوبَةَ وَتَأْدِيَةَ
الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ بِالرِّبَاطِ وَتَخْصِيصَ الْقِرَاءَةِ الْمُعَيَّنَةِ
بِالْمَكَانِ بِعَيْنِهِ وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ مَدِينَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ
مُعَيَّنَةٍ أَوْ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ فِي
الْإِمَامَةِ بِالْمَسَاجِدِ وَالْأَذَانِ وَسَمَاعِ الْحَدِيثِ بِحِلَقِ
الْحَدِيث بالخوانك . فَهَلْ هَذِهِ الشُّرُوطُ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّا هُوَ
مُبَاحٌ فِي الْجُمْلَةِ وَلِلْوَاقِفِ فِيهِ يَسِيرُ غَرَضٍ لَازِمَةٍ لَا يَحِلُّ
لِأَحَدِ الْإِخْلَالُ بِهَا وَلَا بِشَيْءِ مِنْهَا ؟ أَمْ يُلْزَمُ الْبَعْضُ
مِنْهَا دُونَ الْبَعْضِ ؟ وَأَيُّ ذَلِكَ هُوَ اللَّازِمُ ؟ وَأَيُّ ذَلِكَ
الَّذِي لَا يَلْزَمُ ؟ وَمَا الضَّابِطُ فِيمَا يَلْزَمُ وَمَا لَا يَلْزَمُ ؟ .
فَأَجَابَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْأَعْمَالُ
الْمَشْرُوطَةُ فِي الْوَقْفِ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مِثْلَ الْوَقْفِ
عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ
وَالْقُرْآنِ
وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ بِالْعِبَادَةِ أَوْ بِالْجِهَادِ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :
أَحَدُهَا : عَمَلٌ يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى وَهُوَ الْوَاجِبَاتُ والمستحبات الَّتِي رَغَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وَحَضَّ عَلَى تَحْصِيلِهَا . فَمِثْلُ هَذَا
الشَّرْطِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ وَيَقِفُ اسْتِحْقَاقُ الْوَقْفِ عَلَى
حُصُولِهِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَالثَّانِي : عَمَلٌ قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ : نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ
فَاشْتِرَاطُ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لِمَا قَدْ
اسْتَفَاضَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِهِ فَقَالَ : { مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا
لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ
اللَّهِ أَوْثَقُ } وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ خَرَجَ بِسَبَبِ شَرْطِ الْوَلَاءِ
لِغَيْرِ الْمُعْتَقِ فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ
السَّبَبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ وَمَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ مُسْتَلْزِمًا وُجُودَ مَا نَهَى عَنْهُ
الشَّارِعُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا نَهَى عَنْهُ وَمَا عُلِمَ بِبَعْضِ
الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا عُلِمَ
أَنَّهُ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ ؛ لَكِنْ قَدْ يَخْتَلِفُ اجْتِهَادُ
الْعُلَمَاءِ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ : هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ
؟ فَيَخْتَلِفُ اجْتِهَادُهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّرْطِ بِنَاءً عَلَى هَذَا وَهَذَا
أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْأُمَّةِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِطُ لَيْسَ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ ؛ لَكِنَّهُ مُنَافٍ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ . فَمِثَالُ هَذِهِ الشُّرُوطِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى أَهْلِ الرِّبَاطِ مُلَازَمَتَهُ هَذَا مَكْرُوهٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا قَدْ أَحْدَثَهُ النَّاسُ أَوْ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْفُقَهَاءِ اعْتِقَادَ بَعْضِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ بَعْضِ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ تَرْكَ بَعْضِ سُنَنِ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ أَوْ فِعْلَ بَعْضِ بِدَعِهَا مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْفَجْرِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَأَنْ يَصِلَ الْأَذَانَ بِذِكْرِ غَيْرِ مَشْرُوعٍ أَوْ أَنْ يُقِيمَ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَدْرَسَةِ وَالْمَسْجِدِ مَعَ إقَامَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا . وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِهَذَا الْقِسْمِ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مُسْتَلْزِمًا لِلْحَضِّ عَلَى تَرْكِ مَا نَدَبَ إلَيْهِ الشَّارِعُ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى أَهْلِ رِبَاطٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ إلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ أَنْ يُصَلُّوا فِيهَا فَرْضَهُمْ فَإِنَّ هَذَا دُعَاءٌ إلَى تَرْكِ أَدَاءِ الْفَرْضِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مِثْلِ هَذَا ؛ بَلْ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ هُوَ الْأَفْضَلُ بَلْ الْوَاجِبُ هَدْمُ مَسَاجِدِ الضِّرَارِ مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اشْتِرَاطُ الْإِيقَادِ عَلَى الْقُبُورِ وَإِيقَادِ شَمْعٍ أَوْ دُهْنٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ
عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } . وَبِنَاءُ الْمَسْجِدِ وَإِسْرَاجُ الْمَصَابِيحِ عَلَى الْقُبُورِ مِمَّا لَمْ أَعْلَمْ خِلَافًا أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَتَفَاصِيلُ هَذِهِ الشُّرُوطِ تَطُولُ جِدًّا وَإِنَّمَا نَذْكُرُ هُنَا جِمَاعَ الشُّرُوطِ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : عَمَلٌ لَيْسَ بِمَكْرُوهِ فِي الشَّرْعِ وَلَا مُسْتَحَبٌّ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ . فَهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ وَالْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ بَاطِلٌ وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَشْتَرِطَ إلَّا مَا كَانَ قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْذُلَ مَالَهُ إلَّا لِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا فَمَا دَامَ الرَّجُلُ حَيًّا فَلَهُ أَنْ يَبْذُلَ مَالَهُ فِي تَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ الْمُبَاحَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ . فَأَمَّا الْمَيِّتُ فَمَا بَقِيَ بَعْدَ الْمَوْتِ يَنْتَفِعُ مِنْ أَعْمَالِ الْأَحْيَاءِ إلَّا بِعَمَلِ صَالِحٍ قَدْ أَمَرَ بِهِ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ أَوْ قَدْ أَهَدَى إلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَأَمَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي لَيْسَتْ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمَيِّتُ بِحَالِ . فَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُوصِي أَوْ الْوَاقِفُ عَمَلًا أَوْ صِفَةً لَا ثَوَابَ فِيهَا كَانَ السَّعْيُ فِيهَا بِتَحْصِيلِهَا سَعْيًا فِيمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ . وَهُوَ إنَّمَا مَقْصُودُهُ بِالْوَقْفِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّارِعُ أَعْلَمُ مِنْ الْوَاقِفِينَ بِمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَالْوَاجِبُ أَنْ يَعْمَلَ فِي شُرُوطِهِمْ بِمَا يَشْرُطُهُ اللَّهُ وَرَضِيَهُ فِي شُرُوطِهِمْ .
وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : { لَا سَبْقَ إلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ ؛ أَوْ حَافِرٍ } وَعَمِلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ ؛ وَمُتَابِعُوهُمْ فَنَهَى عَنْ بَذْلِ الْمَالِ فِي الْمُسَابَقَةِ إلَّا فِي مُسَابَقَةٍ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ؛ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَبْذُلَ الْجُعْلَ الْمُؤَبَّدَ لِمَنْ يَعْمَلُ دَائِمًا عَمَلًا لَيْسَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى . وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنْ قَدْ تَخْتَلِفُ آرَاءُ النَّاسِ وَأَهْوَاؤُهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ ؛ وَلَا يُمْكِنُ هُنَا تَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ . وَلَكِنْ مَنْ لَهُ هِدَايَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَيْهِ الْمَقْصُودُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ . وَتُسَمِّي الْعُلَمَاءُ مِثْلَ هَذِهِ الْأُصُولِ " تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ " وَذَلِكَ كَمَا أَنَّهُمْ جَمِيعَهُمْ يَشْتَرِطُونَ الْعَدَالَةَ فِي الشَّهَادَةِ ؛ وَيُوجِبُونَ النَّفَقَةَ بِالْمَعْرُوفِ ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ . ثُمَّ قَدْ يَخْتَلِفُ اجْتِهَادُهُمْ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ : هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْعَدَالَةِ ؟ وَيَخْتَلِفُونَ فِي صِفَةِ الْإِنْفَاقِ بِالْمَعْرُوفِ . وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا يُنَبِّهُ عَنْ مِثَالِهِ . أَمَّا إذَا اشْتَرَطَ عَلَى أَهْلِ الرِّبَاطِ أَوْ الْمَدْرَسَةِ أَنْ يُصَلُّوا فِيهَا الْخَمْسَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ ؛ فَإِنْ كَانَتْ فِيمَا فِيهِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ ؛ كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَكَانٍ بِعَيْنِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمَكَانِ قُرْبَةٌ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ ؛ بِأَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ إذَا لَمْ يُصَلِّ صَلَاةً تَكُونُ مِثْلَ تِلْكَ ؛ أَوْ أَفْضَلَ ؛ وَإِلَّا
وَجَبَ الْوَفَاءُ بِالصَّلَاةِ ؛ دُونَ التَّعْيِينِ وَالْمَكَانِ . وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّعْيِينِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ . فَإِذَا كَانَ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ هُنَاكَ فِي جَمَاعَةٍ اُعْتُبِرَتْ الْجَمَاعَةُ ؛ فَإِنَّهَا مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ بِحَيْثُ مَنْ لَمْ يُصَلِّ فِي جَمَاعَةٍ لَمْ يَفِ بِالشَّرْطِ الصَّحِيحِ ؛ وَأَمَّا التَّعْيِينُ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَأَمَّا اشْتِرَاطُ التَّعَزُّبِ والرهبانية ؛ فَالْأَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ بِحَالِ ؛ لَا عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ وَلَا أَهْلِ الْعِبَادَةِ ؛ وَلَا عَلَى أَهْلِ الْجِهَادِ ؛ فَإِنَّ غَالِبَ الْخَلْقِ يَكُونُ لَهُمْ شَهَوَاتٌ ؛ وَالنِّكَاحُ فِي حَقِّهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؛ فَاشْتِرَاطُ التَّعَزُّبِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ إنْ كَانَ فَهُوَ مُنَاقَضَةٌ لِلشَّرْعِ . وَإِنْ قِيلَ الْمَقْصُودُ بِالتَّعَزُّبِ الَّذِي لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ النِّكَاحُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ خَرَجَ عَامَّةُ الشَّبَابِ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ ؛ وَهُمْ الَّذِينَ تُرْجَى الْمَنْفَعَةُ بِتَعْلِيمِهِمْ فِي الْغَالِبِ ؛ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ : وَقَفْت عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ الَّذِينَ لَا تُرْجَى مَنْفَعَتُهُمْ فِي الْغَالِبِ وَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ مَالٌ قَسَمَ لِلْآهِلِ قسمين ؛ وَلِلْعَزَبِ قَسْمًا } فَكَيْفَ يَكُونُ الْآهِلُ مَحْرُومًا . وَقَدْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ الْمُتَعَلِّمِينَ الْمُتَعَبِّدِينَ : { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ } .
فَكَيْفَ يُقَالُ لِلْمُتَعَلِّمِينَ والمتعبدين : لَا تَتَزَوَّجُوا ؛ وَالشَّارِعُ نَدَبَ إلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ ؛ وَحَضَّ عَلَيْهِ . وَقَدْ قَالَ : { لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ } فَكَيْفَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ رَهْبَانِيَّةٍ . وَمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ التَّعَزُّبَ أَعْوَنُ عَلَى كَيْدِ الشَّيْطَانِ وَالتَّعَلُّمِ وَالتَّعَبُّدِ : غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَلِلْوَاقِعِ ؛ بَلْ عَدَمُ التَّعَزُّبِ أَعْوَنُ عَلَى كَيْدِ الشَّيْطَانِ وَالْإِعَانَةُ لِلْمُتَعَبِّدِينَ والمتعلمين أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ إعَانَةِ الْمُتَرَهِّبِينَ مِنْهُمْ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ أَهْلِ بَلَدٍ أَوْ قَبِيلَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ ؛ مِمَّا لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ ؛ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَالْمَسَاجِدُ لِلَّهِ ؛ تُبْنَى لِلَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ فَإِذَا قَيَّدَ إمَامَ الْمَسْجِدِ بِبَلَدِ فَقَدْ يُوجَدُ فِي غَيْرِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْإِمَامَةِ فِي شَرْطِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَإِنْ وَفَّيْنَا بِشَرْطِ الْوَاقِفِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَزِمَ تَرْكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَشَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ .
وَأَمَّا
بَقِيَّةُ الشُّرُوطِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا فَيَحْتَاجُ كُلُّ شَرْطٍ مِنْهَا إلَى
كَلَامٍ خَاصٍّ فِيهِ ؛ لَا تَتَّسِعُ لَهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ ؛ وَقَدْ ذَكَرْنَا
الْأَصْلَ . فَعَلَى الْمُؤْمِنِ بِاَللَّهِ أَنْ يَنْظُرَ دَائِمًا فِي كُلِّ مَا
يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْخَلْقِ ؛ فَيَسْعَى فِي تَحْصِيلِهِ
بِالْوَقْفِ وَغَيْرِهِ ؛ وَمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَسْعَى فِي
إعْدَامِهِ وَمَا لَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَلَا يُحِبُّهُ يُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا
يُعَلِّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقَ وَقْفٍ وَلَا عَدَمَهُ وَلَا غَيْرَهُ . وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ
وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ زَاوِيَةٍ فِيهَا عَشَرَةُ فُقَرَاءَ مُقِيمُونَ
وَبِتِلْكَ الزَّاوِيَةِ مَطْلَعٌ بِهِ امْرَأَةٌ عَزْبَاءُ وَهِيَ مِنْ أَوْسَطِ
النِّسَاءِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ لَهَا مَسْكَنَهَا فِي تِلْكَ
الزَّاوِيَةِ ؛ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ أَقَارِبِ الْوَاقِفِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ سَاكِنٌ
فِي الْمَطْلَعِ سِوَى الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ وَبَابُ الْمَطْلَعِ
الْمَذْكُورِ يُغْلَقُ عَلَيْهِ بَابُ الزَّاوِيَةِ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا
السُّكْنَى بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ الْمُقِيمِينَ ؛ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا .
فَأَجَابَ
:
إنْ كَانَ شَرَطَ الْوَاقِفُ لَا يَسْكُنُهُ إلَّا
الرِّجَالُ سَوَاءٌ كَانُوا عَزَبًا أَوْ مُتَأَهِّلِينَ مُنِعَتْ لِمُقْتَضَى
الشَّرْطِ . وَكَذَلِكَ سُكْنَى الْمَرْأَةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالِ
بَيْنَ النِّسَاءِ يُمْنَعُ مِنْهُ لِحَقِّ اللَّهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ نَاظِرِ وَقْفٍ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ
شَرْعِيَّةٌ وَبِالْوَقْفِ ( شَخْصٌ يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ وِلَايَةِ النَّاظِرِ
يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةِ أَحَدِ الْحُكَّامِ لِأَنَّ لَهُ النَّظْرَ الْعَامَّ
وَأَنَّ النَّاظِرَ عَزَلَ هَذَا الْمُبَاشِرَ فَبَاشَرَ بَعْدَ عَزْلِهِ وَسَأَلَ
النَّاظِرَ الْحَاكِمُ أَنْ يَدْفَعَ هَذَا عَنْ الْمُبَاشَرَةِ فَادَّعَى
الْحَاكِمُ عَلَى النَّاظِرِ دَعْوَى فَأَنْكَرَهَا . فَهَلْ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ
بِدُونِ أَمْرِ النَّاظِرِ الشَّرْعِيِّ ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ
الْحَاكِمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا النَّاظِرِ الَّذِي هُوَ خَصْمُهُ دُونَ
سَائِرِ الْحُكَّامِ ؟ وَإِذَا اعْتَدَى عَلَى النَّاظِرِ فَمَاذَا يَسْتَحِقُّ
عَلَى عُدْوَانِهِ عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ
:
لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُوَلِّيَ وَلَا يَتَصَرَّفَ
فِي الْوَقْفِ بِدُونِ أَمْرِ النَّاظِرِ الشَّرْعِيِّ الْخَاصِّ إلَّا أَنْ
يَكُونَ النَّاظِرُ الشَّرْعِيُّ قَدْ تَعَدَّى فِيمَا يَفْعَلُهُ وَلِلْحَاكِمِ
أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ إذَا خَرَجَ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ
بَيْنَ النَّاظِرِ وَالْحَاكِمِ مُنَازَعَةٌ حَكَمَ بَيْنَهُمَا غَيْرُهُمَا
بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ اعْتَدَى عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُقَابَلُ
عَلَى عُدْوَانِهِ إمَّا أَنْ يُعَاقَبَ بِمِثْلِ ذَلِكَ إنْ أَمْكَنَتْ
الْمُمَاثَلَةُ ؛ وَإِلَّا عُوقِبَ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ شَرْعًا . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ نَاظِرَيْنِ : هَلْ لَهُمَا أَنْ يَقْتَسِمَا
الْمَنْظُورَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَنْظُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي نِصْفِهِ فَقَطْ
فَأَجَابَ
:
لَا يَتَصَرَّفَانِ إلَّا جَمِيعًا فِي جَمِيعِ
الْمَنْظُورِ فِيهِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ انْفَرَدَ بِالتَّصَرُّفِ لَمْ
يَجُزْ فَكَيْفَ إذَا وَزَّعَ الْمُفْرَدَ فَإِنَّ الشَّرْعَ شَرَعَ جَمْعَ
الْمُتَفَرَّقِ بِالْقِسْمَةِ وَالشُّفْعَةِ . فَكَيْفَ يُفَرَّقُ الْمُجْتَمَعُ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ وَقَفَ وَقْفًا وَشَرَطَ لِلنَّاظِرِ جِرَايَةً
وجامكية كَمَا شَرَطَ لِلْمُعَيَّنِ وَالْفُقَهَاءِ . فَهَلْ يُقَدِّمُ النَّاظِرُ
بِمَعْلُومِهِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ
:
لَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ مَا يَقْتَضِي
تَقَدُّمُهُ بِشَيْءِ مِنْ مَعْلُومٍ بَلْ هُوَ مَذْكُورٌ بِالْوَاوِ الَّتِي
مُقْتَضَاهَا الِاشْتِرَاكُ وَالْجَمْعُ الْمُطْلَقُ فَإِنْ كَانَ ثَمَّ دَلِيلٌ
مُنْفَصِلٌ يَقْتَضِي جَوَازَ الِاخْتِصَاصِ وَالتَّقَدُّمَ غَيْرَ الشَّرْطِ
الْمَذْكُورِ :
مِثْلَ
كَوْنِهِ حَائِزًا أُجْرَةَ عَمَلِهِ مَعَ فَقْرِهِ كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ عَمِلَ بِذَلِكَ
الدَّلِيلِ الْمُنْفَصِلِ الشَّرْعِيِّ وَإِلَّا فَشَرْطُ الْوَاقِفِ لَا يَقْتَضِي
التَّقْدِيمَ ؛ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الجامكية وَالْجِرَايَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ
الْعِمَارَةِ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ لَا مِنْ عِمَالَةِ النَّاظِرِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَمَّنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ
وَفِيهِمْ . مَنْ قَرَّرَ الْوَاقِفُ لِوَظِيفَتِهِ شَيْئًا مَعْلُومًا وَجَعَلَ
لِلنَّاظِرِ عَلَى هَذَا الْوَقْفِ صَرْفَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ يُخْرِجُ بِغَيْرِ
خَرَاجٍ وَإِخْرَاجُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَالتَّعَوُّضُ عَنْهُ وَزِيَادَةُ مَنْ
أَرَادَ زِيَادَتَهُ وَنُقْصَانَهُ عَلَى مَا يَرَاهُ وَيَخْتَارُهُ وَيَرَى
الْمَصْلَحَةَ فِيهِ فَعَزَلَ أَحَدَ الْمُعَيَّنِينَ وَاسْتَبْدَلَ بِهِ غَيْرَهُ
مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْقِيَامِ بِهَا بِبَعْضِ ذَلِكَ الْمَعْلُومِ الْمُقَدَّرِ
لِلْوَظِيفَةِ وَوَفَى بَاقِي ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ فَهَلْ لِلنَّاظِرِ
فِعْلُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا عَزَلَ أَحَدَ الْمُعَيَّنِينَ لِلْمَصْلَحَةِ
وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَنَاوُلِ الْمَعْلُومِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ :
يَفْسُقُ بِذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا أَخَذَهُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ
يَلْزَمُ النَّاظِرَ بَيَانُ الْمَصْلَحَةِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، النَّاظِرُ
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا فِي أَمْرِ الْوَقْفِ إلَّا بِمُقْتَضَى
الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ الْأَصْلَحَ فَالْأَصْلَحَ
. وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ صَرْفَ مَنْ شَاءَ وَزِيَادَةَ مَنْ
أَرَادَ زِيَادَتَهُ وَنُقْصَانَهُ ،
فَلَيْسَ لِلَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشْتَهِيه أَوْ مَا يَكُونُ فِيهِ اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفَسُ بَلْ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَنْ يَفْعَلَ مِنْ الْأُمُورِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ مَا يَكُونُ إرْضَاءً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَهَذَا فِي كُلِّ مَنْ تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ : كَالْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ وَالْوَاقِفِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَغَيْرِهِمْ : إذَا قِيلَ : هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ كَذَا وَكَذَا أَوْ يَفْعَلُ مَا شَاءَ وَمَا رَأَى فَإِنَّمَا ذَاكَ تَخْيِيرُ مَصْلَحَةٍ لَا تَخْيِيرُ شَهْوَةٍ . وَالْمَقْصُودُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُ مُعَيَّنٍ بَلْ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ أَصْلَحُ وَأَرْضَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ قَالَ الْوَاقِفُ : عَلَى مَا يَرَاهُ وَيَخْتَارُهُ وَيَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ . وَمُوجَبُ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِرَأْيِهِ وَاخْتِيَارِهِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي يَتَّبِعُ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ الشَّرْعِيَّةَ . وَقَدْ يَرَى هُوَ مَصْلَحَةً وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ يَأْمُرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ هَذَا مَصْلَحَةً كَمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً وَقَدْ يَخْتَارُ مَا يَهْوَاهُ لَا مَا فِيهِ رِضَى اللَّهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى اخْتِيَارِهِ حَتَّى لَوْ صَرَّحَ الْوَاقِفُ بِأَنَّ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَهْوَاهُ وَمَا يَرَاهُ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ صَحِيحًا ؛ بَلْ كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ { وَمَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهُ أَوْثَقُ } . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ عَزْلُ النَّاظِرِ وَاسْتِبْدَالُهُ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَعْزُولِ وَلَا غَيْرِهِ رَدُّ ذَلِكَ وَلَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِنْ الْوَقْفِ
وَالْحَالُ
هَذِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ مَرْدُودًا
بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَقَالَ : { لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ
فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ } . وَإِنْ تَنَازَعُوا هَلْ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ
الْمَأْمُورُ بِهِ أَمْ لَا ؟ رَدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي فَعَلَ النَّاظِرُ أَرْضَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
نَفَذَ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَرْضَى أُلْزِمَ النَّاظِرُ بِإِقْرَارِهِ
وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ أَمْرٌ ثَالِثٌ هُوَ الْأَرْضَى لَزِمَ اتِّبَاعُهُ .
وَعَلَى النَّاظِرِ بَيَانُ الْمَصْلَحَةِ فَإِنْ ظَهَرَتْ وَجَبَ اتِّبَاعُهَا
وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهَا مَفْسَدَةٌ رُدَّتْ وَإِنْ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ وَكَانَ
النَّاظِرُ عَالِمًا عَادِلًا سَوَّغَ لَهُ اجْتِهَادُهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَزْرَعَةٌ وَبِهَا شَجَرٌ وُقِفَ
لِلْفُقَرَاءِ تُبَاعُ كُلَّ سَنَةٍ وَتُصْرَفُ فِي مَصَارِفِهَا . ثُمَّ إنَّ
النَّاظِرَ أَجَّرَ الْوَقْفَ لِمَنْ يَضُرُّ بِالْوَقْفِ وَكَانَ هُنَاكَ حَوْضٌ
لِلسَّبِيلِ وَمَطْهَرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ : فَهَدَمَهَا هَذَا الْمُسْتَأْجِرُ
وَهَدَمَ الْحِيطَانَ . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ
:
لَا يَجُوزُ إكْرَاءُ الْوَقْفِ لِمَنْ يَضُرُّ بِهِ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ إكْرَاءُ الشَّجَرِ بِحَالِ
وَإِنْ سُوقِيَ عَلَيْهَا بِجُزْءِ حِيلَةً لَمْ يَجُزْ بِالْوَقْفِ
بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ وَلَا يَجُوزُ إزَالَةُ مَا كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لِلشُّرْبِ
وَالطَّهَارَةِ بَلْ يُعَزَّرُ هَذَا الْمُسْتَأْجِرُ الظَّالِمُ الَّذِي فَعَلَ
ذَلِكَ وَيُلْزَمُ بِضَمَانِ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ الْبِنَاءِ وَأَمَّا الْقِيمَةُ
وَالشَّجَرُ فَيُسْتَغَلُّ كَمَا جَرَتْ عَادَتُهَا وَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ فِي
مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ
.
سُئِلَ
:
عَنْ مَسَاجِدَ وَجَوَامِعَ لَهُمْ أَوْقَافٌ وَفِيهَا
قُوَّامٌ وَأَئِمَّةٌ وَمُؤَذِّنُونَ فَهَلْ لِقَاضِي الْمَكَانِ أَنْ يَصْرِفَ
مِنْهُ إلَى نَفْسِهِ .
فَأَجَابَ
:
بَلْ الْوَاجِبُ صَرْفُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فِي
مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ فَيُصْرَفُ مِنْ الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ إلَى
الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْقُوَّامُ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَمْثَالُهُمْ .
وَكَذَلِكَ يُصْرَفُ فِي فَرْشِ الْمَسَاجِدِ وَتَنْوِيرِهَا كِفَايَتُهَا
بِالْمَعْرُوفِ وَمَا فَضَلَ عَنْ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يُصْرَفَ فِي مَصَالِحِ
مَسَاجِدَ أُخَرَ . وَيُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ : كَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
وَأَمَّا صَرْفُهَا لِلْقُضَاةِ وَمَنْعُ مَصَالِحِ
الْمَسَاجِدِ فَلَا يَجُوزُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ بَنَى مَدْرَسَةً وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا
وَقْفًا عَلَى فُقَهَاءَ وَأَرْبَابِ وَظَائِفَ ثُمَّ إنَّ السَّلْطَنَةَ أَخَذَتْ
أَكْثَرَ الْوَقْفِ وَأَنَّ الْوَاقِفَ اشْتَرَطَ المحاصصة بَيْنَهُمْ . فَهَلْ
يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُعْطِيَ أَصْحَابَ الْوَظَائِفِ بِالْكَامِلِ وَمَا
بَقِيَ لِلْفُقَهَاءِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ الَّذِي يَحْصُلُ
بالمحاصصة لِأَرْبَابِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَسْتَأْجِرُ عَلَيْهَا -
كَالْبَوَّابِ وَالْقَيِّمِ وَالسَّوَّاقِ وَنَحْوِهِمْ - أُجْرَةُ مِثْلِهِمْ يُعْطُوهُ
زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَا يَحْصُلُ دُونَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ
وَأَمْكَنَ مَنْ يَعْمَلُ بِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الزِّيَادَةِ وَإِنْ كَانَ
الْحَاصِلُ لَهُمْ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَلَا يَحْصُلُ مَنْ يَعْمَلُ
بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَكْمِيلِ الْمِثْلِ لَهُمْ
إذَا لَمْ تَقُمْ مَصْلَحَةُ الْمَكَانِ إلَّا بِهِمْ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ
يَجْعَلَ شَخْصٌ وَاحِدٌ قَيِّمًا وَبَوَّابًا أَوْ قَيِّمًا وَمُؤَذِّنًا أَوْ
يَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ تِلْكَ الْوَظَائِفِ وَيَقُومُ بِهَا فَإِنَّهُ يَفْعَلُ
ذَلِكَ وَلَا يُكْثِرُ الْعَدَدَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَعَ كَوْنِ
الْوَقْفِ قَدْ عَادَ إلَى رِيعِهِ : بَلْ إذَا أَمْكَنَ سَدُّ أَرْبَعِ وَظَائِفَ
بِوَاحِدِ فَعَلَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ دَارٍ حَدِيثٍ شَرَطَ وَاقِفُهَا فِي كِتَابِ
وَقْفِهَا مَا صَوَّرْته بِحُرُوفِهِ .
قَالَ : وَالنَّظْرُ فِي أَمْرِ أَهْلِ الدَّارِ عَلَى
اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ إثْبَاتًا وَصَرْفًا : وَإِعْطَاءً وَمَنْعًا
وَزِيَادَةً وَنَقْصًا وَنَحْوَ ذَلِكَ إلَى شَيْخِ الْمَكَانِ . وَكَذَلِكَ
النَّظْرُ إلَيْهِ فِي خِزَانَةِ كُتُبِهَا وَسَائِرِ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ أَوْ
يَلْحَقُ بِهِ . وَلَهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ الْوَقْفُ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ
أَنْ يُفَوِّضَ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَتَوَلَّاهُ . ثُمَّ قَالَ : وَالنَّظْرُ فِي
أَمْرِ الْأَوْقَافِ وَأُمُورِهَا الْمَالِيَّةِ إلَى الْوَاقِفِ - ضَاعَفَ
اللَّهُ ثَوَابَهُ - يُفَوِّضُ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَشَاءُ وَمَتَى فَوَّضَ ذَلِكَ
إلَيْهِ تَلَقَّاهُ بِحُكْمِ الشَّرْطِ الْمُقَارَنِ لِإِنْشَاءِ الْوَقْفِ
وَيَنْتَقِلُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ بِدِمَشْقَ وَلَهُ أَنْ
يَصْرِفَ إلَى مَنْ سِوَى ذَلِكَ مِنْ عَامِلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ مُغَلِّ الْوَقْفِ
عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيه الْحَالُ .
فَهَلْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي شَرْطِ النَّظْرِ فِي
كِتَابِ الْوَقْفِ شَيْءٌ آخَرُ يَكُونُ النَّظْرُ الْمَشْرُوطُ لِلْحَاكِمِ
مُخْتَصًّا بِحَاكِمِ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بِمُقْتَضَى لَفْظِ الشَّرْطِ
الْمَذْكُورِ ؟ أَمْ لَا يَخْتَصُّ بِحَاكِمِ مُعَيَّنٍ بَلْ يَكُونُ النَّظْرُ
الْمَذْكُورُ لِمَنْ كَانَ حَاكِمًا بِدِمَشْقَ عَلَى أَيِّ مَذْهَبٍ كَانَ مِنْ
الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ
مُخْتَصًّا
وَفَوَّضَ بَعْضَ الْحُكَّامِ قُضَاةَ الْقُضَاةِ أَعَزَّهُمْ اللَّهُ بِدِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ
لِأَهْلِ كَانَ النَّظْرُ الْمَذْكُورُ بِمُقْتَضَى مَا رَآهُ مِنْ عَدَمِ
الِاخْتِصَاصِ يَجُوزُ لِحَاكِمِ آخَرَ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ بَعْضِ مَا
فَعَلَهُ بِغَيْرِ قَادِحٍ ؟
فَأَجَابَ
:
لَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي شَرْطِ
الْوَاقِفِ مَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِمَذْهَبِ مُعَيَّنٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ
فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إلَّا حَاكِمٌ
عَلَى غَيْرِ الْمَذْهَبِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حَاكِمُ الْبَلَدِ وَمِنْ
الْوَاقِفِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ النَّظْرُ وَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ فَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَقِفُونَ الْأَوْقَافَ وَيَشْرُطُونَ
أَنْ يَكُونَ النَّظْرُ لِلْحَاكِمِ أَوْ لَا يَشْتَرِطُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ
الْوَقْفِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الشَّرْعِ فِي الْوُقُوفِ
الْعَامَّةِ الَّتِي لَمْ يُعَيِّنْ وَلِيُّ الْأَمْرِ لَهَا نَاظِرًا خَاصًّا
وَفِي الْوُقُوفِ الْخَاصَّةِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْحَاكِمُ
وَقْتَ الْوَقْفِ لَهُ مَذْهَبٌ وَبَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِلْحَاكِمِ مَذْهَبٌ
آخَرُ . . كَمَا يَكُونُ فِي الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ
فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُوَلُّونَ قُضَاةَ الْقُضَاةِ تَارَةً لِحَنَفِيِّ وَتَارَةً
لِمَالِكِيِّ وَتَارَةً لِشَافِعِيِّ وَتَارَةً لِحَنْبَلِيِّ . وَهَذَا الْقَاضِي
يُوَلِّي فِي الْأَطْرَافِ مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى مَذْهَبِهِ تَارَةً وَمَنْ
يُخَالِفُهُ أُخْرَى وَلَوْ شَرَطَ الْإِمَامُ عَلَى الْحَاكِمِ أَوْ شَرَطَ
الْحَاكِمُ عَلَى خَلِيفَتِهِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ مُعَيَّنٍ بَطَلَ
الشَّرْطُ وَفِي فَسَادِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا إذَا أَمْكَنَ الْقَضَاءُ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الشَّرْطِ فَعَلُوا . فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ فِي الْخُرُوجِ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ جَهْلًا وَظُلْمًا أَعْظَمَ مِمَّا فِي التَّقْدِيرِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ دَفْعِ أَعْظَمِ الفسادين بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا ؛ وَلَكِنْ هَذَا لَا يُسَوِّغُ لِوَاقِفِ أَنْ لَا يَجْعَلَ النَّظْرَ فِي الْوَقْفِ إلَّا لِذِي مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ دَائِمًا مَعَ إمْكَانِ ؛ إلَّا أَنْ يَتَوَلَّى فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُشْرَطْ ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ يُشْرَطُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ لَا يَحْكُمَ إلَّا بِمَذْهَبِ مُعَيَّنٍ كَمَا صَارَ أَيْضًا فِي بَعْضِهَا بِوِلَايَةِ قُضَاةٍ مُسْتَقِلِّينَ ثُمَّ عُمُومُ النَّظْرِ فِي عُمُومِ الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ فِي كُلٍّ مِنْ هَذَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ وَفِيمَنْ يُعَيِّنُ إذَا تَنَازَعَ الْخَصْمَانِ : هَلْ يُعَيِّنُ الْأَقْرَبَ ؟ أَوْ بِالْقُرْعَةِ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي فِيهَا اجْتِهَادٌ إذَا فَعَلَهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ نُفِّذَتْ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحَاكِمُ عَلَى أَيِّ مَذْهَبٍ كَانَ إذَا كَانَتْ وِلَايَتُهُ تَتَنَاوَلُ النَّظْرَ فِي هَذَا الْوَقْفِ كَانَ تَفْوِيضُهُ سَائِبًا وَلَمْ يَجُزْ لِحَاكِمِ آخَرَ نَقْضُ مِثْلِ هَذَا لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ فِي التَّفْوِيضِ إلَيْهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي الْمَالِ وَمُسْتَحِقِّهِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ حَاكِمَيْنِ وَلَّى أَحَدُهُمَا شَخْصًا وَوَلَّى آخَرُ شَخْصًا : كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُقَدِّمَ أَحَقَّهُمَا بِالْوِلَايَةِ ؛ فَإِنَّ مَنْ عَرَفْت قُوَّتَهُ وَأَمَانَتَهُ يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ النَّاظِرِ مَتَى يَسْتَحِقُّ مَعْلُومَهُ : مِنْ
حِينِ فُوِّضَ إلَيْهِ ؟ أَوْ مِنْ حِينِ مَكَّنَهُ السُّلْطَانُ ؟ أَوْ مِنْ
حِينِ الْمُبَاشَرَةِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْمَالُ الْمَشْرُوطُ لِلنَّاظِرِ
مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ فَمَنْ عَمِلَ مَا عَلَيْهِ
يَسْتَحِقُّ مَالَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضَ وَقْفٍ مِنْ النَّاظِرِ
عَلَى الْوَقْفِ النَّظْرُ الشَّرْعِيُّ ثَلَاثِينَ سَنَةً بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ
وَأَثْبَتَ الْإِجَارَةَ عِنْدَ حَاكِمٍ مِنْ الْحُكَّامِ وَأَنْشَأَ عِمَارَةً
وَغَرَسَ فِي الْمَكَانِ مُدَّةَ أَرْبَعِ سِنِينَ ثُمَّ سَافَرَ وَالْمَكَانُ فِي
إجَارَتِهِ وَغَابَ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمَّا حَضَرَ وَجَدَ بَعْضَ
النَّاسِ قَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَادَّعَى أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا
وَذَلِكَ بِطَرِيقِ شَرْعِيٍّ . فَهَلْ لَهُ نَزْعُ هَذَا الثَّانِي وَطَلَبُهُ
بِتَفَاوُتِ الْأُجْرَةِ .
فَأَجَابَ
: إنْ كَانَ الثَّانِي قَدْ اسْتَأْجَرَ الْمَكَانَ مِنْ غَيْرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ
الْإِيجَارِ وَاسْتَأْجَرَهُ مَعَ بَقَاءِ إجَارَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَيْهِ : فَالْإِجَارَةُ
بَاطِلَةٌ وَيَدُهُ يَدٌ عَادِيَّةٌ مُسْتَحِقَّةٌ لِلرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ .
وَإِذَا كَانَ الثَّانِي اسْتَأْجَرَهَا وَتَسَلَّمَهَا وَهِيَ فِي إجَارَةِ
الْأَوَّلِ . فَالْأَوَّلُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ
وَتَسْقُطَ عَنْهُ الْإِجَارَةُ مِنْ حِينِ الْفَسْخِ وَيُطَالِبَ أَهْلَ
الْمَكَانِ بِالْإِجَارَةِ لِهَذَا الثَّانِي الْمُتَوَلِّي عَلَيْهِ ؛ يَطْلُبُونَ
مِنْهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ إنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً ؛ وَإِنْ كَانَتْ
صَحِيحَةً طَالَبُوهُ بِالْفَسْخِ وَبَيْنَ إمْضَاءِ الْإِجَارَةِ ؛ وَيُعْطِي
أَهْلَ الْمَكَانِ أُجْرَتَهُمْ ؛ وَيُطَالِبُ الْغَاصِبَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ
مِنْ حِينِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى مَا اسْتَأْجَرَهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْمٍ وُقِفَ عَلَيْهِمْ حِصَّةٌ مِنْ حَوَانِيتَ
؛ وَبَعْضُهَا وُقِفَ عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى وَتِلْكَ مِلْكًا لِغَيْرِهِمْ
وَشَرَطَ الْوَاقِفُ الْمَذْكُورُ النَّظْرَ فِي ذَلِكَ لِلْأَسَنِّ فَإِذَا
اسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي النَّظْرِ . فَتَدَاعَى الْوَقْفُ
الْمَذْكُورُ إلَى الْخَرَابِ فَأَجَّرُوهُ لِمَالِكِيِّ بَاقِي الْحِصَّةِ
مُدَّةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً بِأُجْرَةِ حَالَّةٍ وَأُجْرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ ؛
وَعَيَّنُوا شُهُودَ الْإِجَارَةِ جَمِيعَ مَا فِي الْحَوَانِيتِ الْمَذْكُورَةِ :
مِنْ خَشَبٍ وَقَصَبٍ وَجَرِيدٍ وَجُدُرٍ وَطُولِهَا وَعَرْضِهَا ؛ وَغَيْرِ
ذَلِكَ . وَذَكَرَ شُهُودُ الْإِجَارَةِ فِيهَا : اعْتَرَفَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ -
الْآخَرَانِ الْمَذْكُورَانِ - بِقَبْضِ الْأُجْرَةِ الْحَالَّةِ بِتَمَامِهَا ؛
وَمَنْ فِي دَرَجَتِهَا . وَمَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ . وَانْتَقَلَ
مَا
كَانَ مِلْكًا لَهُ مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ وَانْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَانْتَقَلَ
الْوَقْفُ الْمَذْكُورُ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي : فَهَلْ لِلْبَطْنِ الثَّانِي
أَنْ يَتَسَلَّمُوا الْحَوَانِيتَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ
وَقَدْ اعْتَرَفَ الْآخَرَانِ بِقَبْضِ الْأُجْرَةِ الْحَالَّةِ لِيَصْرِفَاهَا
فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ وَإِعَادَتِهِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ يَلْزَمُهُمْ
إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْآخَرَانِ الْمَذْكُورَانِ لَمَّا قَبَضَا
الْأُجْرَةَ صَرَفَاهَا فِي الْعِمَارَةِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِينَ أَوْ مَنْ
انْتَقَلَ إلَيْهِمْ مَا كَانَ مِلْكًا لِلْمُسْتَأْجِرِ الْمَنْعُ مِنْ تَسْلِيمِ
الْحِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ الْحَوَانِيتِ إلَّا عَلَى صُورَتِهَا الْأُولَى
وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ مَا كَانَ فِي الْعَرْصَةِ
الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ الْبِنَاءِ بِيَدِ أَهْلِ الْعَرْصَةِ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ
بِحُكْمِ الِاشْتِرَاكِ أَيْضًا حَتَّى يُقِيمَ أَحَدُهُمْ حُجَّةً شَرْعِيَّةً
بِاخْتِصَاصِهِ بِالْبِنَاءِ وَلَا يَقْبَلُ مُجَرَّدَ دَعْوَى أَحَدِ
الشُّرَكَاءِ فِي الْعَرْصَةِ الِاخْتِصَاصَ بِالْبِنَاءِ سَوَاءٌ كَانَتْ
الْعَرْصَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ وَقْفٍ وَطَلْقٍ أَوْ بَيْنَ طَلْقَتَيْنِ
أَوْ وَقْفَيْنِ . وَيَدُ الْمُسْتَأْجِرِ إنَّمَا هِيَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ
وَلَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْإِجَارَةِ تَثْبُتُ دَعْوَى اسْتِحْقَاقِ الْبِنَاءِ
إلَّا أَنْ يُقِيمَ بِذَلِكَ حُجَّةً . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَقَرَّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَشَرَةِ
أَيَّامٍ أَنَّ جَمِيعَ الْحَانُوتِ وَالْأَعْيَانِ الَّتِي بِهَا وَقْفٌ عَلَى
وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْقُرُبَاتِ . وَتُصْرَفُ الْأُجْرَةُ وَالثَّوَابُ مِنْ
مُدَّةٍ تَتَقَدَّمُ عَلَى إقْرَارِهِ هَذَا بِعِشْرِينَ سَنَةً . فَفَعَلَ
بِمُقْتَضَى شَرْطِ إقْرَارِهِ . وَعَيَّنَ النَّاظِرَ الْإِمَامُ بَعْدَ مَوْتِهِ
ثُمَّ عَيَّنَ نَاظِرًا آخَرَ مِنْ غَيْرِ عَزْلِ الْإِمَامِ النَّاظِرَ
الْأَوَّلَ فَصَرَفَ أَحَدُ النَّاظِرَيْنِ عَلَى ثُبُوتِ الْوَقْفِ مَا جَرَتْ
الْعَادَةُ بِصَرْفِهِ عَلَى ثُبُوتِ مِثْلِهِ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ مِنْ غَيْرِ
أَنْ يَصْرِفَ إلَى مُسْتَحِقِّي الرِّيعِ شَيْئًا . فَهَلْ تَجِبُ الْأُجْرَةُ
مِنْ الرِّيعِ ؟ أَمْ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْمُقِرِّ بِالْوَقْفِ
الْمَذْكُورِ ؟ وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَارُ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ بِسَبَبِ
اشْتِغَالِهَا بِمَالِ الْوَرَثَةِ فَهَلْ تَجِبُ الْأُجْرَةُ عَلَى الْوَرَثَةِ
تِلْكَ الْمُدَّةَ ؟ وَهَلْ تَفُوتُ الْأُجْرَةُ السَّابِقَةُ فِي ذِمَّةِ
الْمَيِّتِ بِمُقْتَضَى إقْرَارِهِ بِالْمُدَّةِ الْأُولَى وَيَرْجِعُ بِهَا فِي
تَرِكَتِهِ ؟ وَهَلْ إذَا عَيَّنَ نَاظِرًا ثُمَّ عَيَّنَ نَاظِرًا آخَرَ يَكُونُ
عَزْلًا لِلْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِعَزْلِهِ ؟ أَمْ
يَشْتَرِكَانِ فِي النَّظْرِ ؟ وَهَلْ إذَا عَلِمَ الشُّهُودُ ثُبُوتَ الْمَالِ
فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ يَحِلُّ كَتْمُهُ أَمْ لَا .
فَأَجَابَ
:
لَيْسَتْ أُجْرَةُ إثْبَاتِ الْوَقْفِ وَالسَّعْيِ فِي
مَصَالِحِهِ مِنْ تَرِكَةِ
الْمَيِّتِ فَإِنَّ مَا زَادَ عَلَى الْمُقَرِّ بِهِ كُلِّهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْوَرَثَةِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ رَفْعُ أَيْدِيهِمْ عَنْ ذَلِكَ وَتَمْكِينُ النَّاظِرِ مِنْهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ السَّعْيُ وَلَا أُجْرَةُ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْعَيْنُ الْمُقَرُّ بِهَا إذَا انْتَفَعَ بِهَا الْوَرَثَةُ أَوْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهَا بِحَيْثُ يَمْنَعُ الِانْتِفَاعَ الْمُسْتَحَقَّ بِهَا فَعَلَيْهِمْ أُجْرَةُ الْمَنْفَعَةِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَقُولُ بِأَنَّ مَنَافِعَ الْغَصْبِ مَضْمُونَةٌ . وَالنِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ . وَإِقْرَارُ الْمَيِّتِ بِأَنَّهَا وَقْفٌ مِنْ الْمُدَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَيْسَ بِصَرِيحِ فِي أَنَّهُ كَانَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الْغَصْبِ وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ بِالِاحْتِمَالِ . وَأَمَّا تَعْيِينُ نَاظِرٍ بَعْدَ آخَرَ فَيَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى عُرْفِ مِثْلِ هَذَا الْوَقْفِ وَعَادَةِ أَمْثَالِهِ فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي الْعَادَةِ رُجُوعًا كَانَ رُجُوعًا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِي انْفِرَادَ الثَّانِي بِالتَّصَرُّفِ وَإِلَّا فَقَدْ عَرَفْت الْمَسْأَلَةَ وَهِيَ مَا إذَا وَصَّى بِالْعَيْنِ لِشَخْصِ ثُمَّ وَصَّى بِهَا لِآخَرَ : هَلْ يَكُونُ رُجُوعًا أَمْ لَا ؟ وَمَا عَلِمَهُ الشُّهُودُ مِنْ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ يَصِلُ الْحَقُّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَكْتُمُوهَا وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يَصِلُ إلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعَيِّنُوا وَاحِدًا مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ بِتَأْوِيلِ وَاجْتِهَادٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ أَيْضًا نَزْعُهُ مِنْ يَدِهِ بَلْ يُعَانُ الْمُتَأَوِّلُ الْمُجْتَهِدُ عَلَى مَنْ لَا تَأْوِيلَ لَهُ وَلَا اجْتِهَادَ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صُورَةِ كِتَابِ وَقْفٍ نَصُّهُ : هَذَا مَا
وَقَفَهُ عَامِرُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَامِرٍ عَلَى أَوْلَادِهِ : عَلِيٌّ وَطَرِيفَةُ
؛ وَزُبَيْدَةُ . بَيْنَهُمْ عَلَى الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ ثُمَّ عَلَى
أَوْلَادِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ ؛ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ عَلَى
أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ . ثُمَّ عَلَى نَسْلِهِمْ وَعَقِبِهِمْ مِنْ
بَعْدِهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا ؛ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ
عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ الْمَذْكُورِينَ ؛ وَأَوْلَادِ
أَوْلَادِهِمْ ؛ وَنَسْلِهِمْ . وَعَقِبِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ : عَنْ وَلَدٍ ؛
أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ ؛ وَنَسْلٍ ؛ أَوْ عَقِبٍ وَإِنْ سَفَلَ : كَانَ مَا كَانَ
مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ؛ رَاجِعًا إلَى وَلَدِهِ ؛ وَوَلَدِ وَلَدِهِ ؛ وَنَسْلِهِ ؛
وَعَقِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ ؛ وَإِنْ سَفَلَ . كُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْفَرِيضَةِ
الشَّرْعِيَّةِ . وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ
وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ - وَإِنْ بَعُدَ - كَانَ مَا كَانَ مَوْقُوفًا
عَلَيْهِ رَاجِعًا إلَى مَنْ هُوَ فِي طَبَقَتِهِ وَأَهْلِ دَرَجَتِهِ مِنْ أَهْلِ
الْوَقْفِ : عَلَى الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ ثُمَّ عَلَى جِهَاتٍ ذَكَرَهَا
فِي كِتَابِ الْوَقْفِ - وَالْمَسْئُولُ مِنْ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ أَنْ
يَتَأَمَّلُوا شَرْطَ الْوَاقِفِ الْمَذْكُورِ - ثُمَّ تُوُفِّيَ عَنْ بِنْتَيْنِ
فَتَنَاوَلَتَا مَا انْتَقَلَ إلَيْهِمَا عَنْهُ ؛ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ إحْدَاهُمَا
عَنْ ابْنٍ وَابْنَةِ ابْنٍ .
فَهَلْ
يَشْتَرِكَانِ فِي نَصِيبِهَا ؛ أَمْ يَخْتَصُّ بِهِ الِابْنُ دُونَ ابْنَةِ الِابْنِ
؟ ثُمَّ إنَّ الِابْنَ الْمَذْكُورَ تُوُفِّيَ عَنْ ابْنٍ : هَلْ يَخْتَصُّ بِمَا
كَانَ جَارِيًا عَلَى أَبِيهِ دُونَ ابْنَةِ الِابْنِ ؟ وَهَلْ يَقْتَضِي شَرْطُ
الْوَاقِفِ الْمَذْكُورِ تَرْتِيبَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ ؟ أَوْ
الْأَفْرَادَ عَلَى الْأَفْرَادِ .
فَأَجَابَ
:
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ عِنْدَ
الْإِطْلَاقِ مَعْرُوفَانِ لِلْفُقَهَاءِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ ؛ وَلَكِنَّ الْأَقْوَى أَنَّهَا لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى
الْأَفْرَادِ وَأَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يَقُومُ مَقَامَ أَبِيهِ لَوْ كَانَ
الِابْنُ مَوْجُودًا مُسْتَحِقًّا قَدْ عَاشَ بَعْدَ مَوْتِ الْجَدِّ وَاسْتَحَقَّ
أَوْ عَاشَ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ لِمَانِعِ فِيهِ أَوْ لِعَدَمِ قَبُولِهِ
لِلْوَقْفِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعِشْ بَلْ مَاتَ فِي حَيَاةِ
الْجَدِّ . وَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ
؛ وَهِيَ تَقْتَضِي تَوْزِيعَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ كَمَا فِي قَوْلِهِ
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ مَا
تَرَكَتْ زَوْجَتُهُ ؛ وَقَوْلُهُ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } أَيْ
حُرِّمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أُمُّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . كَذَلِكَ قَوْلُهُ : عَلَى
أَوْلَادِهِمْ ؛ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ أَيْ : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ
بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ . وَأَمَّا فِي هَذِهِ فَقَدْ صَرَّحَ الْوَاقِفُ بِأَنَّهُ
مَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ ؛ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي
أَنَّهُ لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ ؛ فَلَمْ يَبْقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
نِزَاعٌ . وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي أَنَّ الْوَلَدَ إذَا مَاتَ فِي حَيَاةِ
أَبِيهِ وَلَهُ وَلَدٌ ؛ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ عَنْ وَلَدٍ آخَرَ وَعَنْ وَلَدِ
الْوَلَدِ الْأَوَّلِ : هَلْ يَشْتَرِكَانِ ؟ أَوْ يَنْفَرِدُ بِهِ الْأَوَّلُ ؟
الْأَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ مُسْتَحِقٌّ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ - سَوَاءٌ كَانَ عَمُّهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا - فَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ إذًا يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَمُ اسْتِحْقَاقِ الْأَبِ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرْتِيبِ الْعَصَبَةِ : إنَّهُمْ الِابْنُ ثُمَّ ابْنُهُ ثُمَّ الْأَبُ ثُمَّ أَبُوهُ ؛ ثُمَّ الْعَمُّ ثُمَّ بَنُو الْعَمِّ ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ إلَّا عَدَمُ اسْتِحْقَاقِ الْأُولَى . فَمَتَى كانت الثَّانِيَةُ مَوْجُودَةً وَالْأُولَى لَا اسْتِحْقَاقَ لَهَا اسْتَحَقَّتْ الثَّانِيَةُ ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ الْأُولَى اسْتَحَقَّتْ أَوْ لَمْ تَسْتَحِقَّ وَلَا يُشْتَرَطُ لِاسْتِحْقَاقِ الثَّانِيَةِ اسْتِحْقَاقُ الْأُولَى ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ تَتَلَقَّى الْوَقْفَ مِنْ الْوَاقِفِ لَا مِنْ الثَّانِيَةِ فَلَيْسَ هُوَ كَالْمِيرَاثِ الَّذِي يَرِثُهُ الِابْنُ ؛ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى ابْنِهِ وَإِنَّمَا هُوَ كَالْوَلَاءِ الَّذِي يُوَرَّثُ بِهِ فَإِذَا كَانَ ابْنُ الْمُعْتَقِ قَدْ مَاتَ فِي حَيَاةِ الْمُعْتَقِ ؛ وَرِثَ الْوَلَاءَ ابْنُ ابْنِهِ . وَإِنَّمَا يَغْلَطُ مَنْ يَغْلَطُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حِينَ يَظُنُّ أَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ تَتَلَقَّى مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا ؛ فَإِنْ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْأُولَى شَيْئًا لَمْ تَسْتَحِقَّ الثَّانِيَةُ . ثُمَّ يَظُنُّونَ أَنَّ الْوَالِدَ إذَا مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَسْتَحِقَّ ابْنُهُ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ هُمْ يَتَلَقَّوْنَ مِنْ الْوَاقِفِ ؛ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْأُولَى مَحْجُوبَةً بِمَانِعِ مِنْ الْمَوَانِعِ : مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ فِي الْمُسْتَحِقِّينَ أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ أَوْ عُلَمَاءَ أَوْ عُدُولًا ؛ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَيَكُونُ الْأَبُ مُخَالِفًا لِلشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَابْنُهُ مُتَّصِفًا بِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الِابْنُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَبُوهُ . كَذَلِكَ إذَا مَاتَ
الْأَبُ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ ابْنُهُ . وَهَكَذَا جَمِيعُ التَّرْتِيبِ فِي الْحَضَانَةِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ وَالْمَالِ وَتَرْتِيبِ عَصَبَةِ النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ فِي الْمِيرَاثِ وَسَائِرِ مَا جُعِلَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِيهِ طَبَقَاتٍ وَدَرَجَاتٍ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرَ . وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْوَاقِفُونَ إذَا سُئِلُوا عَنْ مُرَادِهِمْ . وَمَنْ صَرَّحَ مِنْهُمْ بِمُرَادِهِ فَإِنَّهُ يُصَرِّحُ بِأَنْ وَلَدَ الْوَلَدِ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ مَا يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا لَا سِيَّمَا وَالنَّاسُ يَرْحَمُونَ مَنْ مَاتَ وَالِدُهُ وَلَمْ يَرِثْ حَتَّى إنَّ الْجَدَّ قَدْ يُوصِي لِوَلَدِ وَلَدِهِ ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِسْبَةَ هَذَا الْوَلَدِ وَنِسْبَةَ وَلَدِ ذَلِكَ الْوَلَدِ إلَى الْجَدِّ سَوَاءٌ . فَكَيْفَ يَحْرِمُ وَلَدَ وَلَدِهِ الْيَتِيمَ وَيُعْطِي وَلَدَ وَلَدِهِ الَّذِي لَيْسَ بِيَتِيمِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ عَاقِلٌ . وَمَتَى لَمْ نَقُلْ بِالتَّشْرِيكِ بَقِيَ الْوَقْفُ فِي هَذَا الْوَلَدِ وَوَلَدِهِ ؛ دُونَ ذُرِّيَّةِ الْوَلَدِ الَّذِي مَاتَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ أَوْقَفَتْ وَقْفًا عَلَى تُرْبَتِهَا
بَعْدَ مَوْتِهَا وَأَرْصَدَتْ لِلْمُقْرِئِينَ شَيْئًا مَعْلُومًا وَمَا يَفْضُلُ
عَنْ ذَلِكَ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَإِنَّ لَهَا قَرَابَةً :
خَالَهَا قَدْ افْتَقَرَ وَاحْتَاجَ ؛ وَانْقَطَعَ عَنْ الْخَدَمِ وَأَنَّ
النَّاظِرَ لَمْ يَصْرِفْ لَهُ مَا يَقُومُ بِأَوْدِهِ . فَهَلْ يَجِبُ إلْزَامُ
النَّاظِرِ بِمَا يَقُومُ بِأَوْدِ الْقَرَابَةِ وَدَفْعِ حَاجَتِهِ دُونَ
غَيْرِهِ ؟ .
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ لِلْمُوقِفَةِ قَرَابَةٌ مُحْتَاجٌ
كَالْخَالِ وَنَحْوِهِ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ الْفَقِيرِ الْمُسَاوِي لَهُ فِي
الْحَاجَةِ وَيَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ .
وَإِذَا اتَّسَعَ الْوَقْفُ لِسَدِّ حَاجَتِهِ سَدَّتْ
حَاجَتَهُ مِنْهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَوْقَافٍ بِبَلَدِ عَلَى أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ :
مِنْ مَدَارِسَ ؛ وَمَسَاجِدَ وَخُوَانِكَ ؛ وَجَوَامِعَ ؛ وَمَارَسْتَانَات ؛
وَرُبُطٍ ؛ وَصَدَقَاتٍ وَفِكَاكِ أَسْرَى مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ . وَبَعْضُهَا
لَهُ نَاظِرٌ خَاصٌّ وَبَعْضُهَا لَهُ نَاظِرٌ مِنْ جِهَةِ
وَلِيِّ
الْأَمْرِ وَقَدْ أَقَامَ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى كُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ
دِيوَانًا يَحْفَظُونَ أَوْقَافَهُ ؛ وَيَصْرِفُونَ رِيعَهُ فِي مَصَارِفِهِ
وَرَأَى النَّاظِرُ أَنَّ يُفْرِزَ لِهَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ مُسْتَوْفِيًا
يَسْتَوْفِي حِسَابَ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ - يَعْنِي الْأَوْقَافَ كُلَّهَا -
وَيَنْظُرُ فِي تَصَرُّفَاتِ النُّظَّارِ وَالْمُبَاشِرِينَ ؛ وَيُحَقِّقُ
عَلَيْهِمْ مَا يَجِبُ تَحْقِيقُهُ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمَصْرُوفَةِ وَالْبَاقِي
؛ وَضَبَطَ ذَلِكَ عِنْدَهُ ؛ لِيَحْفَظَ أَمْوَالَ الْأَوْقَافِ عِنْدَ
اخْتِلَافِ الْأَيْدِي ؛ وَتَغْيِيرِ الْمُبَاشِرِينَ وَيَظْهَرُ بِمُبَاشَرَتِهِ
مُحَافَظَةُ بَعْضِ الْعُمَّالِ عَلَى فَائِدَةٍ . فَهَلْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ
أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إذَا رَأَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا صَارَ
الْآنَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً وَقَرَّرَ الْمَذْكُورُ
وَقَرَّرَ لَهُ مَعْلُومًا يَسِيرًا عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ لَا يَصِلُ إلَى
رِيعٍ مَعْلُومٍ أَحَدُ الْمُبَاشِرِينَ لَهَا وَدُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرِ لِمَا
يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ . فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ سَائِغًا ؟
وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْمُسْتَوْفِي الْمَذْكُورُ تَنَاوُلَ مَا قُرِّرَ لَهُ أَمْ
لَا إذَا قَامَ بِوَظِيفَتِهِ ؟ وَإِذَا كَانَتْ وَظِيفَتُهُ اسْتِرْجَاعُ
الْحِسَابِ عَنْ كُلِّ سَنَةٍ عَلَى حُكْمِ أَوْضَاعِ الْكِتَابِ ؛ وَوَجَدَ
ارْتِفَاعَ حِسَابِ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ فَتَصَرَّفَ وَعَمِلَ فِيهِ وَظِيفَتَهُ
. هَلْ يَسْتَحِقُّ مَعْلُومَ الْمُدَّةِ الَّتِي اسْتَرْجَعَ حِسَابَهُمْ فِيهَا
وَقَامَ بِوَظِيفَتِهِ بِذَلِكَ الْحِسَابِ ؟ .
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ ، لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَنْصِبَ دِيوَانًا
مُسْتَوْفِيًا لِحِسَابِ الْأَمْوَالِ الْمَوْقُوفَةِ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ كَمَا
لَهُ أَنْ يَنْصِبَ الدَّوَاوِينَ مُسْتَوْفِيًا لِحِسَابِ الْأَمْوَالِ
السُّلْطَانِيَّةِ : كَالْفَيْءِ ؛ وَغَيْرِهِ . وَلَهُ أَنْ يُفْرَضَ لَهُ عَلَى
عَمَلِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِثْلُهُ
:
مِنْ كُلِّ مَالٍ يَعْمَلُ فِيهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ الْمَالِ وَاسْتِيفَاءِ الْحِسَابِ وَضَبْطِ مَقْبُوضِ الْمَالِ وَمَصْرُوفِهِ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي لَهُ أَصْلٌ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } وَفِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا رَجَعَ حَاسَبَهُ } وَهَذَا أَصْلٌ فِي مُحَاسَبَةِ الْعُمَّالِ الْمُتَفَرِّقِينَ . وَالْمُسْتَوْفِي الْجَامِعُ نَائِبُ الْإِمَامِ فِي مُحَاسَبَتِهِمْ وَلَا بُدَّ عِنْدَ كَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَمُحَاسَبَتِهِمْ مِنْ دِيوَانٍ جَامِعٍ . وَلِهَذَا لَمَّا كَثُرَتْ الْأَمْوَالُ عَلَى عَهْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَضَعَ " الدَّوَاوِينَ " دِيوَانَ الْخَرَاجِ وَهُوَ دِيوَانُ الْمُسْتَخْدِمِينَ عَلَى الِارْتِزَاقِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ عُثْمَانَ بْنَ حنيف . وَدِيوَانُ النَّفَقَاتِ وَهُوَ دِيوَانُ الْمَصْرُوفِ عَلَى الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ الَّذِي يُشْبِهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ دِيوَانَ الْحَبْسِ والثبوتات وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ . وَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ الْمَوْقُوفَةُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ مِنْ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ وَنَحْوِهِ إجْرَاؤُهَا عَلَى الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ الْمُوَافِقَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ وَإِقَامَةِ الْعُمَّالِ عَلَى مَا لَيْسَ عَلَيْهِ عَامِلٌ مِنْ جِهَةِ النَّاظِرِ . وَالْعَامِلُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يَدْخُلُ فِيهِ الَّذِي يُسَمَّى نَاظِرًا وَيُدْخَلُ فِيهِ غَيْرُ النَّاظِرِ لِقَبْضِ الْمَالِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ صَرْفُهُ وَدَفْعُهُ إلَى مَنْ هُوَ لَهُ ؛ لِقَوْلِهِ { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } . وَنَصْبُ الْمُسْتَوْفِي الْجَامِعِ لِلْعُمَّالِ الْمُتَفَرِّقِينَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ . وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إذَا لَمْ تَتِمَّ مَصْلَحَةُ قَبْضِ الْمَالِ وَصَرْفُهُ إلَّا بِهِ فَإِنَّ مَا لَا
يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . وَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْهُ عِنْدَ قِلَّةِ الْعَمَلِ وَمُبَاشَرَةِ الْإِمَامِ لِلْمُحَاسَبَةِ بِنَفْسِهِ كَمَا فِي نَصْبِ الْإِمَامِ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ أَنْ يُنَصِّبَ حَاكِمًا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ إذَا لَمْ تَصِلْ الْحُقُوقُ إلَى مُسْتَحِقِّهَا أَوْ لَمْ يَتِمَّ فِعْلُ الْوَاجِبِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ إلَّا بِهِ . وَقَدْ يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْإِمَامُ إذَا أَمْكَنَهُ مُبَاشَرَةُ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ . { وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَاشِرُ الْحُكْمَ وَاسْتِيفَاءَ الْحِسَابِ بِنَفْسِهِ } وَفِيمَا بَعُدَ عَنْهُ يُوَلِّي مَنْ يَقُومُ بِالْأَمْرِ وَلَمَّا كَثُرَتْ الرَّعِيَّةُ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالْخُلَفَاءِ اسْتَعْمَلُوا الْقُضَاةَ وَدَوَّنُوا الدَّوَاوِينَ فِي أَمْصَارِهِمْ وَغَيْرِهِمَا فَكَانَ عُمَرَ يَسْتَنِيبُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْقَضَاءِ وَالدِّيوَانِ . وَكَانَ بِالْكُوفَةِ قَدْ اسْتَعْمَلَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْحَرْبِ : مِثْلَ نَائِبِ السُّلْطَانِ وَالْخَطِيبِ فَإِنَّ السُّنَّةَ كَانَتْ أَنَّهُ يُصَلِّي بِالنَّاسِ أَمِيرُ حَرْبِهِمْ . وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَلَى الْقَضَاءِ وَبَيْتِ الْمَالِ وَاسْتَعْمَلَ عُثْمَانَ بْنَ حنيف عَلَى دِيوَانِ الْخَرَاجِ . وَإِذَا قَامَ الْمُسْتَوْفِي بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ اسْتَحَقَّ مَا فُرِضَ لَهُ وَالْجُعْلَ الَّذِي سَاغَ لَهُ فَرْضُهُ . وَإِذَا عَمِلَ هَذَا وَلَمْ يُعْطَ جُعْلَهُ فَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ عَلَى الْعَمَلِ الْخَاصِّ فَإِنَّ مَا وَجَبَ بِطَرِيقِ الْمُعَامَلَةِ يَجِبُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قِطَعَ أَرْضِ وَقْفٍ ؛
وَغَرَسَ فِيهَا غِرَاسًا وَأَثْمَرَ ؛ وَمَضَتْ مُدَّةٌ لِلْإِيجَارِ ؛ فَأَرَادَ
نُظَّارُ الْوَقْفِ قَلْعَ الْغِرَاسِ . فَهَلْ لَهُمْ ذَلِكَ ؟ أَوْ أُجْرَةُ
الْمِثْلِ ؟ وَهَلْ يُثَابُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
لَيْسَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ قَلْعُ الْغِرَاسِ ؛ بَلْ
لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ أَوْ تَمَلُّكُ الْغِرَاسِ
بِقِيمَتِهِ ؛ أَوْ ضَمَانُ نَقْصِهِ إذَا قُلِعَ . وَمَا دَامَ بَاقِيًا فَعَلَى
صَاحِبِهِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ . وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُ الظَّالِمِ مِنْ ظُلْمِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مُتَوَلِّي إمَامَةِ مَسْجِدٍ وَخَطَابَتِهِ
؛ وَنَظْرِ وَقْفِهِ : مِنْ سِنِينَ مَعْدُودَةٍ بِمَرْسُومِ وَلِيِّ الْأَمْرِ
وَلَهُ مُسْتَحَقٌّ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ فَهَلْ لِنُظَّارِ وَقْفٍ
آخَرَ أَنْ يَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَقْفِ ؛ أَوْ يَتَصَرَّفُوا
فِيهِ بِدُونِ هَذَا النَّاظِرِ ؛ وَأَنْ يَصْرِفُوا مَالَ الْمَسْجِدِ
الْمَذْكُورِ فِي غَيْرِ جِهَتِهِ ؛ أَوْ يَمْنَعُوا مَا قُدِّرَ لَهُ عَلَى
ذَلِكَ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا الْوَقْفَ كَانَ فِي دِيوَانِ أُولَئِكَ مِنْ
مُدَّةٍ ثُمَّ
أَخْرَجَهُ
وَلِيُّ الْأَمْرِ ؛ وَجَعَلَهُ لِلْإِمَامِ الْخَطِيبِ : فَهَلْ لَهُمْ ذَلِكَ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ
يَتَصَرَّفُوا فِيهِ وَيَمْنَعُوهُ التَّصَرُّفَ مَعَ بَقَاءِ وِلَايَتِهِ ؟
وَهَلْ إذَا تَصَرَّفَ فِيهِ مُتَعَدٍّ وَصَرَفَ مِنْهُ شَيْئًا إلَى غَيْرِهِ
مَعَ حَاجَةِ الْإِمَامِ وَقِيَامِ الْمَصَالِحِ وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ -
وَالْحَالَةُ هَذِهِ - يُقْدَحُ فِي دِينِهِ وَعَدَالَتِهِ أَمْ لَا .
فَأَجَابَ
:
لَيْسَ لِنَاظِرِ غَيْرَ النَّاظِرِ الْمُتَوَلِّي هَذَا
الْوَقْفِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
؛ لَا نُظَّارُ وَقْفٍ آخَرَ وَلَا غَيْرُهُمْ ؛ سَوَاءٌ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ
مُتَوَلِّينَ نَظْرَهُ أَوْ لَمْ يَكُونُوا مُتَوَلِّينَ نَظْرَهُ وَلَا لَهُمْ
أَنْ يَصْرِفُوا مَالَ الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ جِهَاتِهِ الَّتِي وَقَفَ عَلَيْهَا
- وَالْحَالُ مَا ذَكَرَ - بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعْطِيَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ مَا
يَسْتَحِقُّونَهُ كَامِلًا ؛ وَلَا يُنْقِصُونَ مِنْ مُسْتَحَقِّهِمْ لِأَجْلِ
أَنْ يَصْرِفُوا الْفَاضِلَ إلَى وَقْفٍ آخَرَ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا نِزَاعَ فِي
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ صَرْفِ
الْفَاضِلِ وَمَنْ جَوَّزَهُ فَلَمْ يُجَوِّزْ لِغَيْرِ النَّاظِرِ الْمُتَوَلِّي
أَنْ يَسْتَقِلَّ بِذَلِكَ وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى صَرْفِ مَالٍ لِغَيْرِ
مُسْتَحَقِّهِ وَمَنَعَ الْمُسْتَحِقَّ قُدِحَ فِي دِينِهِ وَعَدَالَتِهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ وَاقِفٍ وَقَفَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ .
فَهَلْ يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يَصْرِفَ جَمِيعَ رِيعِهِ إلَى ثَلَاثَةٍ
- وَالْحَالَةُ هَذِهِ - أَمْ لَا ؛ وَإِنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ إلَى ثَلَاثَةٍ ؛
وَكَانَ مِنْ أَقَارِبِ الْوَاقِفِ فَقِيرٌ - ثَبَتَ فَقْرُهُ وَاسْتِحْقَاقُهُ
لِلصَّرْفِ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ - فَهَلْ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِ عِوَضًا عَنْ
أَحَدِ الثَّلَاثَةِ الْأَجَانِبِ مِنْ الْوَاقِفِ ؛ وَإِذَا جَازَ الصَّرْفُ
إلَيْهِ : فَهَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْ الْأَجْنَبِيَّيْنِ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِمَا ؟
وَإِذَا كَانَ أَوْلَى : فَهَلْ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَصْرِفَ إلَى قَرِيبِ الْوَاقِفِ
الْمَذْكُورِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ مِنْ الْوَقْفِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - وَإِذَا جَازَ
لَهُ ذَلِكَ : فَهَلْ يَكُونُ فِعْلُهُ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَفْضَلُ مِنْ أَنْ
يَنْقُصَ مِنْ كِفَايَتِهِ ؛ وَيَصْرِفُ ذَلِكَ الْقَدْرِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ -
وَالْحَالَةُ هَذِهِ .
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، يَجِبُ عَلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ
أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَصْرِفِهِ ؛ فَيُقَدِّمُ الْأَحَقَّ ؛ فَالْأَحَقَّ .
وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الشَّرْعِيَّةَ اقْتَضَتْ صَرْفَهُ إلَى
ثَلَاثَةٍ مِثْلَ أَنْ لَا يَكْفِيَهُمْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ ؛ فَلَا يُدْخِلُ
غَيْرَهُمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ .
وَإِذَا كَفَاهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ
يُدْخِلُ الْفُقَرَاءَ مَعَهُمْ ؛ وَيُسَاوِيهِمْ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ رِيعِهِ
وَهُمْ أَحَقُّ مِنْهُ عِنْدَ التَّزَاحُمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَقَارِبُ
الْوَاقِفِ
الْفُقَرَاءِ أَوْلَى مِنْ الْفُقَرَاءِ الْأَجَانِبِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْحَاجَةِ
. وَيَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ إلَيْهِ كِفَايَتَهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ هُوَ
أَحَقُّ مِنْهُ . وَإِذَا قُدِّرَ وُجُودُ فَقِيرٍ مُضْطَرٌّ كَانَ دَفْعُ ضَرُورَتِهِ
وَاجِبًا . وَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِتَنْقِيصِ كِفَايَةِ أُولَئِكَ مِنْ
هَذَا الْوَقْفِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَحْصُلُ لَهُمْ تَعَيَّنَ ذَلِكَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَلَّى ذَا شَوْكَةٍ عَلَى وَقْفٍ مِنْ
مَسَاجِدَ وَرُبُطٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى دِينِهِ وَعِلْمًا
بِقَصْدِهِ لِلْمَصْلَحَةِ . فَعِنْدَ تَوْلِيَتِهِ - وَجَدَ تِلْكَ الْوُقُوفَ
عَلَى غَيْرِ سَنَنٍ مُسْتَقِيمٍ وَيَتَعَرَّضُ إلَيْهَا - كُرِهَ مُبَاشَرَتُهَا
؛ لِئَلَّا يَقَعَ الطَّمَعُ فِي مَالِهَا وَغَيْرُ مُلْتَفِتِينَ إلَى صَرْفِهَا
فِي اسْتِحْقَاقِهَا . وَهُمْ مِثْلُ الْقَاضِي وَالْخَطِيبِ وَإِمَامِ الْجَامِعِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ عُمُومِ الْوَقْفِ وَهُوَ مَعَ
هَذَا عَاجِزٌ عَنْ صَدِّ التَّعَرُّضِ عَنْهَا وَمَعَ اجْتِهَادِهِ فِيهَا
وَمُبَالَغَتِهِ . فَهَلْ يَحِلُّ لِلسَّائِلِ عَزْلُ نَفْسِهِ عَنْهَا وَعَنْ
الْقِيَامِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِهَا ؛ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ
بِأُجْرَةِ يَكْثُرُ التَّعَرُّضُ فِيهَا وَالطَّمَعُ فِي مَالِهَا . وَهَلْ
يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُ أُجْرَةِ عَمَلِهِ مِنْهَا مَعَ كَوْنِهِ ذَا عَائِلَةٍ
وَعَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ قُوتِهِمْ مِنْ غَيْرِهَا ؟ وَهَلْ يَحِلُّ لِلنَّاظِرِ
إذَا وَجَدَ مَكَانًا خَرِبًا أَنْ يَصْرِفَ
مَالَهُ
فِي مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ عِنْدَ تَحَقُّقِهِ بِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ مَا يُتَصَوَّرُ
أَنْ تَقُومَ بِعِمَارَتِهِ ؟ وَهَلْ إذَا فَضَلَ عَنْ جِهَتِهِ شَيْءٌ مِنْ مِلْكِهَا
صَرَفَهُ إلَى مُهِمٍّ غَيْرِهِ وَعِمَارَةٍ لَازِمَةٍ يُمْكِنُ أَنْ تَحْفَظَهُ
لِكَثْرَةِ التَّعَرُّضِ إلَيْهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
أَصْلُ هَذِهِ إنَّمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ
طَاعَتِهِ وَتَقْوَاهُ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
} وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } .
وَلِهَذَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ
بِتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَبِاحْتِمَالِ
أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا . فَمَتَى لَمْ يَنْدَفِعْ
الْفَسَادُ الْكَبِيرُ عَنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْمَوْقُوفَةِ وَمَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ
إلَّا بِمَا ذُكِرَ - مِنْ احْتِمَالِ الْمَفْسَدَةِ الْقَلِيلَةِ - كَانَ ذَلِكَ
هُوَ الْوَاجِبَ شَرْعًا . وَإِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ
فَلَيْسَ لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ إلَّا مَعَ ضَرَرٍ أَوْجَبَ الْتِزَامَهُ أَوْ
مُزَاحَمَةَ مَا هُوَ أَوْجَبُ مِنْ ذَلِكَ . وَلَهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ
مَعَ الْحَاجَةِ تَنَاوُلُ أُجْرَةِ عَمَلِهِ فِيهَا ؛ بَلْ قَدْ جَوَّزَهُ مَنْ
جَوَّزَهُ مَعَ الْغِنَى أَيْضًا كَمَا جَوَّزَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَامِلِينَ
عَلَى الصَّدَقَاتِ الْأَخْذَ مَعَ الْغِنَى عَنْهَا . وَإِذَا خَرِبَ مَكَانٌ
مَوْقُوفٌ فَتَعَطَّلَ نَفْعُهُ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ فِي نَظِيرِهِ أَوْ
نُقِلَتْ إلَى نَظِيرِهِ وَكَذَلِكَ إذَا خَرِبَ بَعْضُ الْأَمَاكِنِ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهَا
- كَمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ - عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ عِمَارَتُهُ
فَإِنَّهُ يُصْرَفُ رِيعُ الْوَقْفِ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِهِ . وَمَا فَضَلَ مِنْ
رِيعِ وَقْفٍ عَنْ مَصْلَحَتِهِ صُرِفَ فِي نَظِيرِهِ أَوْ مَصْلَحَةِ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ نَاحِيَتِهِ وَلَمْ يَحْبِسْ الْمَالَ دَائِمًا بِلَا
فَائِدَةٍ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كُلَّ عَامٍ يُقَسِّمُ كُسْوَةَ
الْكَعْبَةِ بَيْنَ الْحَجِيجِ ؛ وَنَظِيرُ كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ الْمَسْجِدُ
الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ الْحُصْرِ وَنَحْوِهَا وَأَمَرَ بِتَحْوِيلِ مَسْجِدِ
الْكُوفَةِ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ حَتَّى صَارَ مَوْضِعُ الْأَوَّلِ سُوقًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْوَقْفِ الَّذِي أُوقِفَ عَلَى الْأَشْرَافِ
وَيَقُولُ : إنَّهُمْ أَقَارِبُ :
هَلْ الْأَقَارِبُ شُرَفَاءُ أَمْ غَيْرُ شُرَفَاءَ ؟
وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلُوا شَيْئًا مِنْ الْوَقْفِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى أَهْلِ
بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ
الْبَيْتِ : كَالْعَلَوِيِّينَ وَالْفَاطِمِيِّينَ أَوْ الطالبيين الَّذِينَ يَدْخُلُ
فِيهِمْ بَنُو جَعْفَرٍ ؛ وَبَنُو عَقِيلٍ . أَوْ عَلَى الْعَبَّاسِيِّينَ
وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَنْ كَانَ نَسَبُهُ
صَحِيحًا ثَابِتًا . فَأَمَّا مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ مِنْهُمْ وَلَمْ يَثْبُتْ
أَنَّهُ مِنْهُمْ ؛ أَوْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ : فَلَا يَسْتَحِقُّ مِنْ
هَذَا الْوَقْف وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ مِنْهُمْ : كَبَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ ؛ فَإِنَّ أَهْلَ
الْعِلْمِ
بِالْأَنْسَابِ وَغَيْرَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ نَسَبٌ صَحِيحٌ . وَقَدْ شَهِدَ بِذَلِكَ طَوَائِفُ
أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَالْأَنْسَابِ
وَثَبَتَ فِي ذَلِكَ مَحَاضِرُ شَرْعِيَّةٌ . وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبٍ
عَظِيمَةٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ ذَلِكَ مِمَّا تَوَاتَرَ عِنْدَ أَهْلِ
الْعِلْمِ . وَكَذَلِكَ مَنْ وَقَفَ عَلَى " الْأَشْرَافِ " فَإِنَّ
هَذَا اللَّفْظَ فِي الْعُرْفِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا مَنْ كَانَ صَحِيحَ
النَّسَبِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَمَّا إنْ وَقَفَ وَاقِفٌ عَلَى بَنِي فُلَانٍ ؛ أَوْ أَقَارِبَ فُلَانٍ ؛
وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْوَقْفِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لِأَهْلِ
الْبَيْتِ النَّبَوِيِّ وَكَانَ الْمَوْقُوفُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ يَصِحُّ
وَقْفُهُ فِي ذُرِّيَّةِ الْمُعَيَّنِ : لَمْ يَدْخُلْ بَنُو هَاشِمٍ فِي هَذَا
الْوَقْفِ .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ بِيَدِهِ مَسْجِدٌ بِتَوَاقِيعِ إحْيَاءِ سُنَّةٍ
شَرْعِيَّةٍ بِحُكْمِ نُزُولِ مَنْ كَانَ بِيَدِهِ تَوْقِيعًا بِالنُّزُولِ
ثَابِتًا بِالْحُكَّامِ ثُمَّ إنَّ وَلَدَ مَنْ كَانَ بِيَدِهِ الْمَسْجِدُ
أَوَّلًا تَعَرَّضَ لِمَنْ بِيَدِهِ الْمَسْجِدُ الْآنَ وَطَلَبَ مُشَارَكَتَهُ .
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ بِيَدِ وَالِدِهِ .
فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَلْجَأَ إلَى الشَّرِكَةِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ؟
فَأَجَابَ
: الْحَمْدُ لِلَّهِ . لَا يَجُوز إلْزَامُ إمَامِ مَسْجِدٍ عَلَى
الْمُشَارَكَةِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - وَلَا التَّشْرِيكُ بَيْنَهُمَا ؛ أَوْ
عَزْلُهُ بِمُجَرَّدِ مَا ذَكَرَ : مِنْ كَوْنِ أَبِيهِ كَانَ هُوَ الْإِمَامَ
فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ يَجِبُ أَنْ يُوَلَّى فِيهَا الْأَحَقُّ شَرْعًا وَهُوَ
الْأَقْرَأُ لِكِتَابِ اللَّهِ ؛ وَالْأَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَسْبَقُ إلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ : مِثْلَ
أَنْ يَكُونَ أَسْبَقَ هِجْرَةً ؛ أَوْ أَقْدَمَ سِنًّا . فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْأَحَقُّ
هُوَ الْمُتَوَلِّي فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَزْلُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ مَدْرَسَةٍ وُقِفَتْ عَلَى الْفُقَهَاءِ
وَالْمُتَفَقِّهَةِ الْفُلَانِيَّةِ بِرَسْمِ سُكْنَاهُمْ وَاشْتِغَالُهُمْ فِيهَا
. فَهَلْ تَكُونُ السُّكْنَى مُخْتَصَّةٌ بِالْمُرْتَزِقِينَ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ
إخْرَاجُ أَحَدٍ مِنْ السَّاكِنِينَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الصِّنْفِ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا تَخْتَصُّ السُّكْنَى وَالِارْتِزَاقُ بِشَخْصِ
وَاحِدٍ . وَتَجُوزُ السُّكْنَى مِنْ غَيْرِ ارْتِزَاقٍ مِنْ الْمَالِ كَمَا
يَجُوزُ الِارْتِزَاقُ مِنْ غَيْرِ سُكْنَى . وَلَا يَجُوزُ قَطْعُ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ
إلَّا بِسَبَبِ شَرْعِيٍّ - إذَا كَانَ السَّاكِنُ مُشْتَغِلًا - سَوَاءٌ كَانَ
يَحْضُرُ الدَّرْسَ أَمْ لَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مَلَّكَ إنْسَانًا أنشابا قَائِمَةً عَلَى
الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الْمِلْكِ الْمَذْكُورِ وَغَيْرِهِ أَيَّامَ
حَيَاتِهِ ؛ ثُمَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى أَوْلَادِهِ ؛ وَعَلَى مَنْ يُحْدِثُهُ
اللَّهُ مِنْ الْأَوْلَادِ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بَيْنَهُمْ
بِالسَّوِيَّةِ : عَلَى أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ وَتَرَكَ وَلَدًا كَانَ
نَصِيبُهُ مِنْ الْوَقْفِ إلَى وَلَدِهِ ؛ أَوْ وَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ
وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ؛ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ
وَالْبَطْنِ ؛ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ . وَإِنْ تُوُفِّيَ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ وَلَدٍ وَلَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ
نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ مَصْرُوفًا إلَى مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ ؛ مُضَافًا إلَى
مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ رِيعِ هَذَا الْوَقْفِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخٌ
وَلَا أُخْتٌ ؛ وَلَا مَنْ يُسَاوِيه فِي الدَّرَجَةِ : كَانَ نَصِيبُهُ
مَصْرُوفًا إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ : الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْ
وَلَدِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ ؛ تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا الطَّبَقَةَ
السُّفْلَى مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ بِالسَّوِيَّةِ ؛ إلَى حِينِ
انْقِرَاضِهِمْ . فَإِنْ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَرْجِعُ بِنَسَبِهِ إلَى
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْبِنْتِ :
كَانَ مُغَلُّ الْوَقْفِ مَصْرُوفًا إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ بِثَغْرِ
دِمْيَاطَ الْمَحْرُوسَةِ ؛ وَالْوَارِدِينَ إلَيْهِ ؛ والمترددين عَلَيْهِ
يُفَرِّقُهُ النَّاظِرُ عَلَى مَا يَرَاهُ . ثُمَّ عَلَى أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ
فَمِنْ
أَهْلِ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ أَحَدُ الْبَنَاتِ تُوُفِّيَتْ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ
أَخَذَ إخْوَتُهَا نَصِيبُهَا ؛ ثُمَّ مَاتَتْ الْبِنْتُ الثَّانِيَةُ وَلَهَا
ابْنَتَانِ أَخَذَتَا نَصِيبَهَا ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَاتَتْ الْبِنْتُ الثَّالِثَةُ
وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ أَخَذَتْ أُخْتُهَا نَصِيبَهَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
مَاتَتْ الْأُخْتُ الرَّابِعَةُ فَأَخَذُوا لَهَا الثُّلُثَيْنِ . فَهَلْ يَصِحُّ لِأَوْلَادِ خَالَتِهِ
نَصِيبٌ مَعَهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْبِنْتُ
الْأُولَى انْتَقَلَ نَصِيبُهَا إلَى إخْوَتِهَا الثَّلَاثَةِ ؛ كَمَا شَرَطَهُ
الْوَاقِفُ ؛ لَا يُشَارِكُ أَوْلَادُ هَذِهِ لِأَوْلَادِ هَذِهِ فِي النَّصِيبِ
الْأَصْلِيِّ الَّذِي كَانَ لِأُمِّهَا . وَأَمَّا النَّصِيبُ الْعَائِدُ - وَهُوَ
الَّذِي كَانَ لِلثَّالِثَةِ وَانْتَقَلَ إلَى الرَّابِعَةِ - فَهَذَا يَشْتَرِكُ
فِيهِ أَوْلَادُ هَذِهِ وَأَوْلَادُ هَذِهِ ؛ كَمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ أُمُّهُمَا
هَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَقِيلَ : إنَّ جَمِيعَ
مَا حَصَلَ لِلرَّابِعَةِ وَهُوَ نَصِيبُهَا ؛ وَنَصِيبُ الثَّالِثَةِ يَنْتَقِلُ
إلَى أَوْلَادِهَا خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ قَالَ : وَإِنْ تُوُفِّيَ وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ وَلَدٍ وَلَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ نَصِيبُهُ
مَصْرُوفًا إلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ مُضَافٌ إلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ رِيعِ
الْوَقْفِ . قَالُوا : فَالْمُضَافُ كَالْمُضَافِ إلَيْهِ فَإِذَا كَانَ هَذَا
يَنْتَقِلُ إلَى أَوْلَادِهِ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ : لِأَنَّ قَوْلَ الْوَاقِفِ :
مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَتَرَكَ وَلَدًا كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ الْوَقْفِ إلَى
وَلَدِهِ يَتَنَاوَلُ الْأَصْلِيَّ وَالْعَائِدَ . وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْقَوْلُ
الْأَوَّلُ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : كَانَ نَصِيبُهُ . يَتَنَاوَلُ النَّصِيبَ
الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ . وَأَمَّا تَنَاوُلُهُ لِمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يَدْخُلُ بِالشَّكِّ بَلْ قَدْ يُقَالُ : هَذَا هُوَ فِي الْأَصْلِ نَصِيبُ الْمَيِّتِ عَنْهُ كَمَا ذَكَرَ الْوَاقِفُ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْوَاقِفِ لَفْظًا وَعُرْفًا أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الطَّبَقَةِ فِي نَصِيبِ مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَأَخَذَهُ الْمُسَاوِي بِكَوْنِهِ كَانَ فِي الطَّبَقَةِ وَأَوْلَادُهُ فِي الطَّبَقَةِ : كَأَوْلَادِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ . فَكَمَا أَنَّ الْمَيِّتَيْنِ لَوْ كَانَا حَيَّيْنِ اشْتَرَكَا فِي هَذَا النَّصِيبِ الْعَائِدِ : فَكَذَلِكَ يَشْتَرِكُ فِيهِ وَلَدُهُمَا مِنْ بَعْدِهِمَا ؛ فَإِنَّ نِسْبَتَهُمَا إلَى صَاحِبِ النَّصِيبِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ النَّاسُ بِمِثْلِ هَذِهِ الشُّرُوطِ كَمَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ عُرْفُهُمْ وَعَادَتُهُمْ . وَالْمَقْصُودُ إجْرَاءُ الْوَقْفِ عَلَى الشُّرُوطِ الَّذِي يَقْصِدُهَا الْوَاقِفُ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّ نُصُوصَهُ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ . يَعْنِي فِي الْفَهْمِ وَالدَّلَالَةِ . فَيُفْهَمُ مَقْصُودُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَمَا يُفْهَمُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ . وَمَنْ كَشَفَ أَحْوَالَ الْوَاقِفِينَ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ هَذَا الْمَعْنَى ؛ فَإِنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ . وَنِسْبَةُ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ إلَى الْوَاقِفِ سَوَاءٌ فَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي أَنْ يُعْطِيَ ابْنَ هَذَا نَصِيبَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً لِتَأَخُّرِ مَوْتِ أَبِيهِ وَأُولَئِكَ لَا يُعْطَوْنَ إلَّا نَصِيبًا وَاحِدًا ؛ لَا سِيَّمَا وَهَذَا الْمُتَأَخِّرُ قَدْ اسْتَغَلَّ الْوَقْفَ فَقَدْ يَكُونُ خَلَّفَ لِأَوْلَادِهِ بَعْضَ مَا اسْتَغَلَّهُ وَاَلَّذِي مَاتَ أَوَّلًا لَمْ يَسْتَغِلَّهُ إلَّا قَلِيلًا فَأَوْلَادُهُ أَقْرَبُ إلَى
الْحَاجَةِ وَنِسْبَتُهُمَا إلَى الْوَاقِفِ سَوَاءٌ . فَكَيْفَ يُقَدَّمُ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَاجَةِ إلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ عَنْهَا وَهُمَا فِي الْقُرْبِ إلَيْهِ وَإِلَى الْمَيِّتِ صَاحِبِ النَّصِيبِ - بَعْدَ انْقِرَاضِ الطَّبَقَةِ - سَوَاءٌ وَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ صَاحِبُهُ آخِرًا وَلَوْ مَاتَ آخِرًا اشْتَرَكَ جَمِيعُ الْأَوْلَادِ فِيهِ ؛ بَلْ هَذَا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُ الْوَاقِفِ : إنْ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ مَصْرُوفًا إلَى مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخٌ وَلَا أُخْتٌ وَلَا مَنْ يُسَاوِيه فِي الدَّرَجَةِ : فَيَكُونُ نَصِيبُهُ مَصْرُوفًا إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ وَكُلُّهُمْ فِي الْقُرْبِ إلَيْهِ سَوَاءٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ وَاقِفٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ
عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ
وَنَسْلِهِ وَعَقِبِهِ دَائِمًا مَا تَنَاسَلُوا : عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ
مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ :
كَانَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ وَذَوِي
طَبَقَتِهِ . فَإِذَا تُوُفِّيَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ عَنْ
وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ أَوْ نَسْلٍ أَوْ عَقِبٍ لِمَنْ يَكُونُ نَصِيبُهُ ؟
هَلْ يَكُونُ لِوَلَدِهِ ؟ أَوْ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَبَنِيَّ
الْعَمِّ وَنَحْوِهِمْ ؟ .
فَأَجَابَ
:
نَصِيبُهُ يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدِهِ دُونَ إخْوَتِهِ
وَبَنِيَّ عَمِّهِ : لِوُجُوهِ مُتَعَدِّدَةٍ نَذْكُرُ مِنْهَا ثَلَاثَةً .
أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَهُ : عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ .
مُقَيَّدٌ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهُ وَهِيَ قَوْلُهُ : عَلَى أَنَّهُ
مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى ذَوِي
طَبَقَتِهِ . وَكُلُّ كَلَامٍ اتَّصَلَ بِمَا يُقَيِّدُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ
اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ دُونَ إطْلَاقِهِ أَوَّلَ الْكَلَامِ . بَيَانُ
الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى : أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ : عَلَى
أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ
. فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَالْحَالُ صِفَةٌ
فِي الْمَعْنَى وَالصِّفَةُ مُقَيِّدَةٌ لِلْمَوْصُوفِ
وَإِنْ
شِئْت قُلْت : لِأَنَّةِ جَارٌ وَمَجْرُورٌ مُتَّصِلٌ بِالْفِعْلِ وَالْجَارُ وَالْمَجْرُورُ
مَفْعُولٌ فِي النَّفْيِ وَذَلِكَ مُقَيِّدٌ لِلْفِعْلِ . وَإِنْ شِئْت قُلْت :
لِأَنَّهُ كَلَامٌ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ فَيَجِبُ ضَمُّهُ إلَى مَا
قَبْلَهُ . وَإِنْ شِئْت قُلْت : لِأَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ لَمْ يَسْكُتْ
عَلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُ حَتَّى وَصَلَهُ بِغَيْرِهِ وَصِلَةُ الْكَلَامِ مُقَيِّدَةٌ
لَهُ . وَكُلُّ هَذِهِ الْقَضَايَا مَعْلُومَةٌ بِالِاضْطِرَارِ فِي كُلِّ لُغَةٍ
. بَيَانُ الثَّانِيَةِ : أَنَّ الْكَلَامَ مَتَى اتَّصَلَ بِهِ صِفَةٌ أَوْ
شَرْطٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُغَيِّرُ مُوجَبَهُ عِنْدَ
الْإِطْلَاقِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا وَلَمْ يَجُزْ قَطْعُ ذَلِكَ الْكَلَامِ عَنْ
تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ . وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ
أَيْضًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بَلْ وَلَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ . وَكُلُّ هَذَا تَنْبَنِي جَمِيعُ
الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَقْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْعِبَادَاتِ
وَالْمُعَامَلَاتِ : مِثْلَ الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ وَالْبَيْعِ
وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : يُرْجَعُ إلَى لَفْظِ
الْوَاقِفِ فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ . وَلِهَذَا لَوْ كَانَ أَوَّلُ
الْكَلَامِ مُطْلَقًا أَوْ عَامًّا وَوَصَلَهُ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا يَخُصُّهُ
أَوْ يُقَيِّدُهُ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِذَلِكَ التَّقْيِيدِ وَالتَّخْصِيصِ
فَإِذَا قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي . كَانَ عَامًّا . فَلَوْ قَالَ
الْفُقَرَاءُ أَوْ الْعُدُولُ أَوْ الذُّكُورُ . اُخْتُصَّ الْوَقْفُ بِهِمْ ؛ وَإِنْ
كَانَ أَوَّلُ كَلَامِهِ عَامًّا . وَلَيْسَ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ : لَفْظُ
الْأَوْلَادِ عَامٌّ وَتَخْصِيصُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي
الْحُكْمَ عَنْ النَّوْعِ الْآخَرِ ؛ بَلْ الْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ
عَلَى أَنَّهُ
قَصَرَ الْحُكْمَ عَلَى أُولَئِكَ الْمَخْصُوصِينَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ - مُثْبِتُو الْمَفْهُومِ وَنُفَاتُهُ - وَيُسَمُّونَ هَذَا " التَّخْصِيصَ الْمُتَّصِلَ " . وَيَقُولُونَ : لَمَّا وَصَلَ اللَّفْظَ الْعَامَّ بِالصِّفَةِ الْخَاصَّةِ صَارَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَقَطْ وَصَارَ الْخَارِجُونَ عَنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ خَارِجِينَ عَنْ الْحُكْمِ . أَمَّا عِنْدَ نفاة الْمَفْهُومِ فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا إلَّا إذَا دَخَلُوا فِي اللَّفْظِ ؛ فَلَمَّا وَصَلَ اللَّفْظُ الْعَامُّ بِالصِّفَةِ الْخَاصَّةِ أَخْرَجَهُمْ مِنْ اللَّفْظِ ؛ فَلَمْ يَصِيرُوا دَاخِلِينَ فِيهِ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ . فَهُمْ يَنْفُونَ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِعَدَمِ مُوجِبِ الِاسْتِحْقَاقِ . وَأَمَّا عِنْدَ مُثْبِتِي الْمَفْهُومِ فَيُخَرِّجُونَ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِمَعْنَى آخَرَ وَهُوَ أَنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ تَخْصِيصِهِ بِالْحُكْمِ وَقَصْدُ تَخْصِيصِهِمْ بِالْحُكْمِ مُلْتَزِمٌ لِنَفْيِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ . فَهُمْ يَمْنَعُونَ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِانْتِفَاءِ مُوجِبِهِ . وَلِقِيَامِ مَانِعِهِ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَيَّدَ الْمُطْلَقَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي عَلَى أَنَّهُمْ يُعْطُونَ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ . أَوْ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ . أَوْ وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي عَلَى أَنَّهُ يُصْرَفُ مِنْ الْوَقْفِ إلَى الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ . وَوَقَفْت عَلَى أَنَّهُ مَنْ كَانَ فَقِيرًا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ . فَإِنَّ هَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ ؛ أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ ؛ أَوْ إنْ كَانَ فَقِيرًا . وَلَوْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى بَنَاتِي عَلَى أَنَّهُ مَنْ كَانَتْ أَيِّمًا أُعْطِيَتْ وَمَنْ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أُعْطِيَتْ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ : وَقَفْت عَلَى
بَنَاتِي عَلَى الْأَيَامَى مِنْهُمْ ؛ فَإِنَّ صِيغَةَ " عَلَى " مِنْ صِيَغِ الِاشْتِرَاطِ كَمَا قَالَ . { إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : زَوَّجْتُك بِنْتِي عَلَى أَلْفٍ : أَوْ عَلَى أَنْ تُعْطِيَهَا أَلْفًا ؛ أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا فِي ذِمَّتِك أَلْفٌ : كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا ثَابِتًا وَتَسْمِيَتُهُ صَحِيحَةٌ وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد أَوْ غَيْرِهِ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ ؛ مِنْ أَجْلِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ أَوْ لِعَبْدِهِ : أَنْت حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ فَلَمْ تَقْبَلْ الزَّوْجَةُ وَالْعَبْدُ ؛ فَإِنَّهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد يَقَعُ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَأْخَذُهُ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَيْسَتْ لِلشَّرْطِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : خَلَعْتُك عَلَى أَلْفٍ أَوْ كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفٍ أَوْ زَوَّجْتُك عَلَى أَلْفٍ أَوْ قَالَ : بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي بِهِ كَذَا أَوْ عَلَى أَنْ يَضْمَنَهُ زَيْدٌ أَوْ زَوَّجْتُك بِنْتِي عَلَى أَنَّك حُرٌّ : أَنَّ هَذِهِ شُرُوطٌ صَحِيحَةٌ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ كُلِّهِمْ . وَإِنَّمَا الْمَأْخَذُ أَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ لَا يَفْتَقِرَانِ إلَى عِوَضٍ وَلَمْ يُعَلِّقْ الطَّلَاقَ بِشَرْطِ ؛ وَإِنَّمَا شَرَطَ فِيهِ شَرْطًا وَفَرَّقَ بَيْنَ التَّعْلِيقِ عَلَى الشَّرْطِ وَبَيْنَ الشَّرْطِ فِي الْكَلَامِ الْمُنَجَّزِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ كَثِيرٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُعَلَّقَةِ مَعَ صِحَّةِ الِاشْتِرَاطِ فِيهَا ؛ وَهَذِهِ الصِّفَةُ قَدْ تَعَذَّرَ وُجُودُهَا وَالطَّلَاقُ
الْمَوْصُوفُ إذَا فَاتَتْ صِفَتُهُ هَلْ يَفُوتُ جَمِيعُهُ ؟ أَوْ يَثْبُتُ هُوَ دُونَ الصِّفَةِ ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ . إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ . شَرْطٌ حُكْمِيٌّ وَوَصْفٌ مَعْنَوِيٌّ لِلْوَقْفِ الْمَذْكُورِ ؛ وَأَنَّهُ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَالْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ ؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا اُعْتُبِرَ الْقَيْدُ الْمَذْكُورُ فِي الْكَلَامِ كَانَ انْتِقَالُ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ وَلَدِهِ وَأَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَصْرِفْ إلَيْهِمْ نَصِيبَ الْمُتَوَفَّى فِي هَذِهِ الْحَالِ وَمَعْلُومٌ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى إلَيْهِمْ فِي ضِدِّ هَذِهِ الْحَالِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَعَلِمَ أَنَّ هَذَا ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ ؛ بَلْ وَالْعُقَلَاءُ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ وَالنَّافِينَ لَهُ ؛ فَإِنَّ صَرْفَ الْوَقْفِ إلَى غَيْرِ مَنْ صَرَفَهُ إلَيْهِ الْوَاقِفُ حَرَامٌ ؛ وَهُوَ لَمْ يَصْرِفْهُ إلَيْهِمْ . فَهَذَا الْمَنْعُ لِانْتِفَاءِ الْمُوجِبِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ قَدْ مَنَعَ صَرْفَهُ إلَيْهِمْ وَهَذَا الْمَنْعُ لِوُجُودِ الْمَانِعِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ بِشَرْطِ أَنْ يَنْتَقِلَ نَصِيبُ الْمُتَوَفَّى مِنْهُمْ إلَى أَهْلِ طَبَقَتِهِ إذَا كَانَ قَدْ تُوُفِّيَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ . وَلَيْسَ يَخْتَلِفُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ هَذَا الْبَابَ يُقْصِرُ كُلَّ الْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنَّمَا يَغْلَطُ هُنَا مَنْ لَمْ يُحَكِّمْ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ أَنْوَاعِ أُصُولِ الْفِقْهِ السَّمْعِيَّةِ وَلَمْ يَتَدَرَّبْ فِيمَا عُلِّقَ بِأَقْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
وَلَا هُوَ جَرَى فِي فَهْمِ هَذَا الْخِطَابِ عَلَى الطَّبِيعَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ النَّقِيَّةِ فَارْتَفَعَ عَنْ شَأْنِ الْعَامَّةِ بِحَيْثُ لَمْ يَدْخُلْ فِي زُمْرَتِهِمْ فِيمَا يَفْهَمُونَهُ فِي عُرْفِ خِطَابِهِمْ وَانْحَطَّ عَنْ أَوْجِ الْخَاصَّةِ فَلَمْ يَهْتَدِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُشَبَّهَاتِ فِي الْكَلَامِ حَتَّى تُقِرَّ الْفِطَرُ عَلَى مَا فَطَرَهَا عَلَيْهِ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ؛ وَالْحُمْقُ أَدَّى بِهِ إلَى الْخَلَاصِ مِنْ كُنَاسَةِ بترا . وَمَنْ أَحْكَمَ الْعُلُومَ حَتَّى أَحَاطَ بِغَايَاتِهَا رَدَّهُ ذَلِكَ إلَى تَقْرِيرِ الْفِطَرِ عَلَى بِدَايَاتِهَا وَإِنَّمَا بُعِثَتْ الرُّسُلُ لِتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ ؛ لَا لِتَغْيِيرِهَا { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْهُ إلَّا إعْطَاءَ أَهْلِ طَبَقَةِ الْمُتَوَفَّى بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُتَوَفَّى وَلَدٌ وَيَعْقِلُونَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَاحِدٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضِ . وَإِنَّمَا نَشَأَ غَلَطُ الغالط مِنْ حَيْثُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ فِيهِ عُمُومٌ وَالْكَلَامَ الثَّانِي قَدْ خَصَّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ فَيَكُونُ مِنْ " بَابِ تَعَارُضِ الْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ " . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ نَظَرَ فِي كُتُبِ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ بِدَلَالَةِ الْمَفْهُومِ وَإِذَا قَالُوا بِهَا رَأَوْا دَلَالَةَ الْعُمُومِ رَاجِحَةً عَلَيْهَا لِكَوْنِ الْخِلَافَاتِ فِيهَا أَضْعَفَ مِنْهُ فِي دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ فَإِنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِي الْعُمُومِ إلَّا شِرْذِمَةٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ وَقَدْ خَالَفَ فِي الْمَفْهُومِ طَائِفَة مِنْ الْفُقَهَاءِ
وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ حَتَّى قَدْ يَتَوَهَّمُ مَنْ وَقَعَ لَهُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ صَرِيحَ الشَّرْطِ أَوْ عُمُومَهُ لِمَفْهُومِ الصِّفَةِ مَعَ ضَعْفِهِ . فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْعَمَى فِي الْبَصِيرَةِ أَوْ حَوَلٍ يَرَى الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ ؛ فَإِنَّ الْأَعْمَى أَسْلَمُ حَالًا فِي إدْرَاكِهِ مِنْ الْأَحْوَلِ إذَا كَانَ مُقَلِّدًا لِلْبَصِيرِ وَالْبَصِيرُ صَحِيحُ الْإِدْرَاكِ . وَلَوْلَا خَشْيَةُ أَنْ يَحْسَبَ حَاسِبٌ أَنَّ لِهَذَا الْقَوْلِ مَسَاغًا أَوْ أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ عَلَى أُصُولِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لَكَانَ الْإِضْرَابُ عَنْ بَيَانِهِ أَوْلَى . فَيُقَالُ : هَذَا الَّذِي تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ هَلْ هِيَ حُجَّةٌ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَتْ حُجَّةٌ فَهَلْ يَخُصُّ بِهَا الْعَامَّ أَمْ لَا ؟ إنَّمَا هُوَ فِي كَلَامَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي حُكْمِ الْوَاحِدِ لَيْسَ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلٍ بَعْضُهُ بِبَعْضِ ؛ وَلَا فِي كَلَامِ مُتَكَلِّمِينَ لَا يَجِبُ اتِّحَادُ مَقْصُودِهِمَا . فَهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ . أَحَدُهَا : كَلَامَانِ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي حُكْمِ الْوَاحِدِ . وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِيَدْخُلَ فِيهِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا كَلَامَ اللَّهِ وَالْآخَرُ كَلَامَ رَسُولِهِ ؛ فَإِنَّ حُكْمَ ذَلِكَ حُكْمُ مَا لَوْ كَانَا جَمِيعًا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ كَلَامِ رَسُولِهِ : مِثْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } مَعَ قَوْلِهِ " { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِمَا وَاحِدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا كَلَامَانِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمَفْهُومَ حُجَّةٌ يَخُصُّ بِهِ الْعُمُومَ خَصَّ عُمُومَ قَوْلِهِ : " { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } " بِمَفْهُومِ { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } مَعَ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ
أَضْعَفُ مِنْ مَفْهُومِ الصِّفَةِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا . وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ : قَوْلُهُ : " { الْمَاءُ طَهُورٌ } عَامٌّ وَقَوْلُهُ : " { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجَّسْ } هُوَ بَعْضُ ذَلِكَ الْعَامِّ وَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ فِي حُكْمِهِ فَلَا تُتْرَكُ دَلَالَةُ الْعُمُومِ لِهَذَا : وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ " { فِي الْإِبِلِ فِي خَمْسٍ مِنْهَا شَاةٌ } إلَى آخِرِهِ . مَعَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ " { فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ } وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ : مِنْهَا مَا قَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَرْجِيحِ الْمَفْهُومِ فِيهِ : مِثْلَ قَوْلِهِ : " { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } مَعَ قَوْلِهِ " { جُعِلَتْ لِي كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْأَرْضَ الْخَبِيثَةَ لَيْسَتْ بِطَهُورِ . وَمِنْهَا مَا قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ كَقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : " { وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لِي طَهُورًا } فَإِنَّ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرَهُمَا جَعَلُوا مَفْهُومَ هَذَا الْحَدِيثِ مُخَصَّصًا لِقَوْلِهِ " { جُعِلَتْ لِي كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ طَهُورًا } . وَمِنْهَا مَا قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى تَقْدِيمِ الْعُمُومِ فِيهِ كَقَوْلِهِ : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } مَعَ قَوْلِهِ : { وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } فَإِنَّ أَكْلَهَا حَرَامٌ سَوَاءٌ قَصَدَ بِدَارًا كِبَرَ الْيَتِيمِ أَوْ لَا . وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَاتَيْنِ الدَّلَالَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا . فَذَهَبَ أَهْلُ الرَّأْيِ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنْبَلِيَّةِ : إلَى تَرْجِيحِ الْعُمُومِ . وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ : إلَى تَقْدِيمِ الْمَفْهُومِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ صَرِيحًا عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهَا ؛ فَإِنَّهَا ذَاتُ شُعَبٍ كَثِيرَةٍ وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِمَسْأَلَةِ " الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ " وَهِيَ غَمْرَةٌ مِنْ غَمَرَاتِ " أُصُولِ الْفِقْهِ " وَقَدْ اشْتَبَهَتْ أَنْوَاعُهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ السَّابِحِينَ فِيهِ . لَكِنْ الْمَقْصُودُ أَنَّ مَسْأَلَتَنَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَعَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْهُ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى مِنْ يُفْتِي بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنْ يَبْنِيَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أُصُولِهِمَا وَأُصُولِ أَصْحَابِهِمَا دُونَ مَا أَصَّلَهُ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ لَمْ يُمْعِنُوا النَّظَرَ فِي آيَاتِ اللَّهِ . وَدَلَائِلُهُ : الَّتِي بَيَّنَهَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَلَا أَحَاطُوا عِلْمًا بِوُجُوهِ الْأَدِلَّةِ وَدَقَائِقِهَا الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي وَحْيِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَلَا ضَبَطُوا وُجُوهَ دَلَالَاتِ اللِّسَانِ الَّذِي هُوَ أَبْيَنُ الْأَلْسِنَةِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ أَشْرَفَ الْكُتُبِ . وَإِنَّمَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَلَامٌ وَاحِدٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضِ آخِرُهُ مُقَيِّدٌ لِأَوَّلِهِ : مِثْلَ مَا لَوْ قَالَ : " { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ } أَوْ يَقُولُ : " { الْمَاءُ طَهُورٌ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ
لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } أَوْ يَقُولُ : { فِي كُلِّ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ تَجِبُ هَذِهِ الزَّكَاةُ فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ } كَمَا قَالَ : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } فَأَطْلَقَ وَعَمَّمَ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ النَّاسِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُؤْخَذُ بِعُمُومِ أَوَّلِهِ بَلْ إنَّمَا تَضَمَّنَ طَهَارَةَ الْقُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ . لَكِنْ نفاة الْمَفْهُومِ يَقُولُونَ : لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا سِوَى ذَلِكَ بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ فَنَحْنُ نَنْفِيه بِالْأَصْلِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ نَاقِلٌ عَنْ الْأَصْلِ . وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ بَلْ نَنْفِيه بِدَلِيلِ هَذَا الْخِطَابِ الْمُوَافِقِ لِلْأَصْلِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ : أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ : وَصَّيْت بِهَذَا الْمَالِ لِلْعُلَمَاءِ يُعْطُونَ مِنْهُ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ . وَلَوْ قَالَ : مَرَّةً : وَصَّيْت بِهِ لِلْعُلَمَاءِ ثُمَّ قَالَ : أَعْطُوا مِنْ مَالِي لِلْعُلَمَاءِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ . فَهُنَا يُقَالُ تَعَارَضَ الْعُمُومُ وَالْمَفْهُومُ ؛ لَكِنْ مِثْلُ هَذَا لَا يَجِيءُ فِي الْوَقْفِ فَإِنَّهُ إذَا وَقَفَ عَلَى صِفَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ لَمْ يُمْكِنْ تَغْيِيرُهَا ؛ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ وَلَوْ فَسَّرَ الْمُوصِي لَفْظَهُ بِمَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ قُبِلَ مِنْهُ ؛ بِخِلَافِ الْوَاقِفِ . وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ تَقْيِيدَ هَذَا الْكَلَامِ بِالصِّفَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَاجِبٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ وَنَفُتْهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ بِوَصْفِ فِي آخِرِهِ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ مُتَكَلِّمِينَ لَا يَجِبُ اتِّحَادُ مَقْصُودِهِمَا : مِثْلَ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا أَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ لِزَيْدِ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّ الْمَوْضِعَ الْفُلَانِيَّ مِنْهَا لِعَمْرِو فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْبَيِّنَتَيْنِ يَتَعَارَضَانِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ : أَنَّهُ يَبْنِي الْعَامُّ كُلَّ الْخَاصِّ هُنَا . وَقَدْ غَلِطَ بَعْضُ النَّاسِ مَرَّةً فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَرَأَى أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ كَمَا غَلِطَ بَعْضُهُمْ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي فَأَلْحَقُوهُ بِالْأَوَّلِ . وَمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ فَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَعَلِمَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهَا ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْفِطَرِ وَإِنَّمَا خَاصَّةُ الْعُلَمَاءِ إخْرَاجُ مَا فِي الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ فَلَوْ سَلَّمَ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ عَامٌّ أَوْ مُطْلَقٌ فَقَدْ وَصَلَ بِمَا يُقَيِّدُهُ وَيُخَصِّصُهُ وَقَدْ أَطْبَقَ جَمِيعَ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا مَخْصُوصٌ مُقَيَّدٌ وَلَيْسَ عَامًّا وَلَا مُطْلَقًا . فَفَرْقٌ - أَصْلَحَك اللَّهُ - بَيْنَ أَنْ يَتِمَّ الْكَلَامُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ فَيَسْكُتُ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعَارِضُهُ مَفْهُومٌ خَاصٌّ أَوْ مُقَيَّدٌ وَبَيْنَ أَنْ يُوصَلَ بِمَا يُقَيِّدُهُ وَيُخَصِّصُهُ . أَلَسْت تَعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا ؟ فَإِنَّهُ لَوْ حَلَفَ وَسَكَتَ سُكُوتًا طَوِيلًا ثُمَّ وَصَلَهُ بِاسْتِثْنَاءِ أَوْ عَطْفٍ أَوْ وَصْفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُؤَثِّرْ . فَلَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أُسَافِرُ ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتًا طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ . أَوْ قَالَ : إلَى الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ . أَوْ قَالَ : وَلَا أَتَزَوَّجُ . أَوْ قَالَ : لَا أُسَافِرُ رَاجِلًا . لَمْ تَتَقَيَّدْ الْيَمِينُ بِذَلِكَ . وَلَوْ حَلَفَ مَرَّةً : لَا أُسَافِرُ ثُمَّ حَلَفَ مَرَّةً ثَانِيَةً : لَا يُسَافِرُ رَاجِلًا . لَمْ تُقَيَّدْ
الْيَمِينُ الْأُولَى بِقَيْدِ الثَّانِيَةِ . وَلَوْ قَالَ : لَا أُسَافِرُ رَاجِلًا . لَتَقَيَّدَتْ يَمِينُهُ بِذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ . فَلَمَّا قَالَ هُنَا : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِذَوِي طَبَقَتِهِ : صَارَ الْمَعْنَى وَقَفْت وَقْفًا مُقَيَّدًا بِهَذَا الْقَيْدِ الْمُتَضَمِّنِ انْتِقَالَ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى إلَى أَهْلِ طَبَقَتِهِ بِشَرْطِ عَدَمِ وَلَدِهِ . وَصَارَ مِثْلُ هَذَا أَنْ يَقُولَ : وَقَفْت عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي وَنَسْلِي وَعَقِبِي : عَلَى أَنَّ الْأَوْلَادَ يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْوَقْفَ بَعْدَ مَوْتِ آبَائِهِمْ . أَفَلَيِسَ كُلُّ فَقِيهٍ يُوجِبُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَوْلَادِ مَشْرُوطٌ بِمَوْتِ الْآبَاءِ ؟ وَأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ : عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي اقْتَضَى التَّشْرِيكَ ؟ وَيُوَضِّحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي قَدْ يُظَنُّ أَنَّهَا مِثْلُ هَذِهِ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ : لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْمَسَاكِينِ شَيْءٌ حَتَّى يَمُوتَ الثَّلَاثَةُ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ . فَلَوْ قَالَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ : وَقَفْت عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ الثَّلَاثَةِ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى الْآخَرِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِ الْوَقْفِ مِسْكِينٌ . أَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَسَاكِينِ أَحَدٌ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى الْآخَرِينَ . أَوْ يَقُولُ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ الثَّلَاثَةِ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى الْآخَرِينَ إنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ . أَوْ إنْ كَانَا مُقِيمَيْنِ بِبَلَدِ الْوَقْفِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ . أَفَلَيْسَ كُلُّ فَقِيهٍ ؛ بَلْ كُلُّ عَاقِلٍ يَقْضِي بِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبَاقِينَ لِنَصِيبِ الْمُتَوَفَّى مَشْرُوطٌ بِهَذَا الشَّرْطِ ؟ وَأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يَتِمُّ بِآخِرِهِ وَلَا يَجُوز اعْتِبَارُ الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ دُونَ مُطْلَقِهِ وَهَذَا مِمَّا قَدْ اضْطَرَّ اللَّهُ الْعُقَلَاءَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الْبَصِيرَةِ وَبَيْنَ الْإِدْرَاكِ مَانِعٌ فَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ . وَمَسْأَلَتُنَا أَوْضَحُ مِنْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ . وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ : وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَهُوَ عَدْلٌ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ . فَهَلْ يَجُوز أَنْ يَنْتَقِلَ الْوَقْفُ إلَى الْوَلَدِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَيِّتُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا وَسَوَاءٌ كَانَ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا فَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ لِانْدِرَاجِهِ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ قِيلَ لَهُ : اللَّفْظُ الْعَامُّ لَمْ يَنْقَطِعْ وَيَسْكُتْ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْصُولٌ بِمَا قَيَّدَهُ وَخَصَّصَهُ . وَلَا يَجُوز أَنْ يُعْتَبَرَ بَعْضُ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ دُونَ بَعْضٍ وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ ؛ وَلَكِنْ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ . وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُبْهِرْ الْمُتَكَلِّمَ فِي هَذَا فَلْيُكْثِرْ مِنْ النَّظَائِرِ الَّتِي يَصِلُ فِيهَا الْكَلَامَ الْعَامَّ أَوْ الْمُطْلَقَ بِمَا يَخُصُّهُ وَيُقَيِّدُهُ : مِثْلَ أَنْ تَقُولَ : وَقَفْت عَلَى الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ حَضَرَ الدَّرْسَ صَبِيحَةَ كُلِّ يَوْمٍ اسْتَحَقَّ . أَوْ وَقَفْت عَلَى الْفُقَرَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ جَاوَرَ بِالْحَرَمَيْنِ مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ . أَوْ تَقُولُ : عَلَى أَنْ
يُجَاوَرَ
بِأَحَدِ الْحَرَمَيْنِ . أَوْ عَلَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَشْهَدُونَ الدَّرْسَ فِي
كُلِّ غَدَاةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ النَّظَائِرِ الَّتِي تُفَوِّتُ الْعَدَدَ وَالْإِحْصَاءَ .
وَمِمَّا يَغْلَطُ فِيهِ بَعْضُ الْأَذْهَانِ فِي مِثْلِ
هَذَا أَنْ يَحْسَبَ أَنَّ بَيْنَ أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ تَنَاقُضًا أَوْ
تَعَارُضًا . وَهَذَا شُبْهَةٌ مِنْ شُبُهَاتِ بَعْضِ الطَّمَاطِمِ مِنْ مُنْكِرِي
الْعُمُومِ ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّيَغُ عَامَّةً
لَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رُجُوعًا أَوْ نَقْضًا . وَهَذَا جَهْلٌ ؛ فَإِنَّ
أَلْفَاظَ الْعَدَدِ نُصُوصٌ مَعَ جَوَازِ وُرُودِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهَا
كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا
} وَكَذَلِكَ النَّكِرَةُ فِي الْمُوجَبِ مُطْلَقَةٌ مَعَ جَوَازِ تَقْيِيدِهَا
فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } . وَإِنَّمَا أُتِيَ هَؤُلَاءِ
مِنْ حَيْثُ تَوَهَّمُوا أَنَّ الصِّيَغَ إذَا قِيلَ : هِيَ عَامَّةٌ : قِيلَ :
إنَّهَا عَامَّةٌ مُطْلَقًا . وَإِذَا قِيلَ : إنَّهَا عَامَّةٌ مُطْلَقًا ثُمَّ
رُفِعَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْضُ مُوجِبِهَا : فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ
الْمَرْفُوعِ الْعُمُومُ الْمُثْبِتُ لَهُ وَالِاسْتِثْنَاءُ النَّافِي لَهُ .
وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ أَوْ رُجُوعٌ . فَيُقَالُ لَهُمْ : إذَا قِيلَ : هِيَ عَامَّةٌ
فَمِنْ شَرْطِ عُمُومِهَا أَنْ تَكُونَ مُنْفَصِلَةً عَنْ صِلَةٍ مُخَصَّصَةٍ
فَهِيَ عَامَّةٌ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ؛ لَا عَامَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهُ بِحَسَبِ إطْلَاقِهِ وَتَقْيِيدِهِ
؛ وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ : لَهُ أَلْفُ
دِرْهَمٍ مِنْ النَّقْدِ الْفُلَانِيِّ . أَوْ مُكَسَّرَةٌ
أَوْ سُودٌ أَوْ نَاقِصَةٌ أَوْ طبرية أَوْ أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ وَنَحْوُ ذَلِكَ : كَانَ مُقِرًّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْمُقَيَّدَةِ . وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رُجُوعًا لَمَا قُبِلَ فِي الْإِقْرَارِ ؛ إذْ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُ الْمُقِرِّ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَكَثِيرًا مَا قَدْ يَغْلَطُ بَعْضُ الْمُتَطَرِّفِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ شَرْطِ وَاقِفٍ أَوْ يَمِينِ حَالِفٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَيَرَى أَوَّلَ الْكَلَامِ مُطْلَقًا أَوْ عَامًّا وَقَدْ قَيَّدَ فِي آخِرِهِ . فَتَارَةً يَجْعَلُ هَذَا مِنْ بَابِ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ وَيَحْكُمُ عَلَيْهِمَا بِالْأَحْكَامِ الْمَعْرُوفَةِ لِلدَّلَائِلِ الْمُتَعَارِضَةِ مِنْ التَّكَافُؤِ وَالتَّرْجِيحِ . وَتَارَةً يَرَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُتَنَاقِضٌ ؛ لِاخْتِلَافِ آخِرِهِ وَأَوَّلِهِ . وَتَارَةً يَتَلَدَّدُ تَلَدُّدَ الْمُتَحَيِّرِ وَيَنْسِبُ الشَّاطِرَ إلَى فِعْلِ الْمُقَصِّرِ . وَرُبَّمَا قَالَ : هَذَا غَلَطٌ مِنْ الْكَاتِبِ . وَكُلُّ هَذَا مَنْشَؤُهُ مِنْ عَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ وَالْكَلَامِ الْمُنْفَصِلِ . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ أَوَّلِ كَلَامِهِ حَتَّى يَسْكُتَ سُكُوتًا قَاطِعًا وَأَنَّ الْكَاتِبَ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ كِتَابِهِ حَتَّى يَفْرَغَ فَرَاغًا قَاطِعًا : زَالَتْ عَنْهُ شُبْهَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَعَلِمَ صِحَّةَ مَا تَقُولُهُ الْعُلَمَاءُ فِي دَلَالَاتِ الْخِطَابِ . وَمِنْ أَعْظَمِ التَّقْصِيرِ نِسْبَةُ الْغَلَطِ إلَى مُتَكَلِّمٍ مَعَ إمْكَانِ تَصْحِيحِ كَلَامِهِ وَجَرَيَانِهِ عَلَى أَحْسَنِ أَسَالِيبِ كَلَامِ النَّاسِ ثُمَّ يَعْتَبِرُ أَحَدَ الْمَوْضِعَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِالْغَلَطِ دُونَ الْآخَرِ فَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : قَوْلُهُ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ . غَلِطَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ
يُقَالَ : قَوْلُهُ : " ثُمَّ " هُوَ الْغَلَطُ ؛ فَإِنَّ الْغَلَطَ فِي تَبْدِيلِ حَرْفٍ بِحَرْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَاتِبِ أَوْلَى مِنْ الْغَلَطِ بِذِكْرِ عِدَّةِ كَلِمَاتٍ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ كَلِمَاتٍ . ثُمَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا تَوْكِيدٌ ؛ وَالْمُؤَكَّدُ إنَّمَا يُزِيحُ الشُّبْهَةَ ؛ فَكَانَ قَوْلُهُ : مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ . أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ : مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ . إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْبَابَيْنِ وَاحِدًا وَقَصَدَ التَّوْكِيدَ ؛ فَإِنَّ نَقْلَ نَصِيبَ الْمَيِّتِ إلَى إخْوَتِهِ مَعَ وَلَدِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى نَقْلِهِ إلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِهِمْ . إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيدُ بِبَيَانِ الْحُكْمِ الْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ فَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ حُدُودِ الْعَقْلِ وَالْكَلَامِ . ثُمَّ التَّوْكِيدُ لَا يَكُونُ بِالْأَوْصَافِ الْمُقَيِّدَةِ لِلْمَوْصُوفِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : أَكْرَمُ الرِّجَالِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ : أَرَدْت إكْرَامَ جَمِيعِ الرِّجَالِ وَخَصَّصْت الْمُسْلِمِينَ بِالذِّكْرِ تَوْكِيدًا وَذِكْرُهُمْ لَا يَنْفِي غَيْرَهُمْ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي الِاسْمِ الْأَوَّلِ : لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ سَاقِطًا غَيْرَ مَقْبُولٍ أَصْلًا ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ صِفَةٌ لِلرِّجَالِ ؛ وَالصِّفَةُ تُخَصِّصُ الْمَوْصُوفِ . فَلَا يَبْقَى فِيهِ عُمُومٌ ؛ لَكِنْ لَوْ قَالَ : أَكْرَمُ الرِّجَالِ وَالْمُسْلِمِينَ - بِحَرْفِ الْعَطْفِ مَعَ اتِّفَاقِ الْحُكْمِ فِي الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَكَوْنُهُ بَعْضَهُ - لَكَانَ تَوْكِيدًا ؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ لَا يَجِبُ أَنْ يُقَيِّدَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ وَيُخَصِّصَهُ ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُغَايَرَةِ الْحَاصِلَةِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ ؛ بِخِلَافِ الصِّفَاتِ
وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا مُقَيِّدَةٌ ؛ وَكَذَلِكَ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْعَطْفِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْعَطْفِ الْمُغَيِّرِ وَغَيْرِ الْمُغَيِّرِ فِي " بَابِ الْإِقْرَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْعُقُودِ " . وَمَنْ رَامَ أَنْ يَجْعَلَ الْكَلَامَ مَعْنًى صَحِيحًا قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ لَزِمَهُ أَنْ يَجْعَلَ أَوَّلَ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ كُفْرًا وَآخِرَهَا إيمَانًا ؛ وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا قَدْ كَفَرَ ؛ ثُمَّ آمَنَ . فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا الْخَبَالِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ قَالَ : مَا كَلِمَةٌ أَوَّلُهَا كُفْرٌ وَآخِرُهَا إيمَانٌ ؟ فَقِيلَ لَهُ : مَا هِيَ ؟ فَقَالَ : كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ . قُلْت قَصَدَ بِذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَهَا لَوْ سَكَتَ عَلَيْهِ كَانَ كُفْرًا ؛ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهَا كُفْرٌ مَعَ اتِّصَالِهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ هَذَا لَكَانَ قَدْ كَفَرَ . وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ : الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلَّمَ بِمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى . وَغَلِطَ بَعْضُهُمْ فَظَنَّ أَنَّهُ إذَا قَالَ : أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ . كَانَتْ الْأَلْفُ مَجَازًا ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِجُمْلَةِ الْعَدَدِ ؛ وَلَمْ يُرِدْ الْمُتَكَلِّمُ ذَلِكَ . فَيُقَالُ لَهُ : هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا عَنْ صِلَةٍ ؛ وَذَلِكَ الشَّرْطُ قَدْ زَالَ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : إنَّمَا فُهِمَ الْمَعْنَى هُنَا بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ : أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ ؛ لَا بِنَفْسِ الْأَلْفِ . فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الدَّالَّةُ عَلَى تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ . وَهَذِهِ شُبْهَةُ مَنْ رَأَى أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ تَخْصِيصًا مُتَّصِلًا مَجَازٌ . كَالْعَامِّ الْمَخْصُوصِ تَخْصِيصًا مُنْفَصِلًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ
وَسِيَاقُ هَذَا الْقَوْلِ يُوجِبُ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ أَوْ فِعْلٍ وُصِلَ بِوَصْفِ ؛ أَوْ عَطْفِ بَيَانٍ ؛ أَوْ بَدَلٍ ؛ أَوْ أَحَدِ الْمَفْعُولَاتِ الْمُقَيَّدَةِ أَوْ الْحَالِ أَوْ التَّمْيِيزِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ : كَانَ اسْتِعْمَالُهُ مَجَازًا . وَفَسَادُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِاللَّفْظِ الدَّالَّةِ بِالْوَضْعِ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ مِنْ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَالْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْوَضْعِ - كَقَوْلِهِ : رَأَيْت أَسَدًا يَكْتُبُ وَبَحْرًا رَاكِبًا فِي الْبَحْرِ - وَبَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْمُنْفَصِلَةِ مَعْلُومٌ يَقِينًا مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ . وَمَعَ هَذَا فَلَا رَيْبَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يَتِمُّ بِآخِرِهِ وَأَنَّ دَلَالَتَهُ إنَّمَا تُسْتَفَادُ بَعْدَ تَمَامِهِ وَكَمَالِهِ ؛ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهُ دَالًّا دُونَ آخِرِهِ ؛ سَوَاءٌ سُمِّيَ أَوَّلُهُ " حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا " وَلَا أَنْ يُقَالَ : إنَّ أَوَّلَهُ يُعَارِضُ آخِرَهُ . فَإِنَّ التَّعَارُضَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ وَالْكَلَامُ الْمُتَّصِلُ كُلُّهُ دَلِيلٌ وَاحِدٌ فَالْمُعَارَضَةُ بَيْنَ أَبْعَاضِهِ كَالْمُعَارَضَةِ بَيْنَ أَبْعَاضِ الْأَسْمَاءِ الْمُرَكَّبَةِ . وَهَذَا كَلَامٌ بَيِّنٌ خُصُوصًا فِي " بَابِ الْوُقُوفِ " فَإِنَّ الْوَاقِفَ يُرِيدُ أَنْ يَشْرِطَ شُرُوطًا كَثِيرَةً فِي الْمَوْقُوفِ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ : مِنْ الْجَمْعِ وَالتَّرْتِيبِ وَالتَّسْوِيَةِ وَالتَّفْضِيلِ وَالْإِطْلَاقِ وَالتَّقَيُّدُ : يَحْتَمِلُ سِجِلًّا كَبِيرًا . ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ مُسْلِمٌ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ أَوَّلِ كَلَامِهِ إطْلَاقًا وَعُمُومًا وَإِلْغَاءَ آخِرِهِ أَوْ يَجْعَلُ مَا قَيَّدَهُ وَفَصَّلَهُ وَخَصَّصَهُ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مُنَاقِضًا أَوْ مُعَارِضًا لِمَا صَدَرَ
بِهِ
كَلَامُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُطْلَقَةِ أَوْ الْعَامَّةِ ؛ فَإِنَّ مَثَلَ هَذَا
مَثَلُ رَجُلٍ نَظَرَ فِي وَقْفٍ قَدْ قَالَ وَاقِفُهُ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي
ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ . ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : وَمِنْ شَرْطِ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ أَوْ عُدُولًا وَنَحْوَ ذَلِكَ
فَقَالَ : هَدَّا الْكَلَامُ مُتَعَارِضٌ : لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ قَدْ
وَقَفَ عَلَى الْجَمِيعِ وَهَذَا مُنَاقِضٌ لِتَخْصِيصِ الْبَعْضِ ثُمَّ يَجْعَلُ
هَذَا مِنْ " بَابِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ " وَمِنْ " بَابِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ
" فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ خَبْطٌ ؛ إذْ التَّعَارُضُ فَرْعٌ عَلَى
اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالدَّلَالَةِ وَالِاسْتِقْلَالُ بِالدَّلَالَةِ
فَرْعٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْكَلَامِ وَانْفِصَالِهِ فَأَمَّا مَعَ اتِّصَالِهِ
بِمَا يُغَيِّرُ حُكْمَهُ فَلَا يَجُوز جَعْلُ بَعْضِهِ دَلِيلًا مُخَالِفًا
لِبَعْضِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يُوَفِّقُنَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا
يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ
مِنْهُمْ . يَجُوز أَنْ يَكُونَ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْوَقْفَ
يَنْتَقِلُ إلَى مَنْ بَقِيَ ؛ وَأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ فِي وَسَطِهِ ؛ فَإِنَّ
مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَدْ خَرَّجَ فِي قَوْلِهِ : عَلَى وَلَدِي ثُمَّ عَلَى
وَلَدِ وَلَدِي إذَا مَاتَ أَحَدُهُمْ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ ؛ كَالْأَقْوَالِ
الثَّلَاثَةِ فِي قَوْلِهِ : عَلَى أَوْلَادِي الثَّلَاثَةِ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ .
أَحَدُهَا - وَهُوَ الْمَشْهُورُ - أَنَّهُ يَكُونُ لِلْبَاقِينَ مِنْ الطَّبَقَةِ
الْعُلْيَا وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إلَى الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ ؛
كَمَا لَوْ انْقَرَضَتْ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَكُونُ مَسْكُوتًا فَيَكُونُ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ ؛ كَمَا لَوْ قَالَ : وَقَفْته عَلَى زَيْدٍ ؛ وَبَعْدَ مَوْتِهِ بِعَشْرِ سِنِينَ عَلَى الْمَسَاكِينِ . وَإِذَا كَانَ انْقِطَاعُهُ فِي وَسَطٍ عِنْدَ مَوْتِ الْوَاحِدِ مُحْتَمَلًا فَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِفُ هَذَا الشَّرْطَ لِيَنْفِيَ هَذَا الِاحْتِمَالَ وَإِنْ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مُقْتَضَى الْوَقْفِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ؛ ثُمَّ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يَكُونُ مُطَابِقًا لِمُقْتَضَى الْمَدْلُولِ فَيَزِيدُ مُوجِبُهَا تَوْكِيدًا . قُلْنَا : سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ هَذَا كَلَامُ مَنْ قَدْ نَأَى عَنْ مَوْضِعِ اسْتِدْلَالِنَا . فَإِنَّا لَمْ نَسْتَدِلَّ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ الْمُطْلَقَةِ ؛ وَإِنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا بِمَا تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ مِنْ التَّقْيِيدِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَيِّدٌ لَوْ كَانَ الْوَاقِفُ قَالَ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ . وَلَوْ قَالَ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ شُبْهَةٌ أَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ يَنْتَقِلُ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ مَعَ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ . مِنْهَا : أَنَّ هَذَا هُوَ مُوجَبُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يُوصَلْ بِمَا يُغَيِّرُهُ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ وَصَلَ بِمَا وَكَّدَ مُوجِبَ مُطْلَقِهِ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ قَدْ شَرَطَ ذَلِكَ شَرْطًا نَفَى بِهِ الصَّرْفَ إلَى الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ وَنَفَى بِهِ الِانْقِطَاعَ سَوَاءٌ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَإِنَّمَا صُورَةُ مَسْأَلَتِنَا أَنَّهُ قَالَ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ
وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِذَوِي طَبَقَتِهِ . فَجَعَلَ الِانْتِقَالَ إلَيْهِمْ مَشْرُوطًا بِمَوْتِ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ . وَهَذَا الشَّرْطُ - كَمَا أَنَّهُ قَدْ نَفَى بِهِ الِانْقِطَاعَ فَقَدْ قَيَّدَ بِهِ الِانْتِقَالَ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ وَاللَّفْظُ دَالٌّ عَلَيْهِمَا دَلَالَةً صَرِيحَةً فَإِفَادَتُهُ لِإِحْدَاهُمَا لَا تَنْفِي إفَادَتَهُ لِلْأُخْرَى كَمَا لَوْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي الثَّلَاثَةِ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي حَيَاةِ الْوَاقِفِ صُرِفَ نَصِيبُهُ إلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ . فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ نَصِيبَهُ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ إذَا مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْوَاقِفِ . هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْ مَوْتِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْوَاقِفِ فَيَكُونُ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ . وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا : أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمَسَاكِينِ لِأَنَّ اللَّفْظَ اقْتَضَى جَعْلَهُ لِلثَّلَاثَةِ ؛ ثُمَّ لِلْمَسَاكِينِ فَحَيْثُ لَمْ يَصْرِفْ إلَى الثَّلَاثَةِ تَعَيَّنَ صَرْفُهُ إلَى الْمَسَاكِينِ لِحَصْرِ الْوَاقِفِ الْوَقْفَ فِيهَا مَعَ أَنَّ بَحْثَ مَسْأَلَتِنَا أَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ بَلْ لَوْ فُرِضَ أَنَّ قَائِلًا قَدْ قَالَ : إذَا مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ يَكُونُ مُنْقَطِعًا وَإِذَا مَاتَ عَنْ وَلَدٍ لَمْ يَكُنْ : لَجَازَ أَنْ يُقَالَ : هَذَا الشَّرْطُ لِنَفْيِ احْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ دَالٌّ عَلَى التَّقْيِيدِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صَرْفِ نَصِيبِ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ إلَى طَبَقَتِهِ وَعَلَى عَدَمِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ مَعَ الْوَلَدِ . فَالدَّلَالَةُ الْأُولَى تَنْفِي الِانْقِطَاعَ وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ تُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا .
بَلْ الْأُولَى حَصَلَتْ مِنْ وَضْعِ هَذَا اللَّفْظِ وَالثَّانِيَةُ حَصَلَتْ مِنْ مَجْمُوعِ الشَّرْطِ أَوْ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ ؛ فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا نَفْيٌ لِلِاحْتِمَالِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْفِهِ فِي أُخْرَى قُلْنَا : هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ لَمْ تَكُنْ الصُّورَةُ الْمَذْكُورَةُ مُقَيِّدَةٌ لِلَّفْظِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّ قَوْلَهُ : مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ . مُطْلَقٌ وَقَدْ قَيَّدَهُ : عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ . وَفِي مِثْلِ هَذَا لَا يُقَالُ : ذَكَرَ صُورَةً وَتَرَكَ أُخْرَى ؛ إلَّا إذَا كَانَ الْكَلَامُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِغَيْرِهِ ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْكَلَامُ مُتَّصِلًا بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَيْدًا فِي ذَلِكَ الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ . نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا ؛ وَالْحَالُ صِفَةٌ وَالصِّفَةُ مُقَيِّدَةٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ : بِشَرْطِ أَنَّهُ مَنْ كَانَ مَوْتُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ ؛ أَوْ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ نَصِيبُ الْمَيِّتِ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الِانْتِقَالَ الْمَشْرُوطَ بِصِفَةِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ . فَقَوْلُهُ : عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ . صِفَةٌ لِمَوْتِ الْمَيِّتِ ؛ وَالِانْتِقَالُ إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ صِفَةٌ لِلْوَقْفِ وَالْوَقْفُ الْمَوْصُوفُ بِصِفَةِ وَتِلْكَ الصِّفَةُ مَوْصُوفَةٌ بِأُخْرَى : لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ إلَّا مَعَ وُجُودِ الصِّفَةِ وَصِفَةِ الصِّفَةِ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا عَلَى الْأَوْلَادِ ؛ ثُمَّ أَوْلَادُهُمْ ؛ إلَّا بِشَرْطِ انْتِقَالِ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ .
وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ نَصِيبِ الْمَيِّتِ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ إلَّا بِشَرْطِ مَوْتِهِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ أَوْ نَسْلٍ أَوْ عَقِبٍ ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ - وَإِنْ بَعُدَ - كَانَ وُجُودُهُ مَانِعًا مِنْ الِانْتِقَالِ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ وَمُوجِبًا لِلِانْتِقَالِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ . ثُمَّ نَسْلِهِ وَعَقِبِهِ دَائِمًا مَا تَنَاسَلُوا . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ وُجُوهُ فَسَادِهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ . لِكَثْرَتِهَا . مِنْهَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَصْدُهُ مُجَرَّدَ نَفْيِ احْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ لَكَانَ التَّعْمِيمُ بِقَوْلِهِ : مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ . أَوْ التَّنْبِيهُ بِقَوْلِهِ : مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ . هُوَ الْوَاجِبُ ؛ فَإِنَّهُ إذَا انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ مَعَ الْوَلَدِ فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى . أَمَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَى انْتِقَالِهِ إلَى الطَّبَقَةِ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ نَافِيًا بِذَلِكَ احْتِمَالَ الِانْقِطَاعِ ثُمَّ يُرِيدُ مِنَّا أَنْ نَفْهَمَ انْتِقَالَهُ إلَيْهِمْ أَيْضًا مَعَ الْوَلَدِ لِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ : عَلَى وَلَدِي ثُمَّ وَلَدِ وَلَدِي . مَعَ أَنَّ احْتِمَالَ الِانْقِطَاعِ هُنَا قَائِمٌ مَعَ احْتِمَالٍ آخَرَ يَنْفَرِدُ بِهِ وَهُوَ الِانْتِقَالُ إلَى الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ انْتِقَالِهِ إلَى وَلَدِ الْوَلَدِ هُنَا أَظْهَرُ مِنْ احْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ وَمَعَ أَنَّ فَهْمَ التَّخْصِيصِ مَعَ التَّقْيِيدِ أَظْهَرُ مِنْ فَهْمِ الِانْقِطَاعِ وَمَعَ أَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ : عَلَى وَلَدِ وَلَدِي . فِي الِانْتِقَالِ إلَى الطَّبَقَةِ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَتِهِ فِي الِانْتِقَالِ إلَيْهِمْ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ . فَقَدْ أَرَادَ مِنَّا أَنْ نَفْهَمَ الْكَلَامَ الْمَقْلُوبَ وَنَخْرُجَ عَنْ حُدُودِ الْعَقْلِ وَالْبَيَانِ ؛ فَإِنَّ
تَرْكَهُ لِرَفْعِ احْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ وَغَيْرِهِ فِيمَا هُوَ فِيهِ أَظْهَرُ ؛ وَعُدُولُهُ عَنْ الْعِبَارَةِ الْمُحَقِّقَةِ لِنَفْيِ الِانْقِطَاعِ مُطْلَقًا بِلَا لَبْسٍ إلَى عِبَارَةٍ هِيَ فِي التَّقْيِيدِ أَظْهَرُ مِنْهَا فِي مُجَرَّدِ نَفْيِ انْقِطَاعِ بَعْضِ الصُّوَرِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ . وَنَظِيرُ هَذَا رَجُلٌ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَكْرِمْ زَيْدًا إنْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا فَأَكْرِمْهُ . وَكَانَ غَيْرَ صَالِحٍ فَلَمْ يُكْرِمْهُ الْغُلَامُ . فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ : عَصَيْت أَمْرِي . أَلَمْ آمُرْك بِإِكْرَامِهِ ؟ قَالَ : قَدْ قُلْت لِي : إنْ كَانَ صَالِحًا فَأَكْرِمْهُ قَالَ : إنَّمَا قُلْت هَذَا لِئَلَّا تَتَوَهَّمَ أَنِّي أَبْغَضُ الصَّالِحِينَ فَلَا تُكْرِمْهُ مَعَ صَلَاحِهِ فَنَفَيْت احْتِمَالَ التَّخْصِيصِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ . فَهَلْ يُقْبَلُ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ عَاقِلٍ أَوْ يُنْسَبُ الْغُلَامُ إلَى تَفْرِيطٍ أَوْ يَقُولُ لِلسَّيِّدِ : هَذِهِ الْعِبَارَةُ دَالَّةٌ عَلَى التَّخْصِيصِ وَلَوْ كُنْت مُثْبِتًا لِلتَّعْمِيمِ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تَقُولَ : أُكْرِمُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَالِحًا ؛ لِأَنَّ إكْرَامَ الصَّالِحِ يَصِيرُ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ ؛ أَوْ أُكْرِمُهُ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا إنْ كَانَ حُبًّا لَك صَحِيحًا وَكَذَا هُنَا يَقُولُ الْمُنَازِعُ : هُوَ نَقَلَهُ إلَى الطَّبَقَةِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ . فَإِذَا قِيلَ لَهُ : فَلِمَ قَيَّدَ النَّقْلَ بِقَوْلِهِ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى الطَّبَقَةِ ؟ قَالَ : لِيَنْفِيَ احْتِمَالَ الِانْقِطَاعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دُونَ الصُّورَةِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى بِنَفْيِ الِانْقِطَاعِ فِيهَا . فَيُقَالُ لَهُ : كَانَ الْكَلَامُ
الْعَرَبِيُّ فِي مِثْلِ هَذَا : عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ . أَوْ يَقُولُ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ . فَيَأْتِي بِحَرْفِ الْعَطْفِ . أَمَّا إذَا قَالَ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ . فَهَذَا نَصٌّ فِي التَّقْيِيدِ لَا يُقْبَلُ غَيْرُهُ . وَمَنْ تَوَهَّمَ غَيْرَ هَذَا أَوْ جَوَّزَهُ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ أَوْ جَوَّزَ لِعَاقِلِ أَنْ يُجَوِّزَهُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ نِعْمَةِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى الْإِنْسَانِ حَيْثُ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ . وَمَا ظَنِّي أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ وَفِطْرَتَهُ تُوُهِّمَ هَذَا وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لِلْمُفْطِرِ آفَاتٌ تَصُدُّهَا عَنْ سَلَامَتِهَا كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ . وَمِنْهَا : أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَنْفِي احْتِمَالًا بَعِيدًا بِإِثْبَاتِ احْتِمَالٍ أَظْهَرَ مِنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ لَكَانَ احْتِمَالُ الِانْقِطَاعِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ . فَإِنَّهُ إمَّا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ أَوْ مَعْدُودٌ مِنْ الْوُجُوهِ السُّودِ . وَإِذَا ذُكِرَ الشَّرْطُ صَارَ احْتِمَالُ التَّقْيِيدِ وَتَرْتِيبُ التَّوْزِيعِ احْتِمَالًا قَوِيًّا ؛ إمَّا ظَاهِرًا عِنْدَ الْمُنَازِعِ ؛ أَوْ قَاطِعًا عِنْدَ غَيْرِهِ . فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْوَاقِفِ عَلَى الْمَنْهَجِ الذَّمِيمِ دُونَ الطَّرِيقِ الْحَمِيدِ مَعَ إمْكَانِهِ . وَمِنْهَا : أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ لَا يَتَفَطَّنُ لَهُ إلَّا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يُخْلَقْ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا مِنْ زَمَنٍ قَرِيبٍ وَاحْتِمَالُ التَّقْيِيدِ أَمْرٌ لُغَوِيٌّ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ . فَكَيْفَ يُحْمَلُ كَلَامُ وَاقِفٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ احْتِمَالٍ لَا
يَخْطُرُ
إلَّا بِقَلْبِ الْفَرْدِ مِنْ النَّاسِ بَعْدَ الْفَرْدِ . وَلَعَلَّهُ لَمْ يَخْطُرْ
بِبَالِ الْوَاقِفِ ؛ دُونَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ احْتِمَالٍ
قَائِمٍ بِقَلْبِ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ أَوْ غَالِبِ الْمُتَكَلِّمِينَ : مُنْذُ عَلَّمَ آدَمَ الْبَيَانَ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا كَانَ قَصْدُهُ نَفْيَ احْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ
فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِقَوْلِهِ
: عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ . أَيْضًا صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ
نَفَى بِهِ احْتِمَالَ الِانْقِطَاعِ فِي الصُّوَرِ الْأُخْرَى وَيَكُونُ نَفْيُ
احْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ فِيهَا بِانْتِقَالِ نَصِيبِ مَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ
إلَى وَلَدِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ صَوْنُ هَذَا التَّقْيِيدِ عَنْ الْإِلْغَاءِ
وَرَفْعٌ لِلِانْقِطَاعِ فِي الصُّورَتَيْنِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَمْلَ كَلَامِ
الْوَاقِفِ عَلَى هَذَا أَحْسَنُ مِنْ جَعْلِهِ مُهْدَرًا مَبْتُورًا . وَمِنْهَا
: أَنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ كَانَ حَاصِلًا عَلَى التَّمَامِ لَوْ قَالَ : عَلَى
أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ . فَزِيَادَةُ اللَّفْظِ وَنَقْصُ الْمَعْنَى خَطَأٌ
لَا يَجُوزُ حَمْلُ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ
لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ .
مِنْهَا : أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ
قَوْلَهُ : عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ . مُقْتَضٍ لِتَرْتِيبِ
الْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ وَهَذَا الِاقْتِضَاءُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ وَصْلِ
اللَّفْظِ بِمَا يُقَيِّدُهُ ؛ فَإِنَّهُ إذَا وَصَلَ بِمَا يُقَيِّدُهُ
وَيَقْتَضِي تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ : مِثْلَ قَوْلِهِ : عَلَى
أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ . وَنَحْوَ
ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ : كَانَ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءُ مُنْتَفِيًا
بِالِاتِّفَاقِ . وَهَذَا اللَّفْظُ وَهُوَ قَوْلُهُ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ . ظَاهِرٌ فِي تَقْيِيدِ الِانْتِقَالِ بِعَدَمِ الْوَلَدِ وَإِنَّمَا يَصْرِفُهُ مَنْ يَصْرِفُهُ عَنْ هَذَا الظُّهُورِ لِمُعَارَضَةِ الْأَوَّلِ لَهُ وَشَرْطُ كَوْنِ الْأَوَّلِ دَلِيلًا عَدِمَ الصِّلَةَ الْمُغَيِّرَةَ فَيَدُورُ الْأَمْرُ فَتَبْطُلُ الدَّلَالَةُ . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ كَوْنَ الْأَوَّلِ مُقْتَضِيًا لِتَرْتِيبِ الْمَجْمُوعِ إلَّا مَعَ الِانْقِطَاعِ عَنْ الْمُغِيرِ وَلَا يَثْبُتُ هُنَا الِانْقِطَاعُ عَنْ الْمُغِيرِ حَتَّى يُثْبِتَ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى التَّغْيِيرِ ؛ بَلْ عَلَى مَعْنًى آخَرَ . وَلَا تَثْبُتُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى حَتَّى يُثْبِتَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ دَلِيلٌ عَلَى تَرْتِيبِ الْمَجْمُوعِ . وَهَذَا هُوَ الدَّوْرُ وَهُوَ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمَطْلُوبَ مُقَدِّمَةٌ فِي إثْبَاتِ نَفْسِهِ . وَمِنْهَا أَنْ يُقَالَ : قَوْلُهُ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ . قَيْدٌ فِي الِانْتِقَالِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالَ : لَيْسَ بِقَيْدِ . فَهُوَ مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي اللُّغَةِ . وَإِنْ قَالَ : هُوَ قَيْدٌ قِيلَ لَهُ : فَيَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ الْمُقَيَّدِ بِدُونِ قَيْدِهِ . فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ بِالدَّلِيلِ الْأَوَّلِ . قِيلَ : فَيَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ مُطْلَقًا عَمَّا قُيِّدَ بِهِ فِي آخِرِهِ . فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ عُلِمَ أَنَّهُ مُكَابِرٌ . وَإِنْ قَالَ : لَا . ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ . وَهَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ يَقِينِيَّةٌ لَا يَقْدَحُ فِيهَا كَوْنُ الْكَلَامِ لَهُ فَوَائِدُ أُخَرَ . وَمَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا مُقَدِّمَةً لَمْ يَبْقَ إلَّا مُعَانِدًا أَوْ مُسَلِّمًا لِلْحَقِّ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا قِيلَ بِأَنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا إذَا مَاتَ عَنْ وَلَدٍ : كَانَ لِهَذَا السُّؤَالِ
وَجْهٌ
؛ لَكِنْ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُنَازِعِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا مَعَ
مَوْتِهِ عَنْ وَلَدٍ فَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَلَدِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ
. وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ إلَى الطَّبَقَةِ : فَمُحَالٌ أَنْ يَقُولَ فَقِيهٌ :
إنَّهُ يَنْتَقِلُ إلَى الطَّبَقَةِ مَعَ الْوَلَدِ وَيَكُونُ مُنْقَطِعًا مَعَ
عَدَمِ الْوَلَدِ . فَثَبَتَ أَنَّ جَعْلَ هَذَا الْكَلَامِ رَفْعًا لِاحْتِمَالِ
الِانْقِطَاعِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى انْتِقَالِ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى عَنْ
وَلَدٍ إلَى وَلَدِهِ . وَدَلَائِلُ هَذَا مِثْلُ الْمَطَرِ . وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى
سَوَاءِ الصِّرَاطِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ
قَوْلَهُ : عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ . مُقْتَضٍ لِلتَّرْتِيبِ
. وَهُوَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ الْأَوْلَادِ .
وَهُنَا جَمْعَانِ : أَحَدُهُمَا مُرَتَّبٌ عَلَى الْآخَرِ . وَالْأَحْكَامُ
الْمُرَتَّبَةُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ نَوْعَانِ . أَحَدُهُمَا : مَا
يَثْبُتُ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ سَوَاءٌ قُدِّرَ وُجُودُ
الْفَرْدِ الْآخَرِ أَوْ عَدَمُهُ . وَالثَّانِي : مَا يَثْبُتُ لِمَجْمُوعِ
تِلْكَ الْأَفْرَادِ ؛ فَيَكُونُ وُجُودُ كُلٍّ مِنْهَا شَرْطًا فِي ثُبُوتِ
الْحُكْمِ لِلْآخَرِ . مِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } . وَمِثَالُ
الثَّانِي قَوْله تَعَالَى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } فَإِنَّ الْخَلْقَ ثَابِتٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَنْ النَّاسِ ؛ وَكُلًّا مِنْهُمْ مُخَاطَبٌ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّهَارَةِ ؛ وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مَنْ الْأُمَّةِ أُمَّةً وَسَطًا . وَلَا خَيْرَ أُمَّةٍ . ثُمَّ الْعُمُومُ الْمُقَابِلُ بِعُمُومِ آخَرَ قَدْ يُقَابِلُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ هَذَا بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ هَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ آمَنَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ . وَقَدْ يُقَابِلُ الْمَجْمُوعَ بِالْمَجْمُوعِ بِشَرْطِ الِاجْتِمَاعِ مِنْهُمَا ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } فَإِنَّ الِالْتِقَاءَ ثَبَتَ لِكُلِّ مِنْهُمَا حَالَ اجْتِمَاعِهِمَا . وَقَدْ يُقَابِلُ شَرْطَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ أَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } فَإِنَّ مَجْمُوعَ الْأُمَّةِ خَيْرٌ لِلنَّاسِ مُجْتَمِعِينَ وَمُنْفَرِدِينَ . وَقَدْ يُقَابِلُ الْمَجْمُوعَ بِالْمَجْمُوعِ بِتَوْزِيعِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ العمومين وَاحِدٌ مِنْ الْعُمُومِ الْآخَرِ كَمَا يُقَالُ : لَبِسَ النَّاسُ ثِيَابَهُمْ وَرَكِبَ النَّاسُ دَوَابَّهُمْ . فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَكِبَ دَابَّتَهُ وَلَبِسَ ثَوْبَهُ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : النَّاسُ يُحِبُّونَ أَوْلَادَهُمْ . أَيْ : كُلُّ وَاحِدٍ يُحِبُّ وَلَدَهُ ؛ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ } أَيْ كُلُّ وَالِدَةٍ تُرْضِعُ وَلَدَهَا ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْت : النَّاسُ يُعَظِّمُونَ الْأَنْبِيَاءَ ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُعَظِّمُ كُلَّ وَاحِدٍ مَنْ الْأَنْبِيَاءِ . فَقَوْلُ الْوَاقِفِ : عَلَى أَوْلَادِهِ ؛ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ : قَدْ اقْتَضَى تَرْتِيبَ
أَحَدِ العمومين عَلَى الْآخَرِ فَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْعُمُومَ الثَّانِيَ بِمَجْمُوعِهِ مُرَتَّبٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْعُمُومِ الْأَوَّلِ وَعَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ فَلَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الثَّانِي فِي الْوَقْفِ حَتَّى يَنْقَضِيَ جَمِيعُ أَفْرَادِ الْعُمُومِ الْأَوَّلِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ تَرْتِيبًا يُوَزِّعُ فِيهِ الْأَفْرَادَ عَلَى الْأَفْرَادِ فَيَكُونُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ دَاخِلًا عِنْدَ عَدَمِ وَالِدِهِ ؛ لَا عِنْدَ عَدَمِ وَالِدِ غَيْرِهِ ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ } وَقَوْلِهِمْ : النَّاسُ يُحِبُّونَ أَوْلَادَهُمْ . وَاللَّفْظُ صَالِحٌ لِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَلَاحًا قَوِيًّا ؛ لَكِنْ قَدْ يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِأَسْبَابِ أُخْرَى كَمَا رَجَّحَ الْجُمْهُورُ تَرْتِيبَ الْكُلِّ عَلَى الْكُلِّ فِي قَوْلِهِ : وَقَفْت عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ . فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَبَيْنَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةِ مُسَاوَاةٌ فِي الْعَدَدِ حَتَّى يَجْعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مُرَتَّبًا عَلَى الْآخَرِ وَلَا مُنَاسَبَةٌ تَقْتَضِي أَنْ يُعَيِّنَ لِزَيْدِ هَذَا الْمِسْكِينَ وَلِعَمْرِو هَذَا وَلِبَكْرِ هَذَا ؛ بِخِلَافِ قَوْلِنَا : النَّاسُ يُحِبُّونَ أَوْلَادَهُمْ ؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَا مَنْ لَهُ وَلَدٌ . فَصَارَ أَحَدُ العمومين مُقَاوِمًا لِلْآخَرِ . وَفِي أَوْلَادِهِمْ مِنْ الْإِضَافَةِ مَا اقْتَضَى أَنْ يُعَيِّنَ لِكُلِّ إنْسَانٍ وَلَدَهُ دُونَ وَلَدِ غَيْرِهِ . وَكَمَا يَتَرَجَّحُ الْمَعْنَى الثَّانِي فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ } إلَى آخِرِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَنْ الْمُخَاطَبِينَ جَمِيعَ أُمَّهَاتِ الْمُخَاطَبِينَ وَبَنَاتَهمْ ؛ وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أُمَّهُ وَبِنْتَه
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } فَإِنَّهُ لَيْسَ لِجَمِيعِ الْأَزْوَاجِ نِصْفُ مَا تَرَكَ جَمِيعُ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ مَا تَرَكَتْ زَوْجَتُهُ فَقَطْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } إنَّمَا مَعْنَاهُ اتَّبَعَ كُلُّ وَاحِدٍ ذُرِّيَّتَهُ ؛ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الذُّرِّيَّةِ اتَّبَعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْآبَاءِ . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ : مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : النَّاسُ فِي دِيَارِهِمْ وَمَعَ أَزْوَاجِهِمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَيُنْفِقُونَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . ثُمَّ الَّذِي يُوَضِّحُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَوِيٌّ فِي الْوَقْفِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ . أَحَدُهَا : أَنَّ أَكْثَرَ الْوَاقِفِينَ يَنْقُلُونَ نَصِيبَ كُلِّ وَالِدٍ إلَى وَلَدِهِ لَا يُؤَخِّرُونَ الِانْتِقَالَ إلَى انْقِضَاءِ الطَّبَقَةِ ؛ وَالْكَثْرَةُ دَلِيلُ الْقُوَّةِ ؛ بَلْ وَالرُّجْحَانِ . الثَّانِي : أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْأَوْلَادِ يُقْصَدُ بِهِ غَالِبًا أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْرُوثِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَكْبَرَ انْتِفَاعُ الذُّرِّيَّةِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُمْ إذْهَابَ عَيْنِهِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْمِيرَاثِ هُنَا شَبَهٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الِانْتِقَالَ إلَى وَلَدِ الْوَلَدِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْوَلَدِ فِيهِمَا . ثُمَّ مِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ لَوْ أُطْلِقَتْ فِي الْمِيرَاثِ كَمَا أَطْلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ }
{ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ } لَمَا فُهِمَ مِنْهَا
إلَّا مُقَابَلَةُ التَّوْزِيعِ لِلْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ ؛ لَا
مُقَابَلَةُ الْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ وَلَا مُقَابَلَةُ كُلُّ وَاحِدٍ بِكُلِّ
وَاحِدٍ وَلَا مُقَابَلَةُ كُلُّ وَاحِدٍ بِالْمَجْمُوعِ كَمَا لَوْ قَالَ
الْفَقِيهُ لِرَجُلِ : مَالُك يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِك ثُمَّ إلَى وَرَثَتِهِمْ ؛
فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ يَنْتَقِلُ إلَى وَارِثِهِ .
فَلْيَكُنْ قَوْلُهُ : عَلَى أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ
كَذَلِكَ ؛ إمَّا صَلَاحًا وَإِمَّا ظُهُورًا .
الثَّالِثُ : أَنَّ قَوْلَهُ : فِي أَوْلَادِهِمْ .
مُحَالٌ أَنْ يَحْصُلَ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مُقَابَلَةُ كُلِّ فَرْدٍ بِكُلِّ
فَرْدٍ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلَادِ لَيْسَ مُضَافًا إلَى كُلِّ
وَاحِدٍ مَنْ الْوَالِدَيْنِ ؛ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى : ثُمَّ عَلَى مَا لِكُلِّ
وَاحِدٍ مَنْ الْأَوْلَادِ . فَإِذَا قَالَ : وَقَفْت عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو
وَبَكْرٍ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ . فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو
وَبَكْرٍ وَهَذِهِ الْمُقَابَلَةُ مُقَابَلَةُ التَّوْزِيعِ . وَفِي الْكَلَامِ
مَعْنَيَانِ : إضَافَةٌ وَتَرْتِيبٌ . فَإِذَا كَانَتْ مُقَابَلَةُ
الْإِضَافَةِ مُقَابَلَةُ تَوْزِيعٍ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُقَابَلَةُ
التَّرْتِيبِ أَيْضًا مُقَابَلَةُ تَوْزِيعٍ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ { يُرْضِعْنَ
أَوْلَادَهُنَّ } لَمَّا كَانَ مَعْنَى إرْضَاعٍ وَإِضَافَةٍ وَالْإِضَافَةُ
مُوَزَّعَةٌ : كَانَ الْإِرْضَاعُ مُوَزَّعًا . وَقَوْلُهُ { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا
تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } لَمَّا كَانَ مَعْنَى إضَافَةٍ مُوَزَّعَةٍ : كَانَ
الِاسْتِحْقَاقُ مُوَزَّعًا . وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ مُقَابَلَةَ
التَّوْزِيعِ فِي هَذَا الضَّرْبِ قَوِيَّةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ رَاجِحَةً أَوْ
مَرْجُوحَةً أَوْ مكافية .
وَلِلنَّاسِ تَرَدُّدٌ فِي مُوجَبِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي الْوَقْفِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ يُرَجِّحُونَ تَرْتِيبَ الْجَمْعِ عَلَى الْجَمْعِ بِلَا تَوْزِيعٍ كَمَا فِي قَوْلِنَا : عَلَى هَؤُلَاءِ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ . وَلِأَصْحَابِنَا فِي مُوجَبِ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَجْهَانِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا فِي قَوْلِهِ : وَقَفْت عَلَى هَذَيْنِ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ خِلَافًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مَا قَدَّمْنَاهُ . وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لِتَرْتِيبِ الْجَمْعِ عَلَى الْجَمْعِ . وَلَهُمْ وَجْهٌ : أَنَّهُ مَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ أَوْ غَيْرِ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ مُنْقَطِعُ الْوَسَطِ . وَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ وَجْهًا أَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ يَنْتَقِلُ إلَى جَمِيعِ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ . وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا الْكَلَامَ فِي مُوجَبِ هَذَا اللَّفْظِ لَوْ أُطْلِقَ فَإِنَّا إنَّمَا نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لِكَوْنِهِ يَقْتَضِي تَرْتِيبَ الْجَمْعِ عَلَى الْجَمْعِ ؛ إذْ الْكَلَامُ عَلَى التَّقْدِيرِ الْآخَرِ ظَاهِرٌ فَأَمَّا صَلَاحُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَيَيْنِ فَلَا يُنَازِعُ فِيهِ مَنْ تَصَوَّرَ مَا قُلْنَاهُ . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَالِحٌ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّفْظَ إذَا وَصَلَ بِمَا يُمَيِّزُ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ الصَّالِحَيْنِ لَهُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَلَا يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْوَاقِفَ قَصَدَ أَنْ يَنْقُلَ نَصِيبَ كَلِّ وَالِدٍ إلَى وَلَدِهِ ؛ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ بَلْ لَمْ يَكُنْ إلَى ذِكْرِ الشَّرْطِ حَاجَةٌ أَصْلًا . أَكْثَرُ مَا يُقَالُ : إنَّهُ تَوْكِيدٌ لَوْ خَلَا عَنْ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ . فَيُقَالُ : حَمْلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّوْكِيدِ
وَاعْلَمْ
أَنَّ هَذِهِ الدَّلَالَةَ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : صَلَاحُ اللَّفْظِ
الْأَوَّلِ لِتَرْتِيبِ التَّوْزِيعِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَفْهُومَ يُشْعِرُ
بِالِاخْتِصَاصِ . وَهَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ وَإِنْ نَازَعَ فِي
كَوْنِهِ دَلِيلًا . الثَّالِثُ : أَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنْ التَّوْكِيدِ
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ ؛ وَلَا مِنْ بَابِ تَقْيِيدِ
الْكَلَامِ الْمُطْلَقِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ تَفْسِيرِ اللَّفْظِ الَّذِي
فِيهِ احْتِمَالُ الْمَعْنَيَيْنِ
. فَإِنْ قُلْتُمْ : اللَّفْظُ الْأَوَّلُ إنْ كَانَ
ظَاهِرًا فِي تَرْتِيبِ الْجَمْعِ فَهَذَا صَرْفٌ لِلظَّاهِرِ . وَإِنْ قُلْتُمْ :
هُوَ مُحْتَمَلٌ أَوْ ظَاهِرٌ فِي التَّوْزِيعِ : مَنَعْنَاكُمْ وَإِنْ قُلْتُمْ
لَا يُوصَفُ اللَّفْظُ بِظُهُورِ وَلَا إكْمَالٍ إلَّا عِنْدَ تَمَامِهِ وَالْأَوَّلُ
لَمْ يَتِمَّ : فَهَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ فَمَا الْفَرْقُ
بَيْنَهُمَا ؟ قُلْنَا : فِي الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ بَيَانُ أَنَّ اللَّفْظَ
الْأَوَّلَ لَوْ كَانَ نَصًّا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ
فَإِنَّ وَصْلَهُ بِمَا يُقَيِّدُهُ يُبْطِلُ تِلْكَ الدَّلَالَةَ كَمَا لَوْ
قَالَ : وَقَفْت عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ قَالَ : إنْ كَانَ فَقِيرًا فَهَذَا لَا
يُعَدُّ تَفْسِيرًا لِلَفْظِ مُحْتَمَلٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَقْيِيدٌ . وَفِي هَذَا
الدَّلِيلِ بَيَانُ أَنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ مُحْتَمَلٌ لِمَعْنَيَيْنِ وَلَا
يَجُوزُ وَصْفُهُ بِظُهُورِ فِي أَحَدِهِمَا إلَّا أَنْ يَنْفَصِلَ عَمَّا
بَعْدَهُ . فَأَمَّا إذَا اتَّصَلَ بِمَا بَعْدَهُ بَيَّنَ ذَلِكَ الْوَصْلُ
أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ .
فَقَوْلُكُمْ : اللَّفْظُ الْأَوَّلُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا فِي أَحَدِهِمَا أَوْ مُحْتَمَلًا . قُلْنَا : قَبْلَ تَمَامِهِ لَا يُوصَفُ بِوَاحِدِ مَنْ الثَّلَاثَةِ وَإِنَّمَا قَدْ يُوصَفُ بِالصَّلَاحِ لِلْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ . وَلَا يُقَالُ فِيهِ : صَرْفٌ لِلظَّاهِرِ أَصْلًا فَإِنَّهُ لَا ظَاهِرَ لِكَلَامِ لَمْ يَتِمَّ بَعْدُ وَإِنَّمَا ظَاهِرُ الْكَلَامِ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ عِنْدَ فَرَاغِ الْمُتَكَلِّمِ . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مَنْشَأُ الْغَلَطِ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ . عَامٌّ فِي أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ بِلَا تَرَدُّدٍ . فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ أَحَدٍ مِنْهُمْ . وَهُوَ مُقْتَضٍ لِلتَّرْتِيبِ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ الْأَوْلَادَ مُرَتَّبُونَ عَلَى أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ لَكِنْ مَا صِفَةُ هَذَا الْعُمُومِ : أَهُوَ عُمُومُ التَّفْسِيرِ وَالتَّوْزِيعِ الْمُقْتَضِي لِمُقَابَلَةِ كُلِّ فَرْدٍ بِفَرْدِ ؟ أَوْ عُمُومُ الشِّيَاعِ الْمُقْتَضِي لِمُقَابَلَةِ كُلِّ فَرْدٍ بِكُلِّ فَرْدٍ ؟ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي هَذَا بِمَعْنَى أَنَّهُ نَصٌّ فِيهِ فَهُوَ جَاهِلٌ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ خَارِجٌ عَنْ مَنَاهِجِ الْعُقُولِ الطَّبِيعِيَّةِ . وَمَنْ سَلَّمَ صَلَاحَ اللَّفْظِ لَهُمَا ؛ وَادَّعَى رُجْحَانَ أَحَدِهِمَا عِنْدَ انْقِطَاعِ الْكَلَامِ : لَمْ نُنَازِعْهُ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَسْأَلَتُنَا . وَإِنْ نَازَعَ فِي رُجْحَانِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ بَعْدَ تِلْكَ الصِّلَةِ فَهُوَ أَيْضًا مُخْطِئٌ قَطْعًا . وَهَذِهِ حُجَّةٌ عِنْدَ مُثْبِتِي الْمَفْهُومِ ونفاته ؛ كَالْوَجْهِ الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّ نَافِيَ الْمَفْهُومِ يَقُولُ : الْمَسْكُوتُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الثَّانِي ؛ لَكِنْ إنْ دَخَلَ فِي الْأَوَّلِ عَمِلْت بِهِ ؛ وَنُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَوْ إذَا عَلِمَ أَنْ لَا مُوجِبَ لِلتَّخْصِيصِ سِوَى الِاخْتِصَاصِ بِالْحُكْمِ : كَانَ الْمَفْهُومُ دَلِيلًا . فَإِذَا تَأَمَّلَ قَوْلَهُ :
عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِأَهْلِ طَبَقَتِهِ . قَالَ إنْ كَانَ مُرَادُ الْوَاقِفِ عُمُومَ الشِّيَاعِ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُقَيِّدًا لِبَيَانِ مُرَادِهِ وَمَتَى دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مُفَسِّرَةً لِلَّفْظِ الْأَوَّلِ ؛ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ لَغْوًا : كَانَ حَمْلُهَا عَلَى الْإِفَادَةِ وَالتَّفْسِيرِ أَوْلَى ؛ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنِّي أَعْتَبِرُهَا ؛ وَاعْتِبَارُ كَلَامِ الْوَاقِفِ أَوْلَى مِنْ إهْدَارِهِ . وَالثَّانِي : أَجْعَلُهَا بَيَانًا لِلَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ حِينَئِذٍ ؛ فَأَدْفَعُ بِهَا احْتِمَالًا كُنْت أَعْمَلُ بِهِ لَوْلَا هِيَ وَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ كَانَ الْمُقْتَضِي لِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا قَائِمًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءُ مَانِعًا مِنْ النَّقِيضِ أَوْ غَيْرَ مَانِعٍ . فَإِذَا حَمَلْت هَذَا اللَّفْظَ عَلَى الْبَيَانِ كُنْت قَدْ وَفَيْت الْمُقْتَضِي حَقَّهُ مِنْ الِاقْتِضَاءِ وَصُنْت الْكَلَامَ الَّذِي يُمَيَّزُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَنْ الْإِهْدَارِ وَالْإِلْغَاءِ . فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ أَوَّلُ اللَّفْظِ وَيُهْدِرُ آخِرَهُ ؛ وَيَنْسِبُ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ إلَى الْعِيِّ وَاللَّغْوِ . وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ : عَلَى أَنَّهُ . مِنْ صِيَغِ الِاشْتِرَاطِ وَالتَّقْيِيدِ وَالشَّرْطُ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا يَحْتَمِلُهُ الْعَقْدُ ؛ مَعَ أَنَّ إطْلَاقَهُ لَا يَقْتَضِيه . بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : بِعْت وَاشْتَرَيْت . لَا يَقْتَضِي أَجَلًا وَلَا رَهْنًا وَلَا ضَمِينًا وَلَا نَقْدًا غَيْرَ نَقْدِ الْبَلَدِ وَلَا صِفَةً زَائِدَةً فِي الْمَبِيعِ ؛ لَكِنْ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ صَالِحٌ لِهَذَا وَلِهَذَا ؛ لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْفِي هَذِهِ الْأَشْيَاءَ ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يُوجِبُهَا وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا . فَمَتَى قَالَ : عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي بِهِ
كَذَا
كَانَ هَذَا تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ : بِعْتُك بِأَلْفِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : بِأَلْفِ مُتَعَلِّقَةٍ بِرَهْنِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ قَوْلَهُ : عَلَى أَنَّهُ
مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِذَوِي طَبَقَتِهِ .
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ لَمْ يَكُنْ نَصِيبُهُ
لِذَوِي طَبَقَتِهِ . وَهَذِهِ دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ
تَقْرِيرِهَا ؛ لَكِنْ نَذْكُرُ هُنَا نُكَتًا تُحْصِلُ الْمَقْصُودَ . أَحَدُهَا
: أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
قَدِيمًا وَحَدِيثًا : مِنْ الْمَالِكِيَّةِ و الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ
؛ بَلْ هُوَ نَصُّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا خَالَفَ طَوَائِفَ مِنْ
الْمُتَكَلِّمِينَ مَعَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ . فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ إلَى
مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ مَا يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ . فَمَنْ نَسَبَ خِلَافَ هَذَا
الْقَوْلِ إلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ كَانَ مُخْطِئًا . وَإِنْ كَانَ بِمَا
يَتَكَلَّمُ بِهِ مُجْتَهِدًا فَيَجِبُ أَنْ يَحْتَوِيَ عَلَى أَدَوَاتِ
الِاجْتِهَادِ . وَمِمَّا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ ظَنُّ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّ
دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ حُجَّةٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ دُونَ كَلَامِ النَّاسِ ؛
بِمَنْزِلَةِ الْقِيَاسِ . وَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ النَّاسِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ
إمَّا قَائِلٌ بِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ جُمْلَةِ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ . أَوْ
قَائِلٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَتِهَا . أَمَّا هَذَا التَّفْصِيلُ فَمُحْدَثٌ
. ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ إنَّمَا قَالُوا هُوَ حُجَّةٌ فِي
الْكَلَامِ مُطْلَقًا ؛ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً بِكَلَامِ النَّاسِ
. وَبِمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ ؛ وَبِأَدِلَّةِ عَقْلِيَّةٍ
تُبَيِّنُ لِكُلِّ ذِي نَظَرٍ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ مِنْ جِنْسِ دَلَالَةِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ وَهُوَ دَلَالَةٌ مِنْ دَلَالَاتِ اللَّفْظِ . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَالْقِيَاسُ لَيْسَ مِنْ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ دَلِيلًا بِنَصِّ الشَّارِعِ ؛ بِخِلَافِ الْمَفْهُومِ ؛ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ فِي اللُّغَةِ ؛ وَالشَّارِعُ بَيَّنَ الْأَحْكَامَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ . الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ الْخَاصَّةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ الِاسْمِ الْعَامِّ وَهَذَا قَدْ وَافَقَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ خَالَفَ فِي الصِّفَةِ الْمُبْتَدَأَةِ حَتَّى إنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ يَكُونُ حُجَّةً فِي الِاسْمِ غَيْرِ الْمُشْتَقِّ ؛ كَمَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا } " { وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا طَهُورًا } . وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ : النَّاسُ رَجُلَانِ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَيَجِبُ عَلَيْك أَنْ تُحْسِنَ إلَيْهِ . عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَصَدَ تَخْصِيصَ الْمُسْلِمِ بِهَذَا الْحُكْمِ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ ابْتِدَاءً : يَجِبُ عَلَيْك أَنْ تُحْسِنَ إلَى الْمُسْلِمِ . فَإِنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى الْعَادَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ حُكْمِهِ غَالِبًا ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ : " { كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ } و كَذَلِكَ " { فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ } أَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ " { فِي السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ } لِأَنَّهُ إذَا قَالَ " { فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ } فَلَوْ كَانَ حُكْمُهَا مَعَ السَّوْمِ وَعَدَمِهِ سَوَاءً لَكَانَ قَدْ طَوَّلَ اللَّفْظَ وَنَقَّصَ الْمَعْنَى أَمَّا
إذَا قَالَ : " { فِي السَّائِمَةِ } فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا أَغْلَبَ الْأَمْوَالِ أَوْ لِكَوْنِ الْحَاجَةِ إلَى بَيَانِهَا أَمَسَّ وَهَذَا بَيِّنٌ كَذَلِكَ هُنَا إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ انْتِقَالَ نَصِيبِ الْمَيِّتِ إلَى طَبَقَتِهِ مَعَ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ . فَلَوْ قَالَ : فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ كَانَ نَصِيبُهُ لِذَوِي طَبَقَتِهِ . كَانَ قَدْ عَمَّمَ الْحُكْمَ الَّذِي أَرَادَهُ ؛ وَاخْتَصَرَ اللَّفْظَ . فَإِذَا قَالَ : فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ كَانَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ وَذَوِي طَبَقَتِهِ . كَانَ قَدْ طَوَّلَ الْكَلَامَ وَنَقَّصَ الْمَعْنَى ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا حُمِلَ فِي ذَلِكَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالْحُكْمِ ؛ فَإِنَّهُ يَبْقَى الْكَلَامُ صَحِيحًا مُعْتَبَرًا وَالْوَاجِبُ اعْتِبَارُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا أَمْكَنَ . وَلَا يَجُوز إلْغَاؤُهُ بِحَالِ مَعَ إمْكَانِ اعْتِبَارِهِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ نفاة الْمَفْهُومِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ سَبَبٌ غَيْرُ التَّخْصِيصِ بِالْحُكْمِ : إمَّا عَدَمُ الشُّعُورِ بِالْمَسْكُوتِ أَوْ عَدَمُ قَصْدِ بَيَانِ حُكْمِهِ أَوْ كَوْنِ الْمَسْكُوتِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْهُ أَوْ كَوْنِهِ مُسَاوِيًا لَهُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَوْ كَوْنِهِ سُئِلَ عَنْ الْمَنْطُوقِ أَوْ كَوْنِهِ قَدْ جَرَى بِسَبَبِ أَوْجَبَ بَيَانَ الْمَنْطُوقِ أَوْ كَوْنِ الْحَاجَةِ دَاعِيَةً إلَى بَيَانِ الْمَنْطُوقِ أَوْ كَوْنِ الْغَالِبِ عَلَى أَفْرَادِ ذَلِكَ النَّوْعِ هُوَ الْمَنْطُوقُ فَإِذَا عُلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنْ لَا مُوجِبَ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَنَحْوِهَا عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْحُكْمِ .
وَلِهَذَا كَانَ نفاة الْمَفْهُومِ يَحْتَجُّونَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِمَفْهُومَاتِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ أَنْ يَظْهَرَ قَصْدُ التَّخْصِيصِ فِي بَعْضِ الْمَفْهُومَاتِ . وَهَذَا مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ . قَدْ يُشْعِرُ بِالْقِسْمَيْنِ وَلَهُ مَقْصُودٌ فِي بَيَانِ الشَّرْطِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا جَعَلَ نَصِيبَ الْمَيِّتِ يَنْتَقِلُ إلَى إخْوَتِهِ عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَيْهِمْ مَعَ وُجُودِ وَلَدِهِ وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى بَيَانِ النَّوْعَيْنِ ؛ بَلْ لَوْ كَانَ النَّوْعَانِ عِنْدَهُ سَوَاءً - وَقَدْ خَصَّ بِالذِّكْرِ حَالَ عَدَمِ الْوَالِدِ - لَكَانَ مُلْبِسًا مُعْمِيًا ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ خِلَافَ مَا قُصِدَ بِخِلَافِ مَا إذَا حُمِلَ عَلَى التَّخْصِيصِ . الرَّابِعُ : أَنَّ الْوَصْفَ إذَا كَانَ مُنَاسِبًا اقْتَضَى الْعَلِيَّةَ . وَكَوْنُ الْمَيِّتِ لَمْ يُخَلِّفْ وَلَدًا مُنَاسِبٌ لِنَقْلِ حَقِّهِ إلَى أَهْلِ طَبَقَتِهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ النَّقْلِ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ الْمَوْتُ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ فَيَزُولُ هَذَا بِزَوَالِ عِلَّتِهِ وَهُوَ وُجُودُ الْوَلَدِ . الْخَامِسُ : أَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْخِطَابَ فُهِمَ مِنْهُ التَّخْصِيصُ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ هَذَا حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ . إمَّا أَصْلِيَّةٌ لُغَوِيَّةٌ أَوْ طَارِيَةٌ مَنْقُولَةٌ . وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَجِبُ حَمْلُ كَلَامِ الْمُتَصَرِّفِينَ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَاعْلَمْ أَنَّ إثْبَاتَ هَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ كَوْنِ الْمَفْهُومِ دَلِيلًا ؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ فِي الْمَفْهُومِ إنَّمَا يَدَّعِي سَلْبَ الْعُمُومِ عَنْ الْمَفْهُومَاتِ
لَا
عُمُومَ السَّلْبِ فِيهَا ؛ فَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْمَفْهُومَاتِ دَلِيلًا لِظُهُورِ
الْمَقْصُودِ فِيهَا . وَهَذَا الْمَفْهُومُ كَذَلِكَ ؛ بِدَلِيلِ فَهْمِ النَّاسِ
مِنْهُ ذَلِكَ وَمَنْ نَازَعَ فِي فَهْمِ ذَلِكَ فَإِمَّا فَاسِدُ الْعَقْلِ أَوْ
مُعَانِدٌ . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي عَدَمَ
الِانْتِقَالِ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ مَعَ وُجُودِ الْأَوْلَادِ فَإِمَّا أَنْ
لَا يُصْرَفَ إلَيْهِمْ وَلَا إلَى الْأَوْلَادِ ؛ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِ : عَلَى أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ عَلَى
أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا . أَوْ يُصْرَفُ إلَى الْأَوْلَادِ
فَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يَسْلَمُ أَنَّ الْمَفْهُومَ
دَلِيلٌ ؛ لَكِنْ قَدْ عَارَضَهُ اللَّفْظُ الصَّرِيحُ أَوَّلًا أَوْ اللَّفْظُ
الْعَامُّ : فَلَا يُتْرَكُ ذَلِكَ الدَّلِيلُ لِأَجْلِ الْمَفْهُومِ . قِيلَ :
عَنْهُ أَجْوِبَةٌ .
أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ لَا دَلَالَةَ
فِيهِ بِحَالِ عَلَى شَيْءٍ لِأَنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يَصِيرُ دَلِيلًا إذَا
تَمَّ وَقُطِعَ عَمَّا بَعْدَهُ .
أَمَّا إذَا وُصِلَ بِمَا بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ
جُزْءًا مِنْ الدَّلِيلِ ؛ لَا دَلِيلًا . وَجُزْءُ الدَّلِيلِ لَيْسَ هُوَ
الدَّلِيلَ . وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَّصِلَ بَعْضُهُ بِبَعْضِ
يُعَارِضُ آخِرَهُ الْمُقَيَّدَ أَوَّلُهُ الْمُطْلَقُ فَمَا دَرَى أَيَّ شَيْءٍ
هُوَ تَعَارُضُ الدَّلِيلَيْنِ
. الثَّانِي : أَنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ لَوْ فُرِضَ
تَمَامُهُ لَيْسَ بِصَرِيحِ . كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ بَلْ هُوَ مُحْتَمِلٌ
لِمَعْنَيَيْنِ . وَأَمَّا كَوْنُهُ عَامًّا فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّا لَا نَخُصُّهُ
بَلْ نُبْقِيه عَلَى
عُمُومِهِ
؛ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي صِفَةِ عُمُومِهِ ؛ بَلْ مَا حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ أَبْلَغُ
فِي عُمُومِهِ لِأَنَّ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ يَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي
حَيَاةِ أَعْمَامِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِمْ . وَعَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ إنَّمَا
يَأْخُذُ فِي حَيَاتِهِمْ فَقَطْ . وَاللَّفْظُ الْمُتَنَاوِلُ لَهُمْ فِي حَالَيْنِ
أَعَمُّ مِنْ الْمُتَنَاوِلِ لَهُمْ فِي أَحَدِهِمَا . الثَّالِثُ : لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا مِنْ "
بَابِ تَعَارُضِ الْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ " فَالصَّوَابُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا
الْمَفْهُومِ يُقَدَّمُ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَقَدْ حَكَاهُ بَعْضُ
النَّاسِ إجْمَاعًا مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ
دَلِيلٌ خَاصٌّ وَالدَّلِيلُ الْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ . وَلَا
عِبْرَةَ بِالْخِلَافِ فِي الْمَفْهُومِ ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ
مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ ؛ مَعَ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ فِي الْقِيَاسِ
قَرِيبُونَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ فِي الْمَفْهُومِ ؛ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَخُصُّ
بِهِ عُمُومَ الْكِتَابِ مَعَ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ
أَكْثَرُ مِنْ الْمُخَالِفِينَ عُمُومَ الْكِتَابِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ مَبْنِيٌّ
عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ . عَائِدٌ إلَى
جَمِيعِ مَنْ تَقَدَّمَ ؛ وَهَذَا مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ
الْمُعْتَبِرِينَ مَنْ قَالَ : إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِ إذَا تَعَقَّبَ
جُمَلًا مَعْطُوفَةً (1) وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ
فَتَبْقَى الْجُمَلُ الْأُولَى عَلَى تَرْتِيبِهَا ؟ .
قِيلَ : هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ لَازِمَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ وَنَسْلِهِمْ وَعَقِبِهِمْ ؛ عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ : لَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ فِي الطَّبَقَةِ الْآخِرَةِ وَأَنَّ الطَّبَقَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْهُمْ لَمْ يَنْتَقِلْ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ ؛ بَلْ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ عَمَلًا بِمُقْتَضَى مُطْلَقِ التَّرْتِيبِ ؛ فَإِنْ الْتَزَمَ الْمُنَازِعُ هَذَا اللَّازِمَ وَقَالَ : كَذَلِكَ أَقُولُ . كَانَ هَذَا قَوْلًا مُخَالِفًا لِمَا عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي كُلِّ عَصْرٍ وَكُلِّ مِصْرٍ ؛ فَإِنَّ الْوُقُوفَ الْمُشْرَطَةَ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ لَا يُحْصِي عَدَدَهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى . وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ قُضَاتِهِمْ وَمُفْتِيهمْ وَخَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ يَجْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ ثَابِتًا فِي جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ لِذَلِكَ وَلَا مُنَازِعٍ فِيهِ . فَمَنْ قَالَ خِلَافَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ ابْتَدَعَ قَوْلًا يُخَالِفُ مَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرُونُ السَّالِفَةُ وَالْعِلْمُ بِهَذَا ضَرُورِيٌّ . ثُمَّ لَوْ فُرِضَ أَنَّ فِي هَذَا خِلَافًا لَكَانَ خِلَافًا شَاذًّا مَعْدُودًا مِنْ الزَّلَّاتِ وَبِحَسَبِ قَوْلٍ مِنْ الضَّعْفِ أَنْ يبنى عَلَى مِثْلِ هَذَا . وَمِنْ لَوَازِمِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ . وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْ
كَانَ مِنْهُمْ فَقِيرًا صُرِفَ إلَيْهِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَنِيًّا لَمْ يُصْرَفْ إلَيْهِ . فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الطَّبَقَةِ الْأُولَى ؛ وَالثَّانِيَةِ سَوَاءٌ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ ؛ أَوْ يَخْتَصُّ التَّفْصِيلُ بِالطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ تَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُعْطِيَ وَمَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ لَمْ يُعْطَ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : وَمَنْ شَرَطَ الْوَقْفَ عَلَى أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ . أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يُصْرَفَ إلَى فُقَرَائِهِمْ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ . وَهَكَذَا صُوَرٌ كَثِيرَةٌ لَا يَأْتِي عَلَيْهَا الْإِحْصَاءُ مَنْ الْتَزَمَ فِيهَا قِيَاسَ هَذَا الْقَوْلِ كَانَ قَدْ أَتَى بِدَاهِيَةِ دَهْيًا وَإِنْ قَالَ : بَلْ يَعُودُ الشَّرْطُ إلَى جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ ؛ كَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ عِنْدَ النَّاسِ فَقَدْ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَسْأَلَتَنَا وَاحِدَةٌ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ؛ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ الصُّوَرِ مِنْ الْفَرْقِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ عَلَى مُمَيَّزٍ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ النَّاسَ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إلَّا الِاشْتِرَاطَ فِي جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْوُقُوفَ الْمَشْرُوطَةَ بِمِثْلِ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ثُمَّ لَمْ يَفْهَمْ النَّاسُ مِنْهَا إلَّا هَذَا وَلَعَلَّهُ لَمْ يَخْطِرْ الِاخْتِصَاصُ بِالطَّبَقَةِ الْأَخِيرَةِ بِبَالِ وَاقِفٍ وَلَا كَاتِبٍ وَلَا شَاهِدٍ وَلَا مُسْتَمِعٍ وَلَا حَاكِمٍ وَلَا مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَجَبَ حَمْلُ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي خِطَابِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ عُرْفُهُمْ مُوَافِقًا لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ . فَإِنْ كَانَ مُوجَبُ اللُّغَةِ
عَوْدُ الشَّرْطِ إلَى الطَّبَقَاتِ كُلِّهَا فَالْعُرْفُ مُقَرِّرٌ لَهُ . وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ مُوجِبَ اللُّغَةِ قَصْرُهُ عَلَى الطَّبَقَةِ الْأَخِيرَةِ كَانَ الْعُرْفُ مُغَيِّرًا لِذَلِكَ الْوَضْعِ . وَكَلَامُ الْوَاقِفِينَ وَالْحَالِفِينَ وَالْمُوصِينَ وَنَحْوِهِمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقَائِقِ الْعُرْفِيَّةِ دُونَ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ : هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ فِي الْعُرْفِ وَالْأَصْلُ تَقْرِيرُ اللُّغَةِ لَا تَغْيِيرُهَا فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ مَفْهُومُ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ ؛ إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ . وَمَنْ نَازَعَ فِي أَنَّ النَّاسَ خَاصَّتَهُمْ وَعَامَّتَهُمْ يَفْهَمُونَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَوْدَ الشَّرْطِ إلَى جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ عُلِمَ أَنَّهُ مُكَابِرٌ وَإِذَا سَلَّمَهُ وَنَازَعَ فِي حَمْلِ كَلَامِ الْمُتَصَرِّفِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَفْهَمُونَهُ عُلِمَ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قَوَانِينِ الشَّرِيعَةِ . فَهَاتَانِ مُقَدِّمَتَانِ يَقِينِيَّتَانِ ؛ وَالْعِلْمُ بِهِمَا مُسْتَلْزِمٌ لِعَوْدِ الشَّرْطِ إلَى جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إذَا حَمَلَ الْكَلَامَ عَلَى عَوْدِ الشَّرْطِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ : كَانَتْ فَائِدَتُهُ عَلَى رَأْيِ الْمُنَازِعِ أَنَّهُ لَوْلَا هَذَا الشَّرْطُ لَاشْتَرَكَ الْعَقِبُ فِي جَمِيعِ الْوَقْفِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِمْ مِنْ الطَّبَقَةِ الَّتِي فَوْقَهُمْ وَاَلَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِمْ مِمَّنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ . فَإِذَا قَالَ : فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ لِذَوِي طَبَقَتِهِ . أَفَادَ ذَلِكَ أَنْ يَخْتَصَّ ذووا الطَّبَقَةِ بِنَصِيبِ الْمُتَوَفَّى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ؛ دُونَ مَنْ فَوْقَهُمْ وَمَنْ دُونَهُمْ . وَهَذَا لَمْ يَكُنْ مَفْهُومًا مِنْ اللَّفْظِ وَإِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ اشْتَرَكَ جَمِيعُ أَهْلِ الْوَقْفِ فِي نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى وَلَدُهُ وَغَيْرُ وَلَدِهِ . وَإِذَا حُمِلَ الْكَلَامُ
عَلَى عَوْدِ الشَّرْطِ إلَى الطَّبَقَاتِ كُلِّهَا أَفَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ نَصِيبُ الْمُتَوَفَّى إلَى طَبَقَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ . وَإِلَى وَلَدِهِ إذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ . وَمَعْلُومٌ قَطْعًا مِنْ أَحْوَالِ الْخَلْقِ أَنَّ مَنْ اشْتَرَكَ بَيْنَ جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ لَا يَنْقُلُ نَصِيبَ الْمَيِّتِ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ فَقَطْ دُونَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ وَإِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَنْقُلْهُ إلَى وَلَدِهِ ؛ بَلْ يَجْعَلُهُ كَأَحَدِهِمْ ؛ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَدْ جَعَلَ ذَوِي الطَّبَقَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الْمَيِّتِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُرَاعِ تَرْتِيبَ الطَّبَقَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ عَاقِلٌ ؛ فَإِنَّ الْعَاقِلَ إمَّا أَنْ يُرَاعِ تَرْتِيبَ الطَّبَقَاتِ فَلَا يُشْرِكُ أَوْ يَنْقُلُ نَصِيبَ الْمُتَوَفَّى إلَى وَلَدِهِ كَالْإِرْثِ . أَمَّا أَنَّهُ مَعَ التَّشْرِيكِ يَخُصُّ نَصِيبَ الْمُتَوَفَّى إخْوَتَهُ دُونَ وَلَدِهِ : فَهَذَا خِلَافَ الْمَعْلُومِ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ . وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الضَّمِيرَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ وَعَوْدِهِ إلَى الطَّبَقَةِ الْأَخِيرَةِ كَانَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ الْحَالِيَّةُ الْعُرْفِيَّةُ مُعَيَّنَةً لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَلْزَمُكُمْ إذَا أَعَدْتُمْ الضَّمِيرَ إلَى الْجَمِيعِ ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي أَرْبَعِ طَبَقَاتٍ وَالتَّشْرِيكَ فِي الْبَاقِيَةِ . فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ فِي بَقِيَّةِ الطَّبَقَاتِ مِثْلَمَا نَقُولُهُ . قُلْنَا : هَذَا فِيهِ خِلَافٌ ؛ فَإِنَّ الطَّبَقَاتِ الْبَاقِيَةَ هَلْ يُشْرِكُ بَيْنَهَا عَمَلًا بِمَا تَقْتَضِيه الْوَاوُ مِنْ مُطْلَقِ التَّشْرِيكِ أَوْ يُرَتِّبُ بَيْنَهَا اسْتِدْلَالًا بِالتَّرْتِيبِ فِيمَا
ذَكَرَهُ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْبَاقِي كَمَا هُوَ مَفْهُومُ عَامَّةِ النَّاسِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّ الْوَاوَ كَمَا أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فَهِيَ لَا تَنْفِيه فَإِنْ كَانَ فِي الْكَلَامِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَجَبَ رِعَايَتُهَا . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي هَذَا . فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي فَلَا كَلَامَ . وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ قُلْنَا أَيْضًا : إنَّهُ يَقْتَضِي انْتِقَالَ نَصِيبِ الْمَيِّتِ إلَى وَلَدِهِ فِي جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ ؛ فَإِنَّ نَقْلَ نَصِيبِ الْمَيِّتِ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ دُونَ سَائِرِ أَهْلِ الْوَقْفِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْقُلُهُ إلَى وَلَدِهِ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ وَالتَّنْبِيهُ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْ النَّصِّ حَتَّى فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ . وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى وَلَدِي عَلَى أَنَّهُ مَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يُعْطَى دِرْهَمًا وَاحِدًا . فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى دِرْهَمَانِ بِلَا رَيْبٍ ؛ فَإِنَّهُ نَبَّهَ بِحِرْمَانِهِ الْقَلِيلَ عَلَى حِرْمَانِهِ الْكَثِيرَ كَذَلِكَ نَبَّهَ بِنَقْلِ نَصِيبِ الْمَيِّتِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ إلَى إخْوَتِهِ عَلَى نَقْلِهِ إلَى الْوَلَدِ إذَا كَانَا مَوْجُودَيْنِ فَيَكُونُ مَنْعُ الْإِخْوَةِ مَعَ الْوَلَدِ مُسْتَفَادًا مِنْ التَّقْيِيدِ وَإِعْطَاءُ الْوَلَدِ مُسْتَفَادًا مِنْ تَنْبِيهِ الْخِطَابِ وَفَحْوَاهُ . وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ إعْطَاءَ نَصِيبِ الْمَيِّتِ لِذَوِي طَبَقَتِهِ دُونَ سَائِرِ أَهْلِ الْوَقْفِ وَدُونَ تَخْصِيصِ الْأَقْرَبِ إلَى الْمَيِّتِ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ سَبَبَ الِاخْتِصَاصِ الْقُرْبَ إلَى الْمَيِّتِ لَا الْقُرْبَ إلَى الْوَاقِفِ وَلَا مُطْلَقَ الِاسْتِحْقَاقِ . وَمَعْلُومٌ
أَنَّ الْوَلَدَ عِنْدَ وُجُودِهِمْ أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ فَيَكُونُ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِمْ أَوْكَدَ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ قَصَدَ إعْطَاءَهُمْ . وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَوْدُهُ إلَى الْجَمِيعِ أُعِيدَ إلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِينَ أَوْ إلَى مَا يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى تَعْيِينِهِ . فَأَمَّا اخْتِصَاصُهُ بِبَعْضِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ فَمِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ الْمُخَالِفِ لِلْأَصْلِ الَّذِي لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُضْمَرَةَ إضْمَارَ الْغَيْبَةِ هِيَ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ مَوْضُوعَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا فِي نَفْسِهَا دَلَالَةٌ عَلَى جِنْسٍ أَوْ قَدْرٍ . فَلَوْ قَالَ : أَدْخُلُ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ ثُمَّ بَنِي الْمُطَّلِبِ ثُمَّ سَائِرِ قُرَيْشٍ وَأَكْرَمَهُمْ وَأَجْلَسَهُمْ وَنَحْوِ هَذَا الْكَلَامِ : لَكَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَعَقِّبِ جُمَلًا : هَلْ يَعُودُ إلَى جَمِيعِهَا أَوْ إلَى أَقْرَبِهَا ؟ لِأَنَّ الْخِلَافَ هُنَاكَ إنَّمَا نَشَأَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْفَعُ بَعْضَ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ فَقَالَ مَنْ قَصَرَهُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ : إنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلدُّخُولِ فِي الْجُمَلِ السَّابِقَةِ قَائِمٌ وَالْمُخْرَجَ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يَزَالُ عَنْ الْمُقْتَضِي بِالشَّكِّ . وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الضَّمِيرِ ؛ فَإِنَّ الضَّمِيرَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ صَالِحٌ لِلْعُمُومِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ إذَا لَمْ يَقُمْ مُخَصِّصٌ وَعَلَى هَذَا فَحَمْلُ الضَّمِيرِ عَلَى الْعُمُومِ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَحَمْلُهُ عَلَى الْخُصُوصِ مِثْلُ تَخْصِيصِ اللَّفْظِ الْعَامِّ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ إذَا قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ . فَإِنَّ إعَادَةَ الضَّمِيرِ إلَى الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ . وَالظَّاهِرُ ؛ بَلْ الْمَقْطُوعُ بِهِ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ : أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ إعْطَاءَ الْأَقْرَبِ إلَيْهِ فَالْأَقْرَبِ فِي جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ إذَا نُقِلَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ إلَى ابْنِهِ فِي جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ . أَمَّا كَوْنُهُ فِي بَعْضِ الطَّبَقَاتِ يَخُصُّ الْأَقْرَبِينَ إلَيْهِ وَفِي بَعْضِهَا بِنَقْلِ النَّصِيبِ إلَى وَلَدِ الْمَيِّتِ أَوْ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ : فَمَا يَكَادُ عَاقِلٌ يَقْصِدُ هَذَا وَإِذَا دَارَ حَمْلُ اللَّفْظِ بَيْنَ مَا الظَّاهِرُ إرَادَتُهُ وَبَيْنَ مَا الظَّاهِرُ عَدَمُ إرَادَتِهِ : كَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ظَهَرَتْ إرَادَتُهُ هُوَ الْوَاجِبَ ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يُعْمَلُ بِهِ لِكَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى الْمَقْصُودِ . فَإِذَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمَلًا وَقَدْ تَرَجَّحَ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ تَعَيَّنَ الصَّرْفُ إلَيْهِ فَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ الَّتِي نِسْبَتُهَا وَنِسْبَةُ غَيْرِهَا إلَى غَرَضِ الْوَاقِفِ سَوَاءٌ كَانَ كَالْقَاطِعِ فِي الْعُمُومِ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ الْمُتَعَقِّبُ جُمَلًا يَعُودُ إلَى جَمِيعِهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَلَا عِبْرَةَ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ نَصُّوا أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَن كَذَا وَلَأَفْعَلَن كَذَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ كِلَا الْفِعْلَيْنِ يَكُونُ مُعَلَّقًا
بِالْمَشِيئَةِ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لَأَضْرِبَن زَيْدًا ؛ ثُمَّ عَمْرًا ثُمَّ بَكْرًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُهُ لَيَفْعَلَن كَذَا وَعَبْدُهُ حُرٌّ لَيَفْعَلَن كَذَا أَوْ امْرَأَتُهُ كَظَهْرِ أُمِّهِ لَيَفْعَلَن كَذَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُخَصَّصِ ؛ لَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُعَلَّقِ . وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُعَلَّقِ : مِثْلُ الشُّرُوطِ ؛ لِأَوْجُهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِإِلَّا وَنَحْوِهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْأَسْمَاءِ ؛ لَا بِالْكَلَامِ . وَالِاسْتِثْنَاءُ بِحُرُوفِ الْجَزَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَلَامِ . وَقَوْلُهُ : عَلَى أَنَّهُ وَنَحْوَهُ . مُتَعَلِّقٌ بِالْكَلَامِ فَهُوَ بِحُرُوفِ الْجَزَاءِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِحُرُوفِ الِاسْتِثْنَاءِ : إلَّا وَأَخَوَاتُهَا . وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي إلَّا زَيْدًا . الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِأَوْلَادِي . وَقَوْلُهُ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ . الشَّرْطُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ . وَقَفْت . وَهُوَ الْكَلَامُ وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُرَكَّبُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَى أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ . حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ مُعَلِّقٌ لِمَعْنَى الْكَلَامِ وَهُوَ وَقَفْت . وَهَذَا قَاطِعٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ . الثَّانِي . أَنَّ هَذَا بَيَانٌ لِشُرُوطِ الْوَقْفِ الَّتِي يَقِفُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَيْهَا ؛ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا إخْرَاجَ بَعْضِ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ فَهِيَ شُرُوطٌ مَعْنَوِيَّةٌ . الثَّالِثُ : أَنَّ قَوْلَهُ : مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ . جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ جَزَائِيَّةٌ مَجْعُولَةٌ خَبَرَ أَنْ الْمَفْتُوحَةَ وَاسْمُ أَنْ ضَمِيرُ
الشَّأْنِ
وَأَنْ وَمَا فِي خَبَرِهَا فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ . فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ : وَقَفْت عَلَى هَذَا . الرَّابِعُ :
أَنَّ حَرْفَ " عَلَى
" لِلِاسْتِعْلَاءِ . فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ :
وَقَفْت عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ كَذَا . أَوْ بِعْتُك عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي .
كَانَ الْمَعْنَى وَقَفْت وَقْفًا مُسْتَعْلِيًا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَيَكُونُ
الشَّرْطُ أَسَاسًا وَأَصْلًا لِمَا عَلَى عَلَيْهِ وَصَارَ فَوْقَهُ وَالْأَصْلُ
مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْفَرْعِ . وَهَذَا خَاصِّيَّةُ الشَّرْطِ ؛ وَلِهَذَا فَرَّقَ مَنْ
فَرَّقَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ بِأَنَّ الشَّرْطَ مَنْزِلَتُهُ
التَّقَدُّمُ عَلَى الْمَشْرُوطِ فَإِذَا أُخِّرَ لَفْظًا كَانَ كَالْمُتَصَدِّرِ
فِي الْكَلَامِ وَلَوْ تَصَدَّرَ فِي الْكَلَامِ تَعَلَّقَتْ بِهِ جَمِيعُ
الْجُمَلِ فَكَذَلِكَ إذَا تَأَخَّرَ . فَلَوْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي
ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ إنْ كَانُوا
فُقَرَاءَ . كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : عَلَى أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ .
وَأَحَدُ اللَّفْظَيْنِ مُوجِبٌ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ إلَى جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ
فَكَذَلِكَ الْآخَرُ . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ تُوجِبُ أَنَّ الضَّمِيرَ
يَعُودُ إلَى جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ
بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَعَقِّبَ جُمَلًا يَعُودُ إلَى جَمِيعِهَا
وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَعُودُ إلَى الْأَخِيرَةِ مِنْهَا كَمَا اتَّفَقُوا
عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الشَّرْطِ
.
الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ فَاسِدٌ
عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ خُصُوصًا وَعَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِ أَيْضًا :
وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ
أَنْت طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ فَطَلَّقَ حِينَئِذٍ ثَلَاثًا إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا ؛ أَوْ وَاحِدَةً إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا . هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . وَقِيلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَطْلُقُ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثًا كَالْوَاوِ عِنْدَهُمَا ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ وَأَقْوَى الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَطَائِفَةُ مَعَهُ : بَلْ تَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ فَقَطْ . فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا تَنَجَّزَ طَلْقَتَانِ وَتَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ وَاحِدَةٌ . وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا تَنَجَّزَتْ طَلْقَةٌ بَانَتْ بِهَا ؛ فَلَمْ يَصِحَّ إيقَاعُ الْأُخَرَيَتَيْنِ لَا تَنْجِيزًا وَلَا تَعْلِيقًا . قَالُوا : لِأَنَّ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ : أَنْت طَالِقٌ ؛ ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ : أَنْت طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ . وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا : " ثُمَّ " حَرْفُ عَطْفٍ يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَالْوَاوِ ؛ لَكِنْ الْوَاوُ تَقْتَضِي مُطْلَقَ الْجَمْعِ وَالتَّشْرِيكَ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى تَقَدُّمٍ أَوْ تَأَخُّرٍ أَوْ مُقَارَنَةٍ وَثُمَّ تَقْتَضِي التَّشْرِيكَ مَعَ التَّأَخُّرِ . وَافْتِرَاقُهُمَا فِي الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ افْتِرَاقَهُمَا فِي نَفْسِ التَّشْرِيكِ . وَأَمَّا كَوْنُهَا لِلتَّرَاخِي فَعَنْهُ جَوَابَانِ . أَحَدُهُمَا . أَنَّ مُقْتَضَاهَا مُطْلَقُ التَّرْتِيبِ ؛ فَيُعْطَفُ بِهَا الْمُتَعَقِّبُ وَالْمُتَرَاخِي
لَكِنْ لَمَّا كَانَ لِلْمُتَعَقِّبِ حَرْفٌ يَخُصُّهُ - وَهُوَ الْفَاءُ - صَارَتْ " ثُمَّ " عَلَامَةً عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي انْفَرَدَتْ بِهِ وَهُوَ التَّرَاخِي وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ لِمَدْخُولِ بِهَا : أَنْت طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ . أَوْ أَنْت طَالِقٌ فَطَالِقٌ : لَمْ يَكُنْ بَيْنَ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ فَرْقٌ هُنَا . الثَّانِي أَنَّ مَا فِيهَا مِنْ التَّرَاخِي إنَّمَا هُوَ فِي الْمَعْنَى لَا فِي اللَّفْظِ . فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ : جَاءَ زَيْدٌ ثُمَّ عَمْرٌو . فَهَذَا كَلَامٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضِ . لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هُوَ . بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ : عَمْرٌو . فَمَنْ قَالَ : إنَّ قَوْلَهُ : أَنْت طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ . بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ طَالِقٌ . فَقَدْ أَخْطَأَ ؛ وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ : أَنْت طَالِقٌ طَلَاقًا يَتَرَاخَى عَنْهُ طَلَاقٌ آخَرُ . وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ الْجَمِيعِ بِالشَّرْطِ : تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ . فَإِذَا كَانَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهَؤُلَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ : أَنْت طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ . بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : أَنْت طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ . وَقَوْلُهُ . أَنْت طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : أَنْتُنَّ طَوَالِقُ ؛ ثُمَّ أَنْتُنَّ طَوَالِقُ : إنْ دَخَلْتُنَّ الدَّارَ . وَأَنَّ الشَّرْطَ تَعَلَّقَ بِالْجَمِيعِ ؛ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْعَطْفَ بِمَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ يُوجِبُ الصَّرْفَ إلَى مَنْ يَلِيه الشَّرْطُ دُونَ السَّابِقَيْنِ وَهَلَّا قِيلَ هُنَا : إذَا ثَبَتَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ نَصًّا بِاللَّفْظَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يُغَيِّرُهُ : وَجَبَ
تَقْرِيرُ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ ؛ بَلْ مَسْأَلَةُ الطَّلَاقِ أَوْلَى بِقَصْرِ الشَّرْطِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ لِأَنَّ إحْدَى الطَّلْقَتَيْنِ لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْأُخْرَى مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ ؛ بَلْ يُمْكِنُ إيقَاعُهُمَا مَعًا ؛ بِخِلَافِ وَلَدِ الْوَلَدِ ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُوجَدُونَ إلَّا مُتَعَاقِبَيْنِ . فَالْحَاجَةُ هنا دَاعِيَةٌ إلَى التَّرْتِيبِ مَا لَا تَدْعُو إلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ جَوَازَ تَعْقِيبِ الْبَيْعِ وَالْوَقْفِ وَنَحْوِهِمَا بِالشُّرُوطِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؛ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ شريح وَطَائِفَةٍ مَعَهُ - وَهِيَ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ عَنْ أَحْمَد - أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطِ مُتَأَخِّرٍ كَمَا ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ (1) وَغَيْرِهِمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الطَّلَاقِ . فَإِذَا كَانُوا قَدْ أَعَادُوا الشَّرْطَ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ الْمُرَتَّبَةِ بِثُمَّ . فَالْقَوْلُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِهَا أَوْلَى . وَهَذَا الْكَلَامُ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ يَجْتَثُّ قَاعِدَةَ مَنْ نُسِبَ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَا يُخَالِفُ هَذَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ : فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِهِ هُنَا ؟ قُلْنَا : قَدْ أَسْلَفْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى الْجَمِيعِ فِي أُصُولِ الْجَمِيعِ ؛ لِدَلِيلِ دَلَّ عَلَى الرُّجُوعِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الضَّمِيرِ حَقِيقَةً
فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ الْكَلَامِ . ثُمَّ الَّذِي يَقُولُ بِهَذَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الطَّلَاقِ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ الشَّرْطَ فِي الطَّلَاقِ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ (1) وَتِلْكَ الْأَسْمَاءُ الْمَعْطُوفَةُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ هَذَا الْفِعْلِ ؛ وَهِيَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى مَفَاعِيلُ لَهُ ؛ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فِي الْقَسَمِ . فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَفْلَعَن كَذَا وَكَذَا ثُمَّ كَذَا : إنْ شَاءَ اللَّهُ . كَانَ الشَّرْطُ مُتَعَلِّقًا بِالْفِعْلِ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ وَالْمَفَاعِيلُ دَاخِلَةٌ فِي مُسْتَثْنَاهُ . وَتَنَاوُلُ الْفِعْلِ لِمَفَاعِيلِهِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فَإِذَا كَانَ قَدْ قَيَّدَ تَنَاوُلَهُ لَهَا بِقَيْدِ تَقَيَّدَ تَنَاوُلُهُ لِلْجَمِيعِ بِذَلِكَ الْقَيْدِ ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : أَنْت طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ : إنْ شَاءَ زَيْدٌ . فَإِنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ هُنَا اسْمُ الْفَاعِلِ ؛ لَا نَفْسُ الْمُبْتَدَأِ . وَالْخَبَرُ الثَّانِي لَيْسَ بِدَاخِلِ فِي خَبَرِ الْخَبَرِ الْآخَرِ ؛ بَلْ كِلَاهُمَا دَاخِلٌ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ ؛ فَلِهَذَا خَرَجَ هُنَا خِلَافٌ وَهَذَا فَرْقٌ بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّرْطَ فِي الطَّلَاقِ ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ . لَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِجَمِيعِ الْجُمَلِ ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ . فَإِنَّ الضَّمِيرَ يَقْتَضِي الْعَوْدَ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ . الثَّالِثُ : أَنَّ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ فِي الطَّلَاقِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْأُخْرَى ؛ فَإِنَّ
الطَّلْقَةَ تَقَعُ مَعَ وُجُودِ الْأُولَى وَعَدَمِهَا . فَإِذَا عُلِّقَتْ بِالشَّرْطِ لَمْ تَسْتَلْزِمْ تَعْلِيقَ الْأُولَى ؛ لِانْفِصَالِهَا عَنْهَا . وَقَدْ اعْتَقَدُوا أَنَّ " ثُمَّ " بِمَنْزِلَةِ التَّرَاخِي فِي اللَّفْظِ فَيَزُولُ التَّعَلُّقُ اللَّفْظِيُّ وَالْمَعْنَوِيُّ فَتَبْقَى الْجُمْلَةُ الْأُولَى أَجْنَبِيَّةً عَنْ الشَّرْطِ عَلَى قَوْلِهِمْ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ الضَّمِيرِ وَمِنْ جِهَةِ الْوُجُودِ وَمِنْ جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ . فَلَا يَصِحُّ اللَّفْظُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا بَعْدَ الْأُولَى وَلَا وُجُودَ لِمَعْنَاهَا إلَّا بَعْدَ الْأُولَى وَلَا اسْتِحْقَاقَ لَهُمْ إلَّا بَعْدَ الْأُولَى ؛ سَوَاءٌ قُدِّرَ التَّرَاخِي فِي اللَّفْظِ أَوْ لَمْ يُقَدَّرْ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الْأُولَى أَجْنَبِيَّةً عَنْ الثَّانِيَةِ حَتَّى تَعْلَقَ الثَّانِيَةُ وَحْدَهَا بِالشَّرْطِ . وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ أَنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هُوَ فِي الطَّلَاقِ فَقَطْ : أَنَّهُ لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَن زَيْدًا ثُمَّ عَمْرًا ثُمَّ بَكْرًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ - عَادَ اسْتِثْنَاءٌ إلَى الْجَمِيعِ . فَقَوْلُهُ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ . أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ : إنْ شَاءَ اللَّهُ . مِنْ حَيْثُ إنَّ هُنَا تَعَلَّقَ الضَّمِيرُ . الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْعَطْفِ بِالْحَرْفِ الْمُرَتَّبِ وَالْحَرْفِ الْجَامِعِ إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ . ثُمَّ قَالَ : وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الصِّفَةِ . وَالصِّفَةُ إذَا أُطْلِقَتْ فَكَثِيرًا مَا يُرَادُ بِهَا الصِّفَةُ الصِّنَاعِيَّةُ النَّحْوِيَّةُ . وَهُوَ الِاسْمُ التَّابِعُ لِمَا قَبْلَهُ فِي إعْرَابِهِ : مِثْلَ أَنْ تَقُولَ :
وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي . ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ الْعُدُولِ . فَإِنَّ اخْتِصَاصَ الْجُمْلَةِ هُنَا بِالصِّفَةِ الْأَخِيرَةِ قَرِيبٌ . وَمَسْأَلَتُنَا شُرُوطٌ حُكْمِيَّةٌ . وَهِيَ إلَى الشُّرُوطِ اللَّفْظِيَّةِ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى الِاسْتِثْنَاءِ . وَإِنْ سُمِّيَتْ صِفَاتٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ هَذَا أَنَّهُ قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ وَلَا فَاصِلَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجَمِيعِ . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الصِّفَةِ . فَعَلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مُشِيرًا إلَى خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُعِيدُ ذَلِكَ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ . وَهَذَا إنَّمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَالصِّفَاتِ التَّابِعَةِ ؛ لَا يَقُولُهُ فِي الشُّرُوطِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي تَجْرِي مَجْرَى الشُّرُوطِ . فَصَارَ هُنَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ . أَحَدُهَا : الِاسْتِثْنَاءُ بِحَرْفِ " إلَّا " الْمُتَعَقِّبَ جُمَلًا ؛ وَالْخِلَافُ فِيهِ مَشْهُورٌ . الثَّانِي : الِاسْتِثْنَاءُ بِحُرُوفِ الشَّرْطِ ؛ فَالِاسْتِثْنَاءُ هُنَا عَائِدٌ إلَى الْجَمِيعِ . الثَّالِثُ : الصِّفَاتُ التَّابِعَةُ لِلِاسْمِ الْمَوْصُوفِ بِهَا وَمَا أَشْبَهَهَا (1) وَعَطْفُ الْبَيَانِ ؛ فَهَذِهِ تَوَابِعُ مُخَصَّصَةٌ لِلْأَسْمَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ . الرَّابِعُ : الشُّرُوطُ الْمَعْنَوِيَّةُ بِحَرْفِ الْجَرِّ : مِثْلَ قَوْلِهِ : عَلَى أَنَّهُ . أَوْ : تَشْرُطُ أَنْ يَفْعَلَ . أَوْ بِحُرُوفِ الْعَطْفِ : مِثْلَ قَوْلِهِ : وَمِنْ شَرْطِهِ كَذَا
وَنَحْوَ
ذَلِكَ . فَهَذِهِ مِثْلُ الِاسْتِثْنَاءِ بِحُرُوفِ الْجَزَاءِ . وَالضَّابِطُ أَنَّ
كُلَّ مَا كَانَ مِنْ تَمَامِ الِاسْمِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِلَّا
؛ وَكُلَّمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الْكَلَامِ وَهُوَ النِّسْبَةُ الْحُكْمِيَّةُ
الَّتِي بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَبَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ فَهُوَ
فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ بِحَرْفِ الشَّرْطِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ
وَحُرُوفَ الشَّرْطِ الْمُتَأَخِّرَةِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْفِعْلِ
الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ قَوْلُهُ : وَقَفْت . وَهُوَ الْكَلَامُ . وَالْجُمْلَةُ
وَالِاسْتِثْنَاءُ وَالْبَدَلُ وَالصِّفَةُ النَّحْوِيَّةُ وَعَطْفُ الْبَيَانِ
مُتَعَلِّقٌ بِنَفْسِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ مَفَاعِيلُ هَذَا الْفِعْلِ .
وَيَجُوزُ كَلَامُ مَنْ فَرَّقَ عَلَى جُمَلٍ
أَجْنَبِيَّاتٍ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ :
وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ ؛
ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ : عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْطِي مِنْهُمْ إلَّا صَاحِبَ
عِيَالٍ . فَفِي مِثْلِ هَذَا قَدْ يَقْوَى اخْتِصَاصُ الشَّرْطِ بِالْجُمْلَةِ
الْأَخِيرَةِ لِكَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً مِنْ الْجُمْلَةِ الْأُولَى ؛ لَيْسَتْ
مِنْ جِنْسِهَا ؛ بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ وَأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ فَإِنَّهُمْ
مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ . وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ
أَوْ نَحْوِهِمَا مُتَعَيِّنٌ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلِيلِ إرَادَةِ ذَلِكَ
عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ تَخْصِيصٌ لِكَلَامِهِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ
؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قَدْ جَاءَ إلَى كَلَامِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ قَالُوا :
الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ الصِّفَةُ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا مَعْطُوفًا بَعْضُهَا
عَلَى بَعْضٍ عَادَ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ . فَخَصَّ ذَلِكَ بِبَعْضِ حُرُوفِ
الْعَطْفِ لِمَا رَآهُ مِنْ الدَّلِيلِ . فَلَأَنْ نَخُصَّ نَحْنُ كَلَامَهُ بِمَا
ذَكَرْنَاهُ مِنْ نُصُوصِ كَلَامِهِمْ
الْمُوجِبِ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْوَاوِ وَثُمَّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . فَإِنْ سَلِمَ أَنَّ كَلَامَهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِلَّا تَكَلَّمْنَا مَعَهُ بـ الْوَجْهُ التَّاسِعُ : وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ الْمُدَّعَى بَيْنَ الْحَرْفِ الْجَامِعِ جَمْعًا مُطْلَقًا وَالْحَرْفِ الْمُرَتَّبِ فَرْقٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعُرْفِ وَلَا فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَلَا فِي كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ وَلَا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ . وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ عَلَى صِحَّتِهِ فَاسِدٌ . فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا . أَمَّا الْأَوَّلُ ؛ فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا : حُرُوفُ الْعَطْفِ هِيَ الَّتِي تُشْرِكُ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي الْإِعْرَابِ . وَهِيَ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُشْرِكُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى أَيْضًا وَهِيَ : الْوَاوُ وَالْفَاءُ وَثُمَّ . فَأَمَّا الْوَاوُ فَتَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ التَّشْرِيكِ وَالْجَمْعِ ؛ إلَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : إنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ . وَأَمَّا " ثُمَّ " فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ التَّرْتِيبِ . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّهَا لِلتَّرَاخِي . وَأَمَّا الْفَاءُ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نَوْعٍ مِنْ التَّرْتِيبِ وَهُوَ التَّعْقِيبُ . فَهَذِهِ الْحُرُوفُ لَا يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي نَفْسِ اجْتِمَاعِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى وَاشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ ؛ وَإِنَّمَا تَفْتَرِقُ فِي زَمَانِ الِاجْتِمَاعِ . فَلَوْ قِيلَ : إنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِيمَا يَلْحَقُ الْجُمَلَ مِنْ اسْتِثْنَاءٍ وَنَعْتٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْعَطْفُ بِثُمَّ لَا يَقْتَضِي اشْتِرَاكَهُمَا فِي هَذِهِ اللَّوَاحِقِ : لَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا تَكُونَ ثُمَّ
مُشْتَرِكَةٌ حَيْثُ تَكُونُ الْوَاوُ مُشْتَرِكَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ بَلْ هُوَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ . وَالْأَحْكَامُ اللُّغَوِيَّةُ الَّتِي هِيَ دَلَالَاتُ الْأَلْفَاظِ تُسْتَفَادُ مِنْ اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّقْلِ عَنْهُمْ فَإِذَا كَانَ النَّقْلُ وَالِاسْتِعْمَالُ قَدْ اقْتَضَيَا أَنَّهُمَا لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَعْنَى : كَانَ دَعْوَى انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا بِالتَّشْرِيكِ دُونَ الْآخَرِ خُرُوجًا عَنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَعَنْ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ . وَأَمَّا الْعُرْفُ فَقَدْ أَسْلَفْنَا أَنَّ النَّاسَ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ إلَّا عَوْدَ الشَّرْطِ إلَى الْجَمِيعِ وَالْعِلْمُ بِهَذَا مِنْ عُرْفِ النَّاسِ ضَرُورِيٌّ . وَأَمَّا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ فَإِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَعَقِّبِ جُمَلًا فَقَالَ قَوْمٌ : إنَّهُ يَعُودُ إلَى جَمِيعِهَا . وَقَالَ قَوْمٌ : يَعُودُ إلَى الْأَخِيرَةِ مِنْهَا . وَقَالَ قَوْمٌ : إنْ كَانَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ تَعَلُّقٌ عَادَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى جَمِيعِهَا وَإِنْ كَانَتَا أَجْنَبِيَّتَيْنِ عَادَ إلَى الْأَخِيرَةِ . ثُمَّ فَصَلُوا الْجُمَلَ الْمُتَعَلِّقَ بَعْضُهَا بِبَعْضِ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ وَذَكَرُوا عِدَّةَ أَنْوَاعٍ مِنْ التَّفْصِيلِ . وَقَالَ قَوْمٌ : الْعَطْفُ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْجَمِيعِ . وَقَالَ قَوْمٌ : بِالْوَقْفِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ . ثُمَّ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَرَّقَ بَيْنَ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَالْفَاءِ أَوْ ثُمَّ : بَلْ قَوْلُهُمْ الْمَعْطُوفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ يَعُمُّ الْجَمِيعَ . وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ ذَكَرُوا هَذَا فِي " بَابِ الْأَيْمَانِ " و " بَابِ الْوَقْفِ " ثُمَّ بَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ فَقَالُوا : الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ الْوَصْفُ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا عَادَ
إلَى جَمِيعِهَا أَوْ إلَى بَعْضِهَا . وَقَدْ اعْتَرَفَ مَنْ فَصَلَ بِأَنَّ الْأَئِمَّةَ أَطْلَقُوا هَذَا الْكَلَامَ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَصَلَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْأَئِمَّةِ إلَّا مَا قَالُوهُ . وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَن زَيْدًا ثُمَّ عَمْرًا ثُمَّ بَكْرًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ . عَادَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَضْرِبَن هَذَا ثُمَّ هَذَا ثُمَّ هَذَا . أَوْ قَالَ : لَآخُذَن الدِّيَةَ لَأَذْبَحَن الشَّاةَ . لَأَطْبُخَنهَا . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ . وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَ الْعَطْفُ بِمَا يَقْتَضِي تَرْتِيبَهَا فَالصَّرْفُ إلَى جَمِيعِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِ بَعْضُ النَّظَرِ وَالْغُمُوضِ فَإِنَّ انْصِرَافَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الَّذِينَ يَلِيهِمْ الِاسْتِثْنَاءُ مَقْطُوعٌ بِهِ وَانْعِطَافُهُ عَلَى جَمِيعِ السَّابِقِينَ . وَالْعَطْفُ بِالْحَرْفِ الْمُرَتَّبِ مُحْتَمَلٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ . وَإِذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِلَفْظِ الْوَاقِفِ نَصًّا وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يُغَيِّرُهُ : وَجَبَ تَقْرِيرُ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَمْ يَجُزْ تَغْيِيرُهُ لِمُحْتَمَلِ مُتَرَدِّدٍ . فَنَقُولُ : الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ ؛ فَإِنَّ انْعِطَافَهُ عَلَى جَمِيعِ السَّابِقِينَ مُحْتَمَلٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ سَوَاءٌ كَانَ الْعَطْفُ بِحَرْفِ مُرَتَّبٍ أَوْ مُشْتَرِكٍ غَيْرِ مُرَتَّبٍ . وَهَذَا بِعَيْنِهِ دَلِيلُ مَنْ أَوْجَبَ قَصْرَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ .
فَإِنْ قَالَ : قَدْ ثَبَتَ الْعُمُومُ فِي الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِمُحْتَمَلِ مُتَرَدِّدٍ - وَلَيْسَ غَرَضُنَا هُنَا إفْسَادُ هَذَا الدَّلِيلِ - بَلْ نَقُولُ مُوجَبُ هَذَا الدَّلِيلِ اخْتِصَاصُ التَّوَابِعِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ مُطْلَقًا . أَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ عَاطِفٍ وَعَاطِفٍ فَلَيْسَ فِي هَذَا الدَّلِيلِ مَا يَقْتَضِيه أَصْلًا . وَأَيُّ فَرْقٍ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي وَعَلَى الْمَسَاكِينِ إلَّا أَنْ يَكُونُوا فُسَّاقًا نَعَمْ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ رُبَّمَا قَوِيَ عِنْدَهُ اخْتِصَاصُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَهَابَ مُخَالَفَةَ الشَّافِعِيِّ فَغَاظَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الرُّجْحَانِ مَعَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَسْأَلَتَنَا لَيْسَتْ مِنْ مَوَارِدِ الْخِلَافِ ؛ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ الصِّفَةِ الْإِعْرَابِيَّةِ . فَأَمَّا الشَّرْطُ وَالصِّفَةُ الشَّرْطِيَّةُ فَلَا خِلَافَ فِيهِمَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ . وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ سَلَّمَ أَنَّ الْجُمَلَ الْمَعْطُوفَةَ بِالْوَاوِ يَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى جَمِيعِهَا كَانَ ذِكْرُهُ لِهَذَا الدَّلِيلِ مُبْطِلًا لِمَا سَلَّمَهُ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْحُكْمِ مُسْتَلْزِمٌ تَسْلِيمَ بُطْلَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجَمِيعِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : انْصِرَافُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الَّذِينَ يَلِيهِمْ الِاسْتِثْنَاءُ مَقْطُوعٌ بِهِ . فَمَمْنُوعٌ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَقَطْ إذَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ . وَيَجُوزُ لِلْمُتَكَلِّمِ أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ وَيَقْصِدَهُ وَإِنْ
كَانَ
حَالِفًا مَظْلُومًا ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : قَاتِلْ أَهْلَ الْكِتَابِ وَعَادِهِمْ
وَأَبْغِضْهُمْ إلَّا أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ . كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدًا
إلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَقَطْ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { لَا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ
تُقَاةً } وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الظَّاهِرِ عَائِدٌ إلَى الْجُمْلَةِ
الْأُولَى . وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } - إلَى قَوْلِهِ - { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ
أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ } وَلَيْسَ هَذَا
مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلِيه ؛ بَلْ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ . وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ : { لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلَّا
قَلِيلًا } إنَّ { قَلِيلًا } عَائِدٌ إلَى قَوْلِهِ : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ
مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ } { إلَّا قَلِيلًا } وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ إلَى
جُمْلَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ جُمَلٌ أُخْرَى . "
وَالْمُقَدَّمُ فِي الْقُرْآنِ وَالْمُؤَخَّرُ " بَابٌ مِنْ الْعِلْمِ وَقَدْ
صَنَّفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ : مِنْهُمْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ
هَذَا . وَشِبْهُهُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُؤَخَّرًا فِي اللَّفْظِ
مُقَدَّمًا فِي النِّيَّةِ .
ثُمَّ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ
وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِجُمْلَةِ مُعْتَرِضَةٍ
وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا : لَا يُنْكِرُهُ إلَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ اللُّغَةَ وَقَدْ
قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا
بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا
وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } { وَلَا تُؤْمِنُوا
إلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى
أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } فَقَوْلُهُ : { أَنْ يُؤْتَى } مِنْ تَمَامِ
قَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ . أَيْ : كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْتِيَ فَهُوَ مَفْعُولُ
تُؤْمِنُوا وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ : { قُلْ إنَّ الْهُدَى هُدَى
اللَّهِ } وَهِيَ جُمْلَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ ؛ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ
الْكِتَابِ ؛ فَأَيُّمَا أَبْلَغُ الْفَصْلُ بَيْنِ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ أَوْ
بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْدُ
الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْأَخِيرَةِ مَقْطُوعًا بِهِ لَمْ يَجِبْ عَوْدُ
الِاسْتِثْنَاءِ إلَيْهَا ؛ بَلْ رُبَّمَا كَانَ فِي سِيَاقِهِ مَا يَقْتَضِي
أَنَّ عَوْدَهُ إلَى الْأُولَى أَوْكَدُ . وَمَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا الْبَابِ
كَمَا تَقَدَّمَ .
الثَّالِثُ قَوْلُهُ : إذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ
بِلَفْظِ الْوَاقِفِ نَصًّا وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يُغَيِّرُهُ وَجَبَ تَقْرِيرُ
الِاسْتِحْقَاقِ . قُلْنَا أَوَّلًا : مَسْأَلَتُنَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ
؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ لَيْسَ نَصًّا
فِي تَرْتِيبِ الطَّبَقَةِ عَلَى الطَّبَقَةِ ؛ فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِتَرْتِيبِ
الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ ؛ لَكِنْ هَذَا يَجِبُ فِي خُصُوصِ مَسْأَلَتِنَا
مَعَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُدْخِلَهَا تَحْتَ عُمُومِ هَذَا الْكَلَامِ ثُمَّ مَنْ
يَقُولُ مِنْ رَاسٍ : لَا نُسَلِّمُ ثُبُوتَ الِاسْتِحْقَاقِ بِلَفْظِ الْوَاقِفِ
نَصًّا فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي يَعْقُبُهَا اسْتِثْنَاءٌ أَوْ شَرْطٌ ؛
فَإِنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يَكُونُ نَصًّا إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِمَا يُغَيِّرُهُ وَالتَّغْيِيرُ
مُحْتَمَلٌ فَشَرْطُ كَوْنِهِ نَصًّا مَشْكُوكٌ فِيهِ وَمَتَى كَانَ شَرْطُ
الْحُكْمِ مَشْكُوكًا فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ ؛ فَإِنَّهُ لَا نَصَّ مَعَ احْتِمَالِ التَّغْيِيرِ ؛ لَا سِيَّمَا مِثْلَ هَذَا الِاحْتِمَالِ الْقَوِيِّ الَّذِي هُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ رَاجِحٌ . فَإِنْ قَالَ : الْمُقْتَضِي لِدُخُولِهِمْ قَائِمٌ وَالْمَانِعُ مِنْ خُرُوجِهِمْ مَشْكُوكٌ فِيهِ . قُلْت عَلَى قَوْلِ مَنْ يَمْنَعُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ لَا أُسَلِّمُ قِيَامَ الْمُقْتَضِي لِدُخُولِهِمْ فَإِنَّ الْمُقْتَضِيَ لِدُخُولِهِمْ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي لَمْ يُوصَلْ بِهِ مَا يُخْرِجُهُمْ فَلَا أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يُوصِلْ بِهِ مَا يُخْرِجُهُمْ حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ لَا يُخْرِجُهُمْ وَهَذَا الشَّرْطُ مَشْكُوكٌ فِيهِ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَخْصِيصِهَا فَأُسَلِّمُ قِيَامَ الْمُقْتَضِي لَكِنْ شَرْطُ اقْتِضَائِهِ عَدَمُ الْمَانِعِ الْمُعَارِضِ . وَهُنَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مُعَارِضًا فَمَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يَبْقَى صَلَاحُهُ لِلْمُعَارَضَةِ وَإِلَّا لَمْ يَعْمَلْ الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ وَالصَّلَاحُ لِلْمُعَارَضَةِ لَا مَزِيَّةَ فِيهِ . وَهَذَا الْبَحْثُ بِعَيْنِهِ - وَهُوَ بَحْثُ الْقَائِلِينَ بِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ مَعَ الْقَاصِرِينَ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ . ثُمَّ يَقُولُ مِنْ رَاسٍ : إذَا قَالَ مَثَلًا وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ إلَّا الْفُسَّاقَ - الْمُنَازِعُ يَقُولُ : وَلَدِي نَصٌّ فِي أَوْلَادِهِ وَالْفُسَّاقُ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْفُقَرَاءِ . فَنَقُولُ لَهُ : هَذَا مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ ؛ فَإِنَّ الْفُسَّاقَ نَصٌّ فِي جَمِيعِ الْفُسَّاقِ فَإِنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ وَإِذَا كَانَ عَامًّا وَجَبَ شُمُولُهُ لِكُلِّ فَاسِقٍ ؛ فَدَعْوَى اخْتِصَاصِهِ بِفُسَّاقِ الْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَوْلَادِ يَحْتَاجُ إلَى مُخَصَّصٍ .
فَلَيْسَتْ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عُمُومِ الْأَوْلَادِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالتَّخْصِيصِ بِأَوْلَى مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى عُمُومِ الْفُسَّاقِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُخَصَّصِ ؛ بَلْ الرَّاجِحُ إخْرَاجُهُمْ لِأَسْبَابِ . أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ دُخُولِهِمْ فِي الْوَقْفِ وَقَدْ تَعَارَضَ عمومان فِي دُخُولِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ فَيُسَلِّمُ النَّافِي لِدُخُولِهِمْ عَنْ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ . الثَّانِي : أَنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا خُرُوجَهُمْ مِنْ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ فَكَانَ أَحَدُ العمومين الْمَعْطُوفَيْنِ مَخْصُوصًا فَإِلْحَاقُ شَرِيكِهِ فِي التَّخْصِيصِ أَوْلَى مِنْ إدْخَالِ التَّخْصِيصِ عَلَى مَا لَيْسَ بِشَرِيكِهِ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْمَعْطُوفَ وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِذَا وَرَدَ التَّخْصِيصُ عَلَيْهَا ضَعُفَتْ ؛ بِخِلَافِ عُمُومِ الْمُسْتَثْنَى فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ تَخْصِيصٌ . الرَّابِعُ : كَوْنُ الْفِسْقِ مَانِعًا يَقْتَضِي رُجْحَانَهُ عِنْدَ الْوَاقِفِ عَلَى الْمُقْتَضِي لِلْإِعْطَاءِ فَإِذَا تَيَقَّنَّا رُجْحَانَهُ فِي مَوْضِعٍ كَانَ تَرْجِيحُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَوْلَى مِنْ تَرْجِيحِ مَا لَمْ يُعْرَفْ رُجْحَانُهُ بِحَالِ . الْخَامِسُ أَنَّ قَوْلَهُ : نَصَّ الْوَاقِفُ . إنْ عَنَى بِهِ ظَاهِرَ لَفْظِهِ فَعَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ ظَاهِرٌ لَفْظُهُ أَيْضًا عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا . وَإِنْ عَنَى بِهِ النَّصَّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا فَمَعْلُومٌ أَنَّ
كُلَّ لَفْظٍ يَقْبَلُ الِاسْتِثْنَاءَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إمَّا عَدَدًا أَوْ عُمُومًا والعمومات ظَوَاهِرُ لَيْسَتْ نُصُوصًا . السَّادِسُ قَوْلُهُ : لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ بِمُحْتَمَلِ مُتَرَدِّدٍ . نَقُولُ بِمُوجِبِهِ ؛ فَإِنَّ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَنَا إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ لَيْسَ بِمُحْتَمَلِ مُتَرَدِّدٍ بَلْ هُوَ نَصٌّ أَيْضًا بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ غَلَبَتُهُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا } { إلَّا مَنْ تَابَ } وَهُوَ عَائِدٌ إلَى قَوْلِهِ : { يَلْقَ } و { يُضَاعِفُ } { وَيَخْلُدْ } . وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا } وَقَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } { خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا } - إلَى قَوْلِهِ - { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } فَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ قَدْ تَعَقَّبَ عِدَّةَ جُمَلٍ . فَإِنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي يَصِحُّ إخْرَاجُ بَعْضِهِ وَهُوَ الِاسْمُ الْعَامُّ . أَوْ اسْمُ الْعَدَدِ ؛ لَيْسَ مَعْنَاهُ الْجُمْلَةَ الَّتِي هِيَ الْكَلَامُ
الْمُرَكَّبُ مِنْ اسْمَيْنِ أَوْ اسْمٍ وَفِعْلٍ أَوْ اسْمٍ وَحَرْفٍ . وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ قَوْلَهُ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } فِي آيَةِ الْقَذْفِ عَائِدٌ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَؤُمَّن الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أُسُودَ إلَّا بِالتَّقْوَى } . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ بَلْ مَنْ تَأَمَّلَ غَالِبَ الِاسْتِثْنَاءَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي تَعَقَّبَتْ جُمَلًا وَجَدَهَا عَائِدَةً إلَى الْجَمِيعِ . هَذَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ . فَأَمَّا فِي الشُّرُوطِ وَالصِّفَاتِ فَلَا يَكَادُ يُحْصِيهَا إلَّا اللَّهُ . وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ فَالْأَصْلُ إلْحَاقُ الْفَرْدِ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لَهُمَا حَقِيقَةً فَالْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ أَوْ يَكُونُ مَوْضُوعًا لِلْأَقَلِّ فَقَطْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَاقِي مَجَازًا وَالْمَجَازُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ؛ فَكَثْرَتُهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَإِذَا جُعِلَ حَقِيقَةً فِيمَا غَلَبَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ مَجَازًا فِيمَا قَلَّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ : كُنَّا قَدْ عَمِلْنَا بِالْأَصْلِ النَّافِي لِلِاشْتِرَاكِ وَبِالْأَصْلِ النَّافِي لِلْمَجَازِ فِي صُوَرِ التَّفَاوُتِ . وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ مُطْلَقًا .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ نَصٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَقْرِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَوَاضِعِ الْمَنْعِ . وَهَذَا الْبَحْثُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَارِدٌ فِي كُلِّ تَخْصِيصٍ مُتَّصِلٍ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عُمُومِ الْمَخْصُوصِ بِأَوْلَى مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى عُمُومِ الْمُخَصَّصِ ؛ بَلْ هَذَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ عَامٌّ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ ؛ وَلِأَنَّ ذِكْرَ التَّخْصِيصِ عَقِبَ كُلِّ جُمْلَةٍ مُسْتَقْبَحٌ . فَلَوْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ أَوْ لِذَوِي طَبَقَتِهِ ثُمَّ عَلَى وَلَدِ وَلَدِي عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ثُمَّ عَلَى وَلَدِ وَلَدِ وَلَدِي عَلَى هَذَا الشَّرْطِ . لَعُدَّ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي غَيْرُهُ أَفْصَحُ مِنْهُ وَأَحْسَنُ . ثُمَّ يُقَالُ لِمَنْ نَازَعَنَا : وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ عَامَّةَ الْوَاقِفِينَ يَقْصِدُونَ الِاشْتِرَاطَ فِي جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ ؛ وَلَا يُعَبِّرُونَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْمُسْتَغْرَبَةِ ؛ بَلْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا . فَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي تَبْلِيغِ مَا فِي نُفُوسِهِمْ لَمَا اقْتَصَرُوا عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ يَشْهَدُ - وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا - أَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَتِنَا يَقِينِيٌّ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَسَالِكِ الْمَظْنُونِ ؛ لَكِنْ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْيَقِينَ عِنْدَ قَوْمٍ جَهْلًا عِنْدَ آخَرِينَ . وَيُعَدُّ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا تَكَلُّفًا . وَلَوْلَا أَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ إلَى ذَلِكَ بِظَنِّ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ لِمَنْ يُنَازِعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَعَلِّقًا أَوْ أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَمَا أَطَلْنَا هَذِهِ الْإِطَالَةَ .
فَإِنْ قِيلَ : الَّذِي يُرَجِّحُ عَوْدَ الضَّمِيرِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ هُنَا : أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ عُطِفَتْ بِالْوَاوِ وَعُطِفَ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ مُخَالَفَتُهَا لِحُكْمِ الْأُولَى فِي التَّرْتِيبِ ؛ إذْ الْوَقْفُ هَهُنَا مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْبُطُونِ فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى مِنْ الْأَحْكَامِ إلَّا مُسَمَّى الوقفية عَلَى الْجَمِيعِ وَالْكَيْفِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ فَاقْتَضَى ذَلِكَ اسْتِقْلَالُهَا بِنَفْسِهَا وَاخْتِصَاصُهَا بِمَا يَعْقُبُهَا : فَإِنَّهُ إذَا تَخَلَّلَ الْجُمَلَ الْفَصْلُ بِشَرْطِ كُلِّ جُمْلَةٍ أَوْجَبَ ذَلِكَ اخْتِصَاصَ الشَّرْطِ الْأَخِيرِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ حِينَئِذٍ . وَالِاخْتِلَافُ مَوْجُودٌ هَهُنَا . قِيلَ عَنْهُ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَهُ : عَطَفْت بِالْوَاوِ وَعُطِفَ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ . يَقْتَضِي أَنَّهَا هِيَ لَفْظُ النَّسْلِ . فَإِنْ كَانَ لَفْظُ النَّسْلِ وَالْعَقِبِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ فَلَمْ يُعْطَفْ عَلَيْهَا فِي الْمَعْنَى شَيْءٌ . وَإِنْ كَانَا بِمَعْنَيَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ ؛ لَا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا . الثَّانِي قَوْلُهُ : فَاقْتَضَى ذَلِكَ مُخَالَفَتَهَا لِلْأُولَى فِي حُكْمِ التَّرْتِيبِ . قَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُ ذَلِكَ . وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا الْوَقْفَ مُرَتَّبًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ : ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ وَنَسْلِهِ وَعَقِبِهِ . لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ لِلتَّرْتِيبِ بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ التَّرْتِيبِ نَفَيْنَاهُ عِنْدَ الِانْطِلَاقِ .
فَلَمَّا
رَتَّبَ هُنَا فِي كَلَامِهِ الْأَوَّلِ - مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُفَرِّقُ
فِي مِثْلِ هَذَا بَلْ يَكْتَفِي بِمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا - كَانَ إعَادَةُ
الشَّرْطِ تَسْمَحُ ؛ وَلَكِنْ غَرَضُنَا هُنَا تَقْرِيرُ هَذَا .
الثَّالِثُ : لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُوجِبُ
الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ اخْتِلَافَهُمَا فِي
الْحُكْمِ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ ؛ فَإِنَّ غَايَةَ مَا فِي
هَذَا أَنَّهُ جَعَلَ الْبَطْنَ الرَّابِعَ وَمَا بَعْدَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً
كَمَا جُعِلَ فِي الْبَطْنِ الْأَوَّلِ وَلَدُ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ .
وَالْوَلَدُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ طَبَقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَمْ يُرَتِّبْ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ الْأَسْنَانِ . فَقَوْلُهُ . فَاقْتَضَى
ذَلِكَ مُخَالَفَتَهَا لِحُكْمِ الْأُولَى فِي التَّرْتِيبِ . فِيهِ إبْهَامٌ ؛
فَإِنَّهُ إنْ عُنِيَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى
أَفْرَادِهَا مُخَالِفَةٌ لِتِلْكَ الْجُمَلِ : فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ جُمْلَةٌ .
فَإِنَّهَا حَاوِيَةٌ لِأَفْرَادِهَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ لَا عَلَى
سَبِيلِ التَّرْتِيبِ . وَإِنْ عُنِيَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لَمْ
يُرَتِّبْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى لَمْ تَتَرَتَّبْ عَلَى
غَيْرِهَا . وَهَذَا إنَّمَا جَاءَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا آخِرَ الْجُمَلِ
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِفَرْقِ مُؤَثِّرٍ . كَمَا لَمْ يَكُنْ كَوْنُ الْأُولَى غَيْرَ
مُرَتَّبَةٍ فَرْقًا مُؤَثِّرًا . وَإِنْ عُنِيَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ
مُشْتَمِلَةٌ عَلَى طَبَقَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ بِخِلَافِ الْجُمَلِ الْأُولَى
فَذَلِكَ فَرْقٌ لَا يَعُودُ إلَى دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَلَا إلَى الْحُكْمِ
الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ مَعَ أَنَّ الْجُمَلَ الْأُولَى قَدْ يَحْصُلُ
فِيهَا مِنْ التَّفَاوُتِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ
عِشْرِينَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ سَبْعُونَ سَنَةً وَيَكُونُ لِلْأَوَّلِ
أَوْلَادٌ قَبْلَ وُجُودِ إخْوَتِهِ فَيَمُوتُ أَوْلَادُهُ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ قَبْلَ انْقِرَاضِ إخْوَتِهِ . وَرُبَّمَا لَمْ يَكُنْ قَدْ بَقِيَ مِنْ النَّسْلِ وَالْعَقِبِ إلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ فَيَنْقَرِضُونَ . ثُمَّ هَذِهِ فُرُوقٌ عَادَتْ إلَى الْمَوْجُودِ لَا إلَى دَلَالَةِ اللَّفْظِ . الرَّابِعُ قَوْلُهُ : فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى مِنْ الْأَحْكَامِ إلَّا مُسَمَّى الوقفية . قِيلَ : لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ أَصْلًا ؛ بَلْ تَنَاوُلُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى لِأَفْرَادِهَا كَتَنَاوُلِ الثَّانِيَةِ لِأَفْرَادِهَا ؛ لَكِنْ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ أَكْثَرُ فِي الْغَالِبِ . وَهَذَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ . وَقَوْلُهُ : الْكَيْفِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ . مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّ كَيْفِيَّةَ الْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ مِثْلَ كَيْفِيَّةِ الْوَقْفِ عَلَى النَّسْلِ وَالْعَقِبِ : يَشْتَرِكُ هَؤُلَاءِ فِيهِ وَهَؤُلَاءِ فِيهِ . الْخَامِسُ : لَوْ سَلَّمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا خَارِجًا عَنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعَطْفِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ فِي الْكَيْفِيَّةِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } فَإِنَّ ذَوْقَ الْمَيِّتِ يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا ؛ لَكِنْ هَذَا الِاخْتِلَافُ لَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الِاشْتِرَاكِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْعُمُومُ . السَّادِسُ : أَنَّ الْكَيْفِيَّةَ الْمُخْتَلِفَةَ مَدْلُولٌ عَلَيْهَا بِالْعَطْفِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِاسْتِقْلَالَ وَالِاخْتِصَاصَ بِمَا يَعْقُبُهَا كَمَا لَوْ قَالَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَأَوْلَادِ بَنِيَّ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِي : عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ
وَإِنَّمَا
الْفَصْلُ الَّذِي يَقْطَعُ الثَّانِيَةَ عَنْ الْأُولَى أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ
بِشَرْطِ : مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي عَلَى أَنْ يَكُونُوا
فُقَرَاءَ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي عَلَى أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا .
فَإِنَّ الشَّرْطَ الثَّانِيَ مُخْتَصٌّ عَمَّا قَبْلَهُ ؛ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ
قَدْ عُقِّبَ بِشَرْطِهِ . وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ
عَلَيْهِ بِشَرْطِ يَفْصِلُهُ عَنْ مُشَارَكَةِ الثَّانِي فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ
؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ لَفْظِيٍّ .
السَّابِعُ قَوْلُهُ : وَمَا ذَاكَ إلَّا لِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ . قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ ؛ بَلْ إنَّمَا
ذَاكَ لِأَجْلِ الْفُصُولِ اللَّفْظِيَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ فِيمَا
ذُكِرَ مِنْ الْأَحْكَامِ لِلَّفْظِ
. أَمَّا إذَا كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ
وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِمَعْنَى يَرْجِعُ إلَى لَفْظِ الْمَعْطُوفِ : فَهَذَا
شَأْنُ كُلِّ مَعْطُوفٍ وَمَعْطُوفٍ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسَيْنِ . وَفَرْقٌ بَيْنَ
أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِشَرْطِ مَذْكُورٍ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ
مَفْهُومُ لَفْظِ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ غَيْرَ مَفْهُومِ الْأُخْرَى . وَهَذَا
بَيِّنٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هُنَا مُرَجِّحٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ
جَعْلَهُ مُخْتَصٌّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ يُفِيدُ مَا لَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ
عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْعُ اشْتِرَاكِ النَّسْلِ فِي نَصِيبِ مَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ
وَلَدٍ ؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا هَذَا الشَّرْطُ لَاشْتَرَكُوا فِي جَمِيعِ حَقِّهِمْ الْمُتَلَقَّى
عَمَّنْ فَوْقَهُمْ وَعَمَّنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ أَوْ غَيْرِ وَلَدٍ ؛ بِخِلَافِ
مَا إذَا عَادَ إلَى جَمِيعِ
الْجُمَلِ ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُؤَكَّدًا فَقَطْ ؛ فَإِنَّا كُنَّا نَجْعَلُ نَصِيبَ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ لِطَبَقَتِهِ . قِيلَ عَنْهُ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ بَاطِلَةٌ ؛ فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَقُولُ : هَؤُلَاءِ أَعْلَاهُمْ وَأَسْفَلُهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْوَقْفِ فَمَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ اخْتَصَّ بِنَصِيبِهِ إخْوَتُهُ ؛ دُونَ آبَائِهِ وَأَعْمَامِهِ . وَمَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ لَمْ يَخْتَصَّ بِنَصِيبِهِ أَحَدٌ لَا وَلَدُهُ وَلَا غَيْرُهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ وَلَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَسْتَحْضِرُهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ : أَعْطُوا الْبَعِيدَ مِنِّي وَمِنْ الْمَيِّتِ وَاحْرِمُوا الْقَرِيبَ مِنِّي وَمِنْ الْمَيِّتِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : يَقْصِدُ مِثْلَ هَذَا فِي الْعَادَاتِ . فَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا قَصَدَ هَذَا . الثَّانِي : أَنَّا قَدْ مَنَعْنَا كَوْنَ هَذَا مُقْتَضَاهُ التَّشْرِيكُ فَتَبْطُلُ الْفَائِدَةُ . الثَّالِثُ : أَنَّ فِي عَوْدِهِ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ فَوَائِدَ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَدُلُّ بِنُطْقِهِ عَلَى نَقْلِ نَصِيبِ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ وَتَنْبِيهِهِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ النُّطْقِ عَلَى نَقْلِ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى عَنْ وَلَدٍ إلَى وَلَدِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ذَكَرَهُ .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ قَوْلَهُ : عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ - إلَى قَوْلِهِ دَائِمًا مَا تَنَاسَلُوا وَأَبَدًا مَا تَعَاقَبُوا . يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ ذُرِّيَّتِهِ لِلْوَقْفِ فَإِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا ذَوِي طَبَقَتِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ : أَفَادَ الشَّرْطُ إخْرَاجَ الطَّبَقَةِ ؛ فَيَبْقَى الْأَوْلَادُ دَاخِلِينَ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ مَعَ الثَّانِي . فَمَجْمُوعُ قَوْلِهِ : عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِي . مَعَ قَوْلِهِ : عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ يَنْتَقِلُ إلَى إخْوَتِهِ . دَلَّنَا عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ عَنْ وَلَدٍ يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ : أَوْلَادُ أَوْلَادِي وَدَخَلَتْ الطَّبَقَةُ فِي الْعُمُومِ فَلَمَّا خَرَجَتْ الطَّبَقَةُ بِالشَّرْطِ بَقِيَ وَلَدُ الْوَلَدِ . وَهَكَذَا كُلُّ لَفْظٍ عَامٍّ لِنَوْعَيْنِ أُخْرِجَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ . وَهَذِهِ دَلَالَةٌ ثَانِيَةٌ عَلَى انْتِقَالِ نَصِيبِ الْمَيِّتِ عَنْ وَلَدٍ إلَى وَلَدِهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ إلَّا هُمْ وَهِيَ غَيْرُ دَلَالَةِ التَّنْبِيهِ . وَإِنْ شِئْت عَبَّرْت عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ تَقُولَ : نَصِيبُ الْمَيِّتِ إمَّا لِلْأَوْلَادِ أَوْ لِأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ كَمَا دَلَّ عَلَى انْحِصَارِ الْوَقْفِ فِيهِمَا قَوْلُهُ : عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ . فَكَمَا مَنَعَ الْأَوْلَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَيْهِمْ نَصِيبُ الْمَيِّتِ عَنْ وَلَدٍ : تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِلنَّوْعِ الْآخَرِ . يَبْقَى أَنْ يُقَالَ : فَقَدْ يَكُونُ هُنَاكَ مَنْ لَيْسَ مِنْ الطَّبَقَةِ ؛ وَلَا مِنْ الْوَلَدِ . قُلْنَا : إذَا ظَهَرَتْ الْفَائِدَةُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَهِيَ صُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّا لَمْ نَتَكَلَّمْ إلَّا فِي نَصِيبِ الْمَيِّتِ : هَلْ يُصْرَفُ إلَى إخْوَتِهِ أَوْ وَلَدِهِ ؟
أَمَّا لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ عَمٌّ - مَثَلًا - فَنَقُولُ : - حِرْمَانُ طَبَقَةِ الْمَيِّتِ تَنْبِيهٌ عَلَى حِرْمَانِ مَنْ هُمْ أَبْعَدُ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ طَبَقَتَهُ لَمْ يَحْرِمْهُمْ لِبُعْدِهِمْ مِنْ الْوَقْفِ ؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إعْطَاءَ الْوَلَدِ فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ فَعُلِمَ أَنَّهُ حَرَمَهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنْ الْمَيِّتِ . وَهَذَا الْمَعْنَى فِي أَعْمَامِ الْمَيِّتِ أَقْوَى فَيَكُونُونَ بِالْمَنْعِ مَعَ الْوَلَدِ أَحْرَى . الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ ؛ لَا تَرْتِيبَ الْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ كَمَا لَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا حَمَلَ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ عَلَى مَفْهُومَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنَّ فَائِدَتَهُ فِي الْأَوَّلِ بَيَانُ تَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ وَفِي الثَّانِي بَيَانُ اخْتِصَاصِ الطَّبَقَةِ بِنَصِيبِ الْمُتَوَفَّى . فَمَنْ مَنَعَ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ حَقِيقَتَانِ . أَوْ مَجَازَانِ أَوْ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ : يُمْنَعُ مِنْهُ . وَمَنْ جَوَّزَهُ . قُلْنَا : عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ : إذَا ثَبَتَ أَمْرٌ بِلَفْظِ الْوَاقِفِ نَصًّا لَمْ يَجُزْ تَغْيِيرُهُ بِمُحْتَمَلِ مُتَرَدِّدٍ . قِيلَ هَذَا السُّؤَالُ ضَعِيفٌ جِدًّا لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَوْرِدَهُ جَعَلَهُ مُقَرِّرًا لِوَجْهِ ثَانٍ فِي بَيَانِ عَوْدِ الضَّمِيرِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ ؛ غَيْرُ مَا ذَكَرَ أَوَّلًا مِنْ عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ . ثُمَّ إنَّهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ - عَلَى قَوْلِ الْمُجَوِّزِينَ لِأَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ مَعْنَيَاهُ - اعْتَمَدَ عَلَى ذَلِكَ الْجَوَابِ فَمَا صَارَ وَجْهًا آخَرَ .
الثَّانِي
: أَنَّا نَقُولُ : هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ أَفَادَ فِي الطَّبَقَةِ
الْأَخِيرَةِ عَدَدَ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ إلَى ذَوِي
طَبَقَتِهِ . وَالْمُتَوَفَّى عَنْ وَلَدٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الطَّبَقَةِ .
وَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ تَقَدَّمَا .
الثَّالِثُ : لَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا
مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ إنَّمَا هُوَ
مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَذَلِكَ
مَعْدُودٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ . وَذَلِكَ أَنَّ فَائِدَةَ
اللَّفْظِ بِمَنْطُوقِهِ نَقْلُ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ إلَى
طَبَقَتِهِ . وَهَذِهِ فَائِدَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ فِي جَمِيعِ الْجُمَلِ . ثُمَّ
إنَّ تَقَيُّدَ الِانْتِقَالِ إلَى الطَّبَقَةِ بِوُجُودِ الْوَلَدِ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّهُ عَنَى تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ . وَهَذِهِ دَلَالَةٌ لُزُومِيَّةٌ .
وَاللَّفْظُ إذَا دَلَّ بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى مَعْنًى وَبِالِالْتِزَامِ عَلَى
مَعْنًى آخَرَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ الْقِسْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ كَعَامَّةِ
الْأَلْفَاظِ فَإِنَّ كَوْنَهُ دَلِيلًا عَلَى تَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ إنَّمَا
جَاءَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ شُرِطَ فِي اسْتِحْقَاقِ الطَّبَقَةِ نَصِيبَ
الْمُتَوَفَّى عَدَمُ وَلَدِهِ . ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ
تَرْتِيبَ الْمَجْمُوعِ لَمْ يَشْرُطْهُ بِهَذَا الشَّرْطِ ؛ فَإِنَّ تَرْتِيبَ
الْمَجْمُوعِ وَاشْتِرَاطَ هَذَا الشَّرْطِ مُتَنَافِيَانِ وَكَوْنَ هَذَيْنِ
الْمَعْنَيَيْنِ يَتَنَافَيَانِ قَضِيَّةً عَقْلِيَّةً فُهِمَتْ بَعْدَ تَصَوُّرِ
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ دَلَّ
عَلَيْهِمَا بِالْوَضْعِ . وَهَذَا كَمَا فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ { وَحَمْلُهُ
وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا }
مَعَ قَوْله تَعَالَى { يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ . وَنَظَائِرُهُ
كَثِيرَةٌ .
الرَّابِعُ : لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا مِنْ " بَابِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنَيَيْهِ " فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْعَ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ ؛ بَلْ لَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَة مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ . وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَعَامَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ جَوَازُ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ هُوَ صِحَّتَهُ وَيُنَاظِرُ عَلَيْهِ . الْخَامِسُ : أَنَّ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ أَنَّ النَّصَّ لَا يُدْفَعُ بِمُحْتَمَلِ . تَقَدَّمَ جَوَابُهُ وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا نَصَّ هُنَا ؛ بَلْ يُدْفَعُ الْمُحْتَمَلُ بِالنَّصِّ . وَذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ : أَنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا الشَّرْطِ نَفْيَ انْقِطَاعِ الْوَقْفِ وَنَفْيَ اشْتِرَاكِ جَمِيعِ أَهْلِ الْوَقْفِ فِي نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ عَنْ : وَلَدِهِ . تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ . فَإِنْ قِيلَ : عَوْدُهُ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ يُوجِبُ انْقِطَاعَ الْوَقْفِ فِي الْوَسَطِ فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا يَنْفِي الِانْقِطَاعَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ لَا يَصْرِفُ نَصِيبَهُ إلَى الطَّبَقَةِ عَمَلًا بِمُوجَبِ الشَّرْطِ وَلَا إلَى الْوَلَدِ عَمَلًا بِمُوجَبِ التَّرْتِيبِ الْمُطْلَقِ . فَإِنْ قُلْتُمْ : إذَا جَعَلْنَاهُ مَبْنِيًّا لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلِانْقِطَاعِ
فَنُجِيبُ عَنْهُ بِالْبَحْثِ الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الطَّبَقَةِ مُسْتَحَقٌّ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ فَلَا يُتْرَكُ بِمُتَرَدِّدِ مُحْتَمَلٍ . قِيلَ : أَوَّلًا هَذَا الْوَجْهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَذَا الْبَحْثِ وَهُوَ إنَّمَا ذَكَرَ لِيَكُونَ مُؤَيِّدًا لَهُ وَالْمُؤَيِّدُ لِلشَّيْءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ وَلَا يَكُونُ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ . فَإِذَا كَانَ الْوَجْهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ الْبَحْثِ كَانَتْ صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى صِحَّتِهِ وَالْفَرْعُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ أَصْلِهِ وَلَا يُكْسِبُهُ قُوَّةً ؛ بَلْ يَكُونُ تَقْوِيَةُ ذَلِكَ الْوَجْهِ بِهِ تَقْوِيَةَ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ . وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْمُصَادَرَةِ . وَإِذَا كَانَ هَذَا مَبْنِيًّا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ فِيمَا مَضَى : فَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا . ثُمَّ نَقُولُ : الِانْتِفَاعُ يَنْتَفِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْوَقْفَ مَحْصُورٌ فِي الْأَوْلَادِ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ . فَإِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ عَنْ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ إمَّا لِإِخْوَتِهِ أَوْ لِبَنِيهِمْ أَوْ لِبَنِيهِ أَوْ لِعُمُومَتِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي انْحِصَارَ الْوَقْفِ فِي الْأَوْلَادِ ثُمَّ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ . وَهُمْ إمَّا ذُو طَبَقَتِهِ أَوْ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ : عُمُومَتُهُ وَنَحْوُهُمْ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مَعَ وُجُودِ أَبِيهِ وَمَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ : وَلَدُهُ وَوَلَدُ إخْوَتِهِ وَطَبَقَتُهُمْ . فَأَمَّا طَبَقَتُهُ فَانْتَفَوْا بِالْقَيْدِ الْمَذْكُورِ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ . وَأَمَّا بَنُوهُمْ فَانْتَفَوْا لِثَلَاثَةِ
أَسْبَابٍ أَحَدُهَا : بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ ؛ فَإِنَّ أَبَاهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ وَإِلَى الْوَاقِفِ . فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ إلَى الْأَقْرَبِ فَإِلَى الْأَبْعَدِ أَوْلَى . وَالثَّانِي : أَنَّهُ سَوَاءٌ عَنَى بِالتَّرْتِيبِ تَرْتِيبَ الْمَجْمُوعِ أَوْ تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ لَا يَسْتَحِقُّونَ فِي هَذِهِ الْحَالِ ؛ فَإِنَّ الطَّبَقَةَ الْعُلْيَا لَمْ تَنْقَرِضْ وَآبَاؤُهُمْ لَمْ يَمُوتُوا . الثَّالِثُ أَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِمْ مَا هُمْ أَصْلٌ فِيهِ فَلَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِمْ مَا هُمْ فُرُوعٌ فِيهِ . وَأَمَّا الْعُمُومَةُ فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَيِّتُ شَيْئًا مَعَ وُجُودِ عُمُومَتِهِ إلَّا عَلَى قَوْلِنَا فَفَرْضُ هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى رَأْيِ الْمُنَازِعِ مُحَالٌ . وَإِذَا كَانَ وُجُودُ الْعُمُومَةِ مُسْتَلْزِمًا لِصِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ : فَمُحَالٌ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ مَا يُفْسِدُهُ ؛ فَإِنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الشَّيْءِ وَفَسَادَهُ ؛ لَكِنْ يُقَالُ : قَدْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوَّلًا لَمْ يُخَلِّفْ إلَّا إخْوَةً وَوَلَدًا ثُمَّ مَاتَ وَلَدُهُ عَنْ وَلَدٍ وَأَعْمَامِهِ . فَنَقُولُ : حِرْمَانُ الْإِخْوَةِ مَعَ الْوَلَدِ تَنْبِيهٌ عَلَى حِرْمَانِ الْعُمُومَةِ . وَهَذَا حَقِيقَةُ الْجَوَابِ : أَنَّ نَفْيَ إخْوَتِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى نَفْيِ عُمُومَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ . الْوَجْهُ الثَّانِي : - النَّافِي لِلِانْقِطَاعِ - أَنَّ إعْطَاءَ الْإِخْوَةِ نَصِيبَ الْمَيِّتِ دُونَ سَائِرِ أَهْلِ الْوَقْفِ تَنْبِيهٌ عَلَى إعْطَاءِ الْوَلَدِ كَمَا تَقَدَّمَ .
الثَّالِثُ
: أَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ الْمُتَقَدِّمَ :
تَرْتِيبُ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ . وَقَدْ قَدَّمْنَا تَقْرِيرَ هَذَا . وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ يُوَفِّقُنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ
وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ وَقْفٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ : عَمْرٍو
وَيَاقُوتَةَ وَجَهْمَةَ وَعَائِشَةَ : يَجْرِي عَلَيْهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ . فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ
أَوْ عَنْ نَسْلٍ وَعَقِبٍ وَإِنْ سَفَلَ : عَادَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ
مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ عَلَى وَلَدِ وَلَدِهِ ثُمَّ عَلَى نَسْلِهِ
وَعَقِبِهِ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ وَإِنْ سَفَلَ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ . وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ
وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ عَادَ نَصِيبُهُ وَقْفًا عَلَى إخْوَتِهِ
الْبَاقِينَ ثُمَّ عَلَى أَنْسَالِهِمْ وَأَعْقَابِهِمْ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى الشَّرْطِ وَالتَّرْتِيبِ الْمُقَدَّمِ
ذِكْرُهُمَا . فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لِهَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِمْ نَسْلٌ وَلَا عَقِبٌ أَوْ تُوُفُّوا بِأَجْمَعِهِمْ وَلَمْ يُعَقِّبُوا
وَلَا وَاحِدَ مِنْهُمْ عَادَ ذَلِكَ وَقْفًا عَلَى الْأَسَارَى ثُمَّ عَلَى
الْفُقَرَاءِ . ثُمَّ تُوُفِّيَ عُمَرُ عَنْ فَاطِمَةَ وَتُوُفِّيَتْ
فَاطِمَةُ عَنْ عيناشي ابْنَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي يَعْلَى ثُمَّ تُوُفِّيَتْ
عيناشي عَنْ غَيْرِ نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ
ذُرِّيَّةِ
هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا بِنْتُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي يَعْلَى وَكِلَاهُمَا
مِنْ ذُرِّيَّةِ جَهْمَةَ . فَهَاتَانِ الْجِهَتَانِ اللَّتَانِ تَلِيهِمَا عيناشي
بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهَا هَلْ يَنْتَقِلُ إلَى أُخْتِهَا رُقَيَّةَ ؟ أَوْ إلَيْهَا
أَوْ إلَى ابْنَةِ عَمِّهَا صَفِيَّةَ ؟
فَأَجَابَ
:
هَذَا النَّصِيبُ الَّذِي كَانَ لعيناشي مِنْ أُمِّهَا
يَنْتَقِلُ إلَى ابْنَتَيْ الْعَمِّ الْمَذْكُورَتَيْنِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ
تُخَصَّ بِهِ أُخْتُهَا لِأَبِيهَا لِأَنَّ الْوَاقِفَ ذَكَرَ : أَنَّ مَنْ
تُوُفِّيَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ
وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ عَادَ نَصِيبُهُ وَقْفًا عَلَى
إخْوَتِهِ ثُمَّ عَلَى أَنْسَالِهِمْ وَأَعْقَابِهِمْ عَلَى الشَّرْطِ
وَالتَّرْتِيبِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمَا . وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَعُمُّ مَنْ
انْقَطَعَ نَسْلُهُ أَوَّلًا وَآخِرًا
. فَكُلُّ مَنْ انْقَطَعَ نَسْلُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ
الْإِخْوَةِ كَانَ نَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ ثُمَّ لِأَوْلَادِهِمْ ؛ لِأَنَّ
الْوَاقِفَ لَوْ لَمْ يُرِدْ هَذَا لَكَانَ قَدْ سَكَتَ عَنْ بَيَانِ حُكْمِ مَنْ
أَعْقَبَ أَوَّلًا ثُمَّ انْقَطَعَ عَقِبُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَصْرِفَ نَصِيبِهِ
. وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَقَلَ الْوَقْفَ إلَى الْأَسْرَى
وَالْفُقَرَاءِ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ وَلَا لِمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ نَسْلٌ وَلَا
عَقِبٌ . فَمَتَى أَعْقَبُوا - وَلَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ - لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْأَسْرَى
شَيْءٌ وَلَا إلَى الْفُقَرَاءِ . وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَنْتَقِلَ نَصِيبُ مَنْ
انْقَطَعَ نَسْلُهُ مِنْهُمْ إلَى الْإِخْوَةِ الْبَاقِينَ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَسَّمَ حَالَ الْمُتَوَفَّى مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِمْ إلَى حَالَيْنِ ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ نَسْلٌ وَعَقِبٌ
أَوْ لَا يَكُونْ . فَإِنْ كَانَ لَهُ
انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى الْوَلَدِ ثُمَّ إلَى وَلَدِ الْوَلَدِ ثُمَّ إلَى النَّسْلِ وَالْعَقِبِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ انْتَقَلَ إلَى الْإِخْوَةِ ثُمَّ إلَى أَوْلَادِهِمْ . فَيَنْبَغِي أَنْ يَعُمَّ هَذَا الْقِسْمَ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لِيَعُمَّ الْبَيَانُ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ الْإِهْمَالُ وَالْإِلْغَاءُ وَإِبْطَالُ الْوَقْفِ عَلَى قَوْلٍ . وَدَلَالَةُ الْحَالِ تَنْفِي هَذَا الِاحْتِمَالَ . وَإِذَا عَمَّ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ دَخَلَ فِيهِ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَمَنْ لَا وَلَدَ لِوَلَدِهِ وَمَنْ لَا عَقِبَ لَهُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيُّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقِبٌ كَانَ نَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ ثُمَّ لِعَقِبِهِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَاقِفَ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ عَقِبٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى إخْوَتِهِ ثُمَّ إلَى أَوْلَادِهِمْ . وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ أَنْ لَا يُخَلِّفَ وَلَدًا أَوْ يُخَلِّفَ وَلَدًا ثُمَّ يُخَلِّفَ وَلَدُهُ وَلَدًا ؛ فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَقْصِدُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ قَدْ عُلِمَ بِمُطَّرِدِ الْعَادَةِ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَقْصِدُهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَيْهِ ؛ بَلْ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْحَالِ وَالْعُرْفُ الْمُطَّرِدُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ . وَإِذَا كَانَ انْقِطَاعُ النَّسْلِ أَوَّلًا وَآخِرًا سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِانْتِقَالِ إلَى الْإِخْوَةِ وَجَبَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ . وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْوَاقِفَ إنَّمَا قَصَدَ هَذَا بِدَلَالَةِ الْحَالِ
وَاللَّفْظُ سَائِغٌ لَهُ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ وَجْهٌ مُمْكِنٌ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ . فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ قَطْعًا . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَقْفَ يُرَادُ لِلتَّأْيِيدِ فَيَجِبُ بَيَانُ حَالِ الْمُتَوَفَّى فِي جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ : وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ : وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَيِّتًا وَلَا عَقِبَ لَهُ . لِأَنَّ عَدَمَ نَسْلِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِمْ مَعْدُومِينَ حَالَ مَوْتِهِ فَلَا فَرْقَ فِي قَوْلِهِ هَذَا وَقَوْلِهِ : وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَلَا وَلَدَ لَهُ . وَقَوْلُهُ : وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ . وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا إلَّا عَدَمُ الذُّرِّيَّةِ حِينَ الْمَوْتِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ؛ لَكِنَّ اللَّفْظَ سَائِغٌ ؛ لِعَدَمِ الذُّرِّيَّةِ مُطْلَقًا ؛ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ قَالَ : قَدْ أَرَدْت هَذَا لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ حَدِّ الْإِفْهَامِ . وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ سَائِغًا لَهُ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ صُورَةَ الْحَادِثَةِ إلَّا هَذَا اللَّفْظُ : وَجَبَ إدْرَاجُهَا تَحْتَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ إذَا دَارَ بَيْنَ صُورَةٍ يَحْكُمُ فِيهَا بِمَا يَصْلُحُ لَهُ لَفْظُ الْوَاقِفِ وَدَلَالَةُ حَالِهِ وَعُرْفُ النَّاسِ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الْوَاجِبَ بِلَا تَرَدُّدٍ . إذَا تَقَرَّرَ هَذَا : فَعَمُّ جَدِّ عيناشي هُوَ الْآنَ مُتَوَفَّى عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ فَيَكُونُ نَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنْسَالِهِمْ وَأَعْقَابِهِمْ . وَالْحَالُ الَّتِي انْقَطَعَ فِيهَا نَسْلُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إلَّا هَاتَانِ الْمَرْأَتَانِ فَيَجِبُ أَنْ تَسْتَوِيَا فِي نَصِيبِ عيناشي . وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ انْقَطَعَ نَسْلُهُ ؛ فَإِنَّ نَصِيبَهُ يَنْتَقِلُ إلَى ذُرِّيَّةِ إخْوَتِهِ ؛ إلَّا أَنْ
يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَبِيهِمْ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ الْوَقْفُ مِنْهُ أَوْ مِنْ ذُرِّيَّةِ أُمِّهِ الَّتِي انْتَقَلَ إلَيْهِ الْوَقْفُ مِنْهَا : فَيَكُونُ بَاقِي الذُّرِّيَّةِ هُمْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِنَصِيبِ أُمِّهِمْ أَوْ أَبِيهِمْ لِدُخُولِهِمْ فِي قَوْلِهِ : فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ إنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا كَانَ نَصِيبُ هَذَا وَقْفًا مُنْقَطِعَ الِانْتِهَاءِ لِأَنَّهُ قَالَ : فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ ثُمَّ لِوَلَدِ وَلَدِهِ ثُمَّ لِنَسْلِهِ وَعَقِبِهِ . وَلَمْ يُبَيِّنْ بَعْدَ انْقِرَاضِ النَّسْلِ إلَى مَنْ يَصِيرُ ؛ لَكِنْ بَيَّنَ فِي آخِرِ الشَّرْطِ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْأَسْرَى وَالْفُقَرَاءِ حَتَّى تَنْقَرِضَ ذُرِّيَّةُ الْأَرْبَعَةِ فَيَكُونُ مَفْهُومُ هَذَا الْكَلَامِ صَرْفُهُ إلَى الذُّرِّيَّةِ . وَهَاتَانِ مِنْ الذُّرِّيَّةِ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُهُمَا : فَيَجِبُ أَنْ يَشْتَرِكَا فِيهِ . وَلَيْسَ بَعْدَ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ . عَائِدًا إلَى الْأَرْبَعَةِ وَذُرِّيَّتِهِمْ . فَيُقَالُ حِينَئِذٍ : عيناشي قَدْ تُوُفِّيَتْ عَنْ أُخْتٍ مِنْ أَبِيهَا وَابْنَةِ عَمٍّ : فَيَكُونُ نَصِيبُهُ لِأُخْتِهَا . وَهَذَا الْحَمْلُ بَاطِلٌ قَطْعًا لَا يُنَفَّذُ حُكْمُ حَاكِمٍ إنْ حَكَمَ بِمُوجِبِهِ ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ : فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ . عَائِدٌ إلَى الْأَرْبَعَةِ . فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ . عَائِدٌ ثَانِيًا إلَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ : هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ كَذَا فَافْعَلْ بِهِ كَذَا وَكَذَا وَمَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ كَذَا فَافْعَلْ لِوَلَدِهِ كَذَا : عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الضَّمِيرَ الثَّانِيَ هُوَ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ . وَلِأَنَّهُ قَالَ : وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ عَادَ نَصِيبُهُ
إلَى
إخْوَتِهِ الْبَاقِينَ . وَهَذَا لَا يُقَالُ إلَّا فِيمَنْ لَهُ إخْوَةٌ تَبْقَى بَعْدَ
مَوْتِهِ وَإِنَّا نَعْلَمُ هَذَا فِي هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ
مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ إخْوَةٌ بَاقُونَ فَلَوْ أُرِيدَ
بِذَلِكَ الْمَعْنَى لَقِيلَ : عَلَى إخْوَتِهِ إنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ . أَوْ قِيلَ : وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ
عَنْ إخْوَةٍ . كَمَا قِيلَ فِي الْوَلَدِ : وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ
. وَأَيْضًا فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ
الْوَقْفِ عَنْ إخْوَةٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي
الْإِخْوَةِ الَّذِينَ شَرِكُوهُ فِي نَصِيبِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ ؛ لَا فِي الْإِخْوَةِ
الَّذِينَ هُمْ أَجَانِبُ عَنْ النَّصِيبِ الَّذِي خَلَقَهُ - عَلَى مَا هُوَ
مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ عَلَى الْمَذَاهِبِ
الْمَشْهُورَةِ - وَهَذَا النَّصِيبُ إنَّمَا تَلَقَّتْهُ عيناشي مِنْ أُمِّهَا .
وَأُخْتُهَا رُقَيَّةُ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ أُمِّهَا ؛ لِأَنَّهَا أُخْتُهَا مِنْ
أَبِيهَا فَقَطْ . فَنِسْبَةُ أُخْتِهَا لِأَبِيهَا وَابْنَةُ عَمِّهَا إلَى
نَصِيبِ الْأُمِّ سَوَاءٌ . وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ وَاقِفٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى وَلَدَيْهِ : عَمَرَ
وَعَبْدِ اللَّهِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ نِصْفَيْنِ : أَيَّامَ حَيَاتِهِمَا
أَبَدًا مَا عَاشَا دَائِمًا مَا بَقِيَا ثُمَّ كُلِّ أَوْلَادِهِمَا مِنْ
بَعْدِهِمَا وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمَا وَنَسْلِهِمَا وَعَقِبِهِمَا أَبَدًا مَا
تَنَاسَلُوا
بَطْنًا
بَعْدَ بَطْنٍ . فَتُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ وَخَلَّفَ أَوْلَادًا فَرَفَعَ
عَمَرَ وَلَدَ عَبْدِ اللَّهِ إلَى حَاكِمٍ يَرَى الْحُكْمَ بِالتَّرْتِيبِ
وَسَأَلَهُ رَفْعَ يَدِ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْوَقْفِ وَتَسْلِيمَهُ
إلَيْهِ فَرَفَعَ يَدَ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ وَسَلَّمَهُ إلَى عَمَرَ بِحُكْمِ
أَنَّهُ مِنْ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ جَارِيًا فِي
جَمِيعِ الْبُطُونِ أَمْ لَا ؟ ثُمَّ إنَّ عَمَرَ تُوُفِّيَ وَخَلَّفَ أَوْلَادًا
فَوَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْوَقْفِ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَطَلَبَ وَلَدُ
عَبْدِ اللَّهِ مِنْ حَاكِمٍ يَرَى الْحُكْمَ بِالتَّشْرِيكِ بَيْنَهُمْ فِي
الْوَقْفِ تَشْرِيكَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ جَمَعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ
وَالنَّسْلِ وَالْعَقِبِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ عَبْدِ اللَّهِ وَعُمَرَ
بِالْوَاوِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ ؛ دُونَ التَّرْتِيبِ . وَأَنَّ
قَوْلَهُ : بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فَهَلْ الْحُكْمُ
لَهُمْ بِالْمُشَارَكَةِ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ حُكْمُ الْأَوَّلِ لِعُمَرِ
مُتَقَدِّمٌ عَلَى وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ مُنَاقِضًا لِلْحُكْمِ بِالتَّشْرِيكِ
بَيْنَ أَوْلَادِ عَمَرَ وَأَوْلَادِ عَبْدِ اللَّهِ ؟ وَهَلْ لِحَاكِمِ ثَالِثٍ
أَنْ يُبْطِلَ هَذَا الْحُكْمَ وَالتَّنْفِيذَ ؟
فَأَجَابَ
:
مُجَرَّدُ الْحُكْمِ لِأَحَدِ الْأَخَوَيْنِ
الْأَوَّلَيْنِ بِجَمِيعِ الْوَقْفِ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ الْمُتَوَفَّى لَا
يَكُونُ جَارِيًا فِي جَمِيعِ الْبُطُونِ وَلَا يَكُونُ حُكْمًا لِأَوْلَادِهِ
بِمَا حُكِمَ لَهُ بِهِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمَا . هَلْ
هُوَ لِتَرْتِيبِ الْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ أَوْ لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ
عَلَى الْأَفْرَادِ بِحَيْثُ يَنْتَقِلُ نَصِيبُ كُلِّ مَيِّتٍ إلَى وَلَدِهِ ؟
فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : وَأَوْلَادُهُمَا مِنْ
بَعْدِهِمَا بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ .
هَلْ هُوَ لِلتَّرْتِيبِ أَوْ لِلتَّشْرِيكِ ؟ فِيهِ
قَوْلَانِ . فَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِاسْتِحْقَاقِ عَمَرَ الْجَمِيعَ بَعْدَ
مَوْتِ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ هَذَا لِاعْتِقَادِهِ
لِتَرْتِيبِ
الْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ . فَإِذَا مَاتَ عَمَرَ فَقَدْ يَرَى ذَلِكَ الْحَاكِمُ
التَّرْتِيبَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى فَقَطْ كَمَا قَدْ يُشْعِرُ بِهِ ظَاهِرُ
اللَّفْظِ . وَقَدْ يَكُونُ يَرَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي جَمِيعِ الْبُطُونِ ؛
لَكِنْ تَرْتِيبُ الْجَمِيعِ عَلَى الْجَمِيعِ وَيَشْتَرِكُ كُلُّ طَبَقَةٍ مِنْ
الطَّبَقَتَيْنِ فِي الْوَقْفِ دُونَ مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهَا . وَقَدْ يَرَى غَيْرُهُ وَأَنَّهُ
بَعْدَ ذَلِكَ لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ فَإِذَا حَكَمَ
حَاكِمٌ ثَانٍ فِيمَا لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ الْأَوَّلَ بِمَا لَا يُنَاقِضُ
حُكْمَهُ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا لِحُكْمِهِ فَلَا يَنْقُضُ هَذَا الثَّانِي إلَّا
بِمُخَالَفَةِ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَمَّنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى ابْنِ ابْنِهِ فُلَانٍ
ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ : وَاحِدًا كَانَ أَمْ أَكْثَرَ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ
أَوْلَادِهِ ثُمَّ نَسَلِهِ وَعَقِبِهِ . فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ
أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ أَوْ عَنْ نَسْلٍ وَعَقِبٍ عَادَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ
مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ مَعَهُ فِي دَرَجَتِهِ . فَتُوُفِّيَ الْأَوَّلُ عَنْ
أَوْلَادٍ تُوَفِّيَ أَحَدُهُمْ فِي حَيَاتِهِ عَنْ أَوْلَادٍ ثُمَّ مَاتَ
الْأَوَّلُ وَخَلَّفَ بِنْتَه وَوَلَدَيْ ابْنِهِ . فَهَلْ تَأْخُذُ الْبِنْتُ
الْجَمِيعَ ؟ أَوْ يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدَيْ الِابْنِ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ
أَبُوهُمَا لَوْ كَانَ حَيًّا ؟
فَأَجَابَ
:
بَلْ النَّصِيبُ الَّذِي كَانَ يَسْتَحِقُّهُ مُحَمَّدٌ
الْمَيِّتُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ لَوْ عَاشَ يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدَيْهِ دُونَ
أُخْتِهِ ؛ فَإِنَّ الْوَاقِفَ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ قَوْلَهُ : عَلَى
أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ لَا تَرْتِيبَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِمَا بَيَّنَهُ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَالْحُقُوقُ الْمُرَتَّبُ أَهْلُهَا شَرْعًا أَوْ شَرْطًا إنَّمَا يُشْتَرَطُ انْتِقَالُهَا إلَى الطَّبَقَةِ الثَّانِيَة عِنْدَ عَدَمِ الْأُولَى أَوْ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِهَا ؛ لِاسْتِحْقَاقِ الْأُولَى أَوَّلًا كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَصَبِ بِالْمِيرَاثِ أَوْ النِّكَاحِ : الِابْنُ ثُمَّ ابْنِهِ ثُمَّ الْأَبُ ثُمَّ أَبُوهُ . فَاسْتِحْقَاقُ ابْنِ الِابْنِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ أَبِيهِ ؛ لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ - لِمَانِعِ يَقُومُ بِهِ مَنْ كَفَرَ وَغَيْرُهُ - لَا يُشْتَرَطُ أَنَّ أَبَاهُ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِ كَذَلِكَ فِي الْأُمِّ : النِّكَاحُ وَالْحَضَانَةُ وَوِلَايَةُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ . وَإِنَّمَا يَتَوَهَّمُ مَنْ يَتَوَهَّمُ اشْتِرَاطَ اسْتِحْقَاقِ الطَّبَقَةِ الْأُولَى ؛ لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ الْوَقْفَ يَنْتَقِلُ مِنْ الْأُولَى إلَيْهَا وَتَتَلَقَّاهُ الثَّانِيَة عَنْ الْأُولَى ؛ كَالْمِيرَاثِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ هِيَ تَتَلَقَّى الْوَقْفَ عَنْ الْوَاقِفِ كَمَا تَلَقَّتْهُ الْأُولَى وَكَمَا تَتَلَقَّى الْأَقَارِبُ حُقُوقَهُمْ عَنْ الشَّارِعِ ؛ لَكِنْ يَرْجِعُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ إلَى مَا شَرَطَهُ الشَّارِعُ وَالْوَاقِفُ مِنْ التَّرْتِيبِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ وَقْفِ إنْسَانٍ شَيْئًا عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى
أَوْلَادِ زَيْدٍ الثَّمَانِيَةِ فَمَاتَ وَاحِدٌ مِنْ أَوْلَادِ زَيْدٍ
الثَّمَانِيَةِ الْمُعَيَّنِينَ فِي حَالِ حَيَاةِ زَيْدٍ وَتَرَكَ وَلَدًا ثُمَّ
مَاتَ زَيْدٌ . فَهَلْ يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدِ وَلَدِ زَيْدٍ مَا اسْتَحَقَّهُ
وَلَدُ زَيْدٍ لَوْ كَانَ حَيًّا ؟ أَمْ يَخْتَصُّ الْجَمِيعُ بِأَوْلَادِ زَيْدٍ
؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ يَسْتَحِقُّ وَلَدُ الْوَلَدِ مَا كَانَ
يَسْتَحِقُّهُ وَالِدُهُ وَلَا يَنْتَقِلُ ذَلِكَ إلَى أَهْلِ طَبَقَةِ الْمَيِّتِ
مَا بَقِيَ مِنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ أَحَدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ
الْوَاقِفِ : عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ .
فِيهِ لِلْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ عِنْدَ
الْإِطْلَاقِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لِتَرْتِيبِ الْجُمْلَةِ عَلَى
الْجُمْلَةِ كَالْمَشْهُورِ فِي قَوْلِهِ : عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو ثُمَّ عَلَى
الْمَسَاكِينِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ كَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } أَيْ لِكُلِّ
وَاحِدٍ نِصْفُ مَا تَرَكَتْهُ زَوْجَتُهُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } أَيْ حُرِّمَتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أُمُّهُ ؛ إذْ
مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ تَقْتَضِي تَوْزِيعَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : لَبِسَ النَّاسُ ثِيَابَهُمْ وَرَكِبَ النَّاسُ دَوَابَّهُمْ . وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ قَطْعًا ؛ إذْ قَدْ صَرَّحَ الْوَاقِفُ بِأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ هَؤُلَاءِ عَنْ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ فَصَارَ الْمُرَادُ تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِلَا خِلَافٍ ؛ إذْ الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ مَعَ الْإِطْلَاقِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاسْتِحْقَاقُ الْمُرَتَّبِ فِي الشَّرْعِ وَالشَّرْطِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي انْتِقَالِهِ إلَى الثَّانِي عَدَمُ اسْتِحْقَاقِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ وُجِدَ وَاسْتَحَقَّ أَوْ وُجِدَ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَوْ لَمْ يُوجَدْ بِحَالِ كَمَا فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فِي تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ وَأَوْلِيَاءِ النِّكَاحِ وَالْحَضَانَةِ وَغَيْرِهِمْ فَيَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الِابْنُ ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ ثُمَّ الْأَبُ ثُمَّ أَبُوهُ وَإِنْ عَلَا فَإِنَّ الْأَقْرَبَ إذَا عُدِمَ أَوْ كَانَ مَمْنُوعًا لِكُفْرِ أَوْ رِقٍّ انْتَقَلَ الْحَقُّ إلَى مَنْ يَلِيه . وَلَا يُشْتَرَطُ فِي انْتِقَالِ الْحَقِّ إلَى مَنْ يَلِيه أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ قَدْ اسْتَحَقَّ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : النَّظْرُ فِي هَذَا لِفُلَانِ ثُمَّ لِفُلَانِ أَوْ لِابْنِهِ . فَمَتَى انْتَفَى النَّظْرُ عَنْ الْأَوَّلِ لِعَدَمِهِ أَوْ جُنُونِهِ أَوْ كُفْرِهِ انْتَقَلَ إلَى الثَّانِي سَوَاءٌ كَانَ وَلَدًا أَوْ غَيْرَ وَلَدٍ . وَكَذَلِكَ تَرْتِيبُ الْعَصَبَةِ فِي الْمِيرَاثِ وَفِي الْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ وَفِي الْحَضَانَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ فِي الْوَقْفِ : لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةِ عَصَبَتِهِمْ وَشَرَطَ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا ؛ أَوْ فُقَرَاءَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَانْتَفَى شَرْطُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي وَاحِدٍ مِنْ الطَّبَقَةِ الْأُولَى أَوْ كُلِّهِمْ . انْتَقَلَ الْحَقُّ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْأَوَّلِ إلَى الطَّبَقَةِ الثَّانِيَة إذَا كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِالِاسْتِحْقَاقِ . وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَة تَتَلَقَّى الْوَقْفَ مِنْ الْوَاقِفِ ؛ لَا مِنْ الطَّبَقَةِ الْأُولَى ؛ لَكِنْ تَلَقِّيهمْ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْأُولَى كَمَا أَنَّ الْعَصَبَةَ الْبَعِيدَةَ تَتَلَقَّى الْإِرْثَ مِنْ الْمَيِّتِ ؛ لَا مِنْ الْعَاصِبِ الْقَرِيبِ ؛ لَكِنْ شَرْطُ اسْتِحْقَاقِهِ عَدَمُ الْعَاصِبِ الْقَرِيبِ . وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ - فِي الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ - يَرِثُ بِهِ أَقْرَبُ عَصَبَةَ الْمَيِّتِ يَوْمَ مَوْتِ الْمُعْتَقِ ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ كَمَا يُورِثُ الْمَالَ . وَإِنَّمَا يَغْلَطُ ذِهْنُ بَعْضِ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذَا حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ الْوَلَدَ يَأْخُذُ هَذَا الْحَقَّ إرْثًا عَنْ أَبِيهِ أَوْ كَالْإِرْثِ ؛ فَيَظُنُّ أَنَّ الِانْتِقَالَ إلَى الثَّانِيَة مَشْرُوطٌ بِاسْتِحْقَاقِ الْأُولَى كَمَا ظَنَّ ذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ . فَيَقُولُ : إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَبُ قَدْ تَرَكَ شَيْئًا لَمْ يَرِثْهُ الِابْنُ . وَهَذَا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ الِابْنَ لَا يَأْخُذُ مَا يَأْخُذُ الْأَبُ بِحَالِ وَلَا يَأْخُذُ عَنْ الْأَبِ شَيْئًا ؛ إذْ لَوْ كَانَ الْأَبُ مَوْجُودًا لَكَانَ يَأْخُذُ الرِّيعَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى ابْنِهِ الرِّيعُ الْحَادِثُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ ؛ لَا الرِّيعُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ ؛ وَأَمَّا رَقَبَةُ الْوَقْفِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا : حَقُّ الثَّانِي فِيهَا فِي وَقْتِهِ نَظِيرُ حَقِّ الْأَوَّلِ فِي وَقْتِهِ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِمْ إرْثًا .
وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ فِي طَبَقَاتِ الْوَقْفِ أَنَّهُ لَوْ انْتَفَتْ الشُّرُوطُ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى أَوْ بَعْضِهِمْ لَمْ يَلْزَمْ حِرْمَانُ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَة إذَا كَانَتْ الشُّرُوطُ مَوْجُودَةً فِيهِمْ ؛ وَإِنَّمَا نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِيمَا إذَا عَدِمُوا قَبْلَ زَمَنِ الِاسْتِحْقَاقِ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ . وَيُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ قِيلَ بِانْتِقَالِ نَصِيبِ الْمَيِّتِ إلَى إخْوَتِهِ لِكَوْنِهِ مِنْ الطَّبَقَةِ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِتَرْتِيبِ جُمْلَةِ الطَّبَقَةِ عَلَى الطَّبَقَةِ ؛ أَوْ أَنَّ بَعْضَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَة أَوْ كُلِّهِمْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا مَعَ عَدَمِ جَمِيعِ الطَّبَقَةِ الْأُولَى . وَنَصُّ الْوَاقِفِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَرَادَ تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ ؛ مَعَ أَنَّا نَذْكُرُ فِي الْإِطْلَاقِ قَوْلَيْنِ : الْأَقْوَى تَرْتِيبُ الْأَفْرَادِ مُطْلَقًا ؛ إذْ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ ؛ وَهُمْ يَخْتَارُونَ تَقْدِيمَ وَلَدِ الْمَيِّتِ عَلَى أَخِيهِ فِيمَا يَرِثُهُ أَبُوهُ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الْوَلَدَ عَلَى الْأَخِ . وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّ الْوَقْفَ فِي هَذَا مُنْقَطِعٌ فَقَدْ صَرَّحَ هَذَا الْوَاقِفُ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاتِّصَالِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَنْتَقِلَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا مَقْطُوعٌ بِهِ ؛ لَا يَقْبَلُ نِزَاعًا فِقْهِيًّا ؛ وَإِنَّمَا يَقْبَلُ نِزَاعًا غَلَطًا . وَقَوْلُ الْوَاقِفِ : فَمَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلَادِ زَيْدٍ أَوْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ وَتَرَكَ وَلَدًا أَوْ وَلَدَ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ : كَانَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِ وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ وَلَدِ وَلَدِهِ . يُقَالُ فِيهِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : نَصِيبُهُ . يَعُمُّ النَّصِيبَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ إذَا كَانَ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ سَوَاءٌ اسْتَحَقَّهُ أَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مَا اسْتَحَقَّهُ . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا كَلَامَ وَهُوَ الْأَرْجَحُ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَيْسَ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُسْتَحِقًّا لَهُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَبُ مَمْنُوعًا لِانْتِفَاءِ
صِفَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِيهِ مَثَلًا : مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِمْ الْإِسْلَامَ أَوْ الْعَدَالَةَ أَوْ الْفَقْرَ كَانَ يَنْتَقِلُ مَعَ وُجُودِ الْمَانِعِ إلَى وَلَدِهِ كَمَا يَنْتَقِلُ مَعَ عَدَمِهِ ؛ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ يُضَافُ إلَى الشَّيْءِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ فَيَصْدُقُ أَنْ يُقَالَ : نَصِيبُهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ؛ وَلِأَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى ذَلِكَ . يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الْوَاقِفِ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ الصُّوَرِ الْوَاقِعَةِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْإِخْلَالِ بِذِكْرِ الْبَعْضِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَكُونُ مُطَابِقًا لِلتَّرْتِيبِ الْكَلَامِيِّ ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَامَّةِ الشَّارِطِينَ مِثْلَ هَذَا . وَهَذَا أَيْضًا مُوجِبَ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ النَّظَرِيِّ عِنْدَ النَّاسِ فِي شُرُوطِهِمْ إلَى اسْتِحْقَاقِ وَلَدِ الْوَلَدِ الَّذِي يَكُونُ يَتِيمًا لَمْ يَرِثْ هُوَ وَأَبُوهُ مِنْ الْجَدِّ شَيْئًا فَيَرَى الْوَاقِفُ أَنْ يُجْبِرَهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ حِينَئِذٍ ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَاحِقًا فِيمَا وَرِثَ أَبُوهُ مِنْ التَّرِكَةِ وَانْتَقَلَ إلَيْهِ الْإِرْثُ . وَهَذَا الَّذِي يَقْصِدُهُ النَّاسُ مُوَافِقٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ أَيْضًا ؛ وَلِهَذَا يُوصُونَ كَثِيرًا بِمِثْلِ هَذَا الْوَلَدِ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مَا اسْتَحَقَّهُ كَانَ هَذَا مَفْهُومً مَنْطُوقٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَتَنَاوَلُهُ فِي قَوْلِهِ : عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ . فَإِنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ مُوجِبَ هَذَا اللَّفْظِ مَعَ مَا ذَكَرَ بَعْدَهُ مِنْ أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَقِلُ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ تَرْتِيبُ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ . وَالتَّقْدِيرُ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى وَلَدِ كُلِّ وَاحِدٍ
بَعْدَ
وَالِدِهِ وَهَذَا اللَّفْظُ يُوجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ أَبُوهُ
مُسْتَحِقُّهُ لَوْ كَانَ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ كَمَا يَسْتَحِقُّ
ذَلِكَ أَهْلُ طَبَقَاتِهِ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ شَرْعًا وَشَرْطًا وَإِذَا كَانَ هَذَا
مُوجِبَ اسْتِحْقَاقِ الْوَلَدِ وَذَلِكَ التَّفْصِيلُ إمَّا أَنْ يُوجِبَ اسْتِحْقَاقَ
الْوَلَدِ أَيْضًا . وَهُوَ الْأَظْهَرُ . أَوْ لَا يُوجِبُ حِرْمَانَهُ فَيُقِرُّ
الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ : فُلَانٍ
وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ . وَعَلَى ابْنِ ابْنِهِ فُلَانٍ : عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ
مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ ذَكَرٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ وَمَنْ مَاتَ عَنْ
بِنْتٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَيْهَا ؛ ثُمَّ إلَى أَعْمَامِهَا ؛ ثُمَّ بَنِي أَعْمَامِهَا
الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْهُمْ . فَمَاتَ ابْنُ ابْنٍ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ
وَتَرَكَ أُخْتَهُ مِنْ أَبَوَيْهِ وَأَعْمَامِهِ فَأَيُّهُمْ أَحَقُّ ؟ .
فَأَجَابَ
:
يَنْتَقِلُ نَصِيبُهُ إلَى أُخْتِهِ لِأَبَوَيْهِ ؛
فَإِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ مِنْ قَصْدِ الْوَاقِفِ تَخْصِيصُ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ
يَسْتَحِقَّهُ أَصْلُهُ ؛ وَتَخْصِيصُ نَصِيبِ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ
بِالْأَقْرَبِ إلَيْهِ وَأَنَّهُ أَقَامَ مُوسَى ابْنَ الِابْنِ مَقَامَ ابْنِهِ ؛
لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَيِّتًا وَقْتَ الْوَقْفِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَرْيَةٍ وَقَفَهَا السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ
؛ فَجَعَلَ رِيعَهَا وَقْفًا عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ ؛ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ
مِنْ بَعْدِهِ ؛ وَالنِّصْفَ وَالرُّبُعَ عَلَى الْفُقَرَاءِ . وَاسْتَمَرَّ
الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَالْقَرْيَةُ عَامِرَةٌ ؛ فَلَمَّا كَانَ سَنَةَ
دُخُولِ قازان خَرِبَتْ هَذِهِ الْقَرْيَةُ وَاسْتَمَرَّتْ دَائِرَةً مُدَّةَ
ثَمَانِ سِنِينَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْمَشَايِخِ وَأَخَذَ تَوْقِيعًا
سُلْطَانِيًّا بِتَمْكِينِهِ مِنْ أَنْ يَعْمُرَ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَعَمَرَهَا
وَتُوُفِّيَ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَخَلَّفَ أَيْتَامًا صِغَارًا فُقَرَاءَ لَا
مَالَ لَهُمْ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ صَاحِبَ
الرِّيعِ فَأَثْبَتَتْ نَسَبَهَا وَتَسَلَّمَتْ رِيعَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ
وَاسْتَمَرَّ النِّصْفُ وَالرُّبُعُ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِحُكْمِ شَرْطِ
الْوَاقِفِ وَبَقِيَ أَوْلَادُ الَّذِي عَمَرَ الْقَرْيَةَ فُقَرَاءَ . فَهَلْ
يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَقْبِضُوا كِفَايَتَهُمْ فِي جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ ؟ أَمْ
لَهُمْ مَا غَرِمَهُ وَالِدُهُمْ عَلَى تَعْمِيرِهَا مَا لَمْ يَسْتَوْفِ عِوَضَهُ
قَبْلَ وَفَاتِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
إنْ كَانُوا دَاخِلِينَ فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِ
فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مَا يَقْتَضِيه الشَّرْطُ وَإِنْ قُدِّرَ تَعَذُّرُ
الصَّرْفِ إلَى الْمَوْصُوفِينَ لِتَعَذُّرِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ . فَكَانَ
هَؤُلَاءِ الْأَطْفَالُ مُشَارِكِينَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ لِمَنْ يُصْرَفُ إلَيْهِ
الْمَالُ - فَيَنْبَغِي
أَنْ
يُصْرَفَ إلَيْهِمْ أَيْضًا مَا غَرِمَهُ وَالِدُهُمْ مِنْ الْقَرْيَةِ بِالْمَعْرُوفِ
مِنْ مَالِهِ ؛ لِيَسْتَوْفِيَ عِوَضَهُ فَإِنَّهُمْ يَسْتَوْفُونَهُ مِنْ مُغَلِّ
الْوَقْفِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قِسْمَةِ الْوَقْفِ وَمَنَافِعِهِ
فَأَجَابَ
:
مَا كَانَ وَقْفًا عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَجُزْ
قِسْمَةُ عَيْنِهِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ قِسْمَةُ مَنَافِعِهِ بِالْمُهَايَأَةِ .
وَإِذَا تَهَايَئُوا ثُمَّ أَرَادُوا نَقْضَهَا فَلَهُمْ ذَلِكَ وَإِذَا لَمْ
يَقَعْ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ أَوْ وَكِيلِهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ وَقْفٍ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَسَمَهُ قَاسِمٌ
حَنْبَلِيٌّ مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ : حَيْثُ وُجِدَ فِي الْمُخْتَصَرَاتِ :
إنَّا إذَا قُلْنَا الْقِسْمَةُ إقْرَارٌ جَازَ قِسْمَةُ الْوَقْفِ ثُمَّ
تَنَاقَلَ الشَّرِيكَانِ بَعْضَ الْأَعْيَانِ ثُمَّ طَلَبَ بَعْضُهُمْ نَصِيبَهُ
الْأَوَّلَ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ عَيْنَهُ
لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً
لَازِمَةً
؛ لَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَلَا غَيْرِهِ ؛ وَإِنَّمَا فِي الْمُخْتَصَرَاتِ لَمَّا
أَرَادُوا بَيَانَ فُرُوعِ قَوْلِنَا : الْقِسْمَةُ إقْرَارٌ أَوْ بَيْعٌ . فَإِذَا قُلْنَا : هِيَ بَيْعٌ لَمْ
يَجُزْ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يُبَاعُ
. وَإِذَا قُلْنَا : هِيَ إقْرَارٌ جَازَ قِسْمَتُهُ فِي
الْجُمْلَةِ . وَلَمْ يَذْكُرُوا شُرُوطَ الْقِسْمَةِ كَمَا جَرَتْ بِهِ
الْعَادَةُ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَة مِنْهُمْ فِي قِسْمَةِ
الْوَقْفِ وَجْهَيْنِ وَصَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْوَقْفَ إنَّمَا يَجُوزُ
قِسْمَتُهُ إذَا كَانَ عَلَى جِهَتَيْنِ فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ
وَاحِدَةٍ فَلَا تُقْسَمُ عَيْنُهُ اتِّفَاقًا : فَالتَّعْلِيقُ حَقُّ الطَّبَقَةِ
الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ ؛ لَكِنْ تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ عَلَى مَنَافِعِهِ .
و " الْمُهَايَأَةُ " قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ . وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ
بَيْنَ مُنَاقَلَةِ الْمَنَافِعِ وَبَيْنَ تَرْكِهَا عَلَى الْمُهَايَأَةِ بِلَا مُنَاقَلَةٍ
فَإِنْ تَرَاضَوْا بِذَلِكَ أُعِيدَ الْمَكَانُ شَائِعًا كَمَا كَانَ فِي
الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ وَقْفٍ عَلَى جَمَاعَةٍ وَأَنَّ بَعْضَ الشَّرِكَةِ
قَدْ دَفَعَ فِي الْفَاكِهَةِ مَبْلَغًا وَأَنَّ بَعْضَ الشَّرِكَةِ امْتَنَعَ
مِنْ التَّضْمِينِ وَالضَّمَانِ وَطَلَبَ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ يَشْتَرِيه قَدْرَ
حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَرَةِ . فَهَلْ يَحْكُمُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ بِالْبَيْعِ
مَعَ الشَّرِكَةِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا لَمْ تُمْكِنْ قِسْمَةُ ذَلِكَ قَبْلَ الْبَيْعِ
بِلَا ضَرَرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ مَعَ شُرَكَائِهِ وَيُقَاسِمَهُمْ الثَّمَنَ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ وَقْفٍ لِمَصَالِحِ الْحَرَمِ وَعِمَارَتِهِ ثُمَّ
بَعْدَ ذَلِكَ يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالصَّدَقَاتِ وَعَلَى الْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ الْمُقِيمِينَ بِالْحَرَمِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ مِنْ
ذَلِكَ عَلَى الْقُوَّامِ وَالْفَرَّاشِينَ الْقَائِمِينَ بِالْوَظَائِفِ ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ الْقَائِمُونَ بِالْوَظَائِفِ مِمَّا يَحْتَاجُ
إلَيْهِ الْمَسْجِدُ : مِنْ تَنْظِيفِ وَحِفْظِ وَفَرْشِ وَتَنْوِيرِهِ وَفَتْحِ
الْأَبْوَابِ ؛ وَإِغْلَاقِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ : هُمْ مِنْ مَصَالِحِهِ : يَسْتَحِقُّونَ
مِنْ الْوَقْفِ عَلَى مَصَالِحِهِ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى دَارًا وَلَمْ يَكُنْ فِي كَتْبِهِ
غَيْرُ ثَلَاثِ حُدُودِ وَالْحَدُّ الرَّابِعُ لِدَارِ وَقْفٍ . ثُمَّ إنَّ
الَّذِي اشْتَرَى هَدَمَ الدَّارَ وَعَمَرَهَا . ثُمَّ إنَّهُ فَتَحَ الطَّاقَةَ
فِي دَارِ الْوَقْفِ يُخْرِجَ النُّورَ مِنْهَا إلَى مَخْزَنٍ وَجَعَلَ إلَى
جَنْبِ الْجِدَارِ سِقَايَةً مُجَاوِرَةً لِلْوَقْفِ مُحْدَثَةً تَضُرُّ حَائِطَ
الْوَقْفِ وَبَرَزَ بُرُوزًا عَلَى دُورِ قَاعَةِ الْوَقْفِ . فَإِذَا بَنَى عَلَى
دُورِ الْقَاعَةِ ؛ وَجَعَلَ أَخْشَابَ سَقْفٍ عَلَى الْجِدَارِ الَّذِي
لِلْوَقْفِ
وَفَعَلَ هَذَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّ الْأَمْرِ وَذَكَرَ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ كُلَّ
سَنَةٍ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَوَلِيُّ الْأَمْرِ لَمْ يُؤَجِّرْهُ إلَى الْآنَ
وَلَا الْمُبَاشِرُونَ . ثُمَّ إنَّ رَجُلًا حَلَفَ بِاَللَّهِ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُ
هَذَا الْجِدَارَ وَهُوَ بَيْنَ الدُّورِ وَأُزِيلَ مَا فَعَلَهُ مِنْ الْبُرُوزِ
وَالسِّقَايَةِ وَلَمْ أَحْدَثَ فِيهِ عِمَارَةً إلَّا احْتِسَابًا بِاَللَّهِ تَعَالَى
وَاسْتَأْجَرَهُ كُلَّ سَنَةٍ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا مُدَّةَ عِشْرِينَ سَنَةً
حَتَّى تَبْقَى دُورُ قَاعَةِ الْوَقْفِ نَيِّرَةً وَلَمْ تَتَضَرَّرُ الْجِيرَةُ
بِالْعُلْوِ . فَهَلْ يَجُوزُ الْإِيجَارُ لِلَّذِي تَعَدَّى ؟ أَمْ لِلَّذِي
قَصَدَ الْمَثُوبَةَ وَزِيَادَةً لِلْوَقْفِ بِالْأُجْرَةِ إنْ أَجَّرَهُ وَلِيُّ
الْأَمْرِ الْمَنْفَعَةُ بِالزِّيَادَةِ وَلِإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْ الْوَقْفِ ؟
فَأَجَابَ
:
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى جِدَارِ الْوَقْفِ مَا
يَضُرُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِهِ
عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَدَعْوَاهُ الِاسْتِئْجَارَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ
بِغَيْرِ حُجَّةٍ . وَلَوْ آجَرَ إجَارَةً فِيهَا ضَرَرٌ عَلَى الْوَقْفِ لَمْ
تَكُنْ إجَارَةً شَرْعِيَّةً . وَمَنْ طَلَبَ اسْتِئْجَارَهُ بَعْدَ هَذَا وَكَانَ ذَلِكَ
مَصْلَحَةً لِلْوَقْفِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ؛ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُؤَجِّرَ وَإِذَا
كَانَ لَهُ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ بِحَسَبِ
ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ سَاكِنٌ فِي خَانٍ وَقَفَ وَلَهُ مُبَاشِرٌ
لِرَسْمِ عِمَارَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ وَأَنَّ السَّاكِنَ أَخْبَرَ الْمُبَاشِرَ
أَنَّ مَسْكَنَهُ يُخْشَى سُقُوطُهُ وَهُوَ يُدَافِعُهُ ثُمَّ إنَّ الْمُبَاشِرَ
صَعِدَ إلَى الْمَسْكَنِ الْمَذْكُورِ وَرَآهُ بِعَيْنِهِ وَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ
وَقَالَ : لَيْسَ بِهَذَا سُقُوطٌ وَلَا عَلَيْك مِنْهُ ضَرَرٌ ؛ وَتَرَكَهُ
وَنَزَلَ فَبَعْدَ نُزُولِهِ سَقَطَ الْمَسْكَنُ الْمَذْكُورُ عَلَى زَوْجَةِ
السَّاكِنِ وَأَوْلَادَهُ فَمَاتَ ثَلَاثَةً وَعُدِمَ جَمِيعُ مَالِهِ : فَهَلْ
يَلْزَمُ الْمُبَاشِرَ مَنْ مَاتَ وَيَغْرَمُ الْمَالَ الَّذِي عُدِمَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
عَلَى هَذَا الْمُبَاشِرِ الْمَذْكُورِ الَّذِي
تَقَدَّمَ إلَيْهِ وَأَخَّرَ الاستهدام ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ ؛ بَلْ
يَضْمَنُ وَلَوْ كَانَ مَالِكُ الْمَكَانِ : إذَا خِيفَ السُّقُوطُ وَأُعْلِمَ
بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُعَلِّمُ لَهُ مُسْتَأْجِرًا مِنْهُ عِنْدَ
جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ
وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ ؛ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ
يَشْتَرِطُ الْإِشْهَادَ عَلَيْهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ ؛
فَإِنَّهُ مُفَرِّطٌ بِتَرْكِ نَقْضِهِ وَإِصْلَاحِهِ وَلَوْ ظَنّ أَنَّهُ لَا
يُسْقِطُ . فَإِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُرِيَ ذَلِكَ لِأَرْبَابِ الْخِبْرَةِ
بِالْبِنَاءِ فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ مُفَرِّطًا ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ
بِتَفْرِيطِهِ ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ لِلْمُسْتَأْجِرِ : إنْ شِئْت
فَاسْكُنْ وَإِنْ شِئْت فَلَا تَسْكُنْ ؛ فَإِنَّ هَذَا عُدْوَانٌ مِنْهُ .
فَإِنَّ
الْمُسْتَأْجِرَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُؤَجِّرِ بِالْعِمَارَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا
الْمَكَانُ وَاَلَّتِي هِيَ مِنْ مُوجَبِ الْعَقْدِ . وَهَذِهِ الْعِمَارَةُ
وَاجِبَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ حَقِّ أَهْلِ الْوَقْفِ وَمَنْ جِهَةِ
حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ . وَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ
لِنَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يُفَرِّطَ فِي الْعِمَارَةِ الَّتِي اسْتَحَقَّهَا
الْمُسْتَأْجِرُ . فَهَذَانِ التفريطان يَجِبُ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِمَا ضَمَانُ مَا
تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ فَيَضْمَنُ مَالَ الْوَقْفِ لِلْوَقْفِ وَيَدْخُلُ فِي
ذَلِكَ الْمَنَافِعُ الَّتِي اسْتَحَقَّهَا الْمُسْتَأْجِرُ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ
كَانَتْ الْعَيْنُ بَاقِيَةً ؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ إيَّاهَا وَلَهُ
أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ . وَأَمَّا مَا تَلِفَ بِالتَّفْرِيطِ مِنْ النُّفُوسِ
وَالْأَمْوَالِ الَّتِي لِلْمُسْتَأْجِرِ فَيَضْمَنُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ
الثَّلَاثَةِ وَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ لِلْجِيرَانِ مِنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَمَا
ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ مَالٍ مَوْقُوفٍ عَلَى فِكَاكِ الْأَسْرَى ؛
وَإِذَا اُسْتُدِينَ بِمَالِ فِي ذِمَمِ الْأَسْرَى بِخَلَاصِهِمْ لَا يَجِدُونَ
وَفَاءَهُ : هَلْ يَجُوز صَرْفُهُ مِنْ الْوَقْفِ ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَدَانَهُ
وَلِيُّ فِكَاكِهِمْ بِأَمْرِ نَاظِرِ الْوَقْفِ أَوْ غَيْرِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ يَجُوز ذَلِكَ ؛ بَلْ هُوَ الطَّرِيقُ فِي
خَلَاصِ الْأَسْرَى أَجْوَدُ مِنْ إعْطَاءِ الْمَالِ ابْتِدَاءً لِمَنْ
يَفْتِكَهُمْ بِعَيْنِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ يَخَافُ عَلَيْهِ وَقَدْ يُصْرَفُ
فِي
غَيْرِ الْفِكَاكِ . وَأَمَّا هَذَا فَهُوَ مَصْرُوفٌ فِي الْفِكَاكِ قَطْعًا . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَصْرِفَ
عَيْنَ الْمَالِ فِي جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ أَوْ يَصْرِفَ مَا اُسْتُدِينَ كَمَا
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً يَصْرِفُ مَالَ
الزَّكَاةِ إلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ وَتَارَةً يَسْتَدِينُ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ
ثُمَّ يَصْرِفُ الزَّكَاةَ إلَى أَهْلِ الدِّينِ . فَعُلِمَ أَنَّ الصَّرْفَ
وَفَاءٌ كَالصَّرْفِ أَدَاءً . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ تَحْتَهُ حِصَّةٌ فِي حَمَّامٍ وَهِيَ
مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَخَرِبَ شَيْءٌ مِنْ الْحَمَّامِ
فِي زَمَانِ الْعَدُوِّ . فَأَجَّرَ تِلْكَ الْحِصَّةَ لِشَخْصِ مُدَّةَ ثَمَانِ سِنِينَ
بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَذِنَ لَهُ أَنْ تُصْرَفَ تِلْكَ الْأُجْرَةُ فِي
الْعِمَارَةِ الضَّرُورِيَّةِ فِي الْحَمَّامِ فَعَمَرَ الْمُسْتَأْجِرُ وَصَرَفَ
فِي الْعِمَارَةِ : حَتَّى صَارَتْ أُجْرَةُ الْحِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَذَكَرَ أَنَّهُ
فَضَلَ لَهُ عَلَى الْوَقْفِ مَالٌ زَائِدٌ عَنْ الْأُجْرَةِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ
الْمُؤَجِّرِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا عَمَرَ عِمَارَةً زَائِدَةً
عَنْ الْعِمَارَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهَا لَمْ يَكُنْ
عَلَى أَهْلِ الْحَمَّامِ أَنْ يَقُومُوا بِبَقِيَّةِ تِلْكَ الْعِمَارَةِ
الزَّائِدَةِ وَلَا قِيمَتِهَا ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا إذَا لَمْ يَضُرَّ
أَخْذُهَا بِالْوَقْفِ . وَإِذَا كَانَتْ الْعِمَارَةُ تَزِيدُ كِرَاءَ الْحَمَّامِ
فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ تَبْقَى الْعِمَارَةُ لَهُ ؛ لَا يُعْطُونَهُ
بِقِيمَتِهَا ؛ بَلْ
يَكُونُ
مَا يَحْصُلُ مِنْ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ بِإِزَاءِ ذَلِكَ : جَازَ ذَلِكَ . وَإِنْ أَرَادَ أَهْلُ الْوَقْفِ أَنْ
يُقْلِعُوا الْعِمَارَةَ الزَّائِدَةَ فَلَهُمْ ذَلِكَ ؛ إذَا لَمْ تَنْقُصْ
الْمَنْفَعَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ بِالْعَقْدِ . وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ
يُعْطُوهُ بَقِيَّةَ الْعِمَارَةِ وَيَزِيدَهُمْ فِي الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا
زَادَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ جَازَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ وَقْفٍ عَلَى تَكْفِينِ الْمَوْتَى يَفِيضُ رِيعُهُ
كُلَّ سَنَةٍ عَلَى الشَّرْطِ :
هَلْ يَتَصَدَّقُ بِهِ . وَهَلْ يُعْطِي مِنْهُ
أَقَارِبَ الْوَاقِفِ الْفُقَرَاءَ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا فَاضَ الْوَقْفُ عَنْ الْأَكْفَانِ صَرَفَ
الْفَاضِلُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِذَا كَانَ أَقَارِبُهُ مَحَاوِيجَ
فَهُمْ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ فَقِيهٍ مُنَزَّلٌ فِي مَدْرَسَةٍ ثُمَّ غَابَ
مُدَّةَ الْبِطَالَةِ : فَهَلْ يَحِلُّ مَنْعُهُ مِنْ الجامكية أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ يَغِبْ إلَّا شَهْرَ
الْبِطَالَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الشَّاهِدُ ؛ لَا فَرْقَ
فِي أَشْهُرِ الْبِطَالَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَطَّالُ شَاهِدًا أَوْ
غَائِبًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ مُقْرِئٍ عَلَى وَظِيفَةٍ ثُمَّ إنَّهُ سَافَرَ
وَاسْتَنَابَ شَخْصًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ فَلَمَّا عَادَ قَبَضَ
الْجَمِيعَ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَكَانِ . فَهَلْ يَسْتَحِقُّ النَّائِبُ
الْمَشْرُوطَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ النَّائِبُ يَسْتَحِقُّ
الْمَشْرُوطَ كُلَّهُ ؛ لَكِنْ إذَا عَادَ الْمُسْتَنِيبُ فَهُوَ أَحَقُّ
بِمَكَانِهِ وَاَللَّهِ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ وَقَفَ وَقْفًا مُسْتَغَلًّا ثُمَّ مَاتَ
فَظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ : فَهَلْ يُبَاعُ الْوَقْفُ فِي دَيْنِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا أَمْكَنَ وَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ
لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَفَاءُ الدَّيْنِ إلَّا بِبَيْعِ
شَيْءٍ مِنْ الْوَقْفِ - وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ - بِيعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ
. وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ فِي الصِّحَّةِ : فَهَلْ يُبَاعُ لِوَفَاءِ الدَّيْنِ ؟
فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَمَنْعُهُ
قَوْلٌ قَوِيٌّ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ فِي مَرَضِهِ : إذَا مُتّ فَدَارِي
وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ فَتَعَافَى ثُمَّ حَدَثَ عَلَيْهِ دُيُونٌ
: فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْوَقْفُ وَيَلْزَمُ . أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
يَجُوز أَنْ يَبِيعَهَا فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ
؛ وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
وَلَيْسَ هَذَا بِأَبْلَغَ مِنْ التَّدْبِيرِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بَاعَ الْمُدَبَّرَ فِي الدَّيْنِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى ضَرِيحِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَسْمِ شَمْعٍ أَوْ زَيْتٍ وَذَلِكَ بَعْدَ
مَوْتِهِ ثُمَّ إنَّهُ قَصَدَ أَنْ يُغَيِّرَ الْوَقْفَ وَيَجْعَلَهُ عَلَى
الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ بِالْقَاهِرَةِ . وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ :
فَهَلْ يَجُوزُ عَلَى الْفُقَرَاءِ الْمُجَاوِرِينَ بِالْمَدِينَةِ - مَدِينَةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ
: أَمَّا الْوَصِيَّةُ بِمَا يَفْعَلُ بِهِ مَوْتُهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ
فِيهَا وَيُغَيِّرَهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَشْهَدَ
بِهَا وَأَثْبَتَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ وَصِيَّةً بِوَقْفِ أَوْ عِتْقٍ أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ . وَفِيّ الْوَقْفِ الْمُعَلَّقِ بِمَوْتِهِ وَالْعِتْقِ نِزَاعَانِ
مَشْهُورَانِ . وَالْوَقْفُ عَلَى زَيْتٍ وَشَمْعٍ يُوقَدُ عَلَى قَبْرٍ
لَيْسَ بِرًّا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ
الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } . وَأَمَّا
تَنْوِيرُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَغَيْرِهِ فَتَنْوِيرُ
بُيُوتِ اللَّهِ حَسَنٌ ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ لِلْمَسْجِدِ مَا يَكْفِي تَنْوِيرُهُ
لَمْ يَكُنْ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا فَائِدَةٌ مَشْرُوعَةٌ ؛ وَلَمْ
يَكُنْ ذَلِكَ مَصْرُوفًا فِي تَنْوِيرِهِ ؛ بَلْ تُصْرَفُ فِي غَيْرِهِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ الْوَقْفِ إذَا فَضَلَ مِنْ رِيعِهِ وَاسْتُغْنِيَ
عَنْهُ ؟
فَأَجَابَ
:
يُصْرَفُ فِي نَظِيرِ تِلْكَ الْجِهَةِ . كَالْمَسْجِدِ
إذَا فَضَلَ عَنْ مَصَالِحِهِ صُرِفَ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ
غَرَضُهُ فِي الْجِنْسِ وَالْجِنْسُ وَاحِدٌ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمَسْجِدَ
الْأَوَّلَ خَرِبَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ صُرِفَ رِيعُهُ فِي مَسْجِدٍ
آخَرَ فَكَذَلِكَ إذَا فَضَلَ عَنْ مَصْلَحَتِهِ شَيْءٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا
الْفَاضِلَ
لَا سَبِيلَ إلَى صَرْفِهِ إلَيْهِ وَلَا إلَى تَعْطِيلِهِ فَصَرْفُهُ فِي جِنْسِ الْمَقْصُودِ
أَوْلَى وَهُوَ أَقْرَبُ الطُّرُقِ إلَى مَقْصُودِ الْوَاقِفِ . وَقَدْ رَوَى أَحْمَد عَنْ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَضَّ النَّاسَ عَلَى إعْطَاءِ مُكَاتِبٍ فَفَضَلَ
شَيْءٌ عَنْ حَاجَتِهِ فَصَرَفَهُ فِي الْمُكَاتِبِينَ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ صَالِحٍ فَرَضَ لَهُ الْقَاضِي بِشَيْءِ
مِنْ الصَّدَقَاتِ ؛ لِأَجْلِهِ وَأَجْلِ الْفُقَرَاءِ الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ .
فَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي ذَلِكَ ؟ أَوْ يَتَغَلَّبَ عَلَيْهِ
بِالْيَدِ الْقَوِيَّةِ ؟
فَأَجَابَ
:
قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا
يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَسْتَامَ عَلَى
سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي
صَفْحَتِهَا ؛ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا } فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ قَدْ نَهَى أَنْ
يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَأَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ
قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَطْلُوبُ فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ فَكَيْفَ يَحِلُّ
لِلرَّجُلِ أَنْ يَجِيءَ إلَى مَنْ فَرَضَ لَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى
الصَّدَقَاتِ أَوْ غَيْرِهَا مَا يَسْتَحِقُّهُ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ فَيُزَاحِمُهُ
عَلَى ذَلِكَ وَيُرِيدُ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْهُ فَإِنَّ هَذَا أَشَدُّ تَحْرِيمًا
مِنْ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ وَقْفِ أَرْضٍ عَلَى مَسْجِدٍ فِيهَا أَشْجَارٌ
مُعَطَّلَةٌ مِنْ الثَّمَرِ وَتَعَطَّلَتْ الْأَرْضُ مِنْ الزِّرَاعَةِ
بِسَبَبِهَا . فَهَلْ يَجُوزُ قَلْعُ الْأَشْجَارِ وَصَرْفُ ثَمَنِهَا فِي
مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ وَتُزْرَعُ الْأَرْضُ وَيُنْتَفَعُ بِهَا ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ ، إذَا كَانَ قَلْعُ الْأَشْجَارِ مَصْلَحَةً
لِلْأَرْضِ بِحَيْثُ يَزِيدُ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ إذَا قُلِعَتْ فَإِنَّهَا
تُقْلَعُ . وَيَنْبَغِي لِلنَّاظِرِ أَنْ يُقْلِعَهَا وَيَفْعَلَ مَا هُوَ
الْأَصْلَحُ لِلْوَقْفِ وَيَصْرِفُ ثَمَنَهَا فِيمَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْوَقْفِ
مِنْ عِمَارَةِ الْوَقْفِ أَوْ مَسْجِدٍ إنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ مَصِيفِ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِيهِ قَبْرُ فَسْقِيَّةٍ
وَهُدِمَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَلِلْمَسْجِدِ بَيْتُ خَلَاءٍ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ
مَوْضِعٌ يَسَعُ الْوُضُوءَ . فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْمَلَ فِي الْمَصِيفِ
مَكَانٌ لِلْوُضُوءِ وَيُتْرَكُ مَا هُوَ فِي الْفَسْقِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ
بُنِيَتْ قَبْرًا ؟
فَأَجَابَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ إذَا كَانَ هَذَا مَصْلَحَةً
لِلْمَسْجِدِ وَأَهْلِهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَحْذُورٌ إلَّا مُجَرَّدُ الْوُضُوءِ فِي
الْمَسْجِدِ جَازَ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْوُضُوءَ فِي الْمَسْجِدِ
جَائِزٌ ؛ بَلْ لَا يُكْرَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ مَسْجِدٍ مُغْلَقٍ عَتِيقٍ فَسَقَطَ وَهُدِمَ
وَأُعِيدَ مِثْلَ مَا كَانَ فِي طُولِهِ وَعَرْضِهِ وَرَفْعِهِ الْبَانِي لَهُ
عَنْ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَقَدَّمَهُ إلَى قُدَّامُ وَكَانَ تَحْتَهُ خَلْوَةٌ
فَعَمِلَ تَحْتَهُ بَيْتًا لِمَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ . فَهَلْ يَجُوزُ تَجْدِيدُ
الْبَيْتِ وَسَكَنِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ يَجُوز أَنْ يَعْمَلَ فِي
ذَلِكَ مَا كَانَ مَصْلَحَةً لِلْمَسْجِدِ وَأَهْلِهِ : مِنْ تَجْدِيدِ عِمَارَةٍ
وَتَغْيِيرِ الْعِمَارَةِ مِنْ صُورَةٍ إلَى صُورَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَسَاجِدَ وَجَامِعٍ يَحْتَاجُ إلَى عِمَارَةٍ وَعَلَيْهَا
رَوَاتِبُ مُقَرَّرَةٌ عَلَى الْقَابِضِ وَالرِّيعُ لَا يَقُومُ بِذَلِكَ . فَهَلْ
يَحِلُّ أَنْ يَصْرِفَ لِأَحَدِ قَبْلَ الْعِمَارَةِ الضَّرُورِيَّةِ ؟ وَإِلَى
مَنْ يَحِلُّ ؟ وَمَا يَصْنَعُ بِمَا يَفْضُلُ عَنْ الرِّيعِ أَيَدَّخِرُ أَمْ يَشْتَرِي
بِهِ عَقَارًا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ
الْمَصْلَحَتَيْنِ بِأَنْ يَصْرِفَ مَا لَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِ لِضَرُورَةِ
أَهْلِهِ وَقِيَامِ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ بِهِمْ وَأَنْ يَعْمُرَ بِالْبَاقِي :
كَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ
. وَإِنْ تَأَخَّرَ بَعْضُ الْعِمَارَةِ قَدْرًا لَا
يَضُرُّ تَأَخُّرُهُ ؛ فَإِنَّ الْعِمَارَةَ وَاجِبَةٌ وَالْأَعْمَالُ الَّتِي لَا
تَقُومُ إلَّا بِالرِّزْقِ وَاجِبَةٌ وَسَدُّ الفاقات وَاجِبَةٌ فَإِذَا أُقِيمَتْ
الْوَاجِبَاتُ كَانَ أَوْلَى مِنْ تَرْكِ بَعْضِهَا . وَأَمَّا مَنْ لَا تَقُومُ
الْعِمَارَةُ إلَّا بِهِمْ : مِنْ الْعُمَّالِ وَالْحِسَابِ فَهُمْ مِنْ
الْعِمَارَةِ . وَأَمَّا مَا فَضَلَ مِنْ الرِّيعِ عَنْ الْمَصَارِفِ
الْمَشْرُوطَة وَمَصَارِفِ الْمَسَاجِدِ فَيُصْرَفُ فِي جِنْسِ ذَلِكَ : مِثْلَ
عِمَارَةِ مَسْجِدٍ آخَرَ وَمَصَالِحِهَا ؛ وَإِلَى جِنْسِ الْمَصَالِحِ وَلَا
يَحْبِسُ الْمَالَ أَبَدًا لِغَيْرِ عِلَّةٍ مَحْدُودَةٍ ؛ لَا سِيَّمَا فِي
مَسَاجِدَ قَدْ عُلِمَ أَنَّ رِيعَهَا يَفْضُلُ عَنْ كِفَايَتِهَا دَائِمًا
فَإِنَّ حَبْسَ مِثْلِ هَذَا الْمَالِ مِنْ الْفَسَادِ { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ حَاكِمٍ خَطِيبٍ رُتِّبَ لَهُ عَلَى فَائِضِ
مَسْجِدٍ رِزْقُهُ فَيَبْقَى سَنَتَيْنِ لَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا ؛ لِعَدَمِ الْفَائِضِ
. ثُمَّ زَادَ الرِّيعُ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ : فَهَلْ لَهُ أَنْ
يَتَنَاوَلَ رِزْقَ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ ذَلِكَ الْمُغَلِّ ؟
فَأَجَابَ
:
إنْ كَانَ لِمُغَلِّ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مَصَارِفُ
شَرْعِيَّةٌ بِالشَّرْطِ الصَّحِيحِ وَجَبَ صَرْفُهَا فِيهِ وَلَمْ يَجُزْ
لِلْحَاكِمِ أَخْذُهُ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَصْرِفٌ أَصْلًا
وَاقْتَضَى نَظَرُ الْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى الْحَاكِمِ عِوَضًا عَمَّا
فَاتَهُ فِي الْمَاضِي : جَازَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ
الْحَلِيمِ بْنُ تَيْمِيَّة قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ .
فَصْلٌ : فِي إبْدَالِ الْوَقْفِ
حَتَّى الْمَسَاجِدِ بِمِثْلِهَا أَوْ خَيْرٍ مِنْهَا
لِلْحَاجَةِ أَوْ الْمَصْلَحَةِ وَكَذَلِكَ إبْدَالُ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ ؛
وَالْمَنْذُورِ وَكَذَلِكَ إبْدَالُ الْمُسْتَحِقِّ بِنَظِيرِهِ إذَا تَعَذَّرَ
صَرْفُهُ إلَى الْمُسْتَحَقِّ . وَالْإِبْدَالُ يَكُونُ تَارَةً بِأَنْ يُعَوِّضَ
فِيهَا بِالْبَدَلِ . وَتَارَةً بِأَنْ يُبَاعَ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهَا
الْمُبْدَلِ . فَمَذْهَبُ أَحْمَد فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ يَجُوزُ بَيْعُهُ
لِلْحَاجَةِ . وَأَمَّا الْمَسْجِدُ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ أَيْضًا لِلْحَاجَةِ
: فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَفِي الْأُخْرَى لَا تُبَاعُ عَرْصَتُهُ
بَلْ تُنْقَلُ آلَتُهَا إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ . وَنَظِيرُ هَذَا " الْمُصْحَفُ " فَإِنَّهُ
يُكْرَهُ بَيْعُهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ . وَأَمَّا إبْدَالُهُ
فَيَجُوزُ عِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ مِنْ غَيْرٍ كَرَاهَةٍ ؛
وَلَكِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ : أَنَّهُ إذَا بِيعَ وَاشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ فَإِنَّ
هَذَا مِنْ جِنْس
الْإِبْدَالِ ؛ إذْ فِيهِ مَقْصُودُهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ صَرْفُ نَفْعِهِ إلَى نَظِيرِ الْمُسْتَحِقِّ إذَا تَعَذَّرَ صَرْفُهُ إلَى عَيْنِهِ . فَإِنَّ الْمَسْجِدَ إذَا كَانَ مَوْقُوفًا بِبَلْدَةِ أَوْ مَحَلَّةٍ فَإِذَا تَعَذَّرَ انْتِفَاعُ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ بِهِ صُرِفَتْ الْمَنْفَعَةُ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ فَيُبْنَى بِهَا مَسْجِدٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كَمَا يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي زَيْتِ الْمَسْجِدِ وَحُصْرِهِ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهَا الْمَسْجِدُ : تُصْرَفُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ وَيَجُوزُ صَرْفُهَا عِنْدَهُ فِي فُقَرَاءِ الْجِيرَانِ . وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُقَسِّمُ كُسْوَةَ الْكَعْبَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ كُسْوَةُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمْ الْمُسْتَحِقُّونَ لِمَنْفَعَةِ الْمَسَاجِدِ وَاحْتَجَّ عَلَى صَرْفِهَا فِي نَظِيرِ ذَلِكَ : بِأَنَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ مَالًا لِمُكَاتِبِ فَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ عَنْ قَدْرِ كِتَابَتِهِ فَصَرَفَهَا فِي مَكَاتِبَ أُخَرَ ؛ فَإِنَّ الْمُعْطِينَ أَعْطَوْا الْمَالَ لِلْكِتَابَةِ فَلَمَّا اسْتَغْنَى الْمُعَيَّنُ صَرَفَهَا فِي النَّظِيرِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي بَيْعِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي بَيْعِ غَيْرِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ . قَالَ : فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ : إذَا خَرِبَ الْمَسْجِدُ يُبَاعُ وَيُنْفَقُ ثَمَنُهُ عَلَى مَسْجِدٍ آخَرَ . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي " الْمُجَرَّدِ " وَابْنُ عَقِيلٍ فِي " الْفُصُولِ " وَغَيْرُهُمَا وَاللَّفْظُ لِلْقَاضِي - : وَنَفَقَةُ الْوَقْفِ مِنْ غَلَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ . وَهَذَا لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَكَانَ إبْقَاؤُهُ يَتَضَمَّنُ الْإِنْفَاقَ
عَلَيْهِ ، وَمَا يَبْقَى لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ غَلَّةٌ مِثْلَ أَنْ كَانَ عَبْدًا تَعَطَّلَ أَوْ بَهِيمَةٌ هَزَلَتْ فَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَصْرِفَ ثَمَنَهُ فِي مِثْلِهِ . وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَالنَّفَقَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ كَالْمَسْجِدِ . . . (1) وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ بَيْعَهُ وَصَرْفَ ثَمَنِهِ فِي مِثْلِهِ جَازَ وَإِذَا كَانَ الْوَقْفُ دَارًا فَخَرِبَتْ وَبَطَلَ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِيعَتْ وَصُرِفَ ثَمَنُهَا إلَى شِرَاءِ دَارٍ وَيُجْعَلُ وَقْفًا مَكَانُهَا . وَكَذَلِكَ الْفَرَسُ الْحَبِيسُ إذَا هَرِمَ وَتَعَطَّلَ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ فَرَسٌ يَصْلُحُ لِمَا وُقِفَ لَهُ . قَالَ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ : إنْ أَمْكَنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ فَرَسًا اشْتَرَى وَجُعِلَ حَبِيسًا ؛ وَإِلَّا جَعَلَهُ فِي ثَمَنِ دَابَّةِ حَبِيسٍ وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ إذَا خَرِبَ وَحَصَلَ بِمَوْضِعِ لَا يُصَلِّي فِيهِ جَازَ نَقْلُهُ إلَى مَوْضِعٍ عَامِرٍ وَجَازَ بَيْعُ عَرْصَتِهِ . نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْإِمَامِ . قَالَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي " كِتَابِ الْقَوْلَيْنِ " : وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ : أَنَّ الْمَسَاجِدَ لَا تُبَاعُ وَلَكِنْ تُنْقَلُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ . يَعْنِي رِوَايَةَ عبد الله ؛ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْفَرَسِ الْحَبِيسِ . وَقَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ ثَوَابٍ فِي عَبْدٍ لِرَجُلِ بِمَكَّةَ - يَعْنِي وَقْفًا - فَأَبَى الْعَبْدُ أَنْ يَعْمَلَ :
يُبَاعُ
فَيُبَدِّلُ عَبْدًا مَكَانَهُ . ذَكَرَهَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي مَسْأَلَةِ
عِتْقِ الرَّهْنِ فِي " التَّعْلِيقِ " . قَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ :
فَجَعَلَ امْتِنَاعَهُ كَتَعَطُّلِ نَفْعِهِ . يَعْنِي وَيُلْزَمُ بِإِجْبَارِهِ
كُلَّ الْعَمَلِ كَمَا يُجْبَرُ الْمُسْتَأْجِرُ وَإِنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ
مُحَرَّمًا وَجُعِلَ تَعَذُّرُ الِانْتِفَاعِ بِهَذَا الْوَجْهِ كَتَعَطُّلِهِ ؛ نَظَرًا
إلَى مَصْلَحَةِ الْوَقْفِ
.
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا إبْدَالُ الْمَسْجِدِ بِغَيْرِهِ ؛
لِلْمَصْلَحَةِ مَعَ إمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَوَّلِ : فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَدَ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ الْجَوَازَ
أَظْهَرُ فِي نُصُوصِهِ وَأَدِلَّتِهِ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَيْسَ عَنْهُ بِهِ
نَصٌّ صَرِيحٌ ؛ وَإِنَّمَا تَمَسَّكَ أَصْحَابُهُ بِمَفْهُومِ خَطِّهِ ؛
فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يُفْتِي بِالْجَوَازِ لِلْحَاجَةِ وَهَذَا قَدْ يَكُونُ
تَخْصِيصًا لِلْجَوَازِ بِالْحَاجَةِ وَقَدْ يَكُونُ التَّخْصِيصُ لِكَوْنِ ذَلِكَ
هُوَ الَّذِي سُئِلَ عَنْهُ وَاحْتَاجَ إلَى بَيَانِهِ . وَقَدْ بَسَطَ أَبُو
بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ ذَلِكَ فِي " الشَّافِي " الَّذِي اُخْتُصِرَ
مِنْهُ " زَادُ الْمُسَافِرِ "
فَقَالَ : حَدَّثَنَا الْخَلَّالُ ثَنَا صَالِحُ بْنُ
أَحْمَدَ ثَنَا أَبِي ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ
الْقَاسِمِ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى بَيْتِ الْمَالِ كَانَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ قَدْ بَنَى
الْقَصْرَ وَاِتَّخَذَ مَسْجِدًا عِنْدَ أَصْحَابِ التَّمْرِ . قَالَ فَنُقِبَ بَيْتُ الْمَالِ فَأَخَذَ الرَّجُلُ الَّذِي نَقَبَهُ فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ عُمَرَ : أَنْ لَا تَقْطَعْ الرَّجُلَ وَانْقُلْ الْمَسْجِدَ وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَتِهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ فِي الْمَسْجِدِ مُصَلٍّ . فَنَقَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَخَطَّ لَهُ هَذِهِ الْخُطَّةَ . قَالَ صَالِحٌ . قَالَ أَبِي : يُقَالُ : إنَّ بَيْتَ الْمَالِ نُقِبَ مِنْ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فَحَوَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْمَسْجِدَ . فَمَوْضِعُ التَّمَارِينِ الْيَوْمَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ . قَالَ : وَسَأَلْت أَبِي عَنْ رَجُلٍ بَنَى مَسْجِدًا ؛ ثُمَّ أَرَادَ تَحْوِيلَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ؟ قَالَ : إنْ كَانَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَهُ خَوْفًا مِنْ لُصُوصٍ أَوْ يَكُونُ مَوْضِعُهُ مَوْضِعَ قَذَرٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُحَوِّلَهُ . يُقَالُ : إنَّ بَيْتَ الْمَالِ نُقِبَ وَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَحَوَّلَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْمَسْجِدَ . ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ثَنَا أَبُو يَحْيَى ثَنَا أَبُو طَالِبٍ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يُحَوَّلُ الْمَسْجِدُ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ ضَيِّقًا لَا يَسْمَعُ أَهْلُهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُجْعَلَ إلَى مَوْضِعٍ أَوْسَعَ مِنْهُ . ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ : سَأَلْت أَبِي عَنْ مَسْجِدٍ خَرِبَ : تَرَى أَنْ تُبَاعَ أَرْضُهُ وَتُنْفَقَ عَلَى مَسْجِدٍ آخَرَ أَحْدَثُوهُ ؟ قَالَ : إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ جِيرَانٌ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَعْمُرُهُ فَلَا أَرَى بِهِ بَأْسًا أَنْ يُبَاعَ وَيُنْفَقَ عَلَى الْآخَرِ . ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ سَمِعْت أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ مَسْجِدٍ فِيهِ خَشَبَتَانِ لَهُمَا قِيمَةٌ
وَقَدْ تَشَعَّثَتْ وَخَافُوا سُقُوطَهُ . أَتُبَاعُ هَاتَانِ الْخَشَبَتَانِ وَيُنْفَقُ عَلَى الْمَسْجِدِ وَيُبَدَّلُ مَكَانَهُمَا جِذْعَيْنِ ؟ قَالَ : مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا . وَاحْتَجَّ بِدَوَابِّ الْحَبِيسِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِهَا تُبَاعُ وَيُجْعَلُ ثَمَنُهَا فِي الْحَبِيسِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي كَلَامِهِ مَا يُبَيِّنُ جَوَازَ إبْدَالِ الْمَسْجِدِ لِلْمَصْلَحَةِ وَإِنْ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ ؛ لِكَوْنِ النَّفْعِ بِالثَّانِي أَكْمَلَ وَيَعُودُ الْأَوَّلُ طَلْقًا . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي " زَادِ الْمُسَافِرِ " : قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صالح : نُقِبَ بَيْتُ الْمَالِ بِالْكُوفَةِ وَعَلَى بَيْتِ الْمَالِ ابْنُ مَسْعُودٍ فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرَ : أَنْ اُنْقُلْ الْمَسْجِدَ وَصَيِّرْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَتِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُوَ مِنْ مُصَلٍّ فِيهِ . فَنَقَلَهُ سَعْدٌ إلَى مَوْضِعِ التَّمَارِينِ الْيَوْمَ وَصَارَ سُوقُ التَّمَارِينِ فِي مَوْضِعِهِ وَعَمَلُ بَيْتِ الْمَالِ فِي قِبْلَتِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ تُنْقَلَ الْمَسَاجِدُ إذَا خَرِبَتْ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ : إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ يَضِيقُ بِأَهْلِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُحَوَّلَ إلَى مَوْضِعٍ أَوْسَعَ مِنْهُ . جَوَّزَ تَحْوِيلَهُ لِنَقْصِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَوَّلِ ؛ لَا لِتَعَذُّرِهِ . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ : يُحَوَّلُ الْمَسْجِدُ خَوْفًا مِنْ لُصُوصٍ وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُهُ قَذِرًا . وَبِالثَّانِي قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد فِي مَسْجِدٍ أَرَادَ أَهْلُهُ أَنْ يَرْفَعُوهُ مِنْ الْأَرْضِ ؛ وَيَجْعَلَ تَحْتَهُ سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ ؟ يُنْظَرُ إلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ
وَلَا بَأْسَ بِهِ . قَالَ فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَجَازَ أَنْ يُجْعَلَ سُفْلُ الْمَسْجِدِ حَوَانِيتَ وَسِقَايَةً . قَالَ : وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَاجَةَ دَعَتْ إلَى ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ تَعُودُ بِالْمَسْجِدِ . قَالَ : وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ حَامِدٍ - يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَيَتَأَوَّلُ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ قَبْلَ وَقْفِهِ . قَالَ : وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عَلَى أَصْلِنَا جَوَازُ ذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِأَنَّا نُجِيزُ بَيْعَهُ وَنَقْلَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ . قَالَ : وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي مَسْجِدٍ لَيْسَ بِحَصِينِ مِنْ الْكِلَابِ وَغَيْرِهَا وَلَهُ مَنَارَةٌ فَرُخِّصَ فِي نَقْضِهَا وَيُبْنَى بِهَا حَائِطُ الْمَسْجِدِ لِلْمَصْلَحَةِ . وَمَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي " الْفُصُولِ " إلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ فَقَالَ : هَذَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْحَاجَةَ دَعَتْ إلَى ذَلِكَ كَمَا أَنَّ تَغْيِيرَ الْمَسْجِدِ وَنَقْلَهُ مَا جَازَ عِنْدَهُ إلَّا لِلْحَاجَةِ فَيُحْمَلُ هَذَا الْإِطْلَاقُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لَا عَلَى الْمُسْتَقَرِّ . قَالَ : وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَسْجِدٍ يُبْتَدَأُ إنْشَاؤُهُ . وَعَلَى هَذَا فَاخْتَلَفُوا كَيْفَ يُبْنَى ؟ فَأَمَّا بَعْدَ كَوْنِهِ مَسْجِدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ وَلَا أَنْ يُجْعَلَ سِقَايَةً تَحْتَهُ . وَكَذَلِكَ رَجَّحَ أَبُو مُحَمَّدٍ قَوْلَ ابْنِ حَامِدٍ وَقَالَ : هُوَ أَصَحُّ وَأَوْلَى وَإِنْ خَالَفَ الظَّاهِرَ . قَالَ : فَإِنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ وَإِبْدَالُهُ وَبَيْعُ سَاحَتِهِ وَجَعْلُهَا سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ وَالْحَاجَةِ إلَى سِقَايَةٍ وَحَوَانِيتَ لَا يُعَطِّلُ نَفْعَ الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ فِي ذَلِكَ . قَالَ : وَلَوْ جَازَ جَعْلُ
أَسْفَلِ الْمَسْجِدِ سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ لَجَازَ تَخْرِيبُ الْمَسْجِدِ وَجَعْلُهُ سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ وَيُجْعَلُ بَدَلَهُ مَسْجِدٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَهَذَا تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ لِمُخَالَفَةِ نَصِّهِ ؛ فَإِنَّ نَصَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا أَرَادُوا رَفْعَهُ مِنْ الْأَرْضِ وَأَنْ يُجْعَلَ تَحْتَهُ سِقَايَةٌ وَحَوَانِيتُ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ أَجَابَ بِأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ . وَلَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَ ابْتِدَائِهِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يُنَازِعَ فِي بَنِيهِ إذَا كَانَ جَائِزًا وَلَمْ يَنْظُرْ فِي ذَلِكَ إلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ إنْ كَانُوا مُشْتَرِكِينَ فِي الْبِنَاءِ لَمْ يُجْبَرْ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ الْآخَرُونَ إذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَلَمْ يَبْنِ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمْ . وَلِأَنَّ قَوْلَهُ : أَرَادُوا رَفْعَهُ مِنْ الْأَرْضِ وَأَنْ يُجْعَلَ تَحْتَهُ سِقَايَةٌ : بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ مُلْصَقٌ بِالْأَرْضِ فَأَرَادُوا رَفْعَهُ وَجَعْلَ سِقَايَةٍ تَحْتَهُ . وَأَحْمَدُ اعْتَبَرَ اخْتِيَارَ الْأَكْثَرِ مِنْ الْمُصَلِّينَ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ تَرْجِيحُ أَصْلَحِ الْأَمْرَيْنِ وَمَا اخْتَارَهُ أَكْثَرُهُمْ كَانَ أَنْفَعَ لِلْأَكْثَرِينَ ؟ فَيَكُونُ أَرْجَحَ . وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ : قَالَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ : إذَا بَنَى رَجُلٌ مَسْجِدًا فَأَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يَهْدِمَهُ وَيَبْنِيَهُ بِنَاءً أَجْوَدَ مِنْ الْأَوَّلِ فَأَبَى عَلَيْهِ الْبَانِي الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى قَوْلِ الْجِيرَانِ وَرِضَاهُمْ : إذَا أَحَبُّوا هَدْمَهُ وَبِنَاءَهُ وَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَرْفَعُوا الْمَسْجِدَ مِنْ الْأَرْضِ وَيُعْمَلَ فِي أَسْفَلِهِ سِقَايَةٌ فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَشَايِخُ ضُعَفَاءُ وَقَالُوا : لَا نَقْدِرُ أَنْ نَصْعَدَ : فَإِنَّهُ يُرْفَعُ وَيُجْعَلُ سِقَايَةً وَلَا أَعْلَمُ
بِذَلِكَ بَأْسًا وَيُنْظَرُ إلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ . فَقَدْ نُصَّ عَلَى هَذَا وَتَبْدِيلُ بِنَائِهِ بِأَجْوَدَ وَإِنْ كَرِهَ الْوَاقِفُ الْأَوَّلُ وَعَلَى جَوَازِ رَفْعِهِ وَعَمَلِ سِقَايَةٍ تَحْتَهُ وَإِنْ مَنَعَهُمْ مَشَايِخُ ضُعَفَاءُ إذَا اخْتَارَ ذَلِكَ الْجِيرَانُ وَاعْتَبَرَ أَكْثَرُهُمْ . قَالَ : وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ : إذَا كَانَ لِلْمَسْجِدِ مَنَارَةٌ وَالْمَسْجِدُ لَيْسَ بِحَصِينِ : فَلَا بَأْسَ أَنْ تُنْقَضَ الْمَنَارَةُ فَتُجْعَلُ فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ لِتَحْصِينِهِ . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ لَوْ صَحَّ لَكَانَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ غَيْرِ هَذَا الْقَوْلِ فَيَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ . وَقَدْ رَجَّحُوا أَحَدَهُمَا . فَكَيْفَ وَهِيَ حُجَجٌ ضَعِيفَةٌ أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : لَا يَجُوزُ النَّقْلُ وَالْإِبْدَالُ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ : فَمَمْنُوعٌ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَلَى ذَلِكَ حُجَّةً لَا شَرْعِيَّةً وَلَا مَذْهَبِيَّةً . فَلَيْسَ عَنْ الشَّارِعِ وَلَا عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ هَذَا النَّفْيُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ ؛ بَلْ قَدْ دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَأَقْوَالُ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ يَضِيقُ بِأَهْلِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُحَوَّلَ إلَى مَوْضِعٍ أَوْسَعَ مِنْهُ . وَضِيقُهُ بِأَهْلِهِ لَمْ يُعَطِّلْ نَفْعَهُ ؛ بَلْ نَفْعُهُ بَاقٍ كَمَا كَانَ ؛ وَلَكِنْ النَّاسُ زَادُوا وَقَدْ أَمْكَنَ أَنْ يُبْنَى لَهُمْ مَسْجِدٌ آخَرُ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَسَعَ جَمِيعَ النَّاسِ . وَمَعَ هَذَا جَوَّزَ تَحْوِيلَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ النَّاسِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ أَفْضَلُ مِنْ تَفْرِيقِهِمْ فِي مَسْجِدَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ كُلَّمَا كَثُرَ كَانَ أَفْضَلَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ
وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى } " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ بِنَاءُ مَسْجِدٍ آخَرَ إذَا كَثُرَ النَّاسُ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مَعَ مَنْعِهِ لِبِنَاءِ مَسْجِدٍ ضِرَارًا . قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ : لَا يُبْنَى مَسْجِدٌ يُرَادُ بِهِ الضِّرَارُ لِمَسْجِدِ إلَى جَانِبِهِ فَإِنْ كَثُرَ النَّاسُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبْنَى وَإِنْ قَرُبَ . فَمَعَ تَجْوِيزِهِ بِنَاءَ مَسْجِدٍ آخَرَ عِنْدَ كَثْرَةِ النَّاسِ وَإِنْ قَرُبَ أَجَازَ تَحْوِيلَ الْمَسْجِدِ إذَا ضَاقَ بِأَهْلِهِ إلَى أَوْسَعَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ وَأَنْفَعُ ؛ لَا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ : عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - غَيَّرَا مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِنَقْلِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ إلَى مَكَانٍ آخَرَ وَصَارَ الْأَوَّلُ سُوقَ التَّمَارِينِ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ ؛ لَا لِأَجْلِ تَعَطُّلِ مَنْفَعَةِ تِلْكَ الْمَسَاجِدِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَطَّلْ نَفْعُهَا ؛ بَلْ مَا زَالَ بَاقِيًا . وَكَذَلِكَ خُلَفَاءُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُمْ : كَالْوَلِيدِ وَالْمَنْصُورِ وَالْمُهْدِي : فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ بِمَسْجِدَيْ الْحَرَمَيْنِ وَفَعَلَ ذَلِكَ الوليد بِمَسْجِدِ دِمَشْقَ وَغَيْرِهَا مَعَ مَشُورَةِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَإِقْرَارِهِمْ حَتَّى أَفْتَى مَالِكٍ وَغَيْرُهُ بِأَنْ يُشْتَرَى الْوَقْفُ الْمُجَاوِرُ لِلْمَسْجِدِ وَيُعَوَّضُ أَهْلُهُ عَنْهُ . فَجَوَّزُوا بَيْعَ الْوَقْفِ وَالتَّعْوِيضَ عَنْهُ لِمَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ ؛ لَا لِمَصْلَحَةِ أَهْلِهِ . فَإِذَا بِيعَ وَعُوِّضَ عَنْهُ لِمَصْلَحَةِ أَهْلِهِ كَانَ أَوْلَى بِالْجِوَارِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : لَوْ جَازَ جَعْلُ أَسْفَلِ الْمَسْجِدِ سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ لِهَذِهِ
الْحَاجَةِ لَجَازَ تَخْرِيبُ الْمَسْجِدِ وَجَعْلُهُ سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ وَيُجْعَلُ بَدَلَهُ مَسْجِدٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . قِيلَ نَقُولُ بِمُوجَبِ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ عَنْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَيْهِ بَنَى مَذْهَبَهُ . فَإِنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ خَرَّبَ الْمَسْجِدَ الْأَوَّلَ - مَسْجِدَ الْجَامِعِ الَّذِي كَانَ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ - وَجَعَلَ بَدَلَهُ مَسْجِدًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَصَارَ مَوْضِعُ الْمَسْجِدِ الْأَوَّلِ سُوقَ التَّمَارِينِ . فَهَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي جَعَلُوهَا نَقْضًا فِي الْمُعَارَضَةِ وَأَصْلًا فِي قِيَاسِهِمْ هِيَ الصُّورَةُ الَّتِي نَقَلَهَا أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَبِهَا احْتَجَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ وَقَالَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ : هَذَا يَقْتَضِي إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَيْهَا . فَقَالُوا - وَهَذَا لَفْظُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُفْرَدَاتِ فِي مَسْأَلَةِ إبْدَالِ الْمَسْجِدِ - وَأَيْضًا رَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ : ثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ كَانَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ قَدْ بَنَى الْقَصْرَ وَاِتَّخَذَ مَسْجِدًا عِنْدَ أَصْحَابِ التَّمْرِ فَنُقِبَ بَيْتُ الْمَالِ وَأُخِذَ الرَّجُلُ الَّذِي نَقَبَهُ فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَتَبَ عُمَرَ : لَا تَقْطَعْ الرَّجُلَ وَانْقُلْ الْمَسْجِدَ وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ ؛ فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ فِي الْمَسْجِدِ مُصَلٍّ . فَنَقَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَخَطَّ لَهُ هَذِهِ الْخُطَّةَ . قَالَ أَحْمَدُ : يُقَالُ إنَّ بَيْتَ الْمَالِ نُقِبَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فَحَوَّلَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَسْجِدَ وَمَوْضِعُ التَّمَارِينِ الْيَوْمَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَهَذَا كَانَ مَعَ تَوَفُّرِ الصَّحَابَةِ : فَهُوَ
كَالْإِجْمَاعِ إذَا لَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِمْ لَا يَسْكُتُونَ عَنْ إنْكَارِ مَا يَعُدُّونَهُ خَطَأً ؛ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى عُمَرَ النَّهْيَ عَنْ المغالات فِي الصَّدُقَاتِ حَتَّى رَدَّتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ وَرَدُّوهُ عَنْ أَنْ يَحُدَّ الْحَامِلَ فَقَالُوا : إنْ جَعَلَ اللَّهُ لَك عَلَى ظَهْرِهَا سَبِيلًا فَمَا جَعَلَ لَك عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا سَبِيلًا . وَأَنْكَرُوا عَلَى عُثْمَانَ فِي إتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي الْحَجِّ حَتَّى قَالَ : إنِّي دَخَلْت بَلَدًا فِيهِ أَهْلِي . وَعَارَضُوا عَلِيًّا حِينَ رَأَى بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَلَوْ كَانَ نَقْلُ الْمَسْجِدِ مُنْكَرًا لَكَانَ أَحَقَّ بِالْإِنْكَارِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ فِيهِ شَنَاعَةٌ . وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِمَا رَوَى أَبُو حَفْصٍ فِي الْمَنَاسِكِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ قِيلَ لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ كُسْوَةَ الْكَعْبَةِ قَدْ يُدَاوَلُ عَلَيْهَا ؟ فَقَالَتْ : تُبَاعُ وَيُجْعَلُ ثَمَنُهَا فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ . فَأَمَرَتْ عَائِشَةُ بِبَيْعِ كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ مَعَ أَنَّهَا وَقْفٌ وَصَرْفِ ثَمَنِهَا فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ . لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ : وَهَكَذَا قَالَ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ ابْنِ حَامِدٍ فِي وَقْفِ الِاسْتِغْلَالِ كَأَبِي مُحَمَّدٍ : قَالَ : وَإِنْ لَمْ تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَةُ الْوَقْفِ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ لَكِنْ قُلْت أَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَنْفَعَ مِنْهُ وَأَكْثَرَ رَدًّا عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ ؛ وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ صِيَانَةً لِمَقْصُودِ الْوَقْفِ عَنْ الضَّيَاعِ مَعَ إمْكَانِ تَحْصِيلِهِ وَمَعَ الِانْتِفَاعِ بِهِ . وَإِنْ قُلْنَا يَضِيعُ الْمَقْصُودُ . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ مِنْ قِلَّةِ النَّفْعِ إلَى حَدٍّ لَا يُعَدُّ نَفْعًا فَيَكُونُ وُجُودُ ذَلِكَ كَالْعَدَمِ . فَيُقَالُ : مَا ذَكَرُوهُ مَمْنُوعٌ . وَلَمْ يَذْكُرُوا عَلَيْهِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا وَلَا مَذْهَبِيًّا
وَإِنْ
ذَكَرُوا شَيْئًا مِنْ مَفْهُومِ كَلَامِ أَحْمَدَ أَوْ مَنْطُوقِهِ : فَغَايَتُهُ
أَنْ يَكُونَ رِوَايَةً عَنْهُ قَدْ عَارَضَهَا رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْهُ هِيَ أَشْبَهُ
بِنُصُوصِهِ وَأُصُولِهِ وَإِذَا ثَبَتَ فِي نُصُوصِهِ وَأُصُولِهِ - جَوَازُ إبْدَالِ الْمَسْجِدِ
لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى . وَقَدْ نَصَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ
غَيْرِهِ أَيْضًا لِلْمَصْلَحَةِ ؛ لَا لِلضَّرُورَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَيْضًا فَيُقَالُ لَهُمْ : لَا ضَرُورَةَ إلَى بَيْعِ
الْوَقْفِ ؛ وَإِنَّمَا يُبَاعُ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَلِحَاجَةِ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ إلَى كَمَالِ الْمَنْفَعَةِ ؛ لَا لِضَرُورَةِ تُبِيحُ
الْمَحْظُورَاتِ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِكَمَالِ الْمَنْفَعَةِ وَإِنْ
لَمْ يَكُونُوا مُضْطَرِّينَ وَلَوْ كَانَ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ - - لِأَنَّهُ
حَرَامٌ - لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِضَرُورَةِ وَلَا غَيْرِهَا كَمَا لَمْ يَجُزْ
بَيْعُ الْحُرِّ الْمُعْتَقِ وَلَوْ اُضْطُرَّ سَيِّدُهُ الْمُعْتِقُ إلَى
ثَمَنِهِ ؛ وَغَايَتُهُ أَنْ يَتَعَطَّلَ نَفْعُهُ فَيَكُونُ كَمَا لَوْ كَانَ
حَيَوَانًا فَمَاتَ .
ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : بَيْعُهُ فِي عَامَّةِ
الْمَوَاضِعِ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَعَ قِلَّةِ نَفْعِهِ ؛ لَا مَعَ تَعَطُّلِ
نَفْعِهِ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ تَعَطَّلَ نَفْعُهُ بِالْكُلِّيَّةِ
لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ ؛ لَا الْمُشْتَرِي وَلَا غَيْرُهُ . وَبَيْعُ مَا
لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا . فَغَايَتُهُ أَنْ يُخَرَّبَ وَيَصِيرَ
عَرْصَةً وَهَذِهِ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِالْإِجَارَةِ بِأَنْ تُكْرَى
لِمَنْ يَعْمُرُهَا . وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه النَّاسُ " الْحِكْرُ "
وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَسْتَسْلِفَ مَا يَعْمُرُ بِهِ وَيُوَفِّي مِنْ كَرْيِ
الْوَقْفِ . وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ
:
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَبَرَّعَ مُتَبَرِّعٌ بِالْقَرْضِ
؛ وَلَكِنْ هَذَا لَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي أَنْ يُؤَجِّرَ إجَارَةً غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ وَتُؤْخَذُ الْأُجْرَةُ فَيَعْمُرُ بِهَا ؛ لِيَسْتَوْفِيَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمُقَابَلَةَ لِلْأُجْرَةِ . وَهَذَانِ طَرِيقَانِ يَكُونَانِ لِلنَّاسِ إذَا خَرِبَ الْوَقْفُ : تَارَةً يُؤَجِّرُونَ الْأَرْضَ وَتَبْقَى حِكْرًا . وَتَارَةً يستسلفون مِنْ الْأُجْرَةِ مَا يَعْمُرُونَ بِهِ وَتَكُونُ تِلْكَ الْأُجْرَةُ أَقَلَّ مِنْهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ سَلَفًا . وَعَامَّةُ مَا يَخْرَبُ مِنْ الْوَقْفِ يُمْكِنُ فِيهِ هَذَا . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ جَوَّزُوا بَيْعَهُ وَالتَّعْوِيضَ بِثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ ؛ لَا لِلضَّرُورَةِ وَلَا لِتَعَطُّلِ الِانْتِفَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يَنْفَعُ وَمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ لَا يَشْتَرِيه أَحَدٌ ؛ لَكِنْ قَدْ يَتَعَذَّرُ أَلَّا يَحْصُلَ مُسْتَأْجِرٌ وَيَحْصُلَ مُشْتَرٍ ؛ وَلَكِنْ جَوَازُ بَيْعِ الْوَقْفِ إذَا خَرِبَ لَيْسَ مَشْرُوطًا بِأَلَّا يُوجَدَ مُسْتَأْجِرٌ بَلْ يُبَاعُ وَيُعَوَّضُ عَنْهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَصْلَحَ مِنْ الْإِيجَارِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا أُكْرِيَتْ الْأَرْضُ مُجَرَّدَةً كَانَ كِرَاؤُهَا قَلِيلًا . وَكَذَلِكَ إذَا اُسْتُسْلِفَتْ الْأُجْرَةُ لِلْعِمَارَةِ قُلْت الْمَنْفَعَةُ فَإِنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا مُدَّةَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمُقَابَلَةِ لِمَا عَمَرَ بِهِ ؛ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ ؛ وَلَكِنَّ الْأُجْرَةَ الْمُسَلَّفَةَ تَكُونُ قَلِيلَةً فَفِي هَذَا قُلْت مَنْفَعَةُ الْوَقْفِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسَوَّغَ لِلْبَيْعِ وَالتَّعْوِيضِ نَقْصُ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِكَوْنِ الْعِوَضِ أَصْلَحَ وَأَنْفَعَ ؛ لَيْسَ الْمُسَوَّغُ تَعْطِيلَ النَّفْعِ بِالْكُلِّيَّةِ . وَلَوْ قُدِّرَ التَّعْطِيلُ لِيَكُنْ ذَلِكَ مِنْ الضَّرُورَاتِ الَّتِي تُبِيحُ الْمُحَرَّمَاتِ وَكُلَّمَا جَوَّزَ لِلْحَاجَةِ لَا لِلضَّرُورَةِ كَتَحَلِّي النِّسَاءِ بِالذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالتَّدَاوِي بِالذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ فَإِنَّمَا أُبِيحَ لِكَمَالِ
الِانْتِفَاعِ ؛ لَا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ الَّتِي تُبِيحُ الْمَيْتَةَ وَنَحْوَهَا ؛ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ فِي هَذَا تَكْمِيلُ الِانْتِفَاعِ ؛ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ النَّاقِصَةَ يَحْصُلُ مَعَهَا عَوَزٌ يَدْعُوهَا إلَى كَمَالِهَا . فَهَذِهِ هِيَ الْحَاجَةُ فِي مِثْلِ هَذَا . وَأَمَّا الضَّرُورَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِعَدَمِهَا حُصُولُ مَوْتٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ الْعَجْزُ عَنْ الْوَاجِبَاتِ كَالضَّرُورَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَتِلْكَ الضَّرُورَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ لَا تُعْتَبَرُ فِي مِثْلِ هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَلِهَذَا جَوَّزَ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ هَذَا الْمَوْضِعَ ؛ بَيَّنُوا أَنَّهُ عِنْدَ التَّعْطِيلِ بِالْكُلِّيَّةِ يَنْتَهِي الْوَقْفُ ؛ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ إذَا بَقِيَ مِنْهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ تَيْمِيَّة قَالَ فِي " تَرْغِيبِ الْقَاصِدِ " : الْحُكْمُ الْخَامِسُ إذَا تَعَطَّلَ الْوَقْفُ فَلَهُ أَحْوَالٌ أَحَدُهَا أَنْ يَنْعَدِمَ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ كَالْفَرَسِ إذَا مَاتَ فَقَدْ انْتَهَتْ الوقفية . الثَّانِيَة : أَنْ يَبْقَى مِنْهُ بَقِيَّةٌ مُتَمَوِّلَةٌ : كَالشَّجَرَةِ إذَا عَطِبَتْ وَالْفَرَسِ إذَا أَعْجَفَ وَالْمَسْجِدِ إذَا خَرِبَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ فِي تَحْصِيلِ مِثْلِهِ أَوْ فِي شَقِيصٍ مِنْ مَثَلِهِ . الثَّالِثَةُ حُصْرُ الْمَسْجِدِ إذَا بَلِيَتْ وَجُذُوعُهُ إذَا تَكَسَّرَتْ وَتَحَطَّمَتْ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ وَكَذَلِكَ إذَا أَشْرَفَتْ جُذُوعُهُ عَلَى التَّكْسِيرِ أَوْ دَارِهِ عَلَى الِانْهِدَامِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ لَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ .
قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ خَشَبَاتٌ لَهَا قِيمَةٌ وَقَدْ تَشَعَّثَتْ جَازَ بَيْعُهَا وَصَرْفُ ثَمَنِهَا عَلَيْهِ . الرَّابِعَةُ إذَا خَرِبَ الْمَسْجِدُ وَآلَتُهُ تَصْلُحُ لِمَسْجِدِ آخَرَ يَحْتَاجُ إلَى مِثْلِهَا فَإِنَّهَا تُحَوَّلُ إلَيْهِ وَأَمَّا الْأَرْضُ فَتُبَاعُ هَذَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ عِمَارَتُهُ بِثَمَنِ بَعْضِ آلَتِهِ وَإِلَّا بِيعَ ذَلِكَ وَعُمِرَ بِهِ . نَصَّ عَلَيْهِ . الْخَامِسَةُ إذَا ضَاقَ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ أَوْ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ لِخَرَابِ الْمَحَلَّةِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي إنْشَاءِ مَسْجِدٍ آخَرَ ؛ أَوْ فِي شِقْصٍ فِي مَسْجِدٍ . فَقَدْ بَيَّنَ مَنْ قَالَ هَذَا : أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ مَعَ تَعَطُّلِ الْمَنْفَعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ بَلْ إذَا أَبْقَى مِنْهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَحِينَئِذٍ فَالْمَقْصُودُ التَّعْوِيضُ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ مِنْهُ ؛ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْحَابِ . تَعَذُّرَ إجَارَةِ الْعَرْصَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ يُمْكِنُ إجَارَةُ الْعَرْصَةِ ؛ لَكِنْ يَحْصُلُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ مِنْهَا أَقَلُّ مِمَّا كَانَ يَحْصُلُ لَوْ كَانَ مَعْمُورًا وَإِذَا بِيعَتْ فَقَدْ يُشْتَرَى بِثَمَنِهَا مَا تَكُونُ أُجْرَتُهُ أَنْفَعَ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْعَرْصَةَ يَشْتَرِيهَا مَنْ يَعْمُرَهَا لِنَفْسِهِ فَيَنْتَفِعُ بِهَا مِلْكًا وَيَرْغَبُ فِيهَا لِذَلِكَ وَيَشْتَرِي بِثَمَنِهَا مَا تَكُونُ غَلَّتُهُ أَنْفَعَ مِنْ غَلَّةِ الْعَرْصَةِ . فَهَذَا مَحَلُّ الْجَوَازِ الَّذِي اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ . وَحَقِيقَتُهُ تَعُودُ إلَى أَنَّهُمْ عَوَّضُوا أَهْلَ الْوَقْفِ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُمْ مِنْهُ
فَإِنْ قِيلَ : فَلَفْظُ الخرقي : وَإِذَا خَرِبَ الْوَقْفُ وَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا وَاشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يَرُدُّ عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ . قِيلَ : هَذَا اللَّفْظُ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا مِمَّا كَانَ يَرُدُّهُ لِمَا كَانَ مَعْمُورًا : مِثْلَ دُورٍ وَحَوَانِيتَ خَرِبَتْ فَإِنَّهَا لَوْ تَشَعَّثَتْ رَدَّتْ بَعْضَ مَا كَانَتْ تَرُدُّهُ مَعَ كَمَالِ الْعِمَارَةِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرِبَتْ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَرُدُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ : لَا تَرُدُّ شَيْئًا . لِتَعْطِيلِ نَفْعِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ . فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ هُوَ الْأَوَّلَ وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي يَلِيقُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُهُ - فَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا قُلْنَاهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَيْعُ . وَلَوْ تَعَطَّلَ نَفْعُهُ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ . وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ تَعَطَّلَ عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ انْتِفَاعُهُمْ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِتَعَذُّرِ إجَارَةِ الْعَرْصَةِ مَعَ إمْكَانِ انْتِفَاعِ غَيْرِهِمْ بِهَا ؛ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ فِي الْعَبْدِ ؛ فَإِنْ أَرَادَ هَذِهِ الصُّورَةَ كَانَ مَنْطُوقُ كَلَامِهِ مُوَافِقًا لِمَا تَقَدَّمَ ؛ وَلَكِنَّ مَفْهُومَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ أَهْلُ الْوَقْفِ أَنْ يُؤَجِّرُوهُ بِأَقَلِّ أُجْرَةٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ . وَهَذَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا فِي الْمَذْهَبِ ؛ لَكِنَّ نُصُوصَ أَحْمَدَ تُخَالِفُ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْمَسْجِدِ وَالْفَرَسِ الْحَبِيسِ وَغَيْرِهِمَا ؛ كَمَا قَدْ ذَكَرَ الْمَسْجِدَ . وَأَمَّا الْفَرَسُ الْحَبِيسُ إذَا عَطِبَ فَإِنَّ الَّذِي يَشْتَرِيه قَدْ يَشْتَرِيه لِيَرْكَبَهُ أَوْ يُدِيرَهُ فِي الرَّحَى وَيُمْكِنُ أَهْلُ الْجِهَادِ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ : مِثْلَ الْحَمْلِ عَلَيْهِ وَاسْتِعْمَالِهِ فِي الرَّحَى وَإِجَارَتِهِ وَانْتِفَاعِهِمْ بِأُجْرَتِهِ ؛ وَلَكِنْ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ لِحَبْسِهِ وَهِيَ الْجِهَادُ عَلَيْهِ تَعَطَّلَتْ وَلَمْ يَتَعَطَّلْ انْتِفَاعُهُمْ بِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ .
فَصْلٌ
:
وَإِذَا كَانَ يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ فِي
الْمَسْجِدِ الْمَوْقُوفِ الَّذِي يُوقَفُ لِلِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ وَعَيْنُهُ
مُحْتَرَمَةٌ شَرْعًا : يَجُوز أَنْ يُبَدِّلَ بِهِ غَيْرَهُ لِلْمَصْلَحَةِ -
لِكَوْنِ الْبَدَلِ أَنْفَع وَأَصْلَحَ ؛ وَإِنْ لَمْ تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَتُهُ
بِالْكُلِّيَّةِ وَيَعُودُ الْأَوَّلُ طَلْقًا ؛ مَعَ أَنَّهُ مَعَ تَعَطُّلِ
نَفْعِهِ بِالْكُلِّيَّةِ : هَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ ؟ عَنْهُ فِيهِ رِوَايَتَانِ - فَلَأَنْ
يَجُوزُ الْإِبْدَالُ بِالْأَصْلَحِ وَالْأَنْفَعِ فِيمَا يُوقَفُ
لِلِاسْتِغْلَالِ أَوْلَى وَأَحْرَى ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ يَجُوزُ بَيْعُ مَا
يُوقَفُ لِلِاسْتِغْلَالِ لِلْحَاجَةِ قَوْلًا وَاحِدًا وَفِي بَيْعِ الْمَسْجِدِ لِلْحَاجَةِ
رِوَايَتَانِ . فَإِذَا جُوِّزَ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ أَنْ يُجْعَلَ
الْمَسْجِدُ الْأَوَّلُ طَلْقًا وَيُوقَفُ مَسْجِدٌ بَدَلَهُ لِلْمَصْلَحَةِ
وَإِنْ لَمْ تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَةُ الْأَوَّلِ : فَلَأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَجْعَلَ
الْمَوْقُوفُ لِلِاسْتِغْلَالِ طَلْقًا وَيُوقِفَ بَدَلَهُ أَصْلَحُ مِنْهُ وَإِنْ
لَمْ تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَةُ الْأَوَّلِ أَحْرَى ؛ فَإِنَّ بَيْعَ الْوَقْفِ
الْمُسْتَغَلِّ أَوْلَى مِنْ بَيْعِ الْمَسْجِدِ وَإِبْدَالُهُ أَوْلَى مِنْ
إبْدَالِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ تُحْتَرَمُ عَيْنُهُ شَرْعًا وَيُقْصَدُ
الِانْتِفَاعُ بِعَيْنِهِ : فَلَا يَجُوزُ إجَارَتُهُ وَلَا الْمُعَاوَضَةُ عَنْ
مَنْفَعَتِهِ ؛ بِخِلَافِ وَقْفِ الِاسْتِغْلَالِ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إجَارَتُهُ
وَالْمُعَاوَضَةُ عَنْ نَفْعِهِ ؛ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَنْفَعَتَهُ بِنَفْسِهِ كَمَا يَقْتَصِدُ مِثْلَ ذَلِكَ
فِي الْمَسْجِدِ وَلَا لَهُ حُرْمَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا
لِلْمَسْجِدِ .
وَأَيْضًا فَالْوَقْفُ لِلَّهِ فِيهِ شِبْهٌ مِنْ التَّحْرِيرِ وَشِبْهٌ مِنْ التَّمْلِيكِ وَهُوَ أَشْبَه بِأُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ نَقْلَ الْمِلْكِ فِيهَا ؛ فَإِنَّ الْوَقْفَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ لَا يَبِيعُهُ أَحَدٌ يَمْلِكُ ثَمَنَهُ وَلَا يَهَبُهُ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ : يُشْبِهُ التَّحْرِيرَ وَالْإِعْتَاقَ . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْمُعَارَضَةَ بِأَنْ يَأْخُذَ عِوَضَهُ فَيَشْتَرِي بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ : يُشْبِهُ التَّمْلِيكَ ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَتْلَفَ ضَمِنَ بِالْبَدَلِ وَاشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ بِخِلَافِ الْمُعْتَقِ ؛ فَإِنَّهُ صَارَ حُرًّا لَا يَقْبَلُ الْمُعَاوَضَةَ . فَالْبَيْعُ الثَّابِتُ فِي الطَّلْقِ لَا يَثْبُتُ فِي الْوَقْفِ بِحَالِ وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ الْمَالِكُ أَوْ وَلِيُّهُ أَوْ وَكِيلُهُ وَيَمْلِكُ عِوَضَهُ : مِنْ غَيْرٍ بَدَلٍ يَقُومُ مَقَامَهُ . وَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ الَّذِي تُقْرَنُ بِهِ الْهِبَةُ وَالْإِرْثُ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي وَقْفِهِ : لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ . وَيُشْبِهُ هَذَا أَنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَعَلَا الْأَرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ : كَأَرْضِ السَّوَادِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يُقَسِّمَا شَيْئًا مِمَّا فُتِحَ عَنْوَةً . وَلِمَا كَانُوا يَمْنَعُونَ مِنْ شِرَائِهَا ؛ لِئَلَّا يُقِرَّ الْمُسْلِمُ بِالصِّغَارِ - فَإِنَّ الْخَرَاجَ كَالْجِزْيَةِ أَوْ يَبْطُلُ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ - ظَنَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ مَنَعُوا بَيْعَهَا لِكَوْنِهَا وَقْفًا وَالْوَقْفُ لَا يُبَاعُ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ مَكَّةَ لَا تُبَاعُ لِكَوْنِهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً . وَهَذَا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ أَرْضَ الْخَرَاجِ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً الْمَجْعُولَةَ فَيْئًا تُوهَبُ وَتُورَثُ ؛ فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ عَمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ إلَى وَارِثِهِ وَيَهَبُهَا . وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي الْوَقْفِ . وَإِذَا بِيعَتْ لِمَنْ يَقُومُ فِيهَا مَقَامَ الْبَائِعِ وَلَمْ يُغَيِّرْ شَيْئًا : فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَعَلَّقَتْ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ بِأَعْيَانِهَا وَمَا سِوَاهَا تَعَلَّقَتْ بِجِنْسِهِ ؛ لَا بِعَيْنِهِ فَيُؤَدَّى خَرَاجُهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى مُسْتَحِقِّهَا وَلَا زَالَ حَقُّهُمْ عَنْهَا
وَالْوَقْفُ إنَّمَا مُنِعَ بَيْعُهُ لِئَلَّا يُبْطِلَ حَقَّ مُسْتَحِقِّيهِ . وَهَذِهِ يَجُوزُ فِيهَا إبْدَالُ شَخْصٍ بِشَخْصِ بِالِاتِّفَاقِ فَسَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ أَوْ غَيْرِهَا . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْوَقْفَ فِيهِ شَوْبُ التَّحْرِيرِ وَالتَّمْلِيكِ ؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمُعَيَّنِ : هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى قَبُولِهِ كَالْهِبَةِ ؛ أَوْ لَا يَفْتَقِرُ إلَى قَبُولِهِ كَالْعِتْقِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ ؛ بِخِلَافِ الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْمَسَاجِدِ . وَالْوَقْفُ عَلَى الْمُعَيَّنِ أَقْرَبُ إلَى التَّمْلِيكِ مِنْ وَقْفِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُوقَفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ ؛ وَوَقْفُ الْمَسَاجِدِ أَشْبَه بِالتَّحْرِيرِ مِنْ غَيْرِهَا ؛ فَإِنَّهَا خَالِصَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } وَالْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ كَمَا أَنَّ الْعَتِيقَ صَارَ حُرًّا أَيْ خَالِصًا لِلَّهِ . " وَالتَّحْرِيرُ " التَّخْلِيصُ مِنْ الرِّقِّ وَمِنْهُ الطِّينُ الْحُرُّ وَهُوَ الْخَالِصُ . فَالْعِتْقُ تَخْلِيصُ الْعَبْدِ لِلَّهِ . وَلِهَذَا مَنَعَ الشَّارِعُ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ مَمْلُوكِهِ حُرًّا وَبَعْضَهُ رَقِيقًا وَقَالَ : " لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ " فَإِذَا أَعْتَقَ بَعْضَهُ عَتَقَ جَمِيعُهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ } " وَكَذَلِكَ
فِي الصَّحِيحَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ . فَأَوْجَبَ تَكْمِيلَ عِتْقِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ وَأُلْزِمَ الْمُعْتَقُ بِأَنْ يُعْطِيَ شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِتَكْمِيلِ عِتْقِ الْعَبْدِ لِئَلَّا يَكُونَ لِلَّهِ شَرِيكٌ . وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِر الْأُمَّةِ وُجُوبُ تَكْمِيلِ الْعِتْقِ ؛ لَكِنْ الْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : إذَا كَانَ مُوسِرًا أُلْزِمَ بِالْعِوَضِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ؛ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالسِّعَايَةِ : بِأَنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ : اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقُولُ بِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَاخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَسَاجِدَ أَبْلَغُ الْمَوْقُوفَاتِ تَحْرِيرًا وَشَبَهًا بِالْعِتْقِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ مَنْفَعَتِهَا كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا كَمَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ أَعْتَقَ عَبْدًا مَنَافِعَهُ . وَمَعَ هَذَا فَأَحْمَدُ اتَّبَعَ الصَّحَابَةَ فِي جَوَازِ إبْدَالِ الْمَسْجِدِ بِمَسْجِدِ آخَرَ وَجَعَلَ الْمَسْجِدَ الْأَوَّلَ سُوقًا . وَجَوَّزَ إبْدَالَ الْهَدْيَ وَالْأُضْحِيَّةَ بِخَيْرِ مِنْهَا مَعَ أَنَّهَا أَيْضًا لِلَّهِ تَعَالَى يَجِبُ ذَبْحُهَا لِلَّهِ : فَلَأَنْ يَجُوزُ الْإِبْدَالُ فِي غَيْرِهَا وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى التَّمْلِيكِ أَوْلَى ؛ فَإِنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَقْبَلُ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ وَالْبَدَلِ مَا لَا يَقْبَلُهَا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تُمْنَعُ الْمُعَاوَضَةُ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ ظُلْمٌ لِغَيْرِهِ أَوْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ حَقٌّ لِلَّهِ أَوْ يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إبْدَالُ الصَّلَوَاتِ وَالْحَجِّ بِعَمَلِ آخَرَ ؛ وَلَا الْقِبْلَةِ
بِقِبْلَةِ أُخْرَى وَلَا شَهْرِ رَمَضَانَ بِشَهْرِ آخَرَ وَلَا وَقْتِ الْحَجِّ وَمَكَانِهِ بِوَقْتِ آخَرَ وَمَكَانٍ آخَرَ ؛ بَلْ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَمَّا ابْتَدَعُوا النَّسِيءَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ إبْدَالَ وَقْتِ الْحَجِّ بِوَقْتِ آخَرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ } وَالْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي بَنَتْهَا الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَشَرَعَ لِلنَّاسِ السَّفَرُ إلَيْهَا وَوَجَبَ السَّفَرُ إلَيْهَا بِالنَّذْرِ : لَا يَجُوزُ إبْدَالُ عَرْصَتِهَا بِغَيْرِهَا ؛ بَلْ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهَا وَإِبْدَالُ التَّأْلِيفِ وَالْبِنَاءِ بِغَيْرِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِلنَّذْرِ ؛ وَلَا يُسَافِرُ إلَيْهِ : فَيَجُوزُ إبْدَالُهُ لِلْمَصْلَحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى مُعَيَّنٍ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ هَلْ هُوَ مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ؟ أَوْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ ؟ أَوْ هُوَ مَلِكٌ لِلَّهِ تَعَالَى ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَد يَخْتَارُونَ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ كَالْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ . وَأَمَّا الْمَسْجِدُ وَنَحْوُهُ فَلَيْسَ مِلْكًا لِمُعَيَّنِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ : هُوَ مِلْكٌ لِلَّهِ . وَقَدْ يُقَالُ : هُوَ مِلْكٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ . لِأَنَّهُمْ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فَإِذَا جَازَ إبْدَالُ هَذَا بِخَيْرِ مِنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ إمَّا بِأَنْ يُعَوِّضَ عَنْهَا بِالْبَدَلِ ؛ وَإِمَّا أَنْ تُبَاعَ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهَا الْبَدَلُ . وَالْإِبْدَالُ كَمَا تَقَدَّمَ يُبَدِّلُ بِجِنْسِهِ بِمَا هُوَ أَنْفَع لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ
:
قَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى أَبْلَغَ مِنْ ذَلِكَ - وَهُوَ
وَقْفُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا مَعَ إبْدَالِ عَيْنِهِ - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " الشَّافِي " : نَقَلَ الميموني عَنْ أَحْمَد :
أَنَّ الدَّرَاهِمَ إذَا كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ فَفِيهَا
الصَّدَقَةُ وَإِذَا كَانَتْ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ .
قُلْت : رَجُلٌ وَقَفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي السَّبِيلِ ؟ قَالَ : إنْ كَانَتْ
لِلْمَسَاكِينِ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ . قُلْت : فَإِنْ وَقَفَهَا فِي الْكُرَاعِ
وَالسِّلَاحِ ؟ قَالَ : هَذِهِ مَسْأَلَةُ لَبْسٍ وَاشْتِبَاهٍ . قَالَ أَبُو
الْبَرَكَاتِ : وَظَاهِرُ هَذَا جَوَازُ وَقْفِ الْأَثْمَانِ لِغَرَضِ
الْقَرْضِ أَوْ التَّنْمِيَةِ وَالتَّصَدُّقِ بِالرِّبْحِ كَمَا قَدْ حَكَيْنَا
عَنْ مَالِكٍ وَالْأَنْصَارِيِّ . قَالَ : وَمَذْهَبُ مَالِكٍ صِحَّةُ وَقْفِ
الْأَثْمَانِ لِلْقَرْضِ . ذَكَرَهُ صَاحِبُ " التَّهْذِيبِ "
وَغَيْرُهُ فِي الزَّكَاةِ وَأَوْجَبُوا فِيهَا الزَّكَاةَ كَقَوْلِهِمْ فِي
الْمَاشِيَةِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ : يَجُوزُ وَقْفُ الدَّنَانِيرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا
يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا وَتُدْفَعُ مُضَارَبَةً
وَيُصْرَفُ رِبْحُهَا فِي مَصْرِفِ الْوَقْفِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَرْضَ
وَالْقِرَاضَ يَذْهَبُ عَيْنُهُ وَيَقُومُ بَدَلُهُ مَقَامَهُ وَجَعَلَ
الْمُبْدَلَ بِهِ قَائِمًا مَقَامَهُ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ
الْحَاجَةُ ضَرُورَةَ الْوَقْفِ لِذَلِكَ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ
فِي مَذْهَبِهِ فَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنَعُوا وَقْفَ الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الخرقي وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا
عَنْ أَحْمَد نَصًّا بِذَلِكَ وَلَمْ يَنْقُلْهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ إلَّا عَنْ
الخرقي وَغَيْرِهِ .
وَقَدْ تَأَوَّلَ الْقَاضِي رِوَايَةَ الميموني فَقَالَ : وَلَا يَصِحُّ وَقْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى مَا نَقَلَ الخرقي . قَالَ : قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ : الميموني إذَا وَقَفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلْمَسَاكِينِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا وَإِنْ وَقَفَهَا فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ لَبْسٍ . قَالَ : وَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا وَقْفَ الدَّرَاهِمِ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ إذَا أَوْصَى بِأَلْفِ تُنْفَقُ عَلَى أَفْرَاسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَوَقَّفَ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لِأَنَّ نَفَقَةَ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عَلَى مَنْ وَقَفَهُ فَكَأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إلَى أَيْنَ تُصْرَفُ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ إذَا كَانَ نَفَقَةُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عَلَى أَصْحَابِهِ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ وَقَفَ الْأَلْفَ لَمْ يُوصِ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَصَّى أَنْ تُنْفَقَ عَلَى خَيْلٍ وَقَفَهَا غَيْرُهُ جَازَ ذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ ؛ كَمَا لَوْ وَصَّى بِمَا يُنْفِقُ عَلَى مَسْجِدٍ بَنَاهُ غَيْرُهُ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ نَفَقَةَ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عَلَى مَنْ وَقَفَهُ . لَيْسَ بِمُسَلَّمِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ؛ بَلْ إنْ شَرَطَ لَهُ الْوَاقِفُ نَفَقَةً وَإِلَّا كَانَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَسَائِرِ مَا يُوقَفُ لِلْجِهَاتِ الْعَامَّةِ كَالْمَسَاجِدِ . وَإِذَا تَعَذَّرَ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ بِيعَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْوَاقِفِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ . وَأَحْمَد تَوَقَّفَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ ؛ لَا فِي وَقْفِهَا ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا كَانَ عَلَى جِهَةٍ خَاصَّةٍ : كَبَنِي فُلَانٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ فِي عَيْنِهِ . فَلَوْ وَقَفَ أَرْبَعِينَ شَاةً عَلَى بَنِي فُلَانٍ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . قَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِيمَنْ وَقَفَ أَرْضًا أَوْ غَنَمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ : لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَلَا عُشْرَ : هَذَا فِي السَّبِيلِ ؛ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا جَعَلَهُ فِي قَرَابَتِهِ
وَلِهَذَا
قَالَ أَصْحَابُهُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لِرَقَبَةِ
الْوَقْفِ . وَجَعَلُوا ذَلِكَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَفِي مَذْهَبِهِ
قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي عَيْنِ الْوَقْفِ ؛ لِقُصُورِ ذَلِكَ . وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي فِي "
الْمُجَرَّدِ " وَابْنُ عَقِيلٍ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا مَا وَقَفَهُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ : كَالْجِهَادِ
وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ فِي مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا مَالِكٍ فَيُوجِبُ فِيهِ الزَّكَاةَ . فَتَوَقَّفَ
أَحْمَد فِيمَا وَقْف فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا اشْتِبَاهًا ؛
لِأَنَّ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ قَدْ يُعَيِّنُهُ لِقَوْمِ بِعَيْنِهِمْ : إمَّا
لِأَوْلَادِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ ؛ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَامٌ لَا يَعْتَقِبُهُ
التَّخْصِيصُ .
فَصْلٌ
:
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ
وَصَّى بِفَرَسِ وَسَرْجٍ وَلِجَامٍ مُفَضَّضٍ : يُوقَفُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
حَبِيسٌ فَهُوَ عَلَى مَا وَقَفَ وَأَوْصَى وَإِنْ بِيعَ الْفِضَّةُ مِنْ
السَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَجُعِلَ فِي وَقْفِ مِثْلِهِ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ ؛
لِأَنَّ الْفِضَّةَ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا وَلَعَلَّهُ يُشْتَرَى بِتِلْكَ
الْفِضَّةِ سَرْجٌ وَلِجَامٌ فَيَكُونُ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ . فَقِيلَ لَهُ :
تُبَاعُ الْفِضَّةُ وَتُصْرَفُ فِي نَفَقَةِ الْفَرَسِ ؟ قَالَ : لَا . وَهَذَا
مِمَّا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ
وَالْقَاضِي وَأَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي وَغَيْرُهُمْ . فَقَدْ صَرَّحَ أَحْمَد
بِأَنَّ الْفَرَسَ وَاللِّجَامَ الْمُفَضَّضَ هُوَ عَلَى مَا وَقَفَ وَأَوْصَى
وَأَنَّهُ إنْ بِيعَتْ الْفِضَّةُ مِنْ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَجُعِلَ فِي
وَقْفِ مِثْلِهِ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيْهِ . قَالَ : لِأَنَّ الْفِضَّةَ لَا
يُنْتَفَعُ بِهَا وَلَعَلَّهُ يُشْتَرَى بِتِلْكَ الْفِضَّةِ سَرْجٌ وَلِجَامٌ
فَيَكُونُ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ . فَخُيِّرَ بَيْنَ إبْقَاءِ الْحِلْيَةِ
الْمَوْقُوفَةِ وَقْفًا وَبَيْنَ
أَنْ تُبَاعَ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهَا مَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ سَرْجٍ وَلِجَامٍ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَفْضَلَ الْأَمْرَيْنِ . وَقَوْلُهُ : لِأَنَّ الْفِضَّةَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا . لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ بِهَا بِحَالِ ؛ فَإِنَّ التَّخَلِّيَ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ مَنْ يَصُوغُ الْحِلْيَةَ الْمُبَاحَةَ وَلَوْ أَتْلَفَ مُتْلِفٌ الصِّيَاغَةَ الْمُبَاحَةَ ضَمِنَ ذَلِكَ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَنْفَعَةٌ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا وَلَا ضَمِنَتْ بِالْإِتْلَافِ ؛ بَلْ أَرَادَ نَفْيَ كَمَالِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا يُقَالُ هَذَا لَا يَنْفَعُ . يُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ مَنْفَعَةً تَامَّةً . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهَا مَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كِلَاهُمَا سَائِغٌ وَالثَّانِي أَنْفَعُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ بِحَالِ لَمْ يَصِحَّ وَقْفُهُ ؛ فَإِنَّ وَقْفَ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لَا يَجُوزُ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَمْرَيْنِ أَنْ يُبَاعَ الْوَقْفُ وَيُبَدَّلَ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ إبْقَائِهِ وَقْفًا ؛ لِأَنَّهُ أَصْلَحُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجِبْ الْإِبْدَالَ . وَقَوْلُهُ : فَهُوَ عَلَى مَا وَقَفَ وَأَوْصَى . يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا حُكْمُ مَا وَقَفَهُ وَمَا وَصَّى بِوَقْفِهِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا هِيَ فِيمَنْ وَصَّى بِوَقْفِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُ شَرْطِهِ فِيمَا وَصَّى بِوَقْفِهِ ؛ كَمَا يَجِبُ فِيمَا وَقَفَهُ كَمَا يَجِبُ اتِّبَاعُ كَلَامِهِ فِيمَا وَصَّى بِعِتْقِهِ كَمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِيمَا أَعْتَقَهُ ؛ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوقِفَ وَيُعْتِقَ غَيْرَ مَا أَوْصَى بِوَقْفِهِ وَعِتْقِهِ ؛ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْمَوْقُوفَ وَالْمُعْتَقَ غَيْرَ مَا وَقَفَهُ وَأَعْتَقَهُ . فَجَوَازُ الْإِبْدَالِ فِي أَحَدِهِمَا كَجَوَازِهِ فِي الْآخَرِ . وَقَدْ عَلَّلَ اسْتِحْبَابَهُ لِلْإِبْدَالِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْبَدَلِ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الزِّينَةِ .
وَنَظِيرُ هَذَا إذَا وَقَفَ مَا هُوَ مُزَيَّنٌ بِنُقُوشِ وَرُخَامٍ وَخَشَبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ ثَمَنُهُ مُرْتَفِعًا لِزِينَتِهِ ؛ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا هُوَ أَنْفَعُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ . فَالِاعْتِبَارُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ ؛ وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْفِضَّةُ أَنْفَعَ لِمُشْتَرِيهَا وَهَذَا لِأَنَّ انْتِفَاعَ الْمَالِكِ غَيْرُ انْتِفَاعِ أَهْلِ الْوَقْفِ ؛ وَلِهَذَا يُبَاعُ الْوَقْفُ الْخَرِبُ لِتَعَطُّلِ نَفْعِهِ ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لَكِنْ تَعَطَّلَ نَفْعُهُ عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ وَلَمْ يَتَعَطَّلْ عَلَى الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْوَقْفِ مَقْصُودُهُمْ الِاسْتِغْلَالَ أَوْ السُّكْنَى . وَهَذَا يَتَعَذَّرُ فِي الْخَرَابِ وَالْمَالِكُ يَشْتَرِيه فَيَعْمُرُهُ بِمَالِهِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ مَذْهَبُ أَحْمَد فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحِلْيَةِ . عَلَى قَوْلَيْنِ كَحِلْيَةِ الْخُوذَةِ وَالْجَوْشَنِ وَحَمَائِلِ السَّيْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ لِبَاسِ الْجِهَادِ ؛ فَإِنَّ لِبَاسَ خَيْلِ الْجِهَادِ كَلِبَاسِ الْمُجَاهِدِينَ . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ لِبَاسِ الْخَيْلِ بِالْفِضَّةِ : كَالسَّرْجِ وَاللِّجَامِ ؛ فَإِنَّهُ جَوَّزَ وَقْفَ ذَلِكَ . وَجَعَلَ بَيْعَهُ وَصَرْفَ ثَمَنِهِ فِي وَقْفِ مِثْلِهِ أَحَبَّ إلَيْهِ ؛ وَلَوْ لَمْ يَبُحْ ذَلِكَ لَمْ يُخَيَّرْ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَبْطَلَ الْوَقْفَ فِي الْفِضَّةِ الَّتِي عَلَى اللِّجَامِ وَالسَّرْجِ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِذَلِكَ مُحَرَّمٌ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحُلِيُّ الَّذِي اسْتِعْمَالُهُ مُبَاحٌ وَأَجَازَ صَرْفَ ذَلِكَ فِي جِنْسِ مَا وَقَفَهُ مِنْ السُّرُوجِ وَاللُّجُمِ وَمَنَعَ مَنْ صَرَفَهُ فِي نَفَقَةِ الْفَرَسِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْوَقْفِ . وَالْقَاضِي بَنَى هَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحِلْيَةَ مُحَرَّمَةٌ . وَأَنَّهُ إذَا وَقَفَ مَا يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِهِ مَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ . فَيُوقَفُ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ مُقْتَضَى عَقْدِ الْوَقْفِ جَوَازُ الْإِبْدَالِ لِلْمَصْلَحَةِ لَمْ يَجُزْ هَذَا . كَمَا أَنَّهُ فِي الْبَيْعِ
وَالنِّكَاحِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ جَوَازَ الْإِبْدَالِ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُ مَا لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ . وَلَا نِكَاحُ مَنْ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا . وَهَذَا يُشْبِهُ مَا لَوْ أَهْدَى مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا ؛ فَإِنَّهُ يُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يَكُونُ هَدْيًا وَكَذَلِكَ فِي الْأُضْحِيَّةِ . وَكَلَامُ أَحْمَد يَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى ؛ لَا عَلَى الثَّانِيَةِ . وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَبَاحَ أَحْمَد أَنْ يُشْتَرَى بِفِضَّةِ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ سَرْجًا وَلِجَامًا ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ لَهُمَا فِي جِنْسِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِمَا فِيهِ . فَأَشْبَهَ الْفَرَسَ الْحَبِيسَ إذَا عَطِبَ فَلَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ فِي الْجِهَادِ جَازَ بَيْعُهُ وَصَرْفُ ثَمَنِهِ فِي مِثْلِهِ . قَالَ : وَلَمْ يَجُزْ إنْفَاقُهَا عَلَى الْفَرَسِ لِأَنَّهُ صَرَفَ لَهَا إلَى غَيْرِ جِهَتِهَا . وَأَبُو مُحَمَّدٍ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعَطُّلِ النَّفْعِ بِالْكُلِّيَّةِ كَعَطَبِ الْفَرَسِ وَخَرَابِ الْوَقْفِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا إذَا تَعَطَّلَ نَفْعُهُ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْفَ الْحِلْيَةِ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ الخرقي وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا . وَالْقَاضِي يَجْعَلُ الْمَذْهَبَ قَوْلًا وَاحِدًا فِي صِحَّةِ وَقْفِهِ . وَأَمَّا أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ فَيَجْعَلُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا ؛ بَلْ وَيَذْكُرُونَ النُّصُوصَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ . بِحَسَبِ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ نَصِّهِ . قَالَ الْقَاضِي : فَإِنْ وَقَفَ الْحُلِيَّ عَلَى الْإِعَارَةِ وَاللُّبْسِ ؟ فَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَحَنْبَلٍ : لَا يَصِحُّ وَأَنْكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي يُرْوَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ فِي وَقْفِهِ . قَالَ الْقَاضِي : وَظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الخرقي جَوَازُ وَقْفِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ . وَقَوْلُهُ : لَا يَصِحُّ . يَعْنِي لَا يَصِحُّ الْحَدِيثُ
فِيهِ
؛ وَلَمْ يَقْصِدْ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ فِيهِ . وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَأَمَّا وَقْفُ الْحُلِيِّ عَلَى
الْإِعَارَةِ وَاللُّبْسِ فَجَائِزٌ عَلَى ظَاهِرِ مَا نَقَلَهُ الخرقي . وَنَقَلَ
عَنْهُ الْأَثْرَمُ وَحَنْبَلٌ . أَنَّهُ لَا يَصِحُّ . وَتَجْوِيزُهُ لِوَقْفِ
السَّرْجِ وَاللِّجَامِ الْمُفَضَّضِ يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ الخرقي ؛ لَكِنْ
إبْدَالُهُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ أَفْضَلُ عِنْدَهُ أَنْ
يُشْتَرَى بِالْحِلْيَةِ سَرْجٌ وَلِجَامٌ .
فَصْلٌ
:
وَنُصُوصُ أَحْمَد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاخْتِيَارُ
جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ جَوَازُ إبْدَالِ " الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ "
بِخَيْرٍ مِنْهَا . قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي الرَّجُلِ
يَشْتَرِي الْأُضْحِيَّةَ يُسَمِّنُهَا لِلْأَضْحَى ؟ يُبَدِّلُهَا بِمَا هُوَ
خَيْرٌ مِنْهَا ؛ لَا يُبَدِّلُهَا بِهَا هُوَ دُونَهَا . فَقِيلَ لَهُ : فَإِنْ
أَبْدَلَهَا بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا يَبِيعُهَا ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ
الْقَاضِي : وَقَدْ أُطْلِقَ الْقَوْلُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَابْنِ مَنْصُورٍ
وَعَبْدِ اللَّهِ بِجَوَازِ أَنْ تُبَدَّلَ الْأُضْحِيَّةُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ
مِنْهَا . قَالَ : وَرَأَيْت فِي مَسَائِلِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ : إذَا
سَمَّاهَا لَا يَبِيعُهَا إلَّا لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا . وَهَاتَانِ
الرِّوَايَتَانِ عَنْهُ كَالرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ : هَلْ يُبَاعُ
أَوْ تُنْقَلُ آلَتُهُ لِخَيْرِ مِنْهُ ؟ كَذَلِكَ هُنَا : مَنَعَ فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهَا بَدَلًا
إلَّا إذَا كَانَتْ يُضَحَّى بِهَا ؛ لِتَعَلُّقِ حُرْمَةِ التَّضْحِيَةِ بِعَيْنِهَا . وَقَالَ الخرقي : وَيَجُوزُ أَنْ تُبَدَّلَ الْأُضْحِيَّةُ إذَا أَوْجَبَهَا بِخَيْرِ مِنْهَا . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي : " التَّعْلِيقِ " إذَا أَوْجَبَ بَدَنَةً جَازَ بَيْعُهَا ؛ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ مَكَانَهَا ؛ فَإِنْ لَمْ يُوجِبْ مَكَانَهَا حَتَّى زَادَتْ فِي بَدَنٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ وَلَدَتْ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُهَا زَائِدَةً وَمِثْلُ وَلَدِهَا وَلَوْ أَوْجَبَ مَكَانَهَا قَبْلَ الزِّيَادَةِ وَالْوَلَدُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الزِّيَادَةِ . وَلَمْ أَعْلَمْ فِي أَصْحَابِ أَحْمَد مَنْ خَالَفَ فِي هَذَا ؛ إلَّا أَبَا الْخَطَّابِ ؛ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إبْدَالُهَا . وَقَالَ : إذَا نَذَرَ أُضْحِيَّةً وَعَيَّنَهَا زَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا ؛ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِبَيْعِ وَلَا إبْدَالٍ ؛ وَكَذَلِكَ إذَا نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ أَوْ دَرَاهِمَ مُعِينَةً . وَقَالَ هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ عِنْدِي ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ يَجْرِي مَجْرَى النَّصِّ فِي النَّذْرِ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ ؛ لِأَنَّ أَحْمَد قَدْ نَصَّ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ فِيمَنْ نَذَرَ أُضْحِيَّةً بِعَيْنِهَا فَأَعْوَرَتْ أَوْ أَصَابَهَا عَيْبٌ : تَجْزِيه وَلَوْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ لَمْ تُجْزِهِ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ صَحِيحَةٌ ؛ كَمَا لَوْ نَذَرَ أُضْحِيَّةً مُطْلَقَةً . قَالَ : وَكَذَلِكَ نَصَّ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِي الْهَدْيِ إذَا عَطِبَ فِي الْحَرَمِ : فَقَدْ أَجْزَأَ عَنْهُ ؛ وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ وَوَجَبَ بَدَلُهُ . وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ . فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْت . وَأَبُو الْخَطَّابِ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِلْكَهُ زَالَ عَنْهَا ؛ فَلَا يَجُوزُ الْإِبْدَالُ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَالشَّافِعِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُونَ إبْدَالَهَا بِخَيْرِ مِنْهَا . وَبَنَى أَصْحَابُهُ ذَلِكَ هُمْ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَمُوَافِقُوهُ عَلَى أَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهَا . وَالنِّزَاعُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي هَذَا الْأَصْلِ . وَأَحْمَد وَفُقَهَاءُ أَصْحَابِهِ
لَا يَحْتَاجُونَ أَنْ يَبْنُوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ . وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي النَّذْرِ ؛ أَنَّهُ إذَا نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ ؛ وَإِنَّمَا تَرَكْنَاهُ لِلشَّرْعِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } " فَقِيلَ لَهُ : فَلَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى جَازَ لَهُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؟ فَقَالَ : إنْ لَمْ يَصِحَّ الْخَبَرُ بِذَلِكَ لَمْ نُسَلِّمْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ كَمَا أَنَّهُ خِلَافُ نُصُوصِ أَحْمَد وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ فَهُوَ خِلَافُ سَائِرِ أُصُولِهِ ؛ فَإِنَّ جَوَازَ الْإِبْدَالِ عِنْدَ أَحْمَد لَا يَفْتَقِرُ إلَى كَوْنِ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ ؛ بَلْ وَلَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ فِي جَوَازِ الْإِبْدَالِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ فَعَيَّنَهُ لَمْ يَجُزْ إبْدَالُهُ بِلَا رَيْبٍ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ ؛ بَلْ وَيَقُولُ : خَرَجَتْ الْأُضْحِيَّةُ عَنْ مِلْكِهِ ؛ وَيَجُوزُ إبْدَالُهَا بِخَيْرِ مِنْهَا ؛ كَمَا نَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ وَكَمَا نَقُولُ بِجَوَازِ الْإِبْدَالِ فِي الْمَنْذُورَاتِ ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَذَبْحُ الْأَفْضَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ هَذَا كَإِبْدَالِ الْمَنْذُورِ بِخَيْرِ مِنْهُ وَذَلِكَ خَيْرٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ ؛ بِخِلَافِ الْعِتْقِ ؛ فَإِنَّ مُسْتَحَقَّهُ هُوَ الْعَبْدُ فَبَطَلَ حَقُّهُ بِالْإِبْدَالِ . وَالنِّزَاعُ فِي كَوْنِ الْأُضْحِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ بِالنَّذْرِ ثَابِتَةً عَلَى مِلْكِهِ أَوْ خَارِجَةً عَنْ مِلْكِهِ إلَى اللَّهِ يُشْبِهُ النِّزَاعَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْجِهَةِ الْعَامَّةِ . وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالْجُمْهُورِ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا مِلْكٌ لِلَّهِ . وَقَدْ يُقَالُ : لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُتَصَرِّفِ فِيهِ بِالتَّحْوِيلِ هُمْ الْمُسْلِمُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ ؛ لَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ
وَكَذَلِكَ الْهَدْيُ وَالْأُضْحِيَّةُ الْمُعَيَّنُ بِالنَّذْرِ إذَا قِيلَ إنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ ؛ فَإِنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالذَّبْحِ وَالتَّفْرِيقِ فَكَذَلِكَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْإِبْدَالِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ فَإِنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ ثَمَنَهُ يَشْتَرِي بِهِ بَدَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ . فَكَوْنُهُ خَارِجًا عَنْ مِلْكِهِ لَا يُنَاقِضُ جَوَازَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِوِلَايَةِ شَرْعِيَّةٍ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : يَمْلِكُهُ صَاحِبُهُ أَوْ لَا يَمْلِكُهُ . فِي ذَلِكَ وَفِي نَظَائِرِهِ ؟ كَقَوْلِهِ : الْعَبْدُ يَمْلِكُ أَوْ لَا يَمْلِكُ وَأَهْلُ الْحَرْبِ هَلْ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لَا يَمْلِكُونَهَا وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ هَلْ يَمْلِكُ الْوَقْفَ أَوْ لَا يَمْلِكُهُ ؟ إنَّمَا نَشَأَ فِيهَا النِّزَاعُ بِسَبَبِ ظَنِّ كَوْنِ الْمِلْكِ جِنْسًا وَاحِدًا تَتَمَاثَلُ أَنْوَاعُهُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ الْمِلْكُ هُوَ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالشَّارِعُ قَدْ يَأْذَنُ لِلْإِنْسَانِ فِي تَصَرُّفٍ دُونَ تَصَرُّفٍ وَيَمْلِكُهُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ دُونَ هَذَا فَيَكُونُ مَالِكًا مِلْكًا خَاصًّا ؛ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ مِلْكِ الْوَارِثِ ؛ وَلَا مِلْكُ الْوَارِثِ كَمِلْكِ الْمُشْتَرِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ بَلْ قَدْ يَفْتَرِقَانِ . وَكَذَلِكَ مِلْكُ النَّهْبِ وَالْغَنَائِمِ وَنَحْوِهِمَا قَدْ خَالَفَ مِلْكَ الْمُبْتَاعِ وَالْوَارِثِ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ يَمْلِكُ الْأُضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ . إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَمْلِكُهَا كَمَا يَمْلِكُ الْمُبْتَاعَ ؛ بِحَيْثُ يَبِيعُهَا وَيَأْخُذُ ثَمَنَهَا لِنَفْسِهِ وَيَهَبُهَا لِمَنْ يَشَاءُ وَتُورَثُ عَنْهُ مِلْكًا فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ بِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ أَنَّهُ انْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ فِيهَا كَمَا يَنْقَطِعُ التَّصَرُّفُ بِالرِّقِّ أَوْ الْبَيْعِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ لَهُ فِيهَا مِلْكٌ خَاصٌّ وَهُوَ مِلْكُهُ أَنْ يَحْفَظَهَا وَيَذْبَحَهَا وَيُقَسِّمَ لَحْمَهَا وَيَهْدِيَ وَيَتَصَدَّقَ وَيَأْكُلَ . وَهَذَا الَّذِي يَمْلِكُهُ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ لَا يَمْلِكُهُ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ غَيْرُهُ .
فَصْلٌ
:
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ :
أَحَدُهَا : مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "
{ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ
لَنَقَضْت الْكَعْبَةَ وَلَأَلْصَقْتهَا بِالْأَرْضِ وَلَجَعَلْت لَهَا بَابَيْنِ
: بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ } "
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَعْبَةَ أَفْضَلُ وَقْفٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَلَوْ
كَانَ تَغْيِيرُهَا وَإِبْدَالُهَا بِمَا وَصَفَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَاجِبًا لَمْ يَتْرُكْهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا وَأَنَّهُ
كَانَ أَصْلَحَ لَوْلَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ حَدَثَانِ عَهْدِ قُرَيْشٍ
بِالْإِسْلَامِ . وَهَذَا فِيهِ تَبْدِيلُ بِنَائِهَا بِبِنَاءِ آخَرَ . فَعُلِمَ
أَنَّ هَذَا جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ ؟ وَتَبْدِيلُ التَّأْلِيفِ بِتَأْلِيفِ
آخَرَ هُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْإِبْدَالِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ
وَعُثْمَانَ غَيَّرَا بِنَاءَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَّا عُمَرَ فَبَنَاهُ بِنَظِيرِ بِنَائِهِ الْأَوَّلِ بِاللَّبَنِ
وَالْجُذُوعِ وَأَمَّا عُثْمَانَ فَبَنَاهُ بِمَادَّةِ أَعْلَى مِنْ تِلْكَ
كَالسَّاجِ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَاللَّبِن وَالْجُذُوعُ الَّتِي كَانَتْ وَقْفًا
أَبْدَلَهَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بِغَيْرِهَا . وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا
يَشْتَهِرُ مِنْ الْقَضَايَا وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ
إبْدَالِ الْبِنَاءِ بِبِنَاءِ وَإِبْدَالِ الْعَرْصَةِ بِعَرْصَةِ : إذَا
اقْتَضَتْ الْمَصْلَحَةُ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا أَبْدَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
مَسْجِدَ الْكُوفَةِ بِمَسْجِدِ آخَرَ : أَبْدَلَ نَفْسَ الْعَرْصَةِ
وَصَارَتْ الْعَرْصَةُ الْأُولَى سُوقًا لِلتَّمَارِينِ . فَصَارَتْ الْعَرْصَةُ سُوقًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَسْجِدًا . وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ فِي إبْدَالِ الْوَقْفِ لِلْمَصْلَحَةِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَوَّزَ إبْدَالَ الْمَنْذُورِ بِخَيْرٍ مِنْهُ . فَفِي الْمُسْنَدِ مُسْنَدِ أَحْمَد وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد قَالَ أَبُو دَاوُد : ثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ ثَنَا حَمَّادٌ يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ أَنَا حَبِيبُ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ رَجُلًا قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنِّي نَذَرْت إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْك مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ : مَرَّةً رَكْعَتَيْنِ قَالَ : صَلِّ هَاهُنَا ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ : صَلِّ هَاهُنَا ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ ؛ قَالَ : فَشَأْنُك إذَا } قَالَ أَبُو دَاوُد : وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلِهَذَا فِي السُّنَنِ طَرِيقٌ ثَالِثٌ رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد . عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو دَاوُد : ثَنَا (1) بْنُ خَالِدٍ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ وَثَنًا عَبَّاسٌ العنبري ثَنَا رَوْحٌ عَنْ ابْنِ جريج أَنَا يُوسُفُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ : أَنَّهُ سَمِعَ حَفْصَ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْخَبَرِ زَادَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَوْ صَلَّيْت هَاهُنَا لَأَجْزَأَ عَنْك صَلَاةً فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ } " قَالَ أَبُو دَاوُد رَوَاهُ الْأَنْصَارُ عَنْ ابْنِ جريج . قَالَ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حِنَّةَ : وَقَالَ عُمَرُ : أَخْبَرَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَفِي الْمُسْنَدِ وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ امْرَأَةً شَكَتْ شَكْوَى فَقَالَتْ : إنْ شَفَانِي اللَّهُ فَلَأَخْرُجَن فَلَأُصَلِّيَن فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَبَرَأَتْ ثُمَّ تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ فَجَاءَتْ مَيْمُونَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهَا وَأَخْبَرَتْهَا بِذَلِكَ فَقَالَتْ اجْلِسِي وَكُلِي مَا صَنَعْت وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : صَلَاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ } " . وَهَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا وَأَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ : قَالُوا : إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَجْزَأَهُ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْزَأَهُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ تُجْزِهِ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ وَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَتَعَيَّنُ شَيْءٌ لِلصَّلَاةِ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا يَلْزَمُهُ بِلَا نِزَاعٍ . وَأَبُو حَنِيفَةَ بَنَى هَذَا عَلَى أَصْلِهِ ؛ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ . وَأَمَّا مَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ فَيُوجِبُونَ بِالنَّذْرِ مَا كَانَ طَاعَةً ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِنْسُهُ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } " . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " صَلِّ هَاهُنَا " وَقَالَ : { لَوْ صَلَّيْت هُنَا لَأَجْزَأَ عَنْك صَلَاةً - أَوْ كُلَّ صَلَاةٍ - فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ } " فَخَصَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَمْ يَقُلْ : صَلِّ حَيْثُ شِئْت وَقَالَ : " { لَوْ صَلَّيْت هَاهُنَا لَأَجْزَأَ عَنْك صَلَاةً فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ } " فَجَعَلَ الْمُجْزَى عَنْهُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَفْضَلِ ؛ لَا فِي كُلِّ مَكَانٍ . فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْهُ إلَى الْبَدَلِ إلَّا لِفَضْلِهِ ؛ لَا لِكَوْنِ الصَّلَاةِ لَمْ تَتَعَيَّنْ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ تَفْضِيلُ مَسْجِدِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَفِي السُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ تَفْضِيلُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى مَسْجِدِهِ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } " وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ : " { إنَّمَا يُسَافِرُ إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } " . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ إلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِرٌّ وَقُرْبَةٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ ؛ وَلِهَذَا أَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْأَقْصَى مَعَ أَمْرِهِ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْبَارِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَجْزِيه فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَ عَيْنَ الْمَنْذُورِ وَأَنْ يَفْعَلَ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّذْرَ يُوجِبُ عَلَيْهِ مَا نَذَرَهُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الطَّاعَةِ ؛ لِقَوْلِهِ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ } وَهُوَ أَمْرٌ أَوْجَبَهُ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَجِبْ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً
ثُمَّ إنَّ الشَّارِعَ بَيَّنَ أَنَّ الْبَدَلَ الْأَفْضَلَ يَقُومُ مَقَامَ هَذَا وَالْأُضْحِيَّةُ وَالْهَدْيُ الْمُعَيَّنُ وُجُوبُهُ مِنْ جِنْسِ وُجُوبِ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إبْدَالَهُ بِخَيْرِ مِنْهُ أَفْضَلُ مِنْ ذَبْحِهِ بِعَيْنِهِ : كَالْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ فِي الذِّمَّةِ ؛ كَمَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ فَأَدَّى بِنْتَ لَبُونٍ ؛ أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَأَدَّى حِقَّةً وَفِي ذَلِكَ حَدِيثٌ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ إذَا أَدَّى أَفْضَلَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهِ . قَالَ أَبُو دَاوُد : ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ ثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ثَنَا أَبِي عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زرارة عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ { أبي بْنِ كَعْبٍ قَالَ : بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقًا فَمَرَرْت بِرَجُلِ فَلَمَّا جَمَعَ لِي مَالَهُ لَمْ أَجِدْ عَلَيْهِ فِيهِ إلَّا بِنْتَ مَخَاضٍ فَقُلْت لَهُ أَدِّ بِنْتَ مَخَاضٍ ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَتُك . فَقَالَ : ذَاكَ مَا لَا لَبَنَ فِيهِ وَلَا ظَهْرَ ؛ وَلَكِنْ هَذِهِ نَاقَةٌ فَتِيَّةٌ عَظِيمَةٌ سَمِينَةٌ فَخُذْهَا . فَقُلْت لَهُ : مَا أَنَا بِآخِذِ مَا لَمْ أُومِرَ بِهِ وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك قَرِيبٌ فَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ تَأْتِيَهُ فَتَعْرِضَ عَلَيْهِ مَا عَرَضْت عَلَيَّ فَافْعَلْ فَإِنْ قَبِلَهُ مِنْك قَبِلْته وَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْك رَدَّدْته . قَالَ . فَإِنِّي فَاعِلٌ فَخَرَجَ مَعِي وَخَرَجَ بِالنَّاقَةِ الَّتِي عَرَضَ عَلَيَّ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتَانِي رَسُولُك لِيَأْخُذَ مِنْ صَدَقَةِ مَالِي وَاَيْمُ اللَّهِ مَا قَامَ فِي مَالِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رَسُولُهُ قَطُّ قَبْلَهُ فَجَمَعْت لَهُ مَالِي فَزَعَمَ أَنَّ مَا عَلَيَّ إلَّا بِنْتُ مَخَاضٍ وَذَلِكَ
مَا
لَا لَبَنَ فِيهِ وَلَا ظَهْرَ وَقَدْ عَرَضْت عَلَيْهِ نَاقَةً فَتِيَّةً عَظِيمَةً
لِيَأْخُذَهَا فَأَبَى عَلَيَّ وَهَا هِيَ هَذِهِ قَدْ جِئْتُك بِهَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ . خُذْهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَلِكَ الَّذِي عَلَيْك فَإِنْ تَطَوَّعْت بِخَيْرِ آجَرَك اللَّهُ فِيهِ
وَقَبِلْنَاهُ مِنْك قَالَ : فَهَا هِيَ ذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ جِئْتُك
بِهَا فَخُذْهَا قَالَ : فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِقَبْضِهَا وَدَعَا لَهُ فِي مَالِهِ بِالْبَرَكَةِ } وَمَا فِي هَذَا
الْحَدِيثِ مِنْ إجْزَاءِ سِنٍّ أَعْلَى مِنْ الْوَاجِبِ مَذْهَبُ عَامَّةِ أَهْلِ
الْعِلْمِ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَغَيْرِهِمْ . فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ
إبْدَالَ الْوَاجِبِ بِخَيْرِ مِنْهُ جَائِزٌ بَلْ يُسْتَحَبُّ فِيمَا وَجَبَ
بِإِيجَابِ الشَّرْعِ وَبِإِيجَابِ الْعَبْدِ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَاجِبِ
فِي الذِّمَّةِ وَمَا أَوْجَبَهُ مُعَيَّنًا فَإِنَّمَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ
وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّهُ مَخْصُوصٌ مُتَمَيِّزٌ عَنْ
غَيْرِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إبْدَالُهُ بِدُونِهِ بِلَا رَيْبٍ . وَعَلَى هَذَا فَلَوْ نَذَرَ أَنْ
يَقِفَ شَيْئًا فَوَقَفَ خَيْرًا مِنْهُ كَانَ أَفْضَلَ فَلَوْ نَذَرَ أَنْ
يَبْنِيَ لِلَّهِ مَسْجِدًا وَصَفَهُ أَوْ يَقِفَ وَقْفًا وَصَفَهُ . فَبَنَى
مَسْجِدًا خَيْرًا مِنْهُ وَوَقَفَ وَقْفًا خَيْرًا مِنْهُ كَانَ أَفْضَلَ .
وَلَوْ عَيَّنَهُ فَقَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَبْنِيَ هَذِهِ الدَّارَ
مَسْجِدًا أَوْ وَقْفُهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ . فَبَنَى خَيْرًا
مِنْهَا وَوَقَفَ خَيْرًا مِنْهَا . كَانَ أَفْضَلَ : كَاَلَّذِي نَذَرَ
الصَّلَاةَ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ
كَانَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ فَأَدَّى خَيْرًا مِنْهَا .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَاجِبِ
الْمُقَدَّرِ إذَا زَادَهُ : كَصَدَقَةِ الْفِطَرِ إذَا أَخْرَجَ أَكْثَرَ مِنْ صَاعٍ .
فَجَوَّزَهُ أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَحْمَد
وَغَيْرِهِمْ
. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةَ ذَلِكَ . وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي
الصِّفَةِ فَاتَّفَقُوا عَلَيْهَا وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ ؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ - وَهُوَ فِي
كُتُبِ الْحَدِيثِ الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ -
أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَوْجَبَ رَمَضَانَ كَانَ الْمُقِيمُ مُخَيَّرًا بَيْنَ
الصَّوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يُطْعِمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا . فَكَانَ الْوَاجِبُ
هُوَ إطْعَامُ الْمِسْكِينِ وَنَدَبَ سُبْحَانَهُ إلَى إطْعَامِ أَكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ } ثُمَّ قَالَ : { وَأَنْ
تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } فَلَمَّا كَانُوا مُخَيَّرِينَ كَانُوا عَلَى ثَلَاثِ
دَرَجَاتٍ : أَعْلَاهَا الصَّوْمُ وَيَلِيهِ أَنْ يُطْعِمَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَكْثَرَ
مِنْ مِسْكِينٍ وَأَدْنَاهَا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى إطْعَامِ مِسْكِينٍ . ثُمَّ
إنَّ اللَّهَ حَتَّمَ الصَّوْمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَسْقَطَ التَّخْيِيرَ فِي الثَّلَاثَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد : ثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِي . ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ
أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ عَنْ جَهْمِ بْنِ الْجَارُودِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ : قَالَ {
أَهْدَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
نَجِيبَةً فَأَعْطَى بِهَا ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ ؛ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَهْدَيْت
نَجِيبَةً فَأَعْطَيْت بِهَا ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ أَفَأَبِيعُهَا وَأَشْتَرِي
بِثَمَنِهَا بُدْنًا ؟ قَالَ : لَا . انْحَرْهَا إيَّاهَا } فَقَدْ نَهَاهُ عَنْ بَيْعِهَا
وَأَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا بُدْنًا ؟
قِيلَ : هَذِهِ الْقَضِيَّةُ - بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهَا - قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ ؛ لَيْسَ فِيهَا لَفْظٌ عَامٌّ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ الْإِبْدَالِ مُطْلَقًا وَنَحْنُ لَمْ نُجَوِّزْ الْإِبْدَالَ مُطْلَقًا . وَلَا يُجَوِّزُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِدُونِ الْأَصْلِ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْبَدَلَ كَانَ خَيْرًا مِنْ الْأَصْلِ ؛ بَلْ ظَاهِرُهُ أَنَّهَا كَانَتْ أَفْضَلَ . فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { سُئِلَ : أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } وَقَدْ قِيلَ : مِنْ تَعْظِيمِهَا اسْتِحْسَانُهَا وَاسْتِسْمَانُهَا وَالْمُغَالَاةُ فِي أَثْمَانِهَا . وَهَذِهِ النَّجِيبَةُ كَانَتْ نَفِيسَةً ؛ وَلِهَذَا بُذِلَ فِيهَا ثَمَنٌ كَثِيرٌ فَكَانَ إهْدَاؤُهَا إلَى اللَّهِ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يُهْدَى بِثَمَنِهَا عَدَدٌ دُونَهَا وَالْمَلِكُ الْعَظِيمُ قَدْ يُهْدَى لَهُ فَرَسٌ نَفِيسَةٌ فَتَكُونُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ عِدَّةِ أَفْرَاسٍ بِثَمَنِهَا فَالْفَضْلُ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ فَقَطْ بَلْ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فَمَا كَانَ أَحَبَّ إلَى الْمَرْءِ إذَا تَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقِيمَةِ ؛ فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ وَالْأُضْحِيَّةَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ ؛ لَيْسَتْ كَالصَّدَقَةِ الْمَحْضَةِ ؛ بَلْ إذَا ذَبَحَ النَّفِيسَ مِنْ مَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : لَا يَهْدِي أَحَدُكُمْ لِلَّهِ تَعَالَى مَا يَسْتَحِي أَنْ يَهْدِيَهُ لِكَرِيمِهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } وَقَدْ قَرَّبَ ابْنَا آدَمَ قُرْبَانًا فَتُقَبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمَا قَرَّبَ نَفِيسَ مَالِهِ وَالْآخَرَ قَرَّبَ الدُّونَ مِنْ مَالِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ الْوَاقِف وَالنَّاذِر يُوقِفُ شَيْئًا ؛ ثُمَّ
يَرَى غَيْرَهُ أَحَظَّ لِمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْهُ هَلْ يَجُوزُ إبْدَالُهُ ؛
كَمَا فِي الْأُضْحِيَّةِ ؟
فَأَجَابَ
:
وَأَمَّا إبْدَالُ الْمَنْذُورِ وَالْمَوْقُوفِ بِخَيْرِ
مِنْهُ كَمَا فِي إبْدَالِ الْهَدْيِ : فَهَذَا نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ
الْإِبْدَالَ لِلْحَاجَةِ مِثْلَ أَنْ يَتَعَطَّلَ فَيُبَاعَ وَيُشْتَرَى
بِثَمَنِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ : كَالْفَرَسِ الْحَبِيسِ لِلْغَزْوِ إذَا لَمْ
يُمْكِنْ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلْغَزْوِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ
مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَالْمَسْجِدُ إذَا خَرِبَ مَا حَوْلَهُ فَتُنْقَلُ آلَتُهُ
إلَى مَكَانٍ آخَرَ . أَوْ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ : أَوْ لَا
يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْ مَقْصُودِ الْوَاقِفِ
فَيُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ . وَإِذَا خَرِبَ وَلَمْ
تُمْكِنْ عِمَارَتُهُ فَتُبَاعُ الْعَرْصَةُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهَا مَا يَقُومُ
مَقَامَهَا : فَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ
بِهِ الْمَقْصُودُ قَامَ بَدَلُهُ مَقَامَهُ . وَالثَّانِي الْإِبْدَالُ
لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ : مِثْلَ أَنْ يُبْدَلَ الْهَدْيُ بِخَيْرِ مِنْهُ
وَمِثْلَ الْمَسْجِدِ إذَا بُنِيَ بَدَلُهُ مَسْجِدٌ آخَرُ أَصْلَحُ لِأَهْلِ
الْبَلَدِ مِنْهُ وَبِيعَ الْأَوَّلُ : فَهَذَا وَنَحْوُهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَاحْتَجَّ أَحْمَد بِأَنَّ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَقَلَ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ الْقَدِيمَ
إلَى مَكَانٍ آخَرَ ؛ وَصَارَ الْأَوَّلُ سُوقًا لِلتَّمَارِينِ فَهَذَا إبْدَالٌ
لِعَرْصَةِ الْمَسْجِدِ .
وَأَمَّا إبْدَالُ بِنَائِهِ بِبِنَاءِ آخَرَ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ بَنَيَا مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاءً غَيْرَ بِنَائِهِ الْأَوَّلِ وَزَادَا فِيهِ ؛ وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ : لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَنَقَضْت الْكَعْبَةَ وَلَأَلْصَقْتهَا بِالْأَرْضِ ؛ وَلَجَعَلْت لَهَا بَابَيْنِ بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ وَبَابًا يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْهُ } . فَلَوْلَا الْمُعَارِضُ الرَّاجِحُ لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغَيِّرُ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ . فَيَجُوزُ تَغْيِيرُ بِنَاءِ الْوَقْفِ مِنْ صُورَةٍ إلَى صُورَةٍ ؛ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ . وَأَمَّا إبْدَالُ الْعَرْصَةِ بِعَرْصَةِ أُخْرَى : فَهَذَا قَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى جَوَازِهِ اتِّبَاعًا لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرَ وَاشْتُهِرَتْ الْقَضِيَّةُ وَلَمْ تُنْكَرْ . وَأَمَّا مَا وُقِفَ لِلْغَلَّةِ إذَا أُبْدِلَ بِخَيْرِ مِنْهُ : مِثْلَ أَنْ يَقِفَ دَارًا أَوْ حَانُوتًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ قَرْيَةً يَكُونُ مُغَلُّهَا قَلِيلًا فَيُبَدِّلَهَا بِمَا هُوَ أَنْفَع لِلْوَقْفِ : فَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ : مِثْلَ أَبِي عُبَيْدٍ فِي حرمويه قَاضِي مِصْرَ وَحَكَمَ بِذَلِكَ . وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَد فِي تَبْدِيلِ الْمَسْجِدِ مِنْ عَرْصَةٍ إلَى عَرْصَةٍ لِلْمَصْلَحَةِ ؛ بَلْ إذَا جَازَ أَنْ يُبَدِّلَ الْمَسْجِدَ بِمَا لَيْسَ بِمَسْجِدِ لِلْمَصْلَحَةِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمَسْجِدُ سُوقًا فَلَأَنْ يَجُوزَ إبْدَالُ الْمُسْتَغَلِّ بِمُسْتَغَلِّ آخَرَ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِ فِي إبْدَالِ الْهَدْيِ بِخَيْرِ مِنْهُ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ اللَّاصِقَ بِأَرْضِ إذَا رَفَعُوهُ وَبَنَوْا تَحْتَهُ سِقَايَةً وَاخْتَارَ ذَلِكَ الْجِيرَانُ : فُعِلَ ذَلِكَ . لَكِنْ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ مَنْعِ إبْدَالِ الْمَسْجِدِ وَالْهَدْيِ وَالْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ ؛ لَكِنَّ النُّصُوصَ وَالْآثَارَ وَالْقِيَاسَ تَقْتَضِي جَوَازَ الْإِبْدَالِ لِلْمَصْلَحَةِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَمَّنْ أَوْقَفَ وَقْفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ . وَهُوَ
مِنْ كُرُومٍ يَحْصُلُ لِأَصْحَابِهَا ضَرَرٌ بِهِ . فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ
فِيهِ وَيَقِفَ غَيْرَهُ ؟ وَهَلْ إذَا فَعَلَ يَكُونُ الِاثْنَانِ وَقْفًا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَر كُلّ الْجِيرَانِ جَاز
أَنَّ يُنَاقِلُ عَنْهُ مَا يَقُومُ مَقَامه وَيَعُودُ الْأَوَّل مَلِكًا
وَالثَّانِي وَقْفًا كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فِي مَسْجِد الْكُوفَة لِمَا جَعَلَ مَكَانُهُ مَسْجِدًا صَارَ الْأَوَّل سُوقًا
لِلتَّمَارِينِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ حَوْضِ سَبِيلٍ وَعَلَيْهِ وَقْفُ إسْطَبْلٍ وَقَدْ
بَاعَهُ النَّاظِرُ وَلَمْ يَشْتَرِ بِثَمَنِهِ شَيْئًا مِنْ مُدَّةِ سِتِّ سِنِينَ
. فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا بَيْعُهُ بِغَيْرِ
اسْتِبْدَالٍ لِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَأَمَّا إذَا بَاعَهُ لِتُعَطِّلْ نَفْعِهِ وَاشْتَرَى بِالثَّمَنِ مَا يَقُومُ
مَقَامَهُ فَهَذَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ
اسْتَبْدَلَ بِهِ خَيْرًا مِنْهُ مَعَ وُجُودِ نَفْعِهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَرْيَةٍ بِهَا عِدَّةُ مَسَاجِدَ بَعْضُهَا قَدْ
خَرِبَ لَا تُقَامُ الصَّلَاةُ إلَّا فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَلَهَا وَقْفٌ
عَلَيْهَا كُلِّهَا : فَهَلْ تَجِبُ عِمَارَةُ الْخَرِبِ وَإِقَامَةُ الْجَمَاعَةِ
فِي مَسْجِدٍ ثَانٍ ؟ وَهَلْ يَحِلُّ إغْلَاقُهَا ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ تَجِبُ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ إلَى إقَامَةِ
الصَّلَاةِ فِيهِ . وَكَذَلِكَ تَرْتِيبُ إمَامٍ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ يَجِبُ أَنْ
يُفْعَلَ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ ؛ وَلَا يَحِلُّ إغْلَاقُ
الْمَسَاجِدِ عَمَّا شُرِعَتْ لَهُ
. وَأَمَّا عِنْدَ قِلَّةِ أَهْلِ الْبُقْعَةِ
وَاكْتِفَائِهِمْ بِمَسْجِدِ وَاحِدٍ مِثْلَ أَنْ يَكُونُوا حَوْلَهُ فَلَا يَجِبُ
تَفْرِيقُ شَمْلِهِمْ فِي غَيْرِ مَسْجِدِهِمْ .
وَسُئِلَ أَيْضًا :
عَنْ وَقْفِ كُلِّ جَمَاعَةٍ تُوُفِّيَ بَعْضُهُمْ
وَلَهُ شَقِيقٌ وَوَلَدٌ وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ مُسْتَفِيضٌ فِي
مَثَلِهِ : هَلْ يَخُصُّ الْوَلَدَ أَمْ الْأَخَ ؟ فَشَهِدَ قَوْمٌ أَنَّهُ
يَخُصُّ الْوَلَدَ دُونَ الْأَخِ بِمُقْتَضَى شَرْطِ الْوَاقِفِ مَعَ عَدَمِ
تَحْقِيقِهِمْ الْحَدَّ الْمَوْقُوفَ ؛ بِحَيْثُ إنَّهُمْ غَيَّرُوا بَعْضَ
الْحُدُودِ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ
لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ
بِشَهَادَتِهِمْ
هَذِهِ مِنْ غَيْرِ استفصال ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي مَجْمُوعِ السُّؤَالِ ؟
أَفْتُونَا مُفَصَّلًا مَأْجُورِينَ . إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الشَّهَادَةُ فِي الْوَقْفِ
بِالِاسْتِحْقَاقِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَكَذَلِكَ فِي الْإِرْثِ مِنْ الْأُمُورِ
الِاجْتِهَادِيَّةِ كَطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَلَكِنْ الشَّاهِدُ
يَشْهَدُ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ الشُّرُوطِ ؛ ثُمَّ الْحَاكِمُ يَحْكُمُ فِي
الشَّرْطِ بِمُوجِبِ اجْتِهَادِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ وَقَفَ عَلَى رَجُلٍ ؛ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ
فَاقْتَسَمَهُ الْفَلَّاحُونَ ثُمَّ تَنَاقَلَ بَعْضُهُمْ حِصَّتَهُ إلَى جَانِبِ
حِصَّةِ شَرِيكِهِ فَهَلْ تَنْفَسِخُ الْقِسْمَةُ وَالْمُنَاقَلَةُ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا تَصِحُّ قِسْمَةُ رَقَبَةِ الْوَقْفِ الْمَوْقُوفِ
عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لَكِنْ تَصِحُّ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ وَهِيَ "
الْمُهَايَأَةُ " . وَإِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً ؛ لَا
سِيَّمَا إذَا تَغَيَّرَ الْمَوْقُوفُ فَتَجُوزُ بِغَيْرِ هَذِهِ الْمُهَايَأَةِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ بَيْعَةٍ بِقَرْيَةِ وَلَهَا وَقْفٌ وَانْقَرَضَ
النَّصَارَى بِتِلْكَ الْقَرْيَةِ وَأَسْلَمَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ . فَهَلْ
يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ
الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا تِلْكَ أَحَدٌ جَازَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا ؛ لَا
سِيَّمَا إنْ كَانَتْ بِبَرِّ الشَّامِ فَإِنَّهُ فَتْحُ عَنْوَةٍ.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَسْجِدٍ مُجَاوِرِ كَنِيسَةٍ مُغْلَقَةٍ خَرَابٍ
سَقَطَ بَعْضُ جُدْرَانِهَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَعَلَى رِحَابِهِ الَّتِي
يَتَوَصَّلُ مِنْهَا وَزَالَ بَعْضُ الْجِدَارِ الَّذِي انْهَدَمَ وَسَقَطَ عَلَى
جِدَارِ الْمَسْجِدِ وَيُخَافُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَقْعِهَا وَمَنْ
يُصَلِّي بِالْمَسْجِدِ ؟ وَإِذَا آلَتْ كُلُّهَا لِلْخَرَابِ هَلْ تُهْدَمُ ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ إذَا خِيفَ تَضَرُّرُ الْمَسْجِدِ وَإِيذَاءُ
الْمُصَلِّينَ فِيهِ وَجَبَ إزَالَةُ مَا يَخَافُ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى
الْمَسْجِدِ وَأَهْلِهِ . وَإِذَا لَمْ يُزَلْ إلَّا بِالْهَدْمِ هُدِمَتْ ؛ بَلْ
قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
لَا قِبْلَتَانِ بِأَرْضِ وَلَا جِزْيَةٍ عَلَى مُسْلِمٍ } وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ
فِي أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَجَبَ أَنْ تُزَالَ وَلَا تُتْرَكَ مُجَاوِرَةً .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَسْجِدٍ لَيْسَ لَهُ وَقْفٌ وَبِجِوَارِهِ سَاحَةٌ
: هَلْ يَجُوزُ أَنْ تُعْمَلَ سَكَنًا لِلْإِمَامِ أَفْتُونَا ؟
فَأَجَابَ
:
يَجُوزُ ذَلِكَ وَالْحَالَة هَذِهِ ؛ فَإِنَّ السَّاحَةَ
لَيْسَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ ؛ كَمَا ذَكَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ هُوَ فِي مَسْجِدٍ يَأْكُلُ وَقْفَهُ . وَلَا
يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ . وَلِلْوَاقِفِ أَوْلَادٌ مُحْتَاجُونَ : فَهَلْ لَهُمْ
تَغْيِيرُهُ وَإِقَامَةُ غَيْرِهِ وَأَخْذُ الْفَائِضِ عَنْ مَصْلَحَةِ
الْمَسْجِدِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ
فَإِنَّهُ يُغَيِّرُهُ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ يَقُومُ بِالْوَاجِبِ
إذَا لَمْ يَتُبْ الْأَوَّلُ وَيَلْتَزِمْ بِالْوَاجِبِ . وَأَمَّا الْفَاضِلُ
عَنْ مَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ فَيَجُوزُ صَرْفُهُ فِي مَسَاجِدَ أُخَرَ وَفِي
الْمُسْتَحِقِّينَ لِلصَّدَقَةِ مِنْ أَقَارِبِ الْوَاقِفِ وَجِيرَانِ الْمَسْجِدِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مِنْ
رِيعِ الْوَقْفِ مَسْكَنًا لِيَأْوِيَ فِيهِ أَهْلَ الْمَسْجِدِ الَّذِينَ
يَقُومُونَ بِمَصَالِحِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ ، يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا خَارِجَ
الْمَسْجِدِ مِنْ الْمَسَاكِنِ مَا كَانَ مَصْلَحَةً لِأَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ
لِرِيعِ الْوَقْفِ الْقَائِمِينَ بِمَصْلَحَتِهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَسْجِدٍ أَعْلَاهُ طَبَقَةٌ وَهُوَ عَتِيقُ
الْبِنَاءِ وَأَنَّ الطَّبَقَةَ لَمْ يَسْكُنْهَا أَحَدٌ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا
لِكَوْنِهَا سَاقِطَةً وَأَنَّهَا ضَرَرٌ عَلَى الْمَسْجِدِ لِثِقَلِهَا عَلَيْهِ
تُخَرِّبُهُ وَلَا لَهُ شَيْءٌ يَعْمُرُ مِنْهُ : فَهَلْ يَجُوزُ نَقْضُ الطَّبَقَةِ
الَّتِي أَعْلَاهُ أَوْ يُغْلَقُ ذَلِكَ الْمَسْجِدُ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ نَقْضُ الطَّبَقَةِ مَصْلَحَةً لِلْمَسْجِدِ
فَتُنْقَضُ وَتُصْرَفُ الْأَنْقَاضُ فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ أَمْكَنَ
أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا مَا يُوقِفُ عَلَيْهِ أَوْ يَصْرِفُ فِي عِمَارَتِهِ أَوْ
عِمَارَةِ وَقْفِهِ : فَعَلَ ذَلِكَ
.
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مَوْقُوفَةً وَبَنَى
عَلَيْهَا مَا أَرَادَ ؛ ثُمَّ أَوْقَفَ ذَلِكَ الْبِنَاءَ وَشَرَطَ أَنْ يُعْطَى
الْأُجْرَةَ الْمَوْقُوفَةَ مِنْ رِيعِ وَقْفِهِ عَلَيْهَا وَحَكَمَ الْحَاكِمُ
بِصِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْوَقْفِ . فَهَلْ
يَجُوزُ نَقْضٌ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا أَرَادَ الْوَاقِفُ نَقْضَ الْوَقْفِ
بَعْدَ ثُبُوتِهِ لِيُدْخِلَ فِيهِ عَدَدًا آخَرَ بِوَقْفِ ثَانٍ : هَلْ يَجُوزُ
ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ لَمْ يَجُزْ
فِيهِ تَغْيِيرُهُ وَلَا تَبْدِيلُ شُرُوطِهِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ وَقْفٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَفِيهِ
أَشْجَارُ زَيْتُونٍ وَغَيْرِهِ يَحْمِلُ بَعْضَ السِّنِينَ بِثَمَرِ قَلِيلٍ ؛
فَإِذَا قُطِعَتْ وَبِيعَتْ يُشْتَرَى بِثَمَنِهَا مِلْكٌ يُغَلُّ بِأَكْثَرَ
مِنْهَا : فَهَلْ لِلنَّاظِرِ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ إذَا طَالَبَهُ بَعْضُ
الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْوَقْفِ يَقْطَعُ الشَّجَرَ وَيَبِيعُهُ وَيُقَسِّمُ مِنْهُ
عَلَيْهِمْ فَهَلْ لَهُمْ ذَلِكَ ؟ أَمْ شِرَاءُ الْمِلْكِ ؟ وَإِذَا تَوَلَّى
شَخْصٌ فَوَجَدَ مَنْ تَقَدَّمَهُ غَيَّرَ شَرْطَ الْوَاقِفِ فَجَهَدَ فِي عَمَلِ
شَرْطِ الْوَاقِفِ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ
الجامكية ؛ بِكَوْنِهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ
وَهَذَا النَّاظِرُ فَقِيرٌ لَا مَالَ لَهُ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ
نِسْبَةِ الْفُقَرَاءِ وَيَكُونُ نَظْرُهُ تَبَرُّعًا بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ يَجُوزُ بَيْعُ تِلْكَ
الْأَشْجَارِ وَأَنْ يُشْتَرَى بِهَا مَا يَكُونُ مُغَلُّهُ أَكْثَرَ ؛ فَإِنَّ
الشَّجَرَ كَالْبِنَاءِ وَلِلنَّاظِرِ أَنْ يُغَيِّرَ صُورَةَ الْوَقْفِ مِنْ
صُورَةٍ إلَى صُورَةٍ أَصْلَحَ مِنْهَا كَمَا غَيَّرَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ
صُورَةَ الْمَسْجِدَيْنِ اللَّذَيْنِ بِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَكَمَا
نَقَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَأَمْثَالِ
ذَلِكَ . وَلَا يُقَسَّمُ ثَمَنُ الشَّجَرِ بَيْنَ الْمَوْجُودِينَ ؛ لِأَنَّ
الشَّجَرَ كَالْبِنَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِثَمَنِهِ الْمَوْجُودُونَ ؛ وَلَيْسَ هُوَ
بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ وَالْمَنَافِعِ الَّتِي يَخْتَصُّ كُلُّ
أَهْلِ طَبَقَةٍ بِمَا يُؤْخَذُ فِي زَمَنِهَا مِنْهَا
وَأَمَّا
النَّاظِرُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ
وَيَأْخُذُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ مَا يُقَابِلُهُ فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ عَشَرَةَ
أَجْزَاءٍ مِنْ الْعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ أَخَذَهُ وَإِنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ
الْجَمِيعَ عَلَى مَا يَعْمَلُهُ أَخَذَ الْجَمِيعَ . وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى
فَقْرِهِ مَا يَأْخُذُهُ الْفَقِيرُ عَلَى فَقْرِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ تَغْيِيرِ صُورَةِ الْوَقْفِ
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا مَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ
حُدُودِ الْوَقْفِ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِلَى حُقُوقِ الْجِيرَانِ :
فَيَجِبُ إزَالَتُهُ بِلَا رَيْبٍ . وَأَمَّا مَا خَرَجَ إلَى الطَّرِيقِ
النَّافِذِ فَلَا بُدَّ مِنْ إزَالَتِهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ خَرَجَ إلَى مِلْكِ
الْغَيْرِ فَإِنْ أَذِنَ فِيهِ وَإِلَّا أُزِيلَ . وَأَمَّا تَغْيِيرُ صُورَةِ
الْبِنَاءِ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَصْلَحَةِ
فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ أَصْلَحَ لِلْوَقْفِ وَأَهْلِهِ أُقِرَّتْ .
وَإِنْ كَانَ إعَادَتُهَا إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَصْلَحَ أُعِيدَتْ . وَإِنْ
كَانَ بِنَاءُ ذَلِكَ عَلَى صُورَةٍ ثَالِثَةٍ أَصْلَحَ لِلْوَقْفِ بُنِيَتْ .
فَيَتْبَعُ فِي صُورَةِ الْبِنَاءِ مَصْلَحَةَ الْوَقْفِ وَيُدَارُ مَعَ
الْمَصْلَحَةِ حَيْثُ كَانَتْ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ -
كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ - أَنَّهُمَا قَدْ غَيَّرَا صُورَةَ الْوَقْفِ
لِلْمَصْلَحَةِ بَلْ فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ
ذَلِكَ حَيْثُ حَوَّلَ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ الْقَدِيمِ فَصَارَ سُوقَ
التَّمَارِينِ وَبَنَى لَهُمْ مَسْجِدًا فِي مَكَانٍ آخَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ نَاصَبَ عَلَى أَرْضِ وَقْفٍ عَلَى أَنَّ
لِلْوَقْفِ ثُلُثَيْ الشَّجَرِ الْمَنْصُوبِ وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثُ : فَهَلْ
لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ النُّظَّارِ بَيْعُ نَصِيبِ الْوَقْفِ مِنْ الشَّجَرِ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ ذَلِكَ إلَّا لِحَاجَةِ
تَقْتَضِي ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ وَقَفَتْ عَلَى وَلَدَيْهَا دَكَاكِينَ
وَدَارًا ثُمَّ بَعْدَ بَنِيهَا وَبَنِيَّ أَوْلَادِهَا يَرْجِعُ عَلَى وَقْفِ
مَدْرَسَةِ نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَصَارِفِ
الشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ قَرَائِبِ الْمَرْأَةِ تَعَدَّى وَتَحَيَّلَ
وَبَاعَ الْوَقْفَ ثُمَّ إنَّ الْوَرَثَةَ حَاكَمُوا الْمُشْتَرِيَ وَرَقَّمَ
الْقَاضِي عَلَى شُهُودِ الْكِتَابِ : وَهُوَ صَحِيحٌ ثَابِتٌ . فَقَامَ
الْمُشْتَرِي وَأَوْقَفَهَا صَدَقَةً عَلَى خُبْزٍ يُصْرَفُ لِلْمَسَاكِينِ .
وَجَعَلَ الرَّئِيسُ نَاظِرًا عَلَى الصَّدَقَةِ : فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ .
وَإِذَا عَلِمَ الرَّئِيسُ الْعَالِمُ الْمُتَعَبِّدُ أَنَّ هَذَا مُغْتَصِبٌ :
فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ نَاظِرًا عَلَيْهِ وَمَا يَكُونُ ؟
فَأَجَابَ
:
بَيْعُ الْوَقْفِ الصَّحِيحِ اللَّازِمِ الَّذِي
يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْوَقْفِ مِنْ الِانْتِفَاعِ لَا يَجُوزُ وَلَا يَصِحُّ
وَقْفُ الْمُشْتَرِي لَهُ وَلَا يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ عَلَى الْوَقْفِ الثَّانِي
أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّينَ قَبْلُ وَلَا يَتَصَرَّفَ فِيهِ
بِغَيْرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ سَوَاءٌ تَصَرَّفَ بِحُكْمِ النَّظْرِ الْبَاطِلِ
أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ بَنَى حَائِطًا فِي مَقْبَرَةِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ يَقْصِدُ أَنْ يَحُوزَ نَفْعَهُ لِدَفْنِ مَوْتَاهُ فَادَّعَى
رَجُلٌ أَنَّ لَهُ مَوْتَى تَحْتَ الْحَائِطِ وَمَا هُوَ دَاخِلَ الْحَائِطِ :
فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَقْبَرَةِ
الْمُسْلِمِينَ حَائِطًا وَلَا أَنْ يَحْتَجِزَ مِنْ مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ
مَا يَخْتَصُّ بِهِ دُونَ سَائِرِ الْمُسْتَحِقِّينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ حَمَّامٍ أَكْثَرُهَا وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَنَّ إنْسَانًا لَهُ حَمَّامَاتٌ بِالْقُرْبِ
مِنْهَا . وَأَنَّهُ احْتَالَ وَاشْتَرَى مِنْهَا نَصِيبًا وَأَخَذَ الرَّصَاصَ
الَّذِي يَخُصُّهُ مِنْ الْحَاصِلِ وَعَطَّلَ الْحَمَّامَ وَضَارَّ : فَهَلْ
يَلْزَمُهُ الْعِمَارَةُ أُسْوَةَ الْوَقْفِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي
الْحَمَّامِ الْمُشْتَرِكَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الشُّرَكَاءِ وَلَا بِإِذْنِ
الشَّارِعِ وَلَا يَسْتَوْلِي عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا بِغَيْرِ إذْنِ الشُّرَكَاءِ
وَلَا يُقَسِّمُ
بِنَفْسِهِ
شَيْئًا وَيَأْخُذُ نَصِيبَهُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ رَصَاصًا أَوْ غَيْرَهُ ؛ وَلَا
يُغَيِّرُ بِنَاءَ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا يُغَيِّرُ القدر وَلَا غَيْرَهَا وَهَذَا
كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُغْلِقَهَا ؛ بَلْ
يَكْرِي عَلَى جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ إذَا طَلَبَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ ؛ وَتُقَسَّمُ
بَيْنَهُمْ الْأُجْرَةُ . وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ
وَأَحْمَد . وَإِذَا احْتَاجَتْ الْحَمَّامُ إلَى عِمَارَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا
فَعَلَى الشَّرِيكِ أَنْ يَعْمُرَ مَعَهُمْ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَنَاةِ سَبِيلٍ لَهَا فايض يَنْزِلُ عَلَى قَنَاةِ
الْوَسَخِ وَقَرِيبٍ مِنْهَا قَنَاةٌ طَاهِرَةٌ قَلِيلَةُ الْمَاءِ : فَهَلْ
يَجُوزُ أَنْ يُسَاقَ ذَلِكَ الْفَائِضُ إلَى الْمَطْهَرَةِ . وَهَلْ يُثَابُ
فَاعِلُ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ مَنْعُهُ ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ ، يَجُوزُ ذَلِكَ بِإِذْنِ وَلِيِّ الْأَمْرِ
وَلَا يَجُوزُ مَنْعُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ
وَيُثَابُ السَّاعِي فِي ذَلِكَ
. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
(*)
عَنْ الْوَقْفِ الَّذِي يُشْتَرَى بِعِوَضِهِ مَا
يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْوَقْفِ الَّذِي أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ
فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ عِوَضُهُ يَشْتَرِي بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ ؛
فَإِنَّ الْوَقْفَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَمَضْمُونٌ
بِالْيَدِ . فَلَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ تَلِفَ تَحْتَ يَدِهِ الْعَادِيَّةِ فَإِنَّ
عَلَيْهِ ضَمَانَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنْ قَدْ تَنَازَعَ بَعْضُهُمْ
فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ هَلْ تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ كَالْعَقَارِ . وَفِي
بَعْضِهَا هَلْ يَصِحُّ وَقْفُهُ كَالْمَنْقُولِ ؟ وَلَكِنْ لَمْ يَتَنَازَعُوا
أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ بِالْيَدِ كَالْأَمْوَالِ ؛ بِخِلَافِ أُمِّ
الْوَلَدِ ؛ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ
بِالْإِتْلَافِ
: فَقَدْ تَنَازَعُوا هَلْ تُضْمَنُ بِالْيَدِ
أَوْ لَا ؟ فَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ
: هِيَ مَضْمُونَةٌ بِالْيَدِ : كَمَالِكِ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَقُولُ : لَا تُضْمَنُ
بِالْيَدِ . وَضَمَانُ الْيَدِ هُوَ ضَمَانُ الْعَقْدِ . كَضَمَانِ البايع
تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ الْعَيْبِ وَأَنَّهُ بِيعَ بِحَقِّ .
وَضَمَانُ دَرْكِهِ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ
بِلَفْظِهِ . وَمِنْ أُصُولِ الِاشْتِرَاءِ بِبَدَلِ الْوَقْفِ : إذَا تَعَطَّلَ
نَفْعُ الْوَقْفِ ؛ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يَقُومُ
مَقَامَهُ : فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَهَلْ يَجُوزُ مَعَ كَوْنِهِ مُغَلًّا
أَنْ يُبَدَّلَ بِخَيْرِ مِنْهُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِهِ . وَالْجَوَازُ
مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِ
.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ حَيْثُ جَازَ الْبَدَلُ : هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّرْبِ أَوْ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ . أَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَصْلَحَ لِأَهْلِ الْوَقْفِ : مِثْلَ أَنْ يَكُونُوا مُقِيمِينَ بِبَلَدِ غَيْرِ بَلَدِ الْوَقْفِ وَإِذَا اُشْتُرِيَ فِيهِ الْبَدَلُ كَانَ أَنْفَعَ لَهُمْ ؛ لِكَثْرَةِ الرِّيعِ وَيُسْرِ التَّنَاوُلِ ؟ فَنَقُولُ : مَا عَلِمْت أَحَدًا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ فِي بَلَدِ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ ؛ بَلْ النُّصُوصُ عِنْدَ أَحْمَد وَأُصُولُهُ وَعُمُومُ كَلَامِهِ وَكَلَامُ أَصْحَابِهِ وَإِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَفْعَلَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ مَصْلَحَةُ أَهْلِ الْوَقْفِ ؛ فَإِنَّ أَصْلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ مُرَاعَاةُ مَصْلَحَةِ الْوَقْفِ ؛ بَلْ أَصْلُهُ فِي عَامَّةِ الْعُقُودِ اعْتِبَارُ مَصْلَحَةِ النَّاسِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالصَّلَاحِ وَنَهَى عَنْ الْفَسَادِ وَبَعَثَ رُسُلَهُ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا . { وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } وَقَالَ شُعَيْبٌ : { إنْ أُرِيدُ إلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } { أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ } . وَقَدْ جَوَّزَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ إبْدَالَ مَسْجِدٍ بِمَسْجِدِ آخَرَ لِلْمَصْلَحَةِ كَمَا جَوَّزَ تَغْيِيرَهُ لِلْمَصْلَحَةِ . وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَبْدَلَ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ الْقَدِيمَ بِمَسْجِدِ آخَرَ وَصَارَ الْمَسْجِدُ الْأَوَّلُ سُوقًا لِلتَّمَارِينِ . وَجَوَّزَ أَحْمَد إذَا خَرِبَ الْمَكَانُ أَنْ يَنْقُلَ الْمَسْجِدَ إلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى ؛ بَلْ وَيَجُوزُ ؛ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : أَنْ يُبَاعَ ذَلِكَ الْمَسْجِدُ وَيُعْمَرَ بِثَمَنِهِ مَسْجِدٌ آخَرُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ فِي الْقَرْيَةِ الْأُولَى . فَاعْتَبَرَ الْمَصْلَحَةَ بِجِنْسِ الْمَسْجِدِ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي
قَرْيَةٍ غَيْرِ الْقَرْيَةِ الْأُولَى : إذْ كَانَ جِنْسُ الْمَسَاجِدِ مُشْتَرِكَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْوَقْفُ فِي قَوْمٍ بِعَيْنِهِمْ أَحَقُّ بِجَوَازِ نَقْلِهِ إلَى مَدِينَتِهِمْ مِنْ الْمَسْجِدِ ؛ فَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى مُعَيَّنِينَ حَقٌّ لَهُمْ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَعْد انْقِضَائِهِمْ لِجِهَةِ عَامَّةٍ : كَالْفُقَرَاءِ ؛ وَالْمَسَاكِينِ . فَيَكُونُ كَالْمَسْجِدِ . فَإِذَا كَانَ الْوَقْفُ بِبَلَدِهِمْ أَصْلَحَ لَهُمْ كَانَ اشْتِرَاءُ الْبَدَلِ بِبَلَدِهِمْ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي فِعْلُهُ لِمُتَوَلِّي ذَلِكَ . وَصَارَ هَذَا كَالْفَرَسِ الْحَبِيسِ الَّذِي يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ إذَا كَانَ مَحْبُوسًا عَلَى نَاسٍ بِبَعْضِ الثُّغُورِ ثُمَّ انْتَقَلُوا إلَى ثَغْرٍ آخَرَ فَشِرَاءُ الْبَدَلِ بِالثَّغْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مَضْمُونٌ أَوْلَى مِنْ شِرَائِهِ بِثَغْرِ آخَرَ . وَإِنْ كَانَ الْفَرَسُ حَبِيسًا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ : كَالْمَسَاجِدِ وَالْوَقْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا : أَنَّ الْوَقْفَ لَوْ كَانَ مَنْقُولًا : كَالنُّورِ وَالسِّلَاحِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ ؛ وَهُوَ وَقْفٌ عَلَى ذُرِّيَّةِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِمْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَقَرُّ الْوَقْفِ حَيْثُ كَانُوا بَلْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنَ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْقَفَ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ بِعَيْنِهِ . لَكِنْ إذَا صَارَ لَهُ عِوَضٌ : هَلْ يَشْتَرِي بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَنْقُولًا ؟ فَأَنْ يَشْتَرِيَ بِهَذَا الْعِوَضِ فِي بَلَدِ مُقَامِهِمْ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ فِي مَكَانِ الْعَقَارِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَصْلَحَ لَهُمْ ؛ إذْ لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ مَكَانِ الْعَقَارِ
الْأَوَّلِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ وَلَا مَصْلَحَةَ لِأَهْلِ الْوَقْفِ . وَمَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ الشَّارِعُ وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْإِنْسَانِ فَلَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ . فَعُلِمَ أَنَّ تَعْيِينَ الْمَكَانِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ لِمَنْ يَشْتَرِي بِالْعِوَضِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ ؛ بَلْ الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ جَائِزٌ . وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إذَا تَعَيَّنَتْ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الْهِبَةِ وَالْعَطِيَّةِ
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، " الصَّدَقَةُ " مَا
يُعْطَى لِوَجْهِ اللَّهِ عِبَادَةً مَحْضَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي شَخْصٍ
مُعَيَّنٍ وَلَا طَلَبِ غَرَضٍ مِنْ جِهَتِهِ ؛ لَكِنْ يُوضَعُ فِي مَوَاضِعِ
الصَّدَقَةِ كَأَهْلِ الْحَاجَاتِ
. وَأَمَّا " الْهَدِيَّةُ " فَيَقْصِدُ بِهَا
إكْرَامَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ ؛ إمَّا لِمَحَبَّةِ وَإِمَّا لِصَدَاقَةِ ؛ وَإِمَّا
لِطَلَبِ حَاجَةٍ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا فَلَا يَكُونُ لِأَحَدِ عَلَيْهِ
مِنَّةٌ وَلَا يَأْكُلُ أَوْسَاخَ النَّاسِ الَّتِي يَتَطَهَّرُونَ بِهَا مِنْ
ذُنُوبِهِمْ وَهِيَ الصَّدَقَاتُ وَلَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ لِذَلِكَ
وَغَيْرِهِ . وَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَالصَّدَقَةُ أَفْضَلُ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ
فِي الْهَدِيَّةِ مَعْنًى تَكُونُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ الصَّدَقَةِ : مِثْلَ الْإِهْدَاءِ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ مَحَبَّةً
لَهُ . وَمِثْلَ الْإِهْدَاءِ لِقَرِيبِ يَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ وَأَخٌ لَهُ فِي
اللَّهِ : فَهَذَا قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الصَّدَقَةِ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ وَهَبَ أَوْ أَبَاحَ لِرَجُلِ شَيْئًا
مَجْهُولًا : هَلْ يَصِحُّ ؟ كَمَا لَوْ أَبَاحَهُ ثَمَرَ شَجَرَةٍ فِي قَابِلَ ؟
وَلَوْ أَرَادَ الرُّجُوعَ هَلْ يَصِحُّ ؟
فَأَجَابَ
:
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هِبَةِ الْمَجْهُولِ :
فَجَوَّزَهُ مَالِكٍ حَتَّى جَوَّزَ أَنْ يَهَبَ غَيْرَهُ مَا وَرِثَهُ مِنْ
فُلَانٍ ؛ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَثُلُثٌ هُوَ أَمْ
رُبُعٌ ؟ وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَهُ حِصَّةً مِنْ دَارٍ وَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ هِبَةُ الْمَعْدُومِ كَأَنْ يَهَبَهُ ثَمَرَ شَجَرِهِ هَذَا
الْعَامَ أَوْ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ ؛ وَلَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ الشَّافِعِيِّ .
وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد الْمَنْعُ مِنْ
ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ أَحْمَد وَغَيْرَهُ يُجَوِّزُ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْمَجْهُولِ
وَالْإِبْرَاءِ مِنْهُ مَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيِّ . وَكَذَلِكَ أَبُو
حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيِّ . فَإِنَّ
الشَّافِعِيِّ يَشْتَرِطُ الْعِلْمَ بِمِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي
عَامَّةِ الْعُقُودِ حَتَّى عِوَضِ الْخُلْعِ وَالصَّدَاقِ وَفِيمَا شَرَطَ عَلَى
أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُوَسِّعُونَ فِي ذَلِكَ . وَهُوَ
مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي هَذَا أَرْجَحُ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ
مُتَعَلِّقَةٌ بِأَصْلِ آخَرَ وَهُوَ : أَنَّ عُقُودَ الْمُعَاوَضَةِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ
وَالْخُلْعِ : تَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ . فَالْقَبْضُ - مُوجَبُ الْعَقْدِ
وَمُقْتَضَاهُ -
لَيْسَ
شَرْطًا فِي لُزُومِهِ . وَالتَّبَرُّعَاتُ : كَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَةِ فَمَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ ؛
وَعِنْدَ مَالِكٍ تَلْزَمُ بِالْعَقْدِ . وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد نِزَاعٌ
كَالنِّزَاعِ فِي الْمُعَيَّنِ : هَلْ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ
الْقَبْضِ ؟ وَفِيهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ . وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ صُوَرِ
الْعَارِيَةِ . وَمَا زَالَ السَّلَفُ يُعِيرُونَ الشَّجَرَةَ وَيَمْنَحُونَ
المنايح ؛ وَكَذَلِكَ هِبَةُ الثَّمَرِ وَاللَّبَنِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ
وَيَرَوْنَ ذَلِكَ لَازِمًا وَلَكِنْ هَذَا يُشْبِهُ الْعَارِيَةَ ؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ يَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَالْمَنْفَعَةِ ؛
وَلِهَذَا كَانَ هَذَا مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ كَالْمَنَافِعِ
؛ وَلِهَذَا تَصِحُّ الْمُعَامَلَةُ بِجُزْءِ مِنْ هَذَا : كَالْمُسَاقَاةِ . وَأَمَّا إبَاحَةُ
ذَلِكَ فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَا أَبَاحَهُ
مَعْدُومًا أَوْ مَوْجُودًا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا ؛ لَكِنْ لَا تَكُونُ
الْإِبَاحَةُ عَقْدًا لَازِمًا كَالْعَارِيَةِ عِنْدَ مَنْ لَا يَجْعَلُ
الْعَارِيَةَ عَقْدًا لَازِمًا ؛ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا
مَالِكٍ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ لَازِمًا إذَا كَانَ مَحْدُودًا بِشَرْطِ أَوْ عُرْفٍ
وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ وَهَبَتْ لِزَوْجِهَا كِتَابَهَا وَلَمْ
يَكُنْ لَهَا أَبٌ سِوَى إخْوَةٍ : فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهَا ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَيْسَ
لِإِخْوَتِهَا عَلَيْهَا وِلَايَةٌ وَلَا حَجْرٌ ؛ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يَجُوزُ
تَبَرُّعُهَا فِي مَالِهَا صَحَّتْ هِبَتُهَا سَوَاءٌ رَضُوا أَوْ لَمْ يَرْضَوْا
. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ لَهَا أَوْلَادٌ غَيْرُ أَشِقَّاءَ
فَخَصَّصَتْ أَحَدَ الْأَوْلَادِ وَتَصَدَّقَتْ عَلَيْهِ بِحِصَّةِ مِنْ مِلْكِهَا
دُونَ بَقِيَّةِ إخْوَتِهِ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ مُقِيمَةٌ
بِالْمَكَانِ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ : فَهَلْ تَصِحُّ الصَّدَقَةُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى
مَاتَتْ بَطَلَتْ الْهِبَةُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ . وَإِنْ أَقَبَضَتْهُ إيَّاهُ لَمْ يَجُزْ عَلَى الصَّحِيحِ أَنْ
يَخْتَصَّ بِهِ الْمَوْهُوبُ لَهُ ؛ بَلْ يَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
إخْوَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَالَ
:
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي
لُزُومِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا : كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ
وَالْوَقْفِ - عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ - فَهَذَا
أَيْضًا يَصِحُّ فِي الْمَشَاعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَلَمْ يُجَوِّزْهَا أَبُو حَنِيفَةَ . قَالَ : لِأَنَّ
الْقَبْضَ شَرْطٌ فِيهَا وَقَبْضَهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَأَمَّا
الْجُمْهُورُ فَقَالُوا تَقْبِضُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ كَمَا تَقْبِضُ فِي
الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ مِنْ مُوجَبِ الْبَيْعِ لَيْسَ شَرْطًا فِي
صِحَّتِهِ وَلَا لُزُومِهِ . وَيَقْبِضُ مَا لَا يَنْقَسِمُ ؛ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى
جَوَازِ هِبَتِهِ مَشَاعًا ؛ لِتَعَذُّرِ الْقِسْمَةِ فِيهِ .
ثُمَّ إذَا وَهَبَ الْمَشَاعَ الَّذِي تَصِحُّ هِبَتُهُ بِالِاتِّفَاقِ : كَاَلَّذِي لَا يَنْقَسِمُ وَالْمُتَنَازَعِ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ هِبَتَهُ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَقَبَضَ ذَلِكَ قَبَضَ مِثْلَهُ وَحَازَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَالْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ : لَزِمَ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ : يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الْجَائِزَةِ فِي الْمَشَاعِ . فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَبِيعَهُ أَوْ يَهَبَهُ وَإِنْ شَاءَ تَهَايَآ هُوَ وَالْمُتَّهِبُ فِيهِ بِالْمَكَانِ أَوْ بِالزَّمَانِ . وَإِنْ شَاءَا أَكْرَيَاهُ جَمِيعًا ؛ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلُّ شَرِيكَيْنِ لِلشِّقْصِ مَعَ مَالِكِ الشِّقْصِ الَّذِي لَمْ يُوهَبْ . وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِالْمُسَاكَنَةِ لِلْمُتَّهِبِ مُهَايَأَةً أَوْ غَيْرَ مُهَايَأَةٍ لَا يُنْقِصُ الْهِبَةَ وَلَا يُبْطِلُهَا . وَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَقَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ . وَمَا فَعَلَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي كُتُبِهِمْ : مِنْ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ وَأَنَّ بَقَاءَهُ فِي يَدِ الْوَاهِبِ : بِإِكْرَاءِ أَوْ اسْتِعَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا يُبْطِلُ الْحِيَازَةَ وَأَنَّ حِيَازَةَ الْمُتَّهِبِ لَهُ ثُمَّ عَوْدُهُ إلَى الْوَاهِبِ فِي الزَّمَنِ الْقَرِيبِ يُبْطِلُ حِيَازَتَهُ وَفِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ كَالسَّنَةِ نِزَاعٌ وَأَنَّهُ إذَا مَرِضَ أَوْ أَفْلَسَ قَبْلَ الْحِيَازَةِ بَطَلَتْ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَمِثْلُ تَنَازُعِهِمْ : هَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِقْبَاضِ أَمْ لَا ؟ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يُجْبَرُ وَعِنْدَ مَالِكٍ يُجْبَرُ وَعِنْدَ أَحْمَد فِي الْغَبْنِ رِوَايَتَانِ . وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ : فَهَذَا كُلُّهُ فِي نَفْسِ الْمَوْهُوبِ الْمُفْرَدِ وَالْمَشَاعِ فَأَمَّا النِّصْفُ الْبَاقِي عَلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ - اتِّفَاقًا مَعْلُومًا عِنْدَ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ - أَنَّ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ فِيهِ لَا يُبْطِلُ مَا وَقَعَ مِنْ الْهِبَةِ وَالْحِيَازَةِ السَّابِقَةِ فِي النَّصِيبِ . وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الشَّرِيكَيْنِ يَتَصَرَّفَانِ كَتَصَرُّفِ الشُّرَكَاءِ . وَمَنْ تَوَهَّمَ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ أَنَّهُ
بَعْدَ إقْبَاضِ النَّصِيبِ الْمَشَاعِ إذَا تَسَاكَنَا فِي الدَّارِ فَسَكَنَ هَذَا فِي النِّصْفِ الْبَاقِي لَهُ وَهَذَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ - مُهَايَأَةً أَوْ غَيْرَ مُهَايَأَةٍ - أَنَّ ذَلِكَ يُنْقِضُ الْهِبَةَ - كَمَا لَوْ كَانَ السُّكْنَى فِي نَفْسِ الْمَوْهُوبِ كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ - فَقَدْ خَرَقَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَذَاقِ الْفِقْهِ وَمَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ . فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ الْوَاهِبُ لِلْمَشَاعِ يَتَعَطَّلُ انْتِفَاعُهُ بِمَا بَقِيَ لَهُ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَاهِبِ الْجَمِيعِ ؛ وَلِأَنَّ الْفُقَهَاءَ إنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي الْمَوْهُوبِ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ يَدِ الْوَاهِبِ عَلَيْهِ وَعَوْدَهُ إلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ يَمْتَنِعُ مَعَهَا الْحَوْزُ فِي الْعَادَةِ ؛ وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَة إلَى الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ حَوْزٍ فَيَظْهَرُ سُكْنَاهَا بِطَرِيقِ الْعَارِيَةِ حِيلَةً ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُعْطِي أَحَدُهُمْ وَلَدَهُ الْعَطِيَّةَ ؛ فَإِنْ مَاتَ وَلَدُهُ قَالَ : مَالِي وَفِي يَدِي ؛ وَإِنْ مَاتَ هُوَ قَالَ : كُنْت وَهَبْته ؛ لَا يَثْبُتُ مِنْ الْهِبَةِ إلَّا مَا حَازَهُ الْوَلَدُ مِنْ مَالِ وَالِدِهِ . ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنْ الصَّغِيرِ فَقَالَ حَوْزُ وَالِدِهِ حَوْزٌ لَهُ . وَبِهَذَا أَخَذَ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُفْرَدًا كَانَ أَوْ مَشَاعًا . فَأَمَّا النَّصِيبُ الْآخَرُ الَّذِي لَمْ يُوهَبُ : فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَيْنٍ أُخْرَى لَمْ تُوهَبْ : يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الشَّرِيكِ بِحَيْثُ لَوْ احْتَاجَ إلَى عِمَارَةٍ أَجُبِرَ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَحْمَد وَمَالِكٌ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَبِحَيْثُ تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ . وَإِذَا كَانَ قِسْمَةُ عَيْنِهِ يُمْكِنُ قَسْمٌ إنْ كَانَ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ . وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا : فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ إذَا طَلَبَهُ الْآخَرُ لِيَقْتَسِمَا الثَّمَنَ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَالْإِجْبَارُ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد . وَعَدَمُهُ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ
. وَهَذَا وَاضِحٌ عَلَى مَنْ لَهُ فِي الْفِقْهِ بِالشَّرِيعَةِ أَدْنَى
إلْمَامٍ إذَا كَانَ يَفْهَمُ مَأْخَذَ الْفُقَهَاءِ ؛ وَلَكِنْ مَنْ لَمْ
يُمَيِّزْ إذَا رَأَى مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفُرُوعِ فِي الْمَوْهُوبِ وَخُيِّلَ
إلَيْهِ أَنَّ هَذَا فِيهِ وَفِي النَّصِيبِ الْآخَرِ : كَانَ هَذَا بَعِيدًا مِنْ
التَّمَيُّزِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ
وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا تَقْبَلُ النِّزَاعَ وَالْخِلَافَ أَصْلًا
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ النَّقْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ
" كِتَابِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ هَذَا
مَوْضِعَهَا ؛ وَإِنَّمَا مَوْضِعُهَا " كِتَابُ الشَّرِكَةِ وَالْقِسْمَةِ
" وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ السُّؤَالَ إنَّمَا وَقَعَ عَنْ التَّصَرُّفِ
فِي الشِّقْصِ الْبَاقِي لَمْ يَقَعْ فِي النَّصِيبِ الْمَوْهُوبِ وَإِنْ
تَخَيَّلَ مُتَخَيِّلٌ أَنَّ التساكت يَقْتَضِي ثُبُوتَ يَدِ كُلٍّ مِنْهُمَا
عَلَى الْجَمِيعِ . قِيلَ لَهُ : فَحِينَئِذٍ تَكُونُ يَدُ كُلٍّ مِنْ
الشَّرِيكَيْنِ عَلَى جَمِيعِ الْمُشْتَرَكِ وَإِنْ صَحَّ هَذَا لَمْ يَصِحَّ يَدُ
الْمُشْتَرِكِ بِحَالِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا قَالَهُ فِيمَا يَقْبَلُ
الْقِسْمَةَ ثُمَّ إذَا قُدِّرَ أَنَّ يَدَ الشَّرِيكِ عَلَى الْجَمِيعِ فَهَذِهِ
لَا تَمْنَعُ الْحِيَازَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْمَشَاعِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا
وَهَبَ شِقْصًا مِنْ عَيْنٍ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَقْبِضَ الْمَوْهُوبَ
فَقَطْ مَعَ بَقَاءِ يَدِهِ عَلَى مَا لَمْ يَهَبْهُ ؛ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ
بَقَاءَ يَدِهِ عَلَى نَصِيبِهِ يَعُمُّ الْجَمِيعَ أَوْ لَا يَعُمُّ . فَعُلِمَ
أَنَّ اسْتِيلَاءَ الشَّرِيكِ الْوَاهِبِ عَلَى نَصِيبِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيهِ لَا
يَمْنَعُ الْحَوْزَ ابْتِدَاءً وَلَا يَمْنَعُهُ دَوَامًا بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ وَهَبَ رُبُعَ مَكَانٍ فَتَبَيَّنَ أَقَلُّ مِنْ
ذَلِكَ هَلْ تَبْطُلُ الْهِبَةُ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا تَبْطُلُ
.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ بِنْتَانِ وَمُطَلَّقَةٌ حَامِلٌ
وَكَتَبَ لِابْنَتَيْهِ أَلْفَيْ دِينَارٍ وَأَرْبَعَ أَمْلَاكٍ ثُمَّ بَعْدَ
ذَلِكَ وُلِدَ لِلْمُطْلَقَةِ وَلَدٌ ذَكَرٌ وَلَمْ يَكْتُبْ لَهُ شَيْئًا ثُمَّ
بَعْدَ ذَلِكَ تُوُفِّيَ الْوَالِدُ وَخَلَّفَ مَوْجُودًا خَارِجًا عَمَّا كَتَبَهُ
لِبِنْتَيْهِ وَقُسِمَ الْمَوْجُودُ بَيْنَهُمْ عَلَى حُكْمِ الْفَرِيضَةِ
الشَّرْعِيَّةِ : فَهَلْ يُفْسَخُ مَا كَتَبَ لِلْبَنَاتِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ
الْعِلْمِ : إنْ كَانَ قَدْ مَلَكَ الْبَنَاتَ تَمْلِيكًا تَامًّا مَقْبُوضًا .
فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَتَبَ لَهُنَّ فِي ذِمَّتِهِ أَلْفَيْ دِينَارٍ مِنْ
غَيْرِ إقْبَاضٍ أَوْ أَعْطَاهُنَّ شَيْئًا وَلَمْ يَقْبِضْهُ لَهُنَّ : فَهَذَا
الْعَقْدُ مَفْسُوخٌ وَيُقَسَّمُ الْجَمِيعُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ .
وَأَمَّا مَعَ حُصُولِ الْقَبْضِ :
فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ
عبادة قَسَمَ مَالَهُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فَلَمَّا مَاتَ وُلِدَ لَهُ حَمْلٌ
فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنْ يُعْطَى الْحَمْلُ نَصِيبَهُ مِنْ
الْمِيرَاثِ فَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ بِهَذَا كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ } وَقَالَ : { إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ }
لِمَنْ أَرَادَ تَخْصِيصَ بَعْضِ أَوْلَادِهِ بِالْعَطِيَّةِ . وَعَلَى الْبَنَاتِ
أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ وَيُعْطِينَ الِابْنَ حَقَّهُ .
{ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلَّذِي خَصَّصَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ : أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي } تَهْدِيدًا
لَهُ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ :
" اُرْدُدْهُ " وَقَدْ رَدَّهُ ذَلِكَ
الرَّجُلُ . وَأَمَّا إذَا وَصَّى لَهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهِيَ غَيْرُ
لَازِمَةٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا
الَّذِي خَصَّ بَنَاتَهُ بِالْعَطِيَّةِ دُونَ حَمْلِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ
ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَرُدَّهُ رُدَّ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ
أَيْضًا ؛ طَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَاتِّبَاعًا لِلْعَدْلِ الَّذِي أُمِرَ
بِهِ ؛ وَاقْتِدَاءً بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَلَا
يَحِلُّ لِلَّذِي فَضَلَ أَنْ يَأْخُذَ الْفَضْلَ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاسِمَ إخْوَتَهُ
فِي جَمِيعِ الْمَالِ بِالْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ . وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ فَأَذِنَ لِوَلَدِهِ أَنْ
يَسْتَمْتِعَ بِالْجَارِيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَيَطَأَهَا وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ
تَمْلِيكٌ لَهُ بِالْجَارِيَةِ وَلَا هِبَةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ وَأَنَّ
الْجَارِيَةَ حَصَلَ لَهَا وَلَدٌ مِنْ وَلَدِ مَالِكِ الْجَارِيَةِ
الْمَذْكُورَةِ . فَهَلْ يَكُونُ الْإِذْنُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَالْوَطْءِ
تَمْلِيكًا لِلْوَلَدِ ؟ وَهَلْ يَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا وَتَكُونُ الْجَارِيَةُ
أُمَّ وَلَدٍ لِوَلَدِ مَالِكِ الْجَارِيَةِ فَيَحْرُمُ بَيْعُهَا لِلْمَالِكِ
وَالِدِ الصَّبِيِّ الْآذِنِ لِوَلَدِهِ فِي اسْتِمْتَاعِهَا وَوَطْئِهَا ؟
الْجَوَابُ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُبْنَى عَلَى
أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا صِفَةُ الْعُقُودِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي
الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ
وَالْإِجَارَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى صِيغَةٍ ؛ بَلْ يَثْبُتُ ذَلِكَ
بِالْمُعَاطَاةِ فَمَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا أَوْ هِبَةً أَوْ إجَارَةً فَهُوَ كَذَلِكَ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَشْهُورُ اعْتِبَارُ الصِّيغَةِ ؛ إلَّا فِي مَوَاضِعَ مُسْتَثْنَاةٍ . وَحَيْثُ كَانَ ذَلِكَ بِالصِّيغَةِ فَلَيْسَ لِذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ صِيغَةً مَحْدُودَةً فِي الشَّرْعِ ؛ بَلْ الْمَرْجِعُ فِي الصِّيغَةِ الْمُفِيدَةِ لِذَلِكَ إلَى عُرْفِ الْخِطَابِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ؛ وَلِذَلِكَ صَحَّحُوا الْهِبَةَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ : أعمرتك هَذِهِ الدَّارَ وَأَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْهَمُ مِنْهُ أَهْلُ الْخِطَابِ بِهِ الْهِبَةَ . وَتَجْهِيزُ الْمَرْأَةِ بِجَهَازِهَا إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا تَمْلِيكٌ كَمَا أَفْتَى بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ وَالْعَطِيَّةَ مُطْلَقًا فِي كِتَابِهِ ؛ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا الشَّرْعِ فَيَرْجِعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ . وَالْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ إفْهَامُ الْمَعَانِي فَأَيُّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَقْصُودُ الْعَقْدِ انْعَقَدَ بِهِ . وَعَلَى هَذَا قَاعِدَةُ النَّاسِ إذَا اشْتَرَى أَحَدٌ لِابْنِهِ أَمَةً وَقَالَ : خُذْهَا لَك اسْتَمْتِعْ بِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ هَذَا تَمْلِيكًا عِنْدَهُمْ . وَأَيْضًا : فَمَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمَةَ لَا تُوطَأُ إلَّا بِمِلْكِ إذَا أَذِنَ لِابْنِهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ إلَّا تَمْلِيكَهَا ؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّمْلِيكِ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ - وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيْهِمْ - كَانَ الِابْنُ وَاطِئًا فِي مِلْكِهِ وَوَلَدُهُ حُرٌّ لَاحِقُ النَّسَبِ وَالْأَمَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ . وَأَمَّا إنْ قُدِّرَ أَنَّ الْأَبَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ تَمْلِيكٌ بِحَالِ وَاعْتَقَدَ الِابْنُ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا : كَانَ وَلَدُهُ أَيْضًا حُرًّا وَنَسَبُهُ لَاحِقٌ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ . وَإِنْ
اعْتَقَدَ الِابْنُ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَلَكِنْ وَطِئَهَا بِالْإِذْنِ : فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى " الْأَصْلِ الثَّانِي " . فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ . قَالَ : مَالِكٍ يَمْلِكُهَا بِالْقِيمَةِ حَبِلَتْ أَوْ لَمْ تَحْبَلْ . وَقَالَ الثَّلَاثَةُ : لَا يَمْلِكُهَا بِذَلِكَ . فَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ : هِيَ أَيْضًا مِلْكٌ لِلْوَلَدِ وَأُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَوَلَدُهُ حُرٌّ . وَعَلَى قَوْلِ الثَّلَاثَةِ الْأَمَةُ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ ؛ لَكِنْ الْوَلَدُ هَلْ يَصِيرُ حُرًّا مِثْلَ أَنْ يَطَأَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ بِإِذْنِهَا ؟ فِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ : " إحْدَاهُمَا " لَا يَكُونُ حُرًّا وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَإِنْ ظُنَّ أَنَّهَا حَلَالٌ لَهُ . " الثَّانِي " أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ حُرًّا ؛ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ إذَا ظَنَّ الْوَاطِئُ أَنَّهَا حَلَالٌ فَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمُرْتَهِنِ فَإِذَا وَطِئَ الْأَمَةَ الْمَرْهُونَةَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ فَإِنَّ وَلَدَهُ يَنْعَقِدُ حُرًّا ؛ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ ؛ فَإِنَّ شَبَهَ الِاعْتِقَادِ أَوْ الْمِلْكِ يُسْقِطُ الْحَدَّ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . فَكَذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ وَنَسَبِهِ ؛ كَمَا لَوْ وَطِئَهَا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ مِلْكٍ فَاسِدٍ ؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ حُرًّا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُهُمَا فِي هَذَا وَيَقُولُ : الْوَلَدُ مَمْلُوكٌ . وَأَمَّا مَالِكٍ فَعِنْدَهُ أَنَّ الْوَاطِئَ قَدْ مَلَكَ الْجَارِيَةَ بِالْوَطْءِ الْمَأْذُونِ فِيهِ . وَهَلْ عَلَى هَذَا الْوَاطِئِ بِالْإِذْنِ قِيمَةُ الْوَلَدِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ " أَحَدُهُمَا " وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَهُ بِإِذْنِهِ . " وَالثَّانِي " تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ
أَصْحَابِ
أَحْمَد . وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُهُ قَوْلًا
وَاحِدًا . وَأَمَّا الْمَهْرُ فَلَا يَلْزَمُهُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٌ
وَغَيْرِهِمَا . وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ " أَحَدُهُمَا " : يَلْزَمُهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ . وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا تَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ فَإِنَّهُ
يَجُوزُ بَيْعُهَا .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ تَصَدَّقَتْ عَلَى وَلَدِهَا فِي حَالِ
صِحَّتِهَا وَسَلَامَتِهَا بِحِصَّةِ مِنْ كُلِّ مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مِنْ
مُدَّةٍ تَزِيدُ كُلَّ عَشْرِ سِنِينَ وَمَاتَتْ الْمُتَصَدِّقَةُ ثُمَّ تَصَدَّقَ
الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا تَصَدَّقَتْ بِهِ وَالِدَتُهُ عَلَيْهِ
عَلَى وَلَدِهِ فِي حَيَاتِهِ وَثَبَتَ ذَلِكَ جَمِيعُهُ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُتَصَدِّقَةِ
الْأُولَى عِنْدَ بَعْضِ الْقُضَاةِ وَحَكَمَ بِهِ : فَهَلْ لِبَقِيَّةِ
الْوَرَثَةِ أَنْ تُبْطِلَ ذَلِكَ بِحُكْمِ اسْتِمْرَارِهِ بِالسُّكْنَى بَعْدَ
تَسْلِيمِهِ لِوَلَدِهَا الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
إذَا كَانَتْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ
يَدِ الْمُتَصَدِّقِ حَتَّى مَاتَ بَطَلَتْ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فِي
أَقْوَالِهِمْ الْمَشْهُورَةِ .
وَإِذَا أَثْبَتَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ
إثْبَاتُهُ لِذَلِكَ الْعَقْدِ مُوجِبًا لِصِحَّتِهِ . وَأَمَّا الْحَكَمُ
بِصِحَّتِهِ وَلَهُ وَرَثَةٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حَاكِمٌ
عَالِمٌ ؛ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّةُ لَيْسَتْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا
يَكُونُ حِينَئِذٍ حَاكِمًا . وَأَمَّا أَنْ تَكُونُ الصَّدَقَةُ قَدْ أَخْرَجَهَا
الْمُتَصَدِّقُ
عَنْ
يَدِهِ إلَى مَنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَهَا التَّسْلِيمَ الشَّرْعِيَّ : فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ
عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُعْطِي أَعْطَى بَقِيَّةَ
الْأَوْلَادِ مِثْلَ ذَلِكَ وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ أَوْ
يُعْطِيَ الْبَاقِينَ مِثْلَ ذَلِكَ ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ
النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : نَحَلَنِي أَبِي غُلَامًا فَقَالَتْ أُمِّي
عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ : لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقُلْت : إنِّي نَحَلْت ابْنِي غُلَامًا وَإِنَّ أُمَّهُ قَالَتْ لَا
أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: لَك وَلَدٌ غَيْرُهُ ؟ قُلْت : نَعَمْ . قَالَ : فَكُلُّهُمْ أَعْطَيْت مِثْلَ مَا
أَعْطَيْته ؟ قُلْت : لَا . قَالَ : أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي } وَفِي
رِوَايَةٍ { لَا تُشْهِدْنِي ؛ فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ . اُرْدُدْهُ } فَرَدَّهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ دَارٍ لِرَجُلِ وَأَنَّهُ تَصَدَّقَ مِنْهَا
بِالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ عَلَى وَلَدِهِ لِصُلْبِهِ وَالْبَاقِي وَهُوَ الرُّبُعُ
تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى أُخْتِهِ شَقِيقَتِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُوُفِّيَ
وَلَدُهُ الَّذِي كَانَ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ ثُمَّ إنَّ
الْمُتَصَدِّقَ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الدَّارِ عَلَى ابْنَتِهِ : فَهَلْ تَصِحُّ
الصَّدَقَةُ الْأَخِيرَةُ وَيَبْطُلُ مَا تَصَدَّقَ بِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ قَدْ مَلَّكَ أُخْتَه الرُّبُعَ تَمْلِيكًا مَقْبُوضًا
وَمَلَّكَ ابْنَهُ الثَّلَاثَةَ أَرْبَاعٍ : فَمِلْكُ الْأُخْتِ يَنْتَقِلُ إلَى
وَرَثَتِهَا ؛ لَا إلَى الْبِنْتِ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى
ابْنَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَلَهَا أَبٌ وَأُمٌّ وَزَوْجٌ
وَهِيَ رَشِيدَةٌ . وَقَدْ أَخَذَ أَبُوهَا الْقُمَاشَ . وَلَمْ يُعْطِ
الْوَرَثَةَ شَيْئًا ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ ؛ بَلْ مَا كَانَ فِي
يَدِهَا مِنْ الْمَالِ فَهُوَ لَهَا يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهَا . وَإِنْ كَانَ
هُوَ اشْتَرَاهُ وَجَهَّزَهَا بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فِي الْجَهَازِ
فَهُوَ تَمْلِيكٌ لَهَا . فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ مَوْتِهَا .
وَسُئِلَ
:
هَلْ لِمَنْ أُهْدِيَ كَلْبَ صَيْدٍ فَأَهْدَى
لِلْمُهْدَى عِوَضًا هَلْ لَهُ أَكْلُ هَذِهِ الْهَدِيَّةَ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا أَعْطَى الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ
نِيَّتِهِ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضًا وَلَا قَصْدَ بِالْهَدِيَّةِ الثَّوَابَ ؛ بَلْ
إكْرَامًا لِلْمُهْدَى إلَيْهِ ثُمَّ إنَّ الْمُهْدَى إلَيْهِ أَعْطَاهُ شَيْئًا
فَلَا بَأْسَ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَمَّا إذَا وَهَبَ لِإِنْسَانِ شَيْئًا ثُمَّ رَجَعَ
فِيهِ : هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ لِوَاهِبِ أَنْ
يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ ؛ إلَّا الْوَالِدُ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ } . وَهَذَا
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ
الْمَقْصُودُ بِالْهِبَةِ الْمُعَاوَضَةَ : مِثْلَ مَنْ يُعْطِي رَجُلًا عَطِيَّةً
لِيُعَاوِضَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَقْضِيَ لَهُ حَاجَةً : فَهَذَا إذَا لَمْ يُوفِ
بِالشَّرْطِ الْمَعْرُوفِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ
أَوْ قَدْرِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ الرَّجُلِ يَهَبُ الرَّجُلَ شَيْئًا : إمَّا
ابْتِدَاءً ؛ أَوْ يَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ ثُمَّ يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا شَنَآنٌ
فَيَرْجِعُ فِي هِبَتِهِ : فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ وَإِذَا أَنْكَرَ الْهِبَةَ وَحَلَفَ
الْمَوْهُوبُ لَهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْوَاهِبُ فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا :
هَلْ يَحْنَثُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ لِوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي
هِبَتِهِ غَيْرَ الْوَالِدِ ؛ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ عَلَى جِهَةِ
الْمُعَاوَضَةِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا فَإِذَا كَانَتْ لِأَجْلِ عِوَضٍ وَلَمْ
يَحْصُلْ فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِيهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ وُهِبَ لِابْنِهِ هِبَةً ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيهَا
وَادَّعَى أَنَّهَا مِلْكُهُ : فَهَلْ يَتَضَمَّنُ هَذَا الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الرُّجُوعَ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ وَهَبَ لِإِنْسَانِ فَرَسًا ثُمَّ بَعْدَ
ذَلِكَ بِمُدَّةِ طَلَبَ الْوَاهِبُ مِنْهُ أُجْرَتَهَا فَقَالَ لَهُ : مَا
أَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ؛ وَإِلَّا فَرَسُك خُذْهَا . قَالَ الْوَاهِبُ : مَا
آخُذُهَا إلَّا أَنْ تُعْطِيَنِي أُجْرَتَهَا : فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ وَتَجُوزُ
لَهُ أُجْرَةٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا أَعَادَ إلَيْهِ الْعَيْنَ الْمَوْهُوبَةَ فَلَا
شَيْءَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأُجْرَتِهَا وَلَا
مُطَالَبَتُهُ بِالضَّمَانِ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ ضَامِنًا لَهَا وَكَانَ يُطْعِمُهَا
بِانْتِفَاعِهِ بِهَا مُقَابَلَةً لِذَلِكَ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَدَّمَ لِأَمِيرِ مَمْلُوكًا عَلَى سَبِيلِ
التَّعْوِيضِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ مُبَايَعَةٍ فَمَكَثَ
الْغُلَامُ عِنْدَ الْأَمِيرِ مُدَّةَ سَنَةٍ يَخْدِمُهُ ثُمَّ مَاتَ الْأَمِيرُ :
فَهَلْ لِصَاحِبِ الْمَمْلُوكِ التَّعَلُّقُ عَلَى وَرَثَةِ الْأَمِيرِ بِوَجْهِ :
بِثَمَنِ أَوْ أُجْرَةِ خِدْمَةٍ أَوْ بِحَالِ مِنْ الْأَحْوَالِ ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ إذَا وَهَبَهُ بِشَرْطِ الثَّوَابِ لَفْظًا أَوْ
عُرْفًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْمَوْهُوبِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الثَّوَابُ
الَّذِي اسْتَحَقَّهُ إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ بَاقِيًا ؛ وَإِنْ كَانَ تَالِفًا
فَلَهُ قِيمَتُهُ أَوْ الثَّوَابُ . وَالثَّوَابُ هُنَا هُوَ الْعِوَضُ
الْمَشْرُوطُ عَلَى الْمَوْهُوبِ
.
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُل أَهْدَى الْأَمِيرَ هَدِيَّةً لِطَلَبِ
حَاجَةٍ ؛ أَوْ التَّقَرُّبِ أَوْ لِلِاشْتِغَالِ بِالْخِدْمَةِ عِنْدَهُ أَوْ مَا
أَشْبَه ذَلِكَ : فَهَلْ يَجُوزُ أَخْذُ هَذِهِ الْهَدِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ
أَمْ لَا ؟ وَإِنْ أَخَذَ الْهَدِيَّةَ انْبَعَثَتْ النَّفْسُ إلَى قَضَاءِ
الشُّغْلِ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ لَمْ تَنْبَعِثْ النَّفْسُ فِي قَضَاءِ الشُّغْلِ
: فَهَلْ يَجُوزُ أَخْذُهَا وَقَضَاءُ شُغْلِهِ أَوْ لَا يَأْخُذُ وَلَا يَقْضِي ؟
وَرَجُلٌ
مَسْمُوعُ الْقَوْلِ عِنْدَ مَخْدُومِهِ إذَا أَعْطَوْهُ شَيْئًا لِلْأَكْلِ أَوْ هَدِيَّةً
لِغَيْرِ قَضَاءِ حَاجَةٍ : فَهَلْ يَجُوزُ أَخْذُهَا ؟ وَإِنْ رَدَّهَا عَلَى
الْمُهْدِي انْكَسَرَ خَاطِرُهُ : فَهَلْ يَحِلُّ أَخْذُ هَذَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ شَفَعَ
لِأَخِيهِ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا
عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا } وَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ السُّحْتِ ؟
فَقَالَ : هُوَ أَنْ تَشْفَعَ لِأَخِيك شَفَاعَةً فَيَهْدِيَ لَك هَدِيَّةً
فَتَقْبَلَهَا . فَقَالَ لَهُ : أَرَأَيْت إنْ كَانَتْ هَدِيَّةً فِي بَاطِلٍ ؟
فَقَالَ ذَلِكَ كُفْرٌ { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْكَافِرُونَ } وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّ مَنْ أَهْدَى هَدِيَّةً
لِوَلِيِّ أَمْرٍ لِيَفْعَلَ مَعَهُ مَا لَا يَجُوزُ كَانَ حَرَامًا عَلَى الْمَهْدِيِّ
وَالْمُهْدَى إلَيْهِ . وَهَذِهِ مِنْ الرَّشْوَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي
} وَالرِّشْوَةُ تُسَمَّى " الْبِرْطِيلُ " . " وَالْبِرْطِيلُ "
فِي اللُّغَةِ : هُوَ الْحَجَرُ الْمُسْتَطِيلُ فَاهُ . فَأَمَّا إذَا أَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً
لِيَكُفَّ ظُلْمَهُ عَنْهُ أَوْ لِيُعْطِيَهُ حَقَّهُ الْوَاجِبَ : كَانَتْ هَذِهِ
الْهَدِيَّةُ حَرَامًا عَلَى الْآخِذِ وَجَازَ لِلدَّافِعِ أَنْ يَدْفَعَهَا
إلَيْهِ كَمَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا
قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ قَالَ ؟ يَأْبَوْنَ إلَّا أَنْ
يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ } وَمِثْلُ ذَلِكَ إعْطَاءُ مَنْ
أَعْتَقَ وَكَتَمَ عِتْقَهُ أَوْ أَسَرَّ خَبَرًا أَوْ كَانَ ظَالِمًا لِلنَّاسِ
فَإِعْطَاءُ هَؤُلَاءِ : جَائِزٌ لِلْمُعْطِي حَرَامٌ عَلَيْهِمْ أَخْذُهُ .
وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ فِي الشَّفَاعَةِ :
مِثْلُ أَنْ يَشْفَعَ لِرَجُلِ عِنْدَ وَلِيِّ أَمْرٍ لِيَرْفَعَ عَنْهُ مَظْلِمَةً أَوْ يُوَصِّلَ إلَيْهِ حَقَّهُ أَوْ يُوَلِّيَهُ وِلَايَةً يَسْتَحِقُّهَا أَوْ يَسْتَخْدِمُهُ فِي الْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ - وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ - أَوْ يُعْطِيَهُ مِنْ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ الْفُقَهَاءِ أَوْ الْقُرَّاءِ أَوْ النُّسَّاكِ أَوْ غَيْرِهِمْ - وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ . وَنَحْوَ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ الَّتِي فِيهَا إعَانَةٌ عَلَى فِعْلٍ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكُ مُحَرَّمٍ : فَهَذِهِ أَيْضًا لَا يَجُوزُ فِيهَا قَبُولُ الْهَدِيَّةِ وَيَجُوزُ لِلْمَهْدِيِّ أَنْ يَبْذُلَ فِي ذَلِكَ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ أَوْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ . هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَكَابِرِ . وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ هَذَا مِنْ " بَابِ الْجِعَالَةِ " وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ : فَهُوَ غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْعَمَلِ هُوَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَكُونُ الْقِيَامُ بِهَا فَرْضًا ؛ إمَّا عَلَى الْأَعْيَانِ ؛ وَإِمَّا عَلَى الْكِفَايَةِ وَمَتَى شُرِعَ أَخْذُ الْجُعْلِ عَلَى مِثْلِ هَذَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْوِلَايَةُ وَإِعْطَاءُ أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا لِمَنْ يَبْذُلُ فِي ذَلِكَ وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَفُّ الظُّلْمِ عَمَّنْ يَبْذُلُ فِي ذَلِكَ وَاَلَّذِي لَا يَبْذُلُ لَا يُوَلَّى وَلَا يُعْطَى وَلَا يُكَفُّ عَنْهُ الظُّلْمُ وَإِنْ كَانَ أَحَقَّ وَأَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا . وَالْمَنْفَعَةُ فِي هَذَا لَيْسَتْ لِهَذَا الْبَاذِلِ حَتَّى يُؤْخَذَ مِنْهُ الْجُعْلُ عَلَى الْآبِقِ وَالشَّارِدِ . وَإِنَّمَا الْمَنْفَعَةُ لِعُمُومِ النَّاسِ : أَعْنِي الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُوَلِّيَ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ أَصْلَحَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا وَأَنْ يُرْزَقَ مِنْ رِزْقِ الْمُقَاتِلَةِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَأَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ وَأَنْفَعُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يُعَاوِنُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَخْذُ جُعْلٍ مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ عَلَى ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَنْ تُطْلَبَ هَذِهِ
الْأُمُورُ بِالْعِوَضِ وَنَفْسُ طَلَبِ الْوِلَايَاتِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَكَيْفَ بِالْعِوَضِ ؟ وَلَزِمَ أَنَّ مَنْ كَانَ مُمْكِنًا فِيهَا يُوَلَّى وَيُعْطَى وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَحَقَّ وَأَوْلَى ؛ بَلْ يَلْزَمُ تَوْلِيَةُ الْجَاهِلِ وَالْفَاسِقِ وَالْفَاجِرِ وَتَرْكُ الْعَالِمِ الْعَادِلِ الْقَادِرِ ؛ وَأَنْ يُرْزَقَ فِي دِيوَانِ الْمُقَاتِلَةِ الْفَاسِقُ وَالْجَبَانُ الْعَاجِزُ عَنْ الْقِتَالِ وَتَرْكُ الْعَدْلِ الشُّجَاعِ النَّافِعِ لِلْمُسْلِمِينَ . وَفَسَادُ مِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ . وَإِذَا أَخَذَ وَشَفَعَ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَغَيْرُهُ أَوْلَى فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَلَا يَشْفَعَ ؛ وَتَرْكُهُمَا خَيْرٌ . وَإِذَا أَخَذَ وَشَفَعَ لِمَنْ هُوَ الْأَحَقُّ الْأُولَى وَتَرَكَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ فَحِينَئِذٍ تَرْكُ الشَّفَاعَةِ وَالْأَخْذُ أَضَرُّ مِنْ الشَّفَاعَةِ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ . وَيُقَالُ لِهَذَا الشَّافِعِ الَّذِي لَهُ الْحَاجَةُ الَّتِي تُقْبَلُ بِهَا الشَّفَاعَةُ : يَجِبُ عَلَيْك أَنْ تَكُونَ نَاصِحًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَك هَذَا الْجَاهُ وَالْمَالُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ لَك هَذَا الْجَاهُ وَالْمَالُ فَأَنْتَ عَلَيْك أَنْ تَنْصَحَ الْمَشْفُوعَ إلَيْهِ فَتُبَيِّنُ لَهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ وَالِاسْتِخْدَامَ وَالْعَطَاءَ . وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ ؛ وَتَنْصَحُ لِلْمُسْلِمِينَ بِفِعْلِ مِثْلِ ذَلِكَ وَتَنْصَحُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ بِطَاعَتِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ طَاعَتِهِ وَتَنْفَعُ هَذَا الْمُسْتَحِقَّ بِمُعَاوَنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا عَلَيْك أَنْ تُصَلِّيَ وَتَصُومَ وَتُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَأَمَّا الرَّجُلُ الْمَسْمُوعُ الْكَلَامِ فَإِذَا أَكَلَ قَدْرًا زَائِدًا عَنْ الضِّيَافَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُكَافِئَ الْمُطْعِمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَوْ لَا يَأْكُلُ الْقَدْرَ الزَّائِدَ ؛ وَإِلَّا فَقَبُولُهُ الضِّيَافَةَ الزَّائِدَةَ مِثْلَ قَبُولِهِ لِلْهَدِيَّةِ ؛ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الشَّاهِدِ وَالشَّافِعِ إذَا أَدَّى الشَّهَادَةَ وَقَامَ بِالشَّفَاعَةِ ؛ لِضِيَافَةِ أَوْ جُعْلٍ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ الْفَسَادِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ قَدَّمَ لِبَعْضِ الْأَكَابِرِ غُلَامًا
وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ أَنَّهُ إذَا قَدَّمَ يُعْطَى ثَمَنَهُ أَوْ نَظِيرَ
الثَّمَنِ فَلَمْ يُعْطَ شَيْئًا وَتَزَوَّجَ وَجَاءَهُ أَوْلَادٌ وَتُوُفِّيَ :
فَهَلْ أَوْلَادُهُ أَحْرَارٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَرِثُ أَوْلَادُ مَالِكِ
الْأَصْلِ صَاحِبَ الْعُهْدَةِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ
الْجَارِيَةُ بِالتَّعْوِيضِ وَأَعْطَاهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَإِنَّهُ
يَسْتَحِقُّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ
: إمَّا التَّعْوِيضُ وَإِمَّا الرُّجُوعُ فِي
الْمَوْهُوبِ . وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ
الْمَوْهُوبُ لَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ . وَأَمَّا
أَوْلَادُهُ فَيَتَّبِعُونَ أُمَّهُمْ فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَهُمْ أَحْرَارٌ
وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً فَهُمْ مِلْكٌ لِمَالِكِهَا ؛ لَا لِمَالِكِ الْأَبِ ؛
إذْ الْأَوْلَادُ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهَا يَتَّبِعُونَ
أُمَّهُمْ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَيَتَّبِعُونَ أَبَاهُمْ فِي النَّسَبِ
وَالْوَلَاءِ . وَإِذَا لَمْ يَرْجِعْ الْوَاهِبُ حَتَّى فَاتَ الرُّجُوعُ فَلَهُ
أَنْ يُطَالِبَ الْمَوْهُوبَ لَهُ بِالتَّعْوِيضِ إنْ كَانَ حَيًّا وَفِي
تَرِكَتِهِ إنْ كَانَ مَيِّتًا : كَسَائِرِ الدُّيُونِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ عَتَقَ وَلَهُ
أَوْلَادٌ مِنْ حُرَّةٍ فَهُمْ أَحْرَارٌ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا وَوَهَبَهُ شَيْئًا حَتَّى
أَثْرَى الْعَبْدُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ حُرًّا : فَهَلْ يَأْخُذُ
مِنْهُ مَا وَهَبَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ عَبْدٌ ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ لَهُ أَخْذُهُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَسَأَلَهَا الصُّلْحَ
فَصَالَحَهَا . وَكَتَبَ لَهَا دِينَارَيْنِ . فَقَالَ لَهَا : هَبِينِي
الدِّينَارَ الْوَاحِدَ فَوَهَبَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا : فَهَلْ لَهَا الرُّجُوعُ
فِي الْهِبَةِ وَالْحَالُ هَذِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ ، لَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَتْهُ
وَالْحَالُ هَذِهِ فَإِنَّهُ سَأَلَهَا الْهِبَةَ وَطَلَّقَهَا مَعَ ذَلِكَ وَهِيَ
لَمْ تَطْلُبْ نَفْسَهَا أَنْ يَأْخُذَ مَالَهَا بِسُؤَالِهَا وَيُطَلِّقَهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ وَهَبَ لِزَوْجَتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ
وَكَتَبَ عَلَيْهِ بِهَا حُجَّةً وَلَمْ يَقْبِضْهَا شَيْئًا وَمَاتَتْ وَقَدْ
طَالَبَهُ وَرَثَتُهَا بِالْمَبْلَغِ :
فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي
ذِمَّتِهِ شَيْءٌ قَبْلَ ذَلِكَ
- لَا هَذَا الْمَبْلَغُ وَلَا مَا يَصْلُحُ أَنْ
يَكُونَ هَذَا الْمَبْلَغُ عِوَضًا عَنْهُ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ
بَعْضَ جَهَازِهَا وَصَالَحَهَا عَنْ قِيمَتِهِ بِهَذَا الْمَبْلَغِ وَنَحْوَ
ذَلِكَ - فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ وَرَثَتُهَا شَيْئًا مِنْ هَذَا الدَّيْنِ فِي
نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنْ كَانَ إقْرَارٌ فَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُمْ أَنَّهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ أَنَّ بَاطِنَ هَذَا الْإِقْرَارِ يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ وَإِذَا
قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ لَهُ بِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ
تَلْجِئَةٌ فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ . وَلَوْ كَانَ قِيمَةً مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ
مَالِهَا أَقَلَّ مِنْ هَذَا الْمَبْلَغِ فَصَالَحَهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ
قِيمَتِهِ : فَفِي لُزُومِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ :
تُبْطِلُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَيُصَحِّحُهُ أَبُو
حَنِيفَةَ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالٌ يَسْتَغْرِقُهُ
الدَّيْنُ وَيَفْضُلُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ وَأَوْهَبَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ
لِمَمْلُوكِ مَعْتُوقٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ : فَهَلْ لِأَهْلِ الدَّيْنِ
اسْتِرْجَاعُهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ
مُسْتَغْرِقٌ لِمَالِهِ فَلَيْسَ لَهُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَنْ يَتَبَرَّعَ
لِأَحَدِ بِهِبَةِ ؛ لَا مُحَابَاةً وَلَا إبْرَاءً مِنْ دَيْنٍ إلَّا بِإِجَازَةِ
الْغُرَمَاءِ ؛ بَلْ لَيْسَ لِلْوَرَثَةِ حَقٌّ إلَّا بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ .
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّة وَالتَّبَرُّعِ فِي
مَرَضِ الْمَوْتِ كَالْوَصِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ وَلَدَيْنِ ذَكَرَيْنِ
وَبِنْتًا وَزَوْجَةً وَقُسِّمَ عَلَيْهِمْ الْمِيرَاثُ ثُمَّ إنَّ لَهُمْ أُخْتًا
بِالْمَشْرِقِ : فَلَمَّا قَدِمَتْ تَطْلُبُ مِيرَاثَهَا فَوَجَدَتْ
الْوَلَدَيْنِ مَاتَا وَالزَّوْجَةَ أَيْضًا وَوَجَدَتْ الْمَوْجُودَ عِنْدَ
أُخْتِهَا فَلَمَّا ادَّعَتْ عَلَيْهَا وَأَلْزَمَتْ بِذَلِكَ فَخَافَتْ مِنْ
الْقَطِيعَةِ بَيْنَهُمَا : فَأَشْهَدَتْ عَلَى نَفْسِهَا بِأَنَّهَا
أَبْرَأَتْهَا
فَلَمَّا
حَصَلَ الْإِبْرَاءُ مِنْهَا حَلَفَ زَوْجُهَا بِالطَّلَاقِ أَنَّ أُخْتَهَا لَا تَجِيءُ
إلَيْهَا وَلَا هِيَ تَرُوحُ لَهَا ؛ وَالْمَذْكُورَةُ لَمْ تَهَبْهَا الْمَالَ
إلَّا لِتَحْصِيلِ الصِّلَةِ وَالْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمَا ؛ وَلَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهَا
: فَهَلْ لَهَا الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ ؟ وَهَلْ يَمْنَعُ الْإِبْرَاءَ أَنْ
تَدَّعِيَ بِذَلِكَ وَتُطْلَبَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا كَانَتْ
قَدْ قَالَتْ عِنْدَ الْهِبَةِ : أَنَا أَهَبُ أُخْتِي لِتُعِينَنِي عَلَى
أُمُورِي وَنَتَعَاوَنُ أَنَا وَهِيَ فِي بِلَادِ الْغُرْبَةِ . أَوْ قَالَتْ
لَهَا أُخْتُهَا : هَبِينِي هَذَا الْمِيرَاثَ قَالَتْ : مَا أَوْهَبَك إلَّا
لِتَخْدِمِينِي فِي بِلَادِ الْغُرْبَةِ ؛ ثُمَّ أَوْهَبَتْهَا أَوْ جَرَى
بَيْنَهُمَا مِنْ الِاتِّفَاقِ مَا يُشَبِّهُ ذَلِكَ ؛ بِحَيْثُ وَهَبَتْهَا
لِأَجْلِ مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لَهَا مِنْهَا ؛ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا
الْغَرَضُ فَلَهَا أَنْ تَفْسَخَ الْهِبَةَ وَتَرْجِعَ فِيهَا . فَالْعِوَضُ فِي
مِثْلِ هَذِهِ الْهِبَةِ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ
: إنَّ مَنْفَعَتَهُ تَكُونُ بِقَدْرِ قِيمَةِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ ؛ وَلَهَا عَلَيْهِ صَدَاقٌ
فَلَمَّا حَضَرَتْهَا الْوَفَاةُ أَحْضَرَتْ شَاهِدَ عَدْلٍ وَجَمَاعَةِ نِسْوَةٍ
وَأَشْهَدَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ مِنْ الصَّدَاقِ : فَهَلْ
يَصِحُّ هَذَا الْإِبْرَاءُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ الصَّدَاقُ ثَابِتًا
عَلَيْهِ إلَى أَنْ مَرِضَتْ مَرَضَ الْمَوْتِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ إلَّا
بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ الْبَاقِينَ .
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ أَبْرَأَتْهُ فِي الصِّحَّةِ
جَازَ
ذَلِكَ وَثَبَتَ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَثَبَتَ أَيْضًا بِشَهَادَةِ
امْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٍ عِنْدَ مَالِكٍ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَإِنْ
أَقَرَّتْ فِي مَرَضِهَا أَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ فِي الصِّحَّةِ لَمْ يُقْبَلْ
هَذَا الْإِقْرَارُ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا ؛ وَيُقْبَلُ
عِنْدَ الشَّافِعِيِّ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَظٍّ حَظَّهُ فَلَا وَصِيَّة
لِوَارِثِ } وَلَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَخُصَّ الْوَارِثَ بِأَكْثَرَ مِمَّا
أَعْطَاهُ اللَّهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ خَصَّ بَعْضَ الْأَوْلَادِ عَلَى بَعْضٍ ؟
فَأَجَابَ
:
لَيْسَ لَهُ فِي حَالِ مَرَضِهِ أَنْ يَخُصَّ أَحَدًا
مِنْهُمْ بِأَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ مِيرَاثِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا
فَعَلَ ذَلِكَ فَلِبَاقِي الْوَرَثَةِ رَدُّهُ وَأَخْذُ حُقُوقِهِمْ ؛ بَلْ لَوْ
فَعَلَ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّهُ حَيًّا وَمَيِّتًا . وَيَرُدُّهُ
الْمُخَصَّصُ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ أَعْطَى بَعْضَ أَوْلَادِهِ شَيْئًا وَلَمْ
يُعْطِ الْآخَرَ ؛ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ طَائِعًا لَهُ : فَهَلْ لَهُ بِرُّ مَنْ
أَطَاعَهُ وَحِرْمَانُ مَنْ عَصَاهُ وَحَلَفَ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِ بِالطَّلَاقِ
أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ أَبَاهُ إنْ لَمْ يُوَاسِهِ : فَهَلْ لَهُ مَخْرَجٌ ؟
وَهَلْ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ تَجْرِي مَجْرَى الْإِيمَانِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ كَمَا
أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِبَشِيرِ بْن سَعْدٍ لَمَّا
نَحَلَ ابْنَهُ النُّعْمَانَ نَحْلًا وَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِيُشْهِدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ : اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا
بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ وَقَالَ : لَا تُشْهِدْنِي عَلَى هَذَا فَإِنِّي لَا
أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ وَقَالَ لَهُ : اُرْدُدْهُ } فَرَدَّهُ بَشِيرٌ . وَقَالَ
لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ : { لَا أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي } . لَكِنْ
إذَا خَصَّ أَحَدَهُمَا بِسَبَبِ شَرْعِيٍّ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا
مُطِيعًا لِلَّهِ وَالْآخَرُ غَنِيٌّ عَاصٍ يَسْتَعِينُ بِالْمَالِ عَلَى
الْمَعْصِيَةِ فَإِذَا أَعْطَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بِإِعْطَائِهِ وَمَنَعَ مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ بِمَنْعِهِ فَقَدْ أَحْسَنَ .
وَأَمَّا
الَّذِي حَلَفَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ أَبَاهُ . فَأَيُّمَا يَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ
الْمُسْلِمِينَ حَلَفَ بِهَا الرَّجُلُ فَعَلَيْهِ إذَا حَنِثَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
. وَأَيُّ يَمِينٍ حَلَفَ عَلَيْهَا وَرَأَى الْحِنْثَ خَيْرًا مِنْ الْإِصْرَارِ
عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَحْنَثُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَسَوَاءٌ حَلَفَ بِاسْمِ اللَّهِ أَوْ بِالنَّذْرِ أَوْ
بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ أَوْ الظِّهَارِ أَوْ الْحَرَامِ كَقَوْلِهِ : إنْ
فَعَلْت كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ وَعَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ وَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ
وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَكُلُّ مَا كَانَ
مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ أَجْزَأَتْ فِيهِ كَفَّارَةٌ . وَمَا لَمْ يَكُنْ
مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ : كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَشَايِخِ
وَالْمُلُوكِ وَالْآبَاءِ : فَإِنَّهَا أَيْمَانٌ مُحَرَّمَةٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ
وَلَا حُرْمَةَ لَهَا . وَلَيْسَ فِي شَرْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا يَمِينَانِ
: يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ . وَيَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ
فَلَا شَيْءَ فِيهَا إذَا حَنِثَ . وَمَنْ أَثْبَتَ مِنْ الْعُلَمَاءِ
يَمِينًا مُنْعَقِدَةً غَيْرَ مُكَفِّرَةٍ : فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ
لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ لَهُ أَوْلَادٌ : ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ .
فَنَحَلَ الْبَنَاتَ دُونَ الذُّكُورِ قَبْلَ وَفَاتِهِ : فَهَلْ يَبْقَى فِي
ذِمَّتِهِ شَيْءٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْحَلَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ
دُونَ بَعْضٍ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { اتَّقُوا اللَّهَ :
وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ }
وَكَانَ رَجُلٌ قَدْ نَحَلَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ ؛
وَطَلَبَ أَنْ يَشْهَدَ فَقَالَ : { إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ وَأَمَرَهُ
بِرَدِّ ذَلِكَ } فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَى
الْبَنَاتِ مَا أَعْطَاهُمْ حَتَّى مَاتَ أَوْ مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَهَذَا
مَرْدُودٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ . وَإِنْ
كَانَ قَدْ أَقْبَضَهُمْ فِي الصِّحَّةِ : فَفِي رَدِّهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ
. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ تَرَكَ أَوْلَادًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا
وَتَزَوَّجَ الْإِنَاثَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِمْ فَأَخَذُوا الْجِهَازَ جُمْلَةً
كَثِيرَةً . ثُمَّ لَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ لَمْ يَرِثْ الذُّكُورُ إلَّا شَيْئًا
يَسِيرًا فَهَلْ عَلَى الْبَنَاتِ أَنْ يتحاصوا هُمْ وَالذُّكُورُ فِي الْمِيرَاثِ
وَاَلَّذِي مَعَهُمْ أَوْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ
أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَضِّلَ بَعْضًا عَلَى بَعْضٍ
كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ حَيْثُ نَهَى
عَنْ الْجَوْرِ فِي التَّفْضِيلِ وَأَمَرَ بِرَدِّهِ . فَإِنْ فَعَلَ وَمَاتَ
قَبْلَ الْعَدْلِ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ فَضَلَ أَنْ يَتْبَعَ الْعَدْلَ
بَيْنَ إخْوَتِهِ ؛ فَيَقْتَسِمُونَ جَمِيعَ الْمَالِ - الْأَوَّلَ وَالْآخِرَ -
عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ وَهَبَ لِأَوْلَادِهِ مَمَالِيكَ ثُمَّ
قَصَدَ عِتْقَهُمْ : فَهَلْ الْأَفْضَلُ اسْتِرْجَاعُهُمْ مِنْهُمْ وَعِتْقُهُمْ
أَوْ إبْقَاؤُهُمْ فِي يَدِ الْأَوْلَادِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ أَوْلَادُهُ مُحْتَاجِينَ
إلَى الْمَمَالِيكِ فَتَرْكُهُمْ لِأَوْلَادِهِ أَفْضَلُ مِنْ اسْتِرْجَاعِهِمْ
وَعِتْقِهِمْ ؛ بَلْ صِلَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمُحْتَاجِ أَفْضَلُ مِنْ الْعِتْقِ ؛
كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَتْ جَارِيَةً لَهَا فَذَكَرَتْ ذَلِكَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَوْ أَعْطَيْتهَا
أَخْوَالَك كَانَ خَيْرًا لَك } فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ فَضَّلَ إعْطَاءَ الْخَالِ عَلَى الْعِتْقِ فَكَيْفَ الْأَوْلَادُ
الْمُحْتَاجُونَ وَأَمَّا إنْ كَانَ الْأَوْلَادُ مُسْتَغْنِينَ عَنْ بَعْضِهِمْ
فَعِتْقُهُ حَسَنٌ وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هَذِهِ الْهِبَةِ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا ؛ وَلَا يَرْجِعُ فِيهَا عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ تَوَفَّيْت زَوْجَتُهُ وَخَلَّفَتْ
أَوْلَادًا وَمَوْجُودًا تَحْتَ يَدِهِ وَلَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ أَنْ يَتَزَوَّجَ :
فَهَلْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَوْجُودِ الْأَوْلَادِ جَارِيَةً تَخْدِمُهُمْ
وَيَطَؤُهَا وَيَتَزَوَّجُ مِنْ مَالِهِمْ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُضِرًّا
بِأَوْلَادِهِ فَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنْ مَالِهِمْ مَا يَشْتَرِي بِهِ أَمَةً
يَطَؤُهَا وَتَخْدِمُهُمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ أَعْطَاهَا زَوْجُهَا حُقُوقَهَا فِي
حَالِ حَيَاتِهِ وَلَهَا مِنْهُ أَوْلَادٌ وَأَعْطَاهَا مَبْلَغًا غَيْرَ
صَدَاقِهَا لِتَنْفَعَ بِهِ نَفْسَهَا وَأَوْلَادَهَا . فَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهَا
أَحَدٌ وَأَرَادَ أَنْ يُحَلِّفَهَا : فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَحْلِفَ
لِنَفْيِ الظُّلْمِ عَنْهَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا وَهَبَ لِأَوْلَادِهِ مِنْهَا
مَا وَهَبَهُ ؛ وَقَبَضَ ذَلِكَ ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ ظُلْمٌ لِأَحَدِ : كَانَ
ذَلِكَ هِبَةً صَحِيحَةً ؛ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يَنْتَزِعَهُ
مِنْهَا
. وَإِذَا كَانَ قَدْ جَعَلَ نَصِيبَ الْأَوْلَادِ إلَيْهَا حَيًّا
وَمَيِّتًا ؛ وَهِيَ أَهْلٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ نَزْعُهُ مِنْهَا . وَإِذَا
حَلَفَتْ : تَحْلِفُ أَنْ عِنْدَهَا لِلْمَيِّتِ شَيْءٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدِهِ بِصَدَقَةِ
وَنَزَّلَهَا فِي كِتَابِ زَوْجَتِهِ ؛ وَقَدْ ضَعُفَ حَالُ الْوَالِدِ ؛
وَجَفَاهُ وَلَدُهُ : فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ قَدْ أَعْطَاهُ لِلْمَرْأَةِ فِي صَدَاقِ
زَوْجَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ أَعْطَى أَوْلَادَهُ الْكِبَارَ شَيْئًا
ثُمَّ أَعْطَى لِأَوْلَادِهِ الصِّغَارَ نَظِيرَهُ : ثُمَّ إنَّهُ قَالَ :
اشْتَرُوا بِالرِّيعِ مِلْكًا ؛ أَوْقِفُوهُ عَلَى الْجَمِيعِ بَعْدَ أَنْ
قَبَضُوا مَا أَعْطَاهُمْ : فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَلَدَيْنِ
الْمُمَلَّكَيْنِ بِمَا ذَكَرَ ؛ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ رُجُوعًا فِي الْهِبَةِ ؛
وَلَوْ كَانَ رُجُوعًا فِي الْهِبَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي مِثْلِ
هَذِهِ الْهِبَةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَعْطَى الْوَلَدَيْنِ الْآخَرَيْنِ مَا عَدَلَ
بِهِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ
الْبَاقِينَ
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ
. كَيْفَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي
أَوْلَادِكُمْ } وَقَالَ : { إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ } وَقَالَ فِي
التَّفْضِيلِ : " اُرْدُدْهُ
" وَقَالَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ
لِلْمُفَضِّلِ : { أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ مَلَّكَ بِنْتَه مَلِكًا ثُمَّ مَاتَتْ
وَخَلَّفَتْ وَالِدَهَا وَوَلَدَهَا : فَهَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا
كَتَبَهُ لِبِنْتِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، مَا مَلَكَتْهُ
الْبِنْتُ مَلِكًا تَامًّا مَقْبُوضًا وَمَاتَتْ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهَا
فَلِأَبِيهَا السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِابْنِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ
" غَيْرُهُمَا " . وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ مَوْتِ الْبِنْتِ فِيمَا
مَلَكَهَا بِالِاتِّفَاقِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ وَهَبَ لِابْنَتِهِ مَصَاغًا لَمْ
يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِأَحَدِ وَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهَا
شَيْئًا مِنْهُ ؛ وَاحْتَاجَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا : فَهَلْ لَهُ أَنْ
يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ أَعْطَتْهُ شَيْئًا مِنْ طِيبِ نَفْسِهَا
هَلْ يَحْنَثُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ
لَهَا ؛ لَكِنَّهُ إنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ حَنِثَ . فَإِنْ كَانَ
قَصْدُهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ قَلْبِهَا أَوْ بِغَيْرِ
إذْنِهَا فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُهَا أَوْ أَذِنَتْ لَمْ يَحْنَثْ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ لَهُ أَوْلَادٌ وَهَبَ لَهُمْ مَالَهُ
وَوَهَبَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ لِوَلَدِهِ ؛ وَقَدْ رَجَعَ الْوَالِدُ الْأَوَّلُ
فِيمَا وَهَبَهُ لِأَوْلَادِهِ ؛ فَرَدُّوا عَلَيْهِ إلَّا الَّذِي وَهَبَهُ
لِوَلَدِهِ امْتَنَعَ : فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ وَلَدِهِ
وَيُسَلِّمَهُ لِوَالِدِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ قَدْ وَهَبَ لِوَلَدِهِ
شَيْئًا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ
صَارَتْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ أَوْ زَوَّجُوهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ : فَلَهُ أَنْ
يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ مَاتَتْ وَالِدَتُهُ وَخَلَّفَتْهُ
وَوَالِدَهُ وَكَرِيمَتَهُ ثُمَّ مَاتَتْ كَرِيمَتُهُ فَأَرَادَ وَالِدُهُ أَنْ
يُزَوِّجَهُ فَقَالَ : مَا أُزَوِّجُك حَتَّى تُمَلِّكَنِي مَا وَرِثْته عَنْ
وَالِدَتِك : فَمَلَّكَهُ ذَلِكَ وَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالرُّبُعِ بِشُهُودِ
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَرِضَ
وَالِدُهُ
مَرَضًا غَيَّبَ عَقْلَهُ فَرَجَعَ فِيمَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى وَلَدِهِ وَأَوْقَفَهَا
عَلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَابْنَتِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ وَلَدَهُ وَانْتَسَخَ
كِتَابَ الْوَقْفِ مَرَّتَيْنِ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يُخَصِّصَ أَوْلَادَهُ
وَيُخْرِجَ وَلَدَهُ مِنْ جَمِيعِ إرْثِ وَالِدَتِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
إنْ كَانَ الْأَبُ قَدْ أَعْطَى ابْنَهُ شَيْئًا عِوَضًا
عَمَّا أَخَذَهُ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ صَدَقَةً لِلَّهِ
فَفِي رُجُوعِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . أَحَدُهُمَا لَا يَرْجِعُ .
وَالثَّانِي يَرْجِعُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمَتَى رَجَعَ
وَعَقْلُهُ غَائِبٌ ؛ أَوْ أَوْقَفَ وَعَقْلُهُ غَائِبٌ أَوْ عَقَدَ عَقْدًا :
لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ وَلَا وَقْفُهُ ؛ إذَا كَانَ مُغَيَّبًا عَقْلُهُ بِمَرَضِ
بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ
.
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ سُرِقَ لَهُ مَبْلَغٌ ؛ فَظَنَّ فِي أَحَدِ
أَوْلَادِهِ أَنَّهُ هُوَ أَخَذَهُ ؛ ثُمَّ صَارَ يَدْعُو عَلَيْهِ وَهَجَرَهُ ؛
وَهُوَ بَرِيءٌ وَلَمْ يَكُنْ أَخَذَ شَيْئًا : فَهَلْ يُؤْجَرُ الْوَلَدُ
بِدُعَاءِ وَالِدِهِ عَلَيْهِ .
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ إذَا كَانَ الْوَلَدُ مَظْلُومًا ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ يُكَفِّرُ عَنْهُ بِمَا يَظْلِمُهُ وَيُؤْجِرُهُ عَلَى صَبْرِهِ ؛
وَيَأْثَمُ مَنْ يَدْعُو عَلَى غَيْرِهِ عُدْوَانًا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ خَلَّفَ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا
وَتَقَاسَمَهُ أَوْلَادُهُ وَأَعْطَوْا أُمَّهُمْ كِتَابَهَا وَثَمَنَهَا وَبَعْدَ
قَلِيلٍ وَجَدَ الْأَوْلَادُ مَعَ أُمِّهِمْ شَيْئًا يَجِيءُ ثُلُثُ الْوِرَاثَةِ
. فَقَالُوا : مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا الْمَالُ ؟ فَقَالَتْ : لَمَّا كَانَ
أَبُوكُمْ مَرِيضًا طَلَبْت مِنْهُ شَيْئًا فَأَعْطَانِي ثُلُثَ مَالِهِ
فَأَخَذُوا الْمَالَ مِنْ أُمِّهِمْ ؛ وَقَالُوا : مَا أَعْطَاك أَبُونَا شَيْئًا
: فَهَلْ يَجِبُ رَدُّ الْمَالِ إلَيْهَا .
فَأَجَابَ
:
مَا أَعْطَى الْمَرِيضُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
لِوُرَّاثِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ ؛ فَمَا
أَعْطَاهُ الْمَرِيضُ لِامْرَأَتِهِ فَهُوَ كَسَائِرِ مَالِهِ ؛ إلَّا أَنْ
يُجِيزَ ذَلِكَ بَاقِي الْوَرَثَةِ . وَيَنْبَغِي لِلْأَوْلَادِ أَنْ يُقِرُّوا
أُمَّهُمْ وَيُجِيزُوا ذَلِكَ لَهَا ؛ لَكِنْ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى ذَلِكَ ؛ بَلْ
تُقَسَّمُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ
} .
كِتَابُ
الْوَصَايَا
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ قَالَ : يُدْفَعُ هَذَا الْمَالُ إلَى يَتَامَى
فُلَانٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ أَهَذَا إقْرَارٌ ؟ أَوْ وَصِيَّةٌ ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : إنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تُبَيِّنُ
مُرَادَهُ هَلْ هُوَ إقْرَارٌ أَوْ وَصِيَّة عَمِلَ بِهَا ؛ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ
: فَمَا كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِهِ لَمْ يُزَلْ عَنْ مِلْكِهِ بِلَفْظِ مُجْمَلٍ
بَلْ يُجْعَلُ وَصِيَّةً .
وَسُئِلَ
:
عَنْ مُودَعٍ مَرِضَ مُودِعُهُ فَقَالَ لَهُ : أَمَا يَعْرِفُ
ابْنُك بِهَذِهِ الْوَدِيعَةِ ؟ فَقَالَ : فُلَانٌ الْأَسِيرُ يَجِيءُ مَا
يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ يَعُودُ عَلَيْهِ ؛ وَقَصَدَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ
مُوصَدًا لَهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ هَلْ
يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَصَالِحِ ذَلِكَ الْأَسِيرِ ؟
فَأَجَابَ
: تَنْعَقِدُ الْوَصِيَّةُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا إذَا فُهِمَتْ
الْمُخَاطَبَةُ مِنْ الْمُوصِي وَيَبْقَى قَبُولُ [ حُكْمِ ] (1) الْوَصِيَّةِ فِي
التَّصَرُّفِ فِيهَا مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ لَفْظًا أَوْ
عُرْفًا وَعَلَى إذْنِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا أَوْ إذْنِ الشَّارِعِ وَيَجُوزُ
صَرْفُ مَالِ الْأَسِيرِ فِي فِكَاكِهِ بِلَا إذْنِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ وَذَكَرَ فِي وَصِيَّتِهِ
: أَنَّ فِي ذِمَّتِهِ لِزَوْجَتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَلَمْ تَكُنْ زَوْجَتُهُ
تَعْلَمُ أَنَّ لَهَا فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا : فَهَلْ يَجُوزُ لِوَصِيِّهِ بَعْدَ
مَوْتِهِ دَفْعُ الدَّرَاهِمِ لِزَوْجَتِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ - إذَا كَانَ قَدْ
أَقَرَّ لَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ؛
فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ وَصِيَّةً لِوَارِثِ لَا يَجُوزُ لَهُ وَصِيَّتُهُ
بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ إلَّا بِإِجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ وَأَمَّا
فِي الْحُكْمِ فَلَا تُعْطَى شَيْئًا حَتَّى تُصْدِقَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ فِي
مَرَضِ الْمَوْتِ وَإِلَّا كَانَ بَاطِلًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَإِذَا
صَدَقَتْهُ كُلَّ الْإِقْرَارِ فَادَّعَى الْوَصِيُّ أَوْ بَعْضُ الْوَرَثَةِ
أَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ - كَمَا جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ
النَّاسِ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْإِنْشَاءَ إقْرَارًا - فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ
أَنْ يَدَّعِيَ فِي الْإِقْرَارِ أَنَّهُ أَقَرَّ قَبْلَ الْقَبْضِ . وَمِثْلُ
ذَلِكَ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّحْلِيفِ عَلَيْهِ . وَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ يَحْلِفُ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُعْطَى شَيْئًا حَتَّى تَحْلِفَ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ أَعْتَقَتْ جَارِيَةً دُونَ الْبُلُوغِ
وَكَتَبَتْ لَهَا أَمْوَالَهَا وَلَمْ تَزَلْ تَحْتَ يَدِهَا إلَى حَالِ
وَفَاتِهَا - أَيْ السَّيِّدَةِ الْمُعْتِقَةِ - وَخَلَّفَتْ وَرَثَةً : فَهَلْ
يَصِحُّ تَمْلِيكُهَا لِلْجَارِيَةِ ؟ أَمْ لِلْوَرَثَةِ انْتِزَاعُهَا ؟ أَوْ
بَعْضِهَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا مُجَرَّدُ التَّمْلِيكِ
بِدُونِ الْقَبْضِ الشَّرْعِيِّ فَلَا يَلْزَمُ بِهِ عَقْدُ الْهِبَةِ ؛ بَلْ
لِلْوَارِثِ أَنْ يَنْتَزِعَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ هِبَةَ تَلْجِئَةٍ
بِحَيْثُ تُوهَبُ فِي الظَّاهِرِ وَتُقْبَضُ مَعَ اتِّفَاقِ الْوَاهِبِ
وَالْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى أَنَّهُ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُ إذَا شَاءَ وَنَحْوَ
ذَلِكَ مِنْ الْحِيَلِ الَّتِي تُجْعَلُ طَرِيقًا إلَى مَنْعِ الْوَارِثِ أَوْ
الْغَرِيمِ حُقُوقَهُمْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ : كَانَتْ أَيْضًا
هِبَةً بَاطِلَةً ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ أَشْهَدَ عَلَى أَبِيهِ أَنَّ عِنْدَهُ
ثَلَاثَمِائَةٍ فِي حُجَّةٍ عَنْ فُلَانَةَ فَقَالَ وَرَثَتُهَا : لَا يَخْرُجُ
إلَّا بِثُلُثِهَا فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ : أُمِّي تَبَرَّعَ بِهَا .
فَمَا الْحُكْمُ ؟
فَأَجَابَ
:
مُجَرَّدُ هَذَا الْإِشْهَادِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ
هَذَا الْمَالُ تَرِكَةً مُخَلَّفَةً يَسْتَحِقُّ الْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهَا ؛
لِاحْتِمَالِ أَلَّا يَكُونَ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ
حُجَّةَ الْإِسْلَامِ الْخَارِجَةَ مِنْ صُلْبِ التَّرِكَةِ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنَتِهِ لِصُلْبِهِ .
وَأَسْنَدَ وَصِيَّتَهُ لِرَجُلِ فَآجَرَهُ مُدَّةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً ؛ وَقَدْ
تُوُفِّيَ الْوَصِيُّ الْمَذْكُورُ . وَرَشَدَ مَنْ كَانَ وَصِيَّةً عَلَيْهَا
وَلَمْ تَرْضَ الْمُوصَى عَلَيْهَا بَعْدَ رُشْدِهَا بِإِجَارَةِ الْوَصِيِّ ؛ وَأَنَّ
الْوَصِيَّ أَجَّرَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قِيمَةِ الْمِثْلِ : فَهَلْ تَنْفَسِخُ
الْإِجَارَةُ وَتَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهَا عَادَةَ الْمُلَّاكِ ؟
فَأَجَابَ
:
لَهَا أَنْ تَفْسَخَ هَذِهِ الْإِجَارَةَ بِلَا نِزَاعٍ
بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ هَلْ تَقَعُ بَاطِلَةً مِنْ
أَصْلِهَا ؟ أَوْ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُؤَجَّرِ ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى لِأَوْلَادِهِ بِسِهَامِ
مُخْتَلِفَةٍ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ وَفَاتِهِ بِذَلِكَ فَهَلْ تَنْفُذُ
هَذِهِ الْوَصِيَّةُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا يَجُوزُ
لِلْمَرِيضِ تَخْصِيصُ بَعْضِ أَوْلَادِهِ بِعَطِيَّةِ مُنَجَّزَةٍ وَلَا
وَصِيَّةٍ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِشَيْءِ فِي ذِمَّتِهِ ؛
وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَنْفِيذُهُ بِدُونِ إجَازَةِ بَقِيَّةِ
الْوَرَثَةِ . وَهَذَا كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ
وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ مِنْ الشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ شَهَادَةً يُعِينُ
بِهَا عَلَى الظُّلْمِ وَهَذَا التَّخْصِيصُ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ
حَتَّى قَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ
لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُتَسَبِّبِ فِي الشَّحْنَاءِ وَعَدَمِ
الِاتِّحَادِ بَيْنَ ذُرِّيَّتِهِ ؛ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّهِ فَإِنَّهُ يَتَسَبَّبُ
فِي عُقُوقِهِ وَعَدَمِ بِرِّهِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَرْعٌ وَنَخْلٌ . فَقَالَ عِنْدَ
مَوْتِهِ لِأَهْلِهِ : أَنْفِقُوا مِنْ ثُلُثَيَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
إلَى أَنْ يُولَدَ لِوَلَدِي وَلَدٌ فَيَكُونُ لَهُمْ . فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ
الْوَصِيَّةُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ تَصِحُّ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ ؛ فَإِنَّ
الْوَصِيَّةَ لِوَلَدِ الْوَلَدِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ جَائِزَةً كَمَا وَصَّى
الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ لِوَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ .
وَالْوَصِيَّةُ تَصِحُّ لِلْمَعْدُومِ بِالْمَعْدُومِ فَيَكُونُ الرِّيعُ
لِلْفُقَرَاءِ إلَى أَنْ يَحْدُثَ وَلَدُ الْوَلَدِ فَيَكُونُ لَهُمْ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى لِأَوْلَادِهِ الذُّكُورِ
بِتَخْصِيصِ مِلْكٍ دُونَ الْإِنَاثِ وَأَثْبَتَهُ عَلَى يَدِ الْحَاكِمِ قَبْلَ
وَفَاتِهِ : فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ أَوْلَادِهِ دُونَ
بَعْضٍ فِي وَصِيَّتِهِ وَلَا مَرَضِ مَوْتِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَا
يَجُوزُ لَهُ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَهُمْ
بِالْعَطِيَّةِ
فِي
صِحَّتِهِ أَيْضًا بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ وَيَرُدَّ الْفَضْلَ { كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشِيرَ بْنَ سَعِيدٍ حَيْثُ قَالَ لَهُ : اُرْدُدْهُ
فَرَدَّهُ وَقَالَ : إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ وَقَالَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ
التَّهْدِيدِ : أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي } . وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلَدِ الَّذِي
فَضَلَ أَنْ يَأْخُذَ الْفَضْلَ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ
الظَّالِمِ الْجَائِرِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا يَرُدُّ فِي حَيَاتِهِ فِي أَصَحِّ
قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ وَصَّتْ لِطِفْلَةٍ تَحْتَ نَظَرِ
أَبِيهَا بِمَبْلَغِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا وَتُوُفِّيَتْ الْمُوصِيَةُ وَقَبِلَ
لِلطِّفْلَةِ وَالِدُهَا الْوَصِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ بَعْدَ وَفَاتِهَا ؛ وَادَّعَى
لَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ بِمَا وَصَّتْ الْمُوصِيَةُ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ
بِوَفَاتِهَا وَعَلَيْهَا بِمَا نُسِبَ إلَيْهَا مِنْ الْإِيصَاءِ وَعَلَى
وَالِدِهَا بِقَبُولِ الْوَصِيَّةِ لِابْنَتِهِ وَتَوَقَّفَ الْحَاكِمُ عَنْ
الْحُكْمِ لِلطِّفْلَةِ بِمَا ثَبَتَ لَهَا عِنْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ لِتَعَذُّرِ
حَلِفِهَا لِصِغَرِ سِنِّهَا : فَهَلْ يَحْلِفُ وَالِدُهَا ؟ أَوْ يُوقِفُ
الْحُكْمَ إلَى الْبُلُوغِ وَيُحَلِّفُهَا ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَحْلِفُ وَالِدُهَا ؛
لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ ؛ وَلَا يُوقِفُ الْحُكْمَ إلَى بُلُوغِهَا
وَحَلِفِهَا ؛ بَلْ يَحْكُمُ لَهَا بِذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛
مَا لَمْ يَثْبُتْ مُعَارِضٌ . بَلْ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا لَوْ ثَبَتَ لِصَبِيِّ
أَوْ لِمَجْنُونِ حَقٌّ عَلَى غَائِبٍ عَنْهُ مِنْ دَيْنٍ عَنْ مَبِيعٍ أَوْ
بَدَلِ قَرْضٍ أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَوْ كَانَ
مُسْتَحِقًّا بَالِغًا عَاقِلًا : يَحْلِفُ عَلَى عَدَمِ الْإِبْرَاءِ أَوْ
الِاسْتِيفَاءِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ
؛ وَيَحْكُمْ بِهِ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَلَا يَحْلِفُ وَلَيُّهُ كَمَا قَدْ
نَصَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ . وَلِهَذَا لَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ عَلَى صَبِيٍّ أَوْ
مَجْنُونٍ جِنَايَةً أَوْ حَقًّا لَمْ يَحْكُمْ لَهُ ؛ وَلَا يَحْلِفْ الصَّبِيُّ
وَالْمَجْنُونُ . وَإِنْ كَانَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ لَا يَقُولُ إلَّا بِيَمِينِ
. وَلَهَا نَظَائِرُ . هَذَا فِيمَا يَشْرَعُ فِيهِ الْيَمِينُ بِالِاتِّفَاقِ
أَوْ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . فَكَيْفَ بِالْوَصِيَّةِ الَّتِي لَمْ
يَذْكُرْ الْعُلَمَاءُ تَحْلِيفَ الْمُوصَى لَهُ فِيهَا ؛ وَإِنَّمَا أَخَذَ
بَعْضُ النَّاسِ . وَالْوَصِيَّةُ تَكُونُ لِلْحَمْلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ
وَيَسْتَحِقُّهَا إذَا وُلِدَ حَيًّا وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ : إنَّهَا تُؤَخَّرُ
إلَى حِينِ بُلُوغِهِ . وَلَا يَحْلِفُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ وَصَّتْ وَصَايَا فِي حَالِ مَرَضِهَا ؛
وَلِزَوْجِهَا وَلِأَخِيهَا بِشَيْءِ ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَضَعَتْ
وَلَدًا ذَكَرًا وَبَعْدَ ذَلِكَ تُوُفِّيَتْ : فَهَلْ يَبْطُلُ حُكْمُ
الْوَصِيَّةِ
فَأَجَابَ
:
أَمَّا مَا زَادَ عَلَى ثُلُثِ التَّرِكَةِ فَهُوَ
لِلْوَارِثِ وَالْوَلَدُ الْيَتِيمُ لَا يَتَبَرَّعُ بِشَيْءِ مِنْ مَالِهِ .
فَأَمَّا الزَّوْجُ الْوَارِثُ فَالْوَصِيَّةُ لَهُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ وَارِثٌ
. وَأَمَّا الْأَخُ فَالْوَصِيَّةُ لَهُ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الْوَلَدِ
لَيْسَ بِوَارِثِ ؛ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ وَارِثًا . فَيَنْظُرُ مَا
وَصَّتْ بِهِ لِلْأَخِ وَالنَّاسِ فَإِنْ وَسِعَهُ الثُّلُثُ وَإِلَّا قُسِّمَ
بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهَا
.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ
سِوَى ابْنِ أُخْتٍ لِأُمِّ وَقَدْ أَوْصَتْ بِصَدَقَةِ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ :
فَهَلْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُنَفِّذَ ذَلِكَ وَيُعْطِيَ مَا بَقِيَ لِابْنِ
أُخْتِهَا ؟
فَأَجَابَ
:
يُعْطِي الْمُوصَى لَهُ الثُّلُثَ وَمَا زَادَ عَنْ
ذَلِكَ إنْ أَجَازَهُ الْوَارِثُ جَازَ ؛ وَإِلَّا بَطَلَ . وَابْنُ الْأُخْتِ
يَرِثُ الْمَالَ كُلَّهُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ ؛
وَهُوَ الْوَارِثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُمْ . وَهُوَ مَذْهَبُ
جُمْهُورِ السَّلَفِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَطَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ . وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ إذَا فَسَدَ بَيْتُ الْمَالِ
. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ سِتَّةَ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ
وَابْنَ ابْنٍ وَبِنْتَ ابْنٍ وَوَصَّى لِابْنِ ابْنِهِ بِمِثْلِ نَصِيبِ
أَوْلَادِهِ وَلِبِنْتِ ابْنِهِ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ أَنْ
كَانَ يُعْطِي ابْنَ ابْنِهِ نَصِيبَهُ . فَكَمْ يَكُونُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْ أَوْلَادِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَصِحُّ مِنْ سِتِّينَ
لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ وَلِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ
الثُّلُثِ اثْنَيْ عَشَرَ ثُلُثُ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ . وَلَهَا طُرُقٌ يُعْمَلُ
بِهَا . وَجَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ وَلَهُ
وَلَدٌ صَغِيرٌ ؛ وَأَوْصَى فِي حَالِ مَرَضِهِ أَنْ يُبَاعَ فَرَسُهُ
الْفُلَانِيُّ وَيُعْطَى ثَمَنُهُ كُلُّهُ لِمَنْ يَحُجُّ عَنْهُ حُجَّةَ
الْإِسْلَامِ . وَبِيعَتْ بِتِسْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ . فَأَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ
يَسْتَأْجِرَ إنْسَانًا أَجْنَبِيًّا لِيَحُجَّ بِهَذَا الْمِقْدَارِ فَجَاءَ
رَجُلٌ غَيْرُهُ فَقَالَ : أَنَا أَحُجُّ بِأَرْبَعِمِائَةِ . فَهَلْ يَجُوزُ
ذَلِكَ ؟ أَوْ يَتَعَيَّنُ مَا أَوْصَى بِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ يَجِبُ إخْرَاجُ جَمِيعِ مَا
أَوْصَى بِهِ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ
ثُلُثِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَرَثَةِ إخْرَاجُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ؛
إلَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ
[ إلَّا بِهِ ] (1) . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ خَلَّفَ أَوْلَادًا وَأَوْصَى لِأُخْتِهِ
كُلَّ يَوْمٍ بِدِرْهَمِ ؛ فَأُعْطِيَتْ ذَلِكَ حَتَّى نَفِدَ الْمَالُ ؛ وَلَمْ
يَبْقَ مِنْ التَّرِكَةِ إلَّا عَقَارٌ مُغَلُّهُ كُلَّ سَنَةٍ سِتُّمِائَةِ
دِرْهَمٍ : فَهَلْ تُعْطَى ذَلِكَ ؟ أَوْ دِرْهَمًا كَمَا أَوْصَى لَهَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ مَا بَقِيَ
مُتَّسَعًا لِأَنْ تُعْطَى مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا ؛ وَيَبْقَى
لِلْوَرَثَةِ دِرْهَمَانِ : فَلَا تُعْطَى إلَّا مَا يَبْقَى مَعَهُ لِلْوَرَثَةِ
الثُّلُثَانِ ؛ لَا يُزَادُ عَلَى مِقْدَارِ الثُّلُثِ شَيْءٌ إلَّا بِإِجَازَةِ
الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ ؛ إذَا كَانَ الْمُجِيزُ بَالِغًا رَشِيدًا أَهْلًا
لِلتَّبَرُّعِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُجِيزُ كَذَلِكَ ؛ أَوْ لَمْ يَجُزْ :
لَمْ تُعْطَ شَيْئًا . وَلَوْ لَمْ يُخَلِّفْ الْمَيِّتُ إلَّا الْعَقَّارَ
فَإِنَّهَا تُعْطَى مِنْ مُغَلِّهِ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الدِّرْهَمِ
الْمُوصَى بِهِ أَوْ ثُلُثِ الْمُغَلِّ فَإِنْ كَانَ الْمُغَلُّ أَقَلَّ مِنْ
ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ كُلَّ يَوْمٍ لَمْ تُعْطَ إلَّا ثُلُثَ ذَلِكَ ؛ فَلَوْ كَانَ
دِرْهَمًا أُعْطِيَتْ ثُلُثَ دِرْهَمٍ فَقَطْ ؛ وَإِنْ أَخَذَتْ زِيَادَةً عَلَى
مِقْدَارِ ثُلُثِ الْمُغَلِّ اسْتَرْجَعَ مِنْهَا ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ
نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ وَخَلَّفَتْ أَبَاهَا
وَعَمَّهَا أَخَا أَبِيهَا شَقِيقَهُ وَجَدَّتَهَا وَكَانَ أَبُوهَا قَدْ
رَشَدَهَا قَبْلَ أَنْ يُزَوِّجَهَا ثُمَّ إنَّهَا أَوْصَتْ فِي مَرَضِ مَوْتِهَا
لِزَوْجِهَا بِالنِّصْفِ . وَلِعَمِّهَا بِالنِّصْفِ الْآخَرِ ؛ وَلَمْ تُوصِ لِأَبِيهَا
وَجَدَّتِهَا بِشَيْءِ : فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ ؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْعَمِّ فَصَحِيحَةٌ ؛ لَكِنْ لَا
يَنْفُذُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا بِإِجَازَةِ وَالْوَصِيَّة
لِلزَّوْجِ لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ . وَإِذَا
لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ كَانَ لِلزَّوْجِ نِصْفُ
الْبَاقِي بَعْدَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الَّتِي هِيَ الثُّلُثُ وَلِلْجَدَّةِ
السُّدُسُ وَلِلْأَبِ الْبَاقِي وَهُوَ الثُّلُثُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ أَوْصَتْ قَبْلَ مَوْتِهَا بِخَمْسَةِ
أَيَّامٍ بِأَشْيَاءَ : مِنْ حَجٍّ وَقِرَاءَةٍ وَصَدَقَةٍ : فَهَلْ تُنَفَّذُ
الْوَصِيَّةُ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا أَوْصَتْ بِأَنْ يُخْرِجَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا مَا
يُصْرَفُ فِي قُرْبَةٍ لِلَّهِ وَطَاعَتِهِ وَجَبَ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهَا ؛
وَإِنْ كَانَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ أَكْثَرَ
مِنْ الثُّلُثِ كَانَ الزَّائِدُ مَوْقُوفًا فَإِنْ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ جَازَ
وَإِلَّا بَطَلَ . وَإِنْ وَصَّتْ بِشَيْءِ فِي غَيْرِ طَاعَةٍ لَمْ تُنَفَّذْ
وَصِيَّتُهَا .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى زَوْجَتَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ
أَنَّهَا لَا تَهَبُ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا لِمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ
وَيَهْدِي لَهُ وَقَدْ ادَّعَى أَنَّ فِي صَدْرِهِ قُرْآنًا يَكْفِيه وَلَمْ
تَكُنْ زَوْجَتُهُ تَعْلَمُ بِأَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ : فَهَلْ أَصَابَ
فِيمَا أَوْصَى ؟ وَقَدْ قَصَدَتْ الزَّوْجَةُ الْمُوصَى إلَيْهَا أَنَّهَا
تُعْطِي شَيْئًا لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ
الْهَدِيَّةِ : وَيَقْرَأُ جُزْءًا مِنْ الْقُرْآنِ وَيَهْدِيه لِمَيِّتِهَا :
فَهَلْ يُفْسَحُ لَهَا فِي ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ ؛ فَإِنَّ
إعْطَاءَ أُجْرَةٍ لِمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَهْدِيه لِلْمَيِّتِ بِدْعَةٌ
لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ ؛ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ
فِيمَنْ يَقْرَأُ لِلَّهِ وَيَهْدِي لِلْمَيِّتِ . وَفِيمَنْ يُعْطِي أُجْرَةً
عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وُجُوهٌ . فَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى
الْقِرَاءَةِ وَإِهْدَائِهَا فَهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ
وَلَا أَذِنَ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ إذَا كَانَتْ بِأُجْرَةِ كَانَتْ
مُعَاوَضَةً فَلَا يَكُونُ فِيهَا أَجْرٌ وَلَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ شَيْءٌ
وَإِنَّمَا يَصِلُ إلَيْهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى
مُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا
تَكَلَّمُوا فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى التَّعْلِيمِ لَكِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ
إذَا أَرَادَتْ نَفْعَ زَوْجِهَا فَلْتَتَصَدَّقْ عَنْهُ بِمَا تُرِيدُ
الِاسْتِئْجَارَ بِهِ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ وَيَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا . وَإِنْ تَصَدَّقَتْ بِذَلِكَ عَلَى
قَوْمٍ مِنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ الْفُقَرَاءِ لِيَسْتَغْنُوا بِذَلِكَ عَنْ
قِرَاءَتِهِمْ حَصَلَ مِنْ الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا أُعِينُوا عَلَى الْقِرَاءَةِ
وَيَنْفَعُ اللَّهُ الْمَيِّتَ بِذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ مَسْجِدٍ لِرَجُلِ ، وَعَلَيْهِ وَقْفٌ وَالْوَقْفُ
عَلَيْهِ حِكْرٌ ؛ وَأَوْصَى قَبْلَ وَفَاتِهِ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ الثُّلُثِ
وَيُشْتَرَى الْحِكْرُ الَّذِي لِلْوَقْفِ فَتَعَذَّرَ مُشْتَرَاهُ ؛ لِإِنَّ
الْحِكْرَ وَقْفٌ وَلَهُ وَرَثَةٌ وَهُمْ ضُعَفَاءُ الْحَالِ وَقَدْ وَافَقَهُمْ
الْوَصِيُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الثُّلُثِ لِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ : فَهَلْ إذَا
تَأَخَّرَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ لِلْأَيْتَامِ يَتَعَلَّقُ فِي ذِمَّةِ
الْوَصِيِّ ؟
فَأَجَابَ
:
بَلْ عَلَى الْوَصِيِّ أَنْ يُخْرِجَ جَمِيعَ الثُّلُثِ
كَمَا أَوْصَاهُ الْمَيِّتُ ؛ وَلَا يَدَعُ لِلْوَرَثَةِ شَيْئًا ثُمَّ إنْ أَمْكَنَ
شِرَاءُ الْأَرْضِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْمُوصِي اشْتَرَاهَا وَوَقَفَهَا
وَإِلَّا اشْتَرَى مَكَانًا آخَرَ وَوَقَفَ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي وَصَّى بِهَا الْمُوصَى ؛ كَمَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا قَالَ : بِيعُوا غُلَامِي مِنْ زَيْدٍ وَتَصَدَّقُوا بِثَمَنِهِ . فَامْتَنَعَ فُلَانٌ مِنْ شِرَائِهِ ؛ فَإِنَّهُ يُبَاعُ مِنْ غَيْرِهِ وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ فَالْوَصِيَّةُ بِشِرَاءِ مُعَيَّنٍ وَالتَّصَدُّقِ بِهِ لِوَقْفِ كَالْوَصِيَّةِ بِبَيْعِ مُعَيَّنٍ وَالتَّصَدُّقِ بِثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ هُنَا جِهَةُ الصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ ؛ وَالتَّعْيِينُ إذَا فَاتَ قَامَ بَدَلُهُ مَقَامَهُ ؛ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الْوَقْفَ مُتْلِفٌ أَوْ أَتْلَفَ الْمُوصَى بِهِ مُتْلِفٌ ؛ فَإِنَّ بَدَلَهُمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا فِي ذَلِكَ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُوصَى بِهِ وَالْمَوْقُوفِ ؛ وَبَيْنَ بَدَلِ الْمُوصَى لَهُ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ وَصَّى لِزَيْدِ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ وَلَوْ وَصَّى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ الْمُعَيَّنَ أَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ فَمَاتَ الْمُعَيَّنُ لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ . وَتَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ إذَا وَصَّى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فُلَانٌ بِكَذَا فَامْتَنَعَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ مِنْ الْحَجِّ وَكَانَ الْحَجُّ تَطَوُّعًا : فَهَلْ يَحُجُّ عَنْهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ ؛ وَيَقَعُ الْمُعَيَّنُ مَقْصُودًا فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ غَلَّبَ جَانِبَ التَّعْيِينِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْحَجُّ مَقْصُودٌ أَيْضًا كَمَا أَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْوَقْفَ مَقْصُودَانِ وَتَعْيِينُ الْحَجِّ كَتَعْيِينِ الْمَوْقُوفِ وَالْمُتَصَدَّقِ بِهِ فَإِذَا فَاتَ التَّعْيِينُ أُقِيمَ بَدَلُهُ كَمَا يُقَامُ فِي الصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى فِي مَرَضِهِ الْمُتَّصِلِ بِمَوْتِهِ
بِأَنْ يُبَاعَ شَرَابٌ فِي حَانُوتِ الْعِطْرِ قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ
دِرْهَمًا يُضَافُ ذَلِكَ إلَى ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهِ وَأَنْ
يُشْتَرَى بِذَلِكَ عَقَارٌ ؛ وَيُجْعَلُ وَقْفًا عَلَى مَصَالِحِ مَسْجِدٍ
لِإِمَامِهِ وَمُؤَذِّنِهِ وَزَيْتِهِ . وَكَتَبَ ذَلِكَ قَبْلَ مَرَضِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا أَوْصَى
أَنْ يُبَاعَ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ مِنْ مَالِهِ مِنْ عَقَارٍ أَوْ مَنْقُولٍ يُضَمُّ
إلَى ثَمَنِهِ شَيْءٌ آخَرُ قَدَّرَهُ مِنْ مَالِهِ وَيُصْرَفُ ذَلِكَ فِي وَقْفٍ
شَرْعِيٍّ : جَازَ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ أُخْرِجَ وَإِنْ
لَمْ تَرْضَ الْوَرَثَةُ وَمَا أَعْطَاهُ لِلْوَرَثَةِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إنْ
أَعْطَى أَحَدًا مِنْهُمْ زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِجَازَةِ
الْوَرَثَةِ وَإِنْ أَعْطَى كُلَّ إنْسَانٍ شَيْئًا مُعَيَّنًا بِقَدْرِ حَقِّهِ
أَوْ بَعْضِ حَقِّهِ : فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ : " أَحَدُهُمَا " لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ . " وَالثَّانِي " لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَإِذَا قِيلَ : إنَّ لَهُ ذَلِكَ بِحَسَبِ مِيرَاثِ أَحَدِهِمْ ؛
فَإِنَّ عَطِيَّةَ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ بِمَنْزِلَةِ
وَصِيَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الْمُوصَى إلَيْهِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ وَصِيٍّ عَلَى أَيْتَامٍ بِوِكَالَةٍ شَرْعِيَّةٍ :
وَلِلْأَيْتَامِ دَارٌ فَبَاعَهَا وَكِيلُ الْوَصِيِّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَنْظُرَهَا وَقَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ زِيدَ فِيهَا : فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ
الزِّيَادَةَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إنْ كَانَ الْوَكِيلُ بَاعَهَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ
وَقَدْ رُئِيَتْ لَهُ صَحَّ الْبَيْعُ . وَإِنْ لَمْ تُرَ لَهُ : فِيهِ نِزَاعٌ .
وَإِنْ بَاعَهَا بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ فَقَدْ فَرَّطَ فِي الْوَصِيَّةِ
وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا فَرَّطَ فِيهِ أَوْ يَفْسَخُ الْبَيْعَ إذَا لَمْ
يَبْذُلْ لَهُ تَمَامَ الْمِثْلِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ جَلِيلِ الْقَدْرِ لَهُ تَعَلُّقَاتٌ
كَثِيرَةٌ مَعَ النَّاسِ وَأَوْصَى بِأُمُورِ : فَجَاءَ رَجُلٌ إلَى وَصِيِّهِ فِي
حَيَاةِ الْمُوصِي ؛ وَقَالَ : يَا فُلَانُ : جِئْتُك فِي حَيَاةِ فُلَانٍ
الْمُوصِي
بِمَالِ فَلِي عِنْدَهُ كَذَا وَكَذَا . فَذَكَرَ الْوَصِيُّ ذَلِكَ لِلْمُوصِي : فَقَالَ الْمُوصِي مَنْ ادَّعَى
بَعْدَ مَوْتِي عَلَيَّ شَيْئًا فَحَلَّفَهُ وَأَعْطَاهُ بِلَا بَيِّنَةٍ : فَهَلْ
يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ فِعْلُ ذَلِكَ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي .
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ : يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ تَسْلِيمُ مَا
ادَّعَاهُ هَذَا الْمُدَّعِي إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ
الثُّلُثِ أَوْ لَا ؛ أَمَّا إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ كَانَ أَسْوَأَ
الْأَحْوَالِ ؛ كَمَا يَكُونُ هَذَا الْمُوصِي مُتَبَرِّعًا بِهَذَا الْإِعْطَاءِ
. وَلَوْ وَصَّى لِمُعَيَّنِ إذَا فَعَلَ فِعْلًا أَوْ وَصَّى لِمُطَلِّقِ
مَوْصُوفٍ : فَكُلٌّ مِنْ الْوَصِيَّتَيْنِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ
فَإِنَّهُمْ لَا يُنَازِعُونَ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَجْهُولِ ؛ وَلَمْ
يَتَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَقَعُ
شُبْهَةٌ لِأَحَدِ فِي أَنَّهُ إذَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ وَجَبَ تَسْلِيمُهُ
وَإِنَّمَا قَدْ تَقَعُ الشُّبْهَةُ فِيمَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ .
وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ يَجِبُ تَسْلِيمُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ
الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصَايَا فَإِنَّ هَذَا
الْكَلَامَ مَفْهُومُهُ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْأَمْرُ
بِتَسْلِيمِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ . لَكِنْ رَدُّ الْيَمِينِ هَلْ هُوَ
كَالْإِقْرَارِ ؟ أَوْ كَالْبَيِّنَةِ ؟ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ . فَإِذَا
قِيلَ : هُوَ كَالْإِقْرَارِ صَارَ هَذَا إقْرَارًا لِهَذَا الْمُدَّعِي ؛
غَايَتُهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَوْصُوفِ أَوْ بِمَجْهُولِ ؛ وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ
إقْرَارٌ يَصِحُّ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ مَعَ أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ
الْمُعَيَّنَ لَيْسَ الْإِقْرَارُ لَهُ إقْرَارًا بِمَجْهُولِ ؛ فَإِنَّهُ هُوَ
سَبَبُ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَسَبَبُ اللَّفْظِ الْعَامِّ مُرَادٌ فِيهِ قَطْعًا
كَأَنَّهُ قَالَ : هَذَا الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ إنْ حَلَفَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ
فَأَعْطَوْهُ إيَّاهُ . وَمِثْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ وَاجِبٌ تَنْفِيذُهَا . وَإِنْ
قِيلَ : إنَّ الرَّدَّ كَالْبَيِّنَةِ صَارَ حَلِفُ الْمُدَّعِي مَعَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً وَيَصِيرُ الْمُدَّعِي قَدْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَمِثْلُ هَذَا يَجِبُ تَسْلِيمُ مَا ادَّعَاهُ إلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ هَذَا عَلَى أَصْلِ مَنْ لَا يَقْضِي بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد . وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يَقْضِي بِالنُّكُولِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَالْأَمْرُ عِنْدَهُ أَوْكَدُ ؛ فَإِنَّهُ إذَا رَضِيَ الْخَصْمَانِ فَحَلَفَ الْمُدَّعِي كَانَ جَائِزًا عِنْدَهُمْ ؛ وَكَانَ مِنْ النُّكُولِ أَيْضًا فَالرَّجُلُ الَّذِي قَدْ عَلِمَ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ مُعَامَلَاتٍ مُتَعَدِّدَةً مِنْهَا مَا هُوَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ؛ وَعَلَيْهِ حُقُوقٌ قَدْ لَا يَعْلَمُ أَرْبَابَهَا وَلَا مِقْدَارَهَا . لَا تَكُونُ مِثْلَ هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْهُ تَبَرُّعًا ؛ بَلْ تَكُونُ وَصِيَّةً بِوَاجِبِ وَالْوَصِيَّةُ بِوَاجِبِ لِآدَمِيٍّ تَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ حَقًّا وَشَكَّ فِي أَدَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ ؛ بَلْ إذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ فَقَدْ فَعَلَ الْوَاجِبَ فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ لَا يَعْلَمُ عَيْنَ صَاحِبِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّتُهُ فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا وَكَمَنَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ لَا يَعْلَمُ عَيْنَ الْمُسْتَحِقِّ ؛ فَإِذَا قَالَ : مَنْ حَلَفَ مِنْكُمَا فَهُوَ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ بِأَمْرِ لَا يَعْلَمُ ثُبُوتَهُ وَلَا انْتِفَاءَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى نَفْيِهِ يَمِينَ بَتٍّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَلَفَ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ ؛ وَإِذَا أَخْبَرَهُ مَنْ يُصَدِّقُهُ بِأَمْرِ بُنِيَ عَلَيْهِ وَإِذَا رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي
عِنْدَ
اشْتِبَاهِ الْحَالِ عَلَيْهِ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ
نَهَاهُمْ عَنْ إعْطَائِهِ قَدْ يَكُونُ ظَالِمًا مَانِعًا الْمُسْتَحِقَّ ؛ وَإِنْ
أَمَرَ بِإِعْطَاءِ كُلِّ مُدَّعٍ أَفْضَى إلَى أَنْ يَدَّعِيَ الْإِنْسَانُ بِمَا
لَا يَسْتَحِقُّهُ وَذَلِكَ تَبَرُّعٌ ؛ فَإِذَا أَمَرَ بِتَحْلِيفِهِ
وَإِعْطَائِهِ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَيْثُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى
مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ
فَعَلَ الْوَاجِبَ أَخْرَجَ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ وَصِيٍّ عَلَى أَوْلَادِ أَخِيهِ وَتُوُفِّيَ
وَخَلَّفَ أَوْلَادًا . وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى مَوْجُودِ وَالِدِهِمْ : فَهَلْ
يَلْزَمُ أَوْلَادَ الْوَصِيِّ الْمُتَوَفَّى الْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ وَالدَّعْوَى
عَلَيْهِمْ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا عُرِفَ أَنَّ مَالَ الْيَتَامَى كَانَ مُخْتَلِطًا
بِمَالِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ كَمْ خَرَّجَ مِنْ مَالِ الْيَتَامَى
نَفَقَةً وَغَيْرَهَا وَيَطْلُبُ الْبَاقِيَ وَمَا أَشْبَه ذَلِكَ وَيَرْجِعُ
فِيهِ إلَى الْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ
.
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ وَصِيٍّ عَلَى مَالِ يَتِيمٍ وَقَدْ قَارَضَ
فِيهِ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ وَقَدْ رَبِحَ فِيهِ فَائِدَةٌ مِنْ وَجْهٍ حَلَّ :
فَهَلْ يَحِلُّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْفَائِدَةِ شَيْئًا ؟ أَوْ هِيَ
لِلْيَتِيمِ خَاصَّةً ؟
فَأَجَابَ
: الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْيَتِيمِ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ الْوَصِيُّ فَقِيرًا
وَقَدْ عَمِلَ فِي الْمَالِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ
أُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْ كِفَايَتِهِ فَلَا يَأْخُذْ فَوْقَ أُجْرَةِ عَمَلِهِ
وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ لَمْ يَأْخُذْ أَكْثَرَ
مِنْهَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ وَصِيٍّ تَحْتَ يَدِهِ أَيْتَامٌ أَطْفَالٌ
وَوَالِدَتُهُمْ حَامِلٌ : فَهَلْ يُعْطِي الْأَطْفَالَ نَفَقَةً وَاَلَّذِي
يَخْدِمُ الْأَطْفَالَ وَالْوَالِدَةَ إذَا أَخَذَتْ صَدَاقَهَا : فَهَلْ يَجُوزُ
أَنْ تَأْكُلَ الْأَطْفَالُ وَوَالِدَتُهُمْ وَمَنْ يَخْدِمُهُمْ جَمِيعَ الْمَالِ
؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا الزَّوْجَةُ فَتُعْطَى قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ .
وَأَمَّا سَائِرُ الْوَرَثَةِ فَإِنْ أَخَّرَتْ قِسْمَةَ التَّرِكَةِ إلَى حِينِ
الْوَضْعِ فَيُنْفِقُ عَلَى الْيَتَامَى بِالْمَعْرُوفِ وَلَا بَأْسَ أَنْ
يَخْتَلِطَ مَالُهُمْ بِمَالِ الْأُمِّ ؛ وَيَكُونُ خُبْزُهُمْ جَمِيعًا
وَطَبْخُهُمْ جَمِيعًا إذَا كَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْيَتَامَى ؛ فَإِنَّ
الصَّحَابَةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ
إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } . وَأَمَّا الْحَمْلُ فَإِنْ أَخَّرْت فَلَا
كَلَامَ وَإِنْ عَجَّلْت أُخِّرَ لَهُ نَصِيبُ ذَكَرٍ احْتِيَاطًا . وَهَلْ
تَسْتَحِقُّ الزَّوْجَةُ نَفَقَةً لِأَجْلِ الْحَمْلِ الَّذِي فِي بَطْنِهَا
وَسُكْنَى ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالِ لِلْعُلَمَاءِ .
أَحَدُهَا
: لَا نَفَقَةَ لَهَا ؛ وَلَا سُكْنَى وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ . وَالثَّانِي
: لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى ؛ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد
؛ وَقَوْلِ طَائِفَةٍ . وَالثَّالِثُ : لَهَا السُّكْنَى ؛ دُونَ النَّفَقَةِ
كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ يَتِيمَةٍ حَضَرَ مَنْ يَرْغَبُ فِي تَزْوِيجِهَا
وَلَهَا أَمْلَاكٌ : فَهَلْ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ مِنْ عَقَارِهَا
شَيْئًا وَيَصْرِفَ ثَمَنَهُ فِي جِهَازٍ وَقُمَاشٍ لَهَا وَحُلِيٍّ يَصْلُحُ
لِمِثْلِهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَبِيعَ مِنْ عَقَارِهَا مَا
يُجَهِّزُهَا بِهِ ؛ وَيُجَهِّزُهَا الْجِهَازَ الْمَعْرُوفَ وَالْحُلِيَّ
الْمَعْرُوفَ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ وَصِيٍّ عَلَى أُخْتَيْهِ وَقَدْ كَبُرَتَا
وَلَدَيْهِمَا ؛ وَآنَسَ مِنْهُمَا الرُّشْدَ : فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتٍ
عِنْدَ الْحَاكِمِ ؟ أَوْ إلَى شُهُودٍ ؟
فَأَجَابَ
: إذَا آنَسَ الْوَصِيُّ مِنْهُمْ الرُّشْدَ دُفِعَ إلَيْهِمْ الْمَالُ
وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شُهُودٍ ؛ بَلْ يُقِرُّ بِرُشْدِهِمْ وَيُسَلِّمُ إلَيْهِمْ الْمَالَ
وَذَلِكَ جَائِزٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ لَكِنْ لَهُ إثْبَاتُ ذَلِكَ عِنْدَ
الْحَاكِمِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
:
عَنْ وَصِيٍّ قَضَى دَيْنًا عَنْ الْمُوصِي بِغَيْرِ
ثُبُوتٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ ؛ وَعِوَضٍ عَنْ الْغَائِبِ بِدُونِ قِيمَةِ الْمِثْلِ
: فَهَلْ لِلْوَرَثَةِ فَسْخُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَقْضِيَ مَا يَدَّعِي مِنْ
الدَّيْنِ إلَّا بِمُسْتَنَدِ شَرْعِيٍّ ؛ بَلْ وَلَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَى مِنْ
الْمُدَّعِي ؛ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ . وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّعْوِيضُ إلَّا
بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَمَا عَوَّضَهُ بِدُونِ الْقِيمَةِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ
النَّاسُ بِهِ ؛ فَإِمَّا أَنْ يَضْمَنَ مَا نَقَصَ مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ
وَإِمَّا أَنْ يَفْسَخَ التَّعْوِيضَ وَيُوَفِّيَ الْغَرِيمَ حَقَّهُ .
وَالْمُسْتَنَدُ الشَّرْعِيُّ مُتَعَدِّدٌ : مِثْلُ إقْرَارِ الْمَيِّتِ أَوْ
إقْرَارِ مَنْ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ : مِثْلُ وَكِيلِهِ إذَا أَقَرَّ
بِمَا وَكَّلَهُ فِيهِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ دِيوَانُ الْأَمِيرِ وَأُسْتَاذُ
دَارِهِ : مِثْلَ شَاهِدٍ يَحْلِفُ مَعَهُ الْمُدَّعِي وَمِثْلَ خَطِّ الْمَيِّتِ
الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ خَطَّهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ نَصْرَانِيٍّ تُوُفِّيَ وَخَلَّفَ تَرِكَةً
وَأَوْصَى وَصِيَّتَهُ وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ بِمَسَاطِرَ وَغَيْرِ
مَسَاطِرَ ؛ فَهَلْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُعْطِيَ أَرْبَابَ الدُّيُونِ بِغَيْرِ
ثُبُوتٍ عَلَى يَدِ حَاكِمٍ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ الْمَيِّتُ مِمَّنْ يَكْتُبُ مَا عَلَيْهِ
لِلنَّاسِ فِي دَفْتَرٍ وَنَحْوِهِ وَلَهُ كَاتِبٌ يَكْتُبُ بِإِذْنِهِ مَا
عَلَيْهِ وَنَحْوَهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْكِتَابِ الَّذِي
بِخَطِّهِ أَوْ خَطِّ وَكِيلِهِ ؛ فَمَا كَانَ مَكْتُوبًا وَلَيْسَ عَلَيْهِ
عَلَامَةُ الْوَفَاءِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَيِّتِ بِهِ فَالْخَطُّ فِي
مِثْلِ ذَلِكَ كَاللَّفْظِ وَإِقْرَارِ الْوَكِيلِ فِيمَا وَكَّلَ فِيهِ
بِلَفْظِهِ أَوْ خَطِّهِ الْمُعْتَبَرِ مَقْبُولٌ ؛ وَلَكِنْ عَلَى صَاحِبِ
الدَّيْنِ الْيَمِينُ بِالِاسْتِحْقَاقِ أَوْ نَفِي الْبَرَاءَةِ كَمَا لَوْ
ثَبَتَ الدَّيْنُ بِإِقْرَارِ لَفْظِيٍّ . وَأَمَّا إعْطَاءُ الْمُدَّعِي مَا
يَدَّعِيه بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ الَّذِي لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ دَعْوَاهُ
وَدَعْوَى غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْوَصِيِّ وَنَحْوِهِ إذَا كَانَ بَعْضُ مَالِ
الْوَصِيِّ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصِيٍّ عَلَيْهِ وَلِلْمُوصَى فِيهِ
نَصِيبٌ ؛ وَبَاعَ الشُّرَكَاءُ أَنْصِبَاءَهُمْ أَوْ اكْتَرُوهُ لِلْوَصِيِّ ؛
وَاحْتَاجَ الْوَلِيُّ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَ الْيَتِيمِ ؛ أَوْ يَكْرِيَهُ
مَعَهُمْ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الشِّرَاءُ ؟
فَأَجَابَ
:
يَجُوزُ لَهُ الشِّرَاءُ ؛ لِأَنَّ الشُّرَكَاءَ غَيْرُ
مُتَّهَمِينَ فِي بَيْعِ نَصِيبِهِمْ وَلِأَنَّ الشُّرَكَاءَ إذَا عَيَّنُوا الْوَصِيَّ
تَعَيَّنَ عَنْ غَيْرِهِ فِي نَصِيبِ الْيَتِيمِ دَخَلَ ضَرُورَةً وَيَشْهَدُ لَهُ
الْمَعْنَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ وَصِيٍّ يَتِيمٍ وَهُوَ يَتَّجِرُ لَهُ
وَلِنَفْسِهِ بِمَالِهِ فَاشْتَرَى لِلْيَتِيمِ صِنْفًا ثُمَّ بَاعَهُ وَاشْتَرَى
لَهُ بِثَمَنِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اشْتَرَى الْمَذْكُورَ وَمَاتَ وَلَمْ
يُعَيِّنْ : هَلْ هُوَ لِأَحَدِهِمْ أَوْ لَهُمَا . فَهَلْ يَكُونُ الصِّنْفُ
لِوَرَثَةِ الْوَصِيِّ أَمْ لِلْيَتِيمِ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهِ إلَّا بِمَالِهِ
وَحْدَهُ أَوْ بِمَالِ الْيَتِيمِ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ لِأَحَدِهِمَا : يَنْظُرُ
فِي ذَلِكَ : هَلْ يُمْكِنُ عِلْمُهُ بِأَنْ يَعْرِفَ مِقْدَارَ مَالِ الْيَتِيمِ
. وَمِقْدَارَ مَالِ نَفْسِهِ . وَيَنْظُرُ دَفَاتِرَ الْحِسَابِ وَمَا كَتَبَهُ
بِخَطِّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَالُ الْيَتِيمِ مُتَمَيِّزًا بِأَنْ
يَكُونَ مَا اشْتَرَاهُ بِكَتْبِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ مِمَّا لَمْ يَكْتُبْهُ
لِنَفْسِهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ
فِيهِ لِلْفُقَهَاءِ . ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا : أَنْ يُقَسَّمَ
بَيْنَهُمَا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا لَوْ تَدَاعَيَا عَيْنًا يَدُهُمَا
عَلَيْهَا وَالثَّانِي : يُوقِفُ الْأَمْرَ حَتَّى يَصْطَلِحَا كَقَوْلِ
الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ . وَالثَّالِثُ
: وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد أَنَّهُ يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَمَنْ أَصَابَتْهُ
الْقُرْعَةُ حَلَفَ وَأَخَذَ لِمَا فِي السُّنَنِ { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي مَتَاعٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ ؛ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَهِمَا عَلَيْهِ } رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي . وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد { إذَا كَرِهَ
الِاثْنَانِ الْيَمِينَ أَوْ اسْتَحَبَّاهَا فَلْيَسْتَهِمَا عَلَيْهِ } رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَلَفْظُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ
أَيُّهُمْ يَحْلِفُ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ أَيْتَامٍ تَحْتَ الْحِجْرِ ؛ وَلَهُمْ وَصِيٌّ
وَكَفِيلٌ وَلِأُمِّهِمْ زَوْجٌ أَجْنَبِيٌّ : فَهَلْ لَهُ عَلَيْهِمْ حُكْمٌ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَيْسَ
لِزَوْجِ الْأُمِّ عَلَيْهِمْ حُكْمٌ فِي أَبْدَانِهِمْ وَلَا أَمْوَالِهِمْ ؛
بَلْ الْأُمُّ الْمُزَوَّجَةُ بِالْأَجْنَبِيِّ لَا حَضَانَةَ لَهَا لِئَلَّا
يَحْضُنَهُمْ الْأَجْنَبِيُّ فَإِنَّ الزَّوْجَةَ تَحْتَ أَمْرِ الزَّوْجِ
فَأَسْقَطَ الشَّارِعُ حَضَانَتَهَا ؛ لِئَلَّا يَكُونُوا فِي حَضَانَةِ
أَجْنَبِيٍّ ؛ وَإِنَّمَا الْحَضَانَةُ لِأُمِّ الْأُمِّ ؛ أَوْ لِغَيْرِهَا مِنْ
الْأَقَارِبِ . وَأَمَّا الْمَالُ فَأَمْرُهُ إلَى الْوَصِيِّ . وَالنِّكَاحُ
لِلْعَصَبَةِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَأَوْصَى وَصِيَّةً
بِحَضْرَتِهِ : أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ نِصْفُهَا لِلْحَرَمِ الشَّرِيفِ ؛
وَنِصْفُهَا لِمَمْلُوكِيِّ "
سَنُقِرُّ " الْمَعْتُوقُ الْحُرُّ : وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ وَارِثٌ سِوَى ابْنِ أُسْتَاذِهِ ؛ وَأَنَّ الْوَصِيَّ قَالَ لِابْنِ
أُسْتَاذِهِ : هَذَا مَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْعُهُ ؛ فَخَلَّى كَلَامَ
الْوَصِيِّ وَبَاعَهُ وَتَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمَالِكِ : فَهَلْ يَصِحُّ
بَيْعُهُ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ
وَجَبَ تَنْفِيذُهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ إبْطَالُهَا فَإِنْ جَحَدُوهَا
فَلَهُ تَحْلِيفُهُمْ وَمَتَى شَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِقَبُولِ الْوَصِيِّ أَوْ
غَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَأْخُذَ حِصَّتَهُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ حِجْرٍ بِطَرِيقِ شَرْعِيٍّ وَأَنَّ
الْوَصِيَّ تُوُفِّيَ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَرَكَ وَلَدَهُ وَأَنَّ
وَلَدَهُ قَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَا تَرَكَ وَالِدُهُ وَعَلَى مَا كَانَ
وَالِدُهُ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَأَنَّ
الْيَتِيمَ طَلَبَ الْحِسَابَ مِنْ وَلَدِ الْوَصِيِّ فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ وَأَنَّ
وَلَدَهُ ادَّعَى أَنَّ وَالِدَهُ أُقْبِضَ بَعْضَ مَالِ مَحْجُورِهِ لِزَيْدِ
وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ إقْبَاضَ ذَلِكَ شَرْعًا وَأَنَّهُ بِإِشْهَادِ عَلَيْهِمَا
ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الْقَابِضَ الَّذِي أَقْبَضَهُ الْوَصِيُّ ادَّعَى أَنَّهُ
أَقَبَضَ ذَلِكَ الْمَالَ لِلْيَتِيمِ . فَهَلْ تَجُوزُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ عَلَى
الْيَتِيمِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ
يَرْجِعَ عَلَى مَالِ الْوَصِيِّ بِمَا أَقْبَضَهُ مِنْ مَالِهِ لِمَنْ لَا
يَسْتَحِقُّ إقْبَاضَهُ شَرْعًا ؟ وَهَلْ لِوَلَدِ الْوَصِيِّ الرُّجُوعُ عَمَّا
أَقْبَضَهُ وَالِدُهُ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ
؟
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
إذَا مَاتَ الْوَصِيُّ وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّ مَالَ
الْيَتِيمِ قَدْ ذَهَبَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَهُوَ بَاقٍ بِحُكْمِ يُوجِبُ
إبْقَاءَهُ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ ؛ لَكِنْ هَلْ يَكُونُ دِينًا يُحَاصُّ
الْغُرَمَاءَ ؟ أَوْ يَكُونُ أَمَانَةً يُؤْخَذُ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ
. وَإِذَا ادَّعَى الْوَارِثُ رَدَّهُ إلَيْهِ لَمْ يَقْبَلْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ
. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْوَصِيُّ قَدْ أَقْبَضَهُ لِغَيْرِهِ وَذَلِكَ الْغَيْرُ
أَقْبَضَهُ لِلْيَتِيمِ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ وَكَانَ الْإِقْبَاضُ مِمَّا
يُسَوِّغُ : فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْوَصِيِّ فِي ذَلِكَ : مِثْلَ أَنْ
يَكُونَ
الْيَتِيمُ قَدْ رَشَدَ فَسَلَّمَ إلَيْهِ مَالَهُ بَعْدَ أَنْ آنَسَ الرُّشْدَ ؛ وَإِنْ
لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْحَجْرَ عَنْهُ لَا
يَحْتَاجُ إلَى ثُبُوتِ الْحَاكِمِ وَلَا حُكْمِهِ ؛ بَلْ مَتَى آنَسَ الْوَصِيُّ
مِنْهُ الرُّشْدَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ
كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ
فَإِذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى
بِاللَّهِ حَسِيبًا } . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْوَصِيُّ قَدْ سَلَّمَ الْمَالَ مَنْ
لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَالُ
وَصَلَ إلَى الْيَتِيمِ الباين رُشْدُهُ فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْوَصِيِّ كَمَا
تَبْرَأُ ذِمَّةُ كُلِّ غَاصِبٍ يُوصِلُ الْمَالَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَلَوْ كَانَ
بِغَيْرِ فِعْلِ الْغَاصِبِ وَلَا تَعَدٍّ : مِثْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ الْمَالِكُ
قَهْرًا أَوْ يُخَلِّصَهُ لَهُ بَعْضُ النَّاسِ أَوْ تُطَيِّرَهُ إلَيْهِ الرِّيحُ
فَإِنْ أَنْكَرَ الْيَتِيمُ بَعْدَ إينَاسِ الرُّشْدِ وُصُولَهُ إلَيْهِ مِنْ
جِهَةِ ذَلِكَ الْقَابِضِ الَّذِي لَيْسَ بِوَكِيلِ لِلْوَصِيِّ فَالْقَوْلُ
قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَأَمَّا إنْ أَنْكَرَ إقْبَاضَ الْوَصِيِّ أَوْ
وَكِيلِهِ لِأَحَدِ : فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ ؟ أَوْ قَوْلُ الْوَصِيِّ ؟ فِيهِ
نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ وَصِيٍّ تَحْتَ يَدِهِ مَالٌ لِأَيْتَامِ : فَهَلْ
يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ حِصَّتَهُ ؛ وَمِنْ مَالِهِمْ حِصَّتَهُ ؛
وَيُنْفِقُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ
: يُنْفِقُ عَلَى الْيَتِيمِ بِالْمَعْرُوفِ . وَإِذَا كَانَ خَلْطُ
طَعَامِهِ بِطَعَامِ الرَّجُلِ أَصْلَحَ لِلْيَتِيمِ فَعَلَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } فَإِنَّ
الصَّحَابَةَ كَانُوا لَمَّا تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَأْكُلُ مَالَ
الْيَتِيمِ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ يُمَيِّزُونَ طَعَامَ الْيَتِيمِ عَنْ طَعَامِهِمْ
فَيَفْسُدُ فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَيْتَامٍ تَحْتَ يَدِ وَصِيٍّ وَلَهُمْ أَخٌ مِنْ
أُمٍّ ؛ وَقَدْ بَاعَ الْوَصِيُّ حِصَّتَهُ عَلَى إخْوَتِهِ ؛ وَذَكَرَ [ أَنَّ ]
(1) الْمِلْكَ كَانَ وَاقِعًا ؛ وَلَمْ تُعْلَمْ الْأَيْتَامُ بِبَيْعِهِ لِمَا
بَاعَهُ الْوَصِيُّ مِنْهُ إلَيْهِمْ : فَهَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
بَيْعُ الْعَقَارِ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَفْعَلَهُ
إلَّا لِحَاجَةِ أَوْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ بَيِّنَةٍ ؛ وَإِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ
بَاعَهُ للاستهدام لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِلْيَتِيمِ الْآخَرِ ؛
لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا لِلْيَتِيمِ الْآخَرِ إنْ كَانَ صَادِقًا ؛ وَضَرَرًا
لِلْأَوَّلِ إنْ كَانَ كَاذِبًا
.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ وَلَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ
خَمْسَةٌ وَأَوْدَعَ عِنْدَ إنْسَانٍ دَرَاهِمَ وَقَالَ لَهُ : إنْ أَنَا مُتّ
تُعْطِيهَا الدَّرَاهِمَ ثُمَّ إنَّهُ مَاتَ فَأُخِذَتْ مِنْ الْوَصِيِّ بَعْضُ
الدَّرَاهِمِ ثُمَّ إنَّ أَوْلَادَهَا طَلَبُوهَا إلَى الْحَاكِمِ ؛ وَطَلَبُوا
مِنْهَا الدَّرَاهِمَ ؛ فَأَعْطَتْهُمْ إيَّاهَا وَاعْتَرَفَتْ أَنَّهَا
أَخَذَتْهَا مِنْ الْمُوصِي ثُمَّ إنَّهُمْ طَلَبُوا الْوَصِيَّ بِجُمْلَةِ
الْمَالِ وَادَّعَوْا أَنَّ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ أَنَّهُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ
مِنْهُ ؛ إلَّا كَانَ بَعْدَ أَنْ أَكْرَهُوهَا عَلَى ذَلِكَ : فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمَرْأَةِ أَنَّهُ مِنْ الْمَبْلَغِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ الْمُوصَى إلَيْهِ فِي
قَدْرِ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ : أَنَّهُ دَفَعَ إلَى
الْمَرْأَةِ مَا دَفَعَ إذَا صَدَّقَتْهُ عَلَى ذَلِكَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ كُلٍّ
مِنْهُمَا مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .
وَالْوَصِيَّةُ لِأُمِّ الْوَلَدِ وَصِيَّةٌ صَحِيحَةٌ إذَا كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ
الثُّلُثِ ؛ وَلِهَذِهِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ مَا وُصِّيَ لَهَا بِهِ إذَا
كَانَ دُونَ الثُّلُثِ فَإِنْ أَنْكَرَ الْوَارِثُ الْوَصِيَّةَ فَلَهَا عَلَيْهِ
الْيَمِينُ وَإِنْ شَهِدَ لَهَا شَاهِدٌ عَدَلَ وَحَلَفَتْ مَعَ شَاهِدِهَا حُكِمَ
لَهَا بِذَلِكَ ؛ وَإِذَا خَرَجَ الْمَالُ عَنْ يَدِ الْوَصِيِّ وَشَهِدَ لَهَا
قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لَهَا .
وَإِذَا
كَانَتْ كَتَمَتْ أَوَّلًا مَا عِنْدَ الْوَصِيِّ لِتَأْخُذَ مِنْهُ مَا وَصَّى لَهَا
بِهِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهَا بِذَلِكَ
بَيِّنَةٌ . فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَالًا فِي بَاطِنِ ذَلِكَ
وَأَخَذَهُ كَانَ مُتَأَوِّلًا فِي ذَلِكَ ؛ مَعَ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي
مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ وَصِيٍّ نَزَلَ عَنْ وَصِيَّتِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ
وَسَلَّمَ الْمَالَ إلَى الْحَاكِمِ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي
مَحْضَرٍ لِيُسَلِّمَهُ : فَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَنْ
نَفْسِهِ فَعَلَى الْحَاكِمِ إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ
بِالْحُكْمِ إيصَالُ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَدَفْعُ الْعُدْوَانِ
وَهُوَ يَعُودُ إلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ
وَالْإِلْزَامِ بِذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَصَّى لِرَجُلَيْنِ عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ
إنَّهُمَا اجْتَهَدَا فِي ثُبُوتِ الْوَصِيَّةِ : فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا
مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ مَا غَرِمُوا عَلَى ثُبُوتِهَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَا مُتَبَرِّعَيْنِ بِالْوَصِيَّةِ فَمَا أَنْفَقَاهُ
عَلَى إثْبَاتِهَا بِالْمَعْرُوفِ : فَهُوَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ صَاحِبٌ لَهُ فِي الْجِهَادِ ؛
فَجَمَعَ تَرِكَتَهُ فِي مُدَّةِ ثَلَاثِ سِنِينَ بَعْدَ تَعَبٍ : فَهَلْ يَجِبُ
لَهُ عَلَى ذَلِكَ أُجْرَةٌ ؟
فَأَجَابَ
:
إنْ كَانَ وَصِيًّا فَلَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ
أُجْرَةِ مِثْلِهِ ؛ أَوْ كِفَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى هَذَا
الْعَمَلِ فَلَهُ أُجْرَةٌ مِثْلُهُ وَإِنْ عَمِلَ مُتَبَرِّعًا فَلَا شَيْءَ لَهُ
مِنْ الْأُجْرَةِ ؛ بَلْ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَإِنْ عَمِلَ مَا يَجِبُ غَيْرَ
مُتَبَرِّعٍ : فَفِي وُجُوبِ أَجْرِهِ نِزَاعٌ . وَالْأَظْهَرُ الْوُجُوبُ .
كِتَابُ
الْفَرَائِضِ
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَخَلَّفَ
أَوْلَادًا ؟
فَأَجَابَ
:
لِلزَّوْجَةِ الصَّدَاقُ ؛ وَالْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ
حُكْمُهَا فِيهِ حُكْمُ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ وَمَا بَقِيَ بَعْدَ الدَّيْنِ
وَالْوَصِيَّةِ النَّافِذَةِ إنْ كَانَ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ فَلَهَا ثَمَنُهُ مَعَ
الْأَوْلَادِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا
وَأَبَوَيْنِ وَقَدْ احْتَاطَ الْأَبُ عَلَى التَّرِكَةِ ؛ وَذَكَرَ أَنَّهَا
غَيْرُ رَشِيدَةٍ . فَهَلْ لِلزَّوْجِ مِيرَاثٌ مِنْهَا ؟
فَأَجَابَ
:
مَا خَلَّفَتْهُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ : فَلِزَوْجِهَا
نَصِفُهُ ؛ وَلِأَبِيهَا الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْأُمِّ . وَهُوَ السُّدُسُ فِي
مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ رَشِيدَةً أَوْ غَيْرَ
رَشِيدَةٍ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ : عَنْ أَبَوَيْنِ وَزَوْجٍ ؛
وَأَرْبَعَةِ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ وَأُنْثَى . فَقَالَ الزَّوْجُ لِجَمَاعَةِ
شُهُودٍ : اشْهَدُوا . عَلَى أَنَّ نَصِيبِي - هُوَ سِتَّةٌ - لِأَبَوَيْ
زَوْجَتِي ؛ وَأَوْلَادِهَا الْمَذْكُورَيْنِ بِالْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَا
خُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ قَدْ مَلَّكَهُ نَصِيبَهُ الَّذِي هُوَ
سِتَّةُ أَسْهُمٍ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ
وَالْبَاقِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا : لِلْأَبَوَيْنِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ
وَأَوْلَادِهِ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ فَتُرَدُّ تِلْكَ السِّتَّةُ عَلَى هَذِهِ
الثَّمَانِيَةِ عَشَرَ سَهْمًا وَيُقَسَّمُ الْجَمِيعُ . بَيْنَهُمْ عَلَى
ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا كَمَا يُرَدُّ الْفَاضِلُ عَنْ ذَوِي السِّهَامِ
بَيْنَهُمْ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالرَّدِّ فَإِنَّ نَصِيبَ الْوَارِثِ جَعَلَهُ
لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ النَّصِيبِ الْمَرْدُودِ بَيْنَهُمْ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَلَهَا زَوْجٌ وَجَدَّةٌ
وَإِخْوَةٌ أَشِقَّاءُ ؛ وَابْنٌ :
فَمَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمِيرَاثِ ؟
فَأَجَابَ
:
لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ
وَلِلِابْنِ الْبَاقِي وَلَا شَيْءَ لِلْإِخْوَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ : وَخَلَّفَتْ زَوْجًا
وَابْنَتَيْنِ ؛ وَوَالِدَتَهَا وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ : فَهَلْ تَرِثُ الْأَخَوَاتُ
؟
فَأَجَابَ
:
يُفْرَضُ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ
وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ . أَصْلُهَا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَتُعَوَّلُ إلَى
ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَأَمَّا الْأَخَوَاتُ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ مَعَ الْبَنَاتِ ؛
لِأَنَّ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ ؛ وَلَمْ يَفْضُلْ لِلْعَصَبَةِ
شَيْءٌ هَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ : وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَأُمًّا
وَأُخْتًا شَقِيقَةً وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأَخًا وَأُخْتًا لِأُمِّ ؟
فَأَجَابَ
:
الْمَسْأَلَةُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ أَصْلُهَا مِنْ
سِتَّةٍ وَتُعَوَّلُ إلَى عَشَرَةٍ وَتُسَمَّى " ذَاتَ الْفُرُوخِ "
لِكَثْرَةِ عَوْلِهَا : لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ؛ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ
وَلِلشَّقِيقَةِ ثَلَاثَةٌ ؛ وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ
الثُّلُثَيْنِ وَلِوَلَدَيْ الْأُمِّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ . فَالْمَجْمُوعُ
عَشَرَةُ أَسْهُمٍ . وَهَذَا باتفاق الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ : وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَبِنْتًا
وَأُمًّا وَأُخْتًا مِنْ أُمٍّ . فَمَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ؟
فَأَجَابَ
:
هَذِهِ الْفَرِيضَةُ تُقَسَّمُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ :
لِلْبِنْتِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ؛ وَلِلْأُمِّ
سَهْمَانِ وَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ ؛ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِالْبِنْتِ
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ . وَهَذَا عَلَى قَوْلُ مَنْ يَقُولُ
بِالرَّدِّ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد . وَمَنْ لَا يَقُولُ بِالرَّدِّ :
كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ : فَيُقَسَّمُ عِنْدَهُمْ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا ؛
لِلْبِنْتِ سِتَّةٌ ؛ وَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ ؛ وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ ؛
وَالسَّهْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ لِبَيْتِ الْمَالِ (*) .
فَصْلٌ
:
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ النُّصُوصَ شَامِلَةٌ
لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ . وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مِنْ أَشْكَلِ
الْأَشْيَاءِ لِنُنَبِّهَ بِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ وَالْفَرَائِضُ مِنْ أَشْكَلِهَا
. فَنَقُولُ :
النَّصُّ وَالْقِيَاسُ - وَهُمَا الْكِتَاب وَالْمِيزَانُ - دَلَّا عَلَى أَنَّ الثُّلُثَ يَخْتَصُّ بِهِ وَلَدُ الْأُمِّ كَمَا هُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَمَنْ وَافَقَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَرَوَى حَرْبٌ التَّشْرِيكَ وَهُوَ قَوْلُ زَيْدٍ وَمَنْ وَافَقَهُ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى قِيلَ : إنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهَا عَنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ إلَّا عَلِيًّا وَزَيْدًا ؛ فَإِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُشْرِكْ وَزَيْدٌ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ أَنَّهُ يُشْرِكُ . قَالَ الْعَنْبَرِيُّ : الْقِيَاسُ مَا قَالَ عَلِيٍّ وَالِاسْتِحْسَانُ مَا قَالَ زَيْدٍ . قَالَ الْعَنْبَرِيُّ : هَذِهِ وَسَاطَةٌ مَلِيحَةٌ وَعِبَارَةٌ صَحِيحَةٌ . فَيُقَالُ : النَّصُّ وَالْقِيَاسُ دَلَّا عَلَى مَا قَالَ عَلِيٍّ . أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } وَالْمُرَادُ بِهِ : وَلَدُ الْأُمِّ وَإِذَا أَدْخَلَنَا فِيهِمْ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي الثُّلُثِ ؛ بَلْ زَاحَمَهُمْ غَيْرُهُمْ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ فَهُوَ غَلَطٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } الْآيَةَ . وَفِي قِرَاءَةِ سعد وَابْنِ مَسْعُودٍ ( مِنْ الْأُمِّ ) وَالْمُرَادُ بِهِ وَلَدُ الْأُمِّ بِالْإِجْمَاعِ . وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } وَوَلَدُ الْأَبَوَيْنِ وَالْأَبِ فِي آيَةٍ فِي قَوْلِهِ : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إنِ امْرُؤٌ
هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ } فَجَعَلَ لَهَا النِّصْفَ وَلَهُ جَمِيعَ الْمَالِ وَهَكَذَا حُكْمُ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ . ثُمَّ قَالَ : { وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } وَهَذَا حُكْمُ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ ؛ لَا الْأُمِّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . فَدَلَّ ذِكْرُهُ تَعَالَى لِهَذَا الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي تِلْكَ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ غَيْرُ الْآخَرِ . وَإِذَا كَانَ النَّصُّ قَدْ أَعْطَى وَلَدَ الْأُمِّ الثُّلُثَ فَمَنْ نَقَصَهُمْ مِنْهُ فَقَدْ ظَلَمَهُمْ . وَوَلَدُ الْأَبَوَيْنِ جِنْسٌ آخَرُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ } . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا لَمْ تَبْقَ الْفَرَائِضُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِلْعَصَبَةِ شَيْءٌ وَهُنَا لَمْ تَبْقَ الْفَرَائِضُ شَيْئًا . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ أَبَاهُمْ كَانَ حِمَارًا فَقَدْ اشْتَرَكُوا فِي الْأُمِّ . فَقَوْلٌ فَاسِدٌ حِسًّا وَشَرْعًا . أَمَّا الْحِسُّ : فَلِأَنَّ الْأَبَ لَوْ كَانَ حِمَارًا لَكَانَتْ الْأُمُّ أَتَانًا وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ بَنِي آدَمَ . وَإِذَا قِيلَ : مُرَادُهُ أَنَّ وُجُودَهُ كَعَدَمِهِ فَيُقَالُ : هَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْوُجُودَ لَا يَكُونُ مَعْدُومًا . وَأُمًّا الشَّرْعُ : فَلِأَنَّ اللَّهَ حَكَمَ فِي وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ بِخِلَافِ حُكْمِهِ فِي وَلَدِ الْأُمِّ
وَإِذَا قِيلَ ؛ فَالْأَبُ . إذَا لَمْ يَنْفَعْهُمْ لَمْ يَضُرَّهُمْ ؟ قِيلَ : بَلَى . قَدْ يَضُرُّهُمْ كَمَا يَنْفَعُهُمْ ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَ وَلَدُ الْأُمِّ وَاحِدًا وَوَلَدُ الْأَبَوَيْنِ كَثِيرِينَ ؛ فَإِنَّ وَلَدَ الْأُمِّ وَحْدَهُ يَأْخُذُ السُّدُسَ وَالْبَاقِي يَكُونُ لَهُمْ كُلَّهُ وَلَوْلَا الْأَبُ لَتَشَارَكُوا هُمْ وَذَاكَ الْوَاحِدُ فِي الثُّلُثِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْأَبِ يَنْفَعُهُمْ جَازَ أَنْ يَحْرِمَهُمْ . فَعُلِمَ أَنَّهُ يَضُرُّهُمْ . وَأَيْضًا فَأُصُولُ الْفَرَائِضِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُتَّصِلَةَ : ذَكَرٌ وَأُنْثَى لَا تُفَرِّقُ أَحْكَامُهَا . فَالْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ لَا يَكُونُ كَأَخٍ مِنْ أَبٍ وَلَا كَأَخٍ مِنْ أُمٍّ وَلَا يُعْطَى بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَحْدَهَا كَمَا لَا يُعْطَى بِقَرَابَةِ الْأَبِ وَحْدَهُ ؛ بَلْ الْقَرَابَةُ الْمُشْتَرِكَةُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ؛ وَإِنَّمَا يُفْرَدُ إذَا كَانَ قَرَابَةً لِأُمِّ مُنْفَرِدًا مِثْلَ ابْنَيْ عَمَّ : أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمِّ فَهُنَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ لِلْأَخِ لِأُمِّ السُّدُسُ وَيَشْتَرِكَانِ فِي الْبَاقِي وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ وَرُوِيَ عَنْ شريح : أَنَّهُ جَعَلَ الْجَمِيعَ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ كَمَا لَوْ كَانَ ابْنَ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : كِلَاهُمَا فِي بُنُوَّةِ الْعَمِّ سَوَاءٌ هُمَا ابْنَ عَمٍّ مِنْ أَبَوَيْنِ أَوْ مِنْ أَبٍ وَالْإِخْوَةُ مِنْ الْأُمِّ مُسْتَقِلَّةٌ لَيْسَتْ مُقْتَرِنَةً حَتَّى يُجْعَلَ كَابْنِ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْحُكْمَ فِي " مَسْأَلَةِ الْمُشْرِكَةِ " أَنْ لَوْ كَانَ فِيهِنَّ أَخَوَاتٌ مِنْ أَبٍ لَفُرِضَ لَهُنَّ الثُّلُثَانِ وَعَالَتْ الْفَرِيضَةُ ؛ فَلَوْ كَانَ مَعَهُنَّ أَخُوهُنَّ سَقَطْنَ وَيُسَمَّى " الْأَخُ الْمَشْئُومُ " فَلَمَّا صِرْنَ بِوُجُودِهِ يَصِرْنَ عَصَبَةً : صَارَ تَارَةً يَنْفَعُهُنَّ . وَتَارَةً يَضُرُّهُنَّ ؛ وَلَمْ يُجْعَلْ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي حَالَةِ الضُّرِّ . كَذَلِكَ قَرَابَةُ الْأَبِ لَمَّا
الْإِخْوَةُ بِهَا عَصَبَةٌ صَارَ يَنْفَعُهُمْ تَارَةً وَيَضُرُّهُمْ أُخْرَى . فَهَذَا مَجْرَى " العصوبة " فَإِنَّ الْعَصَبَةَ تَارَةً يَحُوزُ الْمَالَ كُلَّهُ وَتَارَةً يَحُوزُ أَكْثَرَهُ ؛ وَتَارَةً أَقَلَّهُ وَتَارَةً لَا يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ وَهُوَ إذَا اسْتَغْرَقَتْ الْفَرَائِضُ الْمَالَ . فَمَنْ جَعَلَ الْعَصَبَةَ تَأْخُذُ مَعَ اسْتِغْرَاقِ الْفَرَائِضِ الْمَالَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الْأُصُولِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْفَرَائِضِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : هُوَ اسْتِحْسَانٌ . يُقَالُ هَذَا اسْتِحْسَانٌ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ؛ فَإِنَّهُ ظُلْمٌ لِلْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ ؛ حَيْثُ يُؤْخَذُ حَقُّهُمْ فَيُعْطَاهُ غَيْرُهُمْ . وَالْمُنَازِعُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ مَعَهُمْ حُجَّةٌ إلَّا أَنَّهُ قَوْلُ زَيْدٍ . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ : أَنَّهُ حَكَمَ بِهَا فَعَمِلَ بِذَلِكَ مَنْ عَمِلَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَة وَغَيْرِهَا كَمَا عَمِلُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ . وَعَمِلُوا بِقَوْلِ زَيْدٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفَرَائِضِ تَقْلِيدًا لَهُ وَإِنْ كَانَ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ مَعَ مَنْ خَالَفَهُ . وَبَعْضُهُمْ يَحْتَجُّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { أَفْرَضُكُمْ زيد } . وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ؛ لَا أَصْلَ لَهُ . وَلَمْ يَكُنْ زيد عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْرُوفًا بِالْفَرَائِضِ . حَتَّى أَبُو عُبَيْدَةَ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ إلَّا قَوْلُهُ : { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ } . وَكَذَلِكَ اتِّبَاعُهُمْ لِزَيْدِ فِي " الْجَدِّ " مَعَ أَنَّ جُمْهُورَ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ . فَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ مُوَافِقُونَ لَلصِّدِّيقِ فِي أَنَّ الْجَدَّ كَالْأَبِ يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . اخْتَارَهُ أَبُو حَفْصٍ الْبَرْمَكِيُّ مِنْ أَصْحَابِهِ وَحَكَاهُ
بَعْضُهُمْ
رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد . وَأَمَّا الْمُوَرِّثُونَ لِلْإِخْوَةِ مَعَ الْجَدِّ فَهُمْ
عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ قَوْلٌ انْفَرَدَ بِهِ .
وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَانَ مُتَوَقِّفًا فِي أَمْرِهِ . وَالصَّوَابُ بِلَا
رَيْبٍ قَوْلُ الصِّدِّيقِ ؛ لِأَدِلَّةِ مُتَعَدِّدَةٍ ذَكَرْنَاهَا فِي غَيْرِ
هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَأَمَّا " الْعُمَرِيَّتَانِ " فَلَيْسَ فِي
الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ مَعَ الْأَبِ وَالزَّوْجِ
؛ بَلْ إنَّمَا أَعْطَاهَا اللَّهُ الثُّلُثَ إذْ وَرِثَتْ الْمَالَ هِيَ
وَالْأَبُ فَكَانَ الْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا وَرِثَتْهُ هِيَ
وَالْأَبُ تَأْخُذُ ثُلُثَهُ وَالْأَبُ ثُلُثَيْهِ وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا أَكَابِرُ
الصَّحَابَةِ : كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٌ
وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَيْنِ
يَكُونَانِ فِيهِ أَثْلَاثًا قِيَاسًا عَلَى جَمِيعِ الْمَالِ إذَا اشْتَرَكَا
فِيهِ وَكَمَا يَشْتَرِكَانِ فِيمَا يَبْقَى بَعْدَ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّة .
وَمَفْهُومُ الْقُرْآنِ يَنْفِي أَنْ تَأْخُذَ الْأُمُّ الثُّلُثَ مُطْلَقًا
فَمَنْ أَعْطَاهَا الثُّلُثَ مُطْلَقًا حَتَّى مَعَ الزَّوْجَةِ فَقَدْ خَالَفَ
مَفْهُومَ الْقُرْآنِ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَدْ عَمِلُوا بِالْمَفْهُومِ فَلَمْ
يَجْعَلُوا مِيرَاثَهَا إذَا وَرِثَهُ أَبُوهُ كَمِيرَاثِهَا إذَا لَمْ يَرِثُ
بَلْ إنْ وَرِثَهُ أَبُوهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ مُطْلَقًا وَأَمَّا إذَا لَمْ
يَرِثْهُ أَبُوهُ ؛ بَلْ وَرِثَهُ مَنْ دُونِ الْأَبِ : كَالْجَدِّ وَالْعَمِّ
وَالْأَخِ فَهِيَ بِالثُّلُثِ أَوْلَى فَإِنَّهَا إذَا أَخَذَتْ الثُّلُثَ مَعَ
الْأَبِ فَمَعَ غَيْرِهِ مِنْ الْعَصَبَةِ أَوْلَى .
فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَرِثْهُ إلَّا الْأُمُّ وَالْأَبُ ؛ أَوْ عَصَبَةٌ غَيْرُ الْأَبِ سِوَى الِابْنِ ؛ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ؛ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى ؛ وَأَمَّا الِابْنُ فَإِنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْأَبِ ؛ فَلَهَا مَعَهُ السُّدُسُ . وَإِذَا كَانَ مَعَ الْعَصَبَةِ ذُو فَرْضٍ فَالْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ قَدْ أَعْطَوْا الْأُمَّ مَعَهُنَّ السُّدُسَ وَالْأُخْتُ الْوَاحِدَةُ إذَا كَانَتْ هِيَ وَالْأُمُّ فَالْأُمُّ تَأْخُذُ الثُّلُثَ مَعَ الذَّكَرِ مِنْ الْإِخْوَةِ فَمَعَ الْأُنْثَى أَوْلَى . وَإِنَّمَا الْحَجْبُ عَنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ بِالْإِخْوَةِ ؛ وَالْوَاحِدُ لَيْسَ إخْوَةً . فَإِذَا كَانَتْ مَعَ الْأَخِ الْوَاحِدِ تَأْخُذُ الثُّلُثَ فَمَعَ الْعَمِّ وَغَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَفِي الْجَدِّ نِزَاعٌ : يُرْوَى عَنْ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهَا مَعَ الْجَدِّ تَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَالِ وَهُوَ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ أَبْعَدُ مِنْهَا ؛ وَهُوَ مَحْجُوبٌ بِالْأَبِ فَلَا يَحْجُبُهَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهَا ؛ وَمَحْضُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَبَ مَعَ الْأُمِّ ؛ كَالْبِنْتِ مِنْ الِابْنِ وَالْأُخْتِ مَعَ الْأَخِ لِأَنَّهُمَا ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ هُمَا عَصَبَةٌ . وَقَدْ أُعْطِيَتْ الزَّوْجَةُ نِصْفَ مَا يُعْطَاهُ الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّهُمَا ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنْ جِنْسٍ . وَأَمَّا دَلَالَةُ الْكِتَابِ فِي مِيرَاثِ الْأُمِّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } فَاَللَّهُ تَعَالَى فَرَضَ لَهَا بِشَرْطَيْنِ : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ . وَأَنْ يَرِثَهُ أَبُوهُ ؛ فَكَانَ فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُعْطَى الثُّلُثَ مُطْلَقًا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ
وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَالْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا تُعْطَى فِي " الْعُمَرِيَّتَيْنِ " - زَوْجٌ وَأَبَوَانِ ؛ وَزَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ - ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُوَافِقُوهُ : فَإِنَّهَا لَوْ أُعْطِيَتْ الثُّلُثَ هُنَا لَكَانَتْ تُعْطَاهُ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ مُطْلَقًا وَهُوَ خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِزَيْدِ : أَفِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ ؟ أَيْ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلَّا سُدُسٌ وَثُلُثٌ . فَيُقَالُ : وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إعْطَاؤُهَا الثُّلُثَ مُطْلَقًا فَكَيْفَ يُعْطِيهَا مَعَ الزَّوْجَيْنِ الثُّلُثَ بَلْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا يَمْنَعُ إعْطَاءَهَا الثُّلُثَ مَعَ الْأَبِ وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ . فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ . فَإِنَّهَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ مُطْلَقًا ؛ فَلَمَّا خَصَّ الثُّلُثَ بِبَعْضِ الْحَالِ : عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ مُطْلَقًا . فَهَذَا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ الَّذِي يُسَمَّى دَلِيلُ الْخِطَابِ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَعْطَاهَا الثُّلُثَ إلَّا الْعُمَرِيَّتَيْنِ وَلَا وَجْهَ لِإِعْطَائِهَا الثُّلُثَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْإِجْمَاعِ . إلَى أَنْ قَالَ : فَإِنَّ قَوْلَهُ : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهَا الثُّلُثَ وَالْبَاقِيَ لِلْأَبِ بِقَوْلِهِ وَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَإِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْمِيرَاثَ مِيرَاثًا بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَخْرَجَ نَصِيبَهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ نَصِيبُهُ . وَإِذَا أُعْطِيَ الْأَبُ الْبَاقِيَ مَعَهَا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُعْطَى غَيْرُهُ مِثْلَ مَا أُعْطِيَ . وَإِنَّمَا أَعْطَيْنَا سَائِرَ الْعَصَبَةِ بِقَوْلِهِ : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } وَبِقَوْلِهِ : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ }
وَبِقَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا
فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ } .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا مِيرَاثُ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ :
وَأَنَّهُنَّ عَصَبَةً . كَمَا قَالَ : ( { وَلَهُ أُخْتٌ } - الَّذِي هُوَ قَوْلُ
جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ - فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ
وَالسُّنَّةُ أَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ
} . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُخْتَ تَرِثُ النِّصْفَ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ .
وَأَنَّهُ هُوَ يَرِثُ الْمَالَ كُلَّهُ مَعَ عَدَمِ وَلَدِهَا . وَذَلِكَ
يَقْتَضِي أَنَّ الْأُخْتَ مَعَ الْوَلَدِ لَا يَكُونُ لَهَا النِّصْفُ مِمَّا
تَرَكَ ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ لَهَا النِّصْفُ سَوَاءً كَانَ لَهُ
وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَكَانَ ذِكْرُ الْوَلَدِ تَدْلِيسًا وَعَبَثًا
مُضِرًّا وَكَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ . وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ
لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } وَقَوْلُهُ { فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } وَإِذَا عَلِمَ
أَنَّهَا مَعَ الْوَلَدِ لَا تَرِثُ النِّصْفَ فَالْوَلَدُ إمَّا ذَكَرٌ وَإِمَّا
أُنْثَى .
أَمَّا الذَّكَرُ فَإِنَّهُ يُسْقِطُهَا كَمَا يَسْقُطُ الْأَخُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ } فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْإِرْثُ الْمُطْلَقُ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ وَالْإِرْثُ الْمُطْلَقُ هُوَ حَوْزُ جَمِيعِ الْمَالِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ لَمْ يَحُزْ الْمَالَ ؛ بَلْ : إمَّا أَنْ يَسْقُطَ وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَهُ . فَيَبْقَى إذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ : فَإِمَّا ابْنٌ وَإِمَّا بِنْتٌ . وَالْقُرْآنُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْبِنْتَ إنَّمَا تَأْخُذُ النِّصْفَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبِنْتَ لَا تَمْنَعُهُ النِّصْفَ الْآخَرَ ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا بِنْتٌ وَأَخٌ . وَلِمَا كَانَ فُتْيَا اللَّهِ إنَّمَا هُوَ فِي الْكَلَالَةِ ؛ وَالْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا وَلَدً : عَلِمَ أَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَوَالِدٌ لَيْسَ هَذَا حُكْمُهُ . وَلَمَّا كَانَ قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْأَخَ يَحُوزُ الْمَالَ - مَالَ الْأُخْتُ - فَيَكُونُ لَهَا عَصَبَةً ؛ كَانَ الْأَبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَصَبَةً بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ وَإِذَا كَانَ الْأَبُ وَالْأَخُ عَصَبَةً فَالِابْنُ بِطَرِيقِ الْأُولَى . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } وَدَلَّ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٌ } أَنَّ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْفَرَائِضِ لَا يَرِثُهُ إلَّا الْعَصَبَةُ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الِابْنَ أَقْرَبُ ثُمَّ الْأَبُ ؛ ثُمَّ الْجَدُّ ؛ ثُمَّ الْإِخْوَةُ . وَقَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَوْلَادَ بَنِي الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ ؛ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ . فَالْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْأَخِ لِلْأَبِ وَابْنُ الِابْنِ يَقُومُ مَقَامَ الِابْنِ وَكَذَلِكَ كُلُّ بَنِي أَبٍ أَدْنَى هُمْ أَقْرَبُ مِنْ بَنِي الْأَبِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَأَقَرَّ بِهِمْ إلَى الْأَبِ الْأَعْلَى
فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ . وَإِذَا اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ فَمَنْ كَانَ لِأَبَوَيْنِ أَوْلَى مِمَّنْ كَانَ لِلْأَبِ . فَلَمَّا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ لِلْأُخْتِ النِّصْفَ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ . وَأَنَّهُ مَعَ ذُكُورٍ وَلَدٍ يَكُونُ الِابْنُ عَاصِبًا يَحْجُبُ الْأُخْتَ ؛ كَمَا يَحْجُبُ أَخَاهَا . بَقِيَ الْأُخْتُ مَعَ إنَاثِ الْوَلَدِ : لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَنْفِي مِيرَاثَ الْأُخْتِ فِي هَذِهِ الْحَالِ . بَقِيَ مَعَ الْبِنْتِ : إمَّا أَنْ تَسْقُطَ ؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا النِّصْفُ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَصَبَةً . وَلَا وَجْهَ لِسُقُوطِهَا ؛ فَإِنَّهَا لَا تُزَاحِمُ الْبِنْتَ . وَأَخُوهَا لَا يَسْقُطُ . فَلَا تَسْقُطُ هِيَ وَلَوْ سَقَطَتْ بِمَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهَا مِنْ الْأَقَارِبِ وَالْبَعِيدِ لَا يَسْقُطُ الْقَرِيبُ وَلِأَنَّهَا كَانَتْ تُسَاوِي الْبِنْتَ مَعَ اجْتِمَاعِهِمَا وَالْبِنْتُ أَوْلَى مِنْهَا فَلَا تُسَاوَى بِهَا ؛ فَإِنَّهُ لَوْ فَرَضَ لَهَا النِّصْفَ لَنَقَصَتْ الْبِنْتَ عَنْ النِّصْفِ كَزَوْجِ وَبِنْتٍ فَلَوْ فَرَضَ لَهَا النِّصْفَ لَعَالَتْ فَنَقَصَتْ الْبِنْتَ عَنْ النِّصْفِ وَالْإِخْوَةُ لَا يُزَاحِمُونَ الْأَوْلَادَ بِفَرْضِ وَلَا تَعْصِيبٍ ؛ فَإِنَّ الْأَوْلَادَ أَوْلَى مِنْهُمْ . وَاَللَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهَا النِّصْفَ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ كَلَالَةً . فَلَمَّا بَطَلَ سُقُوطُهَا وَفَرْضُهَا لَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ تَكُونَ عَصَبَةً أَوْلَى مِنْ الْبَعِيدِ كَالْعَمِّ وَابْنِ الْعَمِّ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ { عَنْ ابْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ أَنَّ أَبَا مُوسَى وَسَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ قَالَا : فِي بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ . وَأُخْتٍ : لِلْبِنْتِ النِّصْفُ
وَلِلْأُخْتِ
النِّصْفُ وائت ابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ سَيُتَابِعُنَا . فَقَالَ : لَقَدْ ضَلَلْت
إذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ لَأَقْضِيَن فِيهَا بِقَضَاءِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَبِنْتُ الِابْنِ
السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ . وَمَا بَقِيَ لِلْأُخْتِ } فَدَلَّ ذَلِكَ
أَنَّ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ وَالْأُخْتَ تَكُونُ عَصَبَةً بِغَيْرِهَا
وَهُوَ أَخُوهَا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ عَصَبَةً مَعَ الْبِنْتِ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ
بِأَهِلِهَا إلَخْ } فَهَذَا عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الْمُعْتَقَةُ وَالْمُلَاعِنَةُ
وَالْمُلْتَقِطَةُ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَحُوزُ
الْمَرْأَةُ ثَلَاثَ مَوَارِيثَ : عَتِيقُهَا وَلَقِيطُهَا وَوَلَدُهَا الَّذِي
لَاعَنَتْ عَلَيْهِ } وَإِذَا كَانَ عَامًّا مَخْصُوصًا : خُصَّتْ مِنْهُ هَذِهِ الصُّورَةُ
بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَدِلَّةِ
.
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا " مِيرَاثُ الْبِنْتَيْنِ " فَقَدْ
قَالَ تَعَالَى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا
تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى
أَنَّ الْبِنْتَ لَهَا مَعَ أَخِيهَا الذَّكَرِ الثُّلُثُ وَلَهَا وَحْدَهَا
النِّصْفُ وَلِمَا فَوْقَ اثْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ . بَقِيَتْ الْبِنْتُ إذَا
كَانَ لَهَا مَعَ الذَّكَرِ الثُّلُثُ لَا الرُّبُعُ فَأَنْ يَكُونَ لَهَا مَعَ
الْأُنْثَى الثُّلُثُ لَا الرُّبُعُ أَوْلَى وَأَحْرَى ؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ : {
وَإِنْ كَانَتْ
وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فَقَيَّدَ النِّصْفَ بِكَوْنِهَا وَاحِدَةً فَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهَا إلَّا مَعَ هَذَا الْوَصْفِ ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً } ذَكَرَ ضَمِيرَ ( كُنَّ ) وَ ( وَنِسَاءً ) وَذَلِكَ جَمْعٌ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ : اثْنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ ضَمِيرَ الْجَمْعِ لَا يَخْتَصُّ بِاثْنَتَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَصُّ بِاثْنَتَيْنِ فَلَزِمَ أَنْ يُقَالَ : { فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ حُكْمَ الثِّنْتَيْنِ ؛ وَعَرَفَ حُكْمَ الْوَاحِدَةِ وَإِذَا كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِمَا فَوْقَ الثِّنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ : امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لِلْبِنْتَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الثُّلُثَيْنِ فَلَا يَكُونُ لَهُمَا جَمِيعُ الْمَالِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ النِّصْفُ فَإِنَّ الثَّلَاثَ لَيْسَ لَهُنَّ إلَّا الثُّلُثَانِ فَكَيْفَ الثَّلَاثَةُ وَلَا يَكْفِيهَا النِّصْفُ لِأَنَّهُ لَهَا بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً فَلَا يَكُونُ لَهَا إذَا لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةً . وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ تَظْهَرُ مِنْ قِرَاءَةِ النَّصْبِ { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً } فَإِنَّ هَذَا خَبَرٌ كَانَ تَقْدِيرُهُ : فَإِنْ كَانَتْ بِنْتًا وَاحِدَةً أَيْ مُفْرَدَةً لَيْسَ مَعَهَا غَيْرُهَا { فَلَهَا النِّصْفُ } فَلَا يَكُونُ لَهَا ذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهَا غَيْرُهَا فَانْتَفَى النِّصْف وَانْتَفَى الْجَمِيعُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الثُّلُثَانِ . وَهَذِهِ دَلَالَةٌ مِنْ الْآيَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَالَ فِي الْأَخَوَاتِ : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْبِنْتَيْنِ أَوْلَى بِالثُّلُثَيْنِ مِنْ الْأُخْتَيْنِ . وَأَيْضًا فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَمَّا أَعْطَى ابْنَتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الثُّلُثَيْنِ وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَالْعَمَّ مَا بَقِيَ " . وَهَذَا إجْمَاعٌ لَا يَصِحُّ فِيهِ خِلَافٌ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَدَلَّتْ آيَةُ ( الْوَلَدِ ) عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا فَوْقَ الِاثْنَتَيْنِ حُكْمُ الِاثْنَتَيْنِ ؛ فَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْأَخَوَاتِ { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } وَلَمْ يَذْكُرْ مَا فَوْقَهُمَا ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ الثِّنْتَانِ تَسْتَحِقَّانِ الثُّلُثَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ؛ بِخِلَافِ آيَةِ الْبَنَاتِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَدُلَّ قَوْلُهُ { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } إلَّا عَلَى أَنَّ لَهَا الثُّلُثَ مَعَ أَخِيهَا وَإِذَا كُنَّ اثْنَتَيْنِ لَمْ تَسْتَحِقَّ الثُّلُثَ فَصَارَ بَيَانُهُ فِي كُلٍّ مِنْ الْآيَتَيْنِ مِنْ أَحْسَنِ الْبَيَانِ ؛ لِمَا دَلَّ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ عَلَى مِيرَاثِ الْبِنْتَيْنِ دُونَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنٌ بَعْدَ ذَلِكَ مِيرَاثُ مَا زَادَ عَلَى الْبِنْتَيْنِ وَفِي آيَةِ الصَّيْفِ لِمَا دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى مِيرَاثِ الْأُخْتَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ دَالًّا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى مِيرَاثِ الثَّلَاثَةِ أَوْ الْأَرْبَعَةِ وَمَا زَادَ : لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَذْكُرَ مَا زَادَ عَلَى الْأُخْتَيْنِ . فَهُنَاكَ ذَكَرَ مَا فَوْقَ الْبِنْتَيْنِ دُونَ الْبِنْتَيْنِ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ذَكَرَ الْبِنْتَيْنِ دُونَ مَا فَوْقَهُمَا لِمَا يَقْتَضِيه حُسْنُ الْبَيَانِ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ وَلِمَا بَيْنَ حُكْمِ الْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ وَالْأَخِ الْوَاحِدِ وَحُكْمِ الْأُخْتَيْنِ فَصَاعِدًا : بَقِيَ بَيَانُ الِابْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ الصِّنْفَيْنِ لِيَكُونَ الْبَيَانُ مُسْتَوْعِبًا لِلْأَقْسَامِ . وَلَفْظُ " الْإِخْوَةِ " وَسَائِر جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْجَمْعِ قَدْ يَعْنِي بِهِ الْجِنْسَ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْقَدْرِ مِنْهُ : فَيَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا . وَقَدْ يَعْنِي بِهِ الثَّلَاثَةَ فَصَاعِدًا . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إنَّمَا عَنَى بِهِ الْعَدَدَ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ الْوَاحِدَةَ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْفَرَائِضِ فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ وَسَوَّى فِيهِ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْعَدَدِ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ } إلَى قَوْلِهِ : { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } فَقَوْلُهُ : ( كَانُوا )
ضَمِيرُ
جَمْعٍ وَقَوْلُهُ : { أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ } أَيْ مِنْ أَخٍ وَأُخْتٍ ثُمَّ قَالَ
: { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } فَذَكَرَهُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُضْمَرِ
وَهُوَ قَوْلُهُ : فَهُمْ وَالْمُظْهَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ شُرَكَاءُ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صِيغَةَ
الْجَمْعِ فِي آيَاتِ الْفَرَائِضِ تَنَاوَلَتْ الْعَدَدَ مُطْلَقًا :
الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا ؛ لِقَوْلِهِ : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ }
وَقَوْلِهِ ؛ { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } وَقَوْلُهُ : {
وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً } .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا " الْجَدَّةُ " فَكَمَا قَالَ
الصِّدِّيقُ : لَيْسَ لَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ ؛ فَإِنَّ الْأُمَّ
الْمَذْكُورَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُقَيَّدَةٌ بِقُيُودِ تُوجِبُ اخْتِصَاصَ
الْحُكْمِ بِالْأُمِّ الدُّنْيَا فَالْجَدَّةُ وَإِنْ سُمِّيَتْ أُمًّا لَمْ
تَدْخُلْ فِي لَفْظِ الْأُمِّ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَرَائِضِ فَأُدْخِلَتْ فِي
لَفْظِ الْأُمَّهَاتِ فِي قَوْلِهِ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ }
وَلَكِنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَعْطَاهَا
السُّدُسَ " فَثَبَتَ مِيرَاثُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ لَفْظٌ عَامٌّ فِي الْجَدَّاتِ ؛ بَلْ
وَرَّثَ الْجَدَّةَ الَّتِي سَأَلَتْهُ فَلَمَّا جَاءَتْ الثَّانِيَة أَبَا بَكْرٍ
جَعَلَهَا شَرِيكَةَ الْأُولَى فِي السُّدُسِ . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي
" الْجَدَّاتِ " فَقِيلَ : لَا يَرِثُ الِاثْنَتَانِ : أُمُّ الْأُمِّ وَأُمُّ
الْأَبِ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ . وَقِيلَ : لَا يَرِثُ إلَّا ثَلَاثٌ
هَاتَانِ وَأُمُّ الْجَدِّ ؛ لِمَا { رَوَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي : أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَرَّثَ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ : جَدَّتَيْك مِنْ قِبَلِ أَبِيك وَجَدَّتِك مِنْ قِبَلِ أُمِّك } وَهَذَا مُرْسَلٌ حَسَنٌ ؛ فَإِنَّ مَرَاسِيلَ إبْرَاهِيمَ مِنْ أَحْسَنِ الْمَرَاسِيلِ . فَأَخَذَ بِهِ أَحْمَد . وَلَمْ يَرِدْ فِي النَّصِّ إلَّا تَوْرِيثُ هَؤُلَاءِ . وَقِيلَ : بَلْ يَرِثُ جِنْسَ الْجَدَّاتِ الْمُدْلِيَاتِ بِوَارِثِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ النَّصِّ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِي كُلِّ جَدَّةٍ فَالصِّدِّيقُ لَمَّا جَاءَتْهُ الثَّانِيَة قَالَ لَهَا : لَمْ يَكُنْ السُّدُسُ الَّتِي أُعْطِي إلَّا لِغَيْرِك ؛ وَلَكِنْ هِيَ لَوْ خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا . فَوَرَّثَ الثَّانِيَة . وَالنَّصُّ إنَّمَا كَانَ فِي غَيْرِهَا . وَلِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ مَنْ عَلَتْ بِالْأُمُومَةِ وَرِثَتْ : فَتَرِثُ أُمُّ أُمِّ الْأَبِ وَأُمُّ أُمِّ الْأُمِّ بِالِاتِّفَاقِ : فَيَبْقَى أُمُّ أَبِي الْجَدِّ : أَيْ فَرْقٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُمِّ الْجَدِّ وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ أُمِّ الْأَبِ وَأُمِّ الْجَدِّ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَا الْجَدِّ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ ؛ بَلْ هُوَ جَدٌّ أَعْلَى كَذَلِكَ الْجَدُّ كَالْأَبِ ؛ كَأَيِّ وَصْفٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ وَأُمِّ أَبِي الْجَدِّ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ أُمَّ أُمِّ الْمَيِّتِ وَأُمَّ أَبِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ ؛ فَكَذَلِكَ أُمُّ أُمِّ أَبِيهِ وَأُمُّ أَبِي أَبِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَبِيهِ سَوَاءٌ ؛ فَوَجَبَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْمِيرَاثِ . وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا أُمَّ أُمِّ الْأُمِّ وَإِنْ زَادَتْ أُمُومَتُهَا تَرِثُ وَأُمُّ أَبِي الْأَبِ لَا تَرِثُ . وَرَجَّحُوا الْجَدَّةَ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ عَلَى الْجَدَّةِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ . وَهَذَا ضَعِيفٌ فَلَمْ تَكُنْ أُمُّ الْأُمِّ أَوْلَى بِهِ مِنْ أُمِّ الْأَبِ ؛ وَأَقَارِبُ الْأُمِّ لَمْ
يُقَدَّمُوا
فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ بَلْ أَقَارِبُ الْأَبِ أَوْلَى فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ
؛ فَكَذَلِكَ فِي الْحَضَانَةِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِابْنِهَا -
أَيْ الْأَبِ - كَمَا هُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد ؛ لِحَدِيثِ
ابْنِ مَسْعُودٍ . وَلِأَنَّهَا وَلَوْ أَدْلَتْ بِهِ فَهِيَ لَا تَرِثُ مِيرَاثَهُ
؛ بَلْ هِيَ مَعَهُ كَوَلَدِ الْأُمِّ مَعَ الْأُمِّ لَمْ يَسْقُطُوا بِهَا .
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : مَنْ أَدْلَى بِشَخْصِ سَقَطَ بِهِ . بَاطِلٌ : طَرْدًا وَعَكْسًا . بَاطِلٌ طَرْدًا
: بِوَلَدِ الْأُمِّ مَعَ الْأُمِّ وَعَكْسًا : بِوَلَدِ الِابْنِ مَعَ عَمِّهِمْ ؛
وَوَلَدِ الْأَخِ مَعَ عَمِّهِمْ
. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ سُقُوطُ شَخْصٍ
بِمَنْ لَمْ يَدْلُ بِهِ ؛ وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ أَنَّهُ يَرِثُ مِيرَاثَهُ
فَكُلُّ مَنْ وَرِثَ مِيرَاثَ شَخْصٍ سَقَطَ بِهِ إذَا كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُ
وَالْجَدَّاتُ يَقُمْنَ مَقَامَ الْأُمِّ فَيَسْقُطْنَ بِهَا وَإِنْ لَمْ
يُدْلِينَ بِهَا .
وَأَمَّا كَوْنُ " بَنَاتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ
" لَهُنَّ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَكَذَلِكَ الْأَخَوَاتُ مِنْ
الْأَبِ مَعَ أُخْتِ الْأَبَوَيْنِ ؛ فَلِأَنَّ اللَّهَ قَالَ . { يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ
نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْخِطَابَ
تَنَاوَلَ وَلَدَ الْبَنِينَ ؛ دُونَ وَلَدِ الْبَنَاتِ وَأَنَّ قَوْلَهُ {
أَوْلَادَكُمْ } يَتَنَاوَلُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمَيِّتِ ؛ وَهُمْ وَلَدُهُ
وَوَلَدُ ابْنَتِهِ وَأَنَّهُ مُتَنَاوِلُهُمْ عَلَى التَّرْتِيبِ : يَدْخُلُ فِيهِ
وَلَدُ الْبَنِينَ عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ ؛ لِمَا قَدْ عُرِفَ مِنْ
أَنَّمَا أَبْقَتْ الْفُرُوضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ وَالِابْنُ
أَقْرَبُ
مِنْ ابْنِ الِابْنِ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ إلَّا بِنْتٌ فَلَهَا النِّصْفُ ؛ وَبَقِيَ
مِنْ نَصِيبِ الْبَنَاتِ السُّدُسُ ؛ فَإِذَا كَانَ هُنَا بَنَاتُ ابْنٍ فَإِنَّهُنَّ
يَسْتَحْقِقْنَ الْجَمِيعَ لَوْلَا الْبِنْتُ ؛ فَإِذَا أَخَذَتْ النِّصْفَ
فَالْبَاقِي لَهُنَّ .
وَكَذَلِكَ فِي الْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ مَعَ
الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ : { أَخْبَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى لِلْبِنْتِ بِالنِّصْفِ ؛ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ
تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ } وَأَمَّا إذَا اسْتَكْمَلَتْ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ
لَمْ يَبْقَ فَرْضٌ ؛ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عَصَبَةٌ مِنْ وَلَدِ الْبَنِينَ
فَالْمَالُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى ذَكَرٍ ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَوْ فَوْقَهُ
عَصَبُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ كَالْأَرْبَعَةِ
وَغَيْرِهِمْ . وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ يُسْقِطُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا
تَرِثُ مُفْرَدَةً .
وَالنِّزَاعُ فِي الْأُخْتِ لِلْأَبِ مَعَ أَخِيهَا إذَا
اسْتَكْمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ . فَالْجُمْهُورُ يَجْعَلُونَ الْبَنَاتَ
عَصَبَةً مَعَ إخْوَانِهِنَّ يَقْتَسِمُونَ الْبَاقِي لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ سَوَاءٌ زَادَ مِيرَاثُهُنَّ بِالتَّعْصِيبِ أَوْ نَقَصَ
وَتَوْرِيثُهُنَّ هُنَا أَقْوَى وَقَوْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ مَعْرُوفٌ فِي
نُقْصَانِهِنَّ .
فَصْلٌ
:
وَفِي مَنْ " عَمِيَ مَوْتُهُمْ " فَلَمْ
يُعْرَفْ أَيُّهُمْ مَاتَ أَوَّلًا فَالنِّزَاعُ مَشْهُورٌ فِيهِمْ .
وَالْأَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ لَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ
بَلْ يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ وَرَثَتَهُ الْأَحْيَاءَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ
وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ لَكِنْ خِلَافُ الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِ
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ فِي الْأُصُولِ كَالْمُلْتَقِطِ
لِمَا جَهِلَ حَالَ الْمَالِكِ كَانَ الْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ فَصَارَ
مَالِكًا لِمَا الْتَقَطَهُ ؛ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمِلْكِ . وَكَذَلِكَ "
الْمَفْقُودُ " قَدْ أَخَذَ أَحْمَد بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ
جَعَلُوا الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ فَجَعَلُوهَا زَوْجَةَ الثَّانِي مَا دَامَ
الْأَوَّلُ مَجْهُولًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا فِي اللَّقْطِ فَإِذَا عُلِمَ
صَارَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ وَرَدِّهِ فَخُيِّرَ بَيْنَ
امْرَأَتِهِ وَالْمَهْرِ . فَإِنْ اخْتَارَ امْرَأَتَهُ كَانَتْ زَوْجَتَهُ
وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِي وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى طَلَاقِهِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا
أَنَّ أَحْمَد تَبِعَ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْمَجْهُولَ
كَالْمَعْدُومِ وَهُنَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ مَاتَ قَبْلَ الْآخَرِ
فَذَاكَ مَجْهُولٌ وَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ فَيَكُونُ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا
عَلَى الْآخَرِ مَعْدُومًا فَلَا يَرِثُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ . وَأَيْضًا
فَالْمِيرَاثُ جُعِلَ لِلْحَيِّ لِيَكُونَ خَلِيفَةً لِلْمَيِّتِ يَنْتَفِعُ
بِمَالِهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ : وَلَهُ عَمٌّ شَقِيقٌ وَلَهُ أُخْتٌ
مِنْ أَبِيهِ : فَمَا الْمِيرَاثُ
فَأَجَابَ
:
لِلْأُخْتِ النِّصْفُ ، وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ وَذَلِكَ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ مِنْ الْوَرَثَةِ
بِنْتًا وَأَخًا مِنْ أُمِّهَا وَابْنَ عَمٍّ فَمَا يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ ؟
فَأَجَابَ
:
لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِابْنِ الْعَمِّ الْبَاقِي .
وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ لَكِنْ إذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ فَيَنْبَغِي
أَنْ يَرْضَخَ لَهُ . وَالْبِنْتُ تُسْقِطُ الْأَخَ مِنْ الْأُمِّ فِي مَذْهَبِ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ : عَنْ زَوْجٍ وَأَبٍ وَأُمٍّ
وَوَلَدَيْنِ : أُنْثَى وَذَكَرٍ ثُمَّ بَعْدَ وَفَاتِهَا تُوُفِّيَ وَالِدُهَا :
وَتَرَكَ أَبَاهُ وَأُخْتَهُ وَجَدَّهُ وَجَدَّتَهُ .
فَأَجَابَ
:
لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدْسَانِ
وَهُوَ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْوَلَدَيْنِ أَثْلَاثًا ؛ ثُمَّ مَا تَرَكَهُ
الْأَبُ : فَلِجَدَّتِهِ سُدُسُهُ وَلِأَبِيهِ الْبَاقِي وَلَا شَيْءَ لِأُخْتِهِ
وَلَا جَدِّهِ ؛ بَلْ كِلَاهُمَا يَسْقُطُ بِالْأَبِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ أَوْلَادٌ وَكَسْبُ جَارِيَةٍ
وَأَوْلَدَهَا فَوَلَدَتْ ذَكَرًا فَعَتَقَهَا وَتَزَوَّجَتْ وَرُزِقَتْ
أَوْلَادًا فَتُوُفِّيَ الشَّخْصُ فَخَصَّ ابْنَهُ الَّذِي مِنْ الْجَارِيَةِ
دَارًا وَقَدْ تُوُفِّيَ . فَهَلْ يَخُصُّ إخْوَتَهُ مِنْ أُمِّهِ شَيْءٌ مَعَ
إخْوَتِهِ الَّذِينَ مِنْ أَبِيهِ ؟
فَأَجَابَ
:
لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِإِخْوَتِهِ مِنْ الْأُمِّ
الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِإِخْوَتِهِ مِنْ أَبِيهِ : لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ : وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَابْنَ
أُخْتٍ ؟
فَأَجَابَ
:
لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَأَمَّا ابْنُ الْأُخْتِ فَفِي
أَحَدِ الْأَقْوَالِ لَهُ الْبَاقِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ
وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَطَائِفَة مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَفِي
الْقَوْلِ الثَّانِي : الْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ . وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
: تَنَازُعُ الْعُلَمَاءِ فِي " ذَوِي الْأَرْحَامِ " الَّذِينَ لَا فَرْضَ لَهُمْ
وَلَا تَعْصِيبٌ . فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ :
أَنَّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ بِفَرْضِ وَلَا تَعْصِيبٍ يَكُونُ مَالُهُ لِبَيْتِ
مَالِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ يَكُونُ الْبَاقِي
لِذَوِي الْأَرْحَامِ { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ }
وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ
لَهُ يَرِثُ مَالَهُ وَيَفُكُّ عَانَهُ
} .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ زَوْجَةً وَأُخْتًا
لِأَبَوَيْهِ وَثَلَاثَ بَنَاتِ أَخٍ لِأَبَوَيْهِ : فَهَلْ لِبَنَاتِ الْأَخِ
مَعَهُنَّ شَيْءٌ ؟ وَمَا يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ؟
فَأَجَابَ
:
لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ ؛ وَلِلْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ
النِّصْفُ . وَلَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الْأَخِ : وَالرُّبُعُ الثَّانِي إنْ كَانَ
هُنَاكَ عَصَبَةٌ فَهُوَ لِلْعَصَبَةِ وَإِلَّا فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى الْأُخْتِ
عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَعَلَى الْآخَرِ هُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ بِنْتًا وَلَهُ أَوْلَادُ
أَخٍ مِنْ أَبِيهِ وَهُمْ صِغَارٌ وَلَهُ ابْنُ عَمٍّ رَاجِلٌ وَلَهُ بِنْتُ عَمٍّ
وَلَهُ أَخٌ مِنْ أُمِّهِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَعْمَامِهِ : فَمَنْ
يَأْخُذُ الْمَالَ ؟ وَمَنْ يَكُونُ وَلِيُّ الْبِنْتُ ؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا الْمِيرَاثُ فَنِصْفُهُ لِلْبِنْتِ وَنِصْفُهُ
لِأَبْنَاءِ الْأَخِ . وَأَمَّا حَضَانَةُ الْجَارِيَةِ فَهِيَ لِبِنْتِ الْعَمِّ ؛
دُونَ الْعَمِّ مِنْ الْأُمِّ ؛ وَدُونَ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِمَحْرَمِ
وَلَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمَالِ الَّذِي لِلْيَتِيمَةِ لِوَصِيِّ أَوْ
نُوَّابِهِ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ تَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَعَمَّهُ أَخَا أَبِيهِ
مِنْ أُمِّهِ : فَمَا الْحُكْمُ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ : وَتَرَكَ بِنْتَيْهِ وَأَخَاهُ
مِنْ أُمِّهِ . فَلَا شَيْءَ لِأَخِيهِ لِأُمِّهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ بَلْ
لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ إنْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ
وَإِلَّا فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى الْبِنْتَيْنِ أَوْ بَيْتِ الْمَالِ .
وَسُئِلَ
الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ
- :
عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ : وَخَلَّفَ أَخًا لَهُ ؛
وَأُخْتًا شَقِيقَيْنِ ؛ وَبِنْتَيْنِ وَزَوْجَةً وَخَلَّفَ مَوْجُودًا . وَكَانَ
الْأَخُ الْمَذْكُورُ غَائِبًا فَمَا تَكُونُ الْقِسْمَةُ ؟
فَأَجَابَ
:
لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ ؛
وَلِلْإِخْوَةِ خَمْسَةُ قَرَارِيطَ : بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ أَثْلَاثًا .
فَتَحْصُلُ لِلزَّوْجَةِ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ وَلِكُلِّ بِنْتٍ ثَمَانِيَةُ
قَرَارِيطَ ؛ وَلِلْأَخِ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ وَثُلُثٌ وَلِلْأُخْتِ قِيرَاطٌ
وَثُلُثَا قِيرَاطٍ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ لَهُ خَالَةٌ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ
مَوْجُودًا ؛ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ : فَهَلْ يَرِثُهَا ابْنُ أُخْتِهَا ؟
فَأَجَابَ
:
هَذَا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ هُوَ الْوَارِثُ
؛ وَفِي الْآخَرِ بَيْتُ الْمَالِ الشَّرْعِيِّ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ بِنْتُ عَمَّ وَابْنُ عَمٍّ
فَتُوُفِّيَتْ بِنْتُ الْعَمِّ ؛ وَتَرَكْت بِنْتًا ؛ ثُمَّ تُوُفِّيَ ابْنُ
الْعَمِّ الْمَذْكُورِ ؛ وَتَرَكَ وَلَدَيْنِ فَبَقِيَ الْوَلَدَانِ وَبِنْتُ
بِنْتِ
الْعَمِّ
الْمُتَوَفِّيَةِ ؛ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ الْبِنْتُ : وَتَرَكَتْ أَوْلَادَ عَمٍّ فَمَنْ
يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ أَوْلَادُ ابْنِ الْعَمِّ مِنْ الْأُمِّ ؛ أَمْ أَوْلَادُ
عَمِّهَا ؟
الْجَوَابُ
:
مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَقُولُ
بِالتَّنْزِيلِ - كَمَا نُقِلَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ
وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ - فَتَنْزِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ
مَنْزِلَةَ مَنْ أَدْلَى بِهِ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا ؛ وَلَا يُعْتَبَرُ
الْقُرْبُ إلَى الْوَارِثِ ثُمَّ اتَّحَدَتْ الْجِهَةُ فَإِنَّ أَوْلَادَ الْعَمِّ
لَهُمْ ثُلُثَا الْمَالِ وَأَوْلَادُ ابْنِ عَمِّ الْأُمِّ ثُلُثُ الْمَالِ
فَإِنَّ أُولَئِكَ يَنْتَهِي أَمْرُهُمْ إلَى الْأُمِّ . وَإِذَا وُجِدَ أُمٌّ
مَعَ أَبٍ ؛ أَوْ مَعَ جَدٍّ كَانَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ ؛ وَالْبَاقِي لَهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ : خَلَّفَ زَوْجَةٍ وَثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ
ذُكُورٍ مِنْهَا . ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمْ وَخَلَّفَ أُمَّهُ وَأَخَوَيْهِ . ثُمَّ
مَاتَ الْآخَرُ وَخَلَّفَ أُمَّهُ وَأَخَاهُ . ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ : وَخَلَّفَ
أُمَّهُ وَابْنًا لَهُ : فَمَا يَحْصُلُ لِلْأُمِّ مِنْ تَرِكَتِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
لِلزَّوْجَةِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ
الثُّمُنُ وَالْبَاقِي لِلْإِخْوَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوْلَادُ الْمَيِّتِ ؛ ثُمَّ
الْأَخُ الْأَوَّلُ : لِأُمِّهِ سُدُسُ تَرِكَتِهِ وَالْبَاقِي لِأَخَوَيْهِ .
وَالْأَخُ الثَّانِي : لِأُمِّهِ ثُلُثُ تَرِكَتِهِ ؛ وَالْبَاقِي لِأَخِيهِ
وَالْأَخِ الثَّالِثِ : لِأُمِّهِ سُدُسُ التَّرِكَةِ ؛ وَالْبَاقِي لِابْنِهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ - إخْوَةٍ لِأَبٍ - وَكَانَتْ أُمُّ
أَحَدِهِمَا أُمَّ وَلَدٍ ؛ تَزَوَّجَتْ بِإِنْسَانِ وَرُزِقَتْ مِنْهُ اثْنَيْنِ
وَكَانَ ابْنُ الْأُمِّ الْمَذْكُورَةِ تَزَوَّجَ وَرُزِقَ وَلَدًا وَمَاتَ وَخَلَّفَ
وَلَدَهُ فَوَرِثَ أَبَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ وَكَانَ قَدْ مَاتَ أَخُوهُ مِنْ
أَبِيهِ فِي حَيَاتِهِ وَخَلَّفَ ابْنًا فَلَمَّا مَاتَ الْوَلَدُ خَلَّفَ أَخُوهُ
اثْنَيْنِ : وَهُمْ إخْوَةُ أَبِيهِ مِنْ أُمِّهِ وَخَلَّفَ ابْنَ عَمٍّ مِنْ أَبِيهِ
: فَمَا الَّذِي يَخُصُّ إخْوَةَ أَبِيهِ ؟ وَمَا الَّذِي يَخُصُّ ابْنَ عَمِّهِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْمِيرَاثُ جَمِيعُهُ لِابْنِ
عَمِّهِ مِنْ الْأَبِ وَأَمَّا إخْوَةُ أَبِيهِ مِنْ الْأُمِّ فَلَا مِيرَاثَ
لَهُمَا وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْمَيِّتِ أَنْ
يُوصِيَ لِقَرَابَتِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَهُ فَإِذَا لَمْ يُوصِ فَيَنْبَغِي
إذَا حَضَرُوا الْقِسْمَةَ أَنْ يُعْطُوا مِنْهُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ
فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا } .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ وَبِنْتَيْنِ
؛ وَزَوْجَةً وَابْنَ أَخٍ فَتُوُفِّيَ الِابْنَانِ وَأَخَذَتْ الزَّوْجَةُ مَا
خَصَّهَا وَتَزَوَّجَتْ بِأَجْنَبِيِّ وَبَقِيَ نَصِيبُ الذَّكَرَيْنِ مَا قُسِّمَ
وَأَنَّ الزَّوْجَةَ حَبِلَتْ مِنْ الزَّوْجِ الْجَدِيدِ فَأَرَادَ بَقِيَّةُ
الْوَرَثَةِ
قِسْمَةَ
الْمَوْجُودِ فَمَنَعَ الْبَقِيَّةَ إلَى حَيْثُ تَلِدُ الزَّوْجَةُ . فَهَلْ يَكُونُ
لَهَا إذَا وَلَدَتْ مُشَارَكَةٌ فِي الْوُجُودِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ لِزَوْجَتِهِ
الثُّمُنُ وَالْبَاقِي لِبَنِيهِ وَبَنَاتِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِابْنِ الْأَخِ فَيَكُونُ لِلزَّوْجَةِ ثَلَاثَةُ
قَرَارِيطَ وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةُ قَرَارِيطَ وَلِلْبِنْتَيْنِ سَبْعَةُ
قَرَارِيطَ . ثُمَّ الِابْنُ الْأَوَّلُ لَمَّا مَاتَ خَلَّفَ أَخَاهُ
وَأُخْتَيْنِ وَأُمَّهُ وَالْأَخَ الثَّانِيَ خَلَّفَ أُخْتَيْهِ وَأُمَّهُ
وَابْنَ عَمِّهِ . وَالْحَمْلُ إنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا
وَرِثَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أُخُوَّةٌ مِنْ أُمِّهِ . وَيَنْبَغِي لِزَوْجِ الْمَرْأَةِ
أَنْ يَكُفَّ عَنْ وَطْئِهَا مِنْ حِينِ مَوْتِ هَذَا . وَهَذَا كَمَا أَمَرَ
بِذَلِكَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ
يَطَأْهَا وَوَلَدَتْهُ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَوْتِ .
وَإِذَا وَطِئَهَا وَتَأَخَّرَ الْحَمْلُ اشْتَبَهَ ؛ لَكِنْ مَنْ أَرَادَ مِنْ
الْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطَى حَقَّهُ أُعْطِيَ الثُّلُثَيْنِ وَوُقِفَ لِلْحَمْلِ
نَصِيبٌ وَهُوَ الثُّلُثُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ يَتِيمٍ لَهُ مَوْجُودٌ تَحْتَ أَمِينِ الْحُكْمِ
وَأَنَّ عَمَّهُ تَعَمَّدَ قَتْلَهُ حَسَدًا فَقَتَلَهُ وَثَبَتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ
. فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ شَرْعًا وَمَا حُكْمُ اللَّهِ فِي قَسْمِ
مِيرَاثِهِ : مَنْ وُقِفَ وَغَيْرُهُ وَلَهُ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالِدُهُ وَأَخٌ
مِنْ أُمِّهِ وَجَدٌّ لِأُمِّهِ وَأَوْلَادُ الْقَاتِلِ
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أما
الْمِيرَاثُ مِنْ الْمَالِ فَإِنَّهُ لِوَرَثَتِهِ والقاتل لَا يَرْثِ شَيْئًا
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْأَخِ مِنْ الْأُمِّ
السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِابْنِ الْعَمِّ . وَلَا شَيْءَ لِلْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ
. وأما " الْوَقْفُ "
فَيَرْجِعُ فِيهِ إلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ الْمُوَافِقِ
لِلشَّرْعِ . وَأَمَّا " دَمُ الْمَقْتُولِ " فَإِنَّهُ لِوَرَثَتِهِ : وَهُمْ
الْأُمُّ وَالْأَخُ وَابْنُ الْعَمِّ الْقَاتِلِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُمْ إنْ اخْتَلَفُوا :
فَأَرَادَتْ الْأُمُّ أَمْرًا وَابْنُ الْعَمِّ أَمْرًا فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ مَا
أَرَادَهُ ابْنُ الْعَمِّ ؛ وَهُوَ ذُو الْعَصَبِيَّةِ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ
الَّتِي اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَفِي " الثَّانِيَةِ "
وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ الَّتِي عَلَيْهَا الْعَمَلُ عِنْدَ
الْمَغَارِبَةِ : أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرُ مَنْ طَلَبَ الدَّمَ سَوَاءٌ كَانَ
هُوَ الْعَاصِبَ أَوْ ذَاتُ الْفَرْضِ . و " الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ
" كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ :
أَنَّ مَنْ عَفَا مِنْ الْوَرَثَةِ صَحَّ عَفْوُهُ ؛
وَصَارَ حَقُّ الْبَاقِينَ فِي الذِّمَّةِ . لَكِنْ ابْنُ الْعَمِّ : هَلْ
يَقْتُلُ أَبَاهُ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ أَيْضًا : " أَحَدُهُمَا " لَا
يَقْتُلُهُ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَفِي
" الثَّانِي " يَقْتُلُهُ : كَقَوْلِ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَد ؛ لَكِنْ الْقَوْدُ ثَبَتَ لِلْمَقْتُولِ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى الْوَارِثِ
؛ لَكِنْ كَرِهَ مَالِكٍ لَهُ قَتْلَهُ وَمَنْ وَجَبَ لَهُ الْقَوَدُ فَلَهُ أَنْ
يَعْفُوَ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ وَإِذَا عَفَا بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّ
لِلْقَوْدِ سَقَطَ وَكَانَ حَقُّ الْبَاقِينَ فِي الدِّيَةِ . وَلَهُ أَنْ
يَأْخُذَ الدِّيَةَ بِغَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد
فِي الْمَشْهُورِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا يَأْخُذُ الدِّيَةَ إلَّا بِرِضَا الْقَاتِلِ
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ . وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْ
قَاتِلِ الْعَمْدِ ؛ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَيُحْبَسُ سَنَةً عِنْدَ
مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ دُونَ الْبَاقِينَ .
وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ :
جَدَّتِي أُمُّهُ وَأَبِي جَدِّهِ * * * وَأَنَا عَمَّةٌ
لَهُ وَهُوَ خَالِي
أَفْتِنَا يَا إمَامُ حَمَاكَ اللَّهُ * * * وَيَكْفِيك
حَادِثَاتُ اللَّيَالِي
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
رَجُلٌ زَوَّجَ ابْنَهُ أُمَّ بِنْتِهِ * * * وَأَتَى
الْبِنْتَ بِالنِّكَاحِ الْحَلَالِ
فَأَتَتْ مِنْهُ بِبِنْتٍ قَالَتْ الشُّعَرَاءُ * * *
وَقَالَتْ لِابْنِ هَاتِيك خَالِي
رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَتَزَوَّجَ ابْنُهُ
بِأُمِّهَا وُلِدَ لَهُ بِنْتٌ وَلِابْنِهِ ابْنٌ فَبِنْتُهُ هِيَ الْمُخَاطَبَةُ
بِالشِّعْرِ . فَجَدَّتُهَا أُمُّ أُمِّهَا هِيَ أُمُّ ابْنِ الِابْنِ زَوْجَةُ
الِابْنِ وَأَبُوهَا جَدُّ ابْنِ ابْنِهِ وَهِيَ عَمَّتُهُ أُخْتُ أَبِيهِ مِنْ
الْأَبِ وَهُوَ خَالُهَا أَخُو أُمِّهَا مِنْ الْأُمِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - : عَنْ قَوْلِهِ
مَا بَالُ قَوْمٍ غَدَوْا قَدْ مَاتَ مَيِّتُهُمْ * * *
فَأَصْبَحُوا يُقَسِّمُونَ الْمَالَ والحللا
فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ غَيْرِ عِتْرَتِهِمْ * * *
أَلَا أُخْبِرُكُمْ أُعْجُوبَةً مَثَلَا
فِي الْبَطْنِ مِنِّي جَنِينٌ دَامَ يَشْكُرُكُمْ * * *
فَأَخِّرُوا الْقَسْمَ حَتَّى تَعْرِفُوا الْحَمْلَا
فَإِنْ يَكُنْ ذَكَرًا لَمْ يُعْطَ خَرْدَلَةً * * *
وَإِنْ يَكُنْ غَيْرُهُ أُنْثَى فَقَدْ فَضَلَا
بِالنِّصْفِ حَقًّا يَقِينًا لَيْسَ يُنْكِرُهُ * * *
مَنْ كَانَ يَعْرِفُ فَرْضَ اللَّهِ لَا زللا
إنِّي ذَكَرْت لَكُمْ أَمْرِي بِلَا كَذِبٍ * * * فَلَا
أَقُولُ لَكُمْ جَهْلًا وَلَا مَثَلَا
.
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : زَوْجٌ وَأُمٌّ وَاثْنَانِ مِنْ وَلَدِ
الْأُمِّ وَحَمْلٌ مِنْ الْأَبِ ؛ وَالْمَرْأَةُ الْحَامِلُ لَيْسَتْ أُمَّ
الْمَيِّتِ بَلْ هِيَ زَوْجَةُ أَبِيهَا . فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ
السُّدُسُ وَلِوَلَدِ الْأُمِّ الثُّلُثُ . فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ ذَكَرًا فَهُوَ
أَخٌ مِنْ أَبٍ فَلَا شَيْءَ لَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَإِنْ كَانَ
الْحَمْلُ أُنْثَى فَهُوَ أُخْتٌ مِنْ أَبٍ فَيُفْرَضُ لَهَا النِّصْفُ وَهُوَ
فَاضِلٌ عَنْ السِّهَامِ . فَأَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتُعَوَّلُ إلَى تِسْعَةٍ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ أُمِّ الْمَيِّتِ : فَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَهُوَ
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَعَلَى الْقَوْلِ
الْآخَرِ إنْ كَانَ الْحَمْلُ ذَكَرًا يُشَارِكُ وَلَدَ الْأُمِّ كَوَاحِدِ
مِنْهُمْ ؛ وَلَا يَسْقُطُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي
رِوَايَةٍ عَنْهُ .
وَسُئِلَ
الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ
- :
عَنْ امْرَأَةٍ مُزَوَّجَةٍ وَلِزَوْجِهَا ثَلَاثُ
شُهُورٍ وَهُوَ فِي مَرَضٍ مُزْمِنٍ فَطَلَبَ مِنْهَا شَرَابًا فَأَبْطَأَتْ
عَلَيْهِ فَنَفَرَ مِنْهَا . وَقَالَ لَهَا : أَنْت طَالِقٌ ثَلَاثَةً وَهِيَ مُقِيمَةٌ
عِنْدَهُ تَخْدِمُهُ وَبَعْدَ عِشْرِينَ يَوْمًا تُوُفِّيَ الزَّوْجُ : فَهَلْ
يَقَعُ الطَّلَاقُ ؟ وَهَلْ إذَا حَلَفَ عَلَى حُكْمِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَحْنَثُ
؟ وَهَلْ لِلْوَارِثِ أَنْ يَمْنَعَهَا الْإِرْثَ ؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ يَقَعُ إنْ كَانَ عَاقِلًا
مُخْتَارًا لَكِنْ تَرِثُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ
مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَوْلِ
الْقَدِيمِ كَمَا قَضَى بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عفان فِي امْرَأَةِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ . فَإِنَّهُ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَوَرِثَهَا مِنْهُ
عُثْمَانَ . وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ : مِنْ عِدَّةِ
الطَّلَاقِ أَوْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ عَقْلُهُ قَدْ زَالَ
فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً
قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ : فَهَلْ يَكُونُ
ذَلِكَ طَلَاقُ الْفَارِّ ؟ وَيُعَامَلُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ ؟ وَتَرِثُهُ
الزَّوْجَةُ وَتَسْتَكْمِلُ جَمِيعَ صَدَاقِهَا عَلَيْهِ ؟ أَمْ لَا تَرِثُ
وَتَأْخُذُ نِصْفَ الصَّدَاقِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى "
مَسْأَلَةِ الْمُطَلِّقِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي مَرَضِ
الْمَوْتِ " وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ
تَوْرِيثُهَا كَمَا قَضَى بِذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لِامْرَأَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تماضر بِنْتِ الأصبغ وَقَدْ كَانَ
طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ . ثُمَّ عَلَى هَذَا : هَلْ تَرِثُ بَعْدَ
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ؟ وَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ
لِلْعُلَمَاءِ : أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا تَرِثُ أَيْضًا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ
رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ وَرِثَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ؛ وَلِأَنَّ
هَذِهِ إنَّمَا وَرِثَتْ لِتَعَلُّقِ حَقِّهَا بِالتَّرِكَةِ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ
الْمَوْتِ وَصَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي حَقِّهَا وَحَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ
؛ بِحَيْثُ لَا يُمَلِّكُ التَّبَرُّعَ لِوَارِثِ وَلَا يُمَلِّكُهُ لِغَيْرِ
وَارِثٍ بِزِيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ كَمَا لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ
؛ فَلَمَّا كَانَ تَصَرُّفُهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَرَثَةِ
كَتَصَرُّفِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَمْلِكُ قَطْعَ إرْثِهَا فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ
بَعْدَ مَرَضِهِ وَهَذَا هُوَ " طَلَاقُ الْفَارِّ " الْمَشْهُورُ بِهَذَا الِاسْمِ
عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَفْتَى بِهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَكَتَبَ الصَّدَاقَ
عَلَيْهِ ثُمَّ إنَّ الزَّوْجَ مَرِضَ بَعْدَ ذَلِكَ فَحِينَ قَوِيَ عَلَيْهِ
الْمَرَضُ فَقَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامِ طَلَّقَ الزَّوْجَةَ ؛
لِيَمْنَعْهَا مِنْ الْمِيرَاثِ
: فَهَلْ يَقَعُ هَذَا الطَّلَاقُ ؟ وَمَا الَّذِي
يَجِبُ لَهَا فِي تَرِكَتِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ إنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً طَلَاقًا
رَجْعِيًّا وَمَاتَ زَوْجُهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَرِثَتْهُ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا ؛
وَرِثَتْهُ أَيْضًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَبِهِ قَضَى
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا طَلَّقَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ زَوْجَتَهُ بِنْتَ الأصبغ الْكَلْبِيَّةَ
طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَشَاوَرَ عُثْمَانَ الصَّحَابَةَ
فَأَشَارُوا عَلَى أَنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ . وَإِنَّمَا ظَهَرَ الْخِلَافُ فِي خِلَافَةِ
ابْنِ الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ قَالَ : لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أُوَرِّثْهَا وَابْنُ
الزُّبَيْرِ قَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مِنْ أَهْلِ
الِاجْتِهَادِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ
وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ
: كَالثَّوْرِيِّ ؛ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ
وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ؛ كَمَالِكِ وَأَصْحَابِهِ وَمَذْهَبُ فُقَهَاءِ
الْحَدِيثِ : كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمْثَالِهِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ
لِلشَّافِعِيِّ وَفِي الْجَدِيدِ وَافَقَ ابْنِ الزُّبَيْرِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ
وَاقِعٌ بِحَيْثُ لَوْ مَاتَتْ هِيَ لَمْ يَرِثْهَا هُوَ بِالِاتِّفَاقِ
فَكَذَلِكَ لَا تَرِثُهُ هِيَ وَلِأَنَّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ فَلَا
يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلَا الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فَتَكُونُ أَجْنَبِيَّةً
فَلَا تَرِثُ . وَالْجُمْهُورُ قَالُوا : إنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ قَدْ
تَعَلَّقَ الْوَرَثَةُ بِمَالِهِ مِنْ حِينِ الْمَرَضِ ؛ وَصَارَ مَحْجُورًا
عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مِنْ
التَّبَرُّعَاتِ إلَّا مَا يَتَصَرَّفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ فَلَيْسَ لَهُ فِي
مَرَضِ الْمَوْتِ أَنْ يَحْرِمَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ مِيرَاثَهُ وَيَخُصَّ
بَعْضَهُمْ بِالْإِرْثِ كَمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يَتَبَرَّعَ لِأَجْنَبِيٍّ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ
؛ كَمَا لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَفِي
الْحَدِيثِ : { مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنْ الْجَنَّةِ } وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ
بَعْدَ الْمَرَضِ أَنْ يَقْطَعَ حَقَّهَا مِنْ الْإِرْثِ ؛ لَا بِطَلَاقِ ؛ وَلَا
غَيْرِهِ . وَإِنْ وَقْعَ الطَّلَاقُ بِالنِّسْبَةِ لَهُ إذْ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ
نَفْسَهُ مِنْهَا وَلَا يَقْطَعَ حَقَّهَا مِنْهُ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي
وُجُوبِ الْعِدَّةِ نِزَاعٌ . هَلْ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ أَوْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ؟
أَوْ أَطْوَلَهُمَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَظْهَرُهَا أَنَّهَا تَعْتَدُّ
أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ وَكَذَلِكَ هَلْ يَكْمُلُ لَهَا الْمَهْرُ ؟ قَوْلَانِ . أَظْهَرُهُمَا
أَنَّهُ يَكْمُلُ لَهَا الْمَهْرُ أَيْضًا ؛ فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِهَا الَّتِي
تَسْتَقِرُّ كَمَا تَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا
مُسْلِمَةٌ وَالْأُخْرَى كِتَابِيَّةٌ ثُمَّ قَالَ : إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَمَاتَ
قَبْلَ الْبَيَانِ فَلِمَنْ تَكُونُ التَّرِكَةُ مِنْ بَعْدِهِ ؟ وَأَيُّهُمَا
تَعْتَدُّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ ؟
فَأَجَابَ
:
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا تَفْصِيلٌ وَنِزَاعٌ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ . فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَ مُعَيَّنَةً
وَيَنْسَاهَا أَوْ يَجْهَلَ عَيْنَهَا ؛ وَبَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَ مُبْهَمَةً
وَيَمُوتُ قَبْلَ تَمْيِيزِهَا بِتَعْيِينِهِ أَوْ تَعْرِيفِهِ . ثُمَّ مِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ : يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْجَمِيعِ . كَقَوْلِ مَالِكٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا يَقَعُ إلَّا بِوَاحِدَةِ : كَقَوْلِ الثَّلَاثَةِ
وَإِذَا قَدَّرَ تَعْيِينَهَا وَلَمْ تُعَيَّنْ : فَهَلْ تُقَسَّمُ
التَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ ؟ أَوْ يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَصْطَلِحَا كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيِّ ؟ أَوْ يُقْرَعُ بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا يَقُولُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ وَالْقُرْعَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ هِيَ قُرْعَةٌ عَلَى الْمَالِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بِهَا مَنْ لَمْ يَرَ الْقُرْعَةَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ . وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - سَوَاءٌ كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ مُبْهَمَةً أَوْ مَجْهُولَةً - أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ فَإِذَا خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ لَمْ تَرِثْ هِيَ وَلَا الذِّمِّيَّةُ شَيْئًا أَمَّا هِيَ فَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ وَأَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَإِنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَإِنْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى الذِّمِّيَّةِ وَرِثَتْ الْمُسْلِمَةُ مِيرَاثَ زَوْجَةٍ كَامِلَةٍ هَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ طَلَاقًا مُحَرَّمًا لِلْمِيرَاثِ مِثْلَ أَنْ يَبِينَهَا فِي حَالِ صِحَّتِهِ . فَأَمَّا إنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَمَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهَذِهِ زَوْجَتُهُ تَرِثُ وَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَتَنْقَضِي بِذَلِكَ عِدَّتُهَا عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهَا تَعْتَدُّ أَطْوَلَ الْأَجَلَيْنِ مِنْ مُدَّةِ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ . وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْبَائِنَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ تَرِثُ إذَا كَانَ طَلَّقَهَا طَلَاقًا فِيهِ قَصْدُ حِرْمَانِهَا الْمِيرَاثَ . هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ . وَهُوَ يَرِثُهَا وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ يَرِثُهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ . وَلِلشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَذَلِكَ ؛ لَكِنْ قَوْلُهُ الْجَدِيدُ أَنَّهَا لَا تَرِثُ .
وَأَمَّا
إذَا لَمْ يُتَّهَمْ بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا : فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا لَا
تَرِثُ فَعَلَى هَذَا لَا تَرِثُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الطَّلَاقِ
الَّذِي لَمْ يُعَيِّنْ فِيهِ لَا يَظْهَرُ فِيهِ قَصْدُ الْحِرْمَانِ وَمَنْ
وَرَّثَهَا مُطْلَقًا - كَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - فَالْحُكْمُ عِنْدَهُ كَذَلِكَ .
وَإِذَا وَرِثَتْ الْمَبْتُوتَةُ فَقِيلَ : تَعْتَدُّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ
وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ . وَقِيلَ
: تَعْتَدُّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَد وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا
صُورَةُ أَنَّهَا لَمْ تَتَبَيَّنْ الْمُطَلَّقَةُ : فَإِحْدَاهُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا
عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَالْأُخْرَى عِدَّةُ الطَّلَاقِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَجَبَتْ
عَلَيْهِ إحْدَى الْعِدَّتَيْنِ فَاشْتَبَهَ الْوَاجِبُ بِغَيْرِهِ ؛ فَلِهَذَا
كَانَ الْأَظْهَرُ هُنَا وُجُوبَ الْعِدَّتَيْنِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ
الذِّمَّةَ لَا تَبْرَأُ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ إلَّا بِذَلِكَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَخَلَّفَ مُسْتَوْلِدَةً لَهُ
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُوُفِّيَتْ الْمُسْتَوْلِدَةُ وَخَلَّفَتْ وَلَدًا ذَكَرًا
وَبِنْتَيْنِ فَهَلْ لِلْبَنَاتِ وَلَاءٌ مَعَ الذَّكَرِ ؟ وَهَلْ يَرِثْنَ مَعَهُ
شَيْئًا ؟
فَأَجَابَ
: هَذَا فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد " إحْدَاهُمَا " وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ : أَنَّ الْوَلَاءَ يَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ
. " وَالثَّانِيَةُ " أَنَّ الْوَلَاءَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْبَنِينَ
وَالْبَنَاتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ وَلَهُ وَلَدٌ : فَزَنَى
بِالْجَارِيَةِ . وَهِيَ تَزْنِي مَعَ غَيْرِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدِ وَنَسَبَتْهُ
إلَى وَلَدِهِ فَاسْتَلْحَقَهُ وَرَضِيَ السَّيِّدُ . فَهَلْ يَرِثُ إذَا مَاتَ
مُسْتَلْحِقُهُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إنْ كَانَ الْوَلَدُ اسْتَلْحَقَهُ فِي حَيَاتِهِ
وَقَالَ : هَذَا ابْنِي لَحِقَهُ النَّسَبُ وَكَانَ مِنْ أَوْلَادِهِ إذَا لَمْ
يَكُنْ لَهُ أَبٌ يَعْرِفُ غَيْرَهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ عَلِمَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ
مِلْكًا لِلِابْنِ فَإِنَّ { الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ ؛ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ لَهُ وَالِدَةٌ ؛ وَلَهَا جَارِيَةٌ
فَوَاقَعَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدَتِهِ ؛ فَحَمَلَتْ مِنْهُ ؛ فَوَلَدَتْ
غُلَامًا وَمَلَكَهُمَا وَيُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ وَلَدَهُ مِنْ الزِّنَا ؟
فَأَجَابَ
:
هَذَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يُعْتِقُ عَلَيْهِ مِنْ
غَيْرِ إعْتَاقٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ
:
"
أَحَدُهُمَا " : أَنَّهُ يُعْتِقُ عَلَيْهِ وَهُوَ
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ؛
وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَا يَرِثُ هَذَا لِهَذَا ؛ وَلَا هَذَا لِهَذَا . "
وَالثَّانِي " : لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَعْطَى لِزَوْجَتِهِ مِنْ صَدَاقِهَا
جَارِيَةً فَأَعْتَقَتْهَا ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ وَطِئَ الْجَارِيَةَ فَوَلَدَتْ
ابْنًا وَوَلَدَتْ زَوْجَتُهُ بِنْتًا وَتُوُفِّيَ : فَهَلْ يَرِثُ الِابْنُ
الَّذِي مِنْ الْجَارِيَةِ مَعَ بِنْتِ زَوْجَتِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ قَدْ وَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمُعْتَقَةَ
بِغَيْرِ نِكَاحٍ ؛ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْوَطْءَ حَرَامٌ فَوَلَدُهُ وَلَدُ
زِنًا ؛ لَا يَرِثُ هَذَا الْوَاطِئُ ؛ وَلَا يَرِثُهُ الْوَاطِئُ فِي مَذْهَبِ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الْعِتْقِ
سُئِلَ
:
عَنْ عِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا
فَأَجَابَ
:
يَجُوزُ عِتْقُ وَلَدِ الزِّنَا وَيُثَابُ بِعِتْقِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قُرَشِيٍّ : تَزَوَّجَ بِجَارِيَةٍ
مَمْلُوكَةٍ . فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا . هَلْ يَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا ؟ أَمْ
يَكُونُ عَبْدًا مَمْلُوكًا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا تَزَوَّجَ
الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَعَلِمَ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ . فَإِنَّ وَلَدَهَا مِنْهُ
مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ
أَبَاهُ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَيَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ
وَالرِّقِّ . فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مِمَّنْ يُسْتَرَقُّ جِنْسُهُ بِالِاتِّفَاقِ
: فَهُوَ رَقِيقٌ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي
رِقِّهِ : وَقَعَ النِّزَاعُ فِي رِقِّهِ كَالْعَرَبِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ
يَجُوزُ " اسْتِرْقَاقُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ " لِمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : لَا
أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ
سَمِعْتهنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهَا فِيهِمْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الرِّجَالِ . وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا . قَالَ : وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ : { ثَلَاثُ خِلَالٍ سَمِعْتهنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي تَمِيمٍ لَا أَزَالُ أُحِبُّهُمْ بَعْدَهَا كَانَ عَلَى عَائِشَةَ مُحَرَّرٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتِقِي مِنْ هَؤُلَاءِ . وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقَالَ : هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِي وَقَالَ : هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ قَتْلًا فِي الْمَلَاحِمِ . } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ قَال : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ } . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ بَنِي إسْمَاعِيلَ يُعْتَقُونَ . فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الرِّقِّ عَلَيْهِمْ كَمَا { أَمَرَ عَائِشَةَ أَنْ تَعْتِقَ عَنْ الْمُحَرَّرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ } . وَفِيهِ " مِنْ بَنِي تَمِيمٍ " لِأَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مخرمة { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعِي مَنْ تَرَوْنَ ==
48. مجموع الفتاوى تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)
== وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إلَيَّ أَصْدَقُهُ . فَاخْتَارُوا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ : إمَّا الْمَالُ وَإِمَّا السَّبْيُ وَقَدْ كُنْت اسْتَأْنَيْت بِكُمْ وَكَانَ انْتَظَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ رَادٍّ إلَيْهِمْ إلَّا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا : فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا ؛ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ ؛ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي رَأَيْت أَنْ أَرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَطِيبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ ؛ وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ فَقَالَ النَّاسُ : طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ؛ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا ؛ وَأَذِنُوا . } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ سَبَى نِسَاءَ هَوَازِنَ ؛ وَهُمْ عَرَبٌ وَقَسَّمَهُمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ . فَصَارُوا رَقِيقًا لَهُمْ ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ طَلَبَ أَخْذَهُمْ مِنْهُمْ : إمَّا تَبَرُّعًا وَإِمَّا مُعَاوَضَةً وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُمْ كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ لَمَّا اعْتَكَفَ وَبَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ السَّبْيَ فَأَعْتَقَ جَارِيَةً كَانَتْ عِنْدَهُ وَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا يَطَئُونَ ذَلِكَ السَّبْيَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَمَا فِي سَبْيِ أوطاس وَهُوَ مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ } .
وَفِي الْمُسْنَدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَتْ { قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَوَقَعَتْ جويرية بِنْتُ الْحَارِثِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَوْ لَابْنِ عَمٍّ لَهُ كَاتَبَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا وَكَانَتْ امْرَأَةً حُلْوَةً مُلَاحَةً فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَنَا جويرية بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ سَعِيدِ قَوْمِهِ ؛ وَقَدْ أَصَابَنِي مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْك وَجِئْتُك أَسَتُعِينُك عَلَى كِتَابَتِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لَك فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَتْ : وَمَا هُوَ يَا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ أَقْضِي كِتَابَتَك ؛ وَأَتَزَوَّجُك قَالَتْ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : قَدْ فَعَلْت قَالَتْ : وَخَرَجَ الْخَبَرُ إلَى النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ جويرية بِنْتَ الْحَارِثِ فَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ قَالَتْ : فَقَدْ عَتَقَ بِتَزَوُّجِهِ إيَّاهَا مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا } وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَنَحْوُهَا مَشْهُورَةٌ ؛ بَلْ مُتَوَاتِرَةٌ : أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْبِي الْعَرَبَ } وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ كَمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ وَغَيْرُهُمْ : { سَبَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَرَبَ } وَسَبَى أَبُو بَكْرٍ بَنِي نَاجِيَةَ وَكَانَ يُطَارِدُ الْعَرَبَ بِذَلِكَ الِاسْتِرْقَاقِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمَسْبِيَّاتِ أَبَاحَ اللَّهُ لَهُمْ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ .
وَإِذَا سُبِيَتْ وَاسْتُرِقَّتْ بِدُونِ زَوْجِهَا جَازَ وَطْؤُهَا بِلَا رَيْبٍ وَإِنَّمَا فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَحُكِيَ الْخِلَافُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مِلْكٍ وَلَهَا زَوْجٌ مُقِيمٌ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنَّ نِكَاحَ زَوْجِهَا قَدْ انْفَسَخَ وَحَلَّ لِمَالِكِهَا وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ وَأَمَّا إذَا سُبِيَتْ مَعَ زَوْجِهَا فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَامَّةَ السَّبْيِ الَّذِي كَانَ يَسْبِيه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي " الْحَرْبِ " وَقَدْ قَاتَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ ؛ فَإِنَّهُ خَرَجَ لِقِتَالِ النَّصَارَى عَامَ تَبُوكَ وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَقَدْ بَعَثَ إلَيْهِمْ السِّرِّيَّةَ الَّتِي أُمِّرَ عَلَيْهَا زَيْدٌ ؛ ثُمَّ جَعْفَرٌ ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ . وَمَعَ هَذَا فَكَانَ فِي النَّصَارَى : الْعَرَبُ وَالرُّومُ . وَكَذَلِكَ قَاتَلَ الْيَهُودَ بِخَيْبَرِ وَالنَّضِيرِ وَقَيْنُقَاعَ ؛ وَكَانَ فِي يَهُودِ الْعَرَبِ بَنُو إسْرَائِيلَ . وَكَذَلِكَ يَهُودُ الْيَمَنِ : كَانَ فِيهِمْ الْعَرَبُ وَبَنُو إسْرَائِيلَ . وَأَيْضًا فَسَبَبُ الِاسْتِرْقَاقِ هُوَ " الْكُفْرُ " بِشَرْطِ " الْحَرْبِ " فَالْحُرُّ الْمُسْلِمُ لَا يُسْتَرَقُّ بِحَالِ ؛ وَالْمُعَاهَدُ لَا يُسْتَرَقُّ ؛ وَالْكُفْرُ مَعَ الْمُحَارَبَةِ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ كَافِرٍ فَجَازَ اسْتِرْقَاقُهُ كَمَا يَجُوزُ قِتَالُهُ ؛ فَكُلُّ مَا أَبَاحَ قَتْلَ الْمُقَاتِلَةِ أَبَاحَ سَبْيَ الذُّرِّيَّةِ ؛ وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ مِنْ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَد . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا يُجَوِّزُ اسْتِرْقَاقَ الْعَرَبِ ؛ كَمَا لَا يُجَوِّزُ ضَرْبَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْعَرَبَ اُخْتُصُّوا بِشَرَفِ النَّسَبِ ؛ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ
وَاخْتُصَّ كُفَّارُهُمْ بِفَرْطِ عُدْوَانِهِ ؛ فَصَارَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ الْجِزْيَةِ كَمَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ ؛ لِلتَّغْلِيظِ ؛ وَلِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الشَّرَفِ بِالْإِسْلَامِ السَّابِقِ . وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ عَلَى عَرَبِيٍّ مِلْكٌ . وَاَلَّذِينَ نَازَعُوهُ لَهُمْ قَوْلَانِ فِي جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ مَنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . " إحْدَاهُمَا " أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ كَأَخْذِ الْجِزْيَةِ ؛ فَمَنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ لَا يُسْتَرَقُّ ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الخرقي ؛ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ الإصطخري مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ ؛ إلَّا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . فِعْلُ هَذَا لَا يُجَوِّزُ اسْتِرْقَاقَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ؛ لِكَوْنِ الْجِزْيَةِ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ ؛ وَيَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَجَمِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ : إنَّ الْعَرَبَ لَا يَسْتَرِقُّونَ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ وَالْمَجُوسِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ أَحَدٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؛ لَا مِنْ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ . كَاخْتِيَارِ الخرقي وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد لَا يُمْنَعُ فِيهِ الرِّقُّ ؛ لِأَجْلِ النَّسَبِ لَكِنْ لِأَجْلِ الدَّيْنِ فَإِذَا سَبَى عَرَبِيَّةً فَأَسْلَمَتْ
اسْتَرَقَّهَا وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ أَجْبَرَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ . وَعَلَى هَذَا يَحْمِلُونَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ مِنْ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ . وَأَمَّا الرَّقِيقُ الْوَثَنِيُّ فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عِنْدَهُمْ بِرِقِّ ؛ كَمَا يَجُوزُ بِجِزْيَةِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّحَابَةَ سَبَوْا الْعَرَبِيَّاتِ وَالْوَثَنِيَّاتِ وَوَطِئُوهُمْ ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ } . ثُمَّ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ إنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ وَطْءَ الْوَثَنِيَّةِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " : أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقِ مَنْ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَرَقُّوهُمْ ؛ وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْبَرُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِرْقَاقِهِمْ وَالرِّقُّ فِيهِ مِنْ الْغَلِّ مَا لَيْسَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ . أَمَّا " الْأَثَرُ " الْمَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ إذَا كَانَ صَحِيحًا صَرِيحًا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فَقَدْ خَالَفَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٍّ ؛ فَإِنَّهُمْ سَبَوْا الْعَرَبَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عُمَرَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يُسْتَرَقَّ رِجَالُهُمْ فَلَا ضُرِبَ عَلَيْهِمْ رِقٌّ كَمَا أَنَّ قُرَيْشًا أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ فَلَمْ يُضْرَبْ عَلَيْهِمْ رِقٌّ ؛ لِأَجْلِ إسْلَامِهِمْ لَا لِأَجْلِ النَّسَبِ ؛ وَلَمْ تَتَمَكَّنْ الصَّحَابَةُ مِنْ سَبْيِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ ؛ كَمَا تَمَكَّنُوا
مِنْ
سَبْيِ نِسَاءِ طَوَائِفَ مِنْ الْعَرَبِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُسْتَرَقَّ مِنْهُمْ
أَحَدٌ ؛ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
النَّهْيِ عَنْ سَبْيِهِمْ شَيْءٌ .
وَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ الْعَرَبِيُّ مَمْلُوكَةً
فَنِكَاحُ الْحُرِّ لِلْمَمْلُوكَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرْطَيْنِ : خَوْفُ
الْعَنَتِ وَعَدَمُ الطَّوْلِ إلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ تَزَوُّجَهُ يُفْضِي إلَى
اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ فَلَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ الْعَرَبِيِّ وَلَا الْعَجَمِيِّ
أَنْ يَتَزَوَّجَ مَمْلُوكَةً إلَّا لِضَرُورَةِ وَإِذَا تَزَوَّجَهَا
لِلضَّرُورَةِ كَانَ وَلَدُهُ مَمْلُوكًا . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَالْمَانِعُ
عِنْدَهُ أَنْ تَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَهُوَ يُفَرِّقُ فِي الِاسْتِرْقَاقِ
بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا إذَا وَطِئَ الْأَمَةَ بِزِنَا فَإِنَّ
وَلَدَهَا مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا بِالِاتِّفَاقِ ؛ وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ
عَرَبِيًّا ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ غَيْرُ لَاحِقٍ . وَأَمَّا إذَا وَطِئَهَا
بِنِكَاحِ وَهُوَ يَعْتَقِدُهَا حُرَّةً أَوْ اسْتَبْرَأَهَا فَوَطِئَهَا
يَظُنُّهَا مَمْلُوكَتَهُ : فَهُنَا وَلَدُهُ حُرٌّ سَوَاءٌ كَانَ عَرَبِيًّا أَوْ
عَجَمِيًّا . وَهَذَا يُسَمَّى " الْمَغْرُورُ " فَوَلَدُ الْمَغْرُورِ مِنْ
النِّكَاحِ أَوْ الْبَيْعِ حُرٌّ ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَةً
حُرَّةً أَوْ مَمْلُوكَتَهُ . وَعَلَيْهِ الْفِدَاءُ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ كَمَا
قَضَتْ بِذَلِكَ الصَّحَابَةُ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ سَيِّدَ الْأُمَّةِ مِلْكَهُمْ
فَكَانَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ . وَفِي ذَلِكَ تَفْرِيعٌ وَنِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا
مَوْضِعَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَمْلُوكٌ هَرَبَ ثُمَّ رَجَعَ
فَلَمَّا رَجَعَ أَخْفَى سِكِّينَتَهُ : وَقَتَلَ نَفْسَهُ : فَهَلْ يَأْثَمُ
سَيِّدُهُ ؟ وَهَلْ تَجُوزُ عَلَيْهِ صَلَاةٌ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ
نَفْسَهُ وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ قَدْ ظَلَمَهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ ؛ بَلْ كَانَ
عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَصْبِرَ إلَى
أَنْ يُفَرِّجَ اللَّهُ فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ ظَلَمَهُ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ :
مِثْلَ أَنْ يُقَتِّرَ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ أَوْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ فِي
الِاسْتِعْمَالِ أَوْ يَضْرِبَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ يُرِيدَ بِهِ فَاحِشَةً
وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ عَلَى سَيِّدِهِ مِنْ الْوِزْرِ بِقَدْرِ مَا نُسِبَ
إلَيْهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ { وَلَمْ يُصَلِّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : صَلُّوا عَلَيْهِ }
فَيَجُوزُ لِعُمُومِ النَّاسِ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ . وَأَمَّا أَئِمَّةُ
الدِّينِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فَإِذَا تَرَكُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ
زَجْرًا لِغَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَهَذَا حَقٌّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ مَمَالِيكَ ضَمِنُوا رَجُلًا وَكَانُوا مَمَالِيكَ
إنْسَانٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ نَجِسٌ بِبِلَادِ التتر . وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى طَاعَةِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَطْلُبُونَ الْحَجَّ وَيُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ
وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُوَ غَلَبَ عَلَيْهِ الْعِصْيَانُ يَمْنَعُهُمْ عَنْ طَاعَةِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَلَمْ تَطِبْ لَهُمْ مُخَالَفَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛
وَهُوَ قَاطِعُ طَرِيقٍ وَشَارِبُ خَمْرٍ وَزَانٍ وَتَارِكٌ لِلصَّلَاةِ وَقَاتِلٌ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَيَطْلُبُونَ مِنْهُ الْبَيْعَ ؛ فَلَمْ
يَبِعْهُمْ وَيَطْلُبُونَ الْعِتْقَ فَلَمْ يُعْتِقْهُمْ وَكُلَّمَا تَلَفَّظُوا
لَهُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ ضَرَبَهُمْ وَيَسْجُنُهُمْ فَيَمُوتُوا جُوعًا
فَاتَّفَقُوا وَهَرَبُوا إلَى مِصْرَ طَالِبِينَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
فَمِنْهُمْ الْيَوْمُ حُجَّاجٌ . فَهَلْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ نَصٌّ
لِأَجَلِ أَبْقِهِمْ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانُوا كَمَا ذَكَرُوا يَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ
الرَّجُلُ مِنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُكْرِهُهُمْ عَلَى
فِعْلِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ : كَانَ خُرُوجُهُمْ مِنْ تَحْتِ
يَدِهِ جَائِزًا ؛ بَلْ وَاجِبًا وَقَدْ أَحْسَنُوا فِيمَا فَعَلُوا فَإِنَّهُ لَا
حُرْمَةَ لِمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ ؛ إذْ لَوْ كَانَ فِي طَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ
فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِي طَاعَةِ التتر ؟ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُ . وَإِنْ
كَانَ مُسْلِمًا . وَهَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ فَرُّوا بِأَنْفُسِهِمْ
قَدْ أَحْسَنُوا فِي ذَلِكَ وَالْعَبْدُ إذَا هَاجَرَ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ
فَإِنَّهُ حُرٌّ ؛ وَلَا حُكْمَ عَلَيْهِ لِأَحَدِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ نَائِبٍ أَخَذَ مِنْ مَالِ مَخْدُومِهِ مَبْلَغًا ؛
وَاشْتَرَى بِهِ مَمَالِيكَ ؛ فَقِيلَ لَهُ : لِأَيِّ شَيْءٍ تَأْخُذُ مَالَ
أُسْتَاذِك وَتَشْتَرِي بِهِ مَمَالِيكَ ؟ وَقَالَ : أَشْتَرِيهَا لَهُ وَهِيَ
بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ ثُمَّ أُعْتِقُهَا جَمِيعَهَا . وَادَّعَى فِي الْعِتْقِ
أَنَّهَا مَمَالِيكُهُ وَهُوَ الْيَوْمُ مُعْسِرٌ عَنْ قِيمَةِ ثَمَنِهِمْ .
فَهَلْ يَصِحُّ الْعِتْقُ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا اشْتَرَى مَمَالِيكَ لِلرَّجُلِ بِإِذْنِهِ فَهُمْ
كَذَلِكَ لِلرَّجُلِ ؛ وَإِذَا أَعْتَقَهُمْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لَمْ
يَصِحَّ عِتْقُهُ . وَإِنْ اشْتَرَاهُمْ بِمَالِ الرَّجُلِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
فَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَلَهُ أَنْ يُغَرِّمَ هَذَا الْغَاصِبَ
مَالَهُ . وَإِذَا أَعْتَقَهُمْ هَذَا الْمُشْتَرِي فَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ
يَأْخُذَهُمْ وَيَكُونُ الْعِتْقُ بَاطِلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخر الْمُجَلَّدِ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ
الْجُزْءُ
الْثَّانِي وَالْثَّلَاثُونَ
كِتَابُ النِكَاحِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ
سُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَمَّنْ أَصَابَهُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ
الْمَسْمُومَةِ ؟
فَأَجَابَ
:
مَنْ أَصَابَهُ جُرْحٌ مَسْمُومٌ فَعَلَيْهِ بِمَا
يُخْرِجُ السُّمَّ وَيُبْرِئُ الْجُرْحَ بِالتِّرْيَاقِ وَالْمَرْهَمِ وَذَلِكَ
بِأُمُورِ : " مِنْهَا "
: أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْ يَتَسَرَّى ؛ فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ
إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ ؛ فَإِنَّمَا مَعَهَا مِثْلُ مَا
مَعَهَا } وَهَذَا مِمَّا يُنْقِصُ الشَّهْوَةَ وَيُضْعِفُ الْعِشْقَ . "
الثَّانِي " : أَنْ يُدَاوِمَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالدُّعَاءِ
وَالتَّضَرُّعِ وَقْتَ السَّحَرِ . وَتَكُونُ صَلَاتُهُ بِحُضُورِ قَلْبٍ
وَخُشُوعٍ . وَلْيُكْثِرْ مِنْ الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ : { يَا مُقَلِّبَ
الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ
قَلْبِي إلَى طَاعَتِك وَطَاعَةِ رَسُولِك } فَإِنَّهُ مَتَى أَدْمَنَ الدُّعَاءَ
وَالتَّضَرُّعَ لِلَّهِ صَرَفَ قَلْبُهُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُخْلَصِينَ } .
"
الثَّالِثُ " : أَنْ يَبْعُدَ عَنْ مَسْكَنِ هَذَا
الشَّخْصِ وَالِاجْتِمَاعِ بِمَنْ يَجْتَمِعُ بِهِ ؛ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ لَهُ
خَبَرًا وَلَا يَقَعُ لَهُ عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ ؛ فَإِنَّ الْبُعْدَ جَفَا
وَمَتَى قَلَّ الذِّكْرُ ضَعُفَ الْأَثَرُ فِي الْقَلْبِ . فَلْيَفْعَلْ هَذِهِ
الْأُمُورَ وَلْيُطَالِعْ بِمَا تَجَدَّدَ لَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ عَازِبٍ وَنَفْسُهُ تَتُوقُ إلَى الزَّوَاجِ
؛ غَيْرَ أَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَتَكَلَّفَ مِنْ الْمَرْأَةِ مَا لَا يَقْدِرُ
عَلَيْهِ وَقَدْ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا يَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا فِيهِ مِنَّةٌ
لِنَفْسِهِ وَهُوَ كَثِيرُ التَّطَلُّعِ إلَى الزَّوَاجِ : فَهَلْ يَأْثَمُ
بِتَرْكِ الزَّوَاجِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ
اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ
وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ . وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ؛
فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } . وَ
" اسْتِطَاعَةُ النِّكَاحِ " هُوَ الْقُدْرَةُ
عَلَى الْمُؤْنَةِ ؛ لَيْسَ هُوَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْوَطْءِ ؛ فَإِنَّ
الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِلْقَادِرِ عَلَى فِعْلِ الْوَطْءِ ؛ وَلِهَذَا
أَمَرَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَصُومَ ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ . وَمَنْ لَا
مَالَ لَهُ : هَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْتَرِضَ وَيَتَزَوَّجَ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ فِي
مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ } . وَأَمَّا
" الرَّجُلُ الصَّالِحُ " فَهُوَ الْقَائِمُ
بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ عَلَى خِطْبَتِهِ رَجُلٌ آخَرُ :
فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ
لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ : وَلَا يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ
أَخِيهِ } وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْمَنْصُوصِ
عَنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا
تَنَازَعُوا فِي صِحَّةِ نِكَاحِ الثَّانِي ؟ فِي قَوْلَيْنِ . " أَحَدُهُمَا
" : أَنَّهُ بَاطِلٌ ؛ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ . " وَالْآخَرُ "
: أَنَّهُ صَحِيحٌ ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ
الْمُحَرَّمَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْعَقْدِ وَهُوَ الْخِطْبَةُ . وَمَنْ
أَبْطَلَهُ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ تَحْرِيمٌ لِلْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَلَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛
وَإِنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ . وَالْإِصْرَارُ عَلَى
الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا يَقْدَحُ فِي دِينِ الرَّجُلِ وَعَدَالَتِهِ
وَوِلَايَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
.
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ فَارَقَتْ زَوْجَهَا وَخَطَبَهَا رَجُلٌ
فِي عِدَّتِهَا وَهُوَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا : فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ
بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ ؛ وَلَوْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ . فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَمَنْ فَعَلَ
ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ ذَلِكَ
فَيُعَاقَبُ الْخَاطِبُ وَالْمَخْطُوبَةُ جَمِيعًا وَيُزْجَرُ عَنْ التَّزْوِيجِ
بِهَا ؛ مُعَاقَبَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَأَوْفَتْ
الْعِدَّةَ عِنْدَهُ وَخَرَجَتْ وَبَعْدَ وَفَاءِ الْعِدَّةِ تَزَوَّجَتْ
وَطَلُقَتْ فِي يَوْمِهَا وَلَمْ يَعْلَمْ مُطَلِّقُهَا إلَّا ثَانِيَ يَوْمٍ :
فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّفِقَ مَعَهَا إذَا أَوْفَتْ عِدَّتَهَا أَنْ
يُرَاجِعَهَا ؟
فَأَجَابَ
:
لَيْسَ لَهُ فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ
يَخْطُبَهَا وَلَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا لِيَتَزَوَّجَهَا وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ
رَجْعِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّعْرِيضُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ بَائِنًا فَفِي
جَوَازِ التَّعْرِيضِ نِزَاعٌ .
هَذَا إذَا كَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ
. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِنِكَاحِ مُحَلِّلٍ فَقَدْ { لَعَنَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ
لَهُ } .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ ابْنَةَ رَجُلٍ مِنْ الْعُدُولِ
وَاتَّفَقَ مَعَهُ عَلَى الْمَهْرِ : مِنْهُ عَاجِلٌ وَمِنْهُ آجِلٌ . وَأَوْصَلَ
إلَى وَالِدِهَا الْمُعَجَّلَ مِنْ مُدَّةِ أَرْبَعِ سِنِينَ ؛ وَهُوَ
يُوَاصِلُهُمْ بِالنَّفَقَةِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ مُكَاتَبَةٌ . ثُمَّ
بَعْدَ هَذَا جَاءَ رَجُلٌ فَخَطَبَهَا ؛ وَزَادَ عَلَيْهِ فِي الْمَهْرِ وَمَنَعَ
الزَّوْجَ الْأَوَّلَ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ
أَخِيهِ إذَا أُجِيبَ إلَى النِّكَاحِ وَرَكَنُوا إلَيْهِ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ ؛ كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ }
. وَتَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَأَعَانَ عَلَيْهِ : عُقُوبَةٌ
تَمْنَعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ ذَلِكَ . وَهَلْ يَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِي
صَحِيحًا ؛ أَوْ فَاسِدًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ : فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ
وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يَدْخُلُ عَلَى امْرَأَةِ أَخِيهِ ؛
وَبَنَاتِ عَمِّهِ ؛ وَبَنَاتِ خَالِهِ : هَلْ يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِإِحْدَاهُنَّ ؛
وَلَكِنْ إذَا دَخَلَ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ خَلْوَةٍ وَلَا رِيبَةٍ جَازَ
لَهُ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ أُمْلِكَ عَلَى بِنْتٍ ؛ وَلَهُ مُدَّةُ
سِنِينَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَدَفَعَ لَهَا وَعَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ : فَوَجَدَ
وَالِدَهَا قَدْ زَوَّجَهَا غَيْرَهُ ؟
فَأَجَابَ
:
قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ
يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ ؛ وَلَا يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ ؛ وَلَا
يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ } . فَالرَّجُلُ إذَا خَطَبَ امْرَأَةً ؛ وَرَكَنَ
إلَيْهِ مَنْ إلَيْهِ نِكَاحُهَا - كَالْأَبِ الْمُجْبِرِ - فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ
لِغَيْرِهِ أَنْ يَخْطُبَهَا . فَكَيْفَ إذَا كَانُوا قَدْ رَكَنُوا إلَيْهِ
وَأَشْهَدُوا بِالْإِمْلَاكِ الْمُتَقَدِّمِ لِلْعَقْدِ وَقَبَضُوا مِنْهُ
الْهَدَايَا وَطَالَتْ الْمُدَّةُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ فَعَلُوا مُحَرَّمًا
يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ ؛ وَلَكِنَّ الْعَقْدَ
الثَّانِيَ هَلْ يَقَعُ صَحِيحًا أَوْ بَاطِلًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ
" أَحَدُهُمَا " - وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد -
أَنَّ عَقْدَ الثَّانِي بَاطِلٌ ؛ فَتُنْزَعُ مِنْهُ وَتُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ . " وَالثَّانِي
" أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ
؛ فَيُعَاقَبُ مَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ وَيُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ جَمِيعُ مَا
أُخِذَ مِنْهُ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَلَهُمَا
وَلَدَانِ وَهِيَ مُقِيمَةٌ عِنْدَ الزَّوْجِ فِي بَيْتِهِ مُدَّةَ سِنِينَ
وَيُبْصِرُهَا وَتُبْصِرُهُ : فَهَلْ يَحِلُّ لَهَا الْأَكْلُ الَّذِي تَأْكُلُ مِنْ
عِنْدِهِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ لَهُ عَلَيْهَا حُكْمٌ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا هِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ
الرَّجُلِ ؛ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ ؛ فَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ
يَخْلُوَ بِهَا ؛ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ . وَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا إلَى مَا لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ
؛ وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا حُكْمٌ أَصْلًا . وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَاطِئَهَا
عَلَى أَنْ تُزَوَّجَ غَيْرَهُ ثُمَّ تُطَلِّقُهُ وَتَرْجِعُ إلَيْهِ وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مَا تُنْفِقُهُ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهَا لَوْ
تَزَوَّجَتْ رَجُلًا غَيْرَهُ بِالنِّكَاحِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي جَرَتْ بِهِ
عَادَةُ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ مَاتَ زَوْجُهَا أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ
يَجُزْ لِهَذَا الْأَوَّلِ أَنْ يَخْطُبَهَا فِي الْعِدَّةِ صَرِيحًا بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا
} وَنَهَاهُ أَنْ يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ
أَجَلَهُ . أَيْ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ . فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَاهُ عَنْ
هَذِهِ الْمُوَاعَدَةِ وَالْعَزْمِ فِي الْعِدَّةِ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ فِي
عِصْمَةِ زَوْجِهَا فَكَيْفَ إذَا كَانَ الرَّجُلُ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا بَعْدَ :
تَوَاعُدٍ
عَلَى
أَنْ تَتَزَوَّجَهُ ثُمَّ تُطَلِّقُهُ وَتَزَوَّجَ بِهَا الْمُوَاعِدُ . فَهَذَا
حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ يَصِحُّ نِكَاحُ
الْمُحَلِّلِ أَوْ قِيلَ : لَا . فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ التَّصْرِيحَ بِخِطْبَةِ
مُعْتَدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مُتَزَوِّجَةٍ بِغَيْرِهِ أَوْ بِخِطْبَةِ
مُطَلَّقَةٍ ثَلَاثًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ . وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ
الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ يَتَكَلَّمُ شِبْهَ كَلَامِ النِّسَاءِ ؛
وَهُوَ " طنجير " هَلْ يَحِلُّ دُخُولُهُ عَلَى النِّسَاءِ ؟ وَمَا الْحُكْمُ
فِيهِ ؟
فَأَجَابَ
.
بَلْ مِثْلُ هَذَا يَجِبُ نَفْيُهُ ؛ وَإِخْرَاجُهُ :
فَلَا يَسْكُنُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَلَا بَيْنَ النِّسَاءِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى الْمُخَنَّثَ وَأَمَرَ بِنَفْيِ الْمُخَنَّثِينَ
وَقَالَ : { أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ } وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ طنجيرا ؛
فَكَيْفَ الطنجير وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد
وَغَيْرُهُمَا .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ
:
فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ
وَبَيْنَ الْعِبَادِ : الْخِلْقِيَّةُ والكسبية . الشَّرْعِيَّةُ ؛ وَالشَّرْطِيَّةُ
. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
وَالْأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } افْتَتَحَ السُّورَةَ
بِذِكْرِ خَلْقِ الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ؛ وَأَنَّ
زَوْجَهَا مَخْلُوقٌ مِنْهَا وَأَنَّهُ بَثَّ مِنْهُمَا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ :
أَكْمَلُ الْأَسْبَابِ وَأَجَلُّهَا ثُمَّ
ذَكَرَ مَا بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَخْلُوقَةِ الشَّرْعِيَّةِ : كَالْوِلَادَةِ وَمِنْ الكسبية الشَّرْطِيَّةِ : كَالنِّكَاحِ ثُمَّ قَالَ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ السَّلَفِ : { تَسَاءَلُونَ بِهِ } تَتَعَاهَدُونَ بِهِ وَتَتَعَاقَدُونَ . وَهُوَ كَمَا قَالُوا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَقْدَ الْبَيْعِ أَوْ النِّكَاحِ أَوْ الْهُدْنَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَسْأَلُ الْآخَرَ مَطْلُوبَهُ : هَذَا يَطْلُبُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ . وَهَذَا تَسْلِيمَ الثَّمَنِ : وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ مَطْلُوبَ الْآخَرِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا طَالِبٌ مِنْ الْآخَرِ مُوجِبٌ لِمَطْلُوبِ الْآخَرِ . ثُمَّ قَالَ : { وَالْأَرْحَامَ } . و " الْعُهُودُ " و " الْأَرْحَامُ " : هُمَا جِمَاعُ الْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَ بَنِي آدَمَ ؛ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ الَّتِي بَيْنَهُمْ : إمَّا أَنْ تَكُونَ بِفِعْلِ اللَّهِ أَوْ بِفِعْلِهِمْ . فَالْأَوَّلُ " الْأَرْحَامُ " و الثَّانِي " الْعُهُودُ " وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ ؛ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً } فَالْإِلُّ : الْقَرَابَةُ وَالرَّحِمُ . وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ . وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وَقَالَ : { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } . وَاعْلَمْ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ دَاخِلٌ فِي الْحَقَّيْنِ . وَمُقَدَّمٌ عَلَيْهِمَا ؛ وَلِهَذَا قَدَّمَهُ فِي قَوْلِهِ { اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَبْدَ وَخَلَقَ أَبَوَيْهِ وَخَلَقَهُ مِنْ أَبَوَيْهِ . فَالسَّبَبُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ هُوَ الْخِلْقِيُّ التَّامُّ ؛ بِخِلَافِ سَبَبِ الْأَبَوَيْنِ ؛ فَإِنَّ أَصْلَ مَادَّتِهِ مِنْهُمَا وَلَهُ مَادَّةٌ مِنْ غَيْرِهِمَا ؛ ثُمَّ إنَّهُمَا لَمْ يُصَوِّرَاهُ فِي الْأَرْحَامِ . وَالْعَبْدُ لَيْسَ لَهُ مَادَّةٌ إلَّا
مِنْ أَبَوَيْهِ وَاَللَّهُ هُوَ خَالِقُهُ وَبَارِئُهُ وَمُصَوِّرُهُ وَرَازِقُهُ وَنَاصِرُهُ وَهَادِيهِ ؛ وَإِنَّمَا حَقُّ الْأَبَوَيْنِ فِيهِ بَعْضُ الْمُنَاسَبَةِ لِذَلِكَ ؛ فَلِذَلِكَ قَرَنَ حَقَّ الْأَبَوَيْنِ بِحَقِّهِ فِي قَوْلِهِ : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } وَفِي قَوْلِهِ : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّبَرُّؤَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ كُفْرًا ؛ لِمُنَاسَبَتِهِ لِلتَّبَرُّؤِ مِنْ الرَّبِّ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إلَّا كَفَرَ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَوْلِهِ : { كَفَرَ بِاَللَّهِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ } وَقَوْلِهِ : { لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ } . فَحَقُّ النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ وَالرَّحِمِ تَقَدَّمَهُ حَقُّ الرُّبُوبِيَّةِ وَحَقُّ الْقَرِيبِ الْمُجِيبِ الرَّحْمَنِ ؛ فَإِنَّ غَايَةَ تِلْكَ أَنْ تَتَّصِلَ بِهَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ ؛ { أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْت الرَّحِمَ وَشَقَقْت لَهَا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ } وَقَالَ : { الرَّحِمُ شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ } وَقَالَ { لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الرَّحِمَ تَعَلَّقَتْ بِحِقْوِ الرَّحْمَنِ فَقَالَتْ : هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِك مِنْ الْقَطِيعَةِ } . وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا } إنَّ " الْإِلَّ " الرَّبُّ كَقَوْلِ الصِّدِّيقِ لَمَّا سَمِعَ قُرْآنَ مُسَيْلِمَةَ : إنَّ هَذَا كَلَامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إلٍّ . وَأَمَّا دُخُولُ حَقِّ الرَّبِّ فِي الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ . فَكَدُخُولِ الْعَبْدِ فِي السَّلَامِ وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا عَهْدُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَشْرَفُ الْعُهُودِ وَأَوْكَدُهَا وَأَعَمُّهَا وَأَكْمَلُهَا
بَابُ
أَرْكَانِ النِّكَاحِ وَشُرُوطِهِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ
:
عُمْدَةُ مَنْ قَالَ : لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ إلَّا
بِلَفْظِ " الْإِنْكَاحِ "
و " التَّزْوِيجِ " - وَهُمْ أَصْحَابُ
الشَّافِعِيِّ وَابْنُ حَامِدٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا كَأَبِي
الْخَطَّابِ وَالْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ بَعْدَهُ - إلَّا فِي لَفْظِ "
أَعْتَقْتُك وَجُعِلَ عِتْقُك صَدَاقَك " أَنَّهُمْ قَالُوا : مَا سِوَى
هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ " كِنَايَةٌ " وَالْكِنَايَةُ لَا تَقْتَضِي الْحُكْمَ
إلَّا بِالنِّيَّةِ وَالنِّيَّةُ فِي الْقَلْبِ لَا تُعْلَمُ فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ
النِّكَاحِ بِالْكِنَايَةِ لِأَنَّ صِحَّتَهُ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ
وَالنِّيَّةُ لَا يُشْهَدُ عَلَيْهَا ؛ بِخِلَافِ مَا يَصِحُّ بِالْكِنَايَةِ :
مِنْ طَلَاقٍ وَعِتْقٍ وَبَيْعٍ ؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُشْتَرَطُ فِي
صِحَّةِ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ ذَلِكَ تَعَبُّدًا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ
ثُبُوتِ الْعِبَادَاتِ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَا يُصَحِّحُهُ إلَّا
بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهِ . " أَحَدُهَا
" لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا سِوَى هَذَيْنِ كِنَايَةٌ ؛ بَلْ ثَمَّ أَلْفَاظٌ
هِيَ حَقَائِقُ عُرْفِيَّةٌ فِي الْعَقْدِ أَبْلَغُ مِنْ لَفْظِ " أَنْكَحْت
" فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَطْءِ وَالْعَقْدِ وَلَفْظَ
" الْإِمْلَاكِ " خَاصٌّ بِالْعَقْدِ لَا يُفْهَمُ إذَا قَالَ
الْقَائِلُ : أُمْلِكُ فُلَانٌ عَلَى فُلَانَةٍ . إلَّا الْعَقْدُ كَمَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ : { أَمْلَكْتُكهَا عَلَى مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } سَوَاءٌ كَانَتْ
الرِّوَايَةُ بِاللَّفْظِ أَوْ بِالْمَعْنَى .
" الثَّانِي " أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكِنَايَةَ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ مُطْلَقًا ؛ بَلْ إذَا قُرِنَ بِهَا لَفْظٌ مِنْ أَلْفَاظِ الصَّرِيحِ أَوْ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ كَانَتْ صَرِيحَةً كَمَا قَالُوا فِي " الْوَقْفِ " إنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ : كتصدقت وَحَرَّمْت وَأَبَّدْت . إذَا قُرِنَ بِهَا لَفْظٌ أَوْ حُكْمٌ . فَإِذَا قَالَ : أَمْلَكْتُكهَا فَقَالَ : قَبِلْت هَذَا التَّزْوِيجَ . أَوْ أَعْطَيْتُكهَا زَوْجَةً فَقَالَ : قَبِلْت . أَوْ أَمْلَكْتُكهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفِ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانِ وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَقَدْ قَرَنَ بِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَحْكَامِ مَا يَجْعَلُهُ صَرِيحًا . " الثَّالِثُ " أَنَّ إضَافَةَ ذَلِكَ إلَى الْحُرَّةِ يُبَيِّنُ الْمَعْنَى ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ فِي ابْنَتِهِ : مَلَّكْتُكهَا أَوْ أَعْطَيْتُكهَا أَوْ زَوَّجْتُكهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَالْمَحَلُّ يَنْفِي الْإِجْمَالَ وَالِاشْتِرَاكَ . " الرَّابِعُ " أَنَّ هَذَا مَنْقُوضٌ عَلَيْهِمْ بِالشَّهَادَةِ فِي الرَّجْعَةِ ؛ فَإِنَّهَا مَشْرُوعَةٌ إمَّا وَاجِبَةً وَإِمَّا مُسْتَحَبَّةً . وَهِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الرَّجْعَةِ عَلَى قَوْلٍ وَبِالشَّهَادَةِ عَلَى الْبَيْعِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْدُ بِصَرِيحِ أَوْ كِنَايَةٍ مُفَسِّرَةٍ . " الْخَامِسُ " : أَنَّ الشَّهَادَةَ تَصِحُّ عَلَى الْعَقْدِ . وَيَثْبُتُ بِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى أَيِّ صُورَةٍ انْعَقَدَتْ . فَعُلِمَ أَنَّ اعْتِبَارَ الشَّهَادَةِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ . " السَّادِسُ " أَنَّ الْعَاقِدَيْنِ يُمْكِنُهُمَا تَفْسِيرُ مُرَادِهِمَا وَيَشْهَدُ الشُّهُودُ عَلَى مَا فَسَّرُوهُ .
"
السَّابِعُ " أَنَّ الْكِنَايَةَ عِنْدَنَا إذَا
اقْتَرَنَ بِهَا دَلَالَةُ الْحَالِ كَانَتْ صَرِيحَةً فِي الظَّاهِرِ بِلَا
نِزَاعٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اجْتِمَاعَ النَّاسِ وَتَقْدِيمَ الْخُطْبَةِ
وَذِكْرَ الْمَهْرِ وَالْمُفَاوَضَةَ فِيهِ وَالتَّحَدُّثَ بِأَمْرِ النِّكَاحِ :
قَاطِعٌ فِي إرَادَةِ النِّكَاحِ ؛ وَأَمَّا التَّعَبُّدُ فَيَحْتَاجُ إلَى
دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ . ثُمَّ الْعَقْدُ جِنْسٌ لَا يُشْرَعُ فِيهِ التَّعَبُّدُ
بِالْأَلْفَاظِ ؛ لِأَنَّهَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِيمَانُ ؛ بَلْ تَصِحُّ
مِنْ الْكَافِرِ وَمَا يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ لَا تَعَبُّدَ فِيهِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ وَكَّلَ ذِمِّيًّا فِي قَبُولِ نِكَاحِ
امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ : هَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ ؛ فَإِنَّ الْوَكِيلَ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَا
بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُهُ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ فِي
الْجُمْلَةِ . فَلَوْ وَكَّلَ امْرَأَةً أَوْ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا غَيْرَ
مُمَيِّزٍ لَمْ يَجُزْ ؛ وَلَكِنْ إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ
قَبُولُ النِّكَاحِ بِإِذْنِ وَلَيِّهِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْقَبُولُ بِدُونِ
إذْنِ وَلِيِّهِ : فَوُكِّلَ فِي ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُوَكِّلَ عَبْدًا فِي
قَبُولِ النِّكَاحِ بِلَا إذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ يُوَكِّلَ سَفِيهًا مَحْجُورًا
عَلَيْهِ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ أَوْ يُوَكِّلَ صَبِيًّا مُمَيِّزًا بِدُونِ
إذْنِ وَلِيِّهِ : فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ إذْنٍ ؛
لَكِنْ فِي الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا يَجُوزُ لِمَانِعِ فِيهِ : مِثْلَ أَنْ
يُوَكِّلَ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُهَا صَحَّتْ
الْوَكَالَةُ .
وَأَمَّا " تَوَكُّلُ الذِّمِّيِّ " فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَهُ فَهُوَ يُشْبِهُ تَزْوِيجَ الذِّمِّيِّ ابْنَتَهُ الذِّمِّيَّةَ مِنْ مُسْلِمٍ وَلَوْ زَوَّجَهَا مِنْ ذِمِّيٍّ جَازَ ؛ وَلَكِنْ إذَا زَوَّجَهَا مِنْ مُسْلِمٍ : فَفِيهَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يَجُوزُ . وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ ؛ بَلْ يُوَكِّلُ مُسْلِمًا . وَقِيلَ : لَا يُزَوِّجُهَا إلَّا الْحَاكِمُ بِإِذْنِهِ . وَكَوْنُهُ وَلِيًّا فِي تَزْوِيجِ الْمُسْلِمِ مِثْلَ كَوْنِهِ وَكِيلًا فِي تَزْوِيجِ الْمَسْأَلَةِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَائِزٌ قَالَ : إنَّ الْمِلْكَ فِي النِّكَاحِ يَحْصُلُ لِلزَّوْجِ ؛ لَا لِلْوَكِيلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ بِخِلَافِ الْمِلْكِ فِي غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ . تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ وَالْمِلْكُ يَحْصُلُ لَهُ : فَلَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ لَمْ يَجُزْ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَحْصُلُ لِلزَّوْجِ وَهُوَ الْمُوَكِّلُ لِلْمُسْلِمِ : فَتَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ بِمَنْزِلَةِ تَوَكُّلِهِ فِي تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ بَعْضَ مَحَارِمِهَا كَخَالِهَا ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَوَكُّلُهُ فِي قَبُولِ نِكَاحِهَا لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُهَا كَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا تَوَكَّلَ فِي نِكَاحِ مُسْلِمٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُ الْمُسْلِمَةِ ؛ لَكِنَّ الْأَحْوَطَ أَلَّا يَفْعَلَ ذَلِكَ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ النِّزَاعِ ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهِ شَوْبُ الْعِبَادَاتِ . وَيُسْتَحَبُّ " عَقْدُهُ فِي الْمَسَاجِدِ " وَقَدْ جَاءَ فِي الْآثَارِ : " مَنْ شَهِدَ إمْلَاكَ مُسْلِمٍ فَكَأَنَّمَا شَهِدَ فَتْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ " . وَلِهَذَا وَجَبَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَنْ يُعْقَدَ بِالْعَرَبِيَّةِ كَالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْبَغِ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ مُتَوَلِّيًا نِكَاحَ مُسْلِمٍ ؛ وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى بُطْلَانِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ ؛ وَالْكَافِرُ يَصِحُّ مِنْهُ النِّكَاحُ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَرِيضٍ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ : فَهَلْ يَصِحُّ
الْعَقْدُ ؟
فَأَجَابَ
:
نِكَاحُ الْمَرِيضِ صَحِيحٌ تَرِثُ الْمَرْأَةُ فِي
قَوْلِ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ
وَلَا تَسْتَحِقُّ إلَّا مَهْرَ الْمِثْلِ ؛ لَا تَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ عَلَى
ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ بِنْتٌ وَهِيَ دُونَ الْبُلُوغِ
فَزَوَّجُوهَا فِي غَيْبَةِ أَبِيهَا . وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ ؛ وَجَعَلُوا
أَنَّ أَبَاهَا تُوُفِّيَ وَهُوَ حَيٌّ وَشَهِدُوا أَنَّ خَالَهَا أَخُوهَا فَهَلْ
يَصِحُّ الْعَقْدُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا شَهِدُوا أَنَّ خَالَهَا أَخُوهَا فَهَذِهِ
شَهَادَةُ زُورٍ وَلَا يَصِيرُ الْخَالُ وَلِيًّا بِذَلِكَ ؛ بَلْ هَذِهِ قَدْ
تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَيَكُونُ نِكَاحُهَا بَاطِلًا عِنْدَ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا .
وَلِلْأَبِ أَنْ يُجَدِّدَهُ . وَمَنْ شَهِدَ أَنَّ خَالَهَا أَخُوهَا وَأَنَّ
أَبَاهَا مَاتَ فَهُوَ شَاهِدُ زُورٍ يَجِبُ تَعْزِيرُهُ وَيُعَزَّرُ الْخَالُ .
وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ وَيَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْأَبُ
فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ امْرَأَةٍ لَهَا أَبٌ وَأَخٌ وَوَكِيلُ أَبِيهَا
فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ حَاضِرٌ فَذَهَبَتْ إلَى الشُّهُودِ وَغَيَّرَتْ
اسْمَهَا وَاسْمَ أَبِيهَا وَادَّعَتْ أَنَّ لَهَا مُطَلِّقًا يُرِيدُ تَجْدِيدَ
النِّكَاحَ وَأَحْضَرَتْ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا وَذَكَرَتْ أَنَّهُ أَخُوهَا
فَكَتَبَتْ الشُّهُودُ كِتَابَهَا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ ظَهَرَ مَا فَعَلَتْهُ
وَثَبَتَ ذَلِكَ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ
: فَهَلْ تُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَجِبُ
تَعْزِيرُ الْمُعَرِّفِينَ وَاَلَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ أَخُوهَا وَاَلَّذِي
عَرَّفَ الشُّهُودَ بِمَا ذُكِرَ ؟ وَهَلْ يَخْتَصُّ التَّعْزِيرُ بِالْحَاكِمِ ؟
أَوْ يُعَزِّرُهُمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنْ مُحْتَسِبٍ وَغَيْرِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، تُعَزَّرُ تَعْزِيرًا بَلِيغًا ؛
وَلَوْ عَزَّرَهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ مَرَّاتٍ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا كَمَا كَانَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُكَرِّرُ التَّعْزِيرَ فِي الْفِعْلِ إذَا اشْتَمَلَ
عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَكَانَ يُعَزِّرُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ
مِائَةً وَفِي الثَّانِي مِائَةً وَفِي الثَّالِثِ مِائَةً : يُفَرِّقُ
التَّعْزِيرَ ؛ لِئَلَّا يُفْضِي إلَى فَسَادِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ . وَذَلِكَ
أَنَّ هَذِهِ قَدْ ادَّعَتْ إلَى غَيْرِ أَبِيهَا وَاسْتَخْلَفَتْ أَخَاهَا
وَهَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ
أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ؛ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا }
بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعْدٍ وَأَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُمَا سَمِعَا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ ادَّعَى إلَى
غَيْرِ أَبِيهِ
فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ } وَثَبَتَ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَقُولُ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ إلَّا كَفَرَ وَمَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَمَنْ رَمَى رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَّا حَارَ عَلَيْهِ } وَهَذَا تَغْلِيظٌ عَظِيمٌ يَقْتَضِي أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً عَظِيمَةً يَسْتَحِقُّ فِيهَا مِائَةَ سَوْطٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنَّهَا لَبَّسَتْ عَلَى الشُّهُودِ وَأَوْقَعَتْهُمْ فِي الْعُقُودِ الْبَاطِلَةِ ؛ وَنَكَحَتْ نِكَاحًا بَاطِلًا ؛ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ بَاطِلٌ يُعَزِّرُونَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ اقْتِدَاءً بِعُمْرِ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ ؛ بَلْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يُقِيمُونَ الْحَدَّ فِي ذَلِكَ بِالرَّجْمِ وَغَيْرِهِ . وَمَنْ جَوَّزَ النِّكَاحَ بِلَا وَلِيٍّ مُطْلَقًا ؛ أَوْ فِي الْمَدِينَةِ : فَلَمْ يُجَوِّزْ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ دَعْوَى النَّسَبِ الْكَاذِبِ وَإِقَامَةِ الْوَلِيِّ الْبَاطِلِ فَكَانَ عُقُوبَةُ هَذِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَتُعَاقَبُ أَيْضًا عَلَى كَذِبِهَا وَكَذَلِكَ الدَّعْوَى أَنَّهُ كَانَ زَوْجَهَا وَطَلَّقَهَا ؛ وَيُعَاقَبُ الزَّوْجُ أَيْضًا . وَكَذَلِكَ الَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ أَخُوهَا . يُعَاقَبُ عَلَى هَذَيْنِ الرِّيبَتَيْنِ . وَأَمَّا الْمُعَرِّفُونَ بِهِمْ فَيُعَاقَبُونَ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ : بِالنَّسَبِ لَهَا وَالتَّزْوِيجِ وَالتَّطْلِيقِ وَعَدَمِ وَلِيٍّ حَاضِرٍ . وَيَنْبَغِي أَنْ يُبَالَغَ فِي عُقُوبَةِ هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ يُسَوَّدُ وَجْهُهُ ؛ بِمَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّدُ وَجْهَهُ . إشَارَةً إلَى سَوَادِ
وَجْهِهِ بِالْكَذِبِ . وَأَنَّهُ كَانَ يُرْكِبُهُ دَابَّةً مَقْلُوبًا إلَى
خَلْفُ . إشَارَةً إلَى أَنَّهُ قَلَبَ الْحَدِيثَ وَيُطَافُ بِهِ يُشَهِّرُهُ
بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ . وَتَعْزِيرُ هَؤُلَاءِ لَيْسَ
يَخْتَصُّ بِالْحَاكِمِ ؛ بَلْ يُعَزِّرُهُ الْحَاكِمُ وَالْمُحْتَسِبُ
وَغَيْرُهُمَا مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ الْقَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ وَيَتَعَيَّنُ
ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا فَسَادُ كَثِيرٍ فِي
النِّسَاءِ ؛ وَشَهَادَةُ الزُّورِ كَثِيرَةٌ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ
يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعُقَابِ مِنْهُ } وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ إجْبَارِ الْأَبِ لِابْنَتِهِ الْبِكْرِ الْبَالِغِ
عَلَى النِّكَاحِ : هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
وَأَمَّا إجْبَارُ الْأَبِ لِابْنَتِهِ الْبِكْرِ
الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ
: فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ؛ هُمَا رِوَايَتَانِ
عَنْ أَحْمَد . " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ يُجْبِرُ الْبِكْرَ الْبَالِغَ
كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ الخرقي
وَالْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ . و "
الثَّانِي " لَا يُجْبِرُهَا كَمَذْهَبِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنِ
جَعْفَرٍ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ . وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي
" مَنَاطِ الْإِجْبَارِ " هَلْ
هُوَ الْبَكَارَةُ ؟ أَوْ الصِّغَرُ ؟ أَوْ مَجْمُوعُهَا ؟ أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا ؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَنَاطَ الْإِجْبَارِ هُوَ الصِّغَرُ وَأَنَّ الْبِكْرَ الْبَالِغَ لَا يُجْبِرُهَا أَحَدٌ عَلَى النِّكَاحِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ وَلَا الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ فَقِيلَ لَهُ : إنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي ؟ فَقَالَ : إذْنُهَا صُمَاتُهَا } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ { الْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا } فَهَذَا نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُنْكَحُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَبُ وَغَيْرُهُ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةِ ؛ وَأَنَّ الْأَبَ نَفْسَهُ يَسْتَأْذِنُهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَبَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهَا إذَا كَانَتْ رَشِيدَةً إلَّا بِإِذْنِهَا وَبُضْعُهَا أَعْظَمُ مِنْ مَالِهَا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي بُضْعِهَا مَعَ كَرَاهَتِهَا وَرُشْدِهَا وَأَيْضًا : فَإِنَّ الصِّغَرَ سَبَبُ الْحَجْرِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا جَعْلُ الْبَكَارَةِ مُوجِبَةً لِلْحَجْرِ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجْعَلْ الْبَكَارَةَ سَبَبًا لِلْحَجْرِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا فَتَعْلِيلُ الْحَجْرِ بِذَلِكَ تَعْلِيلٌ بِوَصْفِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِالْإِجْبَارِ اضْطَرَبُوا فِيمَا إذَا عَيَّنَتْ كُفُؤًا وَعَيَّنَ الْأَبُ كُفُؤًا آخَرَ : هَلْ يُؤْخَذُ بِتَعْيِينِهَا ؟ أَوْ بِتَعْيِينِ الْأَبِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . فَمَنْ جَعَلَ الْعِبْرَةَ بِتَعْيِينِهَا نَقَضَ أَصْلَهُ وَمَنْ جَعَلَ
الْعِبْرَةَ بِتَعْيِينِ الْأَبِ كَانَ فِي قَوْلِهِ مِنْ الْفَسَادِ وَالضَّرَرِ وَالشَّرِّ مَا لَا يَخْفَى فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا ؛ وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا } وَفِي رِوَايَةٍ : { الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا } . فَلَمَّا جَعَلَ الثَّيِّبَ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبِكْرَ لَيْسَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا ؛ بَلْ الْوَلِيُّ أَحَقُّ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِلْأَبِ وَالْجَدِّ . هَذِهِ عُمْدَةُ الْمُجْبِرِينَ وَهُمْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِنَصِّ الْحَدِيثِ وَظَاهِرِهِ ؛ وَتَمَسَّكُوا بِدَلِيلِ خِطَابِهِ ؛ وَلَمْ يَعْلَمُوا مُرَادَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : { الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا } يَعُمُّ كُلَّ وَلِيٍّ وَهُمْ يَخُصُّونَهُ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ . " و الثَّانِي " قَوْلُهُ : { وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ } وَهْم لَا يُوجِبُونَ اسْتِئْذَانَهَا ؛ بَلْ قَالُوا : هُوَ مُسْتَحَبٌّ حَتَّى طَرَدَ بَعْضُهُمْ قِيَاسَهُ ؛ وَقَالُوا لَمَّا كَانَ مُسْتَحَبًّا اكْتَفَى فِيهِ بِالسُّكُوتِ وَادَّعَى أَنَّهُ حَيْثُ يَجِبُ اسْتِئْذَانُ الْبِكْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ النُّطْقِ . وَهَذَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَهَذَا مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُمْ ؛ وَلِنُصُوصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ ؛ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ قَبْلَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ إذَا زَوَّجَ الْبِكْرَ أَخُوهَا أَوْ عَمُّهَا فَإِنَّهُ يَسْتَأْذِنُهَا ؛ وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا . وَأَمَّا الْمَفْهُومُ : فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ؛ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ وَلَا الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ } فَذَكَرَ فِي هَذِهِ لَفْظَ " الْإِذْنِ " وَفِي هَذِهِ لَفَظَ " الْأَمْرِ " وَجَعَلَ إذْنَ هَذِهِ الصُّمَاتَ ؛ كَمَا أَنَّ إذَنْ تِلْكَ النُّطْقُ . فَهَذَانِ هُمَا الْفَرْقَانِ اللَّذَانِ فَرَّقَ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْبِكْرِ
وَالثَّيِّبِ ؛ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فِي الْإِجْبَارِ وَعَدَمِ الْإِجْبَارِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ " الْبِكْرَ " لَمَّا كَانَتْ تَسْتَحِي أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي أَمْرِ نِكَاحِهَا لَمْ تُخْطَبْ إلَى نَفْسِهَا ؛ بَلْ تُخْطَبُ إلَى وَلِيِّهَا وَوَلِيُّهَا يَسْتَأْذِنُهَا فَتَأْذَنُ لَهُ ؛ لَا تَأْمُرُهُ ابْتِدَاءً : بَلْ تَأْذَنُ لَهُ إذَا اسْتَأْذَنَهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا . وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَقَدْ زَالَ عَنْهَا حَيَاءُ الْبِكْرِ فَتَتَكَلَّمُ بِالنِّكَاحِ فَتُخْطَبُ إلَى نَفْسِهَا وَتَأْمُرُ الْوَلِيَّ أَنْ يُزَوِّجَهَا . فَهِيَ آمِرَةٌ لَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهَا فَيُزَوِّجَهَا مِنْ الْكُفْءِ إذَا أَمَرَتْهُ بِذَلِكَ . فَالْوَلِيُّ مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ الثَّيِّبِ وَمُسْتَأْذِنٌ لِلْبِكْرِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا تَزْوِيجُهَا مَعَ كَرَاهَتِهَا لِلنِّكَاحِ : فَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالْعُقُولِ وَاَللَّهُ لَمْ يُسَوِّغْ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ إلَّا بِإِذْنِهَا وَلَا عَلَى طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ لِبَاسٍ لَا تُرِيدُهُ . فَكَيْفَ يُكْرِهُهَا عَلَى مُبَاضَعَةِ وَمُعَاشَرَةِ مَنْ تَكْرَهُ مُبَاضَعَتَهُ وَمُعَاشَرَةَ مَنْ تَكْرَهُ مُعَاشَرَتَهُ وَاَللَّهُ قَدْ جَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً فَإِذَا كَانَ لَا يَحْصُلُ إلَّا مَعَ بُغْضِهَا لَهُ وَنُفُورِهَا عَنْهُ . فَأَيُّ مَوَدَّةٍ وَرَحْمَةٍ فِي ذَلِكَ ؟ ثُمَّ إنَّهُ إذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِبَعْثِ حَكَمٍ مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمٍ مِنْ أَهْلِهَا . و " وَالْحَكَمَانِ " كَمَا سَمَّاهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : هُمَا حَكَمَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ : هُمَا " وَكِيلَانِ " وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ
لَيْسَ بِحَكَمِ وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَمْرِ الْأَئِمَّةِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَهْلِ وَلَا يَخْتَصُّ بِحَالِ الشِّقَاقِ وَلَا يُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى نَصٍّ خَاصٍّ ؛ وَلَكِنْ إذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ فَلَا بُدَّ مِنْ وَلِيٍّ لَهُمَا يَتَوَلَّى أَمْرَهُمَا ؛ لِتَعَذُّرِ اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِالْحُكْمِ عَلَى الْآخَرِ . فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُجْعَلَ أَمْرُهُمَا إلَى اثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِهِمَا فَيَفْعَلَانِ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ مِنْ جَمْعٍ بَيْنَهُمَا وَتَفْرِيقٍ : بِعِوَضِ أَوْ بِغَيْرِهِ . وَهُنَا يَمْلِكُ الْحَكَمُ الْوَاحِدُ مَعَ الْآخَرِ الطَّلَاقَ بِدُونِ إذْنِ الرَّجُلِ وَيَمْلِكُ الْحَكَمُ الْآخَرُ مَعَ الْأَوَّلِ بَذْلَ الْعِوَضِ مِنْ مَالِهَا بِدُونِ إذْنِهَا ؛ لِكَوْنِهِمَا صَارَا وَلِيَّيْنِ لَهُمَا . وَطَرْدُ هَذَا الْقَوْلُ : أَنَّ الْأَبَ يُطَلِّقُ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ : إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ ؛ كَمَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَكَذَلِكَ يُخَالِعُ عَنْ ابْنَتِهِ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ لَهَا . وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلِلْأَبِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ إذَا قِيلَ : هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ . كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ ؛ وَلَيْسَ الصَّدَاقُ كَسَائِرِ مَالِهَا ؛ فَإِنَّهُ وَجَبَ فِي الْأَصْلِ نِحْلَةً وَبُضْعُهَا عَادَ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَكَانَ إلْحَاقُ الطَّلَاقِ بالفسوخ فَوَجَبَ أَلَّا يَتَنَصَّفَ ؛ لَكِنَّ الشَّارِعَ جَبَرَهَا بِتَنْصِيفِ الصَّدَاقِ ؛ لِمَا حَصَلَ لَهَا مِنْ الِانْكِسَارِ بِهِ وَلِهَذَا جُعِلَ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ الْمُتْعَةِ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ فَأَوْجَبُوا الْمُتْعَةَ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ ؛ إلَّا لِمَنْ طَلَقَتْ بَعْدَ الْفَرْضِ وَقَبْلَ
الدُّخُولِ وَالْمَسِيسِ فَحَسْبُهَا مَا فُرِضَ لَهَا . وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ لَا يُوجِبُونَ الْمُتْعَةَ إلَّا لِمَنْ طَلَقَتْ قَبْلَ الْفَرْضِ وَالدُّخُولِ وَيَجْعَلُونَ الْمُتْعَةَ عِوَضًا عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ وَيَقُولُونَ : كُلُّ مُطَلَّقَةٍ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ صَدَاقًا ؛ إلَّا هَذِهِ . وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ : الصَّدَاقُ اسْتَقَرَّ قَبْلَ الطَّلَاقِ بِالْعَقْدِ وَالدُّخُولِ وَالْمُتْعَةُ سَبَبُهَا الطَّلَاقُ فَتَجِبُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ ؛ لَكِنَّ الْمُطَلَّقَةَ بَعْدَ الْفَرْضِ وَقَبْلَ الْمَسِيسِ مُتِّعَتْ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ فَلَا تَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ : فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الطَّلَاقَ سَبَبَ الْمُتْعَةِ فَلَا يُجْعَلُ عِوَضًا عَمَّا سَبَّبَهُ الْعَقْدُ وَالدُّخُولُ ؛ لَكِنْ يُقَالُ عَلَى هَذَا : فَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَصَحُّ ؛ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد : أَنَّ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ لَهَا مُتْعَةٌ ؛ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَعُمُومُهُ حَيْثُ قَالَ : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ : { إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } . فَأَمَرَ بِتَمْتِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَلَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِمَنْ لَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَعَ أَنَّ غَالِبَ النِّسَاءِ يَطْلُقْنَ بَعْدَ الْفَرْضِ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْمُتْعَةِ هُوَ الطَّلَاقَ فَسَبَبُ الْمَهْرِ هُوَ الْعَقْدُ . فَالْمُفَوَّضَةُ الَّتِي لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا يَجِبُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ وَيَسْتَقِرُّ بِالْمَوْتِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ بروع بِنْتِ وَاشِقٍ الَّتِي تَزَوَّجَتْ وَمَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ لَهَا مَهْرٌ وَقَضَى لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ { لَهَا مَهْرَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ } لَكِنْ هَذِهِ لَوْ طَلَقَتْ قَبْلَ
الْمَسِيسِ
لَمْ يَجِبْ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ؛ لِكَوْنِهَا لَمْ
تَشْتَرِطْ مَهْرًا مُسَمًّى وَالْكَسْرُ الَّذِي حَصَلَ لَهَا بِالطَّلَاقِ
انْجَبَرَ بِالْمُتْعَةِ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ .
وَلَكِنَّ " الْمَقْصُودَ " : أَنَّ الشَّارِعَ لَا يُكْرِهُ
الْمَرْأَةَ عَلَى النِّكَاحِ إذَا لَمْ تُرِدْهُ ؛ بَلْ إذَا كَرِهَتْ الزَّوْجَ
وَحَصَلَ بَيْنَهُمَا شِقَاقٌ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ أَمْرَهَا إلَى غَيْرِ الزَّوْجِ
لِمَنْ يَنْظُرُ فِي الْمَصْلَحَةِ مِنْ أَهْلِهَا ؛ مَعَ مَنْ يَنْظُرُ فِي
الْمَصْلَحَةِ مِنْ أَهْلِهِ فَيُخَلِّصُهَا مِنْ الزَّوْجِ بِدُونِ أَمْرِهِ ؛
فَكَيْفَ تُؤْسَرُ مَعَهُ أَبَدًا بِدُونِ أَمْرِهَا . وَالْمَرْأَةُ أَسِيرَةٌ
مَعَ الزَّوْجِ ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ ؛ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ ؛
أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ
اللَّهِ } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ بِنْتٍ بَالِغٍ وَقَدْ خُطِبَتْ لِقَرَابَةٍ لَهَا
فَأَبَتْ . وَقَالَ أَهْلُهَا لِلْعَاقِدِ : اعْقِدْ وَأَبُوهَا حَاضِرٌ : فَهَلْ
يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا ؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا إنْ كَانَ الزَّوْجُ لَيْسَ كُفُؤًا لَهَا فَلَا
تُجْبَرُ عَلَى نِكَاحِهِ بِلَا رَيْبٍ وَأَمَّا إنْ كَانَ كُفُؤًا
فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ؛ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ فِي
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ ؛ كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى
يَسْتَأْذِنَهَا أَبُوهَا . وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِكْرًا بِوِلَايَةِ أَبِيهَا ؛
وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ حِينَ الْعَقْدِ ؛ وَكَانَ قَدَّمَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا
لِزَوْجِ قَبْلَهُ ؛ وَطَلَقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إصَابَةٍ ؛ ثُمَّ
دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي فَوَجَدَهَا بِنْتًا فَكَتَمَ ذَلِكَ وَحَمَلَتْ
الزَّوْجَةُ مِنْهُ وَاسْتَقَرَّ الْحَالُ بَيْنَهُمَا فَلَمَّا عَلِمَ الزَّوْجُ
أَنَّهَا لَمْ تُسْتَأْذَنْ حِينَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ قِيلَ
لَهُ : إنَّ الْعَقْدَ مَفْسُوخٌ ؛ لِكَوْنِهَا بِنْتًا وَلَمْ تُسْتَأْذَنْ :
فَهَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ مَفْسُوخًا ؟ وَالْوَطْءُ شُبْهَةً ؟ وَيُلْزَمُ
تَجْدِيدُ الْعَقْدِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا إذَا كَانَتْ ثَيِّبًا مِنْ زَوْجٍ وَهِيَ بَالِغٌ
فَهَذِهِ لَا تُنْكَحُ إلَّا بِإِذْنِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ وَلَكِنْ
إذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهَا ثُمَّ أَجَازَتْ الْعَقْدَ جَازَ ذَلِكَ فِي
مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ ؛ وَلَمْ يَجُزْ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى . وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا مِنْ زِنًا فَهِيَ كَالثَّيِّبِ مِنْ
النِّكَاحِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّهَا كَالْبِكْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
نَفْسِهِ وَمَالِكٍ . وَإِنْ كَانَتْ الْبَكَارَةُ زَالَتْ بِوَثْبَةِ أَوْ
بِأُصْبُعِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْبِكْرِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ . وَإِذَا كانت بِكْرًا فَالْبِكْرُ يُجْبِرُهَا أَبُوهَا عَلَى
النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَتْ بَالِغَةً : فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَفِي الْأُخْرَى وَهِيَ
مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْأَبَ لَا يُجْبِرُهَا إذَا كَانَتْ بَالِغًا
وَهَذَا أَصَحُّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَوَاهِدُ الْأُصُولِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : إذَا اخْتَارَتْ هِيَ
الْعَقْدَ جَازَ ؛ وَإِلَّا احْتَاجَ إلَى اسْتِئْنَافٍ . وَقَدْ يُقَالُ : هُوَ الْأَقْوَى
هُنَا ؛ لَا سِيَّمَا وَالْأَبُ إنَّمَا عَقَدَ مُعْتَقِدًا أَنَّهَا بِكْرٌ
وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْذَانِهَا ؛ فَإِذَا كَانَتْ فِي الْبَاطِنِ
بِخِلَافِ ذَلِكَ كَانَ مَعْذُورًا . فَإِذَا اخْتَارَتْ هِيَ النِّكَاحَ لَمْ
يَكُنْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ . وَوَقْفُ الْعَقْدِ عَلَى
الْإِجَازَةِ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَظْهَرُ فِيهِ
التَّفْصِيلُ بَيْن بَعْضِهَا وَبَعْضٍ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
لَيْسَ لِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَنْ يُلْزِمَ الْوَلَدَ
بِنِكَاحِ مَنْ لَا يُرِيدُ وَأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ لَا يَكُونُ عَاقًّا وَإِذَا
لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِأَكْلِ مَا يَنْفِرُ عَنْهُ مَعَ
قُدْرَتِهِ عَلَى أَكْلِ مَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ كَانَ النِّكَاحُ كَذَلِكَ
وَأَوْلَى ؛ فَإِنَّ أَكْلَ الْمَكْرُوهِ مَرَارَةً سَاعَةً وَعِشْرَةَ
الْمَكْرُوهِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى طُولٍ يُؤْذِي صَاحِبَهُ كَذَلِكَ وَلَا
يُمْكِنُ فِرَاقُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ حِجْرِ وَالِدِهِ وَقَدْ تَزَوَّجَ
بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدِهِ وَشَهِدَ الْمَعْرُوفُونَ أَنَّ وَالِدَهُ مَاتَ وَهُوَ
حَيٌّ : فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ إذَا
تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدِهِ حَقٌّ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
إنْ كَانَ سَفِيهًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ : لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ بِدُونِ إذْنِ
أَبِيهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا . وَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ
الدُّخُولِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ رَشِيدًا صَحَّ نِكَاحُهُ وَإِنْ
لَمْ يَأْذَنْ لَهُ أَبُوهُ . وَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ : هَلْ نَكَحَ
وَهُوَ رَشِيدٌ أَوْ وَهُوَ سَفِيهٌ
: فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي صِحَّةَ النِّكَاحِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَةً وَلَهَا وَلَدٌ
وَالْعَاقِدُ مَالِكِيٌّ فَطَلَبَ الْعَاقِدُ الْوَلَدَ فَتَعَذَّرَ حُضُورُهُ
وَجِيءَ بِغَيْرِهِ وَأَجَابَ الْعَاقِدَ فِي تَزْوِيجِهَا : فَهَلْ يَصِحُّ
الْعَقْدُ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ
الْوَلَدَ وَلِيُّهَا وَإِذَا كَانَ حَاضِرًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ لَمْ تُزَوَّجْ
إلَّا بِإِذْنِهِ . فَأَمَّا إنْ غَابَ غَيْبَةً بَعِيدَةً انْتَقَلَتْ
الْوِلَايَةُ إلَى الْأَبْعَدِ أَوْ الْحَاكِمِ . وَلَوْ زَوَّجَهَا شَافِعِيٌّ
مُعْتَقِدًا أَنَّ الْوَلَدَ لَا وِلَايَةَ لَهُ كَانَ مِنْ مَسَائِلِ
الِاجْتِهَادِ ؛ لَكِنَّ الَّذِي زَوَّجَهَا مَالِكِيٌّ يَعْتَقِدُ أَنْ لَا
يُزَوِّجَهَا إلَّا وَلَدُهَا فَإِذَا لَبَّسَ عَلَيْهِ وَزَوَّجَهَا مَنْ
يَعْتَقِدُهُ وَلَدَهَا وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْحَاكِمُ قَدْ زَوَّجَهَا
بِوِلَايَتِهِ وَلَا زُوِّجَتْ بِوِلَايَةِ وَلِيٍّ مَنْ نَسَبٍ أَوْ وَلَاءٍ
فَتَكُونُ مَنْكُوحَةً بِدُونِ إذْنِ وَلِيٍّ أَصْلًا . وَهَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ خَلَّاهَا أَخُوهَا فِي مَكَانٍ
لِتُوَفِّيَ عِدَّةَ زَوْجِهَا فَلَمَّا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ هَرَبَتْ إلَى
بَلَدٍ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَتَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ أَخِيهَا وَلَمْ يَكُنْ
لَهَا وَلِيٌّ غَيْرُهُ : فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
: إذَا لَمْ يَكُنْ أَخُوهَا عَاضِلًا لَهَا وَكَانَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ : لَمْ
يَصِحَّ نِكَاحُهَا بِدُونِ إذْنِهِ وَالْحَالُ هَذِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بَالِغَةً مِنْ جَدِّهَا أَبِي
أَبِيهَا وَمَا رَشَّدَهَا وَلَا مَعَهُ وَصِيَّةٌ مِنْ أَبِيهَا فَلَمَّا دَنَتْ
وَفَاةُ جَدِّهَا أَوْصَى عَلَى الْبِنْتِ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا : فَهَلْ
لِلْجَدِّ الْمَذْكُورِ عَلَى الزَّوْجَةِ وِلَايَةٌ بَعْدَ أَنْ أَصَابَهَا
الزَّوْجُ ؛ وَهَلْ لَهُ أَنْ يُوصِيَ عَلَيْهَا ؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا إذَا كَانَتْ رَشِيدَةً فَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهَا
؛ لَا لِلْجَدِّ وَلَا غَيْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ
يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ : "
أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْجَدَّ لَهُ وِلَايَةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي
حَنِيفَةَ . و " الثَّانِي "
لَا وِلَايَةَ لَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد
فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْجَارِيَةُ وَمَضَتْ عَلَيْهَا
سَنَةٌ وَأَوْلَدَهَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ رَشِيدَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ بَرْطَلَ وَلِيَّ امْرَأَةٍ لِيُزَوِّجَهَا
إيَّاهُ فَزَوَّجَهَا ثُمَّ صَالَحَ صَاحِبَ الْمَالِ عَنْهُ : فَهَلْ عَلَى
الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ دَرَكٌ ؟
فَأَجَابَ
:
آثِمٌ فِيمَا فَعَلَ ، وَأَمَّا النِّكَاحُ فَصَحِيحٌ
وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ ؟
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ وَقَدْ أَعْتَقَهَا
وَتَزَوَّجَ بِهَا وَمَاتَ . ثُمَّ خَطَبَهَا مَنْ يَصْلُحُ : فَهَلْ لِأَوْلَادِ
سَيِّدِهَا أَنْ يُزَوِّجُوهَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا خَطَبَهَا مَنْ يَصْلُحُ لَهَا
فَعَلَى أَوْلَادِ سَيِّدِهَا أَنْ يُزَوِّجُوهَا فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ
زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ أَوْ عَصَبَةُ الْمُعْتِقِ إنْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ غَيْرُ
أَوْلَادِهِ ؛ لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُقَدِّمُ الْحَاكِمَ إذَا عَضَلَ
الْوَلِيَّ الْأَقْرَبَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ الْعَصَبَةَ كَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ زَوَّجَ الْحَاكِمُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ
وَلَوْ امْتَنَعَ الْعَصَبَةُ كُلُّهُمْ زَوَّجَ الْحَاكِمُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَإِذَا أَذِنَ الْعَصَبَةُ لِلْحَاكِمِ جَازَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ مُعْتَقَةَ رَجُلٍ ؛ وَطَلَّقَهَا
وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ وَطَلَّقَهَا ثُمَّ حَضَرَتْ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ
الزَّوْجُ الْأَوَّلُ فَأَرَادَ رَدَّهَا وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا بَرَاءَةٌ فَخَافَ
أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ بَرَاءَةٌ : فَحَضَرَا عِنْدَ قَاضِي الْبَلَدِ وَادَّعَى
أَنَّهَا جَارِيَتُهُ وَأَوْلَدَهَا وَأَنَّهُ يُرِيدُ عِتْقَهَا وَيَكْتُبُ لَهَا
كِتَابًا : فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا زَوَّجَهَا الْقَاضِي بِحُكْمِ أَنَّهُ وَلِيُّهَا
وَكَانَتْ خَلِيَّةً مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا
وَلِيٌّ أَوْلَى مِنْ الْحَاكِمِ :
صَحَّ النِّكَاحُ . وَإِنْ ظَنَّ الْقَاضِي أَنَّهَا
عَتِيقَةٌ وَكَانَتْ حُرَّةَ الْأَصْلِ : فَهَذَا الظَّنُّ لَا يَقْدَحُ فِي
صِحَّةِ النِّكَاحِ . وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ ؛ فَإِنَّ
الزَّوْجَ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ وَلِيًّا . وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ إنَّ
الْمُعْتَقَةَ يَكُونُ زَوْجُهَا الْمُعْتِقُ وَلِيَّهَا وَالْقَاضِي نَائِبَهُ :
فَهُنَا إذَا زَوَّجَ الْحَاكِمُ بِهَذِهِ النِّيَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَبُولُهَا
مِنْ جِهَتِهَا وَلَكِنْ مِنْ كَوْنِهَا حُرَّةَ الْأَصْلِ : فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ
. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَعْرَابٍ نَازِلِينَ عَلَى الْبَحْرِ وَأَهْلِ
بَادِيَةٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُمْ حَاكِمٌ وَلَا لَهُمْ
عَادَةٌ أَنْ يَعْقِدُوا نِكَاحًا إلَّا فِي الْقُرَى الَّتِي حَوْلَهُمْ عِنْدَ أَئِمَّتِهَا
: فَهَلْ يَصِحُّ عَقْدُ أَئِمَّةِ الْقُرَى لَهُمْ مُطْلَقًا لِمَنْ لَهَا
وَلِيٌّ وَلِمَنْ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ ؛ وَرُبَّمَا كَانَ أَئِمَّةٌ لَيْسَ
لَهُمْ إذْنٌ مِنْ مُتَوَلٍّ : فَهَلْ يَصِحُّ عَقْدُهُمْ فِي الشَّرْعِ مَعَ
إشْهَادِ مَنْ اتَّفَقَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْعُقُودِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ
عَلَى الْأَئِمَّةِ إثْمٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ مَانِعٌ غَيْرَ هَذَا
الْحَالِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ إذْنِ الْحَاكِمِ لِلْإِمَامِ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا مَنْ كَانَ لَهَا وَلِيٌّ
مِنْ النَّسَبِ وَهُوَ الْعَصَبَةُ مِنْ النَّسَبِ أَوْ الْوَلَاءِ : مِثْلَ
أَبِيهَا وَجَدِّهَا وَأَخِيهَا وَعَمِّهَا وَابْنِ أَخِيهَا وَابْنِ عَمِّهَا
وَعَمِّ أَبِيهَا وَابْنِ عَمِّ أَبِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَقَةً فَمُعْتِقُهَا
أَوْ عَصَبَةُ مُعْتِقِهَا : فَهَذِهِ يُزَوِّجُهَا الْوَلِيُّ بِإِذْنِهَا
وَالِابْنُ وَلِيٌّ عِنْدِ الْجُمْهُورَ وَلَا يَفْتَقِرُ ذَلِكَ إلَى حَاكِمٍ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَإِذَا
كَانَ النِّكَاحُ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ صَحَّ النِّكَاحُ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ
الشَّاهِدَانِ مُعَدَّلَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي بِأَنْ كَانَا مَسْتُورَيْنِ -
صَحَّ النِّكَاحُ إذَا أَعْلَنُوهُ وَلَمْ يَكْتُمُوهُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
وَلَوْ كَانَ بِحَضْرَةِ فَاسِقَيْنِ صَحَّ النِّكَاحُ
أَيْضًا عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَلَوْ
لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ شُهُودٍ بَلْ زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا وَشَاعَ ذَلِكَ بَيْنَ
النَّاسِ صَحَّ النِّكَاحُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي
إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَهَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ
الْمُسْلِمِينَ مَازَالُوا يُزَوِّجُونَ النِّسَاءَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَأْمُرُهُمْ بِالْإِشْهَادِ وَلَيْسَ فِي اشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ
حَدِيثٌ ثَابِتٌ ؛ لَا فِي الصِّحَاحِ وَلَا فِي السُّنَنِ وَلَا فِي الْمَسَانِدِ
. وَأَمَّا مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا فَإِنْ كَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَوْ الْحُلَّةِ
نَائِبٌ حَاكِمٌ زَوَّجَهَا هُوَ وَأَمِيرُ الْأَعْرَابِ وَرَئِيسُ الْقَرْيَةِ .
وَإِذَا كَانَ فِيهِمْ إمَامٌ مُطَاعٌ زَوَّجَهَا أَيْضًا بِإِذْنِهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَسْلَمَ : هَلْ يَبْقَى لَهُ وِلَايَةٌ
عَلَى أَوْلَادِهِ الْكِتَابِيِّينَ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ فِي النِّكَاحِ كَمَا لَا
وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا يُزَوِّجُ الْمُسْلِمُ
الْكَافِرَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ بِنْتَه أَوْ غَيْرَهَا وَلَا يَرِثُ كَافِرٌ مُسْلِمًا
وَلَا مُسْلِمٌ كَافِرًا . وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ
وَأَصْحَابِهِمْ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ .
لَكِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا كَانَ مَالِكًا لِلْأَمَةِ زَوَّجَهَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ وَلِيَّ أَمْرِ زَوَاجِهَا بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ . وَأَمَّا بِالْقَرَابَةِ وَالْعَتَاقَةِ فَلَا يُزَوِّجُهَا ؛ إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا خِلَافٌ شَاذٌّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي النَّصْرَانِيِّ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يَرِثُهَا وَهُمَا قَوْلَانِ شَاذَّانِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ ؛ وَلَا يَتَزَوَّجُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَةَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ قَطَعَ الْوِلَايَةَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَأَوْجَبَ الْبَرَاءَةَ بَيْنَهُمْ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَأَثْبَتَ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } إلَى قَوْلِهِ : { فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَثْبَتَ الْوِلَايَةَ بَيْنَ أُولِي الْأَرْحَامِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ
آوَوْا
وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } إلَى قَوْلِهِ : {
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } إلَى قَوْلِهِ : {
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ
مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ مُعْتَقَةٌ وَقَدْ طَلَبَهَا
مِنْهُ رَجُلٌ لِيَتَزَوَّجَهَا فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ مَا أُعْطِيك إيَّاهَا :
فَهَلْ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ إذَا وَكَّلَ رَجُلًا فِي زَوَاجِهَا لِذَلِكَ
الرَّجُلِ ؟
فَأَجَابَ
:
مَتَى فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَوْ
وَكِيلِهِ حَنِثَ ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ الْخَاطِبُ كُفُؤًا فَلَهُ أَنْ
يُزَوِّجَهَا الْوَلِيُّ الْأَبْعَدُ
: مِثْلَ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ أَوْ
يُزَوِّجَهَا الْحَاكِمُ بِإِذْنِهَا وَدُونَ إذْنِ الْمُعْتَقِ ؛ فَإِنَّهُ
عَاضِلٌ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِهِ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ إذَا زُوِّجَتْ كُلَّ
هَذَا الْوَجْهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَعْقِدُ عُقُودَ الْأَنْكِحَةِ بِوَلِيِّ
وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ : هَلْ لِلْحَاكِمِ مَنْعُهُ ؟
فَأَجَابَ
:
لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَمْنَعَ الْمَذْكُورَ أَنْ
يَتَوَكَّلَ لِلْوَلِيِّ فَيَعْقِدُ الْعَقْدَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ ؛
لَكِنْ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ وَهُوَ
الْحَاكِمُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَةً حُرَّةً لَهَا وَلِيٌّ
غَيْرُ الْحَاكِمِ فَجَاءَ بِشُهُودِ وَهُوَ يَعْلَمُ فِسْقَ الشُّهُودِ ؛ لَكِنْ
لَوْ شَهِدُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ قَبْلَهُمْ : فَهَلْ يَصِحُّ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ
بِشَهَادَتِهِمْ ؟ وَإِذَا صَحَّ هَلْ يُكْرَهُ ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَالْحَالُ هَذِهِ . و "
الْعَدَالَةُ " الْمُشْتَرَطَةُ فِي شَاهِدَيْ النِّكَاحِ إنَّمَا هِيَ أَنْ
يَكُونَا مَسْتُورَيْنِ غَيْرَ ظَاهِرَيْ الْفِسْقِ وَإِذَا كَانَا فِي الْبَاطِنِ
فَاسِقَيْنِ وَذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ ؛ بَلْ ظَاهِرُهُمَا السَّتْرُ انْعَقَدَ النِّكَاحُ
بِهِمَا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ : فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ
وَغَيْرِهِمَا ؛ إذْ لَوْ اُعْتُبِرَ فِي شَاهِدَيْ النِّكَاحِ أَنْ يَكُونَا
مُعَدَّلَيْنِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لَمَا صَحَّ نِكَاحُ أَكْثَرِ النَّاسِ إلَّا
بِذَلِكَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ
كَانُوا يَعْقِدُونَ الْأَنْكِحَةَ بِمَحْضَرِ مِنْ بَعْضِهِمْ ؛ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ الْحَاضِرُونَ مُعَدَّلَيْنِ عِنْدَ أُولِي الْأَمْرِ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ
مَنْ قَالَ : يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَا مُبْرِزَيْ الْعَدَالَةِ : فَهَؤُلَاءِ
شُهُودُ الْحُكَّامِ معدلون عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ فَاسِقٌ
فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَتِهِمْ
وَإِنْ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ فُسَّاقًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُنْكَحُ
الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ إذْنُهَا ؟ قَالَ . أَنْ تَسْكُتَ }
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ . { الْأَيِّمُ أَحَقُّ
بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا
صُمَاتُهَا } وَفِي رِوَايَةٍ :
{ الْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا
وَصَمْتُهَا إقْرَارُهَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ الْجَارِيَةِ يَنْكِحُهَا أَهْلُهَا أَتُسْتَأْمَرُ أَمْ لَا ؟
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ .
تُسْتَأْمَرُ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَقُلْت لَهُ : فَإِنَّهَا تَسْتَحِي فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ إذْنُهَا إذَا هِيَ
سَكَتَتْ } { وَعَنْ خَنْسَاءَ ابْنَة خِدَامٍ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتٌ
فَكَرِهَتْ ذَلِكَ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَرَدَّ نِكَاحَهُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
فَأَجَابَ
:
الْمَرْأَةُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يُزَوِّجَهَا
إلَّا بِإِذْنِهَا كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَإِنْ كَرِهَتْ ذَلِكَ لَمْ تُجْبَرْ عَلَى النِّكَاحِ ؛ إلَّا الصَّغِيرَةُ
الْبِكْرُ فَإِنَّ أَبَاهَا يُزَوِّجُهَا وَلَا إذْنَ لَهَا . وَأَمَّا الْبَالِغُ
الثَّيِّبُ فَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا
لَا
لِلْأَبِ وَلَا لِغَيْرِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ
الْبَالِغُ لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُهَا بِدُونِ إذْنِهَا
بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ
. فَأَمَّا الْأَبُ وَالْجَدُّ فَيَنْبَغِي لَهُمَا
اسْتِئْذَانُهَا . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِئْذَانِهَا : هَلْ هُوَ
وَاجِبٌ ؟ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ . وَيَجِبُ عَلَى
وَلِيِّ الْمَرْأَةِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِيمَنْ يُزَوِّجُهَا بِهِ وَيَنْظُرَ
فِي الزَّوْجِ : هَلْ هُوَ كُفُؤٌ أَوْ غَيْرُ كُفُؤٍ ؟ فَإِنَّهُ إنَّمَا
يُزَوِّجُهَا لِمَصْلَحَتِهَا ؛ لَا لِمَصْلَحَتِهِ ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يُزَوِّجَهَا بِزَوْجِ نَاقِصٍ ؛ لِغَرَضِ لَهُ : مِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ
مُوَلِّيَةَ ذَلِكَ الزَّوْجِ بَدَلَهَا فَيَكُونُ مِنْ جِنْسِ الشِّغَارِ الَّذِي
نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يُزَوِّجَهَا
بِأَقْوَامِ يُحَالِفُهُمْ عَلَى أَغْرَاضٍ لَهُ فَاسِدَةٍ . أَوْ يُزَوِّجَهَا
لِرَجُلِ لِمَالِ يَبْذُلُهُ لَهُ وَقَدْ خَطَبَهَا مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لَهَا مِنْ
ذَلِكَ الزَّوْجِ فَيُقَدِّمُ الْخَاطِبُ الَّذِي بَرْطَلَهُ عَلَى الْخَاطِبِ
الْكُفُؤِ الَّذِي لَمْ وَالْآمِدِيَّ
. وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَلِيِّ فِي
بُضْعِ وَلِيَّتِهِ كَتَصَرُّفِهِ فِي مَالِهَا فَكَمَا لَا يَتَصَرَّفُ فِي
مَالِهَا إلَّا بِمَا هُوَ أَصْلَحُ كَذَلِكَ لَا يَتَصَرَّفُ فِي بُضْعِهَا إلَّا
بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَهَا ؛ إلَّا أَنَّ الْأَبَ لَهُ مِنْ التَّبَسُّطِ فِي
مَالِ وَلَدِهِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُعْتَبَرُ إذْنُهَا فِي
الزَّوَاجِ شَرْعًا هَلْ يُشْتَرَطُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا بِإِذْنِهَا
لِوَلِيِّهَا ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قَالَ الْوَلِيُّ : إنَّهَا أَذِنَتْ لِي فِي
تَزْوِيجِهَا مِنْ هَذَا
الشَّخْصِ
: فَهَلْ لِلْعَاقِدِ أَنْ يَعْقِدَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْوَلِيِّ ؟ أَمْ
قَوْلِهَا ؟ وَكَيْفِيَّةُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْإِشْهَادُ عَلَى إذْنِهَا لَيْسَ
شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَإِنَّمَا فِيهِ
خِلَافٌ شَاذٌّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ .
وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ - كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ - أَنَّ ذَلِكَ لَا
يُشْتَرَطُ . فَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ : أَذِنَتْ لِي فِي الْعَقْدِ ؛ فَعَقَدَ
الْعَقْدَ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْعَقْدِ ثُمَّ صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ
عَلَى الْإِذْنِ : كَانَ النِّكَاحُ ثَابِتًا صَحِيحًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا
وَإِنْ أَنْكَرَتْ الْإِذْنَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا ؛ وَلَمْ
يَثْبُتْ النِّكَاحُ . وَدَعْوَاهُ الْإِذْنَ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ ادَّعَى
النِّكَاحَ بَعْدَ مَوْتِ الشُّهُودِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَاَلَّذِي يَنْبَغِي
لِشُهُودِ النِّكَاحِ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى إذْنِ الزَّوْجَةِ قَبْلَ الْعَقْدِ
لِوُجُوهِ ثَلَاثَةٍ : " أَحَدُهَا " أَنَّ ذَلِكَ عَقْدٌ مُتَّفَقٌ
عَلَى صِحَّتِهِ وَمَهْمَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى
صِحَّتِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْهُ إلَى مَا فِيهِ خِلَافٌ وَإِنْ
كَانَ مَرْجُوحًا ؛ إلَّا لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ . " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنَّ
ذَلِكَ مَعُونَةٌ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْعَقْدِ وَأَمَانٌ مِنْ جُحُودِهِ
لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ الَّذِي يَكْثُرُ فِيهِ جَحْدُ
النِّسَاءِ وَكِذْبُهُنَّ فَإِنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا كَثِيرًا مَا
يُفْضِي إلَى خِلَافِ ذَلِكَ . ثُمَّ إنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً
فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ . وَفِي ذَلِكَ مَفَاسِدُ مُتَعَدِّدَةٌ .
"
وَالْوَجْهِ الثَّالِثِ " : أَنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَكُونُ
كَاذِبًا فِي دَعْوَى الِاسْتِئْذَانِ ؛ وَأَنْ يَحْتَالَ بِذَلِكَ عَلَى أَنْ
يَشْهَدَ أَنَّهُ قَدْ زَوَّجَهَا وَأَنْ يَظُنَّ الْجُهَّالُ أَنَّ النِّكَاحَ
يَصِحُّ بِدُونِ ذَلِكَ إذَا كَانَ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّهَا إذَا زُوِّجَتْ
عِنْدَ الْحَاكِمِ صَارَتْ زَوْجَةً
. فَيُفْضِي إلَى قَهْرِهَا وَجَعْلِهَا زَوْجَةً
بِدُونِ رِضَاهَا . وَأَمَّا "
الْعَاقِدُ " الَّذِي هُوَ نَائِبُ الْحَاكِمِ إذَا
كَانَ هُوَ الْمُزَوِّجَ لَهَا بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا ؛ لَا بِطْرِيقِ الْوَكَالَةِ
لِلْوَلِيِّ ؛ فَلَا يُزَوِّجُهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا قَدْ أَذِنَتْ .
وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ شَاهِدًا عَلَى الْعَقْدِ . وَإِنْ زَوَّجَهَا
الْوَلِيُّ بِدُونِ إذْنِهَا فَهُوَ نِكَاحُ الْفُضُولِيِّ . وَهُوَ مَوْقُوفٌ
عَلَى إذْنِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ بِنْتٍ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِمَكْرُوهِ وَلَمْ
يُعْقَدْ عَلَيْهَا عَقْدٌ قَطُّ وَطَلَبَهَا مَنْ يَتَزَوَّجُهَا ؛ فَذُكِرَ لَهُ
ذَلِكَ فَرَضِيَ : فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِمَا ذُكِرَ إذَا شَهِدَ
الْمَعْرُوفُونَ أَنَّهَا بِنْتٌ ؛ لِتَسْهِيلِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا شَهِدُوا أَنَّهَا مَا زُوِّجَتْ كَانُوا
صَادِقِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَلْبِيسٌ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِعِلْمِهِ
بِالْحَالِ . وَيَنْبَغِي اسْتِنْطَاقُهَا بِالْأَدَبِ ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ
مُتَنَازِعُونَ : هَلْ إذْنُهَا إذَا زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِالزِّنَا : الصَّمْتُ
أَوْ : النُّطْقُ . و " الْأَوَّلُ " مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ وَأَحْمَد
كَصَاحِبِي أَبِي حَنِيفَةَ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ إذْنُهَا
الصُّمَاتُ كَاَلَّتِي لَمْ تَزُلْ عُذْرَتُهَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ بِنْتٍ يَتِيمَةٍ وَلَهَا مِنْ الْعُمْرِ عَشْرُ
سِنِينَ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَحَدٌ وَهِيَ مُضْطَرَّةٌ إلَى مَنْ يَكْفُلُهَا :
فَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِإِذْنِهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
هَذِهِ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِكُفُؤِ لَهَا عِنْدَ
أَكْثَرِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي
ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ ؛ وَغَيْرِهِمَا . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي
يَتَامَى النِّسَاءِ } الْآيَةَ
. وَقَدْ أَخْرَجَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ دَلِيلٌ فِي الْيَتِيمَةِ ؛ وَزَوْجُهَا
مَنْ يَعْدِلُ عَلَيْهَا فِي الْمَهْرِ ؛ لَكِنْ تَنَازَعَ هَؤُلَاءِ : هَلْ
تُزَوَّجُ بِإِذْنِهَا أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُزَوَّجُ
بِغَيْرِ إذْنِهَا وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَد . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهَا تُزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِهَا إذَا
بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ وَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ ؛ لِمَا فِي السُّنَنِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
الْيَتِيمَةُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ وَإِنْ
أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا }
وَفِي لَفْظٍ : { لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى
تُسْتَأْذَنَ فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ
عَلَيْهَا } .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَغِيرَةٍ دُونَ الْبُلُوغِ مَاتَ أَبُوهَا : هَلْ
يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يُزَوِّجَهَا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَثْبُتُ
لَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ فَإِنَّهُ يُزَوِّجُهَا
الْأَوْلِيَاءُ - مِنْ الْعَصَبَاتِ وَالْحَاكِمُ وَنَائِبُهُ - فِي ظَاهِرِ
مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا كَمَا دَلَّ
عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا
يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا
تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ }
وَأَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ
عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى
وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } قَالَتْ ؛ يَا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ فِي
حِجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ فَيُعْجِبُهُ مَالَهَا وَجَمَالَهَا ؛
فَيُرِيدُ وَلَيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي
صَدَاقِهَا ؛ فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ فَنُهُوا أَنْ
يَنْكِحُوهُنَّ إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ عَلَى
سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ
النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ . قَالَ عُرْوَةُ : قَالَتْ عَائِشَةُ : ثُمَّ إنَّ
النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } الْآيَةَ . قَالَتْ عَائِشَةُ وَاَلَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ { يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي قَالَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ؛ { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } قَالَتْ عَائِشَةُ : وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حِجْرِهِ حَيْثُ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْحَالِ . وَفِي لَفْظٍ آخَرَ : إذَا كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَجَمَالٍ رَغِبُوا فِي نِكَاحِهَا فِي إكْمَالِ الصَّدَاقِ ؛ وَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبًا عَنْهَا فِي قِلَّةِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ رَغِبُوا عَنْهَا ؛ وَأَخَذُوا غَيْرَهَا مِنْ النِّسَاءِ . قَالَ : فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حَتَّى يَرْغَبُوا عَنْهَا ؛ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إذَا رَغِبُوا فِيهَا ؛ إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا مِنْ الصَّدَاقِ . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُمْ أَنَّ يُزَوِّجُوا الْيَتَامَى مِنْ النِّسَاءِ إذَا فَرَضُوا لَهُنَّ صَدَاق مِثْلِهِنَّ ؛ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي تَزْوِيجِهِنَّ بِدُونِ صَدَاقِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ ؛ وَدَلَائِلَ ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ . ثُمَّ الْجُمْهُورُ الَّذِينَ جَوَّزُوا إنْكَاحَهَا لَهُمْ قَوْلَانِ : " أَحَدُهُمَا " وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ : أَنَّهَا تُزَوَّجُ بِدُونِ إذْنِهَا ؛ وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ . و " الثَّانِي " وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَنَّهَا لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِهَا ؛ وَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ كَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تُسْتَأْذَنُ
الْيَتِيمَةُ
فِي نَفْسِهَا ؛ فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إذْنُهَا ؛ وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ
عَلَيْهَا } رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي .
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا فَإِنْ سَكَتَتْ
فَقَدْ أَذِنَتْ ؛ وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا } . فَهَذِهِ السُّنَّةُ
نَصٌّ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ الَّذِي هُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا
تُزَوَّجُ ؛ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : إنَّهَا لَا تُزَوَّجُ حَتَّى تَبْلُغَ فَلَا
تَصِيرُ " يَتِيمَةً " . وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ صَرِيحٌ فِي
دُخُولِ الْيَتِيمَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِي ذَلِكَ ؛ إذْ الْبَالِغَةُ الَّتِي
لَهَا أَمْرٌ فِي مَالِهَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَرْضَى بِدُونِ صَدَاقِ الْمِثْلِ
؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَحَقِيقَتُهُ وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ
الْبُلُوغِ وَإِنَّ سُمِّيَ صَاحِبُهُ يَتِيمًا مَجَازًا فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ
دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ . وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْيَتِيمَةِ
الْبَالِغَةَ دُونَ الَّتِي لَمَّ تَبْلُغْ : فَهَذَا لَا يَسُوغُ حَمْلُ
اللَّفْظِ عَلَيْهِ بِحَالِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ بِنْتٍ يَتِيمَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبٌ ؛ وَلَا لَهَا
وَلِيٌّ إلَّا أَخُوهَا وَسِنُّهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ تَبْلُغْ
الْحُلُمَ ؛ وَقَدْ عَقَدَ عَلَيْهَا أَخُوهَا بِإِذْنِهَا : فَهَلْ يَجُوزُ
ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
هَذَا الْعَقْدُ صَحِيحٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
الْمَنْصُوصِ عَنْهُ فِي أَكْثَرِ أَجْوِبَتِهِ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا . لَكِنَّ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ
يَقُولُ : إذَا زُوِّجَتْ بِإِذْنِهَا وَإِذْنِ أَخِيهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا
الْخِيَارُ إذَا
بَلَغَتْ . وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ يَقُولُ : تُزَوَّجُ بِلَا إذْنِهَا وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ . وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا . ثُمَّ عَنْهُ رِوَايَةٌ : إنْ دَعَتْ حَاجَةٌ إلَى نِكَاحِهَا وَمِثْلُهَا يُوطَأُ جَازَ . وَقِيلَ : تُزَوَّجُ وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ . وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ : اتَّفَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهَا إذَا خِيفَ عَلَيْهَا الْفَسَادُ . وَالْقَوْلُ " الثَّالِثُ " وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : أَنَّهَا لَا تُزَوَّجُ حَتَّى تَبْلُغَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ وَجَدٌّ . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ يَجْبُرُ وَفِي نَفْسِهَا لَا إذْنَ لَهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ ؛ فَتَعَذَّرَ تَزْوِيجُهَا بِإِذْنِهَا وَإِذْنِ وَلَيِّهَا . و " الْقَوْلُ الْأَوَّلُ " أَصَحُّ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلَيِّهَا فَإِنْ كَانَ لَهَا مَالٌ وَجَمَالٌ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُقْسِطْ فِي صَدَاقِهَا ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا فَنُهِيَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِ عَنْ نِكَاحِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ . وَقَوْلُهُ : { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } يُفْتِيكُمْ وَنُفْتِيكُمْ فِي الْمُسْتَضْعَفِينَ . فَقَدْ أَخْبَرَتْ
عَائِشَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلَيِّهَا وَأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُ فِي تَزْوِيجِهَا إذَا أَقْسَطَ فِي صَدَاقِهَا وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهَا فِي حِجْرِهِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَحْجُورٌ عَلَيْهَا . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا } فَيَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِإِذْنِهَا وَمَنْعُهُ بِدُونِ إذْنِهَا . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ } وَلَوْ أُرِيدُ " بِالْيَتِيمِ " مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ : فَبِطَرِيقِ الْمَجَازِ ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعُمَّ مَا قَبْلَ الْبُلُوغِ وَمَا بَعْدَهُ . أَمَّا تَخْصِيصُ لَفْظِ " الْيَتِيمِ " بِمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ بِحَالِ ؛ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ الْمُمَيِّزَ يَصِحُّ لَفْظُهُ مَعَ إذْنِ وَلِيِّهِ كَمَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَكَمَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ : عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } الْآيَةَ . فَأَمَرَ بِالِابْتِلَاءِ قَبْلَ الْبُلُوغِ ؛ وَذَلِكَ قَدْ لَا يَأْتِي إلَّا بِالْبَيْعِ - وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ وَتَدْبِيرُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ - وَكَذَلِكَ إسْلَامُهُ ؛ كَمَا يَصِحُّ صَوْمُهُ وَصَلَاتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ . فَإِذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بِإِذْنِهَا مِنْ كُفُؤٍ جَازَ وَكَانَ هَذَا تَصَرُّفًا بِإِذْنِهَا وَهُوَ مَصْلَحَةٌ لَهَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ مُصَحِّحٌ لِتَصَرُّفِ الْمُمَيِّزِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ بِنْتٍ دُونَ الْبُلُوغِ وَحَضَرَ مَنْ يَرْغَبُ
فِي تَزْوِيجِهَا : فَهَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُزَوِّجَهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ الْخَاطِبُ لَهَا كُفُؤًا
جَازَ تَزْوِيجُهَا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
تُزَوَّجُ بِلَا أَمْرِهَا وَلَهَا الْخِيَارُ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَد . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ؛ إذَا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ
زُوِّجَتْ بِإِذْنِهَا وَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ . وَهُوَ ظَاهِرُ
مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا
تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ
وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي
وَغَيْرُهُمَا . وَتَزْوِيجُ "
الْيَتِيمَةِ " ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
قَالَ تَعَالَى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ
فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ
اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الْوِلْدَانِ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
الْيَتِيمَةِ الَّتِي يَرْغَبُ وَلِيُّهَا أَنْ يَنْكِحَهَا إذَا كَانَ لَهَا
مَالٌ وَلَا يَنْكِحَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ
حَتَّى يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي الصَّدَاقِ . فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ لِلْوَلِيِّ
أَنْ يُنْكِحَ الْيَتِيمَةَ ؛ إذَا أَصْدَقَهَا صَدَاقَ الْمِثْلِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ يَتِيمَةً صَغِيرَةً وَعَقَدَ
عَقْدَهَا الشَّافِعِيُّ الْمَذْهَبِ وَلَمْ تُدْرِكْ إلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ
بِشَهْرَيْنِ : فَهَلْ هَذَا الْعَقْدُ جَائِزٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا " الْيَتِيمَةُ " الَّتِي لَمْ
تَبْلُغْ قَبْلُ لَا يُجْبِرُهَا عَلَى تَزْوِيجِهَا غَيْرُ الْأَبِ . وَالْجَدِّ
. وَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالسُّلْطَانِ الَّذِي هُوَ الْحَاكِمُ أَوْ نُوَّابِ
الْحَاكِمِ فِي الْعُقُودِ : لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . "
أَحَدُهَا " لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ ؛
وَالْإِمَامُ أَحْمَد فِي رِوَايَةٍ . " وَالثَّانِي " يَجُوزُ
النِّكَاحُ بِلَا إذْنِهَا وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . و " الثَّالِثُ " أَنَّهَا
تُزَوَّجُ بِإِذْنِهَا ؛ وَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ . وَهَذَا هُوَ
الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد
. فَهَذِهِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ يَجُوزُ نِكَاحُهَا
فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَلَوْ زَوَّجَهَا
حَاكِمٌ يَرَى ذَلِكَ : فَهَلْ يَكُونُ تَزْوِيجَهُ
حُكْمًا
لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ ؟ أَوْ يَفْتَقِرُ إلَى حَاكِمٍ غَيْرِهِ يَحْكُمُ
بِصِحَّةِ ذَلِكَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
وَغَيْرِهِمَا : أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ . لَكِنَّ الْحَاكِمَ الْمُزَوِّجَ هنا
شَافِعِيٌّ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَلَّدَ قَوْلَ مَنْ يُصَحِّحُ هَذَا النِّكَاحَ
وَرَاعَى سَائِرَ شُرُوطِهِ وَكَانَ مِمَّنْ لَهُ ذَلِكَ : جَازَ . وَإِنْ كَانَ
قَدْ أَقْدَمَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ جَائِزٍ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ ظَنَّهَا بَالِغًا فَزَوَّجَهَا فَكَانَتْ غَيْرَ بَالِغٍ لَمْ
يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ قَدْ زَوَّجَهَا ؛ وَلَا يَكُونُ النِّكَاحُ صَحِيحًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَجَدَ صَغِيرَةً فَرَبَّاهَا فَلَمَّا
بَلَغَتْ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ لَهُ وَرُزِقَ مِنْهَا أَوْلَادًا ؛ ثُمَّ وُجِدَ
لَهَا أَخٌ بَعْدَ ذَلِكَ : فَهَلْ هَذَا النِّكَاحُ صَحِيحٌ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ لَهَا أَخٌ غَائِبٌ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً
وَلَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ حِينَئِذٍ لَهَا أَخٌ لِكَوْنِهَا ضَاعَتْ مِنْ أَهْلِهَا
حِينَ صِغَرِهَا إلَى مَا بَعْدَ النِّكَاحِ : لَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ
الْمَذْكُورُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ بِنْتٍ يَتِيمَةٍ وَقَدْ طَلَبَهَا رَجُلٌ وَكِيلٌ
عَلَى جِهَاتِ الْمَدِينَةِ وَزَوْجُ أُمِّهَا كَارِهٌ فِي الْوَكِيلِ . فَهَلْ
يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا عَمُّهَا وَأَخُوهَا بِلَا إذْنٍ مِنْهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْمَرْأَةُ الْبَالِغُ لَا
يُزَوِّجُهَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ بِغَيْرِ إذْنِهَا بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ لَا يُزَوِّجُهَا الْأَبُ إلَّا بِإِذْنِهَا فِي
أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ فِي أَصَحِّهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ وَلَا
الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ الْبِكْرَ
تَسْتَحِي ؟ قَالَ : إذْنُهَا صُمَاتُهَا } وَفِي لَفْظٍ { يَسْتَأْذِنُهَا
أَبُوهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا
} وَأَمَّا الْعَمُّ وَالْأَخُ فَلَا يُزَوِّجَانِهَا
بِغَيْرِ إذْنِهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَإِذَا رَضِيَتْ رَجُلًا وَكَانَ
كُفُؤًا لَهَا وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهَا - كَالْأَخِ ثُمَّ الْعَمِّ - أَنْ
يُزَوِّجَهَا بِهِ فَإِنْ عَضَلَهَا وَامْتَنَعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا زَوَّجَهَا
الْوَلِيُّ الْأَبْعَدُ مِنْهُ أَوْ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ ؛ فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى نِكَاحِ مَنْ لَا
تَرْضَاهُ ؛ وَلَا يَعْضُلُهَا عَنْ نِكَاحِ مَنْ تَرْضَاهُ إذَا كَانَ كُفُؤًا
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ وَإِنَّمَا يُجْبِرُهَا وَيَعْضُلُهَا أَهْلُ
الْجَاهِلِيَّةِ وَالظَّلَمَةُ الَّذِينَ يُزَوِّجُونَ نِسَاءَهُمْ لِمَنْ
يَخْتَارُونَهُ لِغَرَضِ ؛ لَا لِمَصْلَحَةِ الْمَرْأَةِ وَيُكْرِهُونَهَا عَلَى
ذَلِكَ أَوْ يُخْجِلُونَهَا حَتَّى تَفْعَلَ . وَيَعْضُلُونَهَا
عَنْ نِكَاحِ مَنْ يَكُونُ كُفُؤًا لَهَا لِعَدَاوَةِ
أَوْ
غَرَضٍ . وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَهُوَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
تَحْرِيمِهِ وَأَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى أَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي
مَصْلَحَةِ الْمَرْأَةِ ؛ لَا فِي أَهْوَائِهِمْ كَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ
وَالْوُكَلَاءِ مِمَّنْ تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ مَصْلَحَةَ مَنْ
تَصَرَّفَ لَهُ لَا يَقْصِدُ هَوَاهُ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْأَمَانَةِ الَّتِي
أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُؤَدَّى إلَى أَهْلِهَا فَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } وَهَذَا مِنْ النَّصِيحَةِ
الْوَاجِبَةِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ . قَالُوا
لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ
وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَقَعَدَتْ مَعَهُ
أَيَّامًا وَجَاءَ أُنَاسٌ ادَّعَوْا أَنَّهَا فِي مِلْكِهِمْ وَأَخَذُوهَا مِنْ
بَيْتِهِ وَنَهَبُوهُ ؛ وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا : فَهَلْ يَجُوزُ أَخْذُهَا وَهِيَ
حَامِلٌ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ يَبِنْ لِلزَّوْجِ
أَنَّهَا أَمَةٌ ؛ بَلْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا مُطْلَقًا كَمَا جَرَتْ بِهِ
الْعَادَةُ ؛ وَظَنَّ أَنَّهَا حُرَّةٌ ؛ وَقِيلَ لَهُ : إنَّهَا حُرَّةٌ : فَهُوَ
مَغْرُورٌ وَوَلَدُهُ مِنْهَا حُرٌّ ؛ لَا رَقِيقٌ . وَأَمَّا " النِّكَاحُ
" فَبَاطِلٌ إذَا لَمْ يُجِزْهُ السَّيِّدُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَإِنْ أَجَازَهُ السَّيِّدُ صَحَّ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي
إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ وَلَمْ يَصِحَّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ؛ بَلْ يَحْتَاجُ
إلَى
نِكَاحٍ جَدِيدٍ . وَأَمَّا إنْ ظَهَرَتْ حَامِلًا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ :
فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ ؛ وَلَا صَدَاقَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَدْخُلْ
بِهَا ؛ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بَلْ كُلُّ مَا
أُخِذَ مِنْ مَالِهِ رُدَّ إلَيْهِ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ تَزْوِيجِ الْمَمَالِيكِ بِالْجَوَارِي مِنْ غَيْرِ
عِتْقٍ إذَا كَانُوا لِمَالِكِ وَاحِدٍ ؟ وَمَنْ يَعْقِدُ طَرَفَيْ النِّكَاحَ فِي
الطَّرَفَيْنِ لَهُمَا ؟ وَلِأَوْلَادِهِمَا ؟ وَهَلْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَسَرَّى
بِهِنَّ ؟
فَأَجَابَ
:
تَزْوِيجُ الْمَمَالِيكِ بِالْإِمَاءِ جَائِزٌ سَوَاءٌ
كَانُوا لِمَالِكِ وَاحِدٍ أَوْ لِمَالِكَيْنِ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى الرِّقِّ .
وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ . وَاَلَّذِي
يُزَوِّجُ الْأَمَةَ سَيِّدُهَا أَوْ وَكِيلُهُ . وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ فَهُوَ
يَقْبَلُ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ كَبِيرًا أَوْ يَقْبَلُ لَهُ وَكِيلُهُ
. وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَسَيِّدُهُ يَقْبَلُ لَهُ . فَإِذَا كَانَ الزَّوْجَانِ
لَهُ قَالَ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ : زَوَّجْت مَمْلُوكِي فُلَانٌ بِأَمَتِي
فُلَانَةٍ وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِذَلِكَ . وَأَمَّا الْعَبْدُ الْبَالِغُ :
فَهَلْ لِسَيِّدِهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَيُكْرِهَهُ عَلَى ذَلِكَ
؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ " أَحَدُهُمَا " لَا يَجُوزُ وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . " وَالثَّانِي " يُجْبِرُهُ وَهُوَ
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَالْأَمَةُ فِي الْمَمْلُوكِ الصَّغِيرِ يُزَوِّجُهُمَا
بِغَيْرِ إذْنِهِمَا بِالِاتِّفَاقِ
.
وَأَمَّا
" الْأَوْلَادُ "
فَهُمْ تَبَعٌ لِأُمِّهِمْ فِي " الْحُرِّيَّةِ
وَالرِّقِّ " وَهُمْ تَبَعٌ لِأَبِيهِمْ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . فَمَنْ كَانَ سَيِّدَ الْأُمِّ كَانَ أَوْلَادُهَا لَهُ
سَوَاءً وُلِدُوا مِنْ زَوْجٍ أَوْ مِنْ زِنًا . كَمَا أَنَّ الْبَهَائِمَ مِنْ
الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْحَمِيرِ إذَا نَزَا ذَكَرُهَا عَلَى أُنْثَاهَا كَانَ
الْأَوْلَادُ لِمَالِكِ الْأُمِّ . وَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ مُعْتَقَةً أَوْ
حُرَّةَ الْأَصْلِ وَالْأَبُ مَمْلُوكًا كَانَ الْأَوْلَادُ أَحْرَارًا . وَأَمَّا
" النَّسَبُ " فَإِنَّهُمْ يَنْتَسِبُونَ إلَى أَبِيهِمْ . وَإِذَا كَانَ
الْأَبُ عَتِيقًا وَالْأُمُّ عَتِيقَةً كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إلَى مَوَالِي
الْأَبِ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَمْلُوكًا انْتَسَبُوا إلَى مَوَالِي الْأُمِّ
فَإِنْ عَتَقَ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ انْجَرَّ الْوَلَاءُ مِنْ مَوَالِي الْأُمِّ
إلَى مَوَالِي الْأَبِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَمَنْ كَانَ
مَالِكًا لِلْأُمِّ مَلَكَ أَوْلَادَهَا وَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى
بِالْبَنَاتِ مِنْ أَوْلَادِ إمَائِهِ ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ يَسْتَمْتِعُ بِالْأُمِّ
فَإِنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِبَنَاتِهَا ؛ فَإِنْ اسْتَمْتَعَ بِالْأُمِّ فَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِبَنَاتِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ شَرِيفٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِيَ بِكْرٌ
بَالِغٌ لِرَجُلِ غَيْرِ شَرِيفٍ مَغْرِبِيٍّ مَعْرُوفٍ بَيْنَ النَّاسِ
بِالصَّلَاحِ بِرِضَا ابْنَتِهِ وَإِذْنِهَا وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهَا الْأَبُ
بِالرِّضَا : فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي الْعَقْدِ أَمْ لَا ؟ مَعَ
اسْتِمْرَارِ الزَّوْجَةِ بِالرِّضَا وَذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ
وَقَدَحَ قَادِحٌ فَأَشْهَدَتْ الزَّوْجَةُ أَنَّ الرِّضَا وَالْإِذْنَ صَدَرَا
مِنْهَا : فَهَلْ يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ ؟
فَأَجَابَ
: لَا تَفْتَقِرُ صِحَّةُ النِّكَاحِ إلَى الْإِشْهَادِ عَلَى إذْنِ الْمَرْأَةِ
قَبْلَ النِّكَاحِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا وَجْهًا ضَعِيفًا فِي
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ بَلْ قَالَ : إذَا قَالَ الْوَلِيُّ :
أَذِنَتْ لِي جَازَ عَقْدُ النِّكَاحِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْوَلِيِّ
وَالزَّوْجِ . ثُمَّ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَنْكَرَتْ : فَالنِّكَاحُ
ثَابِتٌ . هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ .
وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إذَا
لَمْ تَأْذَنْ حَتَّى عُقِدَ النِّكَاحُ جَازَ وَتُسَمَّى : " مَسْأَلَةُ
وَقْفِ الْعُقُودِ "
كَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا تَزَوَّجَ بِدُونِ إذْنِ
مَوَالِيهِ ؛ فَهُوَ عَلَى هَذَا النِّزَاعِ . أَمَّا " الْكَفَاءَةُ فِي
النَّسَبِ " فَالنَّسَبُ مُعْتَبَرٌ عِنْد مَالِكٍ . أَمَّا عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : فَهِيَ
حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ فَإِذَا رَضُوا بِدُونِ كُفْءٍ جَازَ وَعِنْدَ
أَحْمَد هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ فَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ مَعَ فِرَاقِهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَةَ أَخِيهِ مِنْ ابْنِهِ
وَالزَّوْجُ فَاسِقٌ لَا يُصَلِّي وَخَوَّفُوهَا حَتَّى أَذِنَتْ فِي النِّكَاحِ
وَقَالُوا : إنْ لَمْ تَأْذَنِي وَإِلَّا زَوَّجَك الشَّرْعُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِك
وَهُوَ الْآنَ يَأْخُذُ مَالَهَا ؛ وَيَمْنَعُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا لِكَشْفِ
حَالِهَا : كَأُمِّهَا وَغَيْرِهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ لِلْعَمِّ وَلَا غَيْرِهِ
مِنْ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ بِغَيْرِ كُفْءٍ إذَا لَمْ
تَكُنْ رَاضِيَةً بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ
اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ
مِثْلِ ذَلِكَ ؛ بَلْ لَوْ رَضِيَتْ هِيَ بِغَيْرِ كُفْءٍ كَانَ لِوَلِيِّ آخَرَ
غَيْرَ الْمُزَوِّجِ أَنْ يَفْسَخَ النِّكَاحَ ؛ وَلَيْسَ لِلْعَمِّ أَنْ يُكْرِهَ
الْمَرْأَةَ الْبَالِغَةَ عَلَى النِّكَاحِ بِكُفْءِ . فَكَيْفَ إذَا أَكْرَهَهَا
عَلَى التَّزْوِيجِ بِغَيْرِ كُفْءٍ بَلْ لَا يُزَوِّجُهَا إلَّا بِمَنْ تَرْضَاهُ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِذَا قَالَ لَهَا : إنْ لَمْ تَأْذَنِي وَإِلَّا
زَوَّجَك الشَّرْعَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِك . فَأَذِنَتْ بِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ
هَذَا الْإِذْنُ وَلَا النِّكَاحُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الشَّرْعَ
لَا يُمَكِّنُ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ إجْبَارِ الصَّغِيرَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ
؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي " الْأَبِ وَالْجَدِّ " فِي
الْكَبِيرَةِ وَفِي الصَّغِيرَةِ مُطْلَقًا . وَإِذَا تَزَوَّجَهَا بِنِكَاحِ
صَحِيحٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِمَا يَجِبُ لَهَا وَلَا يَتَعَدَّى
عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا وَلَا مَالِهَا . وَمَا أَخَذَهُ مِنْ ذَلِكَ ضَمِنَهُ
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يَكْشِفُ حَالَهَا إذَا اشْتَكَتْ بَلْ إمَّا
أَنْ يُمَكِّنَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَيَكْشِفُ حَالَهَا : كَالْأُمِّ وَغَيْرِهَا
. وَإِمَّا أَنْ تُسَكَّنَ بِجَنْبِ جِيرَانٍ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالدِّينُ
يَكْشِفُونَ حَالَهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَبْدٌ وَقَدْ حَبَسَ نَفْسَهُ
وَقَصَدَ الزَّوَاجَ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ لَهُ التَّزَوُّجُ عَلَى أَصْلِ مَنْ يُجْبِرُ
السَّيِّدُ عَلَى تَزْوِيجِهِ كَمَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ عَلَى أَحَدِ
قَوْلَيْهِ ؛ فَإِنَّ تَزْوِيجَهُ كَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا
إلَى ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } فَأَمَرَ بِتَزْوِيجِ
الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ كَمَا أَمَرَ بِتَزْوِيجِ الْأَيَامَى . وَتَزْوِيجُ
الْأَمَةِ إذَا طَلَبَتْ النِّكَاحَ مِنْ كُفْءٍ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ
وَاَلَّذِي يَأْذَنُ لَهُ فِي النِّكَاحِ مَالِكُ نِصْفَهُ أَوْ وَكِيلُهُ
وَنَاظِرُ النَّصِيبِ الْمُحْبَسِ
.
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ عَتِيقَةَ بَعْضِ بَنَاتِ
الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الرَّقِيقَ مِنْ مَالِهِمْ وَمَالِ
الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ إذْنِ مُعْتِقِهَا : فَهَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا إذَا أَعْتَقَهَا مِنْ مَالِهَا عِتْقًا
شَرْعِيًّا فَالْوِلَايَةُ لَهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ الَّتِي تَرِثُهَا
ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَاتِهَا مِنْ بَعْدِهَا .
وَأَمَّا
تَزْوِيجُ هَذِهِ "
الْعَتِيقَةِ " بِدُونِ إذْنِ الْمُعْتِقَةِ ؟
فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ
إذْنَ الْوَلِيِّ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
يَقُولُ بِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ يَصِحُّ عِنْدَهُ ؛ لَكِنْ مَنْ يَشْتَرِطُ
إذْنَ الْوَلِيِّ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَهُمْ قَوْلَانِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد " إحْدَاهُمَا "
أَنَّهَا لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِ الْمُعْتِقَةِ فَإِنَّهَا عَصَبَتُهَا .
وَعَلَى هَذَا : فَهَلْ لِلْمَرْأَةِ نَفْسِهَا أَنْ تُزَوِّجَهَا ؟ عَلَى
قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . و " الثَّانِي " أَنَّ
تَزْوِيجَهَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ الْمُعْتِقَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ
وَلِيَّةً لِنَفْسِهَا فَلَا تَكُونُ وَلِيَّةً لِغَيْرِهَا ؛ وَلِأَنَّهُ لَا
يَجُوزُ تَزَوُّجُهَا عِنْدَهُمْ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِهَا فَعَلَى هَذَا
يُزَوِّجُ هَذِهِ الْمُعْتِقَةِ مَنْ يُزَوِّجُ مُعْتَقِهَا بِإِذْنِ الْعَتِيقَةِ
: مِثْلُ أَخ الْمُعْتِقَةِ وَنَحْوِهِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ وِلَايَةِ
النِّكَاحِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا وَزَوَّجَهَا الْحَاكِمُ جَازَ ؛
وَإِلَّا فَلَا . وَإِنْ كَانُوا أَهْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْوَلَاءُ
لَهُمْ وَالْحَاكِمُ يُزَوِّجُهَا
.
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَة فَسُئِلَ عَنْ نَفَقَتِهِ ؟
فَقِيلَ لَهُ : مِنْ الْجِهَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ شَيْءٌ فَأَبَى الْوَلِيُّ
تَزْوِيجَهَا فَذَكَرَ الْخَاطِبُ أَنَّ فُقَهَاءَ الْحَنَفِيَّةِ جَوَّزُوا
تَنَاوُلَ ذَلِكَ : فَهَلْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَحَدٌ فِي جَوَازِ تَنَاوُلِهِ مِنْ
الْجِهَاتِ ؟ وَهَلْ لِلْوَلِيِّ الْمَذْكُورِ دَفْعُ الْخَاطِبِ بِهَذَا
السَّبَبِ مَعَ رِضَاءِ الْمَخْطُوبَةِ ؟
فَأَجَابَ
: أَمَّا الْفُقَهَاءُ الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ يُفْتَى بِقَوْلِهِمْ فَلَمْ
يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ جَوَازَ ذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ فِي أَوَائِلِ الدَّوْلَةِ
" السَّلْجُوقِيَّةِ "
أَفْتَى طَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ بِجَوَازِ ذَلِكَ وَحَكَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي
" كِتَابِهِ " إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَقَدْ
كَانَ " نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ الشَّهِيدُ التُّرْكِيُّ " قَدْ
أَبْطَلَ جَمِيعَ الْوَظَائِفِ الْمُحْدَثَةِ بِالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ .
وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ وَكَانَ أَعْرَفَ النَّاسِ بِالْجِهَادِ . وَهُوَ الَّذِي
أَقَامَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ اسْتِيلَاءِ " الْإِفْرِنْجِ وَالْقَرَامِطَةِ
" عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَمَنْ فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُ حُكْمَهُ
مُتَأَوِّلًا تَأْوِيلًا سَائِغًا -
لَا سِيَّمَا مَعَ حَاجَتِهِ - لَمْ يُجْعَلْ فَاسِقًا
بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ بِكُلِّ حَالٍ فَالْوَلِيُّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ
مُوَلِّيَتَهُ مِمَّنْ يَتَنَاوَلُ مِثْلَ هَذَا الرِّزْقِ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ
حَرَامًا ؛ لَا سِيَّمَا أَنَّ رِزْقَهَا مِنْهُ فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ
يُطْعِمُهَا مَنْ غَيْرِهِ أَوْ تَأْكُلُ هِيَ مَنْ غَيْرِهِ : فَلَهُ أَنْ
يُزَوِّجَهَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُتَأَوِّلًا فِيمَا يَأْكُلُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ لِشَخْصِ وَلَمْ يَعْلَمْ
مَا هُوَ عَلَيْهِ فَأَقَامَ فِي صُحْبَةِ الزَّوْجَةِ سِنِينَ فَعَلِمَ
الْوَلِيُّ وَالزَّوْجَةُ مَا الزَّوْجُ عَلَيْهِ : مِنْ النَّجَسِ وَالْفَسَادِ
وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْكَذِبِ وَالْأَيْمَانِ الْخَائِنَةِ فَبَانَتْ
الزَّوْجَةُ مِنْهُ بِالثَّلَاثِ : فَهَلْ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ الْإِقْدَامُ عَلَى
تَزْوِيجِهِ أَمْ لَا ؟ ثُمَّ إنَّ الْوَلِيَّ استتوب الزَّوْجَ مِرَارًا
عَدِيدَةً وَنَكَثَ وَلَمْ يَرْجِعْ
: فَهَلْ يَحِلُّ تَزْوِيجُهَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْفِسْقِ فَإِنَّهُ لَا
يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ تَزْوِيجُهَا لَهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَنَّ
زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ فَاجِرٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا . لَكِنْ إنْ عَلِمَ
أَنَّهُ تَابَ فَتُزَوَّجُ بِهِ إذَا كَانَ كُفُؤًا لَهَا وَهِيَ رَاضِيَةٌ بِهِ .
وَأَمَّا " نِكَاحُ التَّحْلِيلِ " فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ
وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } . وَلَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى نِكَاحِ التَّحْلِيلِ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ " الرَّافِضَةِ " هَلْ تُزَوَّجُ ؟
فَأَجَابَ
:
الرَّافِضَةُ الْمَحْضَةُ هُمْ أَهْلُ أَهْوَاءٍ
وَبِدَعٍ وَضَلَالٍ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ
مِنْ رافضي وَإِنْ تَزَوَّجَ هُوَ رافضية صَحَّ النِّكَاحُ إنْ كَانَ يَرْجُو أَنْ
تَتُوبَ وَإِلَّا فَتَرْكُ نِكَاحِهَا أَفْضَلُ لِئَلَّا تُفْسِدَ عَلَيْهِ
وَلَدَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرافضي وَمَنْ يَقُولُ لَا تَلْزَمُهُ
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ : هَلْ يَصِحُّ نِكَاحُهُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ؟
فَإِنْ تَابَ مِنْ الرَّفْضِ وَلَزِمَ الصَّلَاةَ حِينًا ثُمَّ عَادَ لِمَا كَانَ
عَلَيْهِ : هَلْ يُقَرُّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ النِّكَاحِ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُنْكِحَ مُوَلِّيَتَهُ
رافضيا وَلَا مَنْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ . وَمَتَى زَوَّجُوهُ عَلَى أَنَّهُ
سُنِّيٌّ فَصَلَّى الْخَمْسَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ رافضي لَا يُصَلِّي أَوْ عَادَ
إلَى الرَّفْضِ وَتَرَكَ الصَّلَاةَ :
فَإِنَّهُمْ يَفْسَخُونَ النِّكَاحَ .
بَابُ
الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ
قَاعِدَةٌ فِي الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ نَسَبًا
وَصِهْرًا
سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : عَنْ
بَيَانِهَا مُخْتَصِرًا ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ،
أَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ " بِالنَّسَبِ " فَالضَّابِطُ فِيهِ أَنَّ جَمِيعَ
أَقَارِبِ الرَّجُلِ مِنْ النَّسَبِ حَرَامٌ عَلَيْهِ ؛ إلَّا بَنَاتَ أَعْمَامِهِ
؛ وَأَخْوَالِهِ وَعَمَّاتِهِ وَخَالَاتِهِ . وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ
هُنَّ اللَّاتِي أَحَلَّهُنَّ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ
اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ
خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ
نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً
لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } الْآيَةَ . فَأَحَلَّ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النِّسَاءِ أَجْنَاسًا أَرْبَعَةً ؛
وَلَمْ يَجْعَلْ خَالِصًا لَهُ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إلَّا الْمَوْهُوبَةَ ؛
الَّتِي تَهَبُ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ؛ فَجَعَلَ هَذِهِ مِنْ خَصَائِصِهِ : لَهُ
أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَوْهُوبَةَ بِلَا مَهْرٍ وَلَيْسَ هَذَا لِغَيْرِهِ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . بَلْ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَسْتَحِلَّ بُضْعَ
امْرَأَةٍ إلَّا مَعَ وُجُوبِ مَهْرٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ
مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } . وَاتَّفَقَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يُقَدِّرْ لَهَا مَهْرًا
: صَحَّ النِّكَاحُ وَوَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ إذَا دَخَلَ بِهَا ؛ وَإِنْ
طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لَهَا مَهْرٌ ؛ بَلْ
لَهَا الْمُتْعَةُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَإِنْ مَاتَ عَنْهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ . وَهِيَ " مَسْأَلَةُ { بروع بِنْتِ وَاشِقٍ الَّتِي اُسْتُفْتِيَ عَنْهَا ابْنُ مَسْعُودٍ شَهْرًا ثُمَّ قَالَ : أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي ؛ فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ ؛ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ : لَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ . فَقَامَ رِجَالٌ مِنْ أَشْجَعَ فَقَالُوا : نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بروع بِنْتِ وَاشِقٍ بِمِثْلِ مَا قَضَيْت بِهِ فِي هَذِهِ } قَالَ عَلْقَمَةُ : فَمَا رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ فَرِحَ بِشَيْءِ كَفَرَحِهِ بِذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي أَجَابَ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ هُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ . وَتَنَازَعُوا فِي " النِّكَاحِ إذَا شُرِطَ فِيهِ نَفْيُ الْمَهْرِ " هَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : " أَحَدُهُمَا " يَبْطُلُ النِّكَاحُ كَقَوْلِ مَالِكٍ . و " الثَّانِي " يَصِحُّ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ : هُوَ " نِكَاحُ الشَّغَارِ " الَّذِي أَبْطَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ نَفَى فِيهِ الْمَهْرَ وَجَعَلَ الْبُضْعَ مَهْرًا لِلْبُضْعِ . وَهَذَا تَعْلِيلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كَلَامِهِ ؛ وَهَذَا تَعْلِيلُ أَكْثَرِ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ . وَالْآخَرُونَ : مِنْهُمْ مَنْ يُصَحِّحُ نِكَاحَ الشِّغَارِ كَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَقَوْلُهُ أَقْيَسُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ؛ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَبْطَلُوا نِكَاحَ الشِّغَارِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُبْطِلُهُ
وَيُعَلِّلُ الْبُطْلَانَ إمَّا بِدَعْوَى التَّشْرِيكِ فِي الْبُضْعِ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِلَلِ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ . " وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ " أَشْبَهُ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ مَعَ الْمَهْرِ بِلَفْظِ " التَّمْلِيكِ " و " الْهِبَةِ " وَغَيْرِهِمَا : فَجَوَّزَ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ ؛ كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ نُصُوصُ أَحْمَد ؛ وَكَلَامُ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ . وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد كَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُمَا ؛ وَلَمْ أَعْلَمِ أَحَدًا قَالَ هَذَا قَبْلَ ابْنِ حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِنِكَاحِ الْمَوْهُوبَةِ بِقَوْلِهِ : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَائِرَ مَا أَحَلَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَالٌ لِأُمَّتِهِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } فَلَمَّا أَحَلَّ امْرَأَةَ الْمُتَبَنِّي لَا سِيَّمَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ ذَلِكَ إحْلَالًا لِلْمُؤْمِنِينَ : دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِحْلَالَ لَهُ إحْلَالٌ لِأُمَّتِهِ وَقَدْ أَبَاحَ لَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الْخَالِ وَالْخَالَاتِ وَتَخْصِيصُهُنَّ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ مَا سِوَاهُنَّ ؛ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } أَيْ مِنْ بَعْدِ هَؤُلَاءِ
اللَّاتِي أَحْلَلْنَاهُنَّ لَك وَهُنَّ الْمَذْكُورَاتُ فِي قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ } فَدَخَلَ فِي " الْأُمَّهَاتِ " أُمُّ أَبِيهِ وَأُمُّ أُمِّهِ وَإِنْ عَلَتْ بِلَا نِزَاعٍ أَعْلَمُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ دَخَلَ فِي " الْبَنَاتِ " بِنْتُ ابْنِهِ وَبِنْتُ ابْنِ ابْنَتِهِ وَإِنْ سَفَلَتْ بِلَا نِزَاعٍ أَعْلَمُهُ . وَكَذَلِكَ دَخَلَ فِي " الْأَخَوَاتِ " الْأُخْتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَالْأَبُ وَالْأُمِّ . وَدَخَلَ فِي " الْعَمَّاتِ " و " الْخَالَاتِ " عَمَّاتُ الْأَبَوَيْنِ وَخَالَاتُ الْأَبَوَيْنِ . وَفِي " بَنَاتِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ " وَلَدُ الْإِخْوَةِ وَإِنْ سَفُلْنَ فَإِذَا حَرُمَ عَلَيْهِ أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ وَفُرُوعُ أُصُولِهِ الْبَعِيدَةِ ؛ دُونَ بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الْخَالِ وَالْخَالَاتِ . وَأَمَّا " الْمُحَرَّمَاتُ بِالصِّهْرِ " فَيَقُولُ : كُلُّ نِسَاءِ الصِّهْرِ حَلَالٌ لَهُ إلَّا أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ بِخِلَافِ الْأَقَارِبِ . فَأَقَارِبُ الْإِنْسَانِ كُلُّهُنَّ حَرَامٌ ؛ إلَّا أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ . وَأُقَارِبُ الزَّوْجَيْنِ كُلُّهُنَّ حَلَالٌ ؛ إلَّا أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ وَهُنَّ حَلَائِلُ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَبَنَاتُهُنَّ . فَيَحْرُمُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ أُصُولُ الْآخَرِ وَفُرُوعُهُ . وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أُمُّ امْرَأَتِهِ ؛ وَأُمُّ أُمِّهَا وَأَبِيهَا وَإِنْ عَلَتْ . وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنْتُ امْرَأَتِهِ وَهِيَ الرَّبِيبَةُ وَبِنْتُ بِنْتِهَا وَإِنْ سَفَلَتْ وَبِنْتُ الرَّبِيبِ أَيْضًا حَرَامٌ ؛ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْمَشْهُورُونَ : الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا . وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَإِنْ عَلَا ؛ وَامْرَأَةِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ . فَهَؤُلَاءِ " الْأَرْبَعَةُ " هُنَّ الْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ وَكُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ
يَكُونُ أَقَارِبُ الْآخَرِ أَصْهَارًا لَهُ وَأَقَارِبُ الرَّجُلِ أَحْمَاءُ الْمَرْأَةِ ؛ وَأَقَارِبُ الْمَرْأَةِ أَخْتَانُ الرَّجُلِ . وَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ ؛ إلَّا الرَّبِيبَةَ فَإِنَّهَا لَا تَحْرُمُ حَتَّى يَدْخُلَ بِأُمِّهَا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ هَذَا الشَّرْطَ إلَّا فِي الرَّبِيبَةِ وَالْبَوَاقِي أَطْلَقَ فِيهِنَّ التَّحْرِيمَ . فَلِهَذَا قَالَ الصَّحَابَةُ : أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ . وَعَلَى هَذَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا بَنَاتُ هَاتَيْنِ وَأُمَّهَاتُهُمَا فَلَا يَحْرُمْنَ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ امْرَأَةِ أَبِيهِ وَابْنِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ حَلَائِلِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ فَإِنَّ " الْحَلِيلَةَ " هِيَ الزَّوْجَةُ . وَبِنْتُ الزَّوْجَةِ وَأُمُّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً ؛ بِخِلَافِ الرَّبِيبَةِ فَإِنَّ وَلَدَ الرَّبِيبِ رَبِيبٌ ؛ كَمَا أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ وَلَدٌ وَكَذَلِكَ أُمُّ أُمِّ الزَّوْجَةِ أُمٌّ لِلزَّوْجَةِ وَبِنْتُ أُمِّ الزَّوْجَةِ لَمْ تَحْرُمْ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ أُمًّا . فَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : بَنَاتُ الْمُحَرَّمَاتِ مُحَرَّمَاتٌ ؛ إلَّا بَنَاتُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَحَلَائِلُ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ . فَجَعَلَ بِنْتَ الرَّبِيبَةِ مُحَرَّمَةً ؛ دُونَ بَنَاتِ الثَّلَاثَةِ . وَهَذَا مِمَّا لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا . وَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً بِمَا يَعْتَقِدُهُ نِكَاحًا فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَيَثْبُتُ فِيهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا أَعْلَمُ ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا عِنْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ : مِثْلُ الْكَافِرِ إذَا تَزَوَّجَ نِكَاحًا مُحَرَّمًا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ هَذَا يَلْحَقُهُ فِيهِ النَّسَبُ وَتَثْبُتُ بِهِ الْمُصَاهَرَةُ . فَيَحْرُمُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُصُولُ الْآخَرِ وَفُرُوعُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ كُلُّ وَطْءٍ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَيْسَ حَرَامًا وَهُوَ حَرَامٌ : مِثْلَ
مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا وَطَلَّقَهَا وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ لِخَطَئِهِ أَوْ لِخَطَأِ مَنْ أَفْتَاهُ فَوَطِئَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَجَاءَهُ وَلَدٌ : فَهُنَا يَلْحَقُهُ النَّسَبُ وَتَكُونُ هَذِهِ مَدْخُولًا بِهَا : فَتَحْرُمُ ؛ وَإِنْ كَانَتْ لَهَا أُمٌّ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . فَالْكُفَّارُ إذَا تَزَوَّجَ أَحَدُهُمْ امْرَأَةً نِكَاحًا يَرَاهُ فِي دِينِهِ وَأَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُهُ - كَمَا جَرَى لِلْعَرَبِ الَّذِينَ أَسْلَمَ أَوْلَادُهُمْ وَكَمَا يَجْرِي فِي هَذَا الزَّمَانِ كَثِيرًا - فَهَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ ابْنِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ نِكَاحُهَا فَاسِدًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . فَالنَّسَبُ يَتْبَعُ بِاعْتِقَادِ الْوَطْءِ لِلْحِلِّ ؛ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِهِ . وَالْمُصَاهَرَةُ تَتْبَعُ النَّسَبَ . فَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ فَالْمُصَاهَرَةُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَكَذَلِكَ " حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ " يَتْبَعُ اعْتِقَادَ أَبِيهِ ؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أَبَاهُ فِي " النَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ " وَيَتْبَعُ أُمَّهُ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَيَتْبَعُ فِي الدِّينِ خَيْرَهُمَا دِينًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . فَمَنْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحِ أَوْ زِنًا كَانَ وَلَدُهُ مَمْلُوكًا لِسَيِّدِهَا ؛ وَإِنْ اشْتَرَاهَا مِمَّنْ ظَنَّ أَنَّهُ مَالِكٌ لَهَا أَوْ تَزَوَّجَهَا يَظُنُّهَا حُرَّةً فَهَذَا يُسَمَّى " الْمَغْرُورَ " وَوَلَدُهَا حُرٌّ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يَطَأُ مَنْ يَصِيرُ الْوَلَدُ بِوَطْئِهَا حُرًّا فَالنَّسَبُ وَالْحُرِّيَّةُ يَتْبَعُ اعْتِقَادَ الْوَاطِئِ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا ؛ فَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الزِّنَا الْمَحْضِ هَلْ يَنْشُرُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . التَّحْرِيمُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَالْجَوَازُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ كَانَ لَهُ سُرِّيَّةٌ بِكِتَابِ ؛ ثُمَّ
تُوُفِّيَ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ ؛ وَلَهُ ابْنُ ابْنٍ وَقَدْ تَزَوَّجَ
سُرِّيَّةَ جَدِّهِ الْمَذْكُورِ
: فَهَلْ يَحِلُّ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُ سُرِّيَّةِ جَدِّهِ الَّتِي
كَانَ يَطَؤُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا تَزَوَّجَهَا فُرِّقَ
بَيْنَهُمَا ؛ وَلَا يَحِلُّ إبْقَاؤُهُ مَعَهَا ؛ وَإِنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ
اُسْتُتِيبَ ثَلَاثًا فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ .
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا تَحْرِيمُ " الْجَمْعِ " فَلَا
يَجْمَعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ؛ وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ
وَعَمَّتِهَا ؛ وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا . لَا تُنْكَحُ الْكُبْرَى
عَلَى الصُّغْرَى ؛ وَلَا الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَهَى عَنْ ذَلِكَ ؛ فَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ
قَطَعْتُمْ بَيْنَ أَرْحَامِكُمْ } . وَلَوْ رَضِيَتْ إحْدَاهُمَا بِنِكَاحِ
الْأُخْرَى عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ ؛ فَإِنَّ الطَّبْعَ يَتَغَيَّرُ ؛ وَلِهَذَا
لَمَّا { عَرَضَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا ؛ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَتْ :
لَسْت
لَك بِمُخَلِّيَةِ وَأَحَقُّ مَنْ شَرِكَنِي فِي الْخَيْرِ أُخْتِي فَقَالَ :
إنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي . فَقِيلَ لَهُ : إنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّك نَاكِحٌ
دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ : لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي
حِجْرِي لَمَا حَلَّتْ لِي . فَإِنَّهَا بِنْتُ أَخِي مِنْ الرِّضَاعِ
أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا أَبَا سَلَمَةَ ثويبة أَمَةُ أَبِي لَهَبٍ فَلَا
تَعْرِضُنَّ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ } وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ .
و " الضَّابِطُ " فِي هَذَا : أَنَّ كُلَّ
امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ مُحَرَّمٍ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ
بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا ذَكَرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ
التَّزَوُّجُ بِالْأُخْرَى ؛ لِأَجْلِ النَّسَبِ . فَإِنَّ الرَّحِمَ الْمُحَرَّمَ
لَهَا " أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ "
حُكْمَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا . وَحُكْمَانِ
مُتَنَازَعٌ فِيهِمَا فَلَا يَجُوزُ مِلْكُهُمَا بِالنِّكَاحِ وَلَا وَطْؤُهُمَا .
فَلَا يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ ذَاتَ رَحِمَهُ الْمُحَرَّمِ ؛ وَلَا يَتَسَرَّى
بِهَا . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؛ بَلْ هُنَا يَحْرُمُ مِنْ الرِّضَاعِ مَا
يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ ؛ فَلَا تَحِلُّ لَهُ بِنِكَاحِ ؛ وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ ؛
وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ النِّكَاحِ فَلَا
يَجْمَعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ؛ وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ
الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا . وَهَذَا أَيْضًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَيَجُوزُ لَهُ
أَنْ يَمْلِكَهُمَا ؛ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّاهُمَا . فَمَنْ حَرَّمَ جَمْعَهُمَا
فِي النِّكَاحِ حَرَّمَ جَمْعَهُمَا فِي التَّسَرِّي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَتَسَرَّى الْأُخْتَيْنِ وَلَا الْأَمَةَ وَعَمَّتَهَا ؛ وَالْأَمَةَ وَخَالَتَهَا
. وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ ؛
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا
يَتَسَرَّى مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنَسَبِ أَوْ رَضَاعٍ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا
فِي الْجَمْعِ فَتَوَقَّفَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فِيهَا وَقَالَ : أَحَلَّتْهُمَا
آيَةٌ ؛ وَحَرَّمَتْهُمَا
آيَةٌ وَظَنَّ أَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ قَدْ يَكُونُ كَتَحْرِيمِ الْعَدَدِ ؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى مَا شَاءَ مِنْ الْعَدَدِ وَلَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِأَرْبَعِ . فَهَذَا تَحْرِيمٌ عَارِضٌ وَهَذَا عَارِضٌ بِخِلَافِ تَحْرِيمِ النَّسَبِ وَالصِّهْرِ فَإِنَّهُ لَازِمٌ ؛ وَلِهَذَا تَصِيرُ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِهَذَا وَلَا تَصِيرُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِذَلِكَ ؛ بَلْ أُخْتُ امْرَأَتِهِ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ لَا يَخْلُو بِهَا وَلَا يُسَافِرُ بِهَا كَمَا لَا يَخْلُو بِمَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ مِنْ النِّسَاءِ ؛ لِتَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَى الْعَدَدِ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَطَعُوا بِالتَّحْرِيمِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . قَالُوا : لِأَنَّ كُلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ بِمِلْكِ النِّكَاحِ حَرَّمَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَآيَةُ التَّحْلِيلِ وَهِيَ قَوْلُهُ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } إنَّمَا أُبِيحَ فِيهَا جِنْسُ الْمَمْلُوكَاتِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهَا مَا يُبَاحُ وَيَحْرُمُ مِنْ التَّسَرِّي كَمَا لَمْ يُذْكَرْ مَا يُبَاحُ وَيَحْرُمُ مِنْ الْمَمْهُورَاتِ وَالْمَرْأَةُ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً وَمُحْرِمَةً وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً أَوْ سُرِّيَّةً . وَتَحْرِيمُ الْعَدَدِ كَانَ لِأَجْلِ وُجُوبِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ فِي الْقِسْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } أَيْ : لَا تَجُورُوا فِي الْقَسْمِ هَكَذَا قَالَ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ . وَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ لَا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ . وَقَالُوا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ . وَغَلِطَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لَفْظًا وَمَعْنًى . أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ يُقَالُ : عَالَ يَعُولُ إذَا جَارَ . وَعَالَ يُعِيلُ إذَا افْتَقَرَ . وَأَعَالَ يُعِيلُ إذَا كَثُرَ عِيَالُهُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { تَعُولُوا } لَمْ يَقُلْ : تُعِيلُوا . وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّ كَثْرَةَ النَّفَقَةِ وَالْعِيَالِ يَحْصُلُ بِالتَّسَرِّي كَمَا يَحْصُلُ بِالزَّوْجَاتِ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ أَبَاحَ
مِمَّا مَلَكَتْ الْيَمِينُ مَا شَاءَ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِ عَدَدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَاتِ لَا يَجِبُ لَهُنَّ قَسْمٌ وَلَا يَسْتَحْقِقْنَ عَلَى الرَّجُلِ وَطْئًا ؛ وَلِهَذَا يَمْلِكُ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا كَأُمِّ امْرَأَتِهِ وَبِنْتِهَا وَأُخْتِهِ وَابْنَتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ وَلَوْ كَانَ عِنِّينًا أَوْ مُولِيًا لَمْ يَجِبْ أَنْ يُزَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا . وَالزَّوْجَاتُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ " وَخَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ " فَالْعَدْلُ الَّذِي يُطِيقُهُ عَامَّةُ النَّاسِ يَنْتَهِي إلَى الْأَرْبَعَةِ . وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ قَوَّاهُ عَلَى الْعَدْلِ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ - عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ - وَهُوَ وُجُوبُ الْقَسْمِ عَلَيْهِ وَسُقُوطَ الْقَسْمِ عَنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَحَقَّ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَحَلَّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِلَا مَهْرٍ . قَالُوا : وَإِذَا كَانَ " تَحْرِيمُ جَمْعِ الْعَدَدِ " إنَّمَا حَرُمَ لِوُجُوبِ الْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي الْمَمْلُوكَةِ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَسَرَّى بِأَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ ؛ بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ دَفْعًا لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ بَيْنَهُمَا وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ بَيْنَ الْمَمْلُوكَتَيْنِ كَمَا يُوجَدُ فِي الزَّوْجَتَيْنِ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِالتَّسَرِّي حَصَلَ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّغَايُرِ مَا يَحْصُلُ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ فَيُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ . وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الشَّرْعِ جَازَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ بِلَا نَسَبٍ أَوْ نَسَبٌ بِلَا حُرْمَةٍ . فَالْأَوَّلُ مِثْلَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَابْنَةِ زَوْجِهَا . كَمَا جَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ لَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ امْرَأَةِ عَلِيٍّ وَابْنَتِهِ .
وَهَذَا يُبَاحُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا تَحْرُمُ عَلَى الْأُخْرَى فَذَاكَ تَحْرِيمٌ بِالْمُصَاهَرَةِ لَا بِالرَّحِمِ ؛ وَالْمَعْنَى إنَّمَا كَانَ بِتَحْرِيمِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى . وَأَمَّا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ : مِثْلَ بِنْتِ الْعَمِّ وَالْخَالِ : فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ؛ لَكِنْ هَلْ يُكْرَهُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا رَحِمًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ وَأَمَّا " الْحُكْمَانِ الْمُتَنَازَعُ فِيهِمَا " فَهَلْ لَهُ أَنْ يَمْلِكَ ذَا الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكٍ فَيَبِيعُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ ؟ هَاتَانِ فِيهِمَا نِزَاعٌ وَأَقْوَالٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا . " وَتَحْرِيمُ الْجَمْعِ " يَزُولُ بِزَوَالِ النِّكَاحِ فَإِذَا مَاتَتْ إحْدَى الْأَرْبَعِ أَوْ الْأُخْتَيْنِ أَوْ طَلَّقَهَا أَوْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا : كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ رَابِعَةً وَيَتَزَوَّجَ الْأُخْتَ الْأُخْرَى بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَزَوُّجُ الْأُخْرَى عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ . الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ رَوَى عبيدة السلماني قَالَ : لَمْ يَتَّفِقْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْخَامِسَةَ لَا تُنْكَحُ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ وَلَا تُنْكَحُ الْأُخْتُ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرِثُ الْآخَرَ لَكِنَّهَا صَائِرَةٌ إلَى الْبَيْنُونَةِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا زَوْجَةً كَمَا لَوْ أَحَالَهَا إلَى أَجَلٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فِي رَأْسِ الْحَوْلِ فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَإِنَّ هَذِهِ صَائِرَةٌ إلَى بَيْنُونَةٍ
صُغْرَى ؛ وَمَعَ هَذَا فَهِيَ زَوْجَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِذَا قِيلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُعْطِيَهُ الْعِوَضَ الْمُعَلَّقَ بِهِ فَيَدُومُ النِّكَاحُ ؟ قِيلَ : وَالرَّجْعِيَّةُ يُمْكِنُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَيَدُومُ النِّكَاحُ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إنْ لَمْ تَلِدِي فِي هَذَا الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَكَانَتْ قَدْ بَقِيَتْ عَلَى وَاحِدَةٍ فَهَاهُنَا هِيَ زَوْجَةٌ لَا يَزُولُ نِكَاحُهَا إلَّا إذَا انْقَضَى الشَّهْرُ وَلَمْ تَلِدْ وَإِنْ كَانَتْ صَائِرَةً إلَى بَيْنُونَةٍ . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا كَمَا تَنَازَعُوا فِي وَطْءِ الرَّجْعِيَّةِ ؟ وَأَمَّا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا : فَهَلْ يَتَزَوَّجُ الْخَامِسَةَ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ ؟ وَالْأُخْتَ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَالْجَوَازُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَالتَّحْرِيمُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ قَوْمٍ يَتَزَوَّجُ هَذَا أُخْتَ هَذَا ؛ وَهَذَا
أُخْتَ هَذَا أَوْ ابْنَتَهُ وَكُلَّمَا أَنْفَقَ هَذَا أَنْفَقَ هَذَا ؛ وَإِذَا
كَسَا هَذَا كَسَا هَذَا وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَفِي الْإِرْضَاءِ
وَالْغَضَبِ : إذَا رَضِيَ هَذَا رَضِيَ هَذَا وَإِذَا أَغْضَبَ هَذَا أَغْضَبَ
الْآخَرَ : فَهَلْ يَحِلُّ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يُمْسِكَ
زَوْجَتَهُ بِمَعْرُوفِ أَوْ يُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانِ ؛ وَلَا لَهُ أَنْ
يُعَلِّقَ ذَلِكَ عَلَى فِعْلِ الزَّوْجِ الْآخَرِ . فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا
حَقٌّ عَلَى زَوْجِهَا ؛ وَحَقُّهَا لَا يَسْقُطُ بِظُلْمِ أَبِيهَا وَأَخِيهَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } فَإِذَا كَانَ
أَحَدُهُمَا يَظْلِمُ زَوْجَتَهُ وَجَبَ إقَامَةُ الْحَقِّ عَلَيْهِ ؛ وَلَمْ
يَحِلَّ لِلْآخَرِ أَنْ يَظْلِمَ زَوْجَتَهُ لِكَوْنِهَا بِنْتًا لِلْأَوَّلِ .
وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَظْلِمُ زَوْجَتَهُ لِأَجْلِ ظُلْمِ الْآخَرِ
فَيَسْتَحِقُّ كُلٌّ مِنْهُمَا الْعُقُوبَةَ ؛ وَكَانَ لِزَوْجَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا
أَنْ تَطْلُبَ حَقَّهَا مِنْ زَوْجِهَا ؛ وَلَوْ شَرَطَ هَذَا فِي النِّكَاحِ
لَكَانَ هَذَا شَرْطًا بَاطِلًا مِنْ جِنْسِ " نِكَاحِ الشَّغَارِ "
وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ أُخْتَهُ أَوْ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ
الْآخَرُ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَه فَكَيْفَ إذَا زَوَّجَهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ
أَنْصَفَهَا أَنْصَفَ الْآخَرُ وَإِنْ ظَلَمَهَا ظَلَمَ الْآخَرُ زَوْجَتَهُ ؛
فَإِنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ
اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَزْجُرُهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ
الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ
- :
عَنْ رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِخَالَةِ إنْسَانٍ وَلَهُ
بِنْتٌ فَتَزَوَّجَ بِهَا فَجَمَعَ بَيْنَ خَالَتِهِ وَابْنَتِهِ : فَهَلْ يَصِحُّ
؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ خَالَةَ رَجُلٍ
وَابْنَتِهِ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا
وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا
} وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْن الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَتَنَاوَلُ
خَالَةَ الْأَبِ وَخَالَةَ الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ وَيَتَنَاوَلُ عَمَّةَ كُلٍّ
مِنْ الْأَبَوَيْنِ أَيْضًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ
وَخَالَةِ أَبِيهَا وَلَا خَالَةِ أُمِّهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ جَمَعَ فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ بَيْنَ خَالَةِ
رَجُلٍ وَابْنَةِ أَخ لَهُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ : فَهَلْ يَجُوزُ الْجَمْعُ
بَيْنَهُمَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ
الْأُخْرَى هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ خَالَةِ أَبِيهَا ؛
فَإِنَّ أَبَاهَا إذَا كَانَ أَخًا لِهَذَا الْآخَرِ مِنْ أُمِّهِ أَوْ أُمِّهِ
وَأَبِيهِ : كَانَتْ
خَالَةُ هَذَا خَالَةَ هَذَا ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَخَاهُ مِنْ أَبِيهِ فَقَطْ ؛ فَإِنَّهُ لَا تَكُونُ خَالَةُ أَحَدِهِمَا خَالَةَ الْآخَرِ ؛ بَلْ تَكُونُ عَمَّتَهُ . وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَةِ أَبِيهَا وَخَالَةِ أُمِّهَا أَوْ عَمَّةِ أَبِيهَا أَوْ عَمَّةِ أُمِّهَا : كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِهِمْ . وَإِذَا تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى كَانَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلًا لَا يَحْتَاجُ إلَى طَلَاقٍ وَلَا يَجِبُ بِعَقْدِهِ مَهْرٌ وَلَا مِيرَاثٌ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ بِهَا وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَارَقَهَا كَمَا تُفَارَقُ الْأَجْنَبِيَّةُ فَإِنْ أَرَادَ نِكَاحَ الثَّانِيَةَ فَارَقَ الْأُولَى فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَزَوَّجَ الثَّانِيَةَ ؛ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّةِ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ الثَّانِي بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَمْ يَجُزْ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَجَازَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيّ . فَإِذَا طَلَّقَهَا طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ بِلَا عِوَضٍ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَلَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْأُولَى بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَزِلَهَا فَإِنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ وَلَا يَعْقِدُ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْأُولَى الْمُطَلَّقَةُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَوْطُوءَةَ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ : " أَحَدُهُمَا " يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . " وَالثَّانِي " لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد الْقَوْلَانِ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً وَوَطِئَهَا ثُمَّ
مَلَّكَهَا لِوَلَدِهِ . فَهَلْ يَجُوزُ لِوَلَدِهِ وَطْؤُهَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ اللَّه ، لَا يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ
يَطَأَهَا بَعْدَ وَطْءِ أَبِيهِ وَالْحَالُ هَذِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ
وَفِي السُّنَنِ { عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : رَأَيْت خَالِي أَبَا
بُرْدَةَ وَمَعَهُ رَايَتُهُ فَقُلْت : إلَى أَيْنَ ؟ فَقَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ
أَبِيهِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَأُخَمِّسَ مَالَهُ } وَلَا نِزَاعَ
بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ وَطْئِهَا بِالنِّكَاحِ وَبَيْنَ
وَطْئِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مِنْ مُدَّةٍ سَنَةً
وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الْإِصَابَةِ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ
أَنْ يَدْخُلَ بِالْأُمِّ بَعْدَ طَلَاقِ الْبِنْتِ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ أُمِّ امْرَأَتِهِ وَإِنْ لَمْ
يَدْخُلْ بِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُرْضِعَةٌ
لِوَلَدِهِ فَلَبِثَتْ مُطَلَّقَةً ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ
بِرَجُلِ آخَرَ فَلَبِثَتْ مَعَهُ دَوْرَةَ شَهْرٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَبِثَتْ
مُطَلَّقَةً ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَلَمْ تَحِضْ ؛ لَا فِي الثَّمَانِيَةِ الْأُولَى
وَلَا فِي مُدَّةِ عِصْمَتِهَا مَعَ الرَّجُلِ الثَّانِي وَلَا فِي الثَّلَاثَةِ
الْأَشْهُرِ الْأَخِيرَةِ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِهَا الْمُطَلِّقُ الْأَوَّلُ أَبُو
الْوَلَدِ : فَهَلْ يَصِحُّ هَذَانِ الْعَقْدَانِ ؟ أَوْ أَحَدُهُمَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ
وَالثَّانِي ؛ بَلْ عَلَيْهَا أَنْ تُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ . ثُمَّ تَقْضِي
عِدَّةَ الثَّانِي . ثُمَّ بَعُدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّتَيْنِ تَتَزَوَّجُ مَنْ
شَاءَتْ مِنْهُمَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُل تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ مُدَّةِ ثَلَاثِ
سِنِينَ رُزِقَ مِنْهَا وَلَدًا لَهُ مِنْ الْعُمْرِ سَنَتَانِ وَذَكَرَتْ
أَنَّهَا لَمَّا تَزَوَّجَتْ لَمْ تَحِضْ إلَّا حَيْضَتَيْنِ وَصَدَّقَهَا
الزَّوْجُ وَكَانَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَانِيًا عَلَى هَذَا الْعَقْدِ الْمَذْكُورِ :
فَهَلْ يَجُوزُ الطَّلَاقُ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ الْمَفْسُوخِ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ فِي كَوْنِهَا تَزَوَّجَتْ
قَبْلَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ : فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَعَلَيْهِ أَنْ
يُفَارِقَهَا وَعَلَيْهَا أَنْ تُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْ
وَطْءِ الثَّانِي . فَإِنْ كَانَتْ حَاضَتْ الثَّالِثَةَ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا
الثَّانِي فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّةَ الْأَوَّلِ ثُمَّ إذَا فَارَقَهَا الثَّانِي
اعْتَدَّتْ لَهُ ثَلَاثَ حِيَضٍ ثُمَّ تُزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ بِنِكَاحِ جَدِيدٍ
وَوَلَدُهُ وَلَدُ حَلَالٍ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُلِدَ
بِوَطْءِ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ لَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مُطَلَّقَةٍ ادَّعَتْ وَحَلَفَتْ أَنَّهَا قَضَتْ
عِدَّتَهَا فَتَزَوَّجَهَا زَوْجٌ ثَانٍ ثُمَّ حَضَرَتْ امْرَأَةٌ أُخْرَى
وَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ وَصَدَّقَهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا لَمْ تَحِضْ إلَّا حَيْضَتَيْنِ فَالنِّكَاحُ
الثَّانِي بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُصَدِّقًا
لَهَا وَجَبَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا : فَتُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ
بِحَيْضَةِ ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي عِدَّةً كَامِلَةً ثُمَّ بَعْدَ
ذَلِكَ إنْ شَاءَ الثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا تَزَوَّجَهَا .
وَسُئِلَ
:
عَنْ امْرَأَةٍ بَانَتْ فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَ شَهْرٍ
وَنِصْفٍ بِحَيْضَةِ وَاحِدَةٍ ؟
فَأَجَابَ
:
تُفَارِقُ هَذَا الثَّانِيَ وَتُتِمُّ عِدَّةَ
الْأَوَّلِ بِحَيْضَتَيْنِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَعْتَدُّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي
بِثَلَاثِ حَيْضَاتٍ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَزَوَّجُهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَقَدَ الْعَقْدَ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ
بَالِغًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ
عَقَدَ عَلَيْهَا شَخْصٌ آخَرُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا ؛ ثُمَّ
طَلَّقَهَا ثَلَاثًا : فَهَلْ يَجُوزُ لِلَّذِي طَلَّقَهَا أَوَّلًا أَنْ يَتَزَوَّجَ
بِهَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَهُوَ كَمَا لَوْ
طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَا تَحِلُّ لَهُ
حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَيَدْخُلُ بِهَا فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ
الدُّخُولِ لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِنْتًا بِكْرًا ثُمَّ طَلَّقَهَا
ثَلَاثًا وَلَمْ يُصِبْهَا : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا عَقْدًا
ثَانِيًا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
طَلَاقُ الْبِكْرِ ثَلَاثًا كَطَلَاقِ الْمَدْخُولِ
بِهَا ثَلَاثًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَمَّنْ يَقُولُ : إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَقَعَ بِهَا
الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ تُبَاحُ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ لِلَّذِي طَلَّقَهَا
ثَلَاثًا : فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ قَالَ
هَذَا الْقَوْلَ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَمَنْ اسْتَحَلَّهَا بَعْدَ وُقُوعِ
الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَمَا صِفَةُ
النِّكَاحِ الثَّانِي الَّذِي يُبِيحُهَا لِلْأَوَّلِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ
مُثَابِينَ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ
.
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا وَقَعَ
بِالْمَرْأَةِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إنَّهَا تُبَاحُ بَعْدَ
وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِدُونِ زَوْجٍ ثَانٍ وَمَنْ نَقَلَ هَذَا عَنْ
أَحَدٍ مِنْهُمْ فَقَدْ كَذَبَ
. وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ أَوْ اسْتَحَلَّ وَطْأَهَا بَعْدَ
وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحِ زَوْجٍ ثَانٍ فَإِنْ كَانَ
جَاهِلًا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ - مِثْلَ أَنْ يَكُونَ نَشَأَ بِمَكَانِ قَوْمٍ لَا
يَعْرِفُونَ فِيهِ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ أَوْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ
بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ
- فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ دِينَ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنْ
أَصَرَّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا تُبَاحُ بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِدُونِ
نِكَاحٍ ثَانٍ أَوْ عَلَى اسْتِحْلَالِ هَذَا الْفِعْلِ : فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ
فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَأَمْثَالِهِ مِنْ
الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ وُجُوبَ الْوَاجِبَاتِ وَتَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ وَحِلَّ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي عُلِمَ أَنَّهَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِنَقْلِ الْأُمَّةِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ نَبِيِّهَا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ . وَظَهَرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ كَمَنْ يَجْحَدُ وُجُوبَ " مَبَانِي الْإِسْلَامِ " مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحِجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَوْ جَحَدَ " تَحْرِيمَ الظُّلْمِ وَأَنْوَاعِهِ " كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ أَوْ تَحْرِيمَ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيمِ " نِكَاحِ الْأَقَارِبِ " سِوَى بَنَاتِ الْعُمُومَةِ وَالْخُؤُولَةِ وَتَحْرِيمَ " الْمُحَرَّمَاتِ بِالْمُصَاهَرَةِ " وَهُنَّ أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَبَنَاتُهُنَّ وَحَلَائِلُ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ حِلَّ الْخُبْزِ . وَاللَّحْمِ وَالنِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُلِمَتْ إبَاحَتُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ : فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ لَا سُنِّيُّهُمْ وَلَا بِدْعِيُّهُمْ . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ " مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ : كَتَنَازُعِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ فِي " الْحَرَامِ " هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَوْ يَمِينٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي " الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ " كَالْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَالْبَتَّةِ : هَلْ يَقَعُ بِهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ ثَلَاثٌ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي " الْمُولِي " : هَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا لَمْ يَفِ فِيهَا ؟ أَمْ يُوقَفُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ ؟ وَكَتَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ . وَالْمُكْرَهُ وَفِي الطَّلَاقِ بِالْخَطِّ وَطَلَاقِ
الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَطَلَاقِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ وَطَلَاقِ الْحَكَمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجِ بِدُونِ تَوْكِيلِهِ . كَمَا تَنَازَعُوا فِي بَذْلِ أَجْرِ الْعِوَضِ بِدُونِ تَوْكِيلِهَا . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْعُلَمَاءُ . وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي مَسَائِلِ " تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ " وَمَسَائِلِ " الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالنَّذْرِ " كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ الصَّدَقَةُ بِأَلْفِ . وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ " الْأَيْمَانِ " مُطْلَقًا فِي مُوجَبِ الْيَمِينِ وَهَذَا كَتَنَازُعِهِمْ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ : هَلْ يَقَعُ أَوْ لَا يَقَعُ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ؟ أَوْ بَيْنَ مَا يَكُونُ فِيهِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ وَبَيْنَ أَنْ يَقَعَ فِي نَوْعِ مِلْكٍ أَوْ غَيْرِ مِلْكٍ ؟ وَتَنَازَعُوا فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ بَعْدَ النِّكَاحِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . فَقِيلَ : يَقَعُ مُطْلَقًا . وَقِيلَ : لَا يَقَعُ . وَقِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي يُقْصَدُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ كَوْنِهِ وَبَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي يُقْصَدُ عَدَمُهُ . وَعَدَمُ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ . " فَالْأَوَّلُ " كَقَوْلِهِ : إنْ أعطيتيني أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ . " وَالثَّانِي " كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَلَيَّ الْحَجُّ . وَأَمَّا النَّذْرُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ سَلَّمَ مَالِي الْغَائِبَ فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ الصَّدَقَةُ بِمِائَةِ : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ . وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ ؛ بَلْ مَقْصُودُهُ عَدَمُ الشَّرْطِ وَهُوَ حَالِفٌ بِالنَّذْرِ كَمَا إذَا قَالَ : لَا أُسَافِرُ وَإِنْ سَافَرْت
فَعَلَيَّ الصَّوْمُ أَوْ الْحَجُّ أَوْ الصَّدَقَةُ أَوْ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَالصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : كَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ أَبِي الْعُمَرِ وَغَيْرِهِمَا . وَهَلْ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ أَمْ يَجْزِيهِ الْوَفَاءُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقِيلَ : عَلَيْهِ الْوَفَاءُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَحَكَاهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِهِ . وَقِيلَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِحَالِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَابْنِ حَزْمٍ . وَهَكَذَا تَنَازَعُوا عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيمَنْ حَلَفَ بِالْعِتَاقِ أَوْ الطَّلَاقِ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ . هَلْ يَقَعُ ذَلِكَ إذَا حَنِثَ أَوْ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ؛ بَلْ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً ؛ وَلَكِنْ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْخِطَابَيْ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمْ وَهُوَ الَّذِي وَصَلَ إلَيْنَا فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ . وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ و " الثَّانِي " لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْته فَعَلَيَّ إذًا
عِتْقُ عَبْدِي . فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِمُجَرَّدِ
الْفِعْلِ ؛ لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ . وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ
شَيْءٌ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَقَوْلُ دَاوُد وَابْنُ
حَزْمٍ . وَقِيلَ : عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ
التَّابِعِينَ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
التَّكْفِيرِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا . وَقِيلَ : يَجِبُ
التَّكْفِيرُ عَيْنًا ؛ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ فِي الْحَلِفِ
بِالطَّلَاقِ فِيمَا بَلَغَنَا بَعْدَ كَثْرَةِ الْبَحْثِ وَتَتَبُّعِ كُتُبِ
الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين ؛ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ إمَّا ضَعِيفٌ ؛ بَلْ
كَذِبٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْحَلِفِ
بِالطَّلَاقِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ عَلَى
عَهْدِهِمْ ؛ وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ
أَنْ يَجْزِيَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا
فَعَبْدِي حُرٌّ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ هَؤُلَاءِ نَقِيضُ هَذَا الْقَوْلِ .
وَأَنَّهُ يَعْتِقُ . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى أَسَانِيدِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ
هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : إنَّهُ لَا
يَقَعُ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى كَمَا صَرَّحَ
بِذَلِكَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ مِنْ التَّابِعِينَ . وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ ظَنَّ
أَنَّ الطَّلَاقَ لَا نِزَاعَ فِيهِ فَاضْطَرَّهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ عَكَسَ مُوجَبَ
الدَّلِيلِ فَقَالَ : يَقَعُ الطَّلَاقُ ؛ دُونَ الْعِتَاقِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ
عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَبُيِّنَ مَا فِيهَا مِنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ
بِإِحْسَانِ
وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ
وَحُجَّةِ كُلِّ قَوْم فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ
أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الظِّهَارِ أَوْ الْحَرَامِ أَوْ النَّذْرِ أَنَّهُ لَا
يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ أَوْ جَاهِلًا بِأَنَّهُ
الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ : فَهَلْ يَحْنَثُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد
وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد ؟
أَوَّلًا يَحْنَثُ بِحَالِ كَقَوْلِ الْمَكِّيِّينَ وَالْقَوْلِ الْآخَرِ
لِلشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَد ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ
الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَغَيْرِهِمَا كَالرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ
عَنْ أَحْمَد وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي والخرقي وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد
وَالْقَفَّالِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ
امْرَأَتَهُ بَانَتْ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا
لَمْ تَبِنْ ؟ فَقِيه قَوْلَانِ . وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ
غَيْرِهِ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ
؟ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَمَا ذُكِرَ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَشُكُّ
فِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ صِدْقُهُ ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ . عِنْدَ مَالِكٍ يَقَعُ
وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا يَقَعُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ التَّوَقُّفُ فِي الْمَسْأَلَةِ
فَيُخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ الْيَوْمَ كَذَا
وَمَضَى الْيَوْمُ أَوْ شَكَّ فِي فِعْلِهِ هَلْ يَحْنَثُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْيَمِينِ إلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إذَا
احْتَمَلَهَا لَفْظُهُ وَلَمْ يُخَالِفْ الظَّاهِرَ أَوْ خَالَفَهُ وَكَانَ
مَظْلُومًا . وَتَنَازَعُوا هَلْ يَرْجِعُ إلَى سَبَبِ
الْيَمِينِ وَسِيَاقِهَا وَمَا هَيَّجَهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمَذْهَبُ الْمَدَنِيِّينَ كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى ذَلِكَ وَالْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ لَكِنْ فِي مَسَائِلِهِمَا مَا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ أَعَمَّ مِنْ الْيَمِينِ عُمِلَ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى السَّبَبَ . وَإِنْ كَانَ خَاصًّا : فَهَلْ يُقْصَرُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ يَعْتَقِدُهُ عَلَى صِفَةٍ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهَا ؟ فَفِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ . وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِصِفَةِ ؛ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهَا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ - بِالْفَتْحِ - أَيْ لِأَجْلِ دُخُولِك الدَّارَ ؛ وَلَمْ تَكُنْ دَخَلَتْ . فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّك فَعَلْت كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَمْ تَكُنْ فَعَلَتْهُ ؟ وَلَوْ قِيلَ لَهُ : امْرَأَتُك فَعَلَتْ كَذَا ؛ فَقَالَ : هِيَ طَالِقٌ . ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَيْهَا ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ وَتَنَازَعُوا فِي الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ : كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ ؛ وَكَجَمْعِ الثَّلَاثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ حَرَامٌ ؛ وَلَكِنَّ الْأَرْبَعَةَ وَجُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : كَوْنُهُ حَرَامًا لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ كَمَا أَنَّ الظِّهَارَ مُحَرَّمٌ وَإِذَا ظَاهَرَ ثَبَتَ حُكْمُ الظِّهَارِ ؛ وَكَذَلِكَ " النَّذْرُ " قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ } وَمَعَ هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا يَقَعُ : اعْتَقَدُوا أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَقَعُ فَاسِدًا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَالْجُمْهُورُ فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ يَعُمُّهُ لَا يُنَاسِبُ فِعْلَ
الْمُحَرَّمِ : كَحِلِّ الْأَمْوَالِ وَالْإِبْضَاعِ وَإِجْزَاءِ الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً تُنَاسِبُ فِعْلَ الْمُحَرَّمِ كَالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ ؛ فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْ شَيْءٍ إذَا فَعَلَهُ قَدْ تَلْزَمُهُ بِفِعْلِهِ كَفَّارَةٌ أَوْ حَدٌّ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ : فَكَذَلِكَ قَدْ يُنْهَى عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ فَإِذَا فَعَلَهُ لَزِمَهُ بِهِ وَاجِبَاتٌ وَمُحَرَّمَاتٌ ؛ وَلَكِنْ لَا يُنْهَى عَنْ شَيْءٍ إذَا فَعَلَهُ أُحِلَّتْ لَهُ بِسَبَبِ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ الطَّيِّبَاتُ ؛ فَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ " بَابِ الْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ " وَالْمُحَرَّمَاتُ لَا تَكُونُ سَبَبًا مَحْضًا لِلْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ ؛ بَلْ هِيَ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَاتِ إذَا لَمْ يَتَّقُوا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } إلَى قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ } وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَتَوَقُّفِهِمْ عَنْ امْتِثَالِ أَمْرِهِ كَانَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْإِيجَابِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ } وَلَمَّا { سَأَلُوهُ عَنْ الْحَجِّ : أَفِي كُلِّ عَامٍ ؟ قَالَ : لَا . وَلَوْ قُلْت : نَعَمْ لَوَجَبَ ؛ وَلَوْ وَجَبَ لَمْ تُطِيقُوهُ ؛ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُمْ ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ؛ فَإِذَا نُهِيتُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ . وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَمِنْ هُنَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ حَرُمَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ عُقُوبَةً لِلرَّجُلِ حَتَّى لَا يُطَلِّقَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الطَّلَاقَ ؛ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَالسَّحَرَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السِّحْرِ : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وَفِي
الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الشَّيْطَانَ يَنْصِبُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ ؛ وَيَبْعَثُ جُنُودَهُ فَأَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً ؛ فَيَأْتِي أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا زِلْت بِهِ حَتَّى شَرِبَ الْخَمْرَ . فَيَقُولُ السَّاعَةَ يَتُوبُ وَيَأْتِي الْآخَرُ فَيَقُولُ : مَا زِلْت بِهِ حَتَّى فَرَّقْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ . فَيُقَبِّلُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ . وَيَقُولُ : أَنْتَ أَنْتَ } . وَقَدْ رَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ : أَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يُطَلِّقُونَ بِغَيْرِ عَدَدٍ ؛ يُطَلِّقُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ ثُمَّ يَدَعُهَا حَتَّى إذَا شَارَفَتْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ضِرَارًا فَقَصَرَهُمْ اللَّه عَلَى الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ وَآخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ . وَلَوْلَا أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الطَّلَاقِ لَكَانَ الدَّلِيلُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ وَالْأُصُولُ ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَهُ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ أَحْيَانًا . وَحَرَّمَهُ فِي مَوَاضِعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . كَمَا إذَا طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ وَلَمْ تَكُنْ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ ؛ فَإِنَّ هَذَا الطَّلَاقَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ كَمَا قَالَ : { أَحَبُّ الدِّينِ إلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ } فَأَبَاحَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْوَطْءَ بِالنِّكَاحِ . وَالْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا يَطَئُونَ إلَّا بِالنِّكَاحِ ؛ لَا يَطَئُونَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . و " أَصْلُ ابْتِدَاءِ الرِّقِّ " إنَّمَا يَقَعُ مِنْ السَّبْيِ . وَالْغَنَائِمُ لَمْ تَحِلَّ إلَّا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { فُضِّلْنَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِخَمْسِ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ
وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدِ كَانَ قَبْلَنَا وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً وَأُعْطِيت الشَّفَاعَةَ } فَأَبَاحَ سُبْحَانَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْكِحُوا وَأَنْ يُطَلِّقُوا وَأَنْ يَتَزَوَّجُوا الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ زَوْجِهَا . " وَالنَّصَارَى " يُحَرِّمُونَ النِّكَاحَ عَلَى بَعْضِهِمْ وَمَنْ أَبَاحُوا لَهُ النِّكَاحَ لَمْ يُبِيحُوا لَهُ الطَّلَاقَ . " وَالْيَهُودُ " يُبِيحُونَ الطَّلَاقَ ؛ لَكِنْ إذَا تَزَوَّجَتْ الْمُطَلَّقَةُ بِغَيْرِ زَوْجِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ . وَالنَّصَارَى لَا طَلَاقَ عِنْدَهُمْ . وَالْيَهُودُ لَا مُرَاجَعَةَ بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ عِنْدَهُمْ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ هَذَا وَهَذَا . وَلَوْ أُبِيحَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ عَدَدٍ - كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ - لَكَانَ النَّاسُ يُطَلِّقُونَ دَائِمًا : إذَا لَمْ يَكُنْ أَمْرٌ يَزْجُرُهُمْ عَنْ الطَّلَاقِ ؛ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ مَا أَوْجَبَ حُرْمَةَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ فَسَادُ الطَّلَاقِ لِمُجَرَّدِ حَقِّ الْمَرْأَةِ فَقَطْ : كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ حَتَّى يُبَاحَ دَائِمًا بِسُؤَالِهَا ؛ بَلْ نَفْسُ الطَّلَاقِ إذَا لَمْ تَدْعُ إلَيْهِ حَاجَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ : إمَّا نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ . وَمَا كَانَ مُبَاحًا لِلْحَاجَةِ قُدِّرَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ . وَالثَّلَاثُ هِيَ مِقْدَارُ مَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ } وَكَمَا قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ ؛ إلَّا عَلَى زَوْجٍ
فَإِنَّهَا
تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَكَمَا رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِ
أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا . وَهَذِهِ
الْأَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ . وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى
وُقُوعَ الطَّلَاقِ إلَّا مِنْ الْقَصْدِ ؛ وَلَا يَرَى وُقُوعَ طَلَاقِ
الْمُكْرَهِ ؛ كَمَا لَا يَكْفُرُ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مُكْرَهًا
بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ؛ وَلَوْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مُسْتَهْزِئًا بِآيَاتِ
اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَفَرَ ؛ كَذَلِكَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ
هَازِلًا وَقَعَ بِهِ . وَلَوْ حَلَفَ بِالْكُفْرِ فَقَالَ : إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ أَوْ فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ . لَمْ يَكْفُرْ
بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا حُكْمًا مُعَلَّقًا بِشَرْطِ
فِي اللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْحَلِفُ بِهِ بُغْضًا لَهُ وَنُفُورًا
عَنْهُ ؛ لَا إرَادَةً لَهُ ؛ بِخِلَافِ مَنْ قَالَ : إنْ أَعْطَيْتُمُونِي
أَلْفًا كَفَرْت فَإِنَّ هَذَا يَكْفُرُ . وَهَكَذَا يَقُولُ مَنْ يُفَرِّقُ
بَيْنَ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَتَعْلِيقِهِ بِشَرْطِ لَا يُقْصَدُ كَوْنُهُ
وَبَيْنَ الطَّلَاقِ الْمَقْصُودِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ .
وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ
إلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لِلنِّكَاحِ ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الطَّلَقَاتِ
الثَّلَاثِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ
قَوْلَيْهِمَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ افْتَدَتْ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ
كَافْتِدَاءِ الْأَسِيرِ ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الطَّلَاقِ الْمَكْرُوهِ فِي
الْأَصْلِ وَلِهَذَا يُبَاحُ فِي الْحَيْضِ ؛ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ . وَأَمَّا
إذَا عَدَلَ هُوَ عَنْ الْخُلْعِ وَطَلَّقَهَا إحْدَى الثَّلَّاتِ بِعِوَضِ
فَالتَّفْرِيطُ مِنْهُ . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَعُثْمَانِ بْنِ
عفان وَغَيْرِهِ ؛ وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا . وَبَعْضُ
الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد جَعَلُوهُ مَعَ
الْأَجْنَبِيِّ فَسْخًا . كَالْإِقَالَةِ . وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَعَ
الْأَجْنَبِيِّ كَمَا هُوَ مَعَ الْمَرْأَةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ افْتِدَاءُ
الْمَرْأَةِ كَمَا يُفْدَى
الْأَسِيرُ فَقَدْ يَفْتَدِي الْأَسِيرُ بِمَالِ مِنْهُ وَمَالٍ مِنْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَعْتِقُ بِمَالِ يَبْذُلُهُ هُوَ وَمَا يَبْذُلُهُ الْأَجْنَبِيُّ وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ يَصِحُّ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَعَ أَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ هَذَا جَمِيعَهُ مِنْ بَابِ الْإِسْقَاطِ وَالْإِزَالَةِ . وَإِذْ كَانَ الْخُلْعُ رَفْعًا لِلنِّكَاحِ ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ : فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَبْذُولُ مِنْ الْمَرْأَةِ أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ . وَتَشْبِيهُ فَسْخِ النِّكَاحِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَزُولُ إلَّا بِرِضَى الْمُتَابِعَيْنِ ؛ لَا يَسْتَقِلُّ أَحَدُهُمَا بِإِزَالَتِهِ ؛ بِخِلَافِ النِّكَاحِ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ إلَيْهَا إزَالَتُهُ ؛ بَلْ الزَّوْجُ يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ ؛ لَكِنْ افْتِدَاؤُهَا نَفْسَهَا مِنْهُ كَافْتِدَاءِ الْأَجْنَبِيِّ لَهَا . وَمَسَائِلُ الطَّلَاقِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْإِجْمَاعِ وَالنِّزَاعِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا إذَا وَقَعَ بِهِ الثَّلَاثُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَا يُبَاحُ إلَّا بِنِكَاحِ ثَانٍ وَبِوَطْئِهِ لَهَا عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ الْمَأْمُورَ بِهِ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْعَقْدِ . وَبِالْوَطْءِ بِخِلَافِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ؛ فَإِنَّهُ يُنْهَى فِيهِ عَنْ كُلٍّ مِنْ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النِّكَاحُ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْوَطْءِ مِنْ الْعَقْدِ " وَالنِّكَاحُ الْمُحَرَّمُ " يَحْرُمُ فِيهِ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِامْرَأَةِ رِفَاعَةَ القرظي . لَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ إلَى رِفَاعَةَ بِدُونِ الْوَطْءِ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك } وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ إلَّا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَإِنَّهُ - مَعَ أَنَّهُ أَعْلَمُ التَّابِعِينَ - لَمْ تَبْلُغْهُ السُّنَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . " وَالنِّكَاحُ الْمُبِيحُ " هُوَ النِّكَاحُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ النِّكَاحُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ
الزَّوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ : { حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتك } فَأَمَّا " نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ " فَإِنَّهُ لَا يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : لَا أوتى بِمُحَلِّلِ وَمُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتهمَا . وَكَذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ : إنَّهُ لَا يُبِيحُهَا إلَّا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ ؛ لَا نِكَاحِ مُحَلِّلٍ . وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي نِكَاحِ التَّحْلِيلِ . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي " نِكَاحِ الْمُتْعَةِ " فَإِنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ خَيْرٌ مِنْ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . " أَحَدُهَا " أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ التَّحْلِيلِ . " الثَّانِي " أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ ؛ بِخِلَافِ التَّحْلِيلِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ . " الثَّالِثُ " أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الْمَرْأَةِ وَلِلْمَرْأَةِ رَغْبَةٌ فِيهِ إلَى أَجَلٍ ؛ بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا رَغْبَةٌ فِيهِ بِحَالِ وَهُوَ لَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ فِيهَا بَلْ فِي أَخْذِ مَا يُعْطَاهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ رَغْبَةٌ فَهِيَ مِنْ رَغْبَتِهِ فِي الْوَطْءِ ؛ لَا فِي اتِّخَاذِهَا زَوْجَةً مِنْ جِنْسِ رَغْبَةِ الزَّانِي ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ ؛ وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً . إذْ اللَّهُ عَلِمَ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ . وَلِهَذَا تَعْدَمُ فِيهِ خَصَائِصُ النِّكَاحِ ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ الْمَعْرُوفَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ
مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } وَالتَّحْلِيلُ فِيهِ الْبِغْضَة وَالنُّفْرَةُ ؛ وَلِهَذَا لَا يُظْهِرُهُ أَصْحَابُهُ ؛ بَلْ يَكْتُمُونَهُ كَمَا يُكْتَمُ السِّفَاحُ . وَمِنْ شَعَائِرِ النِّكَاحِ إعْلَانُهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ } وَلِهَذَا يَكْفِي فِي إعْلَانِهِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تُوجِبُ الْإِشْهَادَ وَالْإِعْلَانَ ؛ فَإِذَا تَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ بَطَلَ . وَمِنْ ذَلِكَ الْوَلِيمَةُ عَلَيْهِ وَالنِّثَارُ وَالطِّيبُ وَالشَّرَابُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَاتُ النَّاسِ فِي النِّكَاحِ . وَأَمَّا " التَّحْلِيلُ " فَإِنَّهُ لَا يُفْعَلُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا ؛ لِأَنَّ أَهْلَهُ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَكُونَ الْمُحَلِّلُ زَوْجَ الْمَرْأَةِ وَلَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ امْرَأَتَهُ ؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ اسْتِعَارَتُهُ لِيَنْزُوَ عَلَيْهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ تَسْمِيَتُهُ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ ؛ وَلِهَذَا شُبِّهَ بِحِمَارِ الْعَشْرِيَّيْنِ الَّذِي يُكْتَرَى للتقفيز عَلَى الْإِنَاثِ ؛ وَلِهَذَا لَا تَبْقَى الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا بَعْدَ التَّحْلِيلِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ ؛ بَلْ يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا نَوْعٌ مِنْ النُّفْرَةِ . وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي التَّحْلِيلِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ يَأْمُرُ بِهِ الشَّارِعَ : صَارَ الشَّيْطَانُ يُشَبِّهُ بِهِ أَشْيَاءَ مُخَالِفَةً لِلْإِجْمَاعِ فَصَارَ طَائِفَةٌ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّ وِلَادَتَهَا لِذَكَرِ يُحِلُّهَا أَوْ أَنَّ وَطْأَهَا بِالرِّجْلِ عَلَى قَدَمِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ فَوْقَ سَقْفٍ أَوْ سُلَّمٍ هِيَ تَحْتَهُ يُحِلُّهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُمَا إذَا الْتَقَيَا بِعَرَفَاتِ كَمَا الْتَقَى آدَمَ وَامْرَأَتُهُ أَحَلَّهَا ذَلِكَ . وَمِنْهُنَّ مَنْ إذَا تَزَوَّجَتْ بِالْمُحَلِّلِ بِهِ لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ نَفْسِهَا ؛ بَلْ تُمَكِّنُهُ مِنْ أَمَةٍ لَهَا . وَمِنْهُنَّ مَنْ تُعْطِيهِ شَيْئًا وَتُوصِيه بِأَنْ يُقِرَّ بِوَطْئِهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَلِّلُ الْأُمَّ وَبِنْتَهَا . إلَى أُمُورٍ أُخَرَ قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بَيَّنَّاهَا
فِي " كِتَابِ بَيَانِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ " وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَنْسُوخَ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ خَيْرٌ مِنْ مِثْلِ هَذَا ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ تَأْتِي بِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا عَدَدَ لَهُ لَكَانَ هَذَا مُمْكِنًا وَإِنْ كَانَ هَذَا مَنْسُوخًا . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَسْتَكْرِيَ مَنْ يَطَؤُهَا فَهَذَا لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْلِيلِ يَفْعَلُونَ أَشْيَاءَ مُحَرَّمَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ زَوْجِهَا أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ عِدَّةِ طَلَاقٍ أَوْ عِدَّةِ وَفَاةٍ قَالَ تَعَالَى " { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُوَاعَدَةِ سِرًّا وَعَنْ عَزْمِ عُقْدَةِ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ . وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي عِدَّةِ الْمَوْتِ فَهُوَ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ أَشَدُّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَدْ تَرْجِعُ إلَى زَوْجِهَا ؛ بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ عَنْهَا . وَأَمَّا " التَّعْرِيضُ " فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَلَا يَجُوزُ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ وَفِيمَا سِوَاهُمَا . فَهَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يُوَاعِدَهَا سِرًّا وَلَا يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجِ ثَانٍ وَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَحِلَّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُوَاعِدَهَا سِرًّا وَلَا يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَذَلِكَ أَشَدُّ وَأَشَدُّ .
وَإِذَا كَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدِ أَنْ يَخْطُبَهَا لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا : بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا كَانَتْ لَمْ تَتَزَوَّجْ بَعْدُ لَمْ يَحِلَّ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا أَنْ يَخْطُبَهَا ؛ لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا . بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَخِطْبَتُهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ أَعْظَمُ مِنْ خِطْبَتِهَا بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالثَّانِي . وَهَؤُلَاءِ " أَهْلُ التَّحْلِيلِ " قَدْ يُوَاعِدُ أَحَدُهُمْ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا وَيَعْزِمَانِ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَقَبْلَ نِكَاحِ الثَّانِي عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ بَعْدَ النِّكَاحِ الثَّانِي نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ وَيُعْطِيهَا مَا تُنْفِقُهُ عَلَى شُهُودِ عَقْدِ التَّحْلِيلِ وَلِلْمُحَلِّلِ وَمَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهَا فِي عِدَّةِ التَّحْلِيلِ وَالزَّوْجُ الْمُحَلِّلُ لَا يُعْطِيهَا مَهْرًا وَلَا نَفَقَةَ عِدَّةٍ وَلَا نَفَقَةَ طَلَاقٍ ؛ فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ وَقْتَ نِكَاحِهَا بِالثَّانِي أَنْ يَخْطُبَهَا الْأَوَّلُ - لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا - فَكَيْفَ إذَا خَطَبَهَا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالثَّانِي ؟ أَوْ إذَا كَانَ بَعْدَ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِي لَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُوَاعِدَهَا سِرًّا وَلَا يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ : فَكَيْفَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُطَلِّقَ بَلْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَلْ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ فَهَذَا كُلُّهُ يَحْرُمُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْلِيلِ يَفْعَلُهُ وَلَيْسَ فِي التَّحْلِيلِ صُورَةٌ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حِلِّهَا وَلَا صُورَةٌ أَبَاحَهَا النَّصُّ ؛ بَلْ مِنْ صُوَرِ التَّحْلِيلِ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَمِنْهَا مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ مِنْهُمْ ؛ وَهَذَا وَغَيْرُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ مِنْ التَّحْلِيلِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَغَيْرِهِ
مِنْ
الْأَنْكِحَةِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا السَّلَفُ ؛ وَبِكُلِّ حَالٍ فَالصَّحَابَةُ
أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَبَعْدَهُمْ التَّابِعُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ
ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ }
فَنِكَاحٌ تَنَازَعَ السَّلَفُ فِي جَوَازِهِ أَقْرَبُ
مِنْ نِكَاحٍ أَجْمَعَ السَّلَفُ كُلٌّ تَحْرِيمَهُ . وَإِذَا تَنَازَعَ فِيهِ
الْخَلَفُ فَإِنَّ أُولَئِكَ أَعْظَمُ عِلْمًا وَدِينًا ؛ وَمَا أَجْمَعُوا عَلَى
تَعْظِيمِ تَحْرِيمِهِ كَانَ أَمْرُهُ أَحَقَّ مِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى
تَحْرِيمِهِ وَإِنْ اشْتَبَهَ تَحْرِيمُهُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ . وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِيَتِيمَةٍ وَشَهِدَتْ أُمُّهَا
بِبُلُوغِهَا فَمَكَثَتْ فِي صُحْبَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ
بِالثُّلَاثِ ثُمَّ شَهِدَتْ أَخَوَاتُهَا وَنِسَاءٌ أُخَرُ : أَنَّهَا مَا
بَلَغَتْ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الزَّوْجِ بِهَا بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ وَشَهِدَتْ
أُمُّهَا بِهَذِهِ الصُّورَةِ ؛ وَالْأُمُّ مَاتَتْ وَالزَّوْجُ يُرِيدُ
الْمُرَاجَعَةَ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ
مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ : أَنَّ نِكَاحَ
هَذِهِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُلُوغِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد
فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ
الْمُخْتَلَفِ فِيهِ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَقْبُحُ فَإِنَّهَا
مِنْ
أَهْلِ الْبَغْيِ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ حِين
كَانَ يَطَؤُهَا وَيَسْتَمْتِعُ بِهَا حَتَّى إذَا طَلَقَتْ ثَلَاثًا أَخَذُوا
يَسْعَوْنَ فِيمَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ حَتَّى لَا يُقَالَ : إنَّ الطَّلَاقَ
وَقَعَ وَهَذَا مِنْ الْمُضَادَّةِ لِلَّهِ فِي أَمْرِهِ فَإِنَّهُ حِينَ كَانَ
الْوَطْءُ حَرَامًا لَمْ يَتَحَرَّ وَلَمْ يَسْأَلْ فَلَمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ
أَخَذَ يَسْأَلُ عَمَّا يُبَاحُ بِهِ الْوَطْءُ وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ فِي
الْمُحَرَّمِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ فَاسِقٌ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ
الْمَرْأَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ نِكَاحُهَا الْأَوَّلُ صَحِيحًا . وَإِمَّا أَلَّا
يَكُونَ . فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا : فَالطَّلَاقُ الثَّلَاثُ وَاقِعٌ
وَالْوَطْءُ قَبْلَ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ حَرَامٌ . وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ
الْأَوَّلُ بَاطِلًا : كَانَ الْوَطْءُ فِيهِ حَرَامًا وَهَذَا الزَّوْجُ لَمْ
يَتُبْ مِنْ ذَلِكَ الْوَطْءِ . وَإِنَّمَا سَأَلَ حِينَ طَلَّقَ ؛ لِئَلَّا
يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ فَكَانَ سُؤَالُهُمْ عَمَّا بِهِ يَحْرُمُ الْوَطْءُ
الْأَوَّلُ لِأَجْلِ اسْتِحْلَالِ الْوَطْءِ الثَّانِي . وَهَذِهِ الْمُضَادَّةُ
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَإِنْ كَانَ هَذَا
الرَّجُلُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَجْتَنِبْهَا ؛
وَلْيَحْفَظْ حُدُودَ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِوِلَايَةِ
أَجْنَبِيٍّ وَوَلِيُّهَا فِي مَسَافَةٍ دُونَ الْقَصْرِ ؛ مُعْتَقِدًا أَنَّ
الْأَجْنَبِيَّ حَاكِمٌ ؛ وَدَخَلَ بِهَا وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا
ثَلَاثًا ثُمَّ أَرَادَ
رَدَّهَا
قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ : فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِبُطْلَانِ
النِّكَاحِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ إسْقَاطِ الْحَدِّ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ ؛
وَيَلْحَقُ النَّسَبُ ؛ وَيَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ .
فَأَجَابَ
:
لَا يَجِبُ فِي هَذَا النِّكَاحِ حَدٌّ إذَا اعْتَقَدَ
صِحَّتَهُ ؛ بَلْ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَيَجِبُ فِيهِ الْمَهْرُ ؛ وَلَا
يَحْصُلُ الْإِحْصَانُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ . وَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي
النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ . وَإِذَا تَبَيَّنَ
أَنَّ الْمُزَوِّجَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ بِحَالِ فَفَارَقَهَا الزَّوْجُ حِينَ
عَلِمَ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ وَالْحَالُ هَذِهِ ؛ وَلَهُ
أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ سَنَتَيْنِ ثُمَّ
طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَكَانَ وَلِيُّ نِكَاحِهَا فَاسِقًا : فَهَلْ يَصِحُّ عَقْدُ
الْفَاسِقِ ؛ بِحَيْثُ إذَا طَلَقَتْ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ
نِكَاحِ غَيْرِهِ ؟ أَوْ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا
بِعَقْدِ جَدِيدٍ وَوَلِيٍّ مُرْشِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْكِحَهَا غَيْرَهُ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا
فَقَدْ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ ؟ وَلَيْسَ لِأَحَدِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ
أَنْ يَنْظُرَ فِي الْوَلِيِّ : هَلْ كَانَ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا ؛ لِيَجْعَلَ
فِسْقَ الْوَلِيِّ ذَرِيعَةً إلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ
الْفُقَهَاءِ يُصَحِّحُونَ وِلَايَةَ الْفَاسِقِ وَأَكْثَرَهُمْ يُوقِعُونَ الطَّلَاقَ فِي مِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ ؛ بَلْ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ . فَإِذَا فَرَّعَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ ؛ وَأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِيهِ ؛ فَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِلَّ الْحَلَالَ مَنْ يُحَرِّمُ الْحَرَامَ ؛ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ حَلَالًا حَرَامًا . وَهَذَا الزَّوْجُ كَانَ وَطِئَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَلَوْ مَاتَتْ لَوَرِثَهَا : فَهُوَ عَامِلٌ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ فَكَيْفَ يَعْمَلُ بَعْدَ الطَّلَاقِ عَلَى فَسَادِهِ فَيَكُونُ النِّكَاحُ صَحِيحًا إذَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي صِحَّتِهِ فَاسِدًا إذْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي فَسَادِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ يُخَالِفُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ حِلَّ الشَّيْءِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَافَقَ غَرَضَهُ أَوْ خَالَفَهُ وَمَنْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ فِي الْحَالَيْنِ . وَهَؤُلَاءِ الْمُطَلِّقُونَ لَا يُفَكِّرُونَ فِي فَسَادِ النِّكَاحِ بِفِسْقِ الْوَلِيِّ إلَّا عِنْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لَا عِنْدَ الِاسْتِمْتَاعِ وَالتَّوَارُثِ فَيَكُونُونَ فِي وَقْتٍ يُقَلِّدُونَ مَنْ يُفْسِدُهُ وَفِي وَقْتٍ يُقَلِّدُونَ مَنْ يُصَحِّحُهُ بِحَسَبِ الْغَرَضِ وَالْهَوَى وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ . وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَعْتَقِدَ الرَّجُلُ ثُبُوتَ " شُفْعَةِ الْجِوَارِ " إذَا كَانَ طَالِبًا لَهَا وَيَعْتَقِدَ عَدَمَ الثُّبُوتِ إذَا كَانَ مُشْتَرِيًا ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَهَذَا أَمْرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ فِي حَالِ نِكَاحِهِ وَبُنِيَ عَلَى فَسَادِ وِلَايَتِهِ
فِي
حَالِ طَلَاقِهِ : فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ
قَالَ الْمُسْتَفْتِي الْمُعَيَّنُ : أَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ ذَلِكَ
وَأَنَا مِنْ الْيَوْمِ أَلْتَزِمُ ذَلِكَ : لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ
ذَلِكَ يَفْتَحُ بَابَ التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ وَفَتْحٌ لِلذَّرِيعَةِ إلَى أَنْ
يَكُونَ التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ بِحَسَبِ الْأَهْوَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَلِيُّهَا فَاسِقٌ
يَأْكُلُ الْحَرَامَ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ ؛ وَالشُّهُودُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَقَدْ
وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ : فَهَلْ لَهُ بِذَلِكَ الرُّخْصَةُ فِي
رَجْعَتِهَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ .
وَمَنْ أَخَذَ يَنْظُرُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي صِفَةِ الْعَقْدِ وَلَمْ يَنْظُرْ
فِي صِفَتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ : فَهُوَ مِنْ الْمُتَعَدِّينَ لِحُدُودِ اللَّهِ فَإِنَّهُ
يُرِيدُ أَنْ يَسْتَحِلَّ مَحَارِمَ اللَّهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ .
وَالطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ
وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالنِّكَاحُ بِوِلَايَةِ الْفَاسِقِ :
يَصِحُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً " مُصَافَحَةً
" عَلَى صَدَاقٍ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ كُلُّ سَنَةٍ نِصْفُ دِينَارٍ وَقَدْ
دَخَلَ عَلَيْهَا وَأَصَابَهَا : فَهَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ
إذَا رُزِقَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يَرِثُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا تَزَوَّجَهَا بِلَا وَلِيٍّ
وَلَا شُهُودٍ وَكَتَمَا النِّكَاحَ : فَهَذَا نِكَاحٌ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ { لَا نِكَاحَ إلَّا
بِوَلِيِّ } { وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا
فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } . وَكِلَا
هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مَأْثُورٌ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ : لَا نِكَاحَ إلَّا
بِشَاهِدَيْنِ . وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَمَالِكٌ يُوجِبُ إعْلَانَ النِّكَاحِ . " وَنِكَاحُ السِّرِّ " هُوَ
مِنْ جِنْسِ نِكَاحِ الْبَغَايَا ؛ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مُحْصَنَاتٍ
غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } فَنِكَاحُ السِّرِّ مِنْ
جِنْسِ ذَوَاتِ الْأَخْدَانِ ؛ وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى
مِنْكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ
حَتَّى يُؤْمِنُوا } فَخَاطَبَ الرِّجَالَ بِتَزْوِيجِ النِّسَاءِ ؛ وَلِهَذَا
قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُنْكِحُ نَفْسَهَا
وَإِنَّ الْبَغِيَّ هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا . لَكِنْ إنْ اعْتَقَدَ هَذَا
نِكَاحًا جَائِزًا كَانَ الْوَطْءُ فِيهِ وَطْءَ شُبْهَةٍ يُلْحَقُ الْوَلَدُ
فِيهِ وَيَرِثُ أَبَاهُ . وَأَمَّا الْعُقُوبَةُ فَإِنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ
الْعُقُوبَةَ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ " مُصَافَحَةً "
وَقَعَدَتْ مَعَهُ أَيَّامًا فَطَلَعَ لَهَا زَوْجٌ آخَرُ فَحَمَّلَ الزَّوْجَ
وَالزَّوْجَةَ وَزَوْجَهَا الْأَوَّلَ فَقَالَ لَهَا : تُرِيدِينَ الْأَوَّلَ أَوْ
الثَّانِيَ ؟ فَقَالَتْ : مَا أُرِيدُ إلَّا الزَّوْجَ الثَّانِيَ فَطَلَّقَهَا
الْأَوَّلُ وَرَسَمَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُوُفِّيَ عِدَّتَهُ وَتَمَّ مَعَهَا
الزَّوْجُ : فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ لَهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا تَزَوَّجَتْ بِالثَّانِي قَبْلَ أَنْ تُوَفِّيَ
عِدَّةَ الْأَوَّلِ وَقَدْ فَارَقَهَا الْأَوَّلُ : إمَّا لِفَسَادِ نِكَاحِهِ ؛
وَإِمَّا لِتَطْلِيقِهِ لَهَا ؛ وَإِمَّا لِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا :
فَنِكَاحُهَا فَاسِدٌ ؛ تَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ : هِيَ ؛ وَهُوَ ؛ وَمَنْ
زَوَّجَهَا ؛ بَلْ عَلَيْهَا أَنْ تُتِمَّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ ثُمَّ إنْ كَانَ
الثَّانِي قَدْ وَطِئَهَا اعْتَدَّتْ لَهُ عِدَّةً أُخْرَى ؛ فَإِذَا انْقَضَتْ
الْعِدَّتَانِ تَزَوَّجَتْ حِينَئِذٍ بِمَنْ شَاءَتْ : بِالْأَوَّلِ أَوْ
بِالثَّانِي أَوْ غَيْرِهِمَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَمَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ وَسَافَرَ زَوْجُهَا
وَبَاعَهَا سَيِّدُهَا وَشَرَطَ أَنَّ لَهَا زَوْجًا فَقَعَدَتْ عِنْدَ الَّذِي
اشْتَرَاهَا أَيَّامًا ؛ فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَتْ
وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ لَهَا زَوْجًا ؛ فَلَمَّا جَاءَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ مِنْ
السَّفَرِ أَعْطَى سَيِّدُهَا الَّذِي بَاعَهَا الْكِتَابَ لِزَوْجِهَا الَّذِي
جَاءَ مِنْ السَّفَرِ وَالْكِتَابُ بِعَقْدِ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ : فَهَلْ يَصِحُّ
الْعَقْدُ بِكِتَابِ الْأَوَّلِ ؟ أَوْ الثَّانِي ؟
فَأَجَابَ
:
إنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا شَرْعِيًّا : إمَّا
عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْحُرِّ بِالْأَمَةِ وَإِمَّا
عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بِأَنْ يَكُونَ عَادِمًا
لِلطَّوْلِ خَائِفًا مِنْ الْعَنَتِ : فَنِكَاحُهُ لَا يَبْطُلُ بِعِتْقِهَا ؛
بَلْ هِيَ زَوْجَتُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ
لَهَا الْفَسْخُ فَلَهَا أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ فَإِذَا قَضَتْ عِدَّتَهُ
تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ إنْ شَاءَتْ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا خِيَارَ لَهَا ؛ بَلْ هِيَ زَوْجَتُهُ ؛ وَمَتَى
تَزَوَّجَتْ قَبْلَ أَنْ يُفْسَخَ النِّكَاحُ : فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ نِكَاحُهَا الْأَوَّلُ فَاسِدًا فَإِنَّهُ
يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؛ وَتَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَقَرَّ عِنْدَ عُدُولٍ أَنَّهُ طَلَّقَ
امْرَأَتَهُ مِنْ مُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى الْمُدَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَهَلْ يَجُوزُ
لَهُمْ تَزْوِيجُهَا لَهُ الْآنَ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إنْ كَانَ الْمُقِرُّ
فَاسِقًا أَوْ مَجْهُولًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي إسْقَاطِ الْعِدَّةِ الَّتِي
فِيهَا حَقُّ اللَّهِ ؛ وَلَيْسَ هَذَا إقْرَارًا مَحْضًا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى
يُقْبَلَ مِنْ الْفَاسِقِ بَلْ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ ؛ إذْ فِي الْعِدَّةِ حَقُّ
اللَّهِ وَحَقٌّ لِلزَّوْجِ . وَإِمَّا إذَا كَانَ عَدْلًا غَيْرَ مُتَّهَمٍ : مِثْلَ أَنْ
يَكُونُ غَائِبًا فَلَمَّا حَضَرَ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ طَلَّقَ مِنْ مُدَّةِ كَذَا
وَكَذَا فَهَلْ تَعْتَدُّ مِنْ حِينِ بَلَّغَهَا الْخَبَرَ إذَا لَمْ تَقُمْ
بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ ؟ أَوْ مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ
؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ : عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ هُوَ
الثَّانِي . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ
بِهَا ؛ وَلَا أَصَابَهَا فَوَلَدَتْ بَعْدَ شَهْرَيْنِ : فَهَلْ يَصِحُّ
النِّكَاحُ ؟ وَهَلْ يَلْزَمُهُ الصَّدَاقُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْمَهْرُ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَكِنْ لِلْعُلَمَاءِ فِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ :
أَصَحُّهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ ؛ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد
وَغَيْرِهِمَا . وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا ؛ وَلَا مَهْرَ
عَلَيْهِ وَلَا نِصْفَ مَهْرٍ ؛ وَلَا مُتْعَةَ ؛ كَسَائِرِ الْعُقُودِ
الْفَاسِدَةِ إذَا حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ فِيهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ لَكِنْ
يَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا حَاكِمٌ يَرَى فَسَادَ الْعَقْدِ ؛ لِقَطْعِ
النِّزَاعِ . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ ؛ ثُمَّ
لَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى تَضَعَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ :
يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ قَبْلَ الْوَضْعِ ؛ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَعَلَى
هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ
الْمَهْرِ ؛ لَكِنْ هَذَا النِّزَاعُ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ
أَوْ سَيِّدٍ أَوْ زَوْجٍ ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إذَا فَارَقَ قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَأَمَّا الْحَامِلُ مِنْ الزِّنَا فَلَا كَلَامَ فِي صِحَّةِ نِكَاحِهَا
وَالنِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَ نَكَحَهَا طَائِعًا وَأَمَّا إذَا نَكَحَهَا
مُكْرَهًا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ " رَكَّاضٍ " يَسِيرُ فِي
الْبِلَادِ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ وَيَعْزِلُ عَنْهَا
وَيَخَافُ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي
مُدَّةِ إقَامَتِهِ
فِي
تِلْكَ الْبَلْدَةِ ؛ وَإِذَا سَافَرَ طَلَّقَهَا وَأَعْطَاهَا حَقَّهَا ؛ أَوْ
لَا ؟ وَهَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ؛ لَكِنْ يَنْكِحُ نِكَاحًا
مُطْلَقًا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَوْقِيتًا بِحَيْثُ يَكُونُ إنْ شَاءَ مَسَكَهَا
وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا . وَإِنْ نَوَى طَلَاقَهَا حَتْمًا عِنْدَ انْقِضَاءِ سَفَرِهِ
كُرِهَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ . وَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ نِزَاعٌ وَلَوْ نَوَى
أَنَّهُ إذَا سَافَرَ وَأَعْجَبَتْهُ أَمْسَكَهَا وَإِلَّا طَلَّقَهَا جَازَ
ذَلِكَ . فَأَمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ التَّوْقِيتَ فَهَذَا " نِكَاحُ
الْمُتْعَةِ " الَّذِي اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ
عَلَى تَحْرِيمِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ يُرَخِّصُونَ فِيهِ : إمَّا مُطْلَقًا
وَإِمَّا لِلْمُضْطَرِّ كَمَا قَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ
فَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ رَخَّصَ لَهُمْ فِي
الْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ الْمُتْعَةَ
إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَالْقُرْآنُ قَدْ حَرَّمَ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ
إلَّا زَوْجَةً أَوْ مَمْلُوكَةً بِقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
} { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ } { فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ }
وَهَذِهِ الْمُسْتَمْتَعُ بِهَا لَيْسَتْ مِنْ الْأَزْوَاجِ وَلَا مَا مُلِكَتْ
الْيَمِينَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لِلْأَزْوَاجِ أَحْكَامًا : مِنْ
الْمِيرَاثِ وَالِاعْتِدَادِ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ
وَعِدَّةُ الطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ
الَّتِي لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُسْتَمْتَعِ بِهَا فَلَوْ كَانَتْ
زَوْجَةً لَثَبَتَ فِي حَقِّهَا هَذِهِ الْأَحْكَامُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ نَسَخَتْ الْمُتْعَةَ . وَبَسْطُ هَذَا طَوِيلٌ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَإِذَا اشْتَرَطَ الْأَجَلَ قَبْلَ الْعَقْدِ فَهُوَ كَالشَّرْطِ الْمُقَارِنِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ فِي " نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ " . وَأَمَّا إذَا نَوَى الزَّوْجُ الْأَجَلَ وَلَمْ يُظْهِرْهُ لِلْمَرْأَةِ : فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ : يُرَخِّصُ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَيَكْرَهُهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا كَمَا أَنَّهُ لَوْ نَوَى التَّحْلِيلَ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ وَجَعَلُوهُ مِنْ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ ؛ لَكِنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ شَرٌّ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ؛ فَإِنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ لَمْ يُبَحْ قَطُّ إذْ لَيْسَ مَقْصُودُ الْمُحَلِّلِ أَنْ يَنْكِحَ ؛ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنْ يُعِيدَهَا إلَى الْمُطَلِّقِ قَبْلَهُ فَهُوَ يُثْبِتُ الْعَقْدَ لِيُزِيلَهُ وَهَذَا لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِحَالِ ؛ بِخِلَافِ الْمُسْتَمْتِعِ فَإِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي الِاسْتِمْتَاعِ ؛ لَكِنَّ التَّأْجِيلَ يُخِلُّ بِمَقْصُودِ النِّكَاحِ مِنْ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالسَّكَنِ وَيَجْعَلُ الزَّوْجَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فَلِهَذَا كَانَتْ النِّيَّةُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَخَفَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَهُوَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ وَكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ . وَأَمَّا " الْعَزْلُ " فَقَدْ حَرَّمَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنَّ مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ بِإِذْنِ الْمَرْأَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَمَّنْ قَالَ : إنَّ الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ إذَا
وَطِئَهَا الرَّجُلُ فِي الدُّبُرِ تَحِلُّ لِزَوْجِهَا : هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ
لَا ؟
فَأَجَابَ
:
هَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِأَئِمَّةِ
الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُطَلَّقَةِ
ثَلَاثًا : { لَا . حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك } وَهَذَا
نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعُسَيْلَةِ . وَهَذَا لَا يَكُونُ بِالدُّبُرِ وَلَا
يُعْرَفُ فِي هَذَا خِلَافٌ . وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ
- وَهُمْ يَطْعَنُونَ فِي أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلًا - وَمَا يُذْكَرُ عَنْ
سَعِيدِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْوَطْءِ فَذَاكَ لَمْ
يُذْكَرْ فِيهِ وَطْءُ الدُّبُرِ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ صَحَّتْ السُّنَّةُ
بِخِلَافِهِ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
" نِكَاحُ الزَّانِيَةِ " حَرَامٌ حَتَّى
تَتُوبَ سَوَاءٌ كَانَ زَنَى بِهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ . هَذَا هُوَ الصَّوَابُ
بِلَا رَيْبٍ وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : مِنْهُمْ
أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى جَوَازِهِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّلَاثَةِ ؛ لَكِنْ مَالِكٌ يَشْتَرِطُ الِاسْتِبْرَاءَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ الْعَقْدَ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا ؛ لَكِنْ إذَا كَانَتْ حَامِلًا لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَضَعَ وَالشَّافِعِيُّ يُبِيحُ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ مَاءَ الزَّانِي غَيْرُ مُحْتَرَمٍ وَحُكْمُهُ لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ . هَذَا مَأْخَذُهُ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَامِلِ وَغَيْرِ الْحَامِلِ ؛ فَإِنَّ الْحَامِلَ إذَا وَطِئَهَا اسْتَلْحَقَ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ قَطْعًا ؛ بِخِلَافِ غَيْرِ الْحَامِلِ . وَمَالِكٌ وَأَحْمَد يَشْتَرِطَانِ " الِاسْتِبْرَاءَ " وَهُوَ الصَّوَابُ ؛ لَكِنْ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ يَشْتَرِطَانِ الِاسْتِبْرَاءَ بِحَيْضَةِ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثِ حِيَضٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ فَقَطْ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ زَوْجَةً يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ وَلَيْسَتْ أَعْظَمَ مِنْ الْمُسْتَبْرَأَةِ الَّتِي يَلْحَقُ وَلَدُهَا سَيِّدَهَا وَتِلْكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ فَهَذِهِ أَوْلَى . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهَا حُرَّةٌ - كَاَلَّتِي أُعْتِقَتْ بَعْدَ وَطْءِ سَيِّدِهَا وَأُرِيدَ تَزْوِيجَهَا إمَّا مِنْ الْمُعْتِقِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ - فَإِنَّ هَذِهِ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا . وَهَذِهِ الزَّانِيَةُ لَيْسَتْ كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةِ الَّتِي يَلْحَقُ وَلَدُهَا بِالْوَاطِئِ ؛ مَعَ أَنَّ فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ عَلَى تِلْكَ نِزَاعًا . وَقَدْ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَصَرِيحِ السُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ : أَنَّ " الْمُخْتَلِعَةَ " لَيْسَ عَلَيْهَا إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ بِحَيْضَةِ ؛ لَا عِدَّةٍ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عفان وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ . وَذَكَرَ مَكِّيٌّ : أَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَهُوَ قَوْلُ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ
وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . فَإِذَا كَانَتْ الْمُخْتَلِعَةُ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ مُطَلَّقَةً لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ بَلْ الِاسْتِبْرَاءُ - وَيُسَمَّى الِاسْتِبْرَاءُ عِدَّةً - فَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةِ أَوْلَى وَالزَّانِيَةُ أَوْلَى . وَأَيْضًا " فَالْمُهَاجِرَةُ " مِنْ دَارِ الْكُفْرِ كَالْمُمْتَحَنَةِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } الْآيَةَ . قَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الْحَدِيثَ الْمَأْثُورَ فِيهَا وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَكُونُ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا بِحَيْضَةِ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ مُزَوَّجَةً ؛ لَكِنْ حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِهَا وَاخْتِيَارِهَا فِرَاقَهُ ؛ لَا بِطَلَاقِ مِنْهُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فَكَانُوا إذَا سَبَوْا الْمَرْأَةَ أُبِيحَتْ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْمَسْبِيَّةُ لَيْسَ عَلَيْهَا إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ النَّاسِ وَقَدْ يُسَمَّى ذَلِكَ عِدَّةً . وَفِي السُّنَنِ فِي حَدِيثِ { بَرِيرَةَ لَمَّا أُعْتِقَتْ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ تَعْتَدَّ } فَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ كَابْنِ حَزْمٍ : إنَّ مَنْ لَيْسَتْ بِمُطَلَّقَةٍ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةِ إلَّا هَذِهِ . وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ " تَعْتَدُّ " فِي كَلَامِهِمْ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ كَمَا ذَكَرْنَا سو (1) وَقَدْ رَوَى ابْن مَاجَه عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ } فَقَالَ كَذَا لَكِنَّ هَذَا حَدِيثٌ مَعْلُولٌ
أَمَّا " أَوَّلًا " فَإِنَّ عَائِشَةَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ الْعِدَّةَ عِنْدَهَا ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ وَأَنَّهَا إذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ حَلَّتْ فَكَيْفَ تَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَالنِّزَاعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ إلَى الْيَوْمِ فِي الْعِدَّةِ : هَلْ هِيَ ثَلَاثُ حِيَضٍ أَوْ ثَلَاثُ أَطْهَارٍ ؟ وَمَا سَمِعْنَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ وَلَوْ كَانَ لِهَذَا أَصْلٌ عَنْ عَائِشَةَ لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ قَاطِبَةً . ثُمَّ هَذِهِ سُنَّةٌ عَظِيمَةٌ تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى مَعْرِفَتِهَا ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْمُعْتَقَةَ تَحْتَ عَبْدٍ تَعْتَدُّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ . " وَالثَّانِي " أَنَّ الْعِدَّةَ ثَلَاثُ حَيْضٍ . وَأَيْضًا فَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمُعْتَقَةَ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا كَانَ ذَلِكَ طَلْقَةً بَائِنَةً كَقَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَعَلَى هَذَا فَالْعِدَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ طَلَاقٍ ؛ لَكِنَّ هَذَا أَيْضًا قَوْلٌ ضَعِيفٌ . وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا رَجْعِيًّا وَأَنَّ كُلَّ فُرْقَةٍ مُبَايِنَةٍ فَلَيْسَتْ مِنْ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ حَتَّى الْخُلْعُ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ فِي " نِكَاحِ الزَّانِيَةِ " وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ " إحْدَاهُمَا " فِي اسْتِبْرَائِهَا وَهُوَ عِدَّتُهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : لَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الزَّانِي . يُقَالُ لَهُ : الِاسْتِبْرَاءُ لَمْ يَكُنْ لِحُرْمَةِ مَاءِ الْأَوَّلِ ؛ بَلْ لِحُرْمَةِ مَاءِ الثَّانِي ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَلْحِقَ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا وَكَانَتْ قَدْ عُلِّقَتْ مِنْ الزَّانِي . وَأَيْضًا فَفِي اسْتِلْحَاقِ الزَّانِي وَلَدَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ
فِرَاشًا قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } فَجَعَلَ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ ؛ دُونَ الْعَاهِرِ . فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْحَدِيثُ وَعُمَرُ أَلْحَقَ أَوْلَادًا وُلِدُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . " وَالثَّانِيَةُ " أَنَّهَا لَا تَحِلُّ حَتَّى تَتُوبَ ؛ وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ ؛ وَالْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ آيَةُ النُّورِ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } وَفِي السُّنَنِ حَدِيثُ أَبِي مَرْثَدٍ الغنوي فِي عَنَاقَ . وَاَلَّذِينَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرُوا لَهَا تَأْوِيلًا وَنَسْخًا . أَمَّا التَّأْوِيلُ : فَقَالُوا الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءُ وَهَذَا مِمَّا يَظْهَرُ فَسَادُهُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ . أَمَّا " أَوَّلًا " فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ نِكَاحٍ إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعَقْدُ وَإِنْ دَخَلَ فِيهِ الْوَطْءُ أَيْضًا . فَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مُجَرَّدُ الْوَطْءِ فَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ . " وَثَانِيهَا " أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ اسْتِفْتَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّزَوُّجِ بِزَانِيَةٍ فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبُ النُّزُولِ خَارِجًا مِنْ اللَّفْظِ " الثَّالِثُ " أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : الزَّانِي لَا يَطَأُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ الزَّانِيَةُ لَا يَطَؤُهَا إلَّا زَانٍ ؛ كَقَوْلِهِ : الْآكِلُ لَا يَأْكُلُ إلَّا مَأْكُولًا وَالْمَأْكُولُ لَا يَأْكُلُهُ إلَّا
آكِلٌ وَالزَّوْجُ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِزَوْجَةٍ وَالزَّوْجَةُ لَا يَتَزَوَّجُهَا إلَّا زَوْجٌ ؛ وَهَذَا كَلَامٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ اللَّهِ . " الرَّابِعُ " أَنَّ الزَّانِيَ قَدْ يَسْتَكْرِهُ امْرَأَةً فَيَطَؤُهَا فَيَكُونُ زَانِيًا وَلَا تَكُونُ زَانِيَةً وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ قَدْ تَزْنِي بِنَائِمِ وَمُكْرَهٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَلَا يَكُونُ زَانِيًا . " الْخَامِسُ " أَنَّ تَحْرِيمَ الزِّنَا قَدْ عَلِمَهُ الْمُسْلِمُونَ بِآيَاتِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَتَحْرِيمُهُ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْزِلَ هَذِهِ الْآيَةُ بِتَحْرِيمِهِ . " السَّادِسُ " قَالَ : { لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } فَلَوْ أُرِيدَ الْوَطْءُ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى ذِكْرِ الْمُشْرِكِ فَإِنَّهُ زَانٍ وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكَةُ إذَا زَنَى بِهَا رَجُلٌ فَهِيَ زَانِيَةٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّقْسِيمِ . " السَّابِع " أَنَّهُ قَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى أَنْ يَذْكُرَ تَحْرِيمَ الزِّنَا بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَّا " النَّسْخُ " فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَطَائِفَةٌ : نَسَخَهَا قَوْلُهُ : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وَلَمَّا عَلِمَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ضَعِيفٌ جِدًّا وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَنْسَخُهَا فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ قَالُوا : هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا زَعَمَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيَّ وَغَيْرُهُ . أَمَّا
عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَنْسَخُ النُّصُوصَ كَمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عِيسَى ابْنِ أَبَانَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مَضْمُونُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ يَجُوزُ لَهَا تَبْدِيلُ دِينِهَا بَعْدَ نَبِيِّهَا وَأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى : أُبِيحَ لِعُلَمَائِهِمْ أَنْ يَنْسَخُوا مِنْ شَرِيعَةِ الْمَسِيحِ مَا يَرَوْنَهُ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ . وَمِمَّنْ يَظُنُّ الْإِجْمَاعَ مَنْ يَقُولُ : الْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى نَصٍّ نَاسِخٍ لَمْ يَبْلُغْنَا ؛ وَلَا حَدِيثُ إجْمَاعٍ فِي خِلَافِ هَذِهِ الْآيَةِ . وَكُلُّ مَنْ عَارَضَ نَصًّا بِإِجْمَاعِ وَادَّعَى نَسْخَهُ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ يُعَارِضُ ذَلِكَ النَّصَّ فَإِنَّهُ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبُيِّنَ أَنَّ النُّصُوصَ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ إلَّا بِنَصِّ بَاقٍ مَحْفُوظٍ عِنْدَ الْأُمَّةِ . وَعِلْمُهَا بِالنَّاسِخِ الَّذِي الْعَمَلُ بِهِ أَهَمُّ عِنْدَهَا مَنْ عِلْمِهَا بِالْمَنْسُوخِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَحِفْظُ اللَّهِ النُّصُوصَ النَّاسِخَةَ أَوْلَى مِنْ حِفْظِهِ الْمَنْسُوخَةَ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } فِي غَايَةِ الضَّعْفِ ؛ فَإِنَّ كَوْنَهَا زَانِيَةً وَصْفٌ عَارِضٌ لَهَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا عَارِضًا : مِثْلَ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً وَمُعْتَدَّةً وَمَنْكُوحَةً لِلْغَيْرِ ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ إلَى غَايَةٍ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ لَكَانَتْ كَالْوَثَنِيَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلصِّفَاتِ الَّتِي بِهَا تَحْرُمُ الْمَرْأَةُ مُطْلَقًا أَوْ مُؤَقَّتًا ؛ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ؛ وَهُوَ أَمْرٌ بِإِنْكَاحِهِنَّ بِالشُّرُوطِ الَّتِي بَيَّنَهَا وَكَمَا أَنَّهَا لَا تُنْكَحُ فِي الْعِدَّةِ وَالْإِحْرَامِ لَا تُنْكَحُ حَتَّى تَتُوبَ .
وَقَدْ احْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ : { إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ . فَقَالَ طَلِّقْهَا . فَقَالَ : إنِّي أُحِبُّهَا . قَالَ : فَاسْتَمْتِعْ بِهَا } الْحَدِيثُ . رَوَاهُ النَّسَائِي وَقَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ فَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ فِي مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا ؛ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُؤَوِّلُ " اللَّامِسَ " بِطَالِبِ الْمَالِ ؛ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ . لَكِنَّ لَفْظَ " اللَّامِسِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ مَنْ مَسَّهَا بِيَدِهِ وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا فَإِنَّ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَكُونُ فِيهَا تَبَرُّجٌ وَإِذَا نَظَرَ إلَيْهَا رَجُلٌ أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا لَمْ تَنْفِرْ عَنْهُ . وَلَا تُمَكِّنُهُ مِنْ وَطْئِهَا . وَمِثْلُ هَذِهِ نِكَاحُهَا مَكْرُوهٌ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِفِرَاقِهَا وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِ ؛ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُحِبُّهَا ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَمْ تَزْنِ وَلَكِنَّهَا مُذْنِبَةٌ بِبَعْضِ الْمُقَدِّمَاتِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ : فَجَعَلَ اللَّمْسَ بِالْيَدِ فَقَطْ وَلَفْظُ " اللَّمْسِ وَالْمُلَامَسَةِ " إذَا عُنِيَ بِهِمَا الْجِمَاعُ لَا يُخَصُّ بِالْيَدِ بَلْ إذَا قُرِنَ بِالْيَدِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } . وَأَيْضًا فَاَلَّتِي تَزْنِي بَعْدَ النِّكَاحِ لَيْسَتْ كَاَلَّتِي تَتَزَوَّجُ وَهَى زَانِيَةٌ ؛ فَإِنَّ دَوَامَ النِّكَاحِ أَقْوَى مِنْ ابْتِدَائِهِ . وَإِلَّا حَرَامٌ أَوْ الْعُدَّةُ تَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ دُونَ الدَّوَامِ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَامَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَةَ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يَجِبُ فِرَاقُهَا لَكَانَ الزِّنَا كَالْعِدَّةِ تَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ دُونَ الدَّوَامِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ . " فَإِنْ قِيلَ " مَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } ؟ " قِيلَ " : الْمُتَزَوِّجُ بِهَا إنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ زَانٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا فَهُوَ كَافِرٌ . فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولَ مِنْ تَحْرِيمِ هَذَا وَفَعَلَهُ فَهُوَ زَانٍ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ
الْبَغَايَا . يَقُولُ : فَإِنْ تَزَوَّجْتُمْ بِهِنَّ كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِ ذَلِكَ فَأَنْتُمْ مُشْرِكُونَ وَإِنْ اعْتَقَدْتُمْ التَّحْرِيمَ فَأَنْتُمْ زُنَاةٌ . لِأَنَّ هَذِهِ تُمَكِّنُ مِنْ نَفْسِهَا غَيْرَ الزَّوْجِ مِنْ وَطْئِهَا فَيَبْقَى الزَّوْجُ يَطَؤُهَا كَمَا يَطَؤُهَا أُولَئِكَ وَكُلُّ امْرَأَةٍ اشْتَرَكَ فِي وَطْئِهَا رَجُلَانِ فَهِيَ زَانِيَةٌ ؛ فَإِنَّ الْفُرُوجَ لَا تَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ ؛ بَلْ لَا تَكُونُ الزَّوْجَةُ إلَّا مُحْصَنَةً . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْمُتَزَوِّجُ بِالزَّانِيَةِ زَانِيًا كَانَ مَذْمُومًا عِنْدَ النَّاسِ ؛ وَهُوَ مَذْمُومٌ أَعْظَمَ مِمَّا يُذَمُّ الَّذِي يَزْنِي بِنِسَاءِ النَّاسِ وَلِهَذَا يَقُولُ فِي " الشَّتْمَةِ " : سَبَّهُ بِالزَّايِ وَالْقَافِ . أَيْ قَالَ يَا زَوْجَ الْقَحْبَةِ فَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَتَشَاتَمُ بِهِ النَّاسُ ؛ لِمَا قَدْ اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُبْحِ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ مُبَاحًا وَلِهَذَا كَانَ قَذْفُ الْمَرْأَةِ طَعْنًا فِي زَوْجِهَا فَلَوْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ بِبَغِيِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَعْنًا فِي الزَّوْجِ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ . فَاَللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْأَنْبِيَاءِ أَنَّ يَتَزَوَّجُوا كَافِرَةً وَلَمْ يُبِحْ تَزَوُّجَ الْبَغِيِّ لِأَنَّ هَذِهِ تُفْسِدُ مَقْصُودَ النِّكَاحِ بِخِلَافِ الْكَافِرَةِ ؛ وَلِهَذَا أَبَاحَ اللَّهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُلَاعِنَ مَكَانَ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إذَا زَنَتْ امْرَأَتُهُ وَأَسْقَطَ عَنْهُ الْحَدَّ بِلِعَانِهِ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ } وَاَلَّذِي يَتَزَوَّجُ بِبَغِيِّ هُوَ دَيُّوثٌ وَهَذَا مِمَّا فَطَرَ اللَّهُ عَلَى ذَمِّهِ وَعَيْبِهِ بِذَلِكَ جَمِيعَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ وَغَيْرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ : كُلُّهُمْ يَذُمُّ مَنْ تَكُونُ
امْرَأَتُهُ بَغِيًّا وَيُشْتَمُ بِذَلِكَ وَيُعَيَّرُ بِهِ فَكَيْفَ يُنْسَبُ إلَى شَرْعِ الْإِسْلَامِ إبَاحَةُ ذَلِكَ وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ أَفْضَلِ الشَّرَائِعِ ؛ بَلْ يَجِبُ أَنْ تُنَزَّهَ الشَّرِيعَةُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي إذَا تَصَوَّرَهُ الْمُؤْمِنُ وَلَوَازِمَهُ اسْتَعْظَمَ أَنْ يُضَافَ مِثْلَ هَذَا إلَى الشَّرِيعَةِ وَرَأَى أَنَّ تَنْزِيهَهَا عَنْهُ أَعْظَمُ مِنْ تَنْزِيهِ عَائِشَةَ عَمَّا قَالَهُ أَهْلُ الْإِفْكِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا : { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا لَمْ يُفَارِقْ عَائِشَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْ مَا قِيلَ أَوَّلًا وَلَمَّا حَصَلَ لَهُ الشَّكُّ اسْتَشَارَ عَلِيًّا وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَسَأَلَ الْجَارِيَةَ ؛ لِيَنْظُرَ إنْ كَانَ حَقًّا فَارَقَهَا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَهَا مِنْ السَّمَاءِ فَذَلِكَ الَّذِي ثَبَتَ نِكَاحُهَا . وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ : إنَّهُ يَجُوزُ إمْسَاكُ بَغِيٍّ . وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَقْصِدُونَ بِالْكَلَامِ فِيهَا الطَّعْنَ فِي الرَّسُولِ وَلَوْ جَازَ التَّزَوُّجُ بِبَغِيِّ لَقَالَ : هَذَا لَا حَرَجَ عَلَيَّ فِيهِ كَمَا كَانَ النِّسَاءُ أَحْيَانًا يُؤْذِينَهُ حَتَّى يَهْجُرَهُنَّ فَلَيْسَ ذُنُوبُ الْمَرْأَةِ طَعْنًا ؛ بِخِلَافِ بِغَائِهَا فَإِنَّهُ طُعِنَ فِيهِ عِنْدَ النَّاسِ قَاطِبَةً لَيْسَ أَحَدٌ يَدْفَعُ الذَّمَّ عَمَّنْ تَزَوَّجَ بِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهَا بَغِيَّةٌ مُقِيمَةٌ عَلَى الْبِغَاءِ وَلِهَذَا تَوَسَّلَ الْمُنَافِقُونَ إلَى الطَّعْنِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَهَا مِنْ السَّمَاءِ وَقَدْ كَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي وَاَللَّهِ مَا عَلِمْت عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْت عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا فَقَامَ : سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ - الَّذِي اهْتَزَّ لِمَوْتِهِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ - فَقَالَ : أَنَا أَعْذُرُك مِنْهُ : إنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْت عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ
إخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَك فَأَخَذَتْ سَعْدَ بْنَ عبادة غَيْرَةٌ - قَالَتْ عَائِشَةُ : وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ امْرَأً صَالِحًا ؛ وَلَكِنْ أَخَذَتْهُ حَمِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ ابْنَ أبي كَانَ كَبِيرَ قَوْمٍ فَقَالَ كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ . فَقَامَ أسيد ابْنُ حضير : فَقَالَ : كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ ؛ فَإِنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ . وَثَارَ الْحَيَّانِ حَتَّى نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَجَعَلَ يُسَكِّنُهُمْ } . فَلَوْلَا أَنَّ مَا قِيلَ فِي عَائِشَةَ طَعْنٌ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَطْلُبْ الْمُؤْمِنُونَ قَتْلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ لِقَذْفِهِ لِامْرَأَتِهِ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْتَلُ . لِأَنَّهُ قَدَحَ فِي نَسَبِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَذَفَ نِسَاءَهُ يُقْتَلُ لِأَنَّهُ قَدَحَ فِي دِينِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بَرَاءَتَهَا وَأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّاتِي لَمْ يُفَارِقْهُنَّ عَلَيْهِ . . . (1) إذْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَتَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُومَةِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّ فِيمَنْ طَلَّقَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . " أَحَدُهَا " أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ . " وَالثَّانِي " أَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ . " وَالثَّالِثُ " يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَيَّرَ نِسَاءَهُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالْفِرَاقِ وَكَانَ الْمَقْصُودُ لِمَنْ فَارَقَهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ . فَلَوْ كَانَ هَذَا مُبَاحًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْحًا فِي دِينِهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ
فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ
إلَى كَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ يُحَرِّمُ مِثْلَ
ذَلِكَ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ قَدْ أَبَاحَ مِثْلَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ - الَّذِينَ لَا رَيْبَ فِي عِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ مِنْ
التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَعُلُوِّ قَدْرِهِمْ - بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ
تَأَوَّلُوهُ اُحْتِيجَ إلَى الْبَسْطِ فِي ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا نَظَائِرُ
كَثِيرَةٌ : يَكُونُ الْقَوْلُ ضَعِيفًا جِدًّا وَقَدْ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَى
كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَسَادَاتِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ الْعِصْمَةَ عِنْدَ تَنَازُعِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا فِي
الرَّدِّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ
وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَا
يَنْطِقُ عَلَى الْهَوَى .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ
إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } ؟ قِيلَ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الزَّانِيَ الَّذِي لَمْ يَتُبْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَفِيفَةً كَمَا
هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَطَأُ هَذِهِ
وَهَذِهِ وَهَذِهِ كَمَا كَانَ
: كَانَ وَطْؤُهُ لِهَذِهِ مِنْ جِنْسِ وَطْئِهِ
لِغَيْرِهَا مِنْ الزَّوَانِي وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ : مَنْ زَوَّجَ
كَرِيمَتَهُ مِنْ فَاجِرٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا . و " أَيْضًا "
فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَزْنِي بِنِسَاءِ النَّاسِ كَانَ هَذَا مِمَّا يَدْعُو
الْمَرْأَةَ إلَى أَنْ تُمَكِّنَ مِنْهَا غَيْرَهُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا
فَلَمْ أَرَ مَنْ يَزْنِي بِنِسَاءِ النَّاسِ أَوْ ذُكْرَانٍ إلَّا فَيَحْمِل
امْرَأَتَهُ عَلَى أَنْ تَزْنِيَ بِغَيْرِهِ مُقَابَلَةً عَلَى ذَلِكَ
وَمُغَايَظَةً . و " أَيْضًا " فَإِذَا كَانَ عَادَتُهُ الزِّنَا
اسْتَغْنَى بِالْبَغَايَا فَلَمْ يَكْفِ امْرَأَتَهُ فِي الْإِعْفَافِ فَتَحْتَاجُ
إلَى الزِّنَا .
وَ
" أَيْضًا " فَإِذَا زَنَى بِنِسَاءِ النَّاسِ طَلَبَ النَّاسُ أَنْ
يَزْنُوا بِنِسَائِهِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ . فَامْرَأَةُ الزَّانِي تَصِيرُ
زَانِيَةً مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَإِنْ اسْتَحَلَّتْ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ
كَانَتْ مُشْرِكَةً ؛ وَإِنْ لَمْ تَزْنِ بِفَرْجِهَا زَنَتْ بِعَيْنِهَا وَغَيْرَ
ذَلِكَ فَلَا يَكَادُ يُعْرَفُ فِي نِسَاءِ الرَّجُلِ الزُّنَاةُ الْمُصِرِّينَ
عَلَى الزِّنَا الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا مِنْهُ امْرَأَةٌ سَلِيمَةٌ سَلَامَةً
تَامَّةً وَطَبْعُ الْمَرْأَةِ يَدْعُو إلَى الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ إذَا رَأَتْ
زَوْجَهَا يَذْهَبُ إلَى النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : {
بِرُّوا آبَاءَكُمْ تَبِرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ وَعِفُّوا تَعِفُّ نِسَاؤُكُمْ }
فَقَوْلُهُ : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً } إمَّا أَنْ يُرَادَ
أَنَّ نَفْسَ نِكَاحِهِ وَوَطْئِهِ لَهَا زِنًا أَوْ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى
زِنَاهَا . وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَنَفْسُ وَطْئِهَا مَعَ إصْرَارِهَا عَلَى
الزِّنَا زِنًا .
وَكَذَلِكَ { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ }
الْحَرَائِرِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : هُنَّ الْعَفَائِفُ . فَقَدْ نُقِلَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ { الْمُحْصَنَاتِ } بِالْحَرَائِرِ . وَبِالْعَفَائِفِ وَهَذَا
حَقٌّ . فَنَقُولُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ
مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ
الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا
مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ
حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } . " الْمُحْصَنَاتُ " قَدْ قَالَ
أَهْلُ التَّفْسِيرِ : هُنَّ الْعَفَائِفُ . هَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ
والنَّخَعِي وَالضَّحَّاكُ والسدي . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : هُنَّ الْحَرَائِرُ
وَلَفْظُ الْمُحْصَنَاتِ إنْ أُرِيدَ بِهِ " الْحَرَائِرُ "
فَالْعِفَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الْإِحْصَانِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ فَإِنَّ أَصْلَ
الْمُحْصَنَةِ
هِيَ الْعَفِيفَةُ الَّتِي أُحْصِنَ فَرْجُهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } وَقَالَ تَعَالَى :
{ إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ }
وَهُنَّ الْعَفَائِفُ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةِ * * * وتصبح
غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
ثُمَّ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنَّ الْحُرَّةَ عِنْدَهُمْ لَا
تُعْرَفُ بِالزِّنَا ؛ وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالزِّنَا الْإِمَاءُ وَلِهَذَا {
لَمَّا بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِنْدَ امْرَأَةَ
أَبِي سُفْيَانَ عَلَى أَلَّا تَزْنِيَ قَالَتْ : أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ }
فَهَذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ . وَالْحُرَّةُ خِلَافَ الْأَمَةِ
صَارَتْ فِي عُرْفِ الْعَامَّةِ أَنَّ الْحُرَّةَ هِيَ الْعَفِيفَةُ ؛ لِأَنَّ
الْحُرَّةَ الَّتِي لَيْسَتْ أَمَةً كانت مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ بِالْعِفَّةِ
وَصَارَ لَفْظُ الْإِحْصَانِ يَتَنَاوَلُ الْحُرِّيَّةَ مَعَ الْعِفَّةِ ؛ لِأَنَّ
الْإِمَاءَ لَمْ تَكُنْ عَفَائِفَ وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ هُوَ يَنْهَى عَنْ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ زَوْجُهَا
يُحْصِنُهَا لِأَنَّهَا تَسْتَكْفِي بِهِ وَلِأَنَّهُ يَغَارُ عَلَيْهَا . فَصَارَ
لَفْظُ " الْإِحْصَانِ " يَتَنَاوَلُ : الْإِسْلَامَ
وَالْحُرِّيَّةَ وَالنِّكَاحَ .
وَأَصْلُهُ إنَّمَا هُوَ الْعِفَّةُ ؛ فَإِنَّ
الْعَفِيفَةَ هِيَ الَّتِي أُحْصِنَ فَرْجُهَا مِنْ غَيْرِ صَاحِبِهَا
كَالْمُحْصَنِ الَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ
إنَّمَا أَبَاحَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ
" وَالْبَغَايَا " لَسْنَ مُحْصَنَاتٍ : فَلَمْ يُبِحْ اللَّهُ
نِكَاحَهُنَّ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ }
وَالْمُسَافِحُ الزَّانِي الَّذِي يَسْفَحُ مَاءَهُ مَعَ هَذِهِ وَهَذِهِ
وَكَذَلِكَ الْمُسَافِحَةُ وَالْمُتَّخِذَةُ الْخِدْنِ الَّذِي تَكُونُ لَهُ صَدِيقَةً يَزْنِي بِهَا دُونَ غَيْرِهِ فَشَرْطٌ فِي الْحِلِّ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ غَيْرَ مُسَافِحٍ وَلَا مُتَّخِذِ خِدْنٍ . فَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ بَغِيًّا وَتُسَافِحُ هَذَا وَهَذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجُهَا مُحْصِنًا لَهَا عَنْ غَيْرِهِ ؛ إذْ لَوْ كَانَ مُحْصِنًا لَهَا كَانَتْ مُحْصَنَةً وَإِذَا كَانَتْ مُسَافِحَةً لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً . وَاَللَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ النِّكَاحَ إذَا كَانَ الرِّجَالُ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَإِذَا شُرِطَ فِيهِ أَلَّا يَزْنِيَ بِغَيْرِهَا - فَلَا يَسْفَحُ مَاءَهُ مَعَ غَيْرِهَا - كَانَ أَبْلَغَ وَأَبْلَغَ . وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : " السِّفَاحُ " الزِّنَا . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ { مُحْصِنِينَ } أَيْ مُتَزَوِّجِينَ { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } قَالَ : وَأَصْلُهُ مِنْ سَفَحْت الْقِرْبَةَ إذَا صَبَبْتهَا . فَسَمَّى " الزِّنَا " سِفَاحًا ؛ لِأَنَّهُ يَصُبُّ النُّطْفَةَ وَتَصُبُّ الْمَرْأَةُ النُّطْفَةَ . وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ : " السِّفَاحُ " صَبُّ الْمَاءِ بِلَا عَقْدٍ وَلَا نِكَاحٍ فَهِيَ الَّتِي تَسْفَحُ مَاءَهَا . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : { مُحْصِنِينَ } أَيْ عَاقِدِينَ التَّزَوُّجَ . وَقَالَ غَيْرُهُمَا : مُتَعَفِّفِينَ غَيْرُ زَانِينَ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي النِّسَاءِ { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } فَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ بِكَسْرِ الصَّادِ . " وَالْمُحْصِنُ " هُوَ الَّذِي يُحْصِنُ غَيْرَهُ ؛ لَيْسَ هُوَ الْمُحْصَنَ بِالْفَتْحِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِي الْحَدِّ . فَلَمْ يُبَحْ إلَّا تَزَوُّجُ مَنْ يَكُونُ مُحْصَنًا لِلْمَرْأَةِ غَيْرَ مُسَافِحٍ وَمَنْ تَزَوَّجَ بِبَغِيِّ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى الْبِغَاءِ وَلَمْ يُحْصِنْهَا مِنْ غَيْرِهِ - بَلْ هِيَ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ النِّكَاحِ تَبْغِي مَعَ غَيْرِهِ - فَهُوَ مُسَافِحٌ بِهَا لَا مُحْصِنٌ لَهَا . وَهَذَا حَرَامٌ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّك تَبْتَغِي بِمَالِكِ النِّكَاحِ لَا تَبْتَغِي بِهِ السِّفَاحَ فَتُعْطِيهَا الْمَهْرَ عَلَى أَنْ تَكُونَ زَوْجَتَك لَيْسَ لِغَيْرِك فِيهَا حَقٌّ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْطَيْتهَا عَلَى أَنَّهَا مُسَافِحَةٌ لِمَنْ تُرِيدُ وَأَنَّهَا صَدِيقَةٌ لَك تَزْنِي بِك دُونَ غَيْرِك فَهَذَا حَرَامٌ ؟ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ مَقْصُودُهُ أَنَّهَا تَكُونُ لَهُ ؛ لَا لِغَيْرِهِ وَهِيَ لَمْ تَتُبْ مِنْ الزِّنَا : لَمْ تَكُنْ مُوفِيَةً بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّهُ يُحْصِنُهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا فَيُسْكِنُهَا حَيْثُ لَا يُمْكِنُهَا الزِّنَا ؟ قِيلَ : أَمَّا إذَا أَحْصَنَهَا بِالْقَهْرِ فَلَيْسَ هُوَ بِمِثْلِ الَّذِي يُمَكِّنُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الرِّجَالِ وَدُخُولِ الرِّجَالِ إلَيْهَا ؛ لَكِنْ قَدْ عُرِفَ بِالْعَادَاتِ وَالتَّجَارِبِ أَنَّ الْمَرْأَة إذَا كَانَتْ لَهَا إرَادَةٌ فِي غَيْرِ الزَّوْجِ احْتَالَتْ إلَى ذَلِكَ بِطُرُقِ كَثِيرَةٍ وَتَخْفَى عَلَى الزَّوْجِ وَرُبَّمَا أَفْسَدَتْ عَقْلَ الزَّوْجِ بِمَا تُطْعِمُهُ وَرُبَّمَا سَحَرَتْهُ أَيْضًا وَهَذَا كَثِيرٌ مَوْجُودٌ : رِجَالٌ أَطْعَمَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَسَحَرَتْهُمْ نِسَاؤُهُمْ حَتَّى يُمْكِنَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَفْعَلَ مَا شَاءَتْ ؛ وَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَذْهَبَ هُوَ إلَى غَيْرِهَا ؛ فَهِيَ تَقْصِدُ مَنْعَهُ مِنْ الْحَلَالِ أَوْ مِنْ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ . وَقَدْ تَقْصِدُ أَنْ يُمَكِّنَهَا أَنْ تَفْعَلَ مَا شَاءَتْ فَلَا يَبْقَى مُحْصِنًا لَهَا قَوَّامًا عَلَيْهَا ؛ بَلْ تَبْقَى هِيَ الْحَاكِمَةُ عَلَيْهِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا مَوْجُودًا فِيمَنْ تَزَوَّجَتْ وَلَمْ تَكُنْ بَغِيًّا : فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَتْ بَغِيًّا ؟ وَالْحِكَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ . وَيَا لَيْتَهَا مَعَ التَّوْبَةِ يَلْزَمُ
مِنْهُ دَوَامُ التَّوْبَةِ : فَهَذَا إذَا أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُهَا وَقِيلَ لَهُ : أَحْصِنْهَا وَاحْتَفِظْ أَمْكَنَ ذَلِكَ . أَمَّا بِدُونِ التَّوْبَةِ فَهَذَا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ . وَلِهَذَا تَكَلَّمُوا فِي تَوْبَتِهَا فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : يُرَاوِدُهَا عَلَى نَفْسِهَا . فَإِنْ أَجَابَتْهُ كَمَا كَانَتْ تُجِيبُهُ لَمْ تَتُبْ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ : لَا يُرَاوِدُهَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ تَابَتْ فَإِذَا رَاوَدَهَا نَقَضَتْ التَّوْبَةَ وَلِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ إذَا رَاوَدَهَا أَنْ يَقَعَ فِي ذَنْبٍ مَعَهَا . وَاَلَّذِينَ اشْتَرَطُوا امْتِحَانَهَا قَالُوا : لَا يُعْرَفُ صِدْقُ تَوْبَتِهَا بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ : { إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } و " الْمُهَاجِرُ " قَدْ يَتَنَاوَلُ التَّائِبَ قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ } فَهَذِهِ إذَا ادَّعَتْ أَنَّهَا هَجَرَتْ السُّوءَ اُمْتُحِنَتْ عَلَى ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ صِدْقُ تَوْبَتِهَا . وقَوْله تَعَالَى { وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } حَرُمَ بِهِ أَنْ يَتَّخِذَ صَدِيقَةً فِي السِّرِّ تَزْنِي مَعَهُ لَا مَعَ غَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي آيَةِ الْإِمَاءِ { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } فَذَكَرَ فِي " الْإِمَاءِ " { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } وَأَمَّا " الْحَرَائِرُ " فَاشْتَرَطَ فِيهِنَّ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَذَكَرَ فِي الْمَائِدَةِ { وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ }
لَمَّا
ذَكَرَ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفِي النِّسَاءِ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا غَيْرَ
مُسَافِحِينَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِمَاءَ كُنَّ مَعْرُوفَاتٍ بِالزِّنَا دُونَ
الْحَرَائِرِ فَاشْتَرَطَ فِي نِكَاحِهِنَّ أَنْ يَكُنَّ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ
مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَدَلَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ
الْأَمَةَ الَّتِي تَبْغِي لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُهَا إلَّا إذَا تَزَوَّجَهَا
عَلَى أَنَّهَا مُحْصَنَةٌ يُحْصِنُهَا زَوْجُهَا فَلَا تُسَافِحُ الرِّجَالَ
وَلَا تَتَّخِذُ صَدِيقًا
. وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْأُمُورِ فِي تَحْرِيمِ
نِكَاحِ الْأَمَةِ الْفَاجِرَةِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ { مُحْصَنَاتٍ } عَفَائِفُ غَيْرُ زَوَانٍ { وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ }
يَعْنِي أَخِلَّاءَ : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنْ
الزِّنَا وَيَسْتَحِلُّونَ مَا خَفِيَ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى : " الْمُسَافِحَاتُ " الْمُعْلِنَاتُ بِالزِّنَا "
وَالْمُتَّخِذَاتُ أَخْدَانٍ " ذَوَاتُ الْخَلِيلِ الْوَاحِدِ . قَالَ بَعْضُ
الْمُفَسِّرِينَ : كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَتَّخِذُ صَدِيقًا تَزْنِي مَعَهُ وَلَا
تَزْنِي مَعَ غَيْرِهِ . فَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ
السَّلَفِ الْمُحْصَنَاتِ بِالْعَفَائِفِ وَهُوَ كَمَا قَالُوا وَذَكَرُوا أَنَّ
الزِّنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ نَوْعَيْنِ : نَوْعًا مُشْتَرِكًا وَنَوْعًا
مُخْتَصًّا . وَالْمُشْتَرِكُ مَا يَظْهَرُ فِي الْعَادَةِ ؛ بِخِلَافِ الْمُخْتَصِّ فَإِنَّهُ
مُسْتَتِرٌ فِي الْعَادَةِ . وَلَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ الْمُخْتَصَّ وَهُوَ
شَبِيهٌ بِالنِّكَاحِ ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ تَخْتَصُّ فِيهِ الْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ
: وَجَبَ الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْ اتِّخَاذِ
الْأَخْدَانِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ إذَا كَانَ يَزْنِي بِهَا وَحْدَهَا لَمْ يَعْرِفْ
أَنَّهَا لَمْ يَطَأْهَا غَيْرُهُ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي
تَلِدُهُ مِنْهُ وَلَا يَثْبُتُ لَهَا خَصَائِصُ النِّكَاحِ .
فَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ عَلَى
" النِّكَاحِ السِّرِّ " فَإِنَّ نِكَاحَ السِّرِّ مِنْ جِنْسِ
اتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ شَبِيهٌ بِهِ لَا سِيَّمَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِلَا
وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ
وَكَتَمَا ذَلِكَ : فَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يَتَّخِذُ صَدِيقَةً لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ هَذَا فَلَا يَشَاءُ مَنْ يَزْنِي بِأَمَرَةِ صَدِيقَةٍ لَهُ إلَّا قَالَ : تَزَوَّجْتهَا . وَلَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ تَزَوَّجَ فِي السِّرِّ : إنَّهُ يَزْنِي بِهَا إلَّا قَالَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَرْقٌ مُبِينٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } فَإِذَا ظَهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ قَدْ أَحْصَنَهَا تَمَيَّزَتْ عَنْ الْمُسَافِحَاتِ وَالْمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانًا وَإِذَا كَانَ يُمَكِّنُهَا أَنْ تَذْهَبَ إلَى الْأَجَانِبِ لَمْ تَتَمَيَّزْ الْمُحْصَنَاتُ كَمَا أَنَّهُ إذَا كَتَمَ نِكَاحَهَا فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ لَمْ تَتَمَيَّزْ مِنْ الْمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانًا . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ هَذَا عَنْ هَذَا فَقِيلَ : الْوَاجِبُ الْإِعْلَانُ فَقَطْ سَوَاءٌ أَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ . وَقِيلَ : الْوَاجِبُ الْإِشْهَادُ سَوَاءٌ أَعْلَنَ أَوْ لَمْ يُعْلِنْ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : يَجِبُ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : يَجِبُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ عَنْ أَحْمَد . وَاشْتِرَاطُ " الْإِشْهَادِ " وَحْدَهُ ضَعِيفٌ ؛ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ حَدِيثٌ . وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ دَائِمًا لَهُ شُرُوطٌ لَمْ يُبَيِّنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا . وَإِذَا كَانَ هَذَا شَرْطًا كَانَ ذِكْرُهُ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الْمَهْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا حَدِيثٍ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا
أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَنَاكِحِهِمْ . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ : لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ شَيْءٌ وَلَوْ أَوْجَبَهُ لَكَانَ الْإِيجَابُ إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ هَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَجِبُ إظْهَارُهَا وَإِعْلَانُهَا فَاشْتِرَاطُ الْمَهْرِ أَوْلَى ؛ فَإِنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ تَقْدِيرُهُ فِي الْعَقْدِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ ذَلِكَ لَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ : وَلَمْ يُضَيِّعُوا حِفْظَ مَا لَا بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ الْهِمَمَ وَالدَّوَاعِيَ تَتَوَافَرُ عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ وَاَلَّذِي يَأْمُرُ بِحِفْظِ ذَلِكَ . وَهُمْ قَدْ حَفِظُوا نَهْيَهُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ وَنِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَقَعُ قَلِيلًا ؛ فَكَيْفَ النِّكَاحُ بِلَا إشْهَادٍ إذَا كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَدْ حَرَّمَهُ وَأَبْطَلَهُ كَيْفَ لَا يُحْفَظُ فِي ذَلِكَ نَصٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ لَوْ نُقِلَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ لَكَانَ مَرْدُودًا عِنْدَ مَنْ يَرَى مِثْلَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَعْظَمَ مِنْ الْبَلْوَى بِكَثِيرِ مِنْ الْأَحْكَامِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ نِكَاحٍ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِإِشْهَادِ ؛ وَقَدْ عَقَدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِشْهَادِ دُونَ غَيْرِهِ بَاطِلٌ قَطْعًا ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُشْتَرِطُونَ لِلْإِشْهَادِ مُضْطَرِبِينَ اضْطِرَابًا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْأَصْلِ فَلَيْسَ لَهُمْ قَوْلٌ يَثْبُتُ عَلَى مِعْيَارِ الشَّرْعِ إذَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ وَالشَّهَادَةُ الَّتِي لَا تَجِبُ عِنْدَهُمْ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا بِإِشْهَادِ ذَوِي الْعَدْلِ فَكَيْفَ بِالْإِشْهَادِ الْوَاجِبِ .
ثُمَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ " بِالْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ " وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي النِّكَاحِ ثُمَّ يَأْمُرُونَ بِهِ فِي النِّكَاحِ وَلَا يُوجِبُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي الرَّجْعَةِ وَاَللَّهُ أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ ؛ لِئَلَّا يُنْكَرَ الزَّوْجُ وَيَدُومُ مَعَ امْرَأَتِهِ فَيُفْضِي إلَى إقَامَتِهِ مَعَهَا حَرَامًا ؛ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْإِشْهَادِ عَلَى طَلَاقٍ لَا رَجْعَةَ مَعَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُسَرِّحُهَا بِإِحْسَانِ عقيب الْعِدَّةِ فَيَظْهَرُ الطَّلَاقُ . وَلِهَذَا قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ مِمَّا يَعِيبُ بِهِ أَهْلُ الرَّأْيِ : أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِشْهَادِ فِي الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ ؛ وَهُمْ أُمِرُوا بِهِ فِي النِّكَاحِ دُونَ الْبَيْعِ . وَهُوَ كَمَا قَالَ . وَالْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ . وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِيهِ بِإِشْهَادِ وَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ وَذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ أُمِرَ فِيهِ بِالْإِعْلَانِ فَأَغْنَى إعْلَانُهُ مَعَ دَوَامِهِ عَنْ الْإِشْهَادِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَكَانَ هَذَا الْإِظْهَارُ الدَّائِمُ مُغْنِيًا عَنْ الْإِشْهَادِ كَالنَّسَبِ ؛ فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُشْهِدَ فِيهِ أَحَدًا عَلَى وِلَادَةِ امْرَأَتِهِ ؛ بَلْ هَذَا يَظْهَرُ وَيَعْرِفُ أَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ هَذَا فَأَغْنَى هَذَا عَنْ الْإِشْهَادِ ؛ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُجْحَدُ وَيَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا إذَا كَانَ النِّكَاحُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَظْهَرُ فِيهِ كَانَ إعْلَانُهُ بِالْإِشْهَادِ . فَالْإِشْهَادُ قَدْ يَجِبُ فِي النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يُعْلَنُ وَيَظْهَرُ ؛ لَا لِأَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ ؛ بَلْ إذَا زَوَّجَهُ وَلِيَّتَهُ ثُمَّ خَرَجَا فَتَحَدَّثَا بِذَلِكَ وَسَمِعَ النَّاسُ أَوْ جَاءَ الشُّهُودُ وَالنَّاسُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَأَخْبَرُوهُمْ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا : كَانَ هَذَا كَافِيًا . وَهَكَذَا كَانَتْ عَادَةُ السَّلَفِ لَمْ يَكُونُوا يُكَلِّفُونَ إحْظَارَ شَاهِدَيْنِ وَلَا كِتَابَةَ صَدَاقٍ
وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِالْإِيجَابِ مِنْ اشْتِرَاطِ شَاهِدَيْنِ مَسْتُورَيْنِ وَهُوَ لَا يَقْبَلُ عِنْدَ الْأَدَاءِ إلَّا مَنْ تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ : فَهَذَا أَيْضًا لَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ . وَقَدْ شَذَّ بَعْضُهُمْ فَأَوْجَبَ مَنْ يَكُونُ مَعْلُومَ الْعَدَالَةِ ؛ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ قَطْعًا فَإِنَّ أَنْكِحَةَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ فِيهَا هَذَا . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد عَلَى قَوْلِهِ بِاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ . فَقِيلَ : يُجْزِئُ فَاسِقَانِ : كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : يُجْزِئُ مَسْتُورَانِ وَهَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : فِي الْمَذْهَبِ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ . وَقِيلَ : بَلْ إنْ عَقَدَ حَاكِمٌ فَلَا يَعْقِدُهُ إلَّا بِمَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ الْحُكَّامَ هُمْ الَّذِينَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْمَبْرُورِ وَالْمَسْتُورِ . ثُمَّ الْمَعْرُوفُ الْعَدَالَةِ عِنْدَ حَاكِمِ الْبَلَدِ : فَهُوَ خِلَافُ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا : حَيْثُ يَعْقِدُونَ الْأَنْكِحَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَالْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ وَالْحَاكِمُ لَا يَعْرِفُهُمْ . وَإِنْ اشْتَرَطُوا مَنْ يَكُونُ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ بِالْخَيْرِ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعَدْلِ لِمَقْبُولِ الشَّهَادَةَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ . ثُمَّ الشُّهُودُ يَمُوتُونَ وَتَتَغَيَّرُ أَحْوَالُهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ : مَقْصُودُ الشَّهَادَةِ إثْبَاتُ الْفِرَاشِ عِنْدَ التجاحد حِفْظًا لِنَسَبِ الْوَلَدِ . فَيُقَالُ : هَذَا حَاصِلٌ بِإِعْلَانِ النِّكَاحِ وَلَا يَحْصُلُ بِالْإِشْهَادِ مَعَ الْكِتْمَانِ مُطْلَقًا . فَاَلَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ مَعَ الْإِعْلَانِ يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدَانِ . وَأَمَّا مَعَ الْكِتْمَانِ وَالْإِشْهَادِ فَهَذَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ . وَإِذَا اجْتَمَعَ الْإِشْهَادُ وَالْإِعْلَانُ . فَهَذَا الَّذِي لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ . وَإِنْ خَلَا عَنْ الْإِشْهَادِ وَالْإِعْلَانِ : فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ فَإِنْ قُدِّرَ فِيهِ خِلَافٌ
فَهُوَ
قَلِيلٌ . وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ ثُمَّ
يُقَالُ مَا يُمَيِّزُ هَذَا عَنْ الْمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانًا . وَفِي
الْمُشْتَرِطِينَ لِلشَّهَادَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ لَا
يُعَلِّلُ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ الْفِرَاشِ ؛ لَكِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ حُضُورَ
اثْنَيْنِ تَعْظِيمًا لِلنِّكَاحِ . وَهَذَا يَعُودُ إلَى مَقْصُودِ الْإِعْلَانِ
. وَإِذَا كَانَ النَّاسُ مِمَّنْ يَجْهَلُ بَعْضُهُمْ حَالَ بَعْضٍ وَلَا
يَعْرِفُ مَنْ عِنْدَهُ هَلْ هِيَ امْرَأَتُهُ أَوْ خَدِينُهُ مِثْلُ الْأَمَاكِنِ
الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا النَّاسُ الْمَجَاهِيلُ : فَهَذَا قَدْ يُقَالُ : يَجِبُ
الْإِشْهَادُ هُنَا . وَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يَكْتُبُونَ " صَدَاقَاتٍ
" لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَزَوَّجُونَ عَلَى مُؤَخَّرٍ ؛ بَلْ يُعَجِّلُونَ
الْمَهْرَ وَإِنْ أَخَّرُوهُ فَهُوَ مَعْرُوفٌ ؛ فَلَمَّا صَارَ النَّاسُ
يَتَزَوَّجُونَ عَلَى الْمُؤَخَّرِ وَالْمُدَّةُ تَطُولُ وَيُنْسَى : صَارُوا
يَكْتُبُونَ الْمُؤَخَّرَ وَصَارَ ذَلِكَ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ الصَّدَاقِ ؛ وَفِي
أَنَّهَا زَوْجَةٌ لَهُ ؛ لَكِنَّ هَذَا الْإِشْهَادَ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ
؛ سَوَاءٌ حَضَرَ الشُّهُودُ الْعَقْدَ أَوْ جَاءُوا بَعْدَ الْعَقْدِ فَشَهِدُوا
عَلَى إقْرَارِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلِيِّ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ
ذَلِكَ نِكَاحٌ قَدْ أُعِلْنَ وَإِشْهَادُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَوَاصٍ
بِكِتْمَانِهِ إعْلَانٌ .
وَهَذَا بِخِلَافِ " الْوَلِيِّ " فَإِنَّهُ
قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ
مَوْضِعٍ وَهُوَ عَادَةُ الصَّحَابَةِ إنَّمَا كَانَ يُزَوِّجُ النِّسَاءَ
الرِّجَالُ لَا يُعْرَفُ أَنَّ امْرَأَةً تُزَوِّجُ نَفْسَهَا . وَهَذَا مِمَّا
يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ وَلِهَذَا قَالَتْ
عَائِشَةُ : لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا ؛ فَإِنَّ الْبَغِيَّ هِيَ
الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا . لَكِنْ لَا يَكْتَفِي بِالْوَلِيِّ حَتَّى يُعْلِنَ ؛ فَإِنَّ
مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحْسَنًا عَلَى قَرَابَتِهِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } فَخَاطَبَ الرِّجَالَ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى كَمَا خَاطَبَهُمْ بِتَزْوِيجِ الرَّقِيقِ . وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } . وَهَذَا الْفَرْقُ مِمَّا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ . و " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الصَّدَاقَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَمْ يُوجِبْ الْإِشْهَادَ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مَعَ نَفْيِ الْمَهْرِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا مَعَ الْإِشْهَادِ : فَقَدْ أَسْقَطَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَأَوْجَبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَ الْمَدَنِيِّينَ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ فِي تَحْرِيمِهِمْ " نِكَاحَ الشِّغَارِ " وَأَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ نَفْيُ الْمَهْرِ فَحَيْثُ يَكُونُ الْمَهْرُ : فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ وَهُوَ أَنَصّ الرِّوَايَتَيْنِ وَأَصْرَحُهُمَا عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَاخْتِيَارُ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ . وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ رُجْحَانَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ - كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ - عَلَى مَا خَالَفَهَا مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي قِيلَتْ بِرَأْيٍ يُخَالِفُ النُّصُوصَ ؛ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ الَّذِينَ قَالُوا بِرَأْيٍ يُخَالِفُ النُّصُوصَ بَعْدَ اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدْ فَعَلُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَاجْتَهَدُوا وَاَللَّهُ يُثِيبُهُمْ وَهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ يُثِيبُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ : فَآجَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ عَلِمُوا مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ
أَفْضَلَ مِمَّنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ . وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَجْرَانِ وَأُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } . وَمَنْ تَدَبَّرَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدَهَا مُفَسِّرَةً لِأَمْرِ النِّكَاحِ لَا تَشْتَرِطُ فِيهِ مَا يَشْتَرِطُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ ؛ كَمَا اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ : أَلَّا يَكُونَ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ . وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ : أَنْ يَكُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ . وَاشْتَرَطَ هَؤُلَاءِ وَطَائِفَةٌ : أَلَّا يَكُونَ إلَّا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ . ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ هَذَا صَحَّحُوا النِّكَاحَ مَعَ نَفْيِ الْمَهْرِ . ثُمَّ صَارُوا طَائِفَتَيْنِ : طَائِفَةٌ تُصَحِّحُ " نِكَاحَ الشِّغَارِ " لِأَنَّهُ لَا مُفْسِدَ لَهُ إلَّا نَفْيُ الْمَهْرِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُفْسِدِ عِنْدَهُمْ . وَطَائِفَةٌ تُبْطِلُهُ وَتُعَلِّلُ ذَلِكَ بِعِلَلِ فَاسِدَةٍ ؛ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ . وَصَحَّحُوا " نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ " الَّذِي يَقْصِدُ التَّحْلِيلَ فَكَانَ قَوْلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا لَفْظًا مُعَيَّنًا فِي النِّكَاحِ وَلَا إشْهَادَ شَاهِدِينَ مَعَ إعْلَانِهِ وَإِظْهَارِهِ وَأَبْطَلُوا نِكَاحَ الشِّغَار وَكُلَّ نِكَاحٍ نُفِيَ فِيهِ الْمَهْرُ وَأَبْطَلُوا نِكَاحَ الْمُحَلِّلَ . . . (1) أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ الْحِجَازِيِّ وَالْعِرَاقِيِّ وَسَّعُوا " بَابَ الطَّلَاقِ " فَأَوْقَعُوا طَلَاقَ السَّكْرَانِ وَالطَّلَاقَ الْمَحْلُوفِ بِهِ وَأَوْقَعَ هَؤُلَاءِ طَلَاقَ
الْمُكْرَهِ
وَهَؤُلَاءِ الطَّلَاقَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ فِيمَا حَلَفَ بِهِ وَجَعَلُوا
الْفُرْقَةَ الْبَائِنَةَ طَلَاقًا مَحْسُوبًا مِنْ الثَّلَاثِ فَجَعَلُوا
الْخُلْعَ طَلَاقًا بَائِنًا مَحْسُوبًا مِنْ الثَّلَاثِ . إلَى أُمُورٍ أُخْرَى
وَسَّعُوا بِهَا الطَّلَاقَ الَّذِي يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَضَيَّقُوا النِّكَاحَ
الْحَلَالَ . ثُمَّ لَمَّا وَسَّعُوا الطَّلَاقَ صَارَ هَؤُلَاءِ يُوَسِّعُونَ فِي
الِاحْتِيَالِ فِي عَوْدِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا وَهَؤُلَاءِ لَا سَبِيلَ
عِنْدَهُمْ إلَى رَدِّهَا ؛ فَكَانَ هَؤُلَاءِ فِي آصَارٍ وَأَغْلَالٍ وَهَؤُلَاءِ
فِي خِدَاعٍ وَاحْتِيَالٍ
. وَمَنْ تَأَمَّلَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَآثَارَ
الصَّحَابَةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ أَغْنَى عَنْ هَذَا وَأَنَّ اللَّهَ
بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ
الْخَبَائِثَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة -
رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ بِنْتِ الزِّنَا : هَلْ تُزَوَّجُ بِأَبِيهَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ
الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّزْوِيجُ بِهَا وَهُوَ الصَّوَابُ
الْمَقْطُوعُ بِهِ ؛ حَتَّى تَنَازَعَ الْجُمْهُورُ : هَلْ يُقْتَلُ مَنْ فَعَلَ
ذَلِكَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَد : أَنَّهُ يُقْتَلُ مَنْ فَعَلَ
ذَلِكَ . فَقَدْ يُقَالُ : هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَأَوِّلًا . وَأَمَّا "
الْمُتَأَوِّلُ " فَلَا يُقْتَلُ ؛ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا . وَقَدْ يُقَالُ :
هَذَا مُطْلَقًا كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ : إنَّهُ يُجْلَدُ مَنْ شَرِبَ
النَّبِيذَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ مُتَأَوِّلًا ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ لَا
يَفْسُقُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَفَسَّقَهُ
مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَالصَّحِيحُ : أَنَّ الْمُتَأَوِّلَ الْمَعْذُورَ لَا يَفْسُقُ ؛ بَلْ وَلَا يَأْثَمُ . وَأَحْمَد لَمْ يَبْلُغْهُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا ؛ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهَا إنَّمَا ظَهَرَ فِي زَمَنِهِ لَمْ يَظْهَرْ فِي زَمَنِ السَّلَفِ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَعْرِفْهُ . وَاَلَّذِينَ سَوَّغُوا " نِكَاحَ الْبِنْتِ مِنْ الزِّنَا " حُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ قَالُوا : لَيْسَتْ هَذِهِ بِنْتًا فِي الشَّرْعِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ ؛ وَلَا يَجِبُ نَفَقَتُهَا ؛ وَلَا يَلِي نِكَاحَهَا وَلَا تَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَبِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بِنْتًا فِي الشَّرْعِ لَمْ تَدْخُلْ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ فَتَبْقَى دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } . وَأَمَّا حُجَّةُ الْجُمْهُورِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الْآيَةُ هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ مَنْ شَمِلَهُ هَذَا اللَّفْظُ سَوَاءٌ كَانَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا وَسَوَاءٌ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ التَّوَارُثُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ : أَمْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا التَّحْرِيمُ خَاصَّةً لَيْسَ الْعُمُومُ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ كَالْعُمُومِ فِي آيَةِ الْفَرَائِضِ وَنَحْوِهَا ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : " أَحَدُهَا " أَنَّ آيَةَ التَّحْرِيمِ تَتَنَاوَلُ الْبِنْتَ وَبِنْتَ الِابْنِ وَبِنْتَ الْبِنْتِ ؛ كَمَا يَتَنَاوَلُ لَفْظُ " الْعَمَّةِ " عَمَّةَ الْأَبِ ؛ وَالْأُمِّ وَالْجَدِّ . وَكَذَلِكَ بِنْتُ الْأُخْتِ وَبِنْتُ ابْنِ الْأُخْتِ . وَبِنْتُ بِنْتِ الْأُخْتِ . وَمِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ لَا يَثْبُتُ لَا فِي آيَةِ الْفَرَائِضِ وَلَا نَحْوِهَا مِنْ الْآيَاتِ وَالنُّصُوصِ الَّتِي عَلَّقَ فِيهَا الْأَحْكَامَ بِالْأَنْسَابِ .
" الثَّانِي " أَنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الرَّضَاعَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرِمُ مِنْ الْوِلَادَةِ } وَفِي لَفْظٍ { مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } وَهَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ وَعَلَى الْأَئِمَّةِ بِهِ : فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِطِفْلِ غَذَّتْهُ مِنْ لَبَنِهَا أَوْ أَنْ تَنْكِحَ أَوْلَادَهُ وَحَرَّمَ عَلَى أُمَّهَاتِهَا وَعَمَّاتِهَا وَخَالَتِهَا ؛ بَلْ حَرَّمَ عَلَى الطِّفْلَةِ الْمُرْتَضِعَةِ مِنْ امْرَأَةٍ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالْفَحْلِ صَاحِبِ اللَّبَنِ وَهُوَ الَّذِي وَطِئَ الْمَرْأَةَ حَتَّى دَرَّ اللَّبَنُ بِوَطْئِهِ . فَإِذَا كَانَ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَنْكِحَ بِنْتَهُ مِنْ الرِّضَاعِ وَلَا يَثْبُتَ فِي حَقِّهَا شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النَّسَبِ - سِوَى التَّحْرِيمِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ الْحُرْمَةِ - فَكَيْفَ يُبَاحُ لَهُ نِكَاحُ بِنْتٍ خُلِقَتْ مِنْ مَائِهِ وَأَيْنَ الْمَخْلُوقَةُ مِنْ مَائِهِ مِنْ الْمُتَغَذِّيَةِ بِلَبَنِ دُرَّ بِوَطْئِهِ فَهَذَا يُبَيِّنُ التَّحْرِيمَ مِنْ جِهَةِ عُمُومِ الْخِطَابِ وَمِنْ جِهَةِ التَّنْبِيهِ وَالْفَحْوَى وَقِيَاسِ الْأَوْلَى . " الثَّالِثُ " أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } قَالَ الْعُلَمَاءُ : احْتِرَازٌ عَنْ ابْنِهِ الَّذِي تَبَنَّاهُ كَمَا قَالَ : { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يستلحقون وَلَدَ الزِّنَا أَعْظَمَ مِمَّا يستلحقون وَلَدَ الْمُتَبَنِّي فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { مِنْ أَصْلَابِكُمْ } عُلِمَ أَنَّ لَفْظَ " الْبَنَاتِ " وَنَحْوِهَا يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي لُغَتِهِمْ دَاخِلًا فِي الِاسْمِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا الْمِيرَاثُ وَنَحْوُهُ . فَجَوَابُهُ أَنَّ النَّسَبَ تَتَبَعَّضُ أَحْكَامُهُ فَقَدْ ثَبَتَ بَعْضُ أَحْكَامِ النَّسَبِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا
وَافَقَ أَكْثَرُ الْمُنَازِعِينَ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُلَاعِنِ وَلَا يَرِثُهُ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِلْحَاقِ وَلَدِ الزِّنَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِرَاشًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . كَمَا ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَلْحَقَ ابْنَ وَلِيدَةِ زمعة بْنِ الْأَسْوَدِ بزمعة بْنِ الْأَسْوَدِ وَكَانَ قَدْ أَحْبَلَهَا عتبة بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَاخْتَصَمَ فِيهِ سَعْدٌ وَعَبْدُ ابْنُ زمعة (*) فَقَالَ سَعْدٌ : ابْنُ أَخِي . عَهِدَ إلَيَّ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زمعة هَذَا ابْنِي . فَقَالَ عَبْدٌ : أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي ؛ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنَ زمعة . الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ؛ احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ } لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ الْبَيِّنِ بعتبة فَجَعَلَهُ أَخَاهَا فِي الْمِيرَاثِ دُونَ الْحُرْمَةِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي وَلَدِ الزِّنَا : هَلْ يَعْتِقُ بِالْمِلْكِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا بَسْطٌ لَا تَسَعُهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الضَّعِيفَةِ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْكِيَهَا عَنْ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَدْحِ فِيهِ وَلَا عَلَى وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ لَهُ فِيهَا فَإِنَّ فِي ذَلِكَ ضَرْبًا مِنْ الطَّعْنِ فِي الْأَئِمَّةِ وَاتِّبَاعِ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ وَبِمِثْلِ ذَلِكَ صَارَ وَزِيرُ التتر يُلْقِي الْفِتْنَةَ بَيْنَ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إلَى الْخُرُوجِ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَيُوقِعَهُمْ فِي مَذَاهِبِ الرَّافِضَةِ وَأَهْلِ الْإِلْحَادِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ فِي حَالِ شبوبيته وَقَدْ
رَأَى مَعَهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِنْتًا وَهُوَ يَطْلُبُ التَّزْوِيجَ بِهَا
وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ هِيَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ فِي
تَزْوِيجِهَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَحِلُّ لَهُ التَّزْوِيجُ
بِهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّ بِنْتَ الَّتِي زَنَى بِهَا مِنْ
غَيْرِهِ لَا يَحِلُّ التَّزَوُّجُ بِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ
وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَأَمَّا بِنْتُهُ مِنْ الزِّنَا
فَأَغْلَظُ مِنْ ذَلِكَ وَإِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِهَا حَرُمَتَا
عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَحَمَلَتْ مِنْهُ فَأَتَتْ
بِأُنْثَى : فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْبِنْتَ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَحِلُّ ذَلِكَ عِنْدَ
جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يُحِلَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَعْرِفْ أَحْمَد بْنُ
حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ
- مَعَ كَثْرَةِ اطِّلَاعِهِمْ - فِي ذَلِكَ نِزَاعًا
بَيْنَ السَّلَفِ فَأَفْتَى أَحْمَد
ابْنُ حَنْبَلٍ : إنْ فَعَلَ ذَلِكَ قُتِلَ . فَقِيلَ لَهُ ؛ إنَّهُ حَكَى فُلَانٌ فِي ذَلِكَ خِلَافًا عَنْ مَالِكٍ ؟ فَقَالَ : يَكْذِبُ فُلَانٌ . وَذَكَرَ أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا يَلْحَقُ بِأَبِيهِ الزَّانِي إذَا اسْتَلْحَقَهُ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ " أَلَاطَ " أَيْ أَلْحَقَ أَوْلَادَ الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } هَذَا إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ زَوْجٌ . وَأَمَّا " الْبَغِيُّ " الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا : فَفِي اسْتِلْحَاق الزَّانِي وَلَدَهُ مِنْهَا نِزَاعٌ . " وَبِنْتُ الْمُلَاعَنَةِ " لَا تُبَاحُ لِلْمَلَاعِنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا نِزَاعٌ شَاذٌّ ؛ مَعَ أَنَّ نَسَبَهَا يَنْقَطِعُ مِنْ أَبِيهَا وَلَكِنْ لَوْ اسْتَلْحَقَهَا لَلَحِقَتْهُ وَهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَهَذَا لِأَنَّ " النَّسَبَ " تَتَبَعَّضُ أَحْكَامُهُ فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ ابْنًا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ . فَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ لَيْسَ بِابْنِ ؛ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ وَهُوَ ابْنٌ فِي " بَابِ النِّكَاحِ " تَحْرُمُ بِنْتُ الْمُلَاعَنَةِ عَلَى الْأَبِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجُ بِنْتَه مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَا أُخْتَه ؛ مَعَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا مِنْ " أَحْكَامِ النَّسَبِ " لَا إرْثٌ وَلَا عَقْلٌ وَلَا وِلَايَةٌ وَلَا نَفَقَةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي حَقِّهَا حُرْمَةُ النِّكَاحِ والمحرمية . و " أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ " أُمَّهَاتٌ فِي الْحُرْمَةِ فَقَطْ ؛ لَا فِي المحرمية . فَإِذَا كَانَتْ الْبِنْتُ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا امْرَأَتُهُ بِلَبَنِ دُرَّ بِوَطْئِهِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْسُوبَةً إلَيْهِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ : فَكَيْفَ بِمَنْ خُلِقَتْ مِنْ نُطْفَتِهِ فَإِنَّ هَذِهِ أَشَدُّ اتِّصَالًا بِهِ مِنْ تِلْكَ وقَوْله تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الْآيَةُ : يَتَنَاوَلُ مَا يُسَمَّى بِنْتًا حَتَّى يَحْرُمَ عَلَيْهِ بِنْتُ بِنْتِهِ وَبِنْتُ ابْنِهِ ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْفَرَائِضِ : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ وَلَدَهُ وَوَلَدَ ابْنِهِ لَا يَتَنَاوَلُ وَلَدَ بِنْتِهِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ لَفْظُ الِابْنِ وَالْبِنْتِ يَتَنَاوَلُ مَا يُسَمَّى بِذَلِكَ مُطْلَقًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } لِيُحْرِزَ عَنْ الِابْنِ الْمُتَبَنَّى - كَزَيْدِ - الَّذِي كَانَ يُدْعَى : زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ . فَإِنَّ هَذَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ " ابْنًا " فَلَوْ أَطْلَقَ اللَّفْظَ لَظُنَّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى { الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } لِيُخْرِجَ ذَلِكَ . وَأَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةَ مَنْ تَبَنَّاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } . فَإِذَا كَانَ لَفْظُ " الِابْنِ " و " الْبِنْتِ " يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الشَّخْصِ حَتَّى قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ بِنْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ : فَبِنْتُهُ مِنْ الزِّنَا تُسَمَّى " بِنْتَه " فَهِيَ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ شَرْعًا وَأَوْلَى أَنْ يُدْخِلُوهَا فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ . وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ وَجَمَاهِيرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّ النِّزَاعَ الْمَشْهُورَ بَيْن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الزِّنَا هَلْ يَنْشُرُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ ؛ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّهَا وَبِنْتِهَا مِنْ غَيْرِهِ ؟ فَهَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ قَدِيمٌ بَيْنَ السَّلَفِ ؛ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى كُلِّ قَوْلٍ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : كَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : يُبِيحُونَ ذَلِكَ ؛ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَمَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : يُحَرِّمُونَ ذَلِكَ . فَهَذِهِ إذَا قَلَّدَ الْإِنْسَانُ فِيهَا أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ جَازَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَمَّنْ طَلَعَ إلَى بَيْتِهِ وَوَجَدَ عِنْدَ
امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا فَوَفَّاهَا حَقَّهَا وَطَلَّقَهَا ؛ ثُمَّ
رَجَعَ وَصَالَحَهَا وَسَمِعَ أَنَّهَا وُجِدَتْ بِجَنْبِ أَجْنَبِيٍّ ؟
فَأَجَابَ
:
فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْجَنَّةَ قَالَ
: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا يَدْخُلُك بَخِيلٌ وَلَا كَذَّابٌ وَلَا دَيُّوثٌ }
" وَالدَّيُّوثُ " الَّذِي لَا غَيْرَةَ لَهُ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ
وَإِنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ مَا حُرِّمَ
عَلَيْهِ } وَقَدّ قَالَ تَعَالَى : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً
وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ } . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ :
أَنَّ الزَّانِيَةَ لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُهَا إلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ وَكَذَلِكَ
إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَزْنِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا عَلَى تِلْكَ
الْحَالِ بَلْ يُفَارِقُهَا وَإِلَّا كَانَ دَيُّوثًا .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ الزِّنَا ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ
أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . حَتَّى إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي
ذَلِكَ نِزَاعٌ بَيْن السَّلَفِ ؛ وَقَالَ : مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ
. وَقِيلَ لَهُ عَنْ مَالِكٍ : إنَّهُ أَبَاحَهُ فَكَذَّبَ النَّقْلَ عَنْ مَالِكٍ
. وَتَحْرِيمُ هَذَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد
وَأَصْحَابِهِ ؛ وَمَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ نَصَّ عَلَى خِلَافِ
ذَلِكَ ؛ وَقَالُوا : إنَّمَا نَصَّ عَلَى بِنْتِهِ مِنْ الرِّضَاعِ ؛ دُونَ
الزَّانِيَةِ الَّتِي زَنَى بِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَمَاتَ الزَّانِي :
فَهَلْ يَجُوزُ لِوَلَدِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
هَذِهِ حَرَامٌ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد
وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَجُوزُ
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
.
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ كَانَ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا وَهُوَ يَعْلَمُ
أَنَّ غَيْرَهُ يَطَؤُهَا وَلَا يُحْصِنُهَا ؟
فَأَجَابَ
:
هُوَ دَيُّوثٌ ؛ " وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
دَيُّوثٌ " . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ تَزْنِي : فَهَلْ يَحِلُّ
لَهُ وَطْؤُهَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَتْ تَزْنِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا
حَتَّى تَحِيضَ وَيَسْتَبْرِئَهَا مِنْ الزِّنَا ؛ فَإِنَّ { الزَّانِي لَا
يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } عَقْدًا وَوَطْئًا . وَمَتَى
وَطِئَهَا مَعَ كَوْنِهَا زَانِيَةً كَانَ دَيُّوثًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امْرَأَتِي لَا
تَرُدُّ كَفَّ لَامِسٍ } فَهَلْ هُوَ مَا تَرُدُّ نَفْسَهَا عَنْ أَحَدٍ ؟ أَوْ مَا
تَرُدُّ يَدَهَا فِي الْعَطَاءِ عَنْ أَحَدٍ ؟ وَهَلْ هُوَ الصَّحِيحُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذَا الْحَدِيثُ
قَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى
أَنَّهَا لَا تَرُدُّ طَالِبَ مَالٍ ؛ لَكِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَسِيَاقَهُ
يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اعْتَقَدَ ثُبُوتَهُ وَأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا مَعَ
كَوْنِهَا لَا تَمْنَعُ الرِّجَالَ وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
الْأَئِمَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { الزَّانِي لَا
يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا
زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } وَفِي سُنَنِ أَبِي
دَاوُد وَغَيْرِهِ : { أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَرِينَةٌ
مِنْ الْبَغَايَا يُقَالُ لَهَا : عَنَاقُ ؛ وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَزَوُّجِهَا ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ } .
وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا
أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ
مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ }
فَإِنَّمَا أَبَاحَ اللَّهُ نِكَاحَ الْإِمَاءِ فِي حَالِ كَوْنِهِنَّ غَيْرَ
مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ . وَالْمُسَافِحَةُ الَّتِي تُسَافِحُ
مَعَ كُلِّ أَحَدٍ . وَالْمُتَّخِذَاتُ الْخِدْنَ الَّتِي يَكُونُ لَهَا صَدِيقٌ
وَاحِدٌ . فَإِذَا كَانَ مَنْ هَذِهِ حَالُهَا لَا تُنْكَحُ فَكَيْفَ بِمَنْ لَا
تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ ؛ بَلْ تُسَافِحُ مَنْ اتَّفَقَ وَإِذَا كَانَ مَنْ هَذِهِ
حَالُهَا فِي الْإِمَاءِ فَكَيْفَ بِالْحَرَائِرِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } فَاشْتَرَطَ هَذِهِ الشُّرُوطَ فِي
الرِّجَالِ هُنَا
كَمَا اشْتَرَطَهُ فِي النِّسَاءِ هُنَاكَ . وَهَذَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } لِأَنَّهُ مَنْ تَزَوَّجَ زَانِيَةً تُزَانِي مَعَ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مَاؤُهُ مَصُونًا مَحْفُوظًا فَكَانَ مَاؤُهُ مُخْتَلِطًا بِمَاءِ غَيْرِهِ . وَالْفَرْجُ الَّذِي يَطَؤُهُ مُشْتَرَكًا وَهَذَا هُوَ الزِّنَا . وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَ زَوْجُهَا يَزْنِي بِغَيْرِهَا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَانَ وَطْؤُهُ لَهَا مِنْ جِنْسِ وَطْءِ الزَّانِي لِلْمَرْأَةِ الَّتِي يَزْنِي بِهَا وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا غَيْرُهُ . وَإِنَّ مِنْ صُوَرِ الزِّنَا اتِّخَاذُ الْأَخْدَانِ . وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ قَبْلَ تَوْبَتِهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ ؛ لَكِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالِاعْتِبَارَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ . وَمَنْ تَأَوَّلَ آيَةَ النُّورِ بِالْعَقْدِ وَجَعَلَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا فَبُطْلَانُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ . ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَمِّ الدِّيَاثَةِ . وَمَنْ تَزَوَّجَ بَغِيًّا كَانَ دَيُّوثًا بِالِاتِّفَاقِ . وَفِي الْحَدِيثِ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَخِيلٌ وَلَا كَذَّابٌ وَلَا دَيُّوثٌ } قَالَ تَعَالَى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } أَيْ الرِّجَالُ الطَّيِّبُونَ لِلنِّسَاءِ الطَّيِّبَاتِ وَالرِّجَالُ الْخَبِيثُونَ لِلنِّسَاءِ الْخَبِيثَاتِ وَكَذَلِكَ فِي النِّسَاءِ ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ خَبِيثَةً كَانَ قَرِينُهَا خَبِيثًا . وَإِذَا كَانَ قَرِينُهَا خَبِيثًا كَانَتْ خَبِيثَةً وَبِهَذَا عَظَّمَ الْقَوْلَ فِيمَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ وَنَحْوَهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَوْلَا مَا عَلَى الزَّوْجِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعَيْبِ مَا حَصَلَ هَذَا التَّغْلِيظُ . وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ : مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ وَلَوْ كَانَ تَزَوُّجُ الْبَغِيِّ جَائِزًا لَوَجَبَ تَنْزِيهُ
الْأَنْبِيَاءِ
عَمَّا يُبَاحُ . كَيْفَ وَفِي نِسَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ هِيَ كَافِرَةٌ كَمَا
فِي أَزْوَاجِ الْمُؤْمِنَاتِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا
تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ
بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } . وَأَمَّا الْبَغَايَا فَلَيْسَ فِي الْأَنْبِيَاءِ
وَلَا الصَّالِحِينَ مَنْ تَزَوَّجَ بَغِيًّا لِأَنَّ الْبِغَاءَ يُفْسِدُ
فِرَاشَهُ . وَلِهَذَا أُبِيحَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكِتَابِيَّةَ
الْيَهُودِيَّةَ والنصرانية إذَا كَانَ مُحْصَنًا غَيْرَ مُسَافِحٍ وَلَا
مُتَّخِذِ خِدْنٍ . فَعُلِمَ أَنَّ تَزَوُّجَ الْكَافِرَةِ قَدْ يَجُوزُ
وَتَزَوُّجَ الْبَغِيَّ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ دِينِهَا لَا يَتَعَدَّى
إلَيْهِ . وَأَمَّا ضَرَرُ بِغَائِهَا فَيَتَعَدَّى إلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
:
فِي اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي النِّكَاحِ
قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ
وَبُيِّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرٌ . وَكُلُّ هَذَا
يَنْبَغِي : إبْطَالُ الْحِيَلِ وَإِبْطَالُ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ إذَا قُصِدَ
التَّحْلِيلُ وَالْمُخَالِعُ بِخُلْعِ الْيَمِينِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقْصِدْ
النِّكَاحَ وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ فِرَاقَ الْمَرْأَةِ ؛ بَلْ هَذَا مَقْصُودُهُ أَنْ تَكُونَ امْرَأَتَهُ وَقَصْدُ الْخُلْعِ مَعَ هَذَا مُمْتَنِعٌ . وَذَاكَ مَقْصُودُهُ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةَ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا وَقَصْدُهُ مَعَ هَذَا أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ مُمْتَنِعٌ ؛ وَلِهَذَا لَا يُعْطِي مَهْرًا ؛ بَلْ قَدْ يُعْطُونَهُ مِنْ عِنْدِهِمْ وَلَا يَطْلُبُ اسْتِلْحَاقَ وَلَدٍ وَلَا مُصَاهَرَةً فِي تَزْوِيجِهَا ؛ بَلْ قَدْ يُحَلِّلُ الْأُمُّ وَبِنْتَهَا : إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ النِّكَاحَ . " وَأَمَّا نِكَاحُ الْمُتْعَةِ " إذَا قَصَدَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا إلَى مُدَّةٍ ثُمَّ يُفَارِقُهَا : مِثْلَ الْمُسَافِرِ الَّذِي يُسَافِرُ إلَى بَلَدٍ يُقِيمُ بِهِ مُدَّةً فَيَتَزَوَّجُ وَفِي نِيَّتِهِ إذَا عَادَ إلَى وَطَنِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ؛ وَلَكِنَّ النِّكَاحَ عَقَدَهُ عَقْدًا مُطْلَقًا : فَهَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ . قِيلَ : هُوَ نِكَاحٌ جَائِزٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَقِيلَ : إنَّهُ نِكَاحُ تَحْلِيلٍ لَا يَجُوزُ ؛ وَرُوِيَ عَنْ الأوزاعي ؛ وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ فِي الْخِلَافِ . وَقِيلَ : هُوَ مَكْرُوهٌ ؛ وَلَيْسَ بِمُحَرَّمِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنِكَاحِ مُتْعَةٍ وَلَا يَحْرُمُ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَاصِدٌ لِلنِّكَاحِ وَرَاغِبٌ فِيهِ ؛ بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ ؛ لَكِنْ لَا يُرِيدُ دَوَامَ الْمَرْأَةِ مَعَهُ . وَهَذَا لَيْسَ بِشَرْطِ ؛ فَإِنَّ دَوَامَ الْمَرْأَةِ مَعَهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا . فَإِذَا قَصَدَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَهُ مُدَّةً فَقَدْ قَصَدَ أَمْرًا جَائِزًا ؛ بِخِلَافِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ مِثْلُ الْإِجَارَةِ تَنْقَضِي فِيهِ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ؛ وَلَا مِلْكَ لَهُ عَلَيْهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ . وَأَمَّا هَذَا فَمِلْكُهُ ثَابِتٌ مُطْلَقٌ وَقَدْ تَتَغَيَّرُ نِيَّتُهُ فَيُمْسِكُهَا دَائِمًا ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ كَمَا أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ بِنِيَّةِ إمْسَاكِهَا دَائِمًا ثُمَّ بَدَا لَهُ طَلَاقُهَا جَازَ ذَلِكَ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا .
بِنِيَّةِ أَنَّهَا إذَا أَعْجَبَتْهُ أَمْسَكَهَا وَإِلَّا فَارَقَهَا : جَازَ ؛ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَقْدِ لَكِنْ لَوْ شَرَطَ أَنْ يُمْسِكَهَا بِمَعْرُوفِ أَوْ يُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانِ : فَهَذَا مُوجَبُ الْعَقْدِ شَرْعًا ؛ وَهُوَ شَرْطٌ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَلَزِمَهُ مُوجَبُ الشَّرْعِ : كَاشْتِرَاطِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ { بَيْعُ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ } وَهَذَا مُوجَبُ الْعَقْدِ . وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ كَثِيرَ الطَّلَاقِ فَلَعَلَّ غَالِبَ مَنْ تَزَوَّجَهَا كَانَ فِي نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ مُدَّةٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ : إنَّ ذَلِكَ مُتْعَةٌ . وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْوِي طَلَاقَهَا عِنْدَ أَجَلٍ مُسَمًّى ؛ بَلْ عِنْدَ انْقِضَاءِ غَرَضِهِ مِنْهَا وَمِنْ الْبَلَدِ الَّذِي أَقَامَ بِهِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ نَوَاهُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَقَدْ تَتَغَيَّرُ نِيَّتُهُ فَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُوجِبُ تَأْجِيلَ النِّكَاحِ وَجَعْلَهُ كَالْإِجَارَةِ الْمُسَمَّاةِ وَعَزْمُ الطَّلَاقِ لَوْ قُدِّرَ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ لَمْ يُبْطِلْهُ وَلَمْ يُكْرَهْ مُقَامُهُ مَعَ الْمَرْأَةِ - وَإِنْ نَوَى طَلَاقَهَا - مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ نَعْلَمُهُ فِي ذَلِكَ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا حَدَثَ مِنْ تَأْجِيلِ النِّكَاحِ : مِثْلَ أَنْ يُؤَجِّلَ الطَّلَاقَ الَّذِي بَيْنَهُمَا ؛ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ : " أَحَدُهُمَا " تُنَجَّزُ الْفُرْقَةُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِك ؛ لِئَلَّا يَصِيرَ النِّكَاحُ مُؤَجَّلًا . " وَالثَّانِي " لَا تُنَجَّزُ لِأَنَّ هَذَا التَّأْجِيلَ طَرَأَ عَلَى النِّكَاحِ وَالدَّوَامُ أَقْوَى مِنْ الِابْتِدَاءِ . فَالْعِدَّةُ وَالرِّدَّةُ وَالْإِحْرَامُ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَهُ ؛ دُونَ دَوَامِهِ فَلَا يَلْزَمُ إذَا مُنِعَ التَّأْجِيلُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يُمْنَعَ فِي الدَّوَامِ لَكِنْ يُقَالُ : وَمِنْ الْمَوَانِعِ مَا يَمْنَعُ الدَّوَامَ وَالِابْتِدَاءَ أَيْضًا : فَهَذَا مَحَلُّ اجْتِهَادٍ . كَمَا اُخْتُلِفَ فِي
الْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ وَزَوَالِ الْكَفَاءَةِ : هَلْ تُثْبِتُ الْفَسْخَ ؟ فَأَمَّا حُدُوثُ نِيَّةِ الطَّلَاقِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ فَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا قَالَ إنَّ ذَلِكَ يُبْطِلَ النِّكَاحَ فَإِنَّهُ قَدْ يُطَلِّقُ ؛ وَقَدْ لَا يُطَلِّقُ عِنْدَ الْأَجَلِ . كَذَلِكَ النَّاوِي عِنْدَ الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ . وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَتَزَوَّجُ الْآخَرَ إلَى أَنْ يَمُوتَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْفُرْقَةِ وَالرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ الَّتِي يُرِيدُ سَيِّدُهَا عِتْقَهَا وَلَوْ أُعْتِقَتْ كَانَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَخْتَارُهُ وَهُوَ نِكَاحٌ صَحِيحٌ . وَلَوْ كَانَ عِتْقُهَا مُؤَجَّلًا أَوْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً وَتَزَوَّجَهَا وَإِنْ كَانَتْ لَهَا عِنْدَ مُدَّةِ الْأَجَلِ اخْتِيَارُ فِرَاقِهِ . وَالنِّكَاحُ مَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ . فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ لَيْسَ بِلَازِمِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ لَازِمٌ . ثُمَّ إذَا عُرِفَ أَنَّهُ بَعْدَ مُدَّةٍ يَزُولُ اللُّزُومُ مِنْ جِهَتِهَا وَيَبْقَى جَائِزًا لَمْ يُقْدَحْ فِي النِّكَاحِ ؛ وَلِهَذَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمَجْبُوبِ وَالْعِنِّينِ وَبِشُرُوطِ يَشْتَرِطُهَا الزَّوْجُ مَعَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا الْخِيَارُ إذَا لَمْ يُوفِ بِتِلْكَ الشُّرُوطِ . فَعُلِمَ أَنَّ مَصِيرَهُ جَائِزًا مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ لَا يَقْدَحُ وَإِنْ كَانَ هَذَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ كَمَالِ الطُّمَأْنِينَةِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ . فَعَزْمُهُ عَلَى الْمِلْكِ بِبَعْضِ الطُّمَأْنِينَةِ . مِثْلُ هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُقْدِمَةً عَلَى أَنَّهُ إنْ شَاءَ طَلَّقَ وَهَذَا مِنْ لَوَازِمَ النِّكَاحِ فَلَمْ يَعْزِمْ إلَّا عَلَى مَا يَمْلِكُهُ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَهُوَ كَمَا لَوْ عَزَمَ أَنْ يُطَلِّقَهَا إنْ فَعَلَتْ ذَنْبًا أَوْ إذَا نَقَصَ مَالُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَعَزْمُهُ عَلَى الطَّلَاقِ إذَا سَافَرَ إلَى أَهْلِهِ أَوْ قَدِمَتْ امْرَأَتُهُ الْغَائِبَةُ أَوْ قَضَى وَطَرَهُ مِنْهَا : مِنْ هَذَا الْبَابِ .
وَزَيْدٌ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَلَمْ تَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ زَوْجِيَّتِهِ ؛ بَلْ مَا زَالَتْ زَوْجَتَهُ حَتَّى طَلَّقَهَا وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك } وَقِيلَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا وَكَتَمَ هَذَا الْإِعْلَامَ عَنْ النَّاسِ فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى كِتْمَانِهِ فَقَالَ : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } مِنْ إعْلَامِ اللَّهِ لَك بِذَلِكَ . وَقِيلَ : بَلْ الَّذِي أَخْفَاهُ أَنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا تَزَوَّجَهَا . وَبِكُلِّ حَالٍ لَمْ يَكُنْ عَزْمُ زَيْدٍ عَلَى الطَّلَاقِ قَادِحًا فِي النِّكَاحِ فِي الِاسْتِدَامَةِ وَهَذَا مِمَّا لَا نَعْرِفُ فِيهِ نِزَاعًا . وَإِذَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ الْعَزْمُ عَلَى طَلَاقِهَا فِي الْحَالِ . وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ : إنَّهُ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ وَقَعَ . فَإِنَّ قَلْبَ زَيْدٍ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْهَا وَلَمْ تَزَلْ زَوْجَتَهُ إلَى حِينِ تَكَلَّمَ بِطَلَاقِهَا وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلُ بِهِ } وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِك . وَلَا يَلْزَمُ إذَا أَبْطَلَهُ شَرْطُ التَّوْقِيتِ أَنْ تُبْطِلَهُ نِيَّةُ التَّطْلِيقِ فِيمَا بَعْدُ ؛ فَإِنَّ النِّيَّةَ الْمُبْطِلَةَ مَا كَانَتْ مُنَاقِضَةً لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ وَالطَّلَاقُ بَعْدَ مُدَّةٍ أَمْرٌ جَائِزٌ لَا يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ إلَى حِينِ الطَّلَاقِ ؛ بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهُ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي نِكَاحِهَا أَلْبَتَّةَ بَلْ فِي كَوْنِهَا زَوْجَةَ الْأَوَّلِ وَلَوْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَحْلِيلٍ لَمْ يُحِلَّهَا هَذَا . وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الْعِوَضَ فَلَوْ حَصَلَ لَهُ بِدُونِ نِكَاحِهَا لَمْ يَتَزَوَّجْ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ هُنَا وَطْأَهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ : فَهَذَا مِنْ
جِنْسِ
الْبَغِيِّ الَّتِي يَقْصِدُ وَطْأَهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ بِخِلَافِ
الْمُتَزَوِّجِ الَّذِي يَقْصِدُ الْمُقَامَ وَالْأَمْرُ بِيَدِهِ وَلَمْ يَشْرِطْ
عَلَيْهِ أَحَدٌ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَمَا شُرِطَ عَلَى الْمُحَلِّلِ . فَإِنْ
قَدَّرَ مَنْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا مُطْلَقًا لَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ وَلَا عِدَّةٌ
وَلَكِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا أَيَّامًا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا
؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنْ تَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ : فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ
الْكَلَامِ ؛ وَإِنْ حَصَلَ بِذَلِكَ تَحْلِيلُهَا لِلْأَوَّلِ فَهُوَ لَا يَكُونُ
مَحَلًّا إلَّا إذَا قَصَدَهُ أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ شَرْطًا لَفْظِيًّا أَوْ
عُرْفِيًّا . سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ . وَأَمَّا
إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَصْدُ تَحْلِيلٍ وَلَا شَرْطَ أَصْلًا : فَهَذَا نِكَاحٌ
مِنْ الْأَنْكِحَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ هَذَا " التَّحْلِيلِ " الَّذِي
يَفْعَلُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ
: إذَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ
مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْإِشْهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْحِيَلِ
الْمَعْرُوفَةِ : هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قُلِّدَ مَنْ قَالَ بِهِ
هَلْ : يُفَرَّقُ بَيْنَ اعْتِقَادٍ وَاعْتِقَادٍ ؟ وَهَلْ الْأَوْلَى إمْسَاكُ
الْمَرْأَةِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
التَّحْلِيلُ الَّذِي يَتَوَاطَئُونَ فِيهِ مَعَ
الزَّوْجِ - لَفْظًا أَوْ عُرْفًا -
عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ أَوْ يَنْوِيَ
الزَّوْجُ ذَلِكَ : مُحَرَّمٌ .
لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَاعِلَهُ
فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ وَسَمَّاهُ " التَّيْسَ الْمُسْتَعَارَ "
وَقَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } . وَكَذَلِكَ
مِثْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ لَهُمْ بِذَلِكَ
آثَارٌ مَشْهُورَةٌ : يُصَرِّحُونَ فِيهَا بِأَنَّ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ
بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُحَلِّلٌ ؛ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي الْعَقْدِ .
وَسَمَّوْهُ " سِفَاحًا " . وَلَا تَحِلُّ لِمُطَلَّقِهَا الْأَوَّلِ
بِمِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ وَلَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْمُحَلِّلِ إمْسَاكُهَا
بِهَذَا التَّحْلِيلِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِرَاقُهَا ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ قَدْ
تَبَيَّنَ بِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ جَوَازُ ذَلِكَ ؛ فَتَحَلَّلَتْ
وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ :
فَالْأَقْوَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِرَاقُهَا ؛ بَلْ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ
فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ عَفَا اللَّهُ فِي الْمَاضِي عَمَّا سَلَفَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ إمَامٍ عَدْلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَبَقِيَتْ
عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ حَتَّى اسْتَحَلَّتْ تَحْلِيلَ أَهْلِ مِصْرَ
وَتَزَوَّجَهَا .
فَأَجَابَ
:
إذَا تَزَوَّجَهَا الرَّجُلُ بِنِيَّةِ أَنَّهُ إذَا
وَطِئَهَا طَلَّقَهَا لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ أَوْ تَوَاطَآ عَلَى
ذَلِكَ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ شَرَطَاهُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ - لَفْظًا أَوْ
عُرْفًا : فَهَذَا وَأَنْوَاعُهُ " نِكَاحُ التَّحْلِيلِ " الَّذِي
اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى بُطْلَانِهِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ
وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ أَوْفَتْ
الْعِدَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجِ ثَانٍ وَهُوَ " الْمُسْتَحِلُّ "
: فَهَلْ الِاسْتِحْلَالُ يَجُوزُ بِحُكْمِ مَا جَرَى لِرُفَاعَةِ مَعَ زَوْجَتِهِ
فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا ؟ ثُمَّ
إنَّهَا أَتَتْ لِبَيْتِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ طَالِبَةً لِبَعْضِ حَقِّهَا
فَغَلَبَهَا عَلَى نَفْسِهَا ثُمَّ إنَّهَا قَعَدَتْ أَيَّامًا وَخَافَتْ
وَادَّعَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ ؛ لِكَيْ يَرُدَّهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ
فَرَاجَعَهَا إلَى عِصْمَتِهِ بِعَقْدِ شَرْعِيٍّ وَأَقَامَ مَعَهَا أَيَّامًا
فَظَهَرَ عَلَيْهَا الْحَمْلُ وَعَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ كَاذِبَةً فِي الْحَيْضِ
فَاعْتَزَلَهَا إلَى أَنْ يَهْتَدِيَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
فَأَجَابَ
:
أَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا زَوْجٌ لِيُحِلَّهَا
لِزَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ فَهَذَا الْمُحَلِّلُ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ
وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } . وَأَمَّا حَدِيثُ رِفَاعَةَ فَذَاكَ كَانَ قَدْ
تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا ثَابِتًا ؛ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا
لِلْمُطَلِّقِ . وَإِذَا تَزَوَّجَتْ بِالْمُحَلِّلِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَعَلَيْهَا
الْعِدَّةُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ إذْ غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ مَوْطُوءَةً
فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْهُ . وَمَا كَانَ يَحِلُّ
لِلْأَوَّلِ وَطْؤُهَا ؛ وَإِذَا وَطِئَهَا فَهُوَ زَانٍ عَاهِرٌ ؛ وَنِكَاحُهَا
الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثًا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ
وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَزِلَهَا فَإِذَا جَاءَتْ
بِوَلَدِ
أُلْحِقَ بِالْمُحَلِّلِ ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي وَطِئَهَا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ
وَلَا يُلْحَقُ الْوَلَدُ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهُ
انْقَضَتْ وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَنْ وَطِئَهَا وَهَذَا يَقْطَعُ حُكْمَ
الْفِرَاشِ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَلَا يَلْحَقُ بِوَطْئِهِ زِنًا ؛
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْوَلَدُ
لِلْفِرَاشِ . وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } . لَكِنْ إنْ عَلِمَ الْمُحَلِّلُ أَنَّ
الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ ؛ بَلْ مِنْ هَذَا الْعَاهِرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْفِيَهُ
بِاللِّعَانِ فَيُلَاعِنُهَا لِعَانًا يَنْقَطِعُ فِيهِ نَسَبُ الْوَلَدِ .
وَيَلْحَقُ نَسَبُ الْوَلَدِ بِأُمِّهِ . وَلَا يَلْحَقُ بِالْعَاهِرِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ تَصِحُّ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، تَزَوُّجُ الْمَرْأَةِ
الْمُطَلَّقَةِ بِعَبْدِ يَطَؤُهَا ثُمَّ تُبَاحُ الزَّوْجَةُ هِيَ مِنْ صُوَرِ
التَّحْلِيلِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ حَنِثَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَنَكَحَتْ غَيْرَهُ
لِيُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ : فَهَلْ هَذَا النِّكَاحُ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَعَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ ؟ قَالُوا :
بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : هُوَ الْمُحَلِّلُ لَعَنَ اللَّهُ
الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } . وَاتَّفَقَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعُونَ
لَهُمْ بِإِحْسَانِ : مِثْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عفان
وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ ؛ حَتَّى قَالَ
بَعْضُهُمْ : لَا يَزَالَا زَانِيَيْنِ ؛ وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً إذَا
عَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ . وَقَالَ
بَعْضُهُمْ : لَا نِكَاحَ إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ ؛ لَا نِكَاحَ دُلْسَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ يُخَادِعُ اللَّهَ يَخْدَعْهُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : كُنَّا
نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سِفَاحًا . وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى كُلُّهُمْ أَنَّهُ إذَا شُرِطَ
التَّحْلِيلُ فِي الْعَقْدِ كَانَ بَاطِلًا . وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَجْعَلْ
لِلشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَا الْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ تَأْثِيرًا وَجَعَلَ
الْعَقْدَ مَعَ ذَلِكَ كَالنِّكَاحِ الْمَعْرُوفِ نِكَاحِ الرَّغْبَةِ . وَأَمَّا
الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَكْثَرُ أَئِمَّةِ الْفُتْيَا فَلَا فَرْقَ
عِنْدَهُمْ بَيْنَ هَذَا الْعُرْفِ وَاللَّفْظِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ إذَا اسْتَحَلَّتْ بِهِ
النِّسَاءُ وَهُوَ دُونُ الْبُلُوغِ : هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ زَوْجًا وَهُوَ لَا
يَدْرِي الْجِمَاعَ ؟
فَأَجَابَ :
ثَبَتَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ
وَلَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ
حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَثَبَتَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ : كَعُمَرِ
وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى
قَالَ عُمَرُ : لَا أوتى بِمُحَلِّلِ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتهمَا .
وَقَالَ عُثْمَانُ : لَا نِكَاحَ إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَا نِكَاحَ دُلْسَةٍ .
وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ طَلْقَةٍ ؟
فَقَالَ : بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثِ وَسَائِرُهَا اتَّخَذَ بِهَا آيَاتِ اللَّهِ
هُزُوًا . فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ : أَرَأَيْت إنْ تَزَوَّجْتهَا وَهُوَ لَا
يَعْلَمُ : لِأُحِلَّهَا ثُمَّ أُطَلِّقَهَا ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ
يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ .
وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا يَزَالَانِ
زَانِيَيْنِ وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً ؛ إذَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ
أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ فِي " كِتَاب بَيَانِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ
" وَهَذَا لَعَمْرِي إذَا كَانَ الْمُحَلِّلُ كَبِيرًا يَطَؤُهَا وَيَذُوقُ
عُسَيْلَتَهَا وَتَذُوقُ عُسَيْلَتَهُ . فَأَمَّا الْعَبْدُ الَّذِي لَا وَطْءَ
فِيهِ أَوْ فِيهِ وَلَا يُعَدُّ وَطْؤُهُ وَطْئًا كَمَنْ لَا يَنْتَشِرُ ذَكَرَهُ
: فَهَذَا لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي أَنَّ هَذَا لَا يُحِلُّهَا .
" وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ " مِمَّا يُعَيِّرُ بِهِ النَّصَارَى
الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَقُولُونَ : إنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ
: إذَا طَلَّقَ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَزْنِيَ .
وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ هُوَ
وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَجُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة -
رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ
وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا .
مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ .
وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ
:
الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فِي النِّكَاحِ كَثِيرَةٌ :
" كَنِكَاحِ الشِّغَارِ "
" وَالْمُحَلِّلِ " " وَالْمُتْعَةِ
" . وَمِثْلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَلَّا مَهْرَ لَهَا أَوْ عَلَى
مَهْرٍ مُحَرَّمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ . وَلِلْعُلَمَاءِ
فِيهَا أَقْوَالٌ . " أَحَدُهَا " أَنَّهُ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ . ثُمَّ هَلْ
يَصِحُّ إذًا إمْضَاءُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ .
وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَهُوَ اخْتِيَارُ
طَائِفَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ : كَأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَأَبِي
بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ
" وَالثَّانِي " يَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِي الْجَمِيعِ ؛ وَخَرَّجَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَأَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا قَوْلًا فِي مَذْهَبِهِ ؛ حَتَّى فِي النِّكَاحِ الْبَاطِلِ ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ يَقُولُونَ بِبُطْلَانِهِ وَزُفَرُ يُصَحِّحُ الْعَقْدَ وَيُلْغِي الْأَصْلَ وَقَدْ خَرَّجَ كِلَاهُمَا قَوْلًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَهَذَا التَّخْرِيجُ مِنْ نَصِّهِ فِي قَوْلِهِ : إنْ جِئْتِنِي بِالْمَهْرِ إلَى وَقْتِ كَذَا ؛ وَإِلَّا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا . فَإِنَّهُ حُكِيَ عَنْهُ فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : رِوَايَةٌ بِصِحَّتِهِمَا . وَرِوَايَةٌ بِفَسَادِهِمَا . وَرِوَايَةٌ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ دُونَ الشَّرْطِ . وَكَذَلِكَ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ تَرُدَّ إلَيْهِ الْمَهْرَ : فَقَدْ نَصَّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْلِ وَبُطْلَانِ الشَّرْطِ . و " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " فِي الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ : أَنَّهُ يَبْطُلُ نِكَاحُ الشِّغَارِ وَالْمُتْعَةِ وَنِكَاحُ التَّحْلِيلِ الْمَشْرُوطُ فِي الْعَقْدِ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ مَعَ الْمَهْرِ الْمُحَرَّمِ وَمَعَ نَفْيِ الْمَهْرِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : كَالْحَرْبِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ . وَهَؤُلَاءِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا صَحَّحُوهُ مِنْ عُقُودِ النِّكَاحِ مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَمَا أَبْطَلُوهُ بِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا انْتَفَى وَقَعَ النِّكَاحُ ؛ وَإِلَّا كَانَ بَاطِلًا : " كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ " وَكَذَلِكَ " نِكَاحُ التَّحْلِيلِ " إذَا قَدَّرَهُ بِالْفِعْلِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : زَوَّجْتُكهَا إلَى أَنْ تُحِلَّهَا . وَأَمَّا إذَا قَالَ : عَلَى أَنَّك إذَا أَحْلَلْتهَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا ؛ أَوْ عَلَى أَنَّك تُطَلِّقَهَا إذَا أَحْلَلْتهَا : فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَأَبُو يُوسُفَ يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ عَلَى قَوْلِهِ بِبُطْلَانِهِ .
وَأَمَّا " نِكَاحُ الشِّغَارِ " فَلَهُمْ فِي عِلَّةِ إبْطَالِهِ أَقْوَالٌ : هَلْ الْعِلَّةُ التَّشْرِيكُ فِي الْبُضْعِ ؟ أَوْ تَعْلِيقُ أَحَدِ النِّكَاحَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ؟ أَوْ كَوْنُ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ سَلَفًا مِنْ الْآخَرِ ؟ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ بِأَقْلَامِهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا " النِّكَاحُ بِالْمَهْرِ الْفَاسِدِ " و " شَرْطُ نَفْيِ الْمَهْرِ " فَصَحَّحُوهُ مُوَافَقَةً لِأَبِي حَنِيفَةَ : بِنَاءً عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فَيَصِحُّ مَعَ نَفْيِ الْمَهْرِ . وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا نِكَاحَ الْمُتْعَةِ أَصْلًا لِمَا يُبْطِلُونَهُ مِنْ الْأَنْكِحَةِ وَنِكَاحَ الْمُفَوَّضَةِ أَصْلًا لِمَا يُصَحِّحُونَهُ وَنِكَاحُ الشِّغَارِ جَعَلُوهُ نَوْعًا آخَرَ وَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي النِّكَاحِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : إنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَ عَدَمِ تَسْمِيَةِ الْعِوَضِ فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ وَلَا مَعَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْجَهْلَ بِالْعِوَضِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ إسْقَاطُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَإِسْقَاطُ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الثَّمَنِ فَيَكُونُ بَاقِي الثَّمَنِ مَجْهُولًا . وَقَدْ احْتَجَّ الْأَكْثَرُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِالنُّصُوصِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَار وَعَنْ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ كَنَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالنَّهْيُ عَنْ النِّكَاحِ يَقْتَضِي فَسَادَهُ كَنَهْيِهِ عَنْ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ . وَبِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَبْطَلُوا هَذِهِ الْعُقُودَ فَفَرَّقُوا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي نِكَاحِ الشِّغَارِ وَجَعَلُوا نِكَاحَ التَّحْلِيلِ سِفَاحًا وَتَوَعَّدُوا الْمُحَلِّلَ بِالرَّجْمِ وَمَنَعُوا مِنْ غَيْرِ نِكَاحِ الرَّغْبَةِ كَمَا ذَكَرْنَا الْآثَارَ الْكَثِيرَةَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي " كِتَابِ إبْطَالِ التَّحْلِيلِ " فَتَبَيَّنَ بِالنُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَسَادُ هَذِهِ الْأَنْكِحَةِ .
وَلِأَنَّ النِّكَاحَ إذَا قِيلَ بِصِحَّتِهِ وَلُزُومِهِ : فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِذَلِكَ مَعَ الشَّرْطِ الْمُحَرَّمِ الْفَاسِدِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِهِ مَعَ إبْطَالِ الشَّرْطِ فَيَكُونُ ذَلِكَ إلْزَامًا لِلْعَاقِدِ بِعَقْدِ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَلَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ بِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ : إمَّا أَنْ يَلْزَمَ بِإِلْزَامِ الشَّارِعِ ؛ أَوْ إلْزَامِ الْعَاقِدِ . فَالْأَوَّلُ كَالْعُقُودِ الَّتِي أَلْزَمَهُ الشَّارِعُ بِهَا ؛ كَمَا أَلْزَمَ الشَّارِعُ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ بِالْإِسْلَامِ وَكَمَا أَلْزَمَ مَنْ عَلَيْهِ يَمِينٌ وَاجِبَةٌ حَنِثَ فِيهَا بِوَاحِدَةٍ بِالْإِعْتَاقِ وَالصَّوْمِ وَكَمَا أَلْزَمَ مَنْ احْتَاجَ إلَى سِوَى ذَلِكَ . . . (1) بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ . و " الثَّانِي " الْمُقَابَلَةُ . . . (2) وَكَمَا يَلْزَمُ الضَّامِنَ دَيْنُ الْمَدِينِ مَعَ بَقَائِهِ فِي ذِمَّتِهِ وَكَمَا يَلْتَزِمُ كُلٌّ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ والمتصالحين والمتآجرين بِمَا يَلْتَزِمُهُ لِلْآخَرِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنِّكَاحُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ لَمْ يُلْزِمْ الشَّارِعُ صَاحِبَهُ أَنْ يَعْقِدَهُ بِدُونِ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَلَا هُوَ الْتَزَمَ أَنْ يَعْقِدَهُ مُجَرَّدًا عَنْ الشَّرْطِ . فَإِلْزَامُهُ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ هُوَ وَلَا أَلْزَمَهُ بِهِ الشَّارِعُ إلْزَامٌ لِلنَّاسِ بِمَا لَمْ يُلْزِمْهُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ . وَلِأَنَّ الشُّرُوطَ فِي النِّكَاحِ أَوْكَدُ مِنْهَا فِي الْبَيْعِ : بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } . ثُمَّ الْبَيْعُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالتَّرَاضِي ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } فَالنِّكَاحُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالتَّرَاضِي بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْعَاقِدُ إلَّا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ
فَإِلْزَامُهُ بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ إلْزَامٌ بِعَقْدِ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَهُوَ خِلَافُ النُّصُوصِ وَالْأُصُولِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجَوَّزْ أَنْ يُلْزَمَ فِي الْبَيْعِ بِمَا لَمْ يَرْضَ بِهِ . وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَد كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ : إذَا صَحَّحْنَا الْبَيْعَ دُونَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ - فَلِمُشْتَرِطِ الشَّرْطَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ الْفَسْخُ أَوْ الْمُطَالَبَةُ بِأَرْشِ فَوَاتِهِ ؛ كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الشَّرْطِ الصَّحِيحِ إذَا لَمْ يُوفَ بِهِ ؛ لَكِنَّ الشَّرْطَ الصَّحِيحَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ كَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَإِذَا لَمْ يُوفَ بِهِ فَلَهُ الْفَسْخُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِدُونِهِ . وَأَمَّا الشَّرْطُ الْفَاسِدُ فَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ كَمَا لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ ؛ لَكِنْ لَهُ أَيْضًا الْعَقْدُ بِدُونِهِ وَلَهُ فَسْخُ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ اشْتَرَطَ صِفَةً فِي الْبَيْعِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَكَمَا لَوْ ظَهَرَ بِالْبَيْعِ عَيْبٌ . فَأَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ فِي الْبَيْعِ مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ : إنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ بَلْ فِي أَنَصِّهِمَا عَنْهُ لِأَنَّ فَوَاتَ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ لَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ وَالْمُشْتَرِطُ يَنْجَبِرُ ضَرَرُهُ بِتَخْلِيَتِهِ مِنْ الْفَسْخِ كَمَا فِي فَوَاتِ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ مِنْ الْعُيُوبِ . وَأَمَّا النِّكَاحُ فَالشُّرُوطُ فِيهِ أَلْزَمُ . وَإِذَا شَرَطَ صِفَةً فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ كَالشَّرْطِ الْأَوْفَى - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ - مَلَكَ الْفَسْخَ لِفَوَاتِهَا وَكَذَلِكَ لَهُ الْفَسْخُ عِنْدَهُ بِالْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ مِنْ مَقْصُودِ النِّكَاحِ . . . (1) وَيَمْلِكُ الْفَسْخَ وَأَمَّا التَّحْلِيلُ فَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَالْمَقْصُودُ فِي الْعُقُودِ عِنْدَهُ مُعْتَبَرٌ وَالْمُتْعَةُ نِكَاحٌ إلَى أَجَلٍ وَالنِّكَاحُ لَا يَتَأَجَّلُ .
" وَالشِّغَارُ " عَلَّلَهُ هُوَ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَالْخَلَّالِ وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِنَفْيِ الْمَهْرِ وَكَوْنِهِ جَعَلَ أَحَدَ الْبُضْعَيْنِ مَهْرًا لِلْآخَرِ وَهَذَا تَعْلِيلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَعَلَّلَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِتَعْلِيلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . يَبْقَى أَنْ يُقَالَ : فَكَانَ يَنْبَغِي مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ أَنْ يُخَيَّرَ الْعَاقِدُ بَيْنَ الْتِزَامِ الْعَقْدِ بِدُونِهِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ كَمَا فِي الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ . قِيلَ : إنْ قُلْنَا إنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِصِيغَةِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الصَّرِيحُ فِيهِ وَهُوَ لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ - كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَتْبَاعُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مُوَافَقَةً لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَقُلْنَا إنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ فِيهِ شَرْطُ الْخِيَارِ دُونَ النِّكَاحِ : ظَهَرَ الْفَرْقُ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُمْكِنُ عَقْدُهُ جَائِزًا بِخِلَافِ النِّكَاحِ . وَالْمُصَحِّحُونَ لِنِكَاحِ التَّحْلِيلِ وَالشِّغَارِ أَوْ وَنَحْوِهِمَا قَدْ يَقُولُونَ : مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ نُصَحِّحْهُ ؛ فَإِنَّا لَا نُصَحِّحُهُ مَعَ كَوْنِهِ شِغَارًا وَتَحْلِيلًا وَمُتْعَةً وَلَكِنْ نُبْطِلُ شَرْطَ أَصْلِ الْعَقْدِ فِي الْمَهْرِ وَنُبْطِلُ شَرْطَ التَّحْلِيلِ كَذَلِكَ شَرْطُ التَّأْجِيلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ . وَيَبْقَى الْعَقْدُ لَازِمًا لَيْسَ فِيهِ شِغَارٌ وَلَا تَحْلِيلٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : إنَّهُ يَصِحُّ نِكَاحُ التَّحْلِيلِ وَلَا تَحِلُّ بِهِ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا ؛ عَمَلًا بِقَوْلِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يُصَحِّحُونَهُ مَعَ إبْطَالِ شَرْطِ التَّحْلِيلِ فَيَكُونُ نِكَاحًا لَازِمًا وَلَا يُحِلُّونَهَا
لِلْأَوَّلِ
؛ لِأَنَّهُ إذَا أُحِلَّتْ لِلْأَوَّلِ قُصِدَ بِذَلِكَ تَحْلِيلُهَا لِلْأَوَّلِ
فَإِذَا لَمْ تَحِلَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّحْلِيلَ
لِلْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ نِكَاحَ تَحْلِيلٍ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا
يَنْكِحُ أَحَدٌ الْمَرْأَةَ إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ ؛ لَا نِكَاحَ تَحْلِيلٍ
وَلَوْ نَكَحَهَا بِنِيَّةِ التَّحْلِيلِ أَوْ شَرَطَهُ ثُمَّ قَصَدَ الرَّغْبَةَ
هِيَ وَهُوَ وَأَسْقَطَا شَرْطُ التَّحْلِيلِ : فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى
اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ أَمْ يَكْفِي اسْتِصْحَابُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ؟ فِيهِ
نِزَاعٌ . وَهُوَ يُشْبِهُ إسْقَاطَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ فِي الْبَيْعِ : هَلْ
يَصِحُّ مَعَهُ أَمْ لَا وَهُوَ قَصْدٌ . وَمِثْلُهُ إذَا عَقَدَ الْعَقْدَ
بِدُونِ إذْنِ مَنْ اشْتَرَطَ إذْنَهُ : هَلْ يَقَعُ بَاطِلًا أَوْ مَوْقُوفًا
عَلَى الْإِجَازَةِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَد " أَحَدُهُمَا
" أَنَّهُ يَقَعُ بَاطِلًا وَلَا يُوقَفُ كَقَوْلِ
الشَّافِعِيِّ . " الثَّانِي "
أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ كَقَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فَإِذَا عَقَدَ الْعَقْدَ بِنِيَّةِ فَاسِدَةٍ أَوْ شَرْطٍ
فَاسِدٍ فَقَدْ يَقُولُ : إنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَقْفِ ؛ فَمَنْ قَالَ
بِالْوَقْفِ وَقَفَهُ عَلَى إزَالَةِ الْمُفْسِدِ وَمَنْ لَا فَلَا . فَزَوَالُ
الْمَانِعِ كَوُجُودِ الْمُقْتَضِي . وَإِذَا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى حُصُولِ
بَعْضِ شُرُوطِهِ فَهُوَ كَالْوَقْفِ عَلَى زَوَالِ بَعْضِ مَوَانِعِهِ . . . (1) .
إذْ جَعَلْتُمُوهُ زَوْجًا مُطَلِّقًا يَلْزَمُهَا
نِكَاحُهُ فَقَدْ أَلْزَمْتُمُوهَا بِنِكَاحِ لَمْ تَرْضَ بِهِ وَهَذَا خِلَافُ
الْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذَا الْبَابِ : أَنَّ
الْأَمْرَ إلَيْهَا فَإِنْ رَضِيَتْ بِدُونِ ذَلِكَ الشَّرْطِ كَانَ زَوْجًا وَلَا
يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ . وَإِنْ لَمْ تَرْضَ بِهِ لَمْ يَكُنْ
زَوْجًا : كَالنِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ عَلَى إجَازَتِهَا وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ
عَلَى
مَهْرٍ لَمْ يَسْلَمْ لَهَا ؛ لِتَحْرِيمِهِ أَوْ اسْتِحْقَاقِهِ فَإِنْ شَاءَتْ
أَنْ تَرْضَى بِهِ زَوْجًا بِمَهْرِ آخَرَ كَانَ ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَتْ أَنْ
تُفَارِقَهُ فَلَهَا ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ قَبْلَ رِضَاهَا نِكَاحٌ لَازِمٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ فَشُرِطَ عَلَيْهِ
عِنْدَ النِّكَاحِ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُلُهَا مِنْ
مَنْزِلِهَا . وَكَانَتْ لَهَا ابْنَةٌ فَشُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ
أُمِّهَا وَعِنْدَهُ مَا تُزَالُ فَدَخَلَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ : فَهَلْ
يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ ؟ وَإِذَا أَخْلَفَ هَذَا الشَّرْطَ ؟ فَهَلْ لِلزَّوْجَةِ
الْفَسْخُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ تَصِحُّ هَذِهِ
الشُّرُوطُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا فِي : مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ
مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ : كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ
وَعَمْرِو بْنِ العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وشريح الْقَاضِي وَالْأَوْزَاعِي
وَإِسْحَاقَ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي هَذَا الْوَقْتِ صَدَاقَاتُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ
الْقَدِيمَةِ لَمَّا كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ الأوزاعي فِيهَا هَذِهِ الشُّرُوطُ .
وَمَذْهَبُ مَالِك إذَا شُرِطَ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ تَسَرَّى
أَنْ يَكُونَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ : صَحَّ هَذَا الشَّرْطُ
أَيْضًا وَمَلَكَتْ الْفُرْقَةُ بِهِ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى نَحْوُ مَذْهَبِ
أَحْمَد فِي ذَلِكَ ؛ لِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ
أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ : مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ
فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَسْتَحِلُّ بِهِ الْفُرُوجَ مِنْ الشُّرُوطِ أَحَقَّ بِالْوَفَاءِ مِنْ غَيْرِهِ وَهَذَا نَصٌّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الشُّرُوطِ ؛ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ شَرْطٌ يُوَفَّى بِهِ بِالْإِجْمَاعِ غَيْرَ الصَّدَاقِ وَالْكَلَامِ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هِيَ هَذِهِ الشُّرُوطَ . وَأَمَّا شَرْطُ مُقَامِ وَلَدِهَا عِنْدَهَا وَنَفَقَتِهِ عَلَيْهِ : فَهَذَا مِثْلُ الزِّيَادَةِ فِي الصَّدَاقِ وَالصَّدَاقُ يَحْتَمِلُ مِنْ الْجَهَالَةِ فِيهِ - فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ - مَا لَا يَحْتَمِلُ فِي الثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ وَكُلُّ جَهَالَةٍ تَنْقُصُ عَلَى جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ تَكُونُ أَحَقَّ بِالْجَوَازِ ؛ لَا سِيَّمَا مِثْلَ هَذَا يَجُوزُ فِي الْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : إنْ اسْتَأْجَرَ الْأَجِيرَ بِطَعَامِهِ وَكُسْوَتِهِ وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ . فَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ النَّفَقَةِ عَلَى وَلَدِهَا يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَمَتَى لَمْ يُوفِ لَهَا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ فَتَزَوَّجَ وَتَسَرَّى : فَلَهَا فَسْخُ النِّكَاحِ . لَكِنْ فِي تَوَقُّفِ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ نِزَاعٌ ؛ لِكَوْنِهِ خِيَارًا مُجْتَهَدًا فِيهِ كَخِيَارِ الْعُنَّةِ وَالْعُيُوبِ ؛ إذْ فِيهِ خِلَافٌ . أَوْ يُقَالُ : لَا يَحْتَاجُ إلَى اجْتِهَادٍ فِي ثُبُوتِهِ وَإِنْ وَقَعَ نِزَاعٌ فِي الْفَسْخِ بِهِ ؛ كَخِيَارِ الْمُعْتَقَةِ : يَثْبُتُ فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ بِلَا حُكْمِ حَاكِمٍ مِثْلَ أَنْ يَفْسَخَ عَلَى التَّرَاخِي . وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ تَوَقُّفَ الْفَسْخِ عَلَى الْحُكْمِ هَلْ هُوَ الِاجْتِهَادُ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَيْضًا ؟ أَوْ أَنَّ الْفُرْقَةَ يُحْتَاطُ لَهَا ؟ وَالْأَقْوَى أَنَّ الْفَسْخَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ كَالْعُنَّةِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ ؛ لَكِنْ إذَا رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ يَرَى فِيهِ إمْضَاءَهُ أَمْضَاهُ وَإِنْ رَأَى إبْطَالَهُ أَبْطَلَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ شَرَطَ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَى
الزَّوْجَةِ وَلَا يَتَسَرَّى وَلَا يُخْرِجُهَا مِنْ دَارِهَا أَوْ مِنْ
بَلَدِهَا . فَإِذَا شَرَطَتْ عَلَى الزَّوْجِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَاتَّفَقَا
عَلَيْهَا وَخَلَا الْعَقْدُ عَنْ ذِكْرِهَا : هَلْ تَكُونُ صَحِيحَةً لَازِمَةً
يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا كَالْمُقَارَنَةِ أَوْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ تَكُونُ صَحِيحَةً لَازِمَةً
إذَا لَمْ يُبْطِلَاهَا حَتَّى لَوْ قَارَنَتْ عَقْدَ الْعَقْدِ . هَذَا ظَاهِرُ
مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ مَالِك وَغَيْرِهِمَا فِي
جَمِيعِ الْعُقُودِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : يُخَرَّجُ مِنْ
مَسْأَلَةِ " صَدَاقِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ " وَكَذَا يَطْرُدُهُ
مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الْعِبَادَاتِ ؛ فَإِنَّ النِّيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ
عِنْدَهُمَا كَالْمُقَارَنَةِ . وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد قَوْلٌ ثَانٍ : أَنَّ
الشُّرُوطَ الْمُتَقَدِّمَةَ لَا تُؤَثِّرُ . وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ
الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي يُجْعَلُ غَيْرَ مَقْصُودٍ كَالتَّوَاطُؤِ
عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ تَلْجِئَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَبَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي
لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا كَاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ وَنَحْوِهِ . وَأَمَّا
عَامَّةُ نُصُوصِ أَحْمَد وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ وَمُحَقِّقِي الْمُتَأَخِّرِينَ
: عَلَى أَنَّ الشُّرُوطَ وَالْمُوَاطَأَةَ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَبْلَ الْعَقْدِ إذَا لَمْ يَفْسَخَاهَا حَتَّى عَقَدَا
الْعَقْدَ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ
مُقَيَّدًا
بِهَا وَعَلَى هَذَا جَوَابُ أَحْمَد فِي مَسَائِلِ الْحِيَلِ فِي الْبَيْعِ
وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْقَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا كَثِيرٌ
مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ أَصْحَابِهِ تَضِيقُ الْفَتْوَى عَنْ تَعْدِيدِ
أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ . وَكَثِيرٌ مِنْهَا مَشْهُورٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدْنَى خِبْرَةٍ
بِأُصُولِ أَحْمَد وَنُصُوصِهِ ؛ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَقَدْ قَرَّرْنَا
دَلَائِلَ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَأُصُولِ
الشَّرِيعَةِ فِي " مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ " . وَمَنْ تَأَمَّلَ الْعُقُودَ
الَّتِي كَانَتْ تَجْرِي بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَغَيْرِهِ مِثْلَ عَقْدِ الْبَيْعَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْن
الْأَنْصَارِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَعَقْدِ الْهُدْنَةِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْن قُرَيْشٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ . وَغَيْرِ ذَلِكَ : عَلِمَ أَنَّهُمْ
اتَّفَقُوا عَلَى الشُّرُوطِ ثُمَّ عَقَدُوا الْعَقْدَ بِلَفْظِ مُطْلَقٍ
وَكَذَلِكَ عَامَّةُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ
بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْغَدْرِ وَالثَّلَاثُ تَتَنَاوَلُ
ذَلِكَ تَنَاوُلًا وَاحِدًا ؛ فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ مُتَّفِقُونَ عَلَى
التَّسْمِيَةِ وَالْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةُ تُوَافِقُ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِنْتًا عُمْرُهَا عَشْرُ سِنِينَ
وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا أَنَّهُ يَسْكُنُ عِنْدَهُمْ وَلَا يَنْقُلُهَا
عَنْهُمْ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إلَّا بَعْدَ سَنَةٍ . فَأَخَذَهَا إلَيْهِ
وَأَخْلَفَ ذَلِكَ وَدَخَلَ عَلَيْهَا وَذَكَرَ الدَّايَاتُ : أَنَّهُ نَقَلَهَا
ثُمَّ
سَكَنَ
بِهَا فِي مَكَانٍ يَضْرِبُهَا فِيهِ الضَّرْبَ الْمُبَرِّحَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
سَافَرَ بِهَا ثُمَّ حَضَرَا بِهَا وَمَنَعَ أَنْ يَدْخُلَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا
مَعَ مُدَاوَمَتِهِ عَلَى ضَرْبِهَا : فَهَلْ يَحِلُّ أَنْ تَدُومَ مَعَهُ
عَلَى هَذَا الْحَالِ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ فَلَا يَحِلُّ
إقْرَارُهَا مَعَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ . بَلْ إذَا تَعَذَّرَ أَنْ
يُعَاشِرَهَا بِالْمَعْرُوفِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا
وَطْئًا يَضُرُّ بها ؛ بَلْ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ الْعُدْوَانِ عَلَيْهَا
فُرِّقَ بَيْنَهُمَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ شَرَطَ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالشُّهُودِ أَنْ
لَا يُسْكِنَهَا فِي مَنْزِلِ أَبِيهِ فَكَانَتْ مُدَّةَ السُّكْنَى مُنْفَرِدَةً
وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ : فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ لَهَا أَنْ
تَفْسَخَ النِّكَاحَ إذَا أَرَادَ إبْطَالَ الشَّرْطِ ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ
أَنْ يُمَكِّنَ أُمَّهَا أَوْ أُخْتَهَا مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا وَالْمَبِيتِ
عِنْدَهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ ؛ لَا
سِيَّمَا إذَا شَرَطَتْ الرِّضَا بِذَلِكَ بَلْ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى
مَسْكَنٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ لَهَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ -
كَمَالِكِ وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمَا - غَيْرُ
مَا شَرَطَ لَهَا فَكَيْفَ إذَا كَانَ عَاجِزًا ؟ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ
النِّكَاحَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا . فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ
السَّكَنُ يَصْلُحُ لِسُكْنَى الْفَقِيرِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ
لَهَا أَنْ تَفْسَخَ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ . وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ
يُمَكِّنَ مِنْ الدُّخُولِ إلَى مَنْزِلِهِ : لَا أُمَّهَا وَلَا أُخْتَهَا : إذَا
كَانَ مُعَاشِرًا لَهَا بِالْمَعْرُوفِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ وَشَرَطُوا عَلَيْهِ فِي
الْعَقْدِ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُ بِهَا تَكُونُ طَالِقًا وَكُلَّ
جَارِيَةٍ يَتَسَرَّى بِهَا تَعْتِقُ عَلَيْهِ ؛ ثُمَّ إنَّهُ تَزَوَّجَ
وَتَسَرَّى : فَمَا الْحُكْمُ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ؟
فَأَجَابَ
:
هَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ
الشَّافِعِيِّ . وَلَازِمٌ لَهُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ : مَتَى
تَزَوَّجَ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَمَتَى تَسَرَّى عَتَقَتْ عَلَيْهِ الْأَمَةُ
وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَأَمَّا مَذْهَبُ أَحْمَد فَلَا يَقَعُ بِهِ
الطَّلَاقُ وَلَا الْعِتَاقُ ؛ لَكِنْ إذَا تَزَوَّجَ وَتَسَرَّى كَانَ الْأَمْرُ
بِيَدِهَا : إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوفَى بِهِ
مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } وَلِأَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَرْطِ
أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ فَقَالَ : مَقَاطِعُ
الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ . فَالْأَقْوَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ
: " أَحَدُهَا " يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ . و "
الثَّانِي " لَا يَقَعُ بِهِ وَلَا تَمْلِكُ امْرَأَتُهُ فِرَاقَهُ . و
" الثَّالِثُ " - وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ
طَلَاقٌ وَلَا عِتَاقٌ ؛ لَكِنْ لِامْرَأَتِهِ مَا شَرَطَ لَهَا : فَإِنْ شَاءَتْ
تُقِيمُ مَعَهُ ؛ وَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ . وَهَذَا أَوْسَطُ
الْأَقْوَالِ .
وَسُئِلَ
الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ
- :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ . أَنَّهُ مَا
يَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا : فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟
وَفِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ؛ وَشَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ لَا
يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ
: فَهَلْ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَهُ أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا تَزَوَّجَهَا عِنْدَ جُمْهُورِ
السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَإِذَا
شَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا وَإِنْ تَزَوَّجَ
عَلَيْهَا كَانَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا :
كَانَ هَذَا الشَّرْطُ صَحِيحًا لَازِمًا فِي مَذْهَبِ
مَالِك وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَمَتَى تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَأَمْرُهَا
بِيَدِهَا إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الْعُيُوبِ فِي النِّكَاحِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلِ فَلَمَّا دَخَلَ
رَأَتْ بِجِسْمِهِ بَرَصًا : فَهَلْ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ عَلَيْهِ النِّكَاحَ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا ظَهَرَ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ جُنُونٌ أَوْ
جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ : فَلِلْآخَرِ فَسْخُ النِّكَاحِ ؛ لَكِنْ إذَا رَضِيَ بَعْدَ
ظُهُورِ الْعَيْبِ فَلَا فَسْخَ لَهُ . وَإِذَا فَسَخَتْ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ
تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ جِهَازِهَا وَإِنْ فَسَخَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ
مَهْرُهَا وَإِنْ فَسَخَتْ بَعْدَهُ لَمْ يَسْقُطْ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِامْرَأَةٍ فَظَهَرَ
مَجْذُومًا : فَهَلْ لَهَا فَسْخُ النِّكَاحِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا ظَهَرَ أَنَّ الزَّوْجَ
مَجْذُومٌ . فَلِلْمَرْأَةِ فَسْخُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِكْرًا فَوَجَدَهَا
مُسْتَحَاضَةً لَا يَنْقَطِعُ دَمُهَا مِنْ بَيْتِ أُمِّهَا وَأَنَّهُمْ غَرُّوهُ
: فَهَلْ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ وَيَرْجِعُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ بِالصَّدَاقِ ؟
وَهَلْ يَجِبُ عَلَى أُمِّهَا وَأَبِيهَا يَمِينٌ إذَا أَنْكَرُوا أَمْ لَا ؟
وَهَلْ يَكُونُ لَهُ وَطْؤُهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
هَذَا عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ فِي
أَظْهَرْ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ لِوَجْهَيْنِ "
أَحَدُهُمَا " أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوَطْءُ مَعَهُ إلَّا
بِضَرَرِ يَخَافُهُ وَأَذًى يَحْصُلُ لَهُ . " وَالثَّانِي " أَنَّ
وَطْءَ الْمُسْتَحَاضَةِ عِنْدَ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ ؛
إلَّا لِضَرُورَةِ . وَمَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ حِسًّا : كَاسْتِدَادِ الْفَرْجِ .
أَوْ طَبْعًا كَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ : يُثْبِتُ الْفَسْخَ عِنْدَ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ كَمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ . وَأَمَّا مَا يَمْنَعُ
كَمَالَ الْوَطْءِ كَالنَّجَاسَةِ فِي الْفَرْجِ : فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ
وَالْمُسْتَحَاضَةُ أَشَدُّ مِنْ غَيْرِهَا وَإِذَا فُسِخَ قَبْلَ الدُّخُولِ
فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَإِنْ فُسِخَ بَعْدَهُ ؟ قِيلَ : إنَّ الصَّدَاقَ
يَسْتَقِرُّ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخَلْوَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا فَإِنَّهُ
يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ . وَقِيلَ : لَا يَسْتَقِرُّ فَلَا
شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ مَنْ ادَّعَى الْغُرُورَ عَلَيْهِ أَنَّهُ
لَمْ يَغُرَّهُ . وَوَطْءُ الْمُسْتَحَاضَةِ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . وَقِيلَ :
يَجُوزُ وَطْؤُهَا ؛ كَقَوْلِ
الشَّافِعِيِّ
وَغَيْرِهِ . وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد
فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَلَهُ الْخِيَارُ مَا لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ مَا
يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ ؛ فَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ ذَلِكَ
فَلَا خِيَارَ لَهُ ؛ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْجَهْلَ : فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ ؟
فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَالْأَظْهَرُ ثُبُوتُ الْفَسْخِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ
فَبَانَتْ ثَيِّبًا فَهَلْ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ وَيَرْجِعُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِأَرْشِ
الصَّدَاقِ - وَهُوَ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ مَهْرِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ
فَيُنْقِصُ بِنِسْبَتِهِ مِنْ الْمُسَمَّى وَإِذَا فَسَخَ قَبْلَ الدُّخُولِ
سَقَطَ الْمَهْرُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابٌ
نِكَاحُ الْكُفَّارِ
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
وُلِدْت مِنْ نِكَاحٍ ؛ لَا مِنْ سِفَاحٍ } مَا مَعْنَاهُ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ مِنْ مَرَاسِيلِ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَغَيْرِهِ . وَلَفْظُهُ :
{ وُلِدْت مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ لَمْ يُصِبْنِي مِنْ نِكَاحِ
الْجَاهِلِيَّةِ شَيْءٌ } فَكَانَتْ مَنَاكِحُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى
أَنْحَاءٍ مُتَعَدِّدَةٍ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ النِّكَاحِ قَبْلَ بِعْثَةِ الرُّسُلِ : أَهْوَ
صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
: (*)
كَانَتْ مَنَاكِحُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى
أَنْحَاءٍ مُتَعَدِّدَةٍ : مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ . وَذَلِكَ النِّكَاحُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ
مَنَاكِحِ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّتِي لَا تَحْرُمُ فِي الْإِسْلَامِ وَيَلْحَقُهَا
أَحْكَامُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ : مِنْ الْإِرْثِ وَالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ
وَالظِّهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : نِكَاحُ
أَهْلِ الشِّرْكِ لَيْسَ بِصَحِيحِ . وَمَعْنَى هَذَا عِنْدَهُ : أَنَّهُ لَوْ
طَلَّقَ
الْكَافِرُ
ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ وَلَوْ طَلَّقَ الْمُسْلِمُ زَوْجَتَهُ
الذِّمِّيَّةَ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا ذِمِّيٌّ وَوَطِئَهَا لَمْ يُحِلَّهَا
عِنْدَهُ وَلَوْ وَطِئَ ذِمِّيًّ ذِمِّيَّةً بِنِكَاحِ لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ
مُحْصِنًا . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا . وَأَمَّا
كَوْنُهُ صَحِيحًا فِي لُحُوقِ النَّسَبِ وَثُبُوتِ - الْفِرَاشِ : فَلَا خِلَافَ
فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ وَطْءِ الشُّبْهَةِ ؛
بَلْ لَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ الْكَافِرَانِ أُقِرَّا عَلَى نِكَاحِهِمَا
بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَا لَا يُقَرَّانِ عَلَى وَطْءِ شُبْهَةٍ وَقَدْ
احْتَجَّ النَّاسُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ
نِكَاحٌ صَحِيحٌ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ
} وَقَوْلِهِ { امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ
} وَقَالُوا : قَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ " امْرَأَةً
" وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ : قَالَ عَطَاءٌ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ : كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ : كَانُوا مُشْرِكِينَ أَهْلَ
حَرْبٍ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ . وَمُشْرِكِينَ أَهْلَ عَهْدٍ لَا
يُقَاتِلُهُمْ وَلَا يُقَاتِلُونَهُ . وَكَانَ إذَا هَاجَرَتْ امْرَأَةٌ مِنْ
أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ
لَهَا النِّكَاحُ ؛ فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تُنْكَحَ رُدَّتْ
إلَيْهِ . فَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَمَةٌ فَهُمَا حُرَّانِ وَلَهُمَا
مَا لِلْمُهَاجِرِينَ ثُمَّ ذَكَرَ فِي أَهْلِ الْعَهْدِ مِثْلَ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ
وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمْ يُرَدَّ
وَرُدَّتْ أَثْمَانُهُمْ . وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : كَانَتْ
قَرِيبَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ؛ وَطَلَّقَهَا
فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَتْ أُمُّ الْحَكَمِ
ابْنَةَ أَبِي سُفْيَانَ تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ الفهري فَطَلَّقَهَا
فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ .
ثُمَّ ذَكَرَ فِي بَابٍ بَعْدَهُ : وَقَالَ : ابْنُ جريج : قُلْت لِعَطَاءِ : امْرَأَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ جَاءَتْ إلَى الْمُسْلِمِينَ أَيُعَاضُ زَوْجُهَا مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا } ؟ قَالَ : لَا . إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ . قَالَ مُجَاهِدٌ : هَذَا كُلُّهُ فِي صُلْحٍ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ . قُلْت : حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ فُصُولٌ . " أَحَدُهَا " أَنَّ الْمُهَاجِرَةَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ ؛ إنَّمَا عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ بِحَيْضَةِ وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا حَقٌّ لِلزَّوْجِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } وَلِهَذَا قُلْنَا : لَا تَتَدَاخَلُ . وَهَذِهِ مَلَكَتْ نَفْسَهَا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ كَمَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ نَفْسَهُ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا حَقٌّ ؛ لَكِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ فِيهَا كَالْأَمَةِ الْمُعْتَقَةِ وَقَدْ يُقَوِّي هَذَا قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : الْمُخْتَلَعَةُ يَكْفِيهَا حَيْضَةٌ ؛ لِأَنَّ كِلَاهُمَا مُتَخَلِّصَةٌ . " الثَّانِي " أَنَّ زَوْجَهَا إذَا هَاجَرَ قَبْلَ النِّكَاحِ رُدَّتْ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ رَوَى الْبُخَارِيُّ بَعْدَ هَذَا عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : إذَا أَسْلَمَتْ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا بِسَاعَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ . وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمُهَاجِرَةِ يُوَافِقُ الْمَشْهُورَ مِنْ { أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُدَّتْ عَلَى أَبِي العاص بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ } وَقَدْ كَتَبْت فِي الْفِقْهِ فِي هَذَا آثَارًا وَنُصُوصًا عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .
"
الثَّالِثُ " قَوْلُهُ : إنَّ الْمُهَاجِرَ مِنْ عَبِيدِهِمْ
يَكُونُ حُرًّا لَهُ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ ؛ كَمَا فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرَةَ
وَمَنْ هَاجَرَ مَعَهُ مِنْ عَبِيدِ أَهْلِ الطَّائِفِ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ ؛
فَإِنَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ مَلَكَ نَفْسَهُ ؛ لِأَنَّ مَالَ أَهْلِ
الْحَرْبِ مَالُ إبَاحَةٍ فَمَنْ غَلَبَ عَلَى شَيْءٍ مَلَكَهُ ؛ فَإِذَا غَلَبَ
عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَمْلِكَهَا وَالْإِسْلَامُ يَعْصِمُ ذَلِكَ .
" الرَّابِعُ " أَنَّ الْمُهَاجِرَ مِنْ
رَقِيقِ الْمُعَاهِدِينَ : يُرَدُّ عَلَيْهِمْ ثَمَنُهُ دُونَ عَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ مَالَهُمْ
مَعْصُومٌ : فَهُوَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ عَبْدُ الذِّمِّيِّ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ
مِلْكِهِ عَنْهُ بِبَيْعِ أَوْ هِبَةٍ أَوْ عِتْقٍ فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا بِيعَ
عَلَيْهِ وَلَا يُرَدُّ عَيْنَهُ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَرِقُّونَ
الْمُسْلِمَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ بِخِلَافِ رَدِّ الْحُرِّ إلَيْهِمْ
فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَرِقُّونَهُ وَلِهَذَا لَمَّا شَرَطَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فَسَخَ اللَّهُ
ذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَرُدَّ النِّسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ فَقَالَ : { لَا
هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } لِأَنَّهُ يُسْتَبَاحُ فِي
الْكُفْرِ مِنْ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ مَا لَا يُسْتَبَاحُ مِنْ الرَّجُلِ
لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْأَسِيرَةَ كَالرَّجُلِ الْأَسِيرِ وَأَمَرَهُ بِرَدِّ
الْمَهْرِ عِوَضًا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- : (*)
عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ
} وَقَدْ أَبَاحَ الْعُلَمَاءُ التَّزْوِيجَ بالنصرانية وَالْيَهُودِيَّةِ :
فَهَلْ هُمَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ جَائِزٌ
بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ قَالَ تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ } وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ :
أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ النَّصْرَانِيَّةِ . وَقَالَ : لَا أَعْلَمُ شُرَكَاءَ
أَعْظَمَ مِمَّنْ تَقُولُ إنَّ رَبَّهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ . وَهُوَ الْيَوْمُ
مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَدْ احْتَجُّوا بِالْآيَةِ الَّتِي
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَبِقَوْلِهِ : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ
} . وَالْجَوَابُ عَنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : "
أَحَدُهَا " أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْمُشْرِكِينَ
فَجُعِلَ أَهْلُ الْكِتَابِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { إنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } .
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ وَصَفَهُمْ بِالشِّرْكِ بِقَوْلِهِ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . قِيلَ : إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَيْسَ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ شِرْكٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ بِالتَّوْحِيدِ فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ شِرْكٌ وَلَكِنَّ النَّصَارَى ابْتَدَعُوا الشِّرْكَ كَمَا قَالَ : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فَحَيْثُ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا فَلِأَجْلِ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَجَبَ تَمَيُّزُهُمْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ اتِّبَاعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الَّتِي جَاءَتْ بِالتَّوْحِيدِ ؛ لَا بِالشِّرْكِ : فَإِذَا قِيلَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُشْرِكِينَ ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ الَّذِي أُضِيفُوا إلَيْهِ لَا شِرْكَ فِيهِ كَمَا إذَا قِيلَ : الْمُسْلِمُونَ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ . لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ؛ لَا اتِّحَادٌ وَلَا رَفْضٌ وَلَا تَكْذِيبٌ بِالْقَدَرِ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الدَّاخِلِينَ فِي الْأُمَّةِ قَدْ ابْتَدَعَ هَذِهِ الْبِدَعَ ؛ لَكِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَلَا يَزَالُ فِيهَا مَنْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِشَرِيعَةِ التَّوْحِيدِ ؛ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَلَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِالِاسْمِ بَلْ قَالَ : { عَمَّا يُشْرِكُونَ } بِالْفِعْلِ وَآيَةُ الْبَقَرَةِ قَالَ فِيهَا : (الْمُشْرِكِينَ ) وَ ( الْمُشْرِكَاتِ ) بِالِاسْمِ . وَالِاسْمُ أَوْكَدُ مِنْ الْفِعْلِ
" الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنْ يُقَالَ : إنْ شَمِلَهُمْ لَفْظُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَمَا وَصَفَهُمْ بِالشِّرْكِ : فَهَذَا مُتَوَجِّهٌ بِأَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ مُفْرَدًا وَمَقْرُونًا ؛ فَإِذَا أُفْرِدُوا دَخَلَ فِيهِمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَإِذَا قُرِنُوا مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِمْ كَمَا قِيلَ مِثْلُ هَذَا فِي اسْمِ " الْفَقِيرِ " و " الْمِسْكِينِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَعَلَى هَذَا يُقَالُ : آيَةُ الْبَقَرَةِ عَامَّةٌ وَتِلْكَ خَاصَّةٌ . وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ . " الْوَجْهُ الثَّالِثُ " أَنْ يُقَالَ : آيَةُ الْمَائِدَةِ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْبَقَرَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْبَقَرَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { الْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا } وَالْآيَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ تَنْسَخُ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ إذَا تَعَارَضَتَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ " سُورَةَ الْمُمْتَحَنَةِ " وَأَمَرَ بِامْتِحَانِ الْمُهَاجِرِينَ . وَهُوَ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ فِي عِصْمَتِهِ كَافِرَةٌ . و " اللَّامُ " لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَالْكَوَافِرُ الْمَعْهُودَاتُ هُنَّ الْمُشْرِكَاتُ مَعَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ يُمَيِّزُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَقَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } فَإِنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ هُوَ الْإِيمَانُ ؛ وَلَكِنْ هُمْ
كَفَّرُوا
مُبْتَدِعِينَ الْكُفْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ
حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ : مَا الدَّلِيلُ
عَلَى وَطْئِهِنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ ؟ وَعَلَى تَحْرِيمِ الْإِمَاءِ الْمَجُوسِيَّاتِ
؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَطْءُ "
الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ " بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَقْوَى مِنْ وَطْئِهِنَّ
بِمِلْكِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ
تَحْرِيمُ ذَلِكَ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ الْمَنْعُ مِنْ نِكَاحِ
الْكِتَابِيَّاتِ ؛ وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَدْ قَالَ : لَمْ يَصِحَّ
عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَوَائِل أَنَّهُ حَرَّمَ نِكَاحَهُنَّ . وَلَكِنَّ
التَّحْرِيمَ هُوَ قَوْلُ الشِّيعَةِ ؛ وَلَكِنْ فِي كَرَاهَةِ نِكَاحِهِنَّ مَعَ
عَدَمِ الْحَاجَةِ نِزَاعٌ وَالْكَرَاهَةُ مَعْرُوفَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَكَذَلِكَ كَرَاهَةُ وَطْءِ الْإِمَاءِ ؟ فِيهِ
نِزَاعٌ . رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ : أَنَّهُ كَرِهَهُ . وَالْكَرَاهَةُ فِي ذَلِكَ
مَبْنِيَّةٌ
عَلَى كَرَاهَةِ التَّزَوُّجِ . وَأَمَّا التَّحْرِيمُ فَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ ؛ بَلْ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ : جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَحَرَّمَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِي وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ : أَشْهَرُهُمَا كَالثَّانِي ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَبَاحَ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الْآيَةُ . فَأَبَاحَ الْمُحْصَنَاتِ مِنْهُمْ وَقَالَ فِي آيَةِ الْإِمَاءِ : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } فَإِنَّمَا أَبَاحَ النِّسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَأَمَّا " الْأَمَةُ الْمَجُوسِيَّةُ " فَالْكَلَامُ فِيهَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " أَنَّ نِكَاحَ الْمَجُوسِيَّاتِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّاتِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَجَعَلَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ خِلَافِ أَهْلِ الْبِدَعِ . و " الْأَصْلُ الثَّانِي " أَنَّ مَنْ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَالْوَثَنِيَّاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِك وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ : أَنَّهُ : قَالَ يُبَاحُ وَطْءُ الْإِمَاءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ عَلَى أَيِّ دِينٍ كُنَّ
وَأَظُنُّ . هَذَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ فِي وَطْءِ الْأَمَةِ الْوَثَنِيَّةِ نِزَاعًا . وَأَمَّا الْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ فَلَيْسَ فِي وَطْئِهَا مَعَ إبَاحَةِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ نِزَاعٌ ؛ بَلْ فِي التَّزَوُّجِ بِهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ . وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ مَعَ الْمَنْعِ مِنْ التَّسَرِّي بِهِنَّ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ وَلَا يَقُولُهُ فَقِيهٌ . وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ : الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ التَّسَرِّي بِهِنَّ وُجُوهٌ : " أَحَدُهَا " أَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ وَلَمْ يَقُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِنَّ دَلِيلٌ مِنْ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ فَبَقِيَ حِلُّ وَطْئِهِنَّ عَلَى الْأَصْلِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُنَازِعُ فِي حِلِّ نِكَاحِهِنَّ كَقَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } وَقَوْلِهِ : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } إنَّمَا يَتَنَاوَلُ النِّكَاحَ ؛ لَا يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي الْقِيَاسِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُنَّ فَيَبْقَى الْحِلُّ عَلَى الْأَصْلِ . " الثَّانِي " أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } يَقْتَضِي عُمُومَ جَوَازِ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ ؛ حَتَّى إنَّ عُثْمَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ جَعَلُوا مِثْلَ هَذَا النَّصِّ مُتَنَاوِلًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ حِينَ قَالُوا : أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ . فَإِذَا كَانُوا قَدْ جَعَلُوهُ عَامًّا فِي صُورَةٍ حُرِّمَ فِيهَا النِّكَاحُ فَلَأَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي صُورَةٍ لَا يَحْرُمُ فِيهَا النِّكَاحُ أَوْلَى وَأَحْرَى .
" الثَّالِثُ " أَنْ يُقَالَ : قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حِلِّ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : إنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ وَيَحْرُمُ التَّسَرِّي بِهِنَّ ؛ بَلْ قَدْ قِيلَ : يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ حَيْثُ يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ . وَقِيلَ : يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِهِنَّ . فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمَةَ مُجْمَعٌ عَلَى التَّسَرِّي بِهَا وَلَمْ يَكُنْ أَرْجَحَ مِنْ حِلِّ النِّكَاحِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ دُونَهُ . فَلَوْ حَرُمَ التَّسَرِّي دُونَ النِّكَاحِ كَانَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ " الرَّابِعُ " أَنْ يُقَالَ : إنَّ حِلَّ نِكَاحِهِنَّ يَقْتَضِي حِلَّ التَّسَرِّي بِهِنَّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ وَطْؤُهَا بِالنِّكَاحِ جَازَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِلَا نِزَاعٍ . وَأَمَّا الْعَكْسُ فَقَدْ تَنَازَعَ فِيهِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ أَوْسَعُ ؛ لَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى عَدَدٍ ؛ وَالنِّكَاحُ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى عَدَدٍ . وَمَا حُرِّمَ فِيهِ الْجَمْعُ بِالنِّكَاحِ قَدْ نُوزِعَ فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ فِيهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ؛ وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِع بِمِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قَسَمٍ وَلَا اسْتِئْذَانٍ فِي عَزْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ لِحَقِّ الزَّوْجَةِ . وَمِلْكُ النِّكَاحِ نَوْعُ رِقٍّ وَمِلْكُ الْيَمِينِ رِقٌّ تَامٌّ وَأَبَاحَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَزَوَّجُوا أَهْلَ الْكِتَابِ ؛ وَلَا يَتَزَوَّجُ أَهْلُ الْكِتَابِ نِسَاءَهُمْ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ نَوْعُ رِقٍّ كَمَا قَالَ عُمَرُ : النِّكَاحُ رِقٌّ ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ . وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : الزَّوْجُ سَيِّدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ } فَجُوِّزَ
لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَرِقَّ هَذِهِ الْكَافِرَةَ وَلَمْ يُجَوَّزْ لِلْكَافِرِ أَنْ يَسْتَرِقَّ هَذِهِ الْمُسْلِمَةَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ كَمَا جُوِّزَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَمْلِكَ الْكَافِرَ وَلَمْ يُجَوَّزْ لِلْكَافِرِ أَنْ يَمْلِكَ الْمُسْلِمَ . فَإِذًا جَوَازُ وَطْئِهِنَّ مِنْ مِلْكٍ تَامٍّ أَوْلَى وَأَحْرَى . يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ الْمَانِعَ : إمَّا الْكُفْرُ ؛ وَإِمَّا الرِّقُّ . وَهَذَا الْكُفْرُ لَيْسَ بِمَانِعِ ؛ وَالرِّقُّ لَيْسَ مَانِعًا مِنْ الْوَطْءِ بِالْمِلْكِ ؛ وَإِنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ التَّزَوُّجِ . فَإِذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلْوَطْءِ قَائِمًا وَالْمَانِعُ مُنْتَفِيًا : جَازَ الْوَطْءُ . فَهَذَا الْوَجْهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى " قِيَاسِ التَّمْثِيلِ " وَعَلَى " قِيَاس الْأَوْلَى " وَيَخْرُجُ مِنْهُ " وَجْهٌ رَابِعٌ " يُجْعَلُ " قِيَاسَ التَّعْلِيلِ " . فَيُقَالُ : الرِّقُّ مُقْتَضٍ لِجَوَازِ وَطْءِ الْمَمْلُوكَةِ ؛ كَمَا نَبَّهَ النَّصُّ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ كَقَوْلِهِ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ الْوَطْءُ بِسَبَبِ . يُوجِبُ التَّحْرِيمَ ؛ بِأَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً بِالرِّضَاعِ ؛ أَوْ بِالصِّهْرِ أَوْ بِالشِّرْكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذِهِ لَيْسَ فِيهَا مَا يَصْلُحُ لِلْمَنْعِ إلَّا كَوْنُهَا كِتَابِيَّةً وَهَذَا لَيْسَ بِمَانِعِ فَإِذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلْحِلِّ قَائِمًا وَالْمَانِعُ الْمَذْكُورُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا : وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنْ الْمَعَارِضِ الْمُقَاوِمِ . وَهَذِهِ الْوُجُوهُ بَعْدَ تَمَامِ تَصَوُّرِهَا تُوجِبُ الْقَطْعَ بِالْحِلِّ . " الْوَجْهُ الْخَامِسُ " أَنَّ مَنْ تَدَبَّرَ سِيَرَ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَجَدَ آثَارًا كَثِيرَةً تُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مَانِعًا ؛ بَلْ هَذِهِ كَانَتْ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةَ خُلَفَائِهِ : مِثْلُ الَّذِي كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ وَكَانَتْ تَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ يَقْتُلُهَا
وَقَدْ رَوَى حَدِيثَهَا أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ مُسْلِمَةً لَكِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَائِل مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ يَحْرُمُ نِكَاحُ الْمُشْرِكَاتِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وَطَلَّقَ عُمَرُ امْرَأَتَهُ كَانَتْ بِمَكَّةَ وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ فَلَا يُعْلَمُ تَارِيخُ نُزُولِهَا وَفِي الْبَقَرَةِ مَا نَزَلَ مُتَأَخِّرًا كَآيَاتِ الزِّنَا وَفِيهَا مَا نَزَلَ مُتَقَدِّمًا : كَآيَاتِ الصِّيَامِ . وَمِثْلَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ غَزْوَةَ تَبُوكَ قَالَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ : هَلْ لَك فِي نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ ؟ فَقَالَ : { ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي } } وَمِثْلَ فَتْحِهِ لِخَيْبَرِ وَقَسْمِهِ لِلرَّقِيقِ وَلَمْ يَنْهَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ وَطْئِهِنَّ حَتَّى يُسْلِمْنَ كَمَا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِبْرَاءِ . بَلْ مَنْ يُبِيحُ " وَطْءَ الْوَثَنِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ " قَدْ يَسْتَدِلُّ بِمَا جَرَى يَوْمَ أوطاس مِنْ قَوْلِهِ : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ } عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْوَثَنِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . وَفِي هَذَا كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَالصَّحَابَةُ لَمَّا فَتَحُوا الْبِلَادَ لَمْ يَكُونُوا يَمْتَنِعُونَ عَنْ وَطْءِ النَّصْرَانِيَّاتِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْمَجُوسِيَّةُ " فَقَدْ
ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ :
" أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْمَجُوسَ لَا تَحِلُّ
ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا وُجُوهٌ .
" أَحَدُهَا " أَنْ يُقَالَ : لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ لَمْ
يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَحِلَّ طَعَامُهُ وَلَا نِسَاؤُهُ . أَمَّا
الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَفِيهَا نِزَاعٌ شَاذٌّ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا أَنَّهُ
سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ
وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ
الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ
لَغَافِلِينَ } فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا
ذَلِكَ وَمَنْعًا لِأَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَدَفْعًا لِأَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ
فَلَوْ كَانَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ طَائِفَتَيْنِ لَكَانَ هَذَا
الْقَوْلُ كَذِبًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَانِعٍ مِنْ قَوْلِهِ . ( وَأَيْضًا
فَإِنَّهُ قَالَ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ
وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
فَذَكَرَ الْمِلَلَ السِّتَّ وَذَكَرَ أَنَّهُ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمَّا ذَكَرَ الْمِلَلَ الَّتِي فِيهَا سَعِيدٌ
فِي الْآخِرَةِ قَالَ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالنَّصَارَى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا } فِي مَوْضِعَيْنِ . فَلَمْ يَذْكُرْ الْمَجُوسَ وَلَا الْمُشْرِكِينَ : فَلَوْ كَانَ فِي هَاتَيْنِ الْمِلَّتَيْنِ سَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي الصَّابِئِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَذَكَرَهُمْ فَلَوْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ لَكَانُوا قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ عَلَى هُدًى ؛ وَكَانُوا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إذَا عَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِمْ كَمَا كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْمَجُوسَ فِي هَؤُلَاءِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ ؛ بَلْ ذَكَرَ الصَّابِئِينَ دُونَهُمْ مَعَ أَنَّ الصَّابِئِينَ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ إلَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ . وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَجُوسَ أَبْعَدُ عَنْ الْكِتَابِ مِنْهُمْ . وَأَيْضًا فَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ : { لَمَّا اقْتَتَلَتْ فَارِسُ وَالرُّومُ وَانْتَصَرَتْ الْفُرْسُ : فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ وَاسْتَبْشَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ إلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ كِتَابًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { الم } { غُلِبَتِ الرُّومُ } { فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } { فِي بِضْعِ سِنِينَ } الْآيَةَ } . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَجُوسَ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ لَهُمْ كِتَابٌ . " وَأَيْضًا " فَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّة وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ وَقَالَ : سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ } وَهَذَا مُرْسَلٌ .
وَعَنْ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ تُوَافِقُهُ وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْهُمْ خِلَافٌ وَأَمَّا حُذَيْفَةُ فَذَكَرَ أَحْمَد : أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِيَهُودِيَّةٍ . وَقَدْ عَمِلَ بِهَذَا الْمُرْسَلِ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ . " وَالْمُرْسَلُ " فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ حُجَّةٌ ؛ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَفِي الْآخَرِ هُوَ حُجَّةٌ إذَا عَضَّدَهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَوْ أُرْسِلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . فَمِثْلُ هَذَا الْمُرْسَلِ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَهَذَا الْمُرْسَلُ نَصٌّ فِي خُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى أَنْ يُبْنَى عَلَى الْمُتَقَدِّمَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ : أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ فَرُفِعَ . قِيلَ : هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَإِنْ صَحَّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ فَرُفِعَ لَا أَنَّهُ الْآنَ بِأَيْدِيهِمْ كِتَابٌ ؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلُوا فِي لَفْظِ ( أَهْلِ الْكِتَابِ إذْ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ كِتَابٌ ؛ لَا مُبَدَّلٌ وَلَا غَيْرُ مُبَدَّلٍ وَلَا مَنْسُوخٌ وَلَا غَيْرُ مَنْسُوخٍ ؛ وَلَكِنْ إذَا كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ ثُمَّ رُفِعَ بَقِيَ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ وَهَذَا الْقَدْرُ يُؤَثِّرُ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ بِالْجِزْيَةِ إذَا قُيِّدَتْ بِأَهْلِ الْكِتَابِ . وَأَمَّا الْفُرُوجُ وَالذَّبَائِحُ : فَحِلُّهَا مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا أَمَرَ أَنْ يُسَنَّ بِهِمْ سُنَّتُهُمْ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ خَاصَّةً كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إلَّا هَذَا الْحُكْمَ وَقَدْ رُوِيَ مُقَيَّدًا : { غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ ؛ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ } فَمَنْ جَوَّزَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ قَاسَ
عَلَيْهِمْ
غَيْرَهُمْ فِي الْجِزْيَةِ وَمَنْ خَصَّهُمْ بِذَلِكَ قَالَ : إنَّ لَهُمْ
شُبْهَةَ كِتَابٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ وَالدِّمَاءُ تُعْصَمُ بِالشُّبُهَاتِ ؛
وَلَا تَحِلُّ الْفُرُوجُ وَالذَّبَائِحُ بِالشُّبُهَاتِ . وَلِهَذَا لَمَّا
تَنَازَعَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ قَالَ عَلِيٌّ :
إنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ .
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } فَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنَعَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ
مَعَ عِصْمَةِ دِمَائِهِمْ وَهُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيثَ كِتَابِ الْمَجُوسِ
فَعُلِمَ أَنَّ التَّشَبُّهَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ يَقْتَضِي
حَقْنَ الدِّمَاءِ دُونَ الذَّبَائِحِ وَالنِّسَاءِ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَحُكِمَ
بِكُفْرِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ مِنْ امْرَأَتِهِ ثَلَاثًا :
فَإِذَا رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُجَدِّدَ النِّكَاحَ
مِنْ غَيْرِ تَحْلِيلٍ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا ارْتَدَّ وَلَمْ يَعُدْ إلَى
الْإِسْلَامِ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّةُ امْرَأَتِهِ ؛ فَإِنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ
عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَإِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ : فَقَدْ
طَلَّقَ أَجْنَبِيَّةً فَلَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ . فَإِذَا عَادَ إلَى
الْإِسْلَامِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا . وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي زَمَنِ
الْعِدَّةِ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى الْإِسْلَامِ : فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ
لِلْعُلَمَاءِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْبَيْنُونَةَ تَحْصُلُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الطَّلَاقُ بَعْدَ هَذَا طَلَاقَ الْأَجْنَبِيَّةِ فَلَا يَقَعُ . " وَالثَّانِي " أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَزُولُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ . فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ فِي الْعِدَّةِ وَعَادَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ : تَبَيَّنَ أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ . وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ . تَبَيَّنَ أَنَّهُ طَلَّقَ أَجْنَبِيَّةً فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الصَّدَاقِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
السُّنَّةُ : تَخْفِيفُ الصَّدَاقِ وَأَلَّا يَزِيدَ
عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَنَاتِهِ : فَقَدْ
رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ أَعْظَمَ النِّسَاءِ بَرَكَةً
أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً } وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : خَيْرُهُنَّ أَيَسَرُهُنَّ صَدَاقًا } وَعَنْ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
أَلْزِمُوا النِّسَاءَ الرِّجَالَ وَلَا تُغَالُوا فِي الْمُهُورِ } . وَخَطَبَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ فَقَالَ : أَلَا لَا تُغَالُوا فِي مُهُورِ
النِّسَاءِ ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرَمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوَى
عِنْدَ اللَّهِ : كَانَ أَوْلَاكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَا أَصْدَقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا أُصْدِقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ
أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ
صَحِيحٌ . وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصْدِقَ الْمَرْأَةَ صَدَاقًا يَضُرُّ بِهِ
إنْ نَقَدَهُ وَيَعْجِزُ عَنْ وَفَائِهِ إنْ كَانَ دَيْنًا . قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ :
إنِّي تَزَوَّجْت امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ . فَقَالَ : عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتهَا ؟ قَالَ : عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ فَكَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيك ؛ وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَك فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ قَالَ : فَبَعَثَ بَعْثًا إلَى بَنِي عَبْسٍ فَبَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . " وَالْأُوقِيَّةُ " عِنْدَهُمْ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَهِيَ مَجْمُوعُ الصَّدَاقِ لَيْسَ فِيهِ مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ . وَعَنْ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ : { أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِينُهُ فِي صَدَاقِهَا فَقَالَ : كَمْ أَصْدَقْت ؟ قَالَ : فَقُلْت ؛ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ . فَقَالَ : لَوْ كُنْتُمْ تَغْرِفُونَ الدَّرَاهِمَ مِنْ أَوْدِيَتِكُمْ مَا زِدْتُمْ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ . وَإِذَا أَصْدَقَهَا دَيْنًا كَثِيرًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ يَنْوِي أَلَّا يُعْطِيَهَا إيَّاهُ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِصَدَاقِ يَنْوِي أَلَّا يُؤَدِّيَهُ إلَيْهَا فَهُوَ زَانٍ وَمَنْ ادَّانَ دَيْنًا يَنْوِي أَلَّا يَقْضِيَهُ فَهُوَ سَارِقٌ } . وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْجَفَاءِ وَالْخُيَلَاءِ وَالرِّيَاءِ مِنْ تَكْثِيرِ الْمَهْرِ لِلرِّيَاءِ وَالْفَخْرِ وَهُمْ لَا يَقْصِدُونَ أَخْذَهُ مِنْ الزَّوْجِ وَهُوَ يَنْوِي أَلَّا يُعْطِيَهُمْ إيَّاهُ : فَهَذَا مُنْكَرٌ قَبِيحٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ خَارِجٌ عَنْ الشَّرِيعَةِ .
وَإِنْ قَصَدَ الزَّوْجُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ وَهُوَ فِي الْغَالِبِ لَا يُطِيقُهُ فَقَدْ حَمَّلَ نَفْسَهُ وَشَغَلَ ذِمَّتَهُ وَتَعَرَّضَ لِنَقْصِ حَسَنَاتِهِ وَارْتِهَانِهِ بِالدَّيْنِ ؛ وَأَهْلُ الْمَرْأَةِ قَدْ آذَوْا صِهْرَهُمْ وَضَرُّوهُ . وَالْمُسْتَحَبُّ فِي " الصَّدَاقِ " مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْيَسَارِ : أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ لَا يَزِيدُ عَلَى مَهْرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بَنَاتِهِ وَكَانَ مَا بَيْنَ أَرْبَعِمِائَةٍ إلَى خَمْسِمِائَةٍ . بِالدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ نَحْوًا مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا . فَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَنَّ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّدَاقِ { قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ : صَدَاقُنَا إذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرُ أَوَاقٍ وَطَبَّقَ بِيَدَيْهِ . وَذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد فِي سُنَنِهِ . { وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ : قُلْت لِعَائِشَةَ : كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَتْ : كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا . قَالَتْ أَتَدْرِي مَا النَّشُّ ؟ قُلْت : لَا قَالَتْ : نِصْفُ أُوقِيَّةٍ : فَذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ صَدَاقَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ فَمَنْ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى أَنْ يَزِيدَ صَدَاقَ ابْنَتِهِ عَلَى صَدَاقِ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّوَاتِي هُنَّ خَيْرُ خَلْقِ اللَّهِ فِي كُلِّ فَضِيلَةٍ وَهُنَّ أَفْضَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فِي كُلِّ صِفَةٍ : فَهُوَ جَاهِلٌ أَحْمَقُ . وَكَذَلِكَ صَدَاقُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ . وَهَذَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْيَسَارِ فَأَمَّا الْفَقِيرُ وَنَحْوُهُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصْدِقَ الْمَرْأَةَ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَى وَفَائِهِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ .
وَالْأَوْلَى
تَعْجِيلُ الصَّدَاقِ كُلِّهِ لِلْمَرْأَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا أَمْكَنَ فَإِنْ
قَدَّمَ الْبَعْضَ وَأَخَّرَ الْبَعْضَ : فَهُوَ جَائِزٌ . وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ
الصَّالِحُ الطَّيِّبُ يُرَخِّصُونَ الصَّدَاقَ . { فَتَزَوَّجَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ } . قَالُوا : وَزْنُهَا ثَلَاثَةُ
دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ . وَزَوَّجَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ بِنْتَه عَلَى
دِرْهَمَيْنِ وَهِيَ مِنْ أَفْضَلِ أَيِّمٍ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ أَنْ خَطَبَهَا
الْخَلِيفَةُ لِابْنِهِ فَأَبَى أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِ . وَاَلَّذِي نُقِلَ عَنْ
بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ تَكْثِيرِ صَدَاقِ النِّسَاءِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ
لِأَنَّ الْمَالَ اتَّسَعَ عَلَيْهِمْ وَكَانُوا يُعَجِّلُونَ الصَّدَاقَ كُلَّهُ
قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ لَمْ يَكُونُوا يُؤَخِّرُونَ مِنْهُ شَيْئًا . وَمَنْ كَانَ
لَهُ يَسَارٌ وَوَجَدَ فَأَحَبَّ أَنْ يُعْطِيَ امْرَأَتَهُ صَدَاقًا كَثِيرًا
فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ
قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } . أَمَّا مَنْ يَشْغَلُ ذِمَّتَهُ
بِصَدَاقِ لَا يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ أَوْ يَعْجِزُ عَنْ وَفَائِهِ : فَهَذَا
مَكْرُوهٌ . كَمَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ فِي ذِمَّتِهِ صَدَاقًا
كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ وَفَاءٍ لَهُ :
فَهَذَا لَيْسَ بِمَسْنُونِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُل يَتَزَوَّجُ عَلَى صَدَاقٍ مُعَيَّنٍ
مَكْتُوبٍ وَيَتَّفِقَا عَلَى مُقَدَّمٍ فَيُعْطِيهِ ثُمَّ يَمُوتُ : هَلْ
يُحْسَبُ الْمُقَدَّمُ مِنْ جُمْلَةِ الصَّدَاقِ الْمَكْتُوبِ ؟
فَأَجَابَ
:
وَأَمَّا مَا يُقَدِّمُهُ الزَّوْجُ لِلْمَرْأَةِ مِنْ
النَّقْدِ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ غَيْرَ الصَّدَاقِ الَّذِي يُكْتَبُ فِي
الْكِتَابِ إذَا أَعْطَاهَا الزَّوْجُ ذَلِكَ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ
بَدَلَهُ
؛ فَإِنَّهُ لَا يُحْسَبُ عَلَيْهَا مِنْ الصَّدَاقِ الْمَكْتُوبِ ؛ بَلْ لَوْ
لَمْ يُعْطِهَا ذَلِكَ لَكَانَ لَهَا أَنْ تَطْلُبَهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ وَكَانَ مِنْ الصَّدَاقِ الَّذِي يَسْتَقِرُّ بِالْمَوْتِ تَأْخُذُهُ
كُلَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ فَإِنَّهَا إذَا رَضِيَتْ بِأَنْ يَكُونَ لَهَا
مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ ؛ يُسَمِّيهِ السَّلَفُ عَاجِلًا وَآجِلًا وَشَارَطَتْهُ
عَلَى أَنْ يُقَدِّمَ لَهَا كَذَا وَيُؤَخِّرَ كَذَا . وَإِنْ لَمْ تَذْكُرْ حِينَ
الْعَقْدِ فَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ إذَا لَمْ يُفْسَخْ حِينَ
عَقْدِ الْعَقْدِ كَالْمَشْرُوطِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَدْ
بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ الَّذِي صَنَّفْته فِي
" مَسَائِلَ الذرايع وَالْحِيَلِ " و " بَيَانِ الدَّلِيلِ عَلَى
بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ " إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ
بِهَا يُعْطِيهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَمْ تَسْتَحِقَّ
مَا شَرَطَ لَهَا تَعْجِيلَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ عَجَّلَ لَهَا زَوْجُهَا نَقْدًا وَلَمْ
يُسَمِّهِ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ ثُمَّ تُوُفِّيَ عَنْهَا فَطَلَبَ الْحَاكِمُ
أَنْ يُحْسَبَ الْمُعَجَّلُ مِنْ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ ؛ لِكَوْنِ
الْمُعَجَّلِ لَمْ يُذْكَرْ فِي الصَّدَاقِ .
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَا قَدْ اتَّفَقَا عَلَى
الْعَاجِلِ الْمُقَدَّمِ وَالْآجِلِ الْمُؤَخَّرِ - كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ
- فَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَطْلُبَ الْمُؤَخَّرَ كُلَّهُ إنْ لَمْ يَذْكُرْ
الْمُعَجَّلَ فِي الْعَقْدِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَدْ أَهْدَى لَهَا - كَمَا
جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ . وَأَمَّا إنْ كَانَ أَقْبَضَهَا مِنْ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى
حُسِبَ عَلَى الزَّوْجَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ اعْتَقَلَتْهُ زَوْجَتُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ
عَلَى الصَّدَاقِ مُدَّةَ شَهْرَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَوْجُودٌ : فَهَلْ
يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُبْقِيَهُ أَوْ يُطْلِقُهُ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ حَلَفَهُ الْحَاكِمُ
عَلَى إعْسَارِهِ وَأَطْلَقَهُ .
وَلَمْ يَجُزْ حَبْسُهُ وَتَكْلِيفُهُ الْبَيِّنَةَ
وَالْحَالَةُ هَذِهِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ بِكْرٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ وَدَخَلَ
بِهَا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا كَانَتْ ثَيِّبًا وَتَحَاكَمَا إلَى حَاكِمٍ
فَأَرْسَلَ مَعَهَا امْرَأَتَيْنِ وَجَدُوهَا كانت بِكْرًا فَأَنْكَرَ . وَنَكَلَ
عَنْ الْمَهْرِ : مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ
:
لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ بَلْ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمَهْرِ
كَمَا قَالَ زرارة وَقَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْأَئِمَّةُ
الْمَهْدِيُّونَ : أَنَّ مَنْ أَغْلَقَ الْبَابَ وَأَرْخَى السِّتْرَ فَقَدْ
وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعِدَّةُ وَالْمَهْرُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَةً فَاتَّفَقُوا عَلَى
النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَأَعْطَى أَبَاهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ شَيْئًا
فَمَاتَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ : هَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَعْطَى ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانُوا قَدْ وَفَّوْا بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ
وَلَمْ يَمْنَعُوهُ مِنْ نِكَاحِهَا حَتَّى مَاتَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ ؛
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مَا أَعْطَاهُمْ كَمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ
تَزَوَّجَهَا اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَ الصَّدَاقِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا بَذَلَ
لَهُمْ ذَلِكَ لِيُمَكِّنُوهُ مِنْ نِكَاحِهَا وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَهَذَا
غَايَةُ الْمُمْكِنِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ
لَهَا زَوْجٌ فَفَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا : فَهَلْ لَهَا مَهْرٌ ؟ وَهَلْ
هُوَ الْمُسَمَّى ؛ أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا عَلِمَتْ أَنَّهَا مُزَوَّجَةٌ وَلَمْ تَسْتَشْعِرْ
؛ لَا مَوْتَهُ وَلَا طَلَاقَهُ : فَهَذِهِ زَانِيَةٌ مُطَاوِعَةٌ لَا مَهْرَ
لَهَا . وَإِذَا اعْتَقَدَتْ مَوْتَهُ وَطَلَاقَهُ فَهُوَ وَطْءُ شُبْهَةٍ
بِنِكَاحِ فَاسِدٍ فَلَهَا الْمَهْرُ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ أَنَّ
لَهَا الْمُسَمَّى ؛ وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَةٌ أُخْرَى كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ
أَنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ مُعْسِرٍ : هَلْ يُقَسَّطُ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ مُعْسِرًا قُسِّطَ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ عَلَى
قَدْرِ حَالِهِ وَلَمْ يَجُزْ حَبْسُهُ ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ
يَقْبَلُونَ قَوْلَهُ فِي الْإِعْسَارِ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ إلَّا بَعْدَ
الْحَبْسِ ؛ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةُ .
فَإِذَا كَانَتْ الْحُكُومَةُ عِنْدَ مَنْ يَحْكُمُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد لَمْ يُحْبَسْ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَعْطَاهَا الْمَهْرَ
وَكَتَبَ عَلَيْهِ صَدَاقًا أَلْفَ دِينَارٍ وَشَرَطُوا عَلَيْهِ أَنَّنَا مَا
نَأْخُذُ مِنْك شَيْئًا إلَّا عِنْدَنَا هَذِهِ عَادَةٌ وَسُمْعَةٌ وَالْآنَ
تُوُفِّيَ الزَّوْجُ وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ كِتَابَهَا مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَى
التَّمَامِ وَالْكَمَالِ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَتْ الصُّورَةُ عَلَى مَا ذُكِرَ لَمْ يَجُزْ
لَهَا أَنْ تُطَالِبَ إلَّا مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَلَى
الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ بَلْ يَجِبُ
لَهَا مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلِ ؛ فَهَرَبَ
وَتَرَكَهَا مِنْ مُدَّةِ سِتِّ سِنِينَ وَلَمْ يَتْرُكْ عِنْدَهَا نَفَقَةً ثُمَّ
بَعْدَ ذَلِكَ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا وَدَخَلَ بِهَا فَلَمَّا اطَّلَعَ الْحَاكِمُ
عَلَيْهَا فَسَخَ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا : فَهَلْ يَلْزَمُ الزَّوْجَ الصَّدَاقُ
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إنْ كَانَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ فُسِخَ لِتَعَذُّرِ
النَّفَقَةِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ؛ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ
الثَّانِيَ : فَنِكَاحُهُ صَحِيحٌ . وَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ الثَّانِيَ قَبْلَ
فَسْخِ نِكَاحِ الْأَوَّلِ : فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ . وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ
وَالزَّوْجَةُ عَلِمَا أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ بَاقٍ ؛ وَأَنَّهُ يَحْرُمُ
عَلَيْهِمَا النِّكَاحُ : فَيَجِبُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا . وَإِنْ جَهِلَ
الزَّوْجُ نِكَاحَ الْأَوَّلِ أَوْ نَفَاهُ أَوْ جَهِلَ تَحْرِيمَ نِكَاحِهِ
قَبْلَ الْفَسْخِ : فَنِكَاحُهُ نِكَاحُ شُبْهَةٍ ؛ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ
الصَّدَاقُ وَيَلْحَقُ فِيهِ النَّسَبُ وَلَا حَدَّ فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ
غَرَّتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ وَلِيُّهَا فَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا خَلِيَّةٌ عَنْ
الْأَزْوَاجِ : فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالصَّدَاقِ الَّذِي أَدَّاهُ عَلَى مَنْ
غَرَّهُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ
:
إذَا خَلَا الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ فَمَنَعَتْهُ
نَفْسَهَا مِنْ الْوَطْءِ وَلَمْ يَطَأْهَا ؛ لَمْ يَسْتَقِرَّ مَهْرُهَا فِي
مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد - الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُهُ : كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى
وَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِمَا - وَغَيْرِهِ مَنَّ الْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ : مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَإِذَا اعْتَرَفَتْ
بِأَنَّهَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ وَطْئِهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مَهْرُهَا
بِاتِّفَاقِهِمْ . وَلَا يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةٌ مَا دَامَتْ كَذَلِكَ
بِاتِّفَاقِهِمْ . وَإِذَا كَانَتْ مُبْغِضَةً لَهُ مُخْتَارَةً سِوَاهُ
فَإِنَّهَا تَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَمْلُوكٍ فِي الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ :
تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَتْ
عُبُودِيَّتُهُ ؛ وَكَانَ قَدْ اعْتَرَفَ أَنَّهُ حُرٌّ ؛ وَأَنَّ لَهُ خَيْرًا
فِي مِصْرَ ؛ وَقَدْ ادَّعَوْا عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ
وَاقْتَرَضَ مِنْ زَوْجَتِهِ شَيْئًا : فَهَلْ يَلْزَمُ شَيْءٌ أَوْ لَا ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . تَزَوُّجُ الْعَبْدِ
بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ إذَا لَمْ يُجْزِهِ السَّيِّدُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ
عَاهِرٌ } لَكِنْ إذَا أَجَازَهُ السَّيِّدُ بَعْدَ الْعَقْدِ صَحَّ فِي
مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ وَلَمْ يَصِحَّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَإِذَا طَلَبَ النِّكَاحَ فَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُزَوِّجَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } . وَإِذَا غَرَّ الْمَرْأَةَ وَذَكَرَ أَنَّهُ حُرٌّ وَتَزَوَّجَهَا ؛ وَدَخَلَ بِهَا : وَجَبَ الْمَهْرُ لَهَا بِلَا نِزَاعٍ ؛ لَكِنْ هَلْ يَجِبُ الْمُسَمَّى : كَقَوْلِ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ ؟ أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ ؟ أَوْ يَجِبُ الْخُمُسَانِ : كَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ يَتَعَلَّقُ هَذَا الْوَاجِبُ بِرَقَبَتِهِ كَقَوْلِ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ ؛ وَأَظُنُّهُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ . أَوْ يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ فَيُتْبَعُ بِهِ إذَا أُعْتِقَ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا ؟ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ لَهُمْ : إنَّهُ حُرٌّ تَلْبِيسٌ عَلَيْهِمْ ؛ وَكَذِبٌ عَلَيْهِمْ ثُمَّ دُخُولُهُ عَلَيْهَا بِهَذَا الْكَذِبِ عُدْوَانٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ . وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَوْ تَعَدَّى عَلَى أَحَدٍ فَأَتْلَفَ مَالَهُ ؛ أَوْ جَرَحَهُ أَوْ قَتَلَهُ : كَانَتْ جِنَايَتُهُ مُتَعَلِّقَةً بِرَقَبَتِهِ ؛ لَا تَجِبُ فِي ذِمَّةِ السَّيِّدِ ؛ بَلْ يُقَالُ لِلسَّيِّدِ : إنْ شِئْت أَنْ تَفُكَّ مَمْلُوكَك مِنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ ؛ وَإِنْ شِئْت أَنْ تُسَلِّمَهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ هَذِهِ الْجِنَايَةَ مِنْ رَقَبَتِهِ . وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ فَعَلَيْهِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ : مَنْ قَدْرِ الْجِنَايَةِ أَوْ قِيمَةِ الْعَبْدِ : فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا .
وَعِنْد
مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ يَفْدِيهِ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ بَالِغًا مَا
بَلَغَ فَهَذَا الْعَبْدُ ظَالِمٌ مُعْتَدٍ جَارَ عَلَى هَؤُلَاءِ : فَتَتَعَلَّقُ
جِنَايَتُهُ بِرَقَبَتِهِ
. وَكَذَلِكَ مَا اقْتَرَضَهُ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ
مَعَ قَوْلِهِ إنَّهُ حُرٌّ : فَهُوَ عُدْوَانٌ عَلَيْهِمْ فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ فِي
أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ اعْتَاضَتْ عَنْ صَدَاقِهَا بَعْدَ
مَوْتِ الزَّوْجِ فَبَاعَتْ الْعِوَضَ وَقَبَضَتْ الثَّمَنَ ثُمَّ أَقَرَّتْ
أَنَّهَا قَبَضَتْ الصَّدَاقَ مِنْ غَيْرِ ثَمَنِ الْمِلْكِ : فَهَلْ يَبْطُلُ
حَقُّ الْمُشْتَرِي ؟ أَوْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِاَلَّذِي اعْتَرَفَتْ أَنَّهَا
قَبَضَتْهُ مِنْ غَيْرِ الْمِلْكِ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَبْطُلُ حَقٌّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ وَلِلْوَرَثَةِ
أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهَا ثَمَنَ الْمِلْكِ الَّذِي اعْتَاضَتْ بِهِ ؛ إذَا
أَقَرَّتْ بِأَنَّ قَبْضَ صَدَاقِهَا قَبْلَ ذَلِكَ . وَكَانَ قَدْ أَفْتَى
طَائِفَةٌ بِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِاَلَّذِي اعْتَرَفَتْ بِقَبْضِهِ مِنْ
التَّرِكَةِ وَلَيْسَ بِشَيْءِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ تَضَمَّنَ أَنَّهَا
اسْتَوْفَتْ صَدَاقَهَا وَأَنَّهَا بَعْدَ هَذَا الِاسْتِيفَاءِ لَهُ أَحْدَثَتْ
مِلْكًا آخَرَ ؛ فَإِنَّمَا فَوَّتَتْ عَلَيْهِمْ الْعَقَارَ ؛ لَا عَلَى
الْمُشْتَرِي .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ؛ وَكَتَبَ كِتَابَهَا
وَدَفَعَ لَهَا الْحَالَ بِكَمَالِهِ وَبَقِيَ الْمُقَسَّطُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ
تَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ شَيْئًا ؛ وَطَلَبَهَا لِلدُّخُولِ فَامْتَنَعَتْ ؛ وَلَهَا
خَالَةٌ تَمْنَعُهَا : فَهَلْ تُجْبَرُ عَلَى الدُّخُولِ ؟ وَيَلْزَمُ خَالَتَهَا
الْمَذْكُورَةَ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ
: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا وَالْحَالُ هَذِهِ
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَا لِخَالَتِهَا وَلَا غَيْرِ خَالَتِهَا أَنْ
يَمْنَعَهَا ؛ بَلْ تُعَزَّرُ الْخَالَةُ عَلَى مَنْعِهَا مِنْ فِعْلِ مَا
أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَتُجْبَرُ الْمَرْأَةِ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا
لِلزَّوْجِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ فَطَلَّقَهَا
ثَلَاثًا وَلَهَا كِتَابٌ إلَى مُدَّةٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَجُزْ مُطَالَبَتُهَا لَهُ
حَتَّى يُوسِرَ وَإِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ سُمِعَتْ ؛ بَلْ الْقَوْلُ
قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ فِي مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَفِي ظَاهِرِ
الْحَالِ أَنَّهُ حُرٌّ فَأَقَامَتْ فِي صُحْبَتِهِ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ
طَلَّقَهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا وَطَالَبَتْهُ بِحُقُوقِهَا فَقَالَ : أَنَا
مَمْلُوكٌ يَجِبُ الْحَجْرُ عَلَيَّ : فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ بِحَقِّ
الزَّوْجَةِ عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ؟
فَأَجَابَ :
حَقُّ الزَّوْجَةِ ثَابِتٌ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ
لِوَجْهَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّ مُجَرَّدَ دَعْوَاهُ الرِّقَّ لَا
يُسْقِطُ حَقَّهَا وَالْحَالُ مَا ذَكَرَ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ
الْحُرِّيَّةُ وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِلَا بَيِّنَةٍ وَلَمْ يُعْرَفْ
خِلَافُ ذَلِكَ فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . " أَحَدُهَا " يُقْبَلُ فِيمَا عَلَيْهِ
دُونَ مَالِهِ عَلَى غَيْرِهِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد فِي قَوْلٍ لَهُمْ . " وَالثَّانِي " لَا يُقْبَلُ بِحَالِ
كَقَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
عَنْ أَحْمَد . " وَالثَّالِثُ " يُقْبَلُ قَوْلُهُ مُطْلَقًا ؛ وَهُوَ
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد فَإِذَا كَانَ مَعَ دَعْوَى
الْمُدَّعِي لِرِقِّهِ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِمَا يُسْقِطُ حَقَّهَا عِنْدَ
جُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ : فَكَيْفَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ الرِّقَّ ؟
وَكَيْفَ وَلَهُ خَيْرٌ وَإِقْطَاعٌ ؛ وَهُوَ مُنْتَسِبٌ ؛ وَقَدْ ادَّعَى
الْحُرِّيَّةَ حَتَّى زُوِّجَ بِهَا ؟ " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنَّهُ
لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ كَذَبَ وَلَبَّسَ عَلَيْهَا وَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ حَتَّى
تَزَوَّجَ بِهَا وَدَخَلَ : فَهَذَا قَدْ جَنَى بِكَذِبِهِ وَتَلْبِيسِهِ ؛
وَالرَّقِيقُ إذَا جَنَى تَعَلَّقَتْ جِنَايَتُهُ بِرَقَبَتِهِ : فَلَهَا أَنْ
تَطْلُبَ حَقَّهَا مِنْ رَقَبَتِهِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ سَيِّدُهُ أَنْ
يَفْدِيَهُ بِأَدَاءِ حَقِّهَا : فَلَهُ ذَلِكَ .
بَابُ
وَلِيمَةِ الْعُرْسِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ طَعَامِ الزَّوَاجِ ؟ وَطَعَامِ الْعَزَاءِ ؟
وَطَعَامِ الْخِتَانِ ؟ وَطَعَامِ الْوِلَادَةِ ؟ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : أَمَّا " وَلِيمَةُ الْعُرْسِ "
فَهِيَ سُنَّةٌ وَالْإِجَابَةُ إلَيْهَا مَأْمُورٌ بِهَا وَأَمَّا "
وَلِيمَةُ الْمَوْتِ " فَبِدْعَةٌ مَكْرُوهٌ فِعْلُهَا وَالْإِجَابَةُ إلَيْهَا .
وَأَمَّا " وَلِيمَةُ الْخِتَانِ " فَهِيَ جَائِزَةٌ : مَنْ شَاءَ
فَعَلَهَا وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهَا . وَكَذَلِكَ " وَلِيمَةُ الْوِلَادَةِ
" إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَقَّ عَنْ الْوَلَدِ ؛ فَإِنَّ الْعَقِيقَةَ
عَنْهُ سُنَّةٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يُكْرَهُ طَعَامُ الطَّهُورِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ
فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلِيمَةِ الْعُرْسِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا " وَلِيمَةُ الْعُرْسِ
" فَسُنَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ حَتَّى إنَّ
مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا ؛ فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ إعْلَانَ النِّكَاحِ
وَإِظْهَارِهِ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ
وَاِتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْإِجَابَةُ إلَيْهَا وَاجِبَةً
عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ شُرُوطِ ذَلِكَ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ . وَأَمَّا
" دَعْوَةُ الْخِتَانِ "
فَلَمْ
تَكُنْ
الصَّحَابَةُ تَفْعَلُهَا وَهِيَ مُبَاحَةٌ ؛ ثُمَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَصْحَابَ
أَحْمَد وَغَيْرِهِ مَنْ كَرِهَهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهَا ؛ بَلْ
يَسْتَحِبُّهَا . وَأَمَّا الْإِجَابَةُ إلَيْهَا ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَهَا
آثِمٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّهَا
. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَسْتَحِبَّهَا . وَمِنْهُمْ
مَنْ كَرِهَ الْإِجَابَةَ إلَيْهَا أَيْضًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " مَنْ أَكَلَ مَعَ مَغْفُورٍ غُفِرَ لَهُ " : هَلْ صَحَّ
ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَقَظَةِ ؛ وَإِنَّمَا
ذَكَرُوا أَنَّهُ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ يَقُولُ ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ هَذَا عَلَى
الْإِطْلَاقِ صَحِيحٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ : " مَنْ أَتَى إلَى طَعَامٍ
لَمْ يُدْعَ إلَيْهِ فَقَدْ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا "
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَعْنَاهُ الَّذِي يَدْخُلُ إلَى
دَعْوَةٍ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ مُخْتَفِيًا كَالسَّارِقِ
وَيَأْكُلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ فَيَسْتَحْيُونَ مِنْ نَهْيِهِ : فَيَخْرُجُ
كَالْمُغِيرِ الَّذِي يَأْخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْقَهْرِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ " شُرْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثَلَاثًا " - يَعْنِي تَنَفَّسَ ثَلَاثًا - فَلَوْ شَرِبَ أَحَدٌ مَرَّةً
هَلْ يَكُونُ حَرَامًا ؟ وَهَلْ وَرَدَ أَنَّهُ لَمْ يَشْرَبْ مَرَّةً فَقَطْ ؟
وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْعَشَرَةِ " أَنَّهُ شَرِبَ مَرَّةً
وَاحِدَةً " وَقَدْ كُتِبَ فِي هَذَا فُتْيَا وَقَالُوا : إذَا شَرِبَ
مَرَّةً حَرَامٌ ؛ وَلَمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْقَوْلَ
وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ أَيْضًا : " أَنَّهُ شَرِبَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا " فَهَلْ هَذَا لِلتَّنْزِيهِ ؟ أَوْ
لِلتَّحْرِيمِ ؟ وَهَلْ إذَا شَرِبَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ قَائِمًا عَلَيْهِ إثْمٌ ؟
وَهَلْ إذَا شَرِبَ مَرَّةً وَاحِدَةً هَلْ يَكُونُ حَرَامًا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْأَفْضَلُ أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي
الشُّرْبِ ثَلَاثًا وَيَكُونُ نَفَسُهُ فِي غَيْرِ الْإِنَاءِ ؛ فَإِنَّ
التَّنَفُّسَ فِي الْإِنَاءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتَنَفَّسْ وَشَرِبَ
بِنَفَسِ وَاحِد جَازَ ؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا }
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ : { كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا
يَقُولُ : إنَّهُ أَرْوَى وَأَمْرَى } . فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ
التَّنَفُّسِ ثَلَاثًا . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي قتادة قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ
فَلَا
يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ
} فَهَذَا فِيهِ النَّهْيُ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي
الْإِنَاءِ . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الشَّرَابِ فَقَالَ الرَّجُلُ :
الْقَذَاةُ أَرَاهَا فِي الْإِنَاءِ ؟ فَقَالَ : أَهْرِقْهَا قَالَ : فَإِنِّي لَا
أُرْوَى عَنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ : قَالَ : فَأَبِنْ الْقَدَحَ عَنْ فِيك } رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ . فَلَمْ يَنْهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ الشُّرْبِ بِنَفَسِ وَاحِدٍ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا قَالَ لَهُ
الرَّجُلُ : إنِّي لَا أُرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ قَالَ : { أَبِنْ الْقَدَحَ
عَنْ فِيك } أَيْ لِتَتَنَفَّسْ إذَا احْتَجْت إلَى النَّفَسِ خَارِجَ الْإِنَاءِ
. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ رُوِيَ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَحْتَجْ
إلَى النَّفَسِ جَازَ . وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ أَوْجَبَ
التَّنَفُّسَ وَحَرَّمَ الشُّرْبَ بِنَفَسِ وَاحِدٍ . وَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ كَمَا كَانَ { يُعْجِبُهُ
التَّيَمُّنَ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ }
وَلَوْ بَدَأَ فِي الطِّهَارَةِ بِمَيَاسِرِهِ قَبْلَ مَيَامِنِهِ كَانَ تَارِكًا
لِلِاخْتِيَارِ وَكَانَ وُضُوءُهُ صَحِيحًا مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ أَعْلَمُهُ بَيْنَ
الْأَئِمَّةِ .
وَأَمَّا " الشُّرْبُ قَائِمًا " فَقَدْ
جَاءَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ بِالنَّهْيِ وَأَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ بِالرُّخْصَةِ ؛
وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَذُكِرَ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد
؛ وَلَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ أَنْ تُحْمَلَ الرُّخْصَةُ عَلَى
حَالِ الْعُذْرِ . فَأَحَادِيثُ النَّهْيِ مِثْلُهَا فِي الصَّحِيحِ " {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الشُّرْبِ
قَائِمًا } وَفِيهِ
عَنْ قتادة عَنْ أَنَسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا } قَالَ قتادة : فَقُلْنَا : الْأَكْلُ ؟ فَقَالَ : ذَاكَ شَرٌّ وَأَخْبَثُ . وَأَحَادِيثُ " الرُّخْصَةِ " مِثْلَ حَدِيثِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { شَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا مِنْ زَمْزَمَ } وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ : أَنَّ عَلِيًّا فِي رَحْبَةِ الْكُوفَةِ شَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ . ثُمَّ قَالَ : إنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ كَمَا صَنَعْت . وَحَدِيثُ عَلِيٍّ هَذَا قَدْ رُوِيَ فِيهِ أَثَرٌ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ زَمْزَمَ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا كَانَ فِي الْحَجِّ وَالنَّاسُ هُنَاكَ يَطُوفُونَ وَيَشْرَبُونَ مِنْ زَمْزَمَ وَيَسْتَقُونَ وَيَسْأَلُونَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ قُعُودٍ مَعَ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلِ فَيَكُونُ هَذَا وَنَحْوُهُ مُسْتَثْنًى مِنْ ذَلِكَ النَّهْيِ وَهَذَا جَارٍ عَنْ أَحْوَالِ الشَّرِيعَةِ : أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ يُبَاحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ ؛ بَلْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا يُبَاحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ ؛ بَلْ الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي حُرِّمَ أَكْلُهَا وَشُرْبُهَا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ تُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ . وَأَمَّا مَا حُرِّمَ مُبَاشَرَتُهُ طَاهِرًا - كَالذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ - فَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ وَهَذَا النَّهْيُ عَنْ صِفَةٍ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ : فَهَذَا دُونَ النَّهْيِ عَنْ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعَنْ لِبَاسِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ ؛ إذْ ذَاكَ قَدْ جَاءَ فِيهِ وَعِيدٌ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مُبَاحٌ لِلْحَاجَةِ : فَهَذَا أَوْلَى . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قَائِمًا : هَلْ هُوَ
حَلَالٌ ؟ أَمْ حَرَامٌ ؟ أَمْ مَكْرُوهٌ كَرَاهِيَةَ تَنْزِيهٍ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ
الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ إذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ كَالْمُسَافِرِ أَوْ الْأَكْلُ
وَالشُّرْبُ فِي الطَّرِيقِ مَاشِيًا ؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا مَعَ الْعُذْرِ فَلَا بَأْسَ : فَقَدْ ثَبَتَ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ
وَهُوَ قَائِمٌ } فَإِنَّ الْمَوْضِعَ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ قُعُودٍ وَأَمَّا مَعَ
عَدَمِ الْحَاجَةِ فَيُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ . وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ
بَيْنَ النُّصُوصِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ : " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكَلَ بِطِّيخًا أَصْفَرَ عُمْرَهُ "
وَقَالَ الْآخَرُ : " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَكَلَ الْعِنَبَ دَوٍ دو " ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَوْلُهُ : " أَكَلَ الْعِنَبَ
: دو دو " كَذِبٌ ؛ لَا أَصْلَ لَهُ وَأَمَّا الْبِطِّيخُ فَقَدْ كَانُوا
يَأْكُلُونَ الْبِطِّيخَ ؛ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَهُمْ كَانَ الْبِطِّيخُ
الْأَخْضَرُ وَمَا يُنْقَلُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد : أَنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ أَكْلِ الْبِطِّيخِ ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِكَيْفِيَّةِ أَكْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذِبٌ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَد . كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ فَاكِهَةَ بَلَدِهِ مَا قُدِّمَتْ لَهُ فَاكِهَةٌ . فَتَرَكَ أَكْلَهَا لَا عَلَى سَبِيلِ الزُّهْدِ الْفَاسِدِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ الْفَاسِدِ ؛ بَلْ كَانَ لَا يَرُدُّ مَوْجُودًا ؛ وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا وَيَتَّبِعُ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } . فَأَمَرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّكْرِ . فَمَنْ حَرَّمَ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِ وَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهَا بِدُونِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ : فَهُوَ مَذْمُومٌ مُبْتَدِعٌ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } وَمَنْ أَكَلَهَا بِدُونِ الشُّكْرِ الْوَاجِبِ فِيهَا فَهُوَ مَذْمُومٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } أَيْ شُكْرِ النَّعِيمِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ . { الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ } وَفِي الصَّحِيح عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ بِأَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا } وَكَذَلِكَ " الْإِسْرَافُ فِي الْأَكْلِ " مَذْمُومٌ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ . وَمَنْ أَكَلَ بِنِيَّةِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى عِبَادَةٍ كَانَ مَأْجُورًا عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . { نَفَقَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةً } وَقَالَ لِسَعْدِ : { إنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِك } .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { إنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى قِشْرِ الْبِطِّيخِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ . لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عِيسَى رُوحُ اللَّهِ . لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } . وَأَيْضًا " مَنْ
أَكَلَهُ بِقِشْرِهِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ نَهْشَةٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَحُطَّ عَنْهُ
عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَإِنْ أَكَلَهُ بِبِزْرِهِ فَبِكُلِّ أَلْفٍ دَرَجَةٌ فِي
الْجَنَّةِ " ؟ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي
هُرَيْرَةَ : " أَلَك قَمِيصَانِ ؟ بِعْ الْوَاحِدَ وَكُلْ بِهِ بِطِّيخًا
أَصْفَرَ " وَهَلْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
أَكْلُ الْبِطِّيخِ بِالرُّطَبِ "
وَمَا مَعْنَى الْبِطِّيخِ بِالرُّطَبِ إنْ صَحَّ
الْحَدِيثُ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْأَحَادِيثُ
الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْبِطِّيخِ كُلُّهَا مُخْتَلَقَةٌ لَمْ يَرْغَبْ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَكْلِ الْبِطِّيخِ . وَجَمِيعُ مَا
يُرْوَى مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَهُوَ كَذِبٌ . وَأَمَّا أَكْلُ " الْبِطِّيخِ
بِالرُّطَبِ " فَهُوَ كَأَكْلِ الْقِثَّاءِ بِالرُّطَبِ وَالْحَدِيثُ
بِذَلِكَ أَصَحُّ . وَالْمُرَادُ بِهِ حَلَاوَةُ هَذَا وَرُطُوبَةُ هَذَا .
وَكَانَ أَحَبَّ الشَّرَابِ إلَيْهِ الْحُلْوُ الْبَارِدُ . فَهَذَا بَيَانُ
أَكْلِ الْبِطِّيخِ الْأَخْضَرِ بِالرُّطَبِ أَوْ التَّمْرِ . فَأَمَّا أَكْلُهُ
بِالرُّطَبِ الْأَصْفَرِ فَلَا أَصْلَ لَهُ ؛ لَا مِنْ نَصٍّ ؛ وَلَا قِيَاسٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ حَضَرَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ لِيُطْعِمَهُمْ
شَيْئًا فَلَمَّا أَحْضَرَ الْمَائِدَةَ وَالْخُبْزَ عَلَيْهَا وَغَابَ لِيَأْتِيَ
بِالْأُدُمِ فَقَالَ رَجُلٌ : " إذَا حَضَرَ الْخُبْزُ قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تَنْتَظِرُوا شَيْئًا "
فَأَكَلُوا الْخُبْزَ ؛ وَحَضَرَ الْإِدَامُ بَقِيَ بِلَا خُبْزٍ فَقَالُوا لَهُ
كَذَبْت عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَغَرَّمْت
الرَّجُلَ الْخُبْزَ : فَهَلْ هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
.
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَمْ يَجِئْ فِي هَذَا شَيْءٌ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ هَذَا يَقُولُهُ بَعْضُ
النَّاسِ ؛ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالْقَنَاعَةِ وَأَنَّهُ يُكْتَفَى بِالْخُبْزِ
إذَا حَضَرَ وَلَا يُنْتَظَرُ غَيْرُهُ وَلَا يُطْلَبُ مِنْ الْمُضِيفِ غَيْرُهُ ؛
فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَتِهِ . فَأَمَّا إنْ كَانُوا مُنْتَظِرِينَ أُدْمًا
يَحْضُرُ وَإِذَا أَكَلُوا الْخُبْزَ بَقِيَ الْأُدُمُ وَحْدَهُ :
فَانْتِظَارُهُمْ حَتَّى يَأْكُلُوا الْأُدْمَ مَعَ الْخُبْزِ هُوَ الَّذِي
يَصْلُحُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ إذَا كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ حَلَالًا
وَفِيهِ شُبْهَةٌ قَلِيلَةٌ . فَإِذَا أَضَافَ الرَّجُلَ أَوْ دَعَاهُ هَلْ يُجِيبُهُ أَمْ
لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ فِي التَّرْكِ
مَفْسَدَةٌ - مِنْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ فَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
- فَإِنَّهُ يُجِيبُهُ لِأَنَّ الصِّلَةَ وَصَلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ وَاجِبٌ
فَإِذَا لَمْ يَتِمَّ إلَّا بِذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا وَلَيْسَتْ الْإِجَابَةُ
مُحَرَّمَةٌ . أَوْ يُقَالُ : إنَّ مَصْلَحَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ رَاجِحَةٌ عَلَى
مَا يَخَافُ مِنْ الشُّبْهَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ ؛ بَلْ
التَّرْكُ مَصْلَحَةٌ تُوقِيهِ الشُّبْهَةَ . وَنَهَى الدَّاعِيَ عَنْ قَلِيلِ
الْإِثْمِ . وَكَانَ فِي الْإِجَابَةِ مَصْلَحَةُ الْإِجَابَةِ فَقَطْ وَفِيهَا
مَفْسَدَةُ الشُّبْهَةِ . فَأَيُّهُمَا أَرْجَحُ ؟ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ فِيمَا
أَظُنُّهُ . وَفُرُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَثِيرَةٌ قَدْ نَقَلَ أَصْحَابُنَا
وَغَيْرُهُمْ فِيهَا مَسَائِلَ قَدْ يُرَجِّحُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ جَانِبَ
التَّرْكِ وَالْوَرَعِ . وَيُرَجِّحُ بَعْضُهُمْ جَانِبَ الطَّاعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ مَعَهُ مَالٌ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ :
فَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَيْشِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إنْ عَرَفَ الْحَرَامَ بِعَيْنِهِ لَمْ يَأْكُلْ حَتْمًا
وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ عَيْنَهُ لَمْ يَحْرُمْ الْأَكْلُ مِنْهُ ؛ لَكِنْ إذَا
كَثُرَ الْحَرَامُ كَانَ مَتْرُوكًا وَرَعًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ اللَّعِب بِالشِّطْرَنْجِ : أَحَرَامٌ هُوَ ؟ أَمْ
مَكْرُوهٌ ؟ أَمْ مُبَاحٌ ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ : حَرَامٌ ؛ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى
تَحْرِيمِهِ ؟ وَإِنْ قُلْتُمْ : مَكْرُوهٌ ؛ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَتِهِ
؟ أَوْ مُبَاحٌ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَتِهِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، اللَّعِبُ
بِهَا : مِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ مُتَّفَقٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ : وَمِنْهُ مَا
هُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ وَمَكْرُوهٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ ؛ وَلَيْسَ
مِنْ اللَّعِبِ بِهَا مَا هُوَ مُبَاحٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ عِنْدَ أَحَدٍ
مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنْ اشْتَمَلَ اللَّعِبُ بِهَا عَلَى
الْعِوَضِ كَانَ حَرَامًا بِالِاتِّفَاقِ ؛ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ إمَامُ الْمَغْرِبِ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّعِبَ بِهَا
عَلَى الْعِوَضِ قِمَارٌ لَا يَجُوزُ . وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَمَلَ اللَّعِبُ بِهَا
عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ : مِثْلَ أَنْ يَتَضَمَّنَ تَأْخِيرَ
الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا ؛ أَوْ تَرْكَ مَا يَجِبُ فِيهَا مِنْ أَعْمَالِهَا
الْوَاجِبَةِ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا ؛ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ حَرَامًا
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ : يَرْقُبُ
الشَّمْسَ حَتَّى إذَا صَارَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ
أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } فَجَعَلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ .
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ صَلَاتَهُمْ بِقَوْلِهِ :
{ إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ " السَّهْوَ عَنْهَا " بِتَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا وَبِتَرْكِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ فِيهَا كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ صَلَاةَ الْمُنَافِقِ تَشْتَمِلُ عَلَى التَّأْخِيرِ وَالتَّطْفِيفِ : قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ : إنَّ الصَّلَاةَ مِكْيَالٌ ؛ فَمَنْ وَفَّى وُفِّيَ لَهُ وَمَنْ طَفَّفَ فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا قَالَ اللَّهُ فِي " الْمُطَفِّفِينَ " . وَكَذَلِكَ فَسَّرُوا قَوْلَهُ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } قَالَ : إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا وَإِضَاعَتُهَا حُقُوقَهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { إنَّ الْعَبْدَ إذَا أَكْمَلَ الصَّلَاةَ بِطَهُورِهَا وَقِرَاءَتِهَا وَخُشُوعِهَا صَعِدَتْ وَلَهَا بُرْهَانٌ كَبُرْهَانِ الشَّمْسِ وَتَقُولُ حَفِظَك اللَّهُ كَمَا حَفِظْتنِي وَإِذَا لَمْ يُكْمِلْ طَهُورَهَا وَقِرَاءَتَهَا وَخُشُوعَهَا فَإِنَّهَا تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ ؛ وَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا وَتَقُولُ ضَيَّعَك اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتنِي } . وَالْعَبْدُ وَإِنْ أَقَامَ صُورَةَ الصَّلَاةِ الظَّاهِرَةَ فَلَا ثَوَابَ إلَّا عَلَى قَدْرِ مَا حَضَرَ قَلْبُهُ فِيهِ مِنْهَا كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا إلَّا ثُلُثُهَا إلَّا رُبُعُهَا ؛ إلَّا خُمُسُهَا ؛ إلَّا سُدُسُهَا ؛ إلَّا سُبُعُهَا ؛ إلَّا ثُمُنُهَا ؛ إلَّا تسعها إلَّا عُشُرُهَا } . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا . وَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهَا الْوَسْوَاسُ فَفِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْهَا وَوُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ
مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ : " أَحَدُهُمَا " لَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ " الشِّطْرَنْجَ " مَتَى شَغَلَ عَمَّا يَجِبُ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَشَغْلُهُ عَنْ إكْمَالِ الْوَاجِبَاتِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى بَسْطٍ . وَكَذَلِكَ لَوْ شَغَلَ عَنْ وَاجِبٍ مِنْ غَيْرِ الصَّلَاةِ : مِنْ مَصْلَحَةِ النَّفْسِ أَوْ الْأَهْلِ أَوْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ صِلَةِ الرَّحِمِ ؛ أَوْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَوْ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ مِنْ نَظَرٍ فِي وِلَايَةٍ أَوْ إمَامَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ . وَقَلَّ عَبْدٌ اشْتَغَلَ بِهَا إلَّا شَغَلَتْهُ عَنْ وَاجِبٍ . فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ التَّحْرِيمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مُحَرَّمٍ أَوْ اسْتَلْزَمَتْ مُحَرَّمًا فَإِنَّهَا تَحْرُمُ بِالِاتِّفَاقِ : مِثْلَ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْكَذِبِ ؛ وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ ؛ أَوْ الْخِيَانَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا المغاضاة أَوْ عَلَى الظُّلْمِ أَوْ الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ أَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ فَسَادًا غَيْرَ ذَلِكَ : مِثْلَ اجْتِمَاعٍ عَلَى مُقَدِّمَاتِ الْفَوَاحِشِ ؛ أَوْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْعُدْوَانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ أَوْ مِثْلَ أَنْ يُفْضِيَ اللَّعِبُ بِهَا إلَى الْكَثْرَةِ وَالظُّهُورِ الَّذِي يَشْتَمِلُ مَعَهُ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ : فَهَذِهِ الصُّورَةُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا يَتَّفِقُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِهَا فِيهَا . وَإِذَا قُدِّرَ خُلُوُّهَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ : فَالْمَنْقُولُ عَنْ الصَّحَابَةِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَصَحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ
فَقَالَ : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟ شَبَّهَهُمْ بِالْعَاكِفِينَ عَلَى الْأَصْنَامِ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ } وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ قَرِينَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْهَا مَعْرُوفٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد وَأَصْحَابِهِ " تَحْرِيمُهَا " . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ : أَكْرَهُ اللَّعِبَ بِهَا ؛ لِلْخَبَرِ ؛ وَاللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ بِغَيْرِ قِمَارٍ وَإِنْ كَرِهْنَاهُ أَخَفُّ حَالًا مِنْ النَّرْدِ وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْهُ غَيْرُ هَذَا اللَّفْظِ مِمَّا مَضْمُونُهُ : أَنَّهُ يَكْرَهُهَا وَيَرَاهَا دُونَ النَّرْدِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ كَرَاهَتَهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : لِلْخَبَرِ . وَلَفْظِ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ هُوَ عَنْ مَالِكٍ { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَإِذًا كَرِهَ الشِّطْرَنْجَ . . . (1) وَإِنْ كَانَتْ أَخَفَّ مِنْ النَّرْدِ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي التَّحْرِيمِ وَقَالَ : لَا يَتَبَيَّنُ لِي أَنَّهَا حَرَامٌ . وَمَا بَلَغَنَا أَنَّ أَحَدًا نَقَلَ عَنْهُ لَفْظًا يَقْتَضِي نَفْيَ التَّحْرِيمِ . وَالْأَئِمَّةُ الَّذِينَ لَمْ تَخْتَلِفْ أَصْحَابُهُمْ فِي تَحْرِيمِهَا أَكْثَرُ أَلْفَاظِهِمْ " الْكَرَاهَةُ " قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَلَا بِالشِّطْرَنْجِ ؛ وَقَالُوا : لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُدْمِنِ الْمُوَاظِبِ عَلَى لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ . وَقَالَ يَحْيَى : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : لَا خَيْرَ فِي الشِّطْرَنْجِ وَغَيْرِهَا وَسَمِعْته يُكَرِّهُ اللَّعِبَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْبَاطِلِ وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ
إلَّا الضَّلَالُ } وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَكْرَهُ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ . فَالْأَرْبَعَةُ تُحَرِّمُ كُلَّ اللَّهْوِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْجُمْهُورُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ : " إحْدَاهُمَا " هَلْ يُسَلَّمُ عَلَى اللَّاعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ ؟ فَمَنْصُوصُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَالْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ . وَمَذْهَبُ مَالِك وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ : أَنَّهُ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ . وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ الشِّطْرَنْجَ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ . وَمَذْهَبُ أَحْمَد أَنَّ النَّرْدَ شَرٌّ مِنْ الشِّطْرَنْجِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ . وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا إذَا اشْتَمَلَا عَلَى عِوَضٍ أَوْ خَلَوَا عَنْ عِوَضٍ فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ النَّرْدِ فِيهَا وَزِيَادَةً مِثْلَ صَدِّ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ؛ وَعَنْ الصَّلَاةِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : إنَّ الشِّطْرَنْجَ عَلَى مَذْهَبِ الْقَدَرِ ؛ وَالنَّرْدَ عَلَى مَذْهَبِ الْجَبْرِ . وَاشْتِغَالُ الْقَلْب بِالتَّفْكِيرِ فِي الشِّطْرَنْجِ أَكْثَرُ . وَأَمَّا إذَا اشْتَمَلَ النَّرْدُ عَلَى عِوَضٍ فَالنَّرْدُ شَرٌّ . وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا جَعَلُوا النَّرْدَ شَرًّا لِاسْتِشْعَارِهِمْ أَنَّ الْعِوَضَ يَكُونُ فِي النَّرْدِ دُونَ الشِّطْرَنْجِ . وَمِنْ هُنَا تَبِينُ الشُّبْهَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَيْسِرَ فِي كِتَابِهِ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُغَالَبَاتِ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْقِمَارِ مِنْ الْمَيْسِرِ ؛ سَوَاءٌ كَانَ بِالشِّطْرَنْجِ أَوْ بِالنَّرْدِ أَوْ بِالْجَوْزِ أَوْ بِالْكِعَابِ أَوْ الْبَيْضِ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ : كَعَطَاءِ وَطَاوُوسٍ وَمُجَاهِدٍ ؛ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي : كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْقِمَارِ فَهُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ ؛ حَتَّى لَعِبُ
الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ . فَاَلَّذِينَ لَمْ يُحَرِّمُوا الشِّطْرَنْجَ كَطَائِفَةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ لَفْظَ " الْمَيْسِرِ " لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا مَا كَانَ قِمَارًا ؛ فَيَحْرُمُ لِمَا فِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ كَمَا يَحْرُمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ لَوْ أَخْرَجَ كُلٌّ مِنْهُمَا السَّبْقَ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ : حَرَّمُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ قِمَارٌ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ آمِنٌ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ ؛ وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارِ } { وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ بُيُوعَ الْغَرَرِ } لِأَنَّهَا مِنْ نَوْعِ الْقِمَارِ : مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ الْآبِقَ وَالْبَعِيرَ الشَّارِدَ ؛ فَإِنْ وَجَدَهُ كَانَ قَدْ قَمَرَ الْبَائِعَ وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَمَرَهُ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذِهِ الْمُغَالَبَاتِ إنَّمَا حُرِّمَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ لَمْ يُحَرِّمُوهَا إذَا خَلَتْ عَنْ الْعِوَضِ . وَلِهَذَا طَرَدَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي " النَّرْدِ " فَلَمْ يُحَرِّمُوهَا إلَّا مَعَ الْعِوَضِ ؛ لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرَ مَذْهَبِهِ تَحْرِيمُ النَّرْدَ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عِوَضٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : أَكْرَهُهَا ؛ لِلْخَبَرِ . فَبَيَّنَ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ فِي ذَلِكَ الْخَبَرُ ؛ لَا الْقِيَاسُ عِنْدَهُ . وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إذَا حُرِّمَ النَّرْدُ وَلَا عِوَضَ فِيهَا فَالشِّطْرَنْجُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهَا فَلَيْسَ دُونَهَا . وَهَذَا يَعْرِفُهُ مَنْ خَبَرَ حَقِيقَةَ اللَّعِبِ بِهَا فَإِنَّ مَا فِي النَّرْدِ مِنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ ؛ وَمِنْ إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ : هُوَ فِي الشِّطْرَنْجِ أَكْثَرُ بِلَا رَيْبٍ وَهِيَ تَفْعَلُ فِي النُّفُوسِ فِعْلَ حُمَيَّا الْكُؤُوسِ . فَتَصُدُّ عُقُولَهُمْ
وَقُلُوبَهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بِهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْخُمُورِ وَالْحَشِيشَةِ . وَقَلِيلُهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا فَتَحْرِيمُ النَّرْدِ الْخَالِيَةِ عَنْ عِوَضٍ مَعَ إبَاحَةِ الشِّطْرَنْجِ مِثْلُ تَحْرِيمِ الْقَطْرَةِ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ وَإِبَاحَةِ الْغُرْفَةِ مِنْ نَبِيذِ الْحِنْطَةِ . وَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ وَالْعَدْلِ فَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الشِّطْرَنْجِ . " وَتَحْرِيمُ النَّرْدِ " ثَابِتٌ بِالنَّصِّ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَرِوَايَتُهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ بَلَغَهَا أَنَّ أَهْلَ بَيْتٍ فِي دَارِهَا كَانُوا سُكَّانًا لَهَا عِنْدَهُمْ نَرْدٌ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِمْ : إنْ لَمْ تُخْرِجُوهَا لَأُخْرِجَنكُمْ مِنْ دَارِي وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ . وَمَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ إذَا وَجَدَ مِنْ أَهْلِهِ مَنْ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ ضَرَبَهُ وَكَسَّرَهَا . وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ ؛ فَقَالَ : { عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَنْ ضَرَبَ بِكِعَابِهَا يَلْعَبُ بِهَا } فَعَلَّقَ الْمَعْصِيَةَ بِمُجَرَّدِ اللَّعِبِ بِهَا وَلَمْ يَشْتَرِطْ عِوَضًا ؛ بَلْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الضَّرْبُ بِكِعَابِهَا . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بريدة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ لَعِبَ بالنردشير فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ } وَفِي لَفْظٍ آخَرَ : { فَلْيُشَقِّصْ الْخَنَازِيرَ } فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ اللَّاعِبَ بِهَا كَالْغَامِسِ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ وَكَاَلَّذِي يُشَقِّصُ الْخَنَازِيرَ : يَقْصِبُهَا وَيَقْطَعُ لَحْمَهَا كَمَا يَصْنَعُ الْقَصَّابُ . وَهَذَا التَّشْبِيهُ مُتَنَاوِلٌ اللَّعِبَ بِهَا بِالْيَدِ سَوَاءٌ وُجِدَ أَكْلٌ أَوْ لَمْ يُوجَدْ كَمَا أَنَّ غَمْسَ الْيَدِ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ وَتَشْقِيصَ لَحْمِهِ مُتَنَاوِلٌ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ أَكْلٌ بِالْفَمِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ يُنْهَى عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ فَكَذَلِكَ النَّرْدُ يُنْهَى عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ . وَهَذَا يَتَقَرَّرُ بِوُجُوهِ يَتَبَيَّنُ بِهَا تَحْرِيمُ " النَّرْدِ " " وَالشِّطْرَنْجِ " وَنَحْوِهِمَا . " أَحَدُهَا " أَنْ يُقَالَ : النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِصُورَةِ الْمُقَامَرَةِ فَقَطْ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ بَذَلَ الْعِوَضَ أَحَدُ الْمُتَلَاعِبَيْنِ أَوْ أَجْنَبِيٌّ لَكَانَ مِنْ صُوَرِ الْجِعَالَةِ ؛ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ ؛ إلَّا فِيمَا يَنْفَعُ : كَالْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { لَا سَبْقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ } لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِمَارًا . وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ حَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَهَذِهِ الْمَلَاعِبُ مِنْ الْبَاطِلِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ أَوْ تَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ أَوْ مُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ } . قَوْلُهُ " مِنْ الْبَاطِلِ " أَيْ مِمَّا لَا يَنْفَعُ فَإِنَّ الْبَاطِلَ ضِدُّ الْحَقِّ . وَالْحَقُّ يُرَادُ بِهِ الْحَقُّ الْمَوْجُودُ اعْتِقَادُهُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ . وَيُرَادُ بِهِ الْحَقُّ الْمَقْصُودُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقْصَدَ وَهُوَ الْأَمْرُ النَّافِعُ فَمَا لَيْسَ مِنْ هَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لَيْسَ بِنَافِعِ .
وَقَدْ يُرَخِّصُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَضَرَّةٌ رَاجِحَةٌ ؛ لَكِنْ لَا يُؤْكَلُ بِهِ الْمَالُ وَلِهَذَا جَازَ السِّبَاقُ بِالْأَقْدَامِ وَالْمُصَارَعَةُ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِهِ . وَكَذَلِكَ رُخِّصَ فِي الضَّرْبِ بِالدُّفِّ فِي الْأَفْرَاحِ وَإِنْ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالْمُقَامَرَةِ فَلَا يَجُوزُ قَصْرُ النَّهْيِ عَلَى ذَلِكَ . وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ النَّرْدِ وَنَحْوِهِ لِمُجَرَّدِ الْمُقَامَرَةِ لَكَانَ النَّرْدُ مِثْلَ سِبَاقِ الْخَيْلِ وَمِثْلَ الرَّمْيِ بِالنِّشَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْمُقَامَرَةَ إذَا دَخَلَتْ فِي هَذَا حَرَّمُوهُ مَعَ أَنَّهُ عَمَلٌ صَالِحٌ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ارْمُوا وَارْكَبُوا وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا } { وَمَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَيْسَ مِنَّا } { وَكَانَ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ يُسَابِقُونَ بَيْنَ الْخَيْلِ } { وَقَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ : أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ } فَكَيْفَ يُشَبَّهُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ بِمَا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ الْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ إلَّا مُجَرَّدَ الْمُقَامَرَةِ كَانَ النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ كَالْمُنَاضَلَةِ . " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ فِي الْأَصْلِ هِيَ الْمُقَامَرَةُ لَكِنَّ الشَّارِعَ قَرَنَ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِي التَّحْرِيمِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } ؟ فَوَصَفَ الْأَرْبَعَةَ بِأَنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ؛ وَأَمَرَ بِاجْتِنَابِهَا ثُمَّ خَصَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ بِأَنَّهُ يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ . وَيُهَدِّدُ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } كَمَا عَلَّقَ الْفَلَاحَ بِالِاجْتِنَابِ فِي قَوْلِهِ : { فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وَلِهَذَا يُقَالُ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ " الْخَمْرَ " لَمَّا أُمِرَ بِاجْتِنَابِهَا حَرُمَ مُقَارَبَتُهَا بِوَجْهِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهَا وَلَا شُرْبُ قَلِيلِهَا بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا وَشَقِّ ظُرُوفِهَا وَكَسْرِ دِنَانِهَا وَنَهَى عَنْ تَخْلِيلِهَا وَإِنْ كَانَتْ لِيَتَامَى . مَعَ أَنَّهَا اُشْتُرِيَتْ لَهُمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ الَّذِي هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَمْرِ شَيْءٌ مُحْتَرَمٌ ؛ لَا خَمْرَةَ الْخِلَالِ وَلَا غَيْرَهَا وَأَنَّهُ مَنْ اتَّخَذَ خَلًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْسِدَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَخَمَّرَ : بِأَنْ يَصُبَّ فِي الْعَصِيرِ خَلًّا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ تَخْمِيرَهُ ؛ بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ } لِئَلَّا يَقْوَى أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَيُفْضِي إلَى أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ الْمُسْكِرَ مَنْ لَا يَدْرِي . وَنَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الَّتِي يَدِبُّ السُّكَّرُ فِيهَا وَلَا يَدْرِي مَا بِهِ كَالدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالظَّرْفِ الْمُزَفَّتِ وَالْمَنْقُورِ مِنْ الْخَشَبِ . وَأَمَرَ بِالِانْتِبَاذِ فِي السِّقَاءِ الْمُوكَى لِأَنَّ السُّكَّرَ يُنْظَرُ : إذَا كَانَ فِي الشَّرَابِ انْشَقَّ الظَّرْفُ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي نَسْخِ ذَلِكَ أَوْ بَعْضِهِ نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ . فَالْمَقْصُودُ سَدُّ الذَّرَائِعِ الْمُفْضِيَةِ إلَى ذَلِكَ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ .
وَكَذَلِكَ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ ثَلَاثًا وَبَعْدَ الثَّلَاثِ يَسْقِيهِ أَوْ يُرِيقُهُ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مَظِنَّةُ سُكْرِهِ ؛ بَلْ كَانَ أَمَرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ . فَهَذَا كُلُّهُ . . . (1) سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ لَمَّا كَانَتْ تَشْتَهِي ذَلِكَ وَفِي اقْتِنَائِهَا - وَلَوْ لِلتَّخْلِيلِ - مَا قَدْ يُفْضِي إلَى شُرْبِهَا كَمَا أَنَّ شُرْبَ قَلِيلِهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ . فَهَذَا " الْمَيْسِرُ " الْمَقْرُون " بِالْخَمْرِ " إذَا قُدِّرَ أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ وَتَرْكِ الْمَنْفَعَةِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الْمَلَاعِبَ تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ وَإِذَا قَوِيَتْ الرَّغْبَةُ فِيهَا أُدْخِلَ فِيهَا الْعِوَضُ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَكَانَ مِنْ حُكْمِ الشَّارِعِ أَنْ يَنْهَى عَمَّا يَدْعُو إلَى ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُغَالِبَاتُ الَّتِي قَدْ تَنْفَعُ : مِثْلَ الْمُسَابَقَةِ وَالْمُصَارَعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ تِلْكَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ رَاجِحَةٌ لِتَقْوِيَةِ الْأَبْدَانِ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ النُّفُوسِ بِالِاكْتِسَابِ بِهَا . وَهَذَا الْمَعْنَى نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { مَنْ لَعِبَ بالنردشير فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ } فَإِنَّ الْغَامِسَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى أَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَذَلِكَ مُقَدِّمَةُ أَكْلِهِ وَسَبَبُهُ وَدَاعِيَتُهُ فَإِذَا حُرِّمَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ اللَّعِبُ الَّذِي هُوَ مُقَدِّمَةُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَسَبَبُهُ وَدَاعِيَتُهُ .
وَبِهَذَا
يَتَبَيَّنُ مَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَنَّ الْمُغَالِبَاتِ ثَلَاثَةُ
أَنْوَاعٍ . فَمَا كَانَ مُعِينًا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ : {
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ }
جَازَ بِجُعْلِ وَبِغَيْرِ جُعْلٍ . وَمَا كَانَ مُفْضِيًا إلَى مَا نَهَى اللَّهُ
عَنْهُ : كَالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ : فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ بِجُعْلٍ وَبِغَيْرِ
جُعْلٍ . وَمَا قَدْ يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ بِلَا مَضَرَّةٍ رَاجِحَةٍ :
كَالْمُسَابَقَةِ وَالْمُصَارَعَةِ : جَازَ بِلَا جُعْلٍ .
" الْوَجْهُ الثَّالِثُ " أَنْ يُقَالَ :
قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْمَيْسِرَ إنَّمَا حُرِّمَ لِمُجَرَّدِ الْمُقَامَرَةِ
دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ يَدُلُّ
عَلَى فَسَادِهَا . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { إنَّمَا يُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ } . فَنَبَّهَ
عَلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَهِيَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ
وَزَوَالِ الْمَصْلَحَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ فَإِنَّ وُقُوعَ
الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ . وَصُدُودَ الْقَلْبِ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ اللَّذَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا وَاجِبٌ
وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا
يَحْصُلُ فِي اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ فِيهِ عِوَضٌ وَهُوَ فِي الشِّطْرَنْجِ أَقْوَى ؛ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ
يَسْتَغْرِقُ قَلْبَهُ وَعَقْلَهُ وَفِكْرَهُ فِيمَا فَعَلَ خَصْمُهُ وَفِيمَا
يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ هُوَ وَفِي لَوَازِمِ ذَلِكَ وَلَوَازِمِ لَوَازِمِهِ
حَتَّى لَا يُحِسَّ بِجُوعِهِ وَلَا عَطَشِهِ وَلَا بِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ
وَلَا بِحَالِ أَهْلِهِ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ
فَضْلًا أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ أَوْ الصَّلَاةَ .
وَهَذَا كَمَا يَحْصُلُ لِشَارِبِ الْخَمْرِ ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّابِ يَكُونُ عَقْلُهُ أصحى مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ . وَاللَّاعِبُ بِهَا لَا تَنْقَضِي نَهْمَتُهُ مِنْهَا إلَّا بدست بَعْدَ دست ؛ كَمَا لَا تَنْقَضِي نَهْمَةُ شَارِبِ الْخَمْرِ إلَّا بِقَدَحِ بِقَدَحِ وَتَبْقَى آثَارُهَا فِي النَّفْسِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا أَكْثَرَ مِنْ آثَارِ شَارِبِ الْخَمْرِ حَتَّى تَعْرِضَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَالْمَرَضِ وَعِنْدَ رُكُوبِ الدَّابَّةِ ؛ بَلْ وَعِنْدَ الْمَوْتِ ؛ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا ذِكْرُهُ لِرَبِّهِ وَتَوَجُّهُهُ إلَيْهِ . تَعْرِضُ لَهُ تَمَاثِيلُهَا وَذِكْرُ الشَّاهِ وَالرُّخِّ وَالْفِرْزَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَصَدُّهَا لِلْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ صَدِّ الْخَمْرِ وَهِيَ إلَى الشُّرْبِ أَقْرَبُ كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلَاعِبِيهَا : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ وَقَلَبَ الرُّقْعَةِ وَكَذَلِكَ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ بِسَبَبِ غَلَبَةِ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ لِلْآخَرِ وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّظَالُمِ وَالتَّكَاذُبِ وَالْخِيَانَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَمَا يَكَادُ لَاعِبُهَا يَسْلَمُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . وَالْفِعْلُ إذَا اشْتَمَلَ كَثِيرًا عَلَى ذَلِكَ وَكَانَتْ الطِّبَاعُ تَقْتَضِيهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ حَرَّمَهُ الشَّارِعُ قَطْعًا فَكَيْفَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى ذَلِكَ غَالِبًا وَهَذَا أَصْلٌ مُسْتَمِرٌّ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي " قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ " وَغَيْرِهَا وَبَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ أَفْضَى إلَى الْمُحَرَّمِ كَثِيرًا : كَانَ سَبَبًا لِلشَّرِّ وَالْفَسَادِ ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَكَانَتْ مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةً : نُهِيَ عَنْهُ ؛ بَلْ كُلُّ سَبَبٍ يُفْضِي إلَى الْفَسَادِ نُهِيَ عَنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ
فَكَيْفَ بِمَا كَثُرَ إفْضَاؤُهُ إلَى الْفَسَادِ ؛ وَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ . وَأَمَّا النَّظَرُ فَلَمَّا كَانَتْ الْحَاجَةُ تَدْعُو إلَى بَعْضِهِ رُخِّصَ مِنْهُ فِيهَا مَا تَدْعُو لَهُ الْحَاجَةُ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ كَمَا أَنَّ الْفَسَادَ وَالضَّرَرَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فَإِذَا اجْتَمَعَا رَجَحَ أَعْلَاهُمَا كَمَا رَجَحَ عِنْدَ الضَّرَرِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ الْمَوْتِ شَرٌّ مِنْ مَفْسَدَةِ الِاغْتِذَاءِ بِالْخَبِيثِ . " وَالنَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ " وَنَحْوُهُمَا مِنْ الْمُغَالِبَاتِ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا لَا يُحْصَى وَلَيْسَ فِيهَا مَصْلَحَةٌ مُعْتَبَرَةٌ ؛ فَضْلًا عَنْ مَصْلَحَةٍ مُقَاوِمَةٍ . غَايَتُهُ أَنْ يُلْهِيَ النَّفْسَ وَيُرِيحَهَا كَمَا يَقْصِدُ شَارِبُ الْخَمْرِ ذَلِكَ . وَفِي رَاحَةِ النَّفْسِ بِالْمُبَاحِ الَّذِي لَا يَصُدُّ عَنْ الْمَصَالِحِ وَلَا يَجْتَلِبُ الْمَفَاسِدَ غنية وَالْمُؤْمِنُ قَدْ أَغْنَاهُ اللَّهُ بِحَلَالِهِ عَنْ حَرَامِهِ وَبِفَضْلِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } . وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَه وَغَيْرِهِ { عَنْ أَبِي ذَرٍّ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَمِلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ لَوَسِعَتْهُمْ } وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُتَّقِيَ يَدْفَعُ عَنْهُ الْمَضَرَّةَ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ وَيَجْلِبَ لَهُ الْمَنْفَعَةَ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ " وَكُلُّ مَا يَتَغَذَّى بِهِ الْحَيُّ مِمَّا تَسْتَرِيحُ بِهِ النُّفُوسُ وَتَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي طِيبِهَا وَانْشِرَاحِهَا فَهُوَ مِنْ الرِّزْقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ ذَلِكَ لِمَنْ اتَّقَاهُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ . وَمَنْ طَلَبَ ذَلِكَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمَيْسِرِ : فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَلَبَ ذَلِكَ بِالْخَمْرِ وَصَاحِبُ الْخَمْرِ يَطْلُبُ الرَّاحَةَ وَلَا يَزِيدُهُ إلَّا تَعَبًا وَغَمًّا ؛ وَإِنْ كَانَتْ تُفِيدُهُ
مِقْدَارًا مِنْ السُّرُورِ : فَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ الْمَضَارِّ وَيَفُوتُهُ مِنْ المسار أَضْعَافُ ذَلِكَ كَمَا جَرَّبَ ذَلِكَ مَنْ جَرَّبَهُ وَهَكَذَا سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ " الْمَيْسِرَ " لَمْ يُحَرَّمْ لِمُجَرَّدِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ - وَإِنْ كَانَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمًا وَلَوْ تَجَرَّدَ عَنْ الْمَيْسِرِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِي الْمَيْسِرِ - بَلْ فِي الْمَيْسِرِ عِلَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ كَمَا فِي الْخَمْرِ : أَنَّ اللَّهَ قَرَنَ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا هِيَ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْرَ لَمْ تُحَرَّمْ لِمُجَرَّدِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَإِنْ كَانَ أَكْلُ ثَمَنِهَا مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ : فَكَذَلِكَ الْمَيْسِرُ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ أَوَّلَ مَا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ : أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } و " الْمَنَافِعُ " الَّتِي كَانَتْ قِيلَ هِيَ الْمَالُ . وَقِيلَ : هِيَ اللَّذَّةُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْرَ كَانَ فِيهَا كِلَا هَذَيْنِ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِثَمَنِهَا وَالتِّجَارَةِ فِيهَا كَمَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِاللَّذَّةِ الَّتِي فِي شُرْبِهَا ؛ ثُمَّ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ { لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا } . وَكَذَلِكَ " الْمَيْسِرُ " كَانَتْ النُّفُوسُ تَنْتَفِعُ بِمَا تُحَصِّلُهُ بِهِ مِنْ الْمَالِ وَمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ لَذَّةِ اللَّعِبِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } لِأَنَّ الْخَسَارَةَ فِي
الْمُقَامَرَةِ أَكْثَرُ وَالْأَلَمَ وَالْمَضَرَّةَ فِي الْمُلَاعَبَةِ أَكْثَرُ . وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ لِأَكْثَرِ النَّاسِ بِالْمَيْسِرِ إنَّمَا هُوَ الِانْشِرَاحُ بِالْمُلَاعَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ لِأَكْثَرِ النَّاسِ بِالْخَمْرِ إنَّمَا هُوَ مَا فِيهَا مِنْ لَذَّةِ الشُّرْبِ وَإِنَّمَا حَرَّمَ الْعِوَضَ فِيهَا لِأَنَّهُ أَخْذُ مَالٍ بِلَا مَنْفَعَةٍ فِيهِ فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ كَمَا حَرَّمَ ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ . فَكَيْفَ تُجْعَلُ الْمَفْسَدَةُ الْمَالِيَّةُ هِيَ حِكْمَةَ النَّهْيِ فَقَطْ وَهِيَ تَابِعَةٌ وَتُتْرَكُ الْمَفْسَدَةُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ فَسَادُ الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ وَالْمَالُ مَادَّةُ الْبَدَنِ وَالْبَدَنُ تَابِعُ الْقَلْبِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ بِهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ بِهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } . وَالْقَلْبُ هُوَ مَحَلُّ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِيقَةُ الصَّلَاةِ . فَأَعْظَمُ الْفَسَادِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إفْسَادُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ الْبَدَنِ : أَنْ يُصَدَّ عَمَّا خُلِقَ لَهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَيَدْخُلَ فِيمَا يُفْسِدُ مِنْ التَّعَادِي وَالتَّبَاغُضِ . وَالصَّلَاةُ حَقُّ الْحَقِّ . وَالتَّحَابُّ وَالْمُوَالَاةُ حَقُّ الْخَلْقِ . وَأَيْنَ هَذَا مِنْ أَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَصْلَحَةَ الْبَدَنِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْمَالِ وَمَصْلَحَةَ الْقَلْبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبَدَنِ ؛ وَإِنَّمَا حُرْمَةُ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَادَّةُ الْبَدَنِ ؛ وَلِهَذَا قَدَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ رُبْعَ الْعِبَادَاتِ عَلَى رُبْعِ الْمُعَامَلَاتِ وَبِهِمَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ . ثُمَّ ذَكَرُوا رُبْعَ الْمُنَاكَحَاتِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةُ الشَّخْصِ . وَهَذَا مَصْلَحَةُ النَّوْعِ الَّذِي يَبْقَى بِالنِّكَاحِ . ثُمَّ لَمَّا ذَكَرُوا الْمَصَالِحَ ذَكَرُوا مَا يَدْفَعُ الْمَفَاسِدَ فِي رُبْعِ الْجِنَايَاتِ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } و " عِبَادَةُ اللَّهِ تَتَضَمَّنُ مَعْرِفَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَالْخُضُوعَ لَهُ ؛ بَلْ تَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ . وَأَصْلُ ذَلِكَ وَأَجَلُّهُ مَا فِي الْقُلُوبِ : الْإِيمَانُ وَالْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ لِلَّهِ وَالْخَشْيَةُ لَهُ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالرِّضَى بِحُكْمِهِ مِمَّا تَضْمَنُهُ الصَّلَاةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّمَا الصَّلَاةُ وَذِكْرُ اللَّهِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وقَوْله تَعَالَى { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ } كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } فَجَعَلَ السَّعْيَ إلَى الصَّلَاةِ سَعْيًا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ . وَلَمَّا كَانَتْ الصَّلَاةُ مُتَضَمِّنَةً لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ الشَّرِّ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ لِغَيْرِهِ : قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } أَيْ ذِكْرُ اللَّهِ الَّذِي فِي الصَّلَاةِ أَكْبَرُ مِنْ كَوْنِهَا تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ؛ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ . وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ هُوَ مَقْصُودَ الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : مَا دُمْت تَذْكُرُ اللَّهَ فَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ وَلَوْ كُنْت فِي السُّوقِ . وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ
يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ قَالُوا : إنَّ مَجَالِسَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ ذِكْرُ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنْ يُعْرَفَ " مَرَاتِبُ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ " وَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا لَا يُبْغِضُهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ : كَانَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي يُبْغِضُهَا وَيَسْخَطُهَا ؛ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ كَانَ لِتَضَمُّنِهِ مَا يُبْغِضُهُ وَيُسْخِطُهُ وَمَنْعِهِ مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقْصُرُ نَظَرَهُ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ مَصَالِحِ الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ وَمَفَاسِدِهَا وَمَا يَنْفَعُهَا مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَمَا يَضُرُّهَا مِنْ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } فَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَرَى مِنْ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ إلَّا مَا عَادَ لِمَصْلَحَةِ الْمَالِ وَالْبَدَنِ . وَغَايَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ إذَا تَعَدَّى ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى " سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ " بِمَبْلَغِهِمْ مِنْ الْعِلْمِ كَمَا يَذْكُرُ مِثْلَ ذَلِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْقَرَامِطَةُ مِثْلُ أَصْحَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَأَمْثَالِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ بِمَبْلَغِهِمْ مِنْ عِلْمِ الْفَلْسَفَةِ وَمَا ضَمُّوا إلَيْهِ مِمَّا ظَنُّوهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَهُمْ فِي غَايَةِ مَا يَنْتَهُونَ إلَيْهِ دُونَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِكَثِيرِ كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَقَوْمٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " وَتَعْلِيلُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ إذَا تَكَلَّمُوا فِي الْمُنَاسَبَةِ وَأَنَّ تَرْتِيبَ الشَّارِعِ لِلْأَحْكَامِ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ يَتَضَمَّنُ تَحْصِيلَ مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَفْعَ مَضَارِّهِمْ وَرَأَوْا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ " نَوْعَانِ " أُخْرَوِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ : جَعَلُوا الْأُخْرَوِيَّةَ مَا فِي سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ مِنْ الْحِكَمِ ؛ وَجَعَلُوا الدُّنْيَوِيَّةَ مَا تَضْمَنُ حِفْظَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ وَالْعُقُولِ وَالدِّينِ الظَّاهِرِ وَأَعْرَضُوا عَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَأَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِهَا : كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرَّجَا لِرَحْمَتِهِ وَدُعَائِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَكَذَلِكَ فِيمَا شَرَعَهُ الشَّارِعُ مِنْ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ . وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ ؛ وَحُقُوقِ الْمَمَالِيكِ وَالْجِيرَانِ وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ حِفْظًا لِلْأَحْوَالِ السُّنِّيَّةِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ . وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْمَصَالِحِ . فَهَكَذَا مَنْ جَعَلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ لِمُجَرَّدِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ؛ وَالنَّفْعَ الَّذِي كَانَ فِيهِمَا بِمُجَرَّدِ أَخْذِ الْمَالِ . يُشْبِهُ هَذَا . . . (1) أَنَّ هَذِهِ الْمُغَالِبَاتِ تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا عَمَلًا ؛ لَا مِنْ جِهَةِ أَخْذِ الْمَالِ ؛ فَإِنَّهَا لَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ إلَّا كَمَا يَصُدُّ سَائِرُ أَنْوَاعِ أَخْذِ الْمَالِ ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي يُكْتَسَبُ بِهَا الْمَالُ لَا يُنْهَى عَنْهَا مُطْلَقًا ؛ لِكَوْنِهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ
الصَّلَاةِ ؛ بَلْ يُنْهَى مِنْهَا عَمَّا يَصُدُّ عَنْ الْوَاجِبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } فَمَا كَانَ مُلْهِيًا وَشَاغِلًا عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ ذِكْرِهِ وَالصَّلَاةِ لَهُ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِنْسُهُ مُحَرَّمًا : كَالْبَيْعِ ؛ وَالْعَمَلِ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَلَوْ كَانَ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَنَحْوِهِمَا فِي جِنْسِهِ مُبَاحًا ؛ وَإِنَّمَا حُرِّمَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ : كَانَ تَحْرِيمُهُ مِنْ جِنْسِ تَحْرِيمِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْمَبِيعَاتِ وَالْمُؤَجَّرَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ كَبُيُوعِ الْغَرَرِ . فَإِنَّ هَذِهِ لَا يُعَلَّلُ النَّهْيُ عَنْهَا بِأَنَّهَا تَصُدُّ عَمَّا يَجِبُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ مِنْهُ مَا كَانَ يَصُدُّ وَأَنَّ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةَ : لَا يُعَلَّلُ تَحْرِيمُهَا بِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ تِلْكَ الْمُعَامَلَاتُ الصَّحِيحَةُ يُنْهَى مِنْهَا عَمَّا يَصُدُّ عَنْ الْوَاجِبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْسِرِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ وَأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ كَمَا حُرِّمَ شُرْبُ الْخَمْرِ . وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ الرِّبَا لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ قَرَنَ بِذَلِكَ ذِكْرَ الْبَيْعِ الَّذِي هُوَ عَدْلٌ وَقَدَّمَ عَلَيْهِ ذِكْرَ الصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ إحْسَانٌ . فَذَكَرَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ حُكْمَ الْأَمْوَالِ : الْمُحْسِنُ وَالْعَادِلُ وَالظَّالِمُ :
ذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالْبَيْعَ وَالرِّبَا . وَالظُّلْمُ فِي الرِّبَا وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ بِهِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي الْمَيْسِرِ ؛ فَإِنَّ " الْمُرَابِيَ " يَأْخُذُ فَضْلًا مُحَقَّقًا مِنْ الْمُحْتَاجِ ؛ وَلِهَذَا عَاقَبَهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَقَالَ : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } وَأَمَّا " الْمُقَامِرُ " فَإِنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ فَيَظْلِمُ فَقَدْ يَكُونُ الْمَظْلُومُ هُوَ الْغَنِيَّ وَقَدْ يَكُونُ هُوَ الْفَقِيرَ وَظُلْمُ الْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمِ الْغَنِيِّ . وَظُلْمٌ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الظَّالِمَ الْقَادِرَ أَعْظَمُ مَنْ ظُلْمٍ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الظَّالِمُ ؛ فَإِنَّ ظُلْمَ الْقَادِرِ الْغَنِيِّ لِلْعَاجِزِ الضَّعِيفِ أَقْبَحُ مَنْ تَظَالُمِ قَادِرَيْنِ غَنِيَّيْنِ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا هُوَ الَّذِي يَظْلِمُ . فَالرِّبَا فِي ظُلْمِ الْأَمْوَالِ أَعْظَمُ مِنْ الْقِمَارِ وَمَعَ هَذَا فَتَأَخَّرَ تَحْرِيمُهُ وَكَانَ آخِرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَيْسِرِ إلَّا مُجَرَّدُ الْقِمَارِ لَكَانَ أَخَفَّ مِنْ الرِّبَا لِتَأَخُّرِ تَحْرِيمِهِ . وَقَدْ أَبَاحَ الشَّارِعُ أَنْوَاعًا مِنْ الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ كَمَا أَبَاحَ اشْتِرَاطَ ثَمَرِ النَّخْلِ بَعْدَ التَّأْبِيرِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ وَجَوَّزَ بَيْعَ الْمُجَازَفَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَأَمَّا الرِّبَا فَلَمْ يُبَحْ مِنْهُ ؛ وَلَكِنْ أَبَاحَ الْعُدُولَ عَنْ التَّقْدِيرِ بِالْكَيْلِ إلَى التَّقْدِيرِ بِالْخَرْصِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا أَبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ لِلْحَاجَةِ ؛ إذْ الْخَرْصُ تَقْدِيرٌ بِظَنِّ وَالْكَيْلُ تَقْدِيرٌ بِعِلْمِ . وَالْعُدُولُ عَنْ الْعِلْمِ إلَى الظَّنِّ عِنْدَ الْحَاجَةِ جَائِزٌ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرِّبَا أَعْظَمُ مِنْ الْقِمَارِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ؛ لَكِنَّ الْمَيْسِرَ تُطْلَبُ بِهِ الْمُلَاعَبَةُ وَالْمُغَالَبَةُ نُهِيَ عَنْهُ الْإِنْسَانُ لِفَسَادِ عَقْلِهِ مَعَ فَسَادِ مَالِهِ . مِثْلَ مَا فِيهِ مَنْ الصُّدُودِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ . وَكُلٌّ مِنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِيهِ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَفِيهِ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ : أَعْظَمُ مِنْ الرِّبَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ .
فَتَبَيَّنَ أَنَّ " الْمَيْسِرَ " اشْتَمَلَ عَلَى " مَفْسَدَتَيْنِ " : مَفْسَدَةٌ فِي الْمَالِ . وَهِيَ أَكْلُهُ بِالْبَاطِلِ . وَمَفْسَدَةٌ فِي الْعَمَلِ وَهِيَ مَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمَالِ وَفَسَادِ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ . وَكُلٌّ مِنْ الْمَفْسَدَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ بِالنَّهْيِ فَيَنْهَى عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ مَيْسِرٍ كَالرِّبَا وَيَنْهَى عَمَّا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَيُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ أَكْلِ مَالٍ . فَإِذَا اجْتَمَعَا عَظُمَ التَّحْرِيمُ : فَيَكُونُ الْمَيْسِرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا أَعْظَمَ مِنْ الرِّبَا . وَلِهَذَا حُرِّمَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ حَرَّمَهَا وَلَوْ كَانَ الشَّارِبُ يَتَدَاوَى بِهَا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَحَرَّمَ بَيْعَهَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ أَكْلُ ثَمَنِهَا لَا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَلَا يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ كُلُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الِاجْتِنَابِ . فَهَكَذَا الْمَيْسِرُ مَنْهِيٌّ عَنْ هَذَا وَعَنْ هَذَا . وَالْمُعِينُ عَلَى الْمَيْسِرِ كَالْمُعِينِ عَلَى الْخَمْرِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ . وَكَمَا أَنَّ الْخَمْرَ تَحْرُمُ الْإِعَانَةُ عَلَيْهَا بِبَيْعِ أَوْ عَصْرٍ أَوْ سَقْيٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ : فَكَذَلِكَ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَيْسِرِ : كَبَائِعِ آلَاتِهِ وَالْمُؤَجِّرِ لَهَا وَالْمُذَبْذَبِ الَّذِي يُعِينُ أَحَدَهُمَا : بَلْ مُجَرَّدُ الْحُضُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيْسِرِ كَالْحُضُورِ عِنْدَ أَهْلِ شُرْبِ الْخَمْرِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ } وَقَدْ رُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِمْ فَقِيلَ لَهُ : إنَّ فِيهِمْ صَائِمًا . فَقَالَ ابْدَءُوا بِهِ ثُمَّ قَالَ : أَمَا سَمِعْت قَوْله تَعَالَى { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ } فَاسْتَدَلَّ عُمَرُ بِالْآيَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ حَاضِرَ الْمُنْكَرِ مِثْلَ فَاعِلِهِ ؛ بَلْ إذَا كَانَ مَنْ دَعَا إلَى دَعْوَةِ الْعُرْسِ لَا تُجَابُ دَعْوَتُهُ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مُنْكَرٍ حَتَّى يَدَعَهُ مَعَ أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ حَقٌّ : فَكَيْفَ بِشُهُودِ الْمُنْكَرِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ يَقْتَضِي ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ هَذَا مِنْ الْمَيْسِرِ فَكَيْفَ اسْتَجَازَهُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ ؟ قِيلَ لَهُ : الْمُسْتَجِيزُ لِلشِّطْرَنْجِ مِنْ السَّلَفِ بِلَا عِوَضٍ كَالْمُسْتَجِيزِ لِلنَّرْدِ بِلَا عِوَضٍ مِنْ السَّلَفِ وَكِلَاهُمَا مَأْثُورٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ ؛ بَلْ فِي الشِّطْرَنْجِ قَدْ تَبَيَّنَ عُذْرُ بَعْضِهِمْ كَمَا كَانَ الشَّعْبِيُّ يَلْعَبُ بِهِ لَمَّا طَلَبَهُ الْحَجَّاجُ لِتَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ . رَأَى أَنْ يَلْعَبَ بِهِ لِيُفَسِّقَ نَفْسَهُ وَلَا يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ لِلْحَجَّاجِ وَرَأَى أَنْ يَحْتَمِلَ مِثْلَ هَذَا لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ إعَانَةَ مِثْلِ الْحَجَّاجِ عَلَى مَظَالِمِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ مَحْذُورًا عِنْدَهُ ؛ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاعْتِذَارُ إلَّا بِمَثَلِ ذَلِكَ . ثُمَّ يُقَالُ : مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا النَّبِيذَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مِنْ السَّلَفِ وَاَلَّذِينَ اسْتَحَلُّوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ مِنْ السَّلَفِ أَكْثَرُ وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرَهُمَا رَخَّصُوا فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَكَانُوا مُتَأَوِّلِينَ أَنَّ الرِّبَا لَا يَحْرُمُ إلَّا فِي النِّسَاءِ ؛ لَا فِي الْيَدِ بِالْيَدِ . وَكَذَلِكَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْخَمْرَ
لَيْسَتْ إلَّا الْمُسْكِرَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ : فَهَؤُلَاءِ فَهِمُوا مِنْ الْخَمْرِ نَوْعًا مِنْهُ دُونَ نَوْعٍ وَظَنُّوا أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِهِ . وَشُمُولُ الْمَيْسِرِ لِأَنْوَاعِهِ كَشُمُولِ الْخَمْرِ وَالرِّبَا لِأَنْوَاعِهِمَا . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَتَّبِعَ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ إلَّا بِمَا هُمْ لَهُ أَهْلٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا لِلْمُؤْمِنِينَ عَمَّا أَخْطَئُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ اللَّهُ : قَدْ فَعَلْت . وَأَمَرَنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَلَا نَتَّبِعَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نُطِيعَ مَخْلُوقًا فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَنَسْتَغْفِرَ لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ . فَنَقُولَ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } الْآيَةَ . وَهَذَا أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَا كَانَ يُشْبِهُ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ . وَنُعَظِّمُ أَمْرَهُ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَنَرْعَى حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَمَنْ عَدَلَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ فَقَدْ عَدَلَ عَنْ اتِّبَاعِ الْحُجَّةِ إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي التَّقْلِيدِ وَآذَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا : فَهُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ . وَمَنْ عَظَّمَ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَأَحْسَنَ إلَى عِبَادِ اللَّهِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي " الشِّطْرَنْجِ
" فَقَالَ أَحَدُهُمَا : هِيَ حَرَامٌ . وَقَالَ الْآخَرُ : هِيَ تَرُدُّ عَنْ
الْغَيْبَةِ وَعَنْ النَّظَرِ إلَى النَّاسِ مَعَ أَنَّهَا حَلَالٌ : فَأَيُّهُمَا
الْمُصِيبُ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا إذَا
كَانَ بِعِوَضِ أَوْ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ وَاجِبٍ : مِثْلَ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ
عَنْ وَقْتِهَا أَوْ تَضْيِيعِ وَاجِبَاتِهَا أَوْ تَرْكِ مَا يَجِبُ مِنْ
مَصَالِحِ الْعِيَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُوجِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ؛
فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ إذَا تَضَمَّنَ كَذِبًا
أَوْ ظُلْمًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ فَإِنَّهُ حَرَامٌ
بِالْإِجْمَاعِ . وَإِذَا خَلَا عَنْ ذَلِكَ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ
وَأَصْحَابِهِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ
وَأَصْحَابِهِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ حَرَامٌ .
وَقَالَ هَؤُلَاءِ : إنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّهُ حَلَالٌ ؛ بَلْ
كَرِهَهُ . وَقِيلَ : إنَّهُ قَالَ : لَمْ يَتَبَيَّنْ إلَيَّ تَحْرِيمُهُ .
وَالْبَيْهَقِي أَعْلَمُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِالْحَدِيثِ وَأَنْصَرُهُمْ
لِلشَّافِعِيِّ . ذَكَرَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ : عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَأَبِي مُوسَى وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يَحْكِ عَنْ
الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا . وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ فَهُوَ غالط
. وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ
أَعْلَمُ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ يَنْقُلُ أَقْوَالًا بِلَا إسْنَادٍ
قَالَ البيهقي : جَعَلَ الشَّافِعِيُّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ مِنْ
الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا .
فِي أَنَّهُ لَا يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ فَأَمَّا كَرَاهِيَتُهُ اللَّعِبَ بِهَا فَقَدْ صَرَّحَ بِهَا فِيمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ وَالْأَوْلَى بِمَذْهَبِهِ . فَاَلَّذِينَ كَرِهُوا أَكْثَرُ وَمَعَهُمْ مَنْ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ . وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : الشِّطْرَنْجُ مَيْسِرُ الْعَجَمِ . وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ : أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ وَقَالَ : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } ؟ لَأَنْ يَمَسَّ أَحَدُكُمْ جَمْرًا حَتَّى يُطْفَأَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّهَا . وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِمَجْلِسِ مِنْ مَجَالِسِ تَيْمِ اللَّهِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّهِ لِغَيْرِ هَذَا خُلِقْتُمْ أَمَا وَاَللَّهِ لَوْلَا أَنْ يَكُونَ سُنَّةً لَضَرَبْت بِهَا وُجُوهَكُمْ وَعَنْ مَالِكٍ قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَلِيَ مَالَ يَتِيمٍ فَأَحْرَقَهَا . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الشِّطْرَنْجِ فَقَالَ : هُوَ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ . وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : لَا يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ إلَّا خَاطِئٌ . وَعَنْ عَائِشَةَ : أَنَّهَا كَانَتْ تَكْرَهُ الْكَيْلَ وَإِنْ لَمْ يُقَامَرْ عَلَيْهَا . وَأَبُو سَعِيدٍ الخدري كَانَ يَكْرَهُ اللَّعِبَ بِهَا . فَهَذِهِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ صَحَابِيٍّ خِلَافُ ذَلِكَ . ثُمَّ رَوَى البيهقي أَيْضًا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَعْرُوفِ بِالْبَاقِرِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الشِّطْرَنْجِ فَقَالَ : دَعُونَا مِنْ هَذِهِ الْمَجُوسِيَّةِ . قَالَ البيهقي : رَوَيْنَا فِي كَرَاهِيَةِ اللَّعِبِ بِهَا . عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَمُحَمَّدِ ابْنِ سِيرِين وَإِبْرَاهِيمَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ . قُلْت : " وَالْكَرَاهِيَةُ " فِي كَلَامِ السَّلَفِ كَثِيرًا وَغَالِبًا يُرَادُ بِهَا التَّحْرِيمُ وَقَدْ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ ؛ بَلْ صَرَّحُوا بِأَنَّهَا شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ وَالنَّرْدُ حَرَامٌ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عِوَضٌ .
وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَامِعِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ : قُلْت لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ : مَا " الْمَيْسِرُ " ؟ قَالَ : كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْر اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ : فَهُوَ مَيْسِرٌ . قَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ . أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : قُلْت لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ : هَذَا النَّرْدُ مَيْسِرٌ . أَرَأَيْت الشِّطْرَنْجَ مَيْسِرٌ هِيَ ؟ قَالَ الْقَاسِمُ : كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْر اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهُوَ مَيْسِرٌ . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا أَبُو قَيْسٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : لَأَنْ أَعْبُدَ صَنَمًا يُعْبَدُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْعَبَ بِهَذَا الْمَيْسِرِ . قَالَ الْقَيْسِيُّ : وَهِيَ عِيدَانٌ كَانَ يُلْعَبُ بِهَا فِي الْأَرْضِ . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ : مَا أُبَالِي أَلَعِبْت بِالْكَيْلِ أَوْ تَوَضَّأَتْ بِدَمِ خِنْزِيرٍ ثُمَّ قُمْت إلَى الصَّلَاةِ . وَمَا ذُكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } ؟ ثَابِتٌ عَنْهُ يُشَبِّهُهُمْ بِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } . و " الْمَيْسِرُ " يَدْخُلُ فِيهِ " النردشير " وَنَحْوُهُ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ لَعِبَ بالنردشير فَقَدْ صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ } وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ . { مَنْ لَعِبَ بالنردشير فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ حَرَامٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِعِوَضِ . وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُمَا : إنَّ الشِّطْرَنْجَ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَحْمَد
بْنُ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ : النردشير مِنْ الشِّطْرَنْجِ .
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ ؛ فَإِنَّ النَّرْدَ إذَا كَانَ
بِعِوَضِ وَالشِّطْرَنْجَ بِغَيْرِ عِوَضٍ : فَالنَّرْدُ شَرٌّ مِنْهُ وَهُوَ
حَرَامٌ حِينَئِذٍ بِالْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ كِلَاهُمَا
بِعِوَضِ أَوْ كِلَاهُمَا بِلَا عِوَضٍ فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ ؛
لِأَنَّ الشِّطْرَنْجَ يَشْغَلُ الْقَلْبَ وَيَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ
الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِنْ النَّرْدِ
. وَلِهَذَا قِيلَ : الشِّطْرَنْجُ مَبْنِيٌّ عَلَى
مَذْهَبِ الْقَدَرِ وَالنَّرْدُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الْجَبْرِ . فَإِنَّ
صَاحِبَ النَّرْدِ يَرْمِي وَيَحْسِبُ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَّا صَاحِبُ
الشِّطْرَنْجِ فَإِنَّهُ يُقَدِّرُ وَيُفَكِّرُ وَيَحْسِبُ حِسَابَ النَّقَلَاتِ
قَبْلَ النَّقْلِ ؛ فَإِفْسَادُ الشِّطْرَنْجِ لِلْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ إفْسَادِ
النَّرْدِ ؛ وَلَكِنْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ ؛ وَالشِّطْرَنْجُ لَمْ
يُعْرَفْ إلَّا بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ الْبِلَادُ ؛ فَإِنَّ أَصْلَهُ مِنْ
الْهِنْدِ وَانْتَقَلَ مِنْهُمْ إلَى الْفُرْسِ ؛ فَلِهَذَا جَاءَ ذِكْرُ
النَّرْدِ فِي الْحَدِيثِ ؛ وَإِلَّا فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْهُ إذَا
اسْتَوَيَا فِي الْعِوَضِ أَوْ عَدِمَهُ . وَقَدْ بُسِطَ جَوَابُ السُّؤَالِ فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَقَالَ : هُوَ
خَيْرٌ مِنْ النَّرْدِ : فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ ؟ وَهَلْ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ
بِعِوَضِ أَوْ غَيْرِ عِوَضٍ حَرَامٌ ؟ وَمَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ حَرَامٌ
عِنْدَ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا كَالنَّرْدِ . وَقَدْ
صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ
لَعِبَ بِالنَّرْدِ
فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ } وَقَالَ : { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَثَبَتَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَلَبَ الرُّقْعَةَ عَلَيْهِمْ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : الشِّطْرَنْجُ مِنْ الْمَيْسِرِ وَهُوَ كَمَا قَالُوا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْسِرَ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ حَرَامٌ إذَا كَانَ بِعِوَضِ وَهُوَ مِنْ الْقِمَارِ وَالْمَيْسِرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ . وَالنَّرْدُ حَرَامٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِعِوَضِ أَوْ غَيْرِ عِوَضٍ ؛ وَلَكِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ جَوَّزَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ الْمَيْسِرِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَأَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ فَيُحَرِّمُونِ ذَلِكَ بِعِوَضِ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ ؛ وَكَذَلِكَ الشِّطْرَنْجُ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ بِتَحْرِيمِهَا : مَالِكٌ ؛ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ . وَتَنَازَعُوا أَيُّهُمَا أَشَدُّ ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : الشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ . وَقَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ : الشِّطْرَنْجُ أَخَفُّ مِنْ النَّرْدِ ؛ وَلِهَذَا تَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي النَّرْدِ إذَا خَلَا عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ إذْ سَبَبُ الشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَلْعَبُ فِيهَا بِعِوَضِ بِخِلَافِ الشِّطْرَنْجِ فَإِنَّهَا تُلْعَبُ بِغَيْرِ عِوَضٍ غَالِبًا . وَأَيْضًا فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ يُعِينُ عَلَى الْقِتَالِ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ صَفِّ الطَّائِفَتَيْنِ . و " التَّحْقِيقُ " أَنَّ النَّرْدَ وَالشِّطْرَنْجَ إذَا لَعِبَ بِهِمَا بِعِوَضِ فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الشِّطْرَنْجَ حِينَئِذٍ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ
بِالْإِجْمَاعِ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مُحَرَّمٍ : مِنْ كَذِبٍ وَيَمِينٍ فَاجِرَةٍ أَوْ ظُلْمٍ أَوْ جِنَايَةٍ أَوْ حَدِيثٍ غَيْرِ وَاجِبٍ وَنَحْوِهَا وَهِيَ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَإِنْ خَلَتْ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ فَإِنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَتُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ أَعْظَمَ مِنْ النَّرْدِ إذَا كَانَ بِعِوَضِ . وَإِذَا كَانَا بِعِوَضِ فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ فِي الْحَالَيْنِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْعِوَضُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَفِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَرَنَ الْمَيْسِرَ بِالْخَمْرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ لِمَا فِيهَا مِنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ . وَفِيهَا إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ ؛ فَإِنَّ الشِّطْرَنْجَ إذَا اُسْتُكْثِرَ مِنْهَا تَسْتُرُ الْقَلْبَ وَتَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ تَسَتُّرِ الْخَمْرِ . وَقَدْ شَبَّهَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَاعِبِيهَا بِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ حَيْثُ قَالَ : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟ كَمَا شَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَارِبَ الْخَمْرِ بِعَابِدِ الْوَثَنِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ } . وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِنْ اللَّعِبِ بِهَا : فَقَدْ بَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ : أَنَّ الْحَجَّاجَ طَلَبَهُ لِلْقَضَاءِ فَلَعِبَ بِهَا ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ قَادِحًا فِيهِ فَلَا يُوَلَّى الْقَضَاءَ . وَذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى وِلَايَةَ الْحَجَّاجِ أَشَدَّ ضَرَرًا عَلَيْهِ فِي دِينِهِ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَقَدْ يُبَاحُ مَا هُوَ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ كَمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا : إنَّهُ لَا يُسَلَّمُ عَلَى لَاعِبِ الشِّطْرَنْجِ ؛ لِأَنَّهُ مُظْهِرٌ لِلْمَعْصِيَةِ وَقَالَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ : يُسَلَّمُ عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَهُوَ كَمَنْ غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ
خِنْزِيرِ وَدَمِهِ } ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا قَوْلُهُ : { مَنْ لَعِبَ
بِالنَّرْدَشِيرِ فَهُوَ كَمَنْ غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرِ وَدَمِهِ }
فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ . وَاللَّعِبُ بِالنَّرْدِ
حَرَامٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِعِوَضِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ
وَبِالْعِوَضِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ اللَّعِبِ بِالْحَمَامِ ؟
فَأَجَابَ
:
اللَّعِبُ بِالْحَمَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَفِي
السُّنَنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى
رَجُلًا يَتْبَعُ حَمَامَةً فَقَالَ
: شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً } . وَمَنْ لَعِبَ
بِالْحَمَامِ فَأَشْرَفَ عَلَى حَرِيمِ النَّاسِ أَوْ رَمَاهُمْ بِالْحِجَارَةِ
فَوَقَعَتْ عَلَى الْجِيرَانِ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ تَعْزِيرًا
يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ ظُلْمٌ
وَعُدْوَانٌ عَلَى الْجِيرَانِ ؛ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اللَّعِبِ الْمَنْهِيِّ
عَنْهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الْعِشْرَةِ
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَقْوَامٍ يُعَاشِرُونَ " المردان "
وَقَدْ يَقَعُ مِنْ أَحَدِهِمْ قُبْلَةٌ وَمُضَاجَعَةٌ لِلصَّبِيِّ وَيَدَّعُونَ
أَنَّهُمْ يَصْحَبُونَ لِلَّهِ ؛ وَلَا يَعُدُّونَ ذَلِكَ ذَنْبًا وَلَا عَارًا ؛
وَيَقُولُونَ : نَحْنُ نَصْحَبُهُمْ بِغَيْرِ خَنَا ؛ وَيَعْلَمُ أَبُو الصَّبِيِّ
بِذَلِكَ وَعَمُّهُ وَأَخُوهُ فَلَا يُنْكِرُونَ : فَمَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى
فِي هَؤُلَاءِ ؟ وَمَاذَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنَّ يُعَامِلَهُمْ
بِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الصَّبِيُّ الْأَمْرَدُ الْمَلِيحُ
بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ وَلَا
يَجُوزُ تَقْبِيلُهُ عَلَى وَجْهِ اللَّذَّةِ ؛ بَلْ لَا يُقَبِّلُهُ إلَّا مَنْ
يُؤْمَنُ عَلَيْهِ : كَالْأَبِ ؛ وَالْإِخْوَةِ . وَلَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ ؛ بَلْ يَحْرُمُ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ
النَّظَرُ إلَيْهِ عِنْدَ خَوْفِ ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَيْهِ لِحَاجَةِ
بِلَا رِيبَةٍ مِثْلَ مُعَامَلَتِهِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ
كَمَا يُنْظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ لِلْحَاجَةِ . وَأَمَّا " مُضَاجَعَتُهُ " : فَهَذَا
أَفْحَشُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ ؛ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا
لِعَشْرٍ ؛ وَفَرِّقُوا
بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } إذَا بَلَغُوا عَشْرَ سِنِينَ وَلَمْ يَحْتَلِمُوا بَعْدُ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : { لَا يَخْلُو رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ } وَقَالَ : { إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْت الْحَمْوَ ؟ قَالَ الْحَمْوُ الْمَوْتُ } فَإِذَا كَانَتْ الْخَلْوَةُ مُحَرَّمَةً لِمَا يُخَافُ مِنْهَا فَكَيْفَ بِالْمُضَاجَعَةِ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِلَّهِ . فَهَذَا أَكْثَرُهُ كَذِبٌ وَقَدْ يَكُونُ لِلَّهِ مَعَ هَوَى النَّفْسِ كَمَا يَدَّعِي مَنْ يَدَّعِي مِثْلَ ذَلِكَ فِي صُحْبَةِ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ ؛ فَيَبْقَى كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ { فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } وَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ فِيهِمْ غُلَامٌ ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ أَجْلَسَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ ؛ وَقَالَ : إنَّمَا كَانَتْ خَطِيئَةُ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّظَرَ } . هَذَا وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُزَوَّجٌ بِتِسْعِ نِسْوَةٍ ؛ وَالْوَفْدُ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَلَمْ تَكُنْ الْفَاحِشَةُ مَعْرُوفَةً فِي الْعَرَبِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْمَشَايِخِ مِنْ التَّحْذِيرِ عَنْ صُحْبَةِ " الْأَحْدَاثِ " مَا يَطُولُ وَصْفُهُ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُفْضِي إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الْمُحَرَّمَةِ وَإِنْ ضَمَّ إلَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً مِنْ تَعْلِيمٍ أَوْ تَأْدِيبٍ ؛ فَإِنَّ " المردان " يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُمْ وَتَأْدِيبُهُمْ بِدُونِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي فِيهَا مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ يَصْحَبُهُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ : بِسُوءِ الظَّنِّ تَارَةً وَبِالشُّبْهَةِ أُخْرَى ؛ بَلْ رُوِيَ : أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَجْلِسُ
إلَيْهِ
المردان فَنَهَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مُجَالَسَتِهِ . وَلَقِيَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ شَابًّا فَقَطَعَ شَعْرَهُ ؛ لِمَيْلِ بَعْضِ النِّسَاءِ
إلَيْهِ ؛ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إخْرَاجِهِ مِنْ وَطَنِهِ ؛ وَالتَّفْرِيقِ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ
. وَمَنْ أَقَرَّ صَبِيًّا يَتَوَلَّاهُ : مِثْلَ
ابْنِهِ وَأَخِيهِ أَوْ مَمْلُوكِهِ أَوْ يَتِيمٍ عِنْدَ مَنْ يُعَاشِرُهُ عَلَى
هَذَا الْوَجْهِ : فَهُوَ دَيُّوثٌ مَلْعُونٌ { وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
دَيُّوثٌ } فَإِنَّ الْفَاحِشَةَ الْبَاطِنَةَ مَا يَقُومُ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ
فِي الْعَادَةِ ؛ وَإِنَّمَا تَقُومُ عَلَى الظَّاهِرَةِ وَهَذِهِ الْعِشْرَةُ
الْقَبِيحَةُ مِنْ الظَّاهِرَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا
تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وَقَالَ تَعَالَى : {
قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } .
فَلَوْ ذَكَرْنَا مَا حَصَلَ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ الضَّرَرِ وَالْمَفَاسِدِ
وَمَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ : لَطَالَ . سَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ تَقِيًّا أَوْ فَاجِرًا ؛
فَإِنَّ التَّقِيَّ يُعَالِجُ مَرَارَةً فِي مُجَاهَدَةِ هَوَاهُ وَخِلَافِ
نَفْسِهِ ؛ وَكَثِيرًا مَا يَغْلِبُهُ شَيْطَانُهُ وَنَفْسُهُ ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ
يَحْمِلُ حِمْلًا لَا يُطِيقُهُ فَيُعَذِّبُهُ أَوْ يَقْتُلُهُ ؛ وَالْفَاجِرُ
يَكْمُلُ فُجُورُهُ بِذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَرَاهَنَا فِي عَمَلِ زَجِلَيْنِ
وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ عَصَبِيَّةٌ ؟ وَعَلَى مَنْ تَعَصَّبَ لَهُمَا ؟ وَفِي
ذِكْرِهِمَا التَّغَزُّلُ فِي المردان وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُمَا ؟
أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَؤُلَاءِ الْمُتَغَالِبُونَ بِهَذِهِ الْأَزْجَالِ ؛ وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسِهَا هُمْ والمتعصبون مِنْ الطَّرَفَيْنِ ؛ وَالْمُرَاهِنَةُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرُ الْمُرَاهِنَةِ ظَالِمُونَ مُعْتَدُونَ آثِمُونَ مُسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تَرْدَعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ مِنْ سُفَهَاءِ الْغُوَاةِ الْعُصَاةِ الْفَاسِقِينَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا ؛ بَلْ تَضُرُّ أَصْحَابَهَا فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ . وَعَلَى " وُلَاةِ الْأُمُورِ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ " الْإِنْكَارُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَأَعْوَانِهِمْ ؛ حَتَّى يَنْتَهُوا عَنْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ وَيُرَاجِعُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُلَازَمَةَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُلَازَمَتُهُ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُغَالِبَاتِ مُشْتَمِلَاتٍ عَلَى مُنْكَرَاتٍ مُحَرَّمَاتٍ ؛ وَغَيْرِ مُحَرَّمَاتٍ بَلْ مَكْرُوهَاتٌ . وَمِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي فِيهَا [ مَا ] (1) تَحْرِيمُهُ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . " أَحَدُهَا " الْمُرَاهَنَةُ عَلَى ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ مَبْذُولًا مِنْ أَحَدِهِمَا ؛ أَوْ مَنْ غَيْرِهَا : لَمْ يَجُزْ ؛ لَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : لَا سَبْقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ ؛ أَوْ نَصْلٍ . وَلَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : السَّبْقُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ . أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ وَفِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا سَبْقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ } . وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَعْمَالِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِخْرَاجُ السَّبْقِ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ إنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْمُبَاحَاتِ : كَالْمُصَارَعَةِ وَالْمُسَابَقَةِ بِالْإِقْدَامِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْجِهَادِ ؛ فَلِهَذَا رُخِّصَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ سَبْقٍ ؛ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَارَعَ ابْنَ عَبْدِ يَزِيدَ ؛ وَسَابَقَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا } وَأَذِنَ فِي السِّبَاقِ لسلمة بْنِ الْأَكْوَعِ . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمُغَالَبَةُ فِي عَمَلٍ مُبَاحٍ ؛ وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ . وَذَلِكَ يَظْهَرُ " بِالْوَجْهِ الثَّانِي " : وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ فِيهَا مِنْ وَصْفِ المردان وَعِشْقِهِمْ ؛ وَمُقَدَّمَاتِ الْفُجُورِ بِهِمْ مَا يَقْتَضِي تَرْغِيبَ النُّفُوسِ فِي ذَلِكَ ؛ وَتَهْيِيجَ ذَلِكَ فِي الْقُلُوبِ . وَكُلُّ مَا فِيهِ إعَانَةٌ عَلَى الْفَاحِشَةِ وَالتَّرْغِيبُ فِيهَا : فَهُوَ حَرَامٌ ؛ وَتَحْرِيمُ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ تَحْرِيم النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ وَذَلِكَ يُثِيرُ الْحُزْنَ ؛ وَهَذَا يُثِيرُ الْفِسْقَ . وَالْحُزْنُ قَدْ يُرَخَّصُ فِيهِ ؛ وَأَمَّا الْفِسْقُ فَلَا يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ . وَهَذَا مِنْ جِنْسِ " الْقِيَادَةِ " . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَنْعَتُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا } فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَصْفِ الْمَرْأَةِ ؛ لِئَلَّا تَتَمَثَّلُ فِي نَفْسِهِ صُورَتُهَا فَكَيْفَ بِمَنْ يَصِفُ المردان بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَيَرْغَبُ فِي الْفَوَاحِشِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمُنْكَرَاتِ : الَّتِي تُخْرِجُ الْقَلْبَ السَّلِيمَ ؛ وَتُعْمِي الْقَلْبَ السَّقِيمَ ؛ وَتَسُوقُ الْإِنْسَانَ إلَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِضَرْبِ نَائِحَةٍ : فَضُرِبَتْ حَتَّى بَدَا شَعْرُهَا ؛ فَقِيلَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّهُ قَدْ بَدَا شَعْرُهَا ؟ فَقَالَ : لَا حُرْمَةَ لَهَا ؛ إنَّمَا تَأْمُرُ بِالْجَزَعِ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَتَنْهَى عَنْ الصَّبْرِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ؛ وَتَفْتِنُ الْحَيَّ وَتُؤْذِي الْمَيِّتَ ؛ وَتَبِيعُ عَبْرَتَهَا وَتَبْكِي شَجْوَ غَيْرِهَا : إنَّهَا لَا تَبْكِي عَلَى مَيِّتِكُمْ وَإِنَّمَا تَبْكِي عَلَى أَخْذِ دَرَاهِمِكُمْ . وَبَلَغَ عُمَرَ أَنَّ شَابًّا يُقَالُ لَهُ : " نَصْرُ
ابْنُ حَجَّاجٍ " تَغَنَّتْ بِهِ امْرَأَةٌ فَأَخَذَ شَعْرَهُ ثُمَّ رَآهُ جَمِيلًا فَنَفَاهُ إلَى الْبَصْرَةِ وَقَالَ : لَا يَكُونُ عِنْدِي مَنْ تَغَنَّى بِهِ النِّسَاءُ . فَكَيْفَ لَوْ رَأَى عُمَرُ مِنْ يُغَنِّي بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمَوْزُونَةِ فِي المردان مَعَ كَثْرَةِ الْفُجُورِ وَظُهُورِ الْفَوَاحِشِ وَقِلَّةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُضَادِّينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِدِينِهِ . وَيَدْعُونَ إلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَيَصُدُّونَ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ؛ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا . " الْوَجْهُ الثَّالِثُ " أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الْمَوْزُونَ كَلَامٌ فَاسِدٌ مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا لِأَنَّهُمْ غَيَّرُوا فِيهِ كَلَامَ الْعَرَبِ وَبَدَّلُوهُ ؛ بِقَوْلِهِمْ : مَاعُوا وَبَدَوْا وَعَدَوْا . وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا تَمُجُّهُ الْقُلُوبُ وَالْأَسْمَاعُ وَتَنْفِرُ عَنْهُ الْعُقُولُ وَالطِّبَاعُ . وَأَمَّا " مُرَكَّبَاتُهُ " فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَوْزَانِ الْعَرَبِ ؛ وَلَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الشِّعْرِ وَلَا مِنْ أَبْحُرِهِ السِّتَّةَ عَشَرَ وَلَا مَنْ جِنْسِ الْأَسْجَاعِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ " تَعَلُّمَ الْعَرَبِيَّةِ ؛ وَتَعْلِيمَ الْعَرَبِيَّةِ " فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ وَكَانَ السَّلَفُ يُؤَدِّبُونَ أَوْلَادَهُمْ عَلَى اللَّحْنِ . فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ أَنْ نَحْفَظَ الْقَانُونَ الْعَرَبِيَّ ؛ وَنُصْلِحَ الْأَلْسُنَ الْمَائِلَةَ عَنْهُ ؛ فَيَحْفَظُ لَنَا طَرِيقَةَ فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَالِاقْتِدَاءِ بِالْعَرَبِ فِي خِطَابِهَا . فَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ عَلَى لَحْنِهِمْ كَانَ نَقْصًا وَعَيْبًا ؛ فَكَيْفَ إذَا جَاءَ قَوْمٌ إلَى الْأَلْسِنَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَالْأَوْزَانِ الْقَوِيمَةِ : فَأَفْسَدُوهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ وَالْأَوْزَانِ الْمُفْسِدَةِ لِلِّسَانِ النَّاقِلَةِ عَنْ الْعَرَبِيَّةِ الْعَرْبَاءِ إلَى أَنْوَاعِ الْهَذَيَانِ ؛ الَّذِي لَا يَهْذِي بِهِ إلَّا قَوْمٌ مِنْ الْأَعَاجِمِ الطَّمَاطِمِ الصميان "
الْوَجْهُ الرَّابِعُ " أَنَّ الْمُغَالَبَةَ بِمِثْلِ هَذَا تُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَتَصُدَّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ النِّقَارِ بَيْنَ الدُّيُوكِ وَالنِّطَاحِ بَيْنَ الْكِبَاشِ ؛ وَمِنْ جِنْسِ مُغَالَبَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ . وَالْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ ؛ لِأَنَّهُ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَيُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ . و " الْمَيْسِرُ الْمُحَرَّمُ " لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِوَضٌ بَلْ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عِوَضٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } لِأَنَّ النَّرْدَ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَيُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ؛ وَهَذِهِ الْمُغَالِبَاتُ تَصُدُّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ ؛ وَتُوقِعُ بَيْنِهِمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ : أَعْظَمَ مِنْ النَّرْدِ فَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ قَدْ حَرَّمَ الشِّطْرَنْجَ وَجَعَلَهُ مَالِكٌ أَعْظَمَ مِنْ النَّرْدِ مَعَ أَنَّ اللَّاعِبِينَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَإِنْ كَانُوا فُسَّاقًا : فَهُمْ أَمْثَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ . وَهَذَا بَيِّنٌ . " الْوَجْهُ الْخَامِسُ " وَهُوَ أَنَّ غَالِبَ هَؤُلَاءِ : إمَّا زِنْدِيقٌ مُنَافِقٌ ؛ وَإِمَّا فَاجِرٌ فَاسِقٌ وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ بَرٌّ ؛ بَلْ وُجِدَ حَاذِقُهُمْ مُنْسَلِخًا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ مُضَيِّعًا لِلصَّلَوَاتِ مُتْبِعًا لِلشَّهَوَاتِ ؛ لَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ؛ وَلَا يُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا كَانَ فَاسِقًا مُرْتَكِبًا لِلْمُحَرَّمَاتِ ؛ تَارِكًا لِلْوَاجِبَاتِ . وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ إمَّا النِّفَاقُ وَإِمَّا الْفِسْقُ : كَانَ حُكْمُ اللَّهِ فِي الزِّنْدِيقِ قَتْلَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ وَحُكْمُهُ فِي الْفَاسِقِ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ : إمَّا بِالْقَتْلِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَالْمُخَالِطُ
لَهُمْ وَالْمُعَاشِرُ إذَا ادَّعَى سَلَامَتَهُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ ؛ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَفْعَلَ مَعَهُمْ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَتْرُكَ الْوَاجِبَاتِ وَإِمَّا أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ فَلَا يَأْمُرُهُمْ بِمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَاهُمْ عَنْ مُنْكَرٍ . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ وَقَدْ رُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَقْوَامٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَأَمَرَ بِجَلْدِهِمْ الْحَدَّ فَقِيلَ : إنَّ فِيهِمْ صَائِمًا ؟ فَقَالَ : أَبَدَءُوا بِالصَّائِمِ فَاجْلِدُوهُ : أَلَمْ يَسْمَعْ إلَى قَوْله تَعَالَى { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } ؟ . قَوْله تَعَالَى { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } فَنَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ الْقُعُودِ مَعَ الظَّالِمِينَ ؛ فَكَيْفَ بِمُعَاشَرَتِهِمْ ؟ أَمْ كَيْفَ بِمُخَادَنَتِهِمْ وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ تَرَكُوا الْمُقَامَرَةَ بِالْأَيْدِي وَعَجَزُوا عَنْهَا : فَفَتَحُوا الْقِمَارَ بِالْأَلْسِنَةِ وَالْقِمَارُ بِالْأَلْسِنَةِ أَفْسَدُ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ مِنْ الْقِمَارِ بِالْأَيْدِي . وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُبَالَغَةُ فِي عُقُوبَةِ هَؤُلَاءِ وَهَجْرُهُمْ وَاسْتِتَابَتُهُمْ ؛ بَلْ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الرَّجُلَ نَظَمَ هَذِهِ الْأَزْجَالَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ لَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ ؛ بَلْ لَوْ نَظَمَهَا فِي غَيْرِ الْغَزَلِ . فَإِنَّهُمْ تَارَةً يَنْظِمُونَهَا بِالْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ كَمَا نَظَمَهَا أَبُو الْحَسَنِ التستري " فِي " وَحْدَةِ الْوُجُودِ " وَأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ . وَتَارَةً يَنْظِمُونَهَا فِي الْفِسْقِ : كَنَظْمِ هَؤُلَاءِ الْغُوَاةِ وَالسُّفَهَاءِ الْفُسَّاقِ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ نَاظِمًا نَظَمَ هَذِهِ الْأَزْجَالَ فِي مَكَانِ حَانُوتٍ : نُهِيَ ؛ فَإِنَّهَا تُفْسِدُ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ وَتَنْقُلُهُ إلَى الْعُجْمَةِ الْمُنْكَرَةِ .
وَمَا
زَالَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ تَغْيِيرَ شَعَائِرِ الْعَرَبِ حَتَّى فِي
الْمُعَامَلَاتِ وَهُوَ "
التَّكَلُّم بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ " إلَّا
لِحَاجَةِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَالِك وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بَلْ قَالَ
مَالِك : مَنْ تَكَلَّمَ فِي مَسْجِدِنَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ أُخْرِجَ مِنْهُ
. مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْأَلْسُنِ يَجُوزُ النُّطْقُ بِهَا لِأَصْحَابِهَا ؛
وَلَكِنْ سَوَّغُوهَا لِلْحَاجَةِ وَكَرِهُوهَا لِغَيْرِ الْحَاجَةِ وَلِحِفْظِ
شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كِتَابَهُ بِاللِّسَانِ
الْعَرَبِيِّ وَبَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ الْعَرَبِيَّ وَجَعَلَ الْأُمَّةَ
الْعَرَبِيَّةَ خَيْرَ الْأُمَمِ فَصَارَ حِفْظُ شِعَارِهِمْ مِنْ تَمَامِ حِفْظِ
الْإِسْلَامِ فَكَيْفَ بِمَنْ تَقَدَّمَ عَلَى الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ -
مُفْرَدِهِ وَمَنْظُومِهِ - فَيُغَيِّرُهُ وَيُبَدِّلُهُ وَيُخْرِجُهُ عَنْ قَانُونِهِ
وَيُكَلِّفُ الِانْتِقَالَ عَنْهُ إنَّمَا هَذَا نَظِيرُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ
أَهْلِ الضَّلَالِ مِنْ الشُّيُوخِ الْجُهَّالِ حَيْثُ يَصْمُدُونَ إلَى الرَّجُلِ
الْعَاقِلِ فَيُؤَلِّهُونَهُ ويخنثونه ؛ فَإِنَّهُمْ ضَادُّوا الرَّسُولَ إذْ
بُعِثَ بِإِصْلَاحِ الْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ وَتَكْمِيلِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ
وَحَرَّمَ مَا يُغَيِّرُ الْعَقْلَ مِنْ جَمِيعِ الْأَلْوَانِ . فَإِذَا جَاءَ
هَؤُلَاءِ إلَى صَحِيحِ الْعَقْلِ فَأَفْسَدُوا عَقْلَهُ وَفَهْمَهُ وَقَدْ
ضَادُّوا اللَّهَ وراغموا حُكْمَهُ . وَاَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَ اللِّسَانَ
الْعَرَبِيَّ وَيُفْسِدُونَهُ لَهُمْ مِنْ هَذَا الذَّمِّ وَالْعِقَابِ بِقَدْرِ
مَا يَفْتَحُونَهُ ؛ فَإِنَّ صَلَاحَ الْعَقْلِ وَاللِّسَانِ مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ
الْإِنْسَانُ . وَيُعِينُ ذَلِكَ عَلَى تَمَامِ الْإِيمَانِ وَضِدُّ ذَلِكَ
يُوجِبُ الشِّقَاقَ وَالضَّلَالَ وَالْخُسْرَانَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَتَحَدَّثُ بَيْنَ النَّاسِ بِكَلَامِ
وَحِكَايَاتٍ مُفْتَعَلَةٍ كُلُّهَا كَذِبٌ : هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْمُتَحَدِّثُ بِأَحَادِيثَ مُفْتَعَلَةٍ
لِيُضْحِكَ النَّاسَ أَوْ لِغَرَضِ آخَرَ : فَإِنَّهُ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
وَقَدْ رَوَى بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ
لِيُضْحِكَ الْقَوْمَ : وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ } وَقَدْ قَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ فِي جَدٍّ وَلَا هَزْلٍ وَلَا
يَعِدُ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ شَيْئًا ثُمَّ لَا يُنْجِزُهُ . وَأَمَّا إنْ كَانَ
فِي ذَلِكَ مَا فِيهِ عُدْوَانٌ عَلَى مُسْلِمٍ وَضَرَرٌ فِي الدِّينِ : فَهُوَ
أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْ ذَلِكَ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَفَاعِلُ ذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ
لِلْعُقُوبَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ
:
" التَّشَبُّهُ بِالْبَهَائِمِ " فِي
الْأُمُورِ الْمَذْمُومَةِ فِي الشَّرْعِ مَذْمُومٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ : فِي
أَصْوَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِثْلُ : أَنْ يَنْبَحَ نَبِيحَ
الْكِلَابِ ؛ أَوْ يَنْهَقَ نَهِيقَ الْحَمِيرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَذَلِكَ
لِوُجُوهِ : " أَحَدُهَا "
أَنَّا قَرَّرْنَا فِي " اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ
الْمُسْتَقِيمِ " نَهْيَ الشَّارِعِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْآدَمِيِّينَ
الَّذِينَ جِنْسُهُمْ نَاقِصٌ كَالتَّشَبُّهِ ؛ بِالْأَعْرَابِ وَبِالْأَعَاجِمِ
وَبِأَهْلِ الْكِتَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فِي أُمُورٍ مِنْ خَصَائِصِهِمْ
وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ
أَنَّ الْمُشَابِهَةَ تُورِثُ مُشَابَهَةَ الْأَخْلَاقِ ؛ وَذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ أَكْثَرَ عِشْرَةَ بَعْضِ الدَّوَابِّ اكْتَسَبَ مِنْ أَخْلَاقِهَا : كَالْكَلَّابِينَ وَالْجَمَّالِينَ . وَذَكَرْنَا مَا فِي النُّصُوصِ مِنْ ذَمِّ أَهْلِ الْجَفَاءِ وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ : أَهْلَ الْإِبِلِ وَمِنْ مَدْحِ أَهْلِ الْغَنَمِ ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ التَّشَبُّهُ بِنَفْسِ الْبَهَائِمِ فِيمَا هِيَ مَذْمُومَةٌ بَلْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَقْتَضِي بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ النَّهْيَ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْبَهَائِمِ مُطْلَقًا فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْمُومًا بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْعُو إلَى فِعْلِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ بِعَيْنِهِ ؛ إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كَوْنَ الشَّخْصِ أَعْرَابِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا خَيْرٌ مِنْ كَوْنِهِ كَلْبًا أَوْ حِمَارًا أَوْ خِنْزِيرًا فَإِذَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ التَّشَبُّهِ بِهَذَا الصِّنْفِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ فِي خَصَائِصِهِ ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ تَشَبُّهًا فِيمَا يَسْتَلْزِمُ النَّقْصَ وَيَدْعُو إلَيْهِ : فَالتَّشَبُّهُ بِالْبَهَائِمِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَذْمُومًا وَمَنْهِيًّا عَنْهُ . " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ مِثْلَ الْبَهَائِمِ مَذْمُومٌ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } . " الْوَجْهُ الثَّالِثُ " : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا شَبَّهَ الْإِنْسَانَ بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ وَنَحْوِهِمَا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُ كَقَوْلِهِ : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }
{ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } الْآيَةَ . وَإِذَا كَانَ التَّشَبُّهُ بِهَا إنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ الْمَذْمُومُ التَّشَبُّهَ بِهَا : فَالْقَاصِدُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَذْمُومًا ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ تَشَبَّهَ بِهَا فِي عَيْنِ مَا ذَمَّهُ الشَّارِعُ : صَارَ مَذْمُومًا مِنْ وَجْهَيْنِ . وَإِنْ كَانَ فِيمَا لَمْ يَذُمُّهُ بِعَيْنِهِ : صَارَ مَذْمُومًا مِنْ جِهَةِ التَّشَبُّهِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْوُقُوعِ فِي الْمَذْمُومِ بِعَيْنِهِ . يُؤَيِّدُ هَذَا : " الْوَجْهُ الرَّابِعُ " وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ ؛ لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ } . وَلِهَذَا يُذْكَرُ : أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَد تَنَاظَرَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ : الْكَلْبُ لَيْسَ بِمُكَلَّفِ . فَقَالَ لَهُ أَحْمَد : لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ . وَهَذِهِ الْحُجَّةُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْمَثَلَ إلَّا لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا شَابَهَ الْكَلْبَ كَانَ مَذْمُومًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْكَلْبُ مَذْمُومًا فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ التَّكْلِيفِ ؛ وَلِهَذَا لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ : { سَاءَ مَثَلًا } أَنَّ التَّمْثِيلَ بِالْكَلْبِ مَثَلُ سَوْءٍ وَالْمُؤْمِنُ مُنَزَّهٌ عَنْ مَثَلِ السَّوْءِ . فَإِذَا كَانَ لَهُ مَثَلُ سَوْءٍ مِنْ الْكَلْبِ كَانَ مَذْمُومًا بِقَدْرِ ذَلِكَ الْمَثَلِ السَّوْءِ . " الْوَجْهُ الْخَامِسُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ } وَقَالَ : { إذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مَنْ فَضْلِهِ وَإِذَا
سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحَمِيرِ فَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَصْوَاتَهَا مُقَارِنَةٌ لِلشَّيَاطِينِ وَأَنَّهَا مُنَفِّرَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشَابِهَ لِلشَّيْءِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ مِنْ أَحْكَامِهِ بِقَدْرِ الْمُشَابَهَةِ فَإِذَا نَبَحَ نِبَاحَهَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ مُقَارَنَةِ الشَّيَاطِينِ وَتَنْفِيرُ الْمَلَائِكَةِ بِحَسَبِهِ . وَمَا يَسْتَدْعِي الشَّيَاطِينَ وَيُنَفِّرُ الْمَلَائِكَةَ : لَا يُبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُبَحْ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ إلَّا لِضَرُورَةِ ؛ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ : كَالصَّيْدِ . أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنْ الْمَاشِيَةِ وَالْحَرْثِ حَتَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ } . " وَبِالْجُمْلَةِ " فَالتَّشَبُّهُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي مِنْ الْحَمْدِ وَالذَّمِّ بِحَسَبِ الشَّبَهِ ؛ لَكِنَّ كَوْنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ غَيْرُ مُكَلَّفٍ لَا يَنْفِي التَّكْلِيفَ عَنْ الْمُتَشَبِّهِ كَمَا لَوْ تَشَبَّهَ بِالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِين . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . " الْوَجْهُ السَّادِسُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ والمتشبهات مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ } وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ الْحَيَوَانِ وَجَعَلَ صَلَاحَهُ وَكَمَالَهُ فِي أَمْرٍ مُشْتَرِكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَبَيْنَ أَمْرٍ مُخْتَصٍّ بِهِ . فَأَمَّا الْأُمُورُ الْمُشْتَرِكَةُ فَلَيْسَتْ مِنْ خَصَائِصِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَوَاقِعِ النَّهْيِ ؛ وَإِنَّمَا مَوَاقِعُ النَّهْيِ الْأُمُورُ الْمُخْتَصَّةُ . فَإِذَا كَانَتْ الْأُمُورُ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ النِّسَاءِ لَيْسَ لِلرِّجَالِ التَّشَبُّهُ بِهِنَّ فِيهَا وَالْأُمُورُ الَّتِي مِنْ خَصَائِصِ الرِّجَالِ لَيْسَ
لِلنِّسَاءِ
التَّشَبُّهُ بِهِمْ فِيهَا :
فَالْأُمُورُ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ الْبَهَائِم
لَا يَجُوزُ لِلْآدَمِيِّ التَّشَبُّهُ بِالْبَهَائِمِ فِيهَا بِطَرِيقِ
الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْحَيَوَانِ قَدْرٌ جَامِعٌ مُشْتَرِكٌ وَقَدْرٌ فَارِقٌ مُخْتَصٌّ ثُمَّ
الْأَمْرُ الْمُشْتَرِكُ : كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ وَالْأَصْوَاتِ
وَالْحَرَكَاتِ ؛ لَمَّا اقْتَرَنَتْ بِالْوَصْفِ الْمُخْتَصِّ كَانَ
لِلْإِنْسَانِ فِيهَا أَحْكَامٌ تَخُصُّهُ ؛ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِمَا
يَفْعَلُهُ الْحَيَوَانُ فِيهَا
. فَالْأُمُورُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ أَوْلَى ؛ مَعَ
أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا مُشْتَرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ؛ وَلَكِنْ فِيهِ
أَوْصَافٌ تُشْبِهُ أَوْصَافَهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . وَالْقَدْرُ
الْمُشْتَرِكُ إنَّمَا وُجُودُهُ فِي الذِّهْنِ ؛ لَا فِي الْخَارِجِ . وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ فَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ الْإِنْسَانَ مُخَالِفًا
بِالْحَقِيقَةِ لِلْحَيَوَانِ وَجَعَلَ كَمَالِهِ وَصَلَاحَهُ فِي الْأُمُورِ
الَّتِي تُنَاسِبُهُ وَهِيَ جَمِيعُهَا لَا يُمَاثِلُ فَهَا الْحَيَوَانَ ؛
فَإِذَا تَعَمَّدَ مُمَاثَلَةَ الْحَيَوَانِ وَتَغْيِيرَ خَلْقِ اللَّهِ : فَقَدْ
دَخَلَ فِي فَسَادِ الْفِطْرَةِ وَالشِّرْعَةِ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ قَوْلُهُ : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ
حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } يَقْتَضِي وُجُوبَ طَاعَتِهَا
لِزَوْجِهَا مُطْلَقًا : مِنْ خِدْمَةٍ وَسَفَرٍ مَعَهُ وَتَمْكِينٍ لَهُ وَغَيْرِ
ذَلِكَ كَمَا
دَلَّتْ
عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ
" الْجَبَلِ الْأَحْمَرِ " وَفِي " السُّجُودِ " وَغَيْرِ
ذَلِكَ ؛ كَمَا تَجِبُ طَاعَةُ الْأَبَوَيْنِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ طَاعَةٍ كَانَتْ
لِلْوَالِدَيْنِ انْتَقَلَتْ إلَى الزَّوْجِ ؛ وَلَمْ يَبْقَ لِلْأَبَوَيْنِ
عَلَيْهَا طَاعَةٌ : تِلْكَ وَجَبَتْ بِالْأَرْحَامِ وَهَذِهِ وَجَبَتْ
بِالْعُهُودِ كَمَا سَنُقَرِّرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ
الْعَظِيمَيْنِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ وَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ
وَالِدَيْهَا . فَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ : بِرُّهَا لِوَالِدَيْهَا أَوْ مُطَاوَعَةُ
زَوْجِهَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْمَرْأَةُ
إذَا تَزَوَّجَتْ كَانَ زَوْجُهَا أَمْلَكَ بِهَا مِنْ أَبَوَيْهَا وَطَاعَةُ
زَوْجِهَا عَلَيْهَا أَوْجَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَالصَّالِحَاتُ
قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الدُّنْيَا
مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ؛ إذَا نَظَرْت إلَيْهَا
سَرَّتْك وَإِذَا أَمَرْتهَا أَطَاعَتْك وَإِذَا غِبْت عَنْهَا حَفِظَتْك فِي
نَفْسِهَا وَمَالِك } . وَفِي صَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا صَلَّتْ
الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَصَّنَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ
بَعْلَهَا دَخَلَتْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ } وَفِي
التِّرْمِذِيِّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا رَاضٍ عَنْهَا
دَخَلَتْ
الْجَنَّةَ } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ كُنْت آمِرًا لِأَحَدِ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا } أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ : { لَأَمَرْت النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ الْحُقُوقِ } وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَصْلُحُ لِبَشَرِ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرِ وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرِ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا ؛ مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةٌ تَجْرِي بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحِسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ } وَفِي الْمُسْنَدِ وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَه عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ وَمِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ : لَكَانَ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ } أَيْ لَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تَفْعَلَ . وَكَذَلِكَ فِي الْمُسْنَدِ وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَه وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : { لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا هَذَا يَا مُعَاذُ ؟ قَالَ : أَتَيْت الشَّامَ فَوَجَدْتهمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ فَوَدِدْت فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِك يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ فَإِنِّي لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَأَمَرْت
الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا ؛ وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ } وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا رَجُلٍ دَعَا زَوْجَتَهُ لِحَاجَتِهِ فَلْتَأْتِهِ وَلَوْ كَانَتْ عَلَى التَّنُّورِ } رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ فَبَاتَ غضبانا عَلَيْهَا : لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ } . وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : الزَّوْجُ سَيِّدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : النِّكَاحُ رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ } فَالْمَرْأَةُ عِنْدَ زَوْجِهَا تُشْبِهُ الرَّقِيقَ وَالْأَسِيرَ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ سَوَاءٌ أَمَرَهَا أَبُوهَا أَوْ أُمُّهَا أَوْ غَيْرُ أَبَوَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَكَانٍ آخَرَ مَعَ قِيَامِهِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَحِفْظِ حُدُودِ اللَّهِ فِيهَا وَنَهَاهَا أَبُوهَا عَنْ طَاعَتِهِ فِي ذَلِكَ : فَعَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَ زَوْجَهَا دُونَ أَبَوَيْهَا ؛ فَإِنَّ الْأَبَوَيْنِ هُمَا ظَالِمَانِ ؛ لَيْسَ لَهَا أَنْ يَنْهَيَاهَا عَنْ طَاعَةِ مِثْلِ هَذَا الزَّوْجِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطِيعَ أُمَّهَا فِيمَا تَأْمُرُهَا بِهِ مِنْ الِاخْتِلَاعِ مِنْهُ أَوْ مضاجرته حَتَّى يُطَلِّقَهَا : مِثْلَ أَنْ تُطَالِبَهُ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالصَّدَاقِ بِمَا
تَطْلُبُهُ
لِيُطَلِّقَهَا فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ وَاحِدًا مِنْ أَبَوَيْهَا فِي
طَلَاقِهِ إذَا كَانَ مُتَّقِيًا لِلَّهِ فِيهَا . فَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ
وَصَحِيحِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ثوبان قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ
مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ } وَفِي حَدِيثٍ
آخَرَ { الْمُخْتَلِعَاتُ وَالْمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ }
وَأَمَّا إذَا أَمَرَهَا أَبَوَاهَا أَوْ أَحَدُهُمَا بِمَا فِيهِ طَاعَةُ اللَّهِ
: مِثْلَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ
الْأَمَانَةِ وَنَهْيِهَا عَنْ تَبْذِيرِ مَالِهَا وَإِضَاعَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ نَهَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ :
فَعَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَهُمَا فِي ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مِنْ غَيْرِ
أَبَوَيْهَا . فَكَيْفَ إذَا كَانَ مِنْ أَبَوَيْهَا وَإِذَا نَهَاهَا
الزَّوْجُ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ أَوْ أَمَرَهَا بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ :
لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطِيعَهُ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ
الْخَالِقِ } بَلْ الْمَالِكُ لَوْ أَمَرَ مَمْلُوكَهُ بِمَا فِيهِ مَعْصِيَةٌ
لِلَّهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُطِيعَهُ فِي مَعْصِيَةٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ
تُطِيعَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا أَوْ أَحَدَ أَبَوَيْهَا فِي مَعْصِيَةٍ فَإِنَّ
الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالشَّرَّ كُلَّهُ فِي
مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ أَسْكَنَهَا بَيْن نَاسٍ مناجيس
وَهُوَ يَخْرُجُ بِهَا إلَى الْفُرُجِ وَإِلَى أَمَاكِنِ الْفَسَادِ وَيُعَاشِرُ
مُفْسِدِينَ . فَإِذَا قِيلَ لَهُ : انْتَقِلْ مِنْ هَذَا الْمَسْكَنِ السُّوءِ .
فَيَقُولُ : أَنَا زَوْجُهَا وَلِي الْحُكْمُ فِي امْرَأَتِي وَلِي السُّكْنَى .
فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَيْسَ لَهُ
أَنْ يُسْكِنَهَا حَيْثُ شَاءَ وَلَا يُخْرِجَهَا إلَى حَيْثُ شَاءَ ؛ بَلْ
يَسْكُنُ بِهَا فِي مَسْكَنٍ يَصْلُحُ لِمِثْلِهَا وَلَا يَخْرُجُ بِهَا عِنْدَ
أَهْلِ الْفُجُورِ ؛ بَلْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَاشِرَ الْفُجَّارَ عَلَى
فُجُورِهِمْ وَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَتَيْنِ :
عُقُوبَةٌ عَلَى فُجُورِهِ بِحَسَبِ مَا فَعَلَ وَعُقُوبَةٌ عَلَى تَرْكِ
صِيَانَةِ زَوْجَتِهِ وَإِخْرَاجِهَا إلَى أَمَاكِنِ الْفُجُورِ . فَيُعَاقَبُ
عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا " إتْيَانُ النِّسَاءُ فِي أَدْبَارِهِنَّ
" فَهَذَا مُحَرَّمٌ عِنْدَ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ كَمَا ثَبَتَ
ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ بِالرُّخْصَةِ فِيهِ : فَمِنْ النَّاسِ مَنْ
يَحْكِيهِ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَنَافِعٌ
نَقَلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ } قَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي إتْيَانِ النِّسَاءِ فِي
أَدْبَارِهِنَّ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ غَلَّطَ نَافِعٌ عَلَى ابْنِ
عُمَرَ أَوْ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَهُ ؛ وَكَانَ مُرَادُهُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
إتْيَانِ النِّسَاءِ مِنْ جِهَةِ الدُّبُرِ فِي الْقُبُلِ ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ
نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَانَتْ
الْيَهُودُ
تَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَتَقُولُ : إذَا أَتَى الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فِي قُبُلِهَا
مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ .
" وَالْحَرْثُ " مَوْضِعُ الْوَلَدِ ؛ وَهُوَ الْقُبُلُ . فَرَخَّصَ اللَّهُ
لِلرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ الْمَرْأَةَ فِي قُبُلِهَا مِنْ أَيِّ الْجِهَاتِ شَاءَ .
وَكَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَقُولُ : كَذَبَ الْعَبْدُ
عَلَى أَبِي . وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي غَلَطَ نَافِعٍ عَلَى ابْنِ عُمَرَ ؛
فَإِنَّ الْكَذِبَ كَانُوا يُطْلِقُونَهُ بِإِزَاءِ الْخَطَأِ ؛ كَقَوْلِ عبادة :
كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ . لَمَّا قَالَ : الْوِتْرُ وَاجِبٌ . وَكَقَوْلِ ابْنِ
عَبَّاسٍ : كَذَبَ نَوْفٌ : لَمَّا قَالَ لِمَا صَاحَبَ الْخَضِرَ لَيْسَ مُوسَى
بَنِي إسْرَائِيلَ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : ابْنُ عُمَرَ هُوَ الَّذِي
غَلِطَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ ؛ لَكِنْ
نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ . أَوَيَفْعَلُ هَذَا مُسْلِمٌ لَكِنْ
بِكُلِّ حَالٍ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَا فَسَّرَهَا بِهِ الصَّحَابَةُ
وَالتَّابِعُونَ وَسَبَبُ النُّزُولِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يَنْكِحُ زَوْجَتَهُ فِي دُبُرِهَا .
أَحَلَالٌ هُوَ أَمْ حَرَامٌ ؟
فَأَجَابَ
:
" وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا " حَرَامٌ
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ بَلْ
هُوَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ
لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي
أَدْبَارِهِنَّ
} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
{ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ } " وَالْحَرْثُ " هُوَ مَوْضِعُ الْوَلَدِ ؛ فَإِنَّ
الْحَرْثَ هُوَ مَحَلُّ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ . وَكَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ :
إذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ؛ وَأَبَاحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتِيَ
امْرَأَتَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهَا ؛ لَكِنْ فِي الْفَرْجِ خَاصَّةً . وَمَتَى
وَطِئَهَا فِي الدُّبُرِ وَطَاوَعَتْهُ عُزِّرَا جَمْعِيًّا ؛ فَإِنْ لَمْ
يَنْتَهِيَا وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ؛ كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ
الْفَاجِرِ وَمَنْ يَفْجُرُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّا يَجِبُ عَلَى مَنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فِي
دُبُرِهَا ؟ وَهَلْ أَبَاحَهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، "
الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ "
حَرَامٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى ذَلِكَ عَامَّةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ :
مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي
كِتَابِهِ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ
إذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ الْوَلَدُ
أَحْوَلَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } و " الْحَرْثُ " مَوْضِعُ
الزَّرْعِ . وَالْوَلَدُ إنَّمَا يُزْرَعُ فِي الْفَرْجِ لَا فِي الدُّبُرِ { فَأْتُوا
حَرْثَكُمْ } وَهُوَ مَوْضِعُ الْوَلَدِ . { أَنَّى شِئْتُمْ } أَيْ مِنْ أَيْنَ
شِئْتُمْ : مِنْ قُبُلِهَا وَمِنْ دُبُرِهَا وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ شِمَالِهَا . فَاَللَّهُ
تَعَالَى سَمَّى النِّسَاءَ حَرْثًا ؛ وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِي إتْيَانِ الحروث
وَالْحَرْثُ إنَّمَا يَكُونُ
فِي الْفَرْجِ . وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ أَثَرٍ : أَنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ هُوَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي حُشُوشِهِنَّ } " و " الْحُشُّ " هُوَ الدُّبُرُ وَهُوَ مَوْضِعُ الْقَذَرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ إتْيَانُ الْحَائِضِ مَعَ أَنَّ النَّجَاسَةَ عَارِضَةٌ فِي فَرْجِهَا فَكَيْفَ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ : و " أَيْضًا " فَهَذَا مِنْ جِنْسِ اللِّوَاطِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَصْحَابِهِ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ ؛ لَكِنْ حَكَى بَعْضُ النَّاسِ عَنْهُمْ رِوَايَةً أُخْرَى بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَطَعَنَ فِيهَا . وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ كَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُكَذِّبُ نَافِعًا فِي ذَلِكَ . فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَافِعٌ غَلِطَ أَوْ غَلِطَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ . فَإِذَا غَلِطَ بَعْضُ النَّاسِ غَلْطَةً لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُسَوِّغُ خِلَافَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا أَنَّ طَائِفَةً غَلِطُوا فِي إبَاحَةِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ غَلِطُوا فِي أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ . وَلَمَّا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ؛ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } وَأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَنْبِذَةِ فَقَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَجَبَ اتِّبَاعُ هَذِهِ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ . وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الشَّرِيعَةِ . وَمَنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا وَجَبَ أَنْ يُعَاقَبَا عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَزْجُرُهُمَا فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمَا لَا يَنْزَجِرَانِ فَإِنَّهُ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِامْرَأَتَيْنِ وَإِحْدَاهُمَا
يُحِبُّهَا وَيَكْسُوهَا وَيُعْطِيهَا وَيَجْتَمِعُ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ
صَاحِبَتِهَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَ
الزَّوْجَتَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى جَاءَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ } . فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ فِي
الْقَسْمِ . فَإِذَا بَاتَ عِنْدَهَا لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا بَاتَ
عِنْدَ الْأُخْرَى بِقَدْرِ ذَلِكَ وَلَا يُفَضِّلُ إحْدَاهُمَا فِي الْقَسْمِ ؛
لَكِنْ إنْ كَانَ يُحِبُّهَا أَكْثَرَ وَيَطَؤُهَا أَكْثَرَ : فَهَذَا لَا حَرَجَ
عَلَيْهِ فِيهِ ؛ وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أَيْ : فِي الْحُبِّ
وَالْجِمَاعِ وَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ وَيَعْدِلُ فَيَقُولُ : هَذَا قَسْمِي
فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ } يَعْنِي : الْقَلْبَ .
وَأَمَّا
الْعَدْلُ فِي "
النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ " فَهُوَ السُّنَّةُ
أَيْضًا اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ
كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فِي النَّفَقَةِ ؛ كَمَا كَانَ يَعْدِلُ فِي
الْقِسْمَةِ ؛ مَعَ تَنَازُعِ النَّاسِ فِي الْقَسْمِ : هَلْ كَانَ وَاجِبًا
عَلَيْهِ ؟ أَوْ مُسْتَحَبًّا لَهُ ؟ وَتَنَازَعُوا فِي الْعَدْلِ فِي النَّفَقَةِ
: هَلْ هُوَ وَاجِبٌ ؟ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَوُجُوبُهُ أَقْوَى وَأَشْبَهُ
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَهَذَا الْعَدْلُ مَأْمُورٌ لَهُ مَا دَامَتْ
زَوْجَةً ؛ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ إحْدَاهُمَا فَلَهُ ذَلِكَ فَإِنْ
اصْطَلَحَ هُوَ وَاَلَّتِي يُرِيدُ طَلَاقَهَا عَلَى أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهُ بِلَا
قَسْمٍ وَهِيَ رَاضِيَةٌ بِذَلِكَ جَازَ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنِ
امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } وَفِي
الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمَرْأَةِ
تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَتَطُولُ صُحْبَتُهَا فَيُرِيدُ طَلَاقَهَا ؛ فَتَقُولُ
: لَا تُطَلِّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ يَوْمِي : فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ . وَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ سَوْدَةَ فَوَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ فَأَمْسَكَهَا
بِلَا قِسْمَةٍ } وَكَذَلِكَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ جَرَى لَهُ نَحْوُ ذَلِكَ
وَيُقَالُ إنَّ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ فِيهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ ؛ وَيُفَضِّلُ
إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فِي النَّفَقَةِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ حَتَّى إنَّهُ
هَجَرَهَا : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ
: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يُفَضِّلَ إحْدَاهُمَا فِي الْقَسْمِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى
إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ مِنْ الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ
مَائِلٌ } . وَإِنْ لَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا : فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفِ ؛
وَإِمَّا أَنْ يُسَرِّحَ بِإِحْسَانِ
. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ إذَا صَبَرَ عَلَى زَوْجَتِهِ الشَّهْرَ
وَالشَّهْرَيْنِ لَا يَطَؤُهَا : فَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ
يُطَالَبُ الزَّوْجُ بِذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ
بِالْمَعْرُوفِ ؛ وَهُوَ مِنْ أَوْكَدِ حَقِّهَا عَلَيْهِ : أَعْظَمُ مِنْ
إطْعَامِهَا . " وَالْوَطْءُ الْوَاجِبُ " قِيلَ : إنَّهُ وَاجِبٌ فِي
كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مُرَّةً .
وَقِيلَ : بِقَدَرِ حَاجَتِهَا وَقُدْرَتِهِ ؛ كَمَا
يُطْعِمُهَا بِقَدَرِ حَاجَتِهَا وَقُدْرَتِهِ . وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : (*)
عَنْ امْرَأَةٍ تَضَعُ مَعَهَا دَوَاءً عِنْدَ
الْمُجَامَعَةِ ؛ تَمْنَعُ بِذَلِكَ نُفُوذَ الْمَنِيِّ فِي مَجَارِي الْحَبَلِ :
فَهَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ حَلَالٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ إذَا بَقِيَ ذَلِكَ الدَّوَاءُ
مَعَهَا بَعْدَ الْجِمَاعِ وَلَمْ يَخْرُجْ . يَجُوزُ لَهَا الصَّلَاةُ
وَالصَّوْمُ بَعْدَ الْغُسْلِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا صَوْمُهَا وَصَلَاتُهَا فَصَحِيحَةٌ وَإِنْ كَانَ
ذَلِكَ الدَّوَاءُ فِي جَوْفِهَا . وَأَمَّا جَوَازُ ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ
بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَحْوَطُ : أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا إذَا نَظَرَ الرَّجُلُ إلَى جَمِيعِ بَدَنِ
امْرَأَتِهِ وَلَمَسَهُ حَتَّى الْفَرْجَ : عَلَيْهِ شَيْءٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ النَّظَرُ إلَى شَيْءٍ
مِنْ بَدَنِ امْرَأَتِهِ وَلَا لَمْسُهُ لَكِنْ يُكْرَهُ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ
. وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ . وَقِيلَ : لَا يُكْرَهُ إلَّا عِنْدَ الْوَطْءِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ مُطَلَّقَةٍ وَهِيَ تُرْضِعُ ، وَقَدْ
آجَرَتْ لَبَنَهَا ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ : فَهَلْ
لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى زَوْجِهَا خَشْيَةَ أَنْ
تَحْمِلَ مِنْهُ فَيَقِلَّ اللَّبَنُ عَلَى الْوَلَدِ ؟
فَأَجَابَ
:
أَمَّا مُجَرَّدُ الشَّكِّ فَلَا يُمْنَعُ الزَّوْجُ مَا
يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْوَطْءِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَنْهَى عَنْ
ذَلِكَ
ثُمَّ ذَكَرْت أَنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ
أَوْلَادَهُمْ } فَقَدْ أُخْبِرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ
يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ الْأَوْلَادَ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ . وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مَنْعُ الزَّوْجِ حَقَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ
مَنْعُ الْحَقِّ السَّابِقِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْأَبِ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ أُجْرَةِ الرَّضَاعِ
: فَهَلْ لَهُ إذَا امْتَنَعَتْ الْأُمُّ عَنْ الْإِرْضَاعِ إلَّا بِأُجْرَةِ أَنْ
يَسْتَرْضِعَ غَيْرَهَا ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَا يَقْدِرُ
عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ شَيْخ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ : الزَّوْجَةُ
وَالْقِطُّ وَالنَّمْلُ : الزَّوْجَةُ تُرْضِعُ مَنْ لَيْسَ وَلَدَهَا وَتُنَكِّدُ
عَلَيْهِ حَالَهُ وَفِرَاشَهُ بِذَلِكَ وَالْقِطُّ يَأْكُلُ الْفَرَارِيجَ
وَالنَّمْلُ يَدِبُّ فِي الطَّعَامِ : فَهَلْ لَهُمْ حَرْقُ بُيُوتِهِمْ
بِالنَّارِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ قَتْلُ الْقِطِّ ؟ وَهَلْ لَهُ
مَنْعُ الزَّوْجَةِ مِنْ إرْضَاعِهَا ؟
فَأَجَابَ
:
لَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُرْضِعَ غَيْرَ وَلَدِهَا
إلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ . وَالْقِطُّ إذَا صَالَ عَلَى مَالِهِ : فَلَهُ دَفْعُهُ عَنْ
الصَّوْلِ وَلَوْ بِالْقَتْلِ وَلَهُ أَنْ يَرْمِيَهُ بِمَكَانِ بَعِيدٍ ؛ فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ دَفْعُ ضَرَرِهِ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ . وَأَمَّا النَّمْلُ :
فَيُدْفَعُ ضَرَرُهُ بِغَيْرِ التَّحْرِيقِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
النُّشُوزِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ
اللَّيْلَ وَكُلَّمَا دَعَاهَا الرَّجُلُ إلَى فِرَاشِهِ تَأْبَى عَلَيْهِ
وَتُقَدِّمُ صَلَاةَ اللَّيْلِ وَصِيَامَ النَّهَارِ عَلَى طَاعَةِ الزَّوْجِ :
فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛
بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ تُطِيعَهُ إذَا طَلَبَهَا إلَى الْفِرَاشِ وَذَلِكَ
فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَيْهَا . وَأَمَّا قِيَامُ اللَّيْلِ وَصِيَامُ النَّهَارِ فَتَطَوُّعٌ
: فَكَيْفَ تُقَدِّمُ مُؤْمِنَةٌ النَّافِلَةَ عَلَى الْفَرِيضَةِ حَتَّى قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا
شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ }
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُمَا وَلَفْظُهُمْ : { لَا
تَصُومُ امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ إلَّا
بِإِذْنِهِ } فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
حَرَّمَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا إذَا كَانَ زَوْجُهَا شَاهِدًا
إلَّا بِإِذْنِهِ فَتَمْنَعُ بِالصَّوْمِ بَعْضَ مَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهَا :
فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهَا إذَا طَلَبَهَا فَامْتَنَعَتْ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا دَعَا الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ } وَفِي لَفْظٍ : { إلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى تُصْبِحَ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } فَالْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ " قَانِتَةً " أَيْ مُدَاوِمَةً عَلَى طَاعَةِ زَوْجِهَا . فَمَتَى امْتَنَعَتْ عَنْ إجَابَتِهِ إلَى الْفِرَاشِ كَانَتْ عَاصِيَةً نَاشِزَةً وَكَانَ ذَلِكَ يُبِيحُ لَهُ ضَرْبَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ حَقِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْجَبَ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ ؛ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ كُنْت آمِرًا لِأَحَدِ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا ؛ لِعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا } وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لَهُ : إنَّ الرِّجَالَ يُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَفْعَلُونَ وَنَحْنُ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ . فَقَالَ . حُسْنُ فِعْلِ إحْدَاكُنَّ يَعْدِلُ ذَلِكَ } أَيْ : أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَحْسَنَتْ مُعَاشَرَةَ بَعْلِهَا كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِرِضَا اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ لَهَا ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْمَلَ مَا يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ وَقَالَ :
لَأَهْجُرَنك إنْ كُنْت مَا تُصَلِّينَ فَامْتَنَعَتْ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَمْ
تُصَلِّ وَهَجَرَ الرَّجُلُ فِرَاشَهَا . فَهَلْ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةٌ
أَمْ لَا ؟ وَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهَا إذَا تَرَكَتْ الصَّلَاةَ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ الصَّلَاةِ
فَإِنَّهَا تُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ . وَهَجْرُ الرَّجُلِ
عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَلَا نَفَقَةَ لَهَا إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ تَمْكِينِهِ إلَّا مَعَ تَرْكِ
الصَّلَاةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ لَهُ زَوْجَةٌ لَا تُصَلِّي : هَلْ يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهَا بِالصَّلَاةِ ؟ وَإِذَا لَمْ تَفْعَلْ : هَلْ يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهَا بِالصَّلَاةِ وَيَجِبُ
عَلَيْهِ ذَلِكَ . بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ كُلَّ مَنْ
يَقْدِرُ عَلَى أَمْرِهِ بِهِ إذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ بِذَلِكَ وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى
: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } الْآيَةَ . وَقَالَ
تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } الْآيَةَ . وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { عَلِّمُوهُمْ وَأَدِّبُوهُمْ } . وَيَنْبَغِي مَعَ ذَلِكَ
الْأَمْرِ أَنْ يَحُضَّهَا عَلَى ذَلِكَ بِالرَّغْبَةِ كَمَا يَحُضُّهَا عَلَى مَا
يَحْتَاجُ إلَيْهَا فَإِنْ أَصَرَّتْ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ
يُطَلِّقَهَا وَذَلِكَ وَاجِبٌ فِي الصَّحِيحِ . وَتَارِكُ الصَّلَاةِ مُسْتَحِقٌّ
لِلْعُقُوبَةِ حَتَّى يُصَلِّيَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ إذَا لَمْ يُصَلِّ
قُتِلَ . وَهُوَ يُقْتَلُ كَافِرًا مُرْتَدًّا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ
نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ }
وَفِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } إلَى قَوْله تَعَالَى {
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } . يُبَيِّنُ لَنَا شَيْخُنَا هَذَا
النُّشُوزَ مِنْ ذَاكَ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، "
النُّشُوزُ " فِي قَوْله تَعَالَى { تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } هُوَ أَنْ تَنْشُزَ عَنْ زَوْجِهَا فَتَنْفِرُ
عَنْهُ بِحَيْثُ لَا تُطِيعُهُ إذَا دَعَاهَا لِلْفِرَاشِ أَوْ تَخْرُجُ مِنْ
مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ امْتِنَاعٌ عَمَّا
يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ طَاعَتِهِ
.
وَأَمَّا
" النُّشُوزُ " فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا
فَانْشُزُوا } فَهُوَ النُّهُوضُ وَالْقِيَامُ وَالِارْتِفَاعُ . وَأَصْلُ هَذِهِ
الْمَادَّةِ هُوَ الِارْتِفَاعُ وَالْغِلَظُ وَمِنْهُ النَّشْرُ مِنْ الْأَرْضِ
وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الْغَلِيظُ . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {
وَانْظُرْ إلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا } أَيْ نَرْفَعُ بَعْضَهَا إلَى
بَعْضٍ . وَمَنْ قَرَأَ ننشزها أَرَادَ نُحْيِيهَا . فَسَمَّى الْمَرْأَةَ
الْعَاصِيَةَ نَاشِزًا لِمَا فِيهَا مِنْ الْغِلَظِ وَالِارْتِفَاعِ عَنْ طَاعَةِ
زَوْجِهَا وَسُمِّيَ النُّهُوضُ نُشُوزًا لِأَنَّ الْقَاعِدَ يَرْتَفِعُ مِنْ
الْأَرْضِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَهِيَ نَاشِزٌ تَمْنَعُهُ
نَفْسَهَا : فَهَلْ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا وَكُسْوَتُهَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا وَكُسْوَتُهَا
إذَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ نَفْسِهَا وَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا إذَا أَصَرَّتْ
عَلَى النُّشُوزِ . وَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ إذَا
طَالَبَهَا بِهِ ؛ بَلْ هِيَ عَاصِيَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِي الصَّحِيحِ : {
إذَا طَلَبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ عَلَيْهِ كَانَ
الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى تُصْبِحَ } .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ امْرَأَةٌ وَقَدْ نَشَزَتْ عَنْهُ فِي
بَيْتِ أَبِيهَا مِنْ مُدَّةِ ثَمَانِيَةِ شُهُورٍ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا نَشَزَتْ عَنْهُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَهُ أَنْ
يَضْرِبَهَا إذَا نَشَزَتْ ؛ أَوْ آذَتْهُ أَوْ اعْتَدَتْ عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ إذَا مَنَعَتْهُ مِنْ
نَفْسِهَا إذَا طَلَبَهَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَحِلُّ لَهَا النُّشُوزُ
عَنْهُ وَلَا تَمْنَعُ نَفْسَهَا مِنْهُ ؛ بَلْ إذَا امْتَنَعَتْ مِنْهُ
وَأَصَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا
تَسْتَحِقُّ نَفَقَةً وَلَا قَسْمًا
.
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَدَخَلَ بِهَا وَهُوَ
مُسْتَمِرٌّ فِي النَّفَقَةِ وَهِيَ نَاشِزٌ . ثُمَّ إنَّ وَالِدَهَا أَخَذَهَا
وَسَافَرَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ . فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا سَافَرَ بِهَا بِغَيْرِ إذْنِ
الزَّوْجِ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ . وَتُعَزَّرُ الزَّوْجَةُ إذَا كَانَ
التَّخَلُّفُ يُمْكِنُهَا ؛ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا مِنْ حِينِ سَافَرَتْ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : (*)
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ مُدَّةِ إحْدَى
عَشْرَةَ سَنَةً وَأَحْسَنَتْ الْعِشْرَةَ مَعَهُ وَفِي هَذَا الزَّمَانِ تَأْبَى
الْعِشْرَةَ مَعَهُ وتناشزه : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْشُزَ عَلَيْهِ وَلَا
تَمْنَعَ نَفْسَهَا فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ إلَّا
كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى تُصْبِحَ } فَإِذَا
أَصَرَّتْ عَلَى النُّشُوزِ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ
لَا تَقُومُ بِمَا يَجِبُ لِلرَّجُلِ عَلَيْهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ
يُطَلِّقَهَا وَيُعْطِيَهَا الصَّدَاقَ ؛ بَلْ هِيَ الَّتِي تَفْتَدِي نَفْسَهَا
مِنْهُ فَتَبْذُلُ صَدَاقَهَا لِيُفَارِقَهَا كَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَنْ
يُعْطِيَ صَدَاقَهَا فَيُفَارِقَهَا } . وَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا بِالصَّدَاقِ
لَمْ تَجُزْ مُطَالَبَتُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مَا يَنْتَفِعُ بِهَا
وَلَا تُطَاوِعُهُ فِي أَمْرٍ وَتَطْلُبُ مِنْهُ نَفَقَةً وَكُسْوَةً وَقَدْ
ضَيَّقَتْ عَلَيْهِ أُمُورَهُ : فَهَلْ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ نَفَقَةً وَكُسْوَةً
؟
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ نَفْسِهَا أَوْ خَرَجَتْ
مِنْ دَارِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كُسْوَةَ وَكَذَلِكَ
إذَا طَلَبَ مِنْهَا أَنْ تُسَافِرَ مَعَهُ فَلَمْ تَفْعَلْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا
وَلَا كُسْوَةَ فَحَيْثُ كَانَتْ نَاشِزًا عَاصِيَةً لَهُ فِيمَا يَجِبُ لَهُ
عَلَيْهَا مِنْ طَاعَتِهِ : لَمْ يَجِبْ لَهَا نَفَقَةٌ وَلَا كُسْوَةٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ بِرَجُلِ وَلَهَا
أَقَارِبُ كُلَّمَا أَرَادَتْ أَنْ تَزُورَهُمْ أَخَذَتْ الْفِرَاشَ وَتَقْعُدُ
عِنْدَهُمْ عَشَرَة أَيَّامٍ وَأَكْثَرَ وَقَدْ قَرُبَتْ وِلَادَتُهَا وَمَتَى
وَلَدَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَجِيءَ إلَى بَيْتِهَا إلَّا بَعْدَ
أَيَّامٍ وَيَبْقَى الزَّوْجُ بَرْدَانَ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُخَلُّوهَا
تَلِدُ عِنْدَهُمْ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا
إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَأْخُذَهَا إلَيْهِ وَيَحْبِسَهَا
عَنْ زَوْجِهَا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا مُرْضِعًا أَوْ لِكَوْنِهَا
قَابِلَةً أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّنَاعَاتِ وَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ
زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَتْ نَاشِزَةً عَاصِيَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛
وَمُسْتَحِقَّةً لِلْعُقُوبَةِ
.
بَابُ
الْخُلْعِ
وَسُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
مَا هُوَ الْخُلْعُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ ؟
فَأَجَابَ
:
الْخُلْعُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كَارِهَةً لِلزَّوْجِ تُرِيدُ فِرَاقَهُ فَتُعْطِيهِ
الصَّدَاقَ أَوْ بَعْضَهُ فِدَاءَ نَفْسِهَا كَمَا يُفْتَدَى الْأَسِيرُ وَأَمَّا
إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُرِيدًا لِصَاحِبِهِ فَهَذَا الْخُلْعُ مُحْدَثٌ فِي
الْإِسْلَامِ . وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا كَانَتْ مُبْغِضَةً لَهُ
مُخْتَارَةً لِفِرَاقِهِ فَإِنَّهَا تَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ فَتَرُدُّ إلَيْهِ
مَا أَخَذَتْهُ مِنْ الصَّدَاقِ وَتُبْرِيهِ مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ وَيَخْلَعُهَا
كَمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ مُبْغِضَةٍ لِزَوْجِهَا طَلَبَتْ
الِانْخِلَاعَ مِنْهُ وَقَالَتْ لَهُ : إنْ لَمْ تُفَارِقْنِي وَإِلَّا قَتَلْت
نَفْسِي فَأَكْرَهَهُ الْوَلِيُّ عَلَى الْفُرْقَةِ وَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَقَدْ
طَلَبَهَا الْأَوَّلُ وَقَالَ :
إنَّهُ فَارَقَهَا مُكْرَهًا وَهِيَ لَا تُرِيدُ إلَّا
الثَّانِيَ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ أُكْرِهَ عَلَى
الْفُرْقَةِ بِحَقِّ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مُقَصِّرًا فِي وَاجِبَاتِهَا أَوْ
مُضِرًّا لَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ كَانَتْ الْفُرْقَةُ
صَحِيحَةً وَالنِّكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا وَهِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي . وَإِنْ
كَانَ أُكْرِهَ بِالضَّرْبِ أَوْ الْحَبْسِ وَهُوَ مُحْسِنٌ لِعِشْرَتِهَا حَتَّى
فَارَقَهَا لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بَلْ إذَا أَبْغَضَتْهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ
إلَيْهَا فَإِنَّهُ يُطْلَبُ مِنْهُ الْفُرْقَةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزَمَ
بِذَلِكَ فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا أُمِرَتْ الْمَرْأَةُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ إذَا
لَمْ يَكُنْ مَا يُبِيحُ الْفَسْخَ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ اتَّهَمَ زَوْجَتَهُ بِفَاحِشَةٍ ؛ بِحَيْثُ
إنَّهُ لَمْ يَرَ عِنْدَهَا مَا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ إلَّا [ أَنَّهُ ] (1) ادَّعَى
أَنَّهُ أَرْسَلَهَا إلَى عُرْسٍ ثُمَّ تَجَسَّسَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْهَا فِي
الْعُرْسِ فَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ ثُمَّ إنَّهُ أَتَى إلَى أَوْلِيَائِهَا وَذَكَرَ
لَهُمْ الْوَاقِعَةَ فَاسْتَدْعَوْا بِهَا لِتُقَابِلَ زَوْجَهَا عَلَى مَا ذُكِرَ
فَامْتَنَعَتْ خَوْفًا مِنْ الضَّرْبِ ؛ فَخَرَجَتْ إلَى بَيْتِ خَالِهَا ثُمَّ إنَّ
الزَّوْجَ بَعْدَ ذَلِكَ جَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَنَدًا فِي إبْطَالِ حَقِّهَا ؛ وَادَّعَى
أَنَّهَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ : فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِحَقِّهَا
؟ وَالْإِنْكَارُ الَّذِي أَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ يَسْتَوْجِبُ إنْكَارًا فِي
الشَّرْعِ ؟
فَأَجَابَ
:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْضُلَ الْمَرْأَةَ :
بِأَنْ يَمْنَعَهَا وَيُضَيِّقَ عَلَيْهَا
حَتَّى تُعْطِيَهُ بَعْضَ الصَّدَاقِ وَلَا أَنْ يَضْرِبَهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ إذَا أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْضُلَهَا لِتَفْتَدِي مِنْهُ ؛ وَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا . هَذَا فِيمَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ اللَّهِ . وَأَمَّا " أَهْلُ الْمَرْأَةِ " فَيَكْشِفُونَ الْحَقَّ مَعَ مَنْ هُوَ فَيُعِينُونَهُ عَلَيْهِ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَعَدَّتْ حُدُودَ اللَّهِ وَآذَتْ الزَّوْجَ فِي فِرَاشِهِ : فَهِيَ ظَالِمَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ فَلْتَفْتَدِ مِنْهُ . وَإِذَا قَالَ : إنَّهُ أَرْسَلَهَا إلَى عُرْسٍ وَلَمْ تَذْهَبْ إلَى الْعُرْسِ فَلْيَسْأَلْ إلَى أَيْنَ ذَهَبَتْ ؟ فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهَا ذَهَبَتْ إلَى قَوْمٍ لَا رِيبَةَ عِنْدَهُمْ وَصَدَّقَهَا أُولَئِكَ الْقَوْمُ أَوْ قَالُوا لَمْ تَأْتِ إلَيْنَا ؛ وَإِلَى الْعُرْسِ لَمْ تَذْهَبْ : كَانَ هَذَا رِيبَةً وَبِهَذَا يَقْوَى قَوْلُ الزَّوْجِ . وَأَمَّا " الْجِهَازُ " الَّذِي جَاءَتْ بِهِ مِنْ بَيْتِ أَبِيهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهَا بِكُلِّ حَالٍ وَإِنْ اصْطَلَحُوا فَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَمَتَى تَابَتْ الْمَرْأَةُ جَازَ لِزَوْجِهَا أَنْ يُمْسِكَهَا وَلَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ وَإِذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى رُجُوعِهَا إلَيْهِ فَلْتُبْرِئْهُ مِنْ الصَّدَاقِ وَلْيَخْلَعْهَا الزَّوْجُ ؛ فَإِنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ ثَيِّبٍ بَالِغٍ لَمْ يَكُنْ وَلَيُّهَا إلَّا
الْحَاكِمُ فَزَوَّجَهَا الْحَاكِمُ لِعَدَمِ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ خَالَعَهَا
الزَّوْجُ وَبَرَّأَتْهُ مِنْ الصَّدَاقِ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ : فَهَلْ
تَصِحُّ الْمُخَالَعَةُ وَالْإِبْرَاءُ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَتْ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ جَازَ خُلْعُهَا
وَإِبْرَاؤُهَا بِدُونِ إذْنِ الْحَاكِمِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ قَالَ لَهَا زَوْجُهَا : إنْ
أَبْرَأْتِينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ
. فَأَبْرَأَتْهُ وَلَمْ تَكُنْ تَحْتَ الْحَجْرِ وَلَا
لَهَا أَبٌ وَلَا أَخٌ . ثُمَّ إنَّهَا ادَّعَتْ أَنَّهَا سَفِيهَةٌ لِتُسْقِطَ
بِذَلِكَ الْإِبْرَاءَ .
فَأَجَابَ
:
لَا يَبْطُلُ الْإِبْرَاءُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا
وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهَا سَفِيهَةٌ وَلَمْ تَكُنْ تَحْتَ الْحَجْرِ
لَمْ يَبْطُلْ الْإِبْرَاءُ بِذَلِكَ ؛ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُتَصَرِّفَةَ
لِنَفْسِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ امْرَأَةٍ أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ جَمِيعِ
صَدَاقِهَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْهَدَ الزَّوْجُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ
طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْمَذْكُورَةَ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَكَانَتْ الْبَرَاءَةُ
تَقَدَّمَتْ عَلَى ذَلِكَ : فَهَلْ يَصِحُّ الطَّلَاقُ ؟ وَإِذَا وَقَعَ يَقَعُ
رَجْعِيًّا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إنْ كَانَا قَدْ تَوَاطَآ عَلَى أَنْ تَهَبَهُ
الصَّدَاقَ وَتُبْرِيهِ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فَأَبْرَأَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا
: كَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا بَائِنًا
. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا : أَبْرِئِينِي وَأَنَا
أُطَلِّقُك . أَوْ : إنْ أبرأتيني طَلَّقْتُك . وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِ
الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّهُ سَأَلَ الْإِبْرَاءَ
عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا . وَأَمَّا إنْ كَانَتْ أَبْرَأَتْهُ بَرَاءَةً لَا تَتَعَلَّقُ
بِالطَّلَاقِ ؛ ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ : فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ وَلَكِنْ
هَلْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِي الْإِبْرَاءِ إذَا كَانَ يُمْكِنُ لِكَوْنِ مِثْلِ
هَذَا الْإِبْرَاءِ لَا يَصْدُرُ فِي الْعَادَةِ إلَّا لِأَنْ يُمْسِكَهَا أَوْ
خَوْفًا مِنْ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ؟
فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قَدْ
طَابَتْ نَفْسُهَا بِالْإِبْرَاءِ مُطْلَقًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً
مِنْهَا لَا بِسَبَبِ مِنْهُ وَلَا عِوَضٍ : فَهُنَا لَا تَرْجِعُ فِيهِ بِلَا
رَيْبٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : هَذَا ابْنُ زَوْجِك
لَا يَدْخُلُ لِي بَيْتًا ؛ فَإِنَّهُ ابْنِي رَبَّيْته ؛ فَلَمَّا اشْتَكَاهُ
لِأَبِيهِ قَالَ لِلزَّوْجِ : إنْ أَبْرَأَتْك امْرَأَتُك تُطَلِّقُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
فَأَتَى بِهَا فَقَالَ لَهَا الزَّوْجُ : إنْ أبرأتيني مِنْ كِتَابِك وَمِنْ
الْحُجَّةِ الَّتِي لَك عَلَيَّ : فَأَنْتِ طَالِقٌ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ .
وَانْفَصَلَا وَطَلَعَ الزَّوْجُ إلَى بَيْتِ جِيرَانِهِ فَقَالَ : هِيَ طَالِقٌ
ثَلَاثًا وَنَزَلَ إلَى الشُّهُودِ فَسَأَلُوهُ كَمْ طَلَقَتْ ؟ قَالَ : ثَلَاثًا
عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ : فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ إبْرَاؤُهَا عَلَى مَا
دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ لَيْسَ مُطْلَقًا بَلْ بِشَرْطِ أَنْ
يُطَلِّقَهَا بَانَتْ مِنْهُ وَلَمْ يَقَعْ بِهَا بَعْدَ هَذَا طَلَاقٌ
وَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ كَالشَّرْطِ الْمُقَارَنِ وَالشَّرْطُ
الْعُرْفِيُّ كَاللَّفْظِيِّ . وَقَوْلُ هَذَا الَّذِي مِنْ جِهَتِهَا لَهُ : إنْ جَاءَتْ
زَوْجَتُك وَأَبْرَأَتْك تُطَلِّقُهَا ؟ وَقَوْلُهُ : اشْتِرَاطٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ
يُطَلِّقُهَا إذَا أَبْرَأَتْهُ وَمَجِيئُهُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ : أَنْتِ إنْ
أبرأتيني قَالَتْ : نَعَمْ . مُتَنَزِّلٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا
أَبْرَأَتْهُ يُطَلِّقُهَا : بِحَيْثُ لَوْ قَالَتْ : أَبْرَأْته وَامْتَنَعَ لَمْ
يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ فَإِنَّ هَذَا إيجَابٌ وَقَبُولٌ فِي الْعُرْفِ لِمَا تَقَدَّمَ
مِنْ الشُّرُوطِ وَدَلَالَةِ الْحَالِ ؛ وَالتَّقْدِيرُ : أَبْرَأْتُك بِشَرْطِ
أَنْ تُطَلِّقَنِي .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً ؛
فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَ الشُّهُودِ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ : قُلْ : طَلَّقْتهَا
عَلَى دِرْهَمٍ . فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ ؛ فَلَمَّا فَعَلَ قَالُوا لَهُ : قَدْ
مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَلَا تَرْجِعُ إلَيْك إلَّا بِرِضَاهَا . فَإِذَا وَقَعَ
الْمَنْعُ : هَلْ يَسْقُطُ حَقُّهُ مَعَ غَرَرِهِ بِذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً
رَجْعِيَّةً ثُمَّ إنَّ الشَّاهِدَ قَدْ لَقَّنَهُ أَنْ يَقُولَ : طَلَّقَهَا
عَلَى دِرْهَمٍ فَقَالَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ يُقِرُّ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ
الْأَوَّلِ لَا يُنْشِئُ طَلَاقًا آخَرَ : لَمْ يَقَعْ بِهِ غَيْرُ الطَّلَاقِ
الْأَوَّلِ وَيَكُونُ رَجْعِيًّا لَا بَائِنًا وَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ
قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ إنْشَاءً لِطَلَاقِ آخَرَ ثَانٍ وَقَالَ :
إنَّمَا قُلْته إقْرَارًا بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ مِمَّنْ يَعْلَمُ
أَنَّ الطَّلَاقَ بِالْعِوَضِ يُبَيِّنُهَا . فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ
؛ لَا سِيَّمَا وَقَرِينَةُ الْحَالِ تُصَدِّقُهُ ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ
بِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا ثُمَّ حَضَرَ عِنْدَ الشُّهُودِ فَإِنَّمَا حَضَرَ
لِيَشْهَدُوا عَلَيْهِ بِمَا وَقَعَ مِنْ الطَّلَاقِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- :
عَنْ " الْخُلْعِ " : هَلْ هُوَ طَلَاقٌ
مَحْسُوبٌ مِنْ الثَّلَاثِ ؟ وَهَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ بِغَيْرِ لَفْظِ
الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ ؟
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ
السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ
أَنَّهُ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ وَفَسْخٌ لِلنِّكَاحِ ؛ وَلَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ
الثَّلَاثِ . فَلَوْ خَلَعَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا
بِعَقْدِ جَدِيدٍ قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ
الشَّافِعِيِّ . وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَنَصَرُوهُ ؛
وَطَائِفَةٌ نَصَرُوهُ وَلَمْ يَخْتَارُوهُ ؛ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ
الْحَدِيثِ : كَإِسْحَاقِ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي ثَوْرٍ ودَاوُد وَابْنِ
الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَة
. وَهُوَ ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ :
كطاوس وَعِكْرِمَةَ . و " الْقَوْلُ الثَّانِي " : أَنَّهُ طَلَاقٌ بَائِنٌ
مَحْسُوبٌ مِنْ الثَّلَاثِ . وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ ؛
وَيُقَالُ : إنَّهُ الْجَدِيدُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ .
وَيُنْقَلُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ لَكِنْ
ضَعَّفَ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ : كَابْنِ
الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَة وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرِهِمْ : النَّقْلَ عَنْ
هَؤُلَاءِ ؛ وَلَمْ يُصَحِّحُوا إلَّا قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ إنَّهُ فَسْخٌ :
وَلَيْسَ بِطَلَاقِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ فَقَالَ لَا نَعْرِفُ حَالَ
مَنْ رَوَى هَذَا عَنْ عُثْمَانَ : هَلْ هُوَ ثِقَةٌ أَمْ لَيْسَ بِثِقَةِ ؟ فَمَا
صَحَّحُوا مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ ؛ بَلْ اعْتَرَفُوا أَنَّهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ صِحَّتَهُ .
وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ صَحَّحَ مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ أَنَّهُ طَلَاقٌ بَائِنٌ مَحْسُوبٌ مِنْ الثَّلَاثِ ؛ بَلْ أَثْبَتُ مَا فِي هَذَا عِنْدَهُمْ مَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَمَرَ الْمُخْتَلَعَةَ أَنْ تَسْتَبْرِئَ بِحَيْضَةِ . وَقَالَ : لَا عَلَيْك عِدَّةٌ . وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ عِنْدَهُ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ ؛ وَلَيْسَ بِطَلَاقِ ؛ إذْ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ يُوجِبُ الِاعْتِدَادَ بِثَلَاثِ قُرُوءٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْخُلْعِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا اسْتِبْرَاءٌ بِحَيْضَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ إسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمَا وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . وَقَدْ رَدَّ ابْنُ عَبَّاسٍ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَخَلَعَ مَرَّةً قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَسَأَلَهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا وَلَّاهُ ابْنُ الزُّبَيْرُ عَلَى الْيَمَنِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ لَهُ : إنَّ عَامَّةَ طَلَاقِ أَهْلِ الْيَمَنِ هُوَ الْفِدَاءُ ؟ فَأَجَابَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الْفِدَاءَ لَيْسَ بِطَلَاقِ ؛ وَلَكِنَّ النَّاسَ غَلِطُوا فِي اسْمِهِ . وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ . فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِدْيَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَهَذَا يَدْخُلُ فِي الْفِدْيَةِ خُصُوصًا وَغَيْرِهَا عُمُومًا فَلَوْ كَانَتْ الْفِدْيَةُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا . وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ هُوَ وَمَنْ تَقَدَّمَ اتَّبَعُوا ابْنَ عَبَّاسٍ .
وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي " الْمُخْتَلَعَةِ " هَلْ عَلَيْهَا عِدَّةُ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ؟ أَوْ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ " إحْدَاهُمَا " تَسْتَبْرِئُ بِحَيْضَةِ وَهَذَا قَوْلُ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ؛ وَابْنِ عُمَرَ فِي آخِرِ رِوَايَتَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ ؛ وَمَذْهَبُ إسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمَا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّنَنِ مِنْ وُجُوهٍ حَسَنَةٍ كَمَا قَدْ بُيِّنَتْ طُرُقُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَقَالُوا لَوْ كَانَ مِنْهُ لَوَجَبَ فِيهِ تَرَبُّصُ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى ضَعْفِ مَنْ نَقَلَ عَنْ عُثْمَانَ ؛ أَنَّهُ جَعَلَهَا طَلْقَةً بَائِنَةً ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَرْضِيِّ أَنَّهُ جَعَلَهَا تَسْتَبْرِئُ بِحَيْضَةِ وَلَوْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً لَوَجَبَ عَلَيْهَا تَرَبُّصُ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ . وَإِنْ قِيلَ : بَلْ عُثْمَانُ جَعَلَهَا مُطَلَّقَةً تَسْتَبْرِئُ بِحَيْضَةِ . فَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَاتِّبَاعُ عُثْمَانَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ الَّتِي يُوَافِقُهُ عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ : أَوْلَى مِنْ رِوَايَةٍ رَاوِيهَا مَجْهُولٌ وَهِيَ رِوَايَةُ جمهان الأسلمي عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَهَا طَلْقَةً بَائِنَةً . وَأَجْوَدُ مَا عِنْدَ مَنْ جَعَلَهَا طَلْقَةً بَائِنَةً مِنْ النَّقْلِ عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ هَذَا النَّقْلُ عَنْ عُثْمَانَ وَهُوَ مَعَ ضَعْفِهِ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ مَا يُنَاقِضُهُ فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ خِلَافِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ .
وَأَمَّا النَّقْلُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ فَضَعِيفٌ جِدًّا وَالنَّقْلُ عَنْ عُمَرَ مُجْمَلٌ لَا دَلَالَةَ فِيهِ وَأَمَّا النَّقْلُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فُرْقَةٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقِ . فَمِنْ أَصَحِّ النَّقْلِ الثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ وَهَذَا مِمَّا اعْتَضَدَ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ فَسْخٌ : كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ أَنَّهُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ ظَنُّوا تِلْكَ نُقُولًا صَحِيحَةً ؛ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنْ نَقْدِ الْآثَارِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَضَعِيفِهَا مَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ فَصَارَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الَّذِينَ خَالَفُوا ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَمْثَالَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَجَلُّ مِنْهُ وَأَكْثَرُ عَدَدًا وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ } وَكَانَ مَا اسْتَنْبَطَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْقُرْآنِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ السُّنَّةِ عَنْ كَمَالِ فِقْهِهِ فِي الدِّينِ وَعِلْمِهِ بِالتَّأْوِيلِ وَهُوَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ فُتْيَا . قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ : أَيُّ الصَّحَابَةِ أَكْثَرُ فُتْيَا ؟ قَالَ : ابْنُ عَبَّاسٍ . وَهُوَ أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ طَبَقَةً فِي الصَّحَابَةِ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُدْخِلُهُ مَعَ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ - كَعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَحْوِهِمْ - فِي الشُّورَى وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ يَفْعَلُ هَذِهِ بِغَيْرِهِ مِنْ طَبَقَتِهِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَوْ أَدْرَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ إسناننا لَمَا عَشَّرَهُ مِنَّا أَحَدٌ . أَيْ مَا بَلَغَ عُشْرَهُ . وَالنَّاقِلُونَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْهُ أَجَلُّ أَصْحَابِهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِأَقْوَالِهِ : مِثْلَ طَاوُوسٍ وَعِكْرِمَةَ ؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ كَانَا يَدْخُلَانِ عَلَيْهِ مَعَ الْخَاصَّةِ بِخِلَافِ عَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَنَحْوِهِمَا فَقَدْ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ مَعَ الْعَامَّةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَوَاصَّ الْعَالِمِ
عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِهِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ كَمَا عِنْدَ خَوَاصِّ الصَّحَابَةِ - مِثْلَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْأَرْبَعَةِ وَابْن مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَغَيْرِهِمْ - مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْلُهُمْ مِنْ الِاخْتِصَاصِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا : أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ خَالَفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ الصَّحَابَةِ إلَّا مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ ؛ لَا مَا يُنَاقِضُهُ . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ خَالَفَهُ فَالْمَرْجِعُ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . قَالَ هَؤُلَاءِ : وَالطَّلَاقُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ ثَلَاثًا هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ وَكُلُّ طَلَاقٍ فِي الْقُرْآنِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ غَيْرَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ . وَلِذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : تَدَبَّرْت الْقُرْآنَ فَإِذَا كُلُّ طَلَاقٍ فِيهِ فَهُوَ الرَّجْعِيُّ . قَالَ هَؤُلَاءِ : فَمَنْ قَسَّمَ الطَّلَاقَ الْمَحْسُوبَ مِنْ الثَّلَاثِ إلَى رَجْعِيٍّ وَبَائِنٍ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ؛ بَلْ كُلُّ مَا فِيهِ بَيْنُونَةٌ فَلَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ؛ فَإِذَا سُمِّيَ طَلَاقًا بَائِنًا وَلَمْ يُجْعَلْ مِنْ الثَّلَاثِ فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَا تَنَازُعَ فِيهِ . قَالُوا : وَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَمَا جَازَ فِي الْحَيْضِ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ طَلَاقَ الْحَائِضِ وَقَدْ سَلَّمَ لَنَا الْمُنَازِعُونَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْحَيْضِ ؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ فِي الْحَيْضِ . قَالُوا : وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ عُقُوبَةً لِلرَّجُلِ لِئَلَّا يُطَلِّقَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ ؛ وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ قَدْرُ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ ؛ وَلِهَذَا أُبِيحَتْ الْهِجْرَةُ ثَلَاثًا وَالْإِحْدَادُ لِغَيْرِ مَوْتِ الزَّوْجِ ثَلَاثًا وَمُقَامُ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا . وَالْأَصْلُ فِي الْهِجْرَةِ وَمُقَامُ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ التَّحْرِيمُ .
ثُمَّ
اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ . هَلْ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ فَسْخًا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ
لَفْظِ الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
" أَحَدُهَا " : أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ
يَكُونَ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ . فَمَنْ خَالَعَ بِلَفْظِ
الطَّلَاقِ أَوْ نَوَاهُ فَهُوَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَهَذَا قَوْلُ
أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ثُمَّ قَدْ
يَقُولُ هَؤُلَاءِ : إذَا عَرِيَ عَنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ فَهُوَ
فَسْخٌ . وَقَدْ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَكُونُ فَسْخًا إلَّا إذَا كَانَ بِلَفْظِ
الْخُلْعِ . وَالْفَسْخِ وَالْمُفَادَاةِ دُونَ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ : كَلَفْظِ
الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ وَالْإِبَانَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ
الَّتِي لَا يُفَارِقُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلَّا بِهَا مَعَ أَنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ لَمْ يُسَمِّهِ إلَّا فِدْيَةً وَفِرَاقًا وَخُلْعًا وَقَالَ : الْخُلْعُ
فِرَاقٌ ؛ وَلَيْسَ بِطَلَاقِ . وَلَمْ يُسَمِّهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَسْخًا وَلَا
جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَسْمِيَتُهُ " فَسْخًا " فَكَيْفَ
يَكُونُ لَفْظُ الْفَسْخِ صَرِيحًا فِيهِ دُونَ لَفْظِ الْفِرَاقِ وَكَذَلِكَ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَكْثَرُ مَا يُسَمِّيهِ " فُرْقَةً " لَيْسَتْ
بِطَلَاقِ . وَقَدْ يُسَمِّيهِ " فَسْخًا " أَحْيَانًا ؛ لِظُهُورِ هَذَا
الِاسْمِ فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ . " وَالثَّانِي " أَنَّهُ إذَا
كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ كَلَفْظِ " الْخُلْعِ " " وَالْمُفَادَاةِ "
" وَالْفَسْخِ " فَهُوَ فَسْخٌ سَوَاءٌ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ
يَنْوِ . وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَدَ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ : فَهَلْ هُوَ فَسْخٌ إذَا عَرِيَ عَنْ
صَرِيحِ الطَّلَاقِ بِأَيِّ لَفْظٍ وَقَعَ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْكِنَايَاتِ ؟
أَوْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ وَالْمُفَادَاةِ ؟ عَلَى
وَجْهَيْنِ كَالْوَجْهَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِأُصُولِهِمَا مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ إذَا كَانَ صَرِيحًا فِي بَابٍ وَوُجِدَ مُعَادًا فِيهِ لَمْ يَكُنْ كِنَايَةً فِي غَيْرِهِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ نَوَى بِلَفْظِ الظِّهَارِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَلَى هَذَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَحْمَدَ : لَوْ نَوَى بِلَفْظِ الْحَرَامِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ ؛ لاسيما عَلَى أَصْلِ أَحْمَدَ . وَأَلْفَاظُ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ وَالْفِدْيَةِ مَعَ الْعِوَضِ صَرِيحَةٌ فِي الْخُلْعِ فَلَا تَكُونُ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ فَلَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ بِحَالِ ؛ وَلِأَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ وَالْمُفَادَاةِ وَالْفَسْخِ وَالْعِوَضِ إمَّا أَنْ تَكُونَ صَرِيحَةً فِي الْخُلْعِ ؛ وَصَرِيحَةً فِي الطَّلَاقِ أَوْ كِنَايَةً فِيهِمَا فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - لَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَاهُ . وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي : لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ وَالْمُفَادَاةِ مِنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ فَيَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ كَمَا يَقَعُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ عِنْدَ التَّجَرُّدِ ؛ وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ وَلَمْ يَعُدَّهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّرَائِحِ . فَإِنْ قِيلَ : هِيَ مَعَ الْعِوَضِ صَرِيحَةٌ فِي الطَّلَاقِ . قِيلَ : هَذَا بَاطِلٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ مَا لَيْسَ بِصَرِيحِ عِنْدَهُ لَا يَصِيرُ صَرِيحًا بِدُخُولِ الْعِوَضِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ : إنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِأَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ كِنَايَةٌ وَالْكِنَايَةُ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَالنِّيَّةُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِإِشْهَادِ عَلَيْهَا وَالنِّكَاحُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الشَّهَادَةِ ؛ فَإِذَا قَالَ : مَلَّكْتُكهَا بِأَلْفِ وَأَعْطَيْتُكهَا بِأَلْفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوْ وَهَبْتُكهَا لَمْ يُجْعَلْ دُخُولُ الْعِوَضِ قَرِينَةً فِي كَوْنِهِ نِكَاحًا : لِاحْتِمَالِ تَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ . كَذَلِكَ لَفْظُ الْمُفَادَاةِ يَحْتَمِلُ الْمُفَادَاةَ مِنْ الْأَسْرِ . وَلَفْظُ الْفَسْخِ إنْ كَانَ طَلَاقًا مَعَ
الْعِوَضِ
فَهُوَ طَلَاقٌ بِدُونِ الْعِوَضِ ؛ وَلَمْ يُقَلْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ : إنَّهُ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ بِدُونِ الْعِوَضِ بَلْ غَايَتُهُ
أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً . وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ كَوْنِهِ أَقْرَبَ مِنْ
الْأَوَّلِ : فَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ . " الْقَوْلُ الثَّالِثُ "
أَنَّهُ فَسْخٌ بِأَيِّ لَفْظٍ وَقَعَ ؛ وَلَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ .
وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَشْتَرِطُوا لَفْظًا مُعَيَّنًا وَلَا عَدَمَ
نِيَّةِ الطَّلَاقِ ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَأَصْحَابِهِ ؛ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقُدَمَاءِ
أَصْحَابِهِ فِي الخلوع بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ ؛ لَا لَفْظَ الطَّلَاقِ وَلَا
غَيْرِهِ ؛ بَلْ أَلْفَاظُهُمْ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ فُسِخَ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ
أَصْرَحَ مِنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ فِي مَعْنَاهُ الْخَالِصِ . وَأَمَّا
الشَّافِعِيُّ فَلَمْ يَقُلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ
لَفْظِ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ بَلْ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَغَيْرِهِ وَأَصْحَابِهِ ذَكَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ : كُلّ ما
أَجَازَهُ الْمَالُ فَلَيْسَ بِطَلَاقِ . قَالَ : وَأَحْسَبُ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ
طَلَاقًا إنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ .
وَمِنْ هُنَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ والطَّحَاوِي
وَنَحْوُهُمَا : أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ نِزَاعًا فِي الْخُلْعِ بِلَفْظِ
الطَّلَاقِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الظَّنِّ لَا يُنْقَلُ بِهِ مَذَاهِبُ
السَّلَفِ وَيُعْدَلُ بِهِ عَنْ أَلْفَاظِهِمْ وَعِلْمِهِمْ ؛ وَأَدِلَّتِهِمْ
الْبَيِّنَةِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ ؛ وَأَمَّا أَحْمَد
فَكَلَامُهُ بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لَفْظًا وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ
لَفْظٍ وَلَفْظٍ وَهُوَ مُتَّبِعٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا
الْقَوْلِ وَبِهِ اقْتَدَى . وَكَانَ أَحْمَد يَقُولُ : إيَّاكَ أَنْ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ . وَإِمَامُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَقَلَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَهُمْ بِبَذْلِ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ وَطَلَبِهَا الْفُرْقَةَ . وَقَدْ كَتَبْت أَلْفَاظَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ فِي الْكَلَامِ الْمَبْسُوطِ . " وَأَيْضًا " فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْن شَمَّاسٍ - وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَالَعَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَتْ امْرَأَتُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ لَهُ : لَا أَنْقِمُ عَلَيْهِ خُلُقًا وَلَا دِينًا وَلَكِنْ أَكْرَهُ الْكُفْرَ بَعْدُ فِي الْإِسْلَامِ ؛ فَذَكَرَتْ أَنَّهَا تُبْغِضُهُ . فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ الْحَدِيقَةَ فَقَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً } وَابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِي يَرْوِي هَذَا اللَّفْظَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى أَيْضًا { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَهَا بِحَيْضَةِ اسْتِبْرَاءٍ . وَقَالَ : لَا عِدَّةَ عَلَيْك } وَأَفْتَى بِأَنَّ طَلَاقَ أَهْلِ الْيَمَنِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ " الْفِدَاءَ " لَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مَعَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ لَهُ : عَامَّةُ طَلَاقِ أَهْلِ الْيَمَنِ الْفِدَاءُ فَقَالَ لَهُ : لَيْسَ الْفِدَاءُ بِطَلَاقِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ فِرَاقٌ وَلَكِنَّ النَّاسَ غَلِطُوا فِي اسْمِهِ . فَأَخْبَرَهُ السَّائِلُ أَنَّ طَلَاقَهُمْ هُوَ الْفِدَاءُ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَأَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَعُمَّ لَفْظُ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَطْلَقَ الْجَوَابَ
وَعَمَّمَ
وَلَمْ يَسْتَثْنِ الْفِدَاءَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَلَا عَيَّنَ لَهُ لَفْظًا
مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَكْثَرُ مِنْهُ
بِغَيْرِهِ ؛ بَلْ الْعَامَّةُ لَا تَعْرِفُ لَفْظَ الْفَسْخِ وَالْخُلْعِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ إنْ لَمْ يُعَلِّمْهَا ذَلِكَ مُعَلِّمٌ وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ
لَفْظٍ وَلَفْظٍ ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إذَا قِيلَ لَهُ : خَالِعْ امْرَأَتَك .
طَلَّقَهَا بِلَا عِوَضٍ وَقَالَ : قَدْ خَلَعْتهَا . فَلَا يَعْرِفُونَ
الْفَرْقَ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ إنْ لَمْ يُذْكَرْ لَهُمْ الْغَرَضُ فِي أَحَدِ
اللَّفْظَيْنِ .
وَأَهْلُ الْيَمَنِ إلَى الْيَوْمِ تَقُولُ الْمَرْأَةُ
لِزَوْجِهَا : طَلِّقْنِي . فَيَقُولُ لَهَا : اُبْذُلِي لِي فَتَبْذُلُ لَهُ الصَّدَاقَ
أَوْ غَيْرَهُ فَيُطَلِّقُهَا . فَهَذَا عَامَّةُ طَلَاقِهِمْ وَقَدّ أَفْتَاهُمْ
ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّ هَذَا فِدْيَةٌ وَفِرَاقٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقِ . وَرَدَّ
امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَفِدَاءٍ مَرَّةً . فَهَذَا
نَقْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفُتْيَاهُ وَاسْتِدْلَالُهُ بِالْقُرْآنِ بِمَا يُوَافِقُ
هَذَا الْقَوْلَ . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ مُقْتَضَى نُصُوصِ أَحْمَد وَأُصُولُهُ
فَهُوَ مُقْتَضَى أُصُولِ الشَّرْعِ وَنُصُوصِ الشَّارِعِ ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ
فِي الْعُقُودِ بِمَقَاصِدِهَا وَمَعَانِيهَا ؛ لَا بِأَلْفَاظِهَا . فَإِذَا
كَانَ الْمَقْصُودُ بِاللَّفْظَيْنِ وَاحِدًا لَمْ يَجُزْ اخْتِلَافُ حُكْمِهِمَا
. وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ إنْ شَاءَ الْعَبْدُ جَعَلَهُ طَلَاقًا
وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَجْعَلْهُ طَلَاقًا كَانَ تَلَاعُبًا وَهَذَا بَاطِلٌ وَقَدْ
أَوْرَدُوا عَلَى هَذَا : أَنَّ الْمُعْتَقَةَ تَحْتَهُ إذَا خَيَّرَهَا زَوْجُهَا
فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَلَهَا أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ
لِأَجْلِ عِتْقِهَا . قَالُوا : فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَكَذَلِكَ
الزَّوْجُ مَعَ الْعِوَضِ يَمْلِكُ إيقَاعَ فَسْخٍ وَيَمْلِكُ إيقَاعَ طَلَاقٍ .
وَهَذَا الْقِيَاسُ ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ إذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا إنَّمَا
يَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا : فَتَكُونُ مُخَيَّرَةً بَيْنَ
إيقَاعِ فُرْقَةٍ بَائِنَةٍ وَبَيْنَ إيقَاعِ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ . وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ ؛ كَمَا يُخَيَّرُ الزَّوْجُ بَيْنَ أَنْ يَخْلَعَهَا مُفَارَقَةً فُرْقَةً بَائِنَةً وَبَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِلَا عِوَضٍ طَلَاقًا رَجْعِيًّا ؛ وَإِنَّمَا الْمُخَالِفُ لِلْأُصُولِ أَنْ يَمْلِكَ فُرْقَةً بَائِنَةً إنْ شَاءَ جَعَلَهَا فَسْخًا وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهَا طَلَاقًا وَالْمَقْصُودُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْفُرْقَةُ الْبَائِنَةُ ؛ وَالْأَمْرُ إلَيْهِ فِي جَعْلِهَا طَلَاقًا أَوْ غَيْرَ طَلَاقٍ : فَهَذَا هُوَ الْمُنْكَرُ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ إنْ شَاءَ جَعَلَ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ طَلَاقًا وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ غَيْرَ طَلَاقٍ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ . " وَأَيْضًا " فَاَلَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَبْدِ هُوَ قَصْدُ الْأَفْعَالِ وَغَايَتُهَا ؛ وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَإِلَى الشَّارِعِ . فَالشَّارِعُ يُفَرِّقُ بَيْنَ حُكْمِ هَذَا الْفِعْلِ وَحُكْمِ هَذَا الْفِعْلِ ؛ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ بِالْفِعْلَيْنِ . فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ بِهَا وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ مُخَيَّرًا فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَنَفْيِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَقْصُودَ الْفُرْقَةِ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ . " وَأَيْضًا " فَمَعْنَى الِافْتِدَاءِ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا سَأَلَتْهُ أَنْ يُفَارِقَهَا بِعِوَضِ ؛ وَاَللَّهُ عَلَّقَ حُكْمَ الْخُلْعِ بِمُسَمَّى الْفِدْيَةِ فَحَيْثُ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ الْخُلْعُ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . " وَأَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الرَّجْعَةَ مِنْ لَوَازِمِ الطَّلَاقِ فِي الْقُرْآنِ ؛ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى طَلَاقَ الْمَدْخُولِ بِهَا إلَّا وَأَثْبَتَ فِيهِ الرَّجْعَةَ ؛ فَلَوْ كَانَ الِافْتِدَاءُ طَلَاقًا
لَثَبَتَ فِيهِ الرَّجْعَةُ وَهَذَا يُزِيلُ مَعْنَى الِافْتِدَاءِ ؛ إذْ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّا نَعْلَمُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْخُلْعَ الْمُطْلَقَ يَمْلِكُ فِيهِ الْعِوَضَ وَيَسْتَحِقُّ فِيهِ الرَّجْعَةَ . لَكِنْ قَالَ طَائِفَةٌ هُوَ غَيْرُ لَازِمٍ ؛ فَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْعِوَضَ وَرَاجَعَهَا ؛ وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا شَرَطَ الرَّجْعَةَ فِي الْعِوَضِ : هَلْ يَصِحُّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ . وَبُطْلَانُ الْجَمْعِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُوجِبُ الْعِوَضَ وَيَرُدُّ الرَّجْعَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ الرَّجْعَةَ وَيُبْطِلُ الْعِوَضَ . وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَلَيْسَ عَنْ أَحْمَد فِي ذَلِكَ نَصٌّ . وَقِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَد صِحَّتُهُ بِهَذَا الشَّرْطِ كَمَا لَوْ بَذَلَتْ مَالًا عَلَى أَنْ تَمْلِكَ أَمْرَهَا . فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ جَوَازُ الشَّرْطِ فِي الْعُقُودِ إلَّا أَنْ يَقُومَ عَلَى فَسَادِهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَلَيْسَ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ عِنْدَهُ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ؛ بَلْ مَا خَالَفَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ وَنَاقَضَ حُكْمَهُ ؛ كَاشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتَقِ وَاشْتِرَاطِ الْبَائِعِ لِلْوَطْءِ مَعَ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي وَنَحْوَ ذَلِكَ . " وَأَيْضًا " فَالْفَرْقُ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ فِي الْخُلْعِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ : لَا الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ . وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ أَحَدٍ ؛ بَلْ ذَكَرَ : أَنَّهُ يَحْسَبُ أَنَّ الصَّحَابَةَ يُفَرِّقُونَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ نَقْلًا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَالشَّافِعِيُّ ذَكَرَ هَذَا فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ . وَرَجَّحَ فِيهِ أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ وَلَيْسَ بِفَسْخِ فَلَمْ يُجِزْ هَذَا الْقَوْلَ لِمَا ظَنَّهُ مِنْ تَنَاقُضِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ بِلَفْظِ طَلَاقًا بَائِنًا مِنْ الثَّلَاثِ
وَبِلَفْظِ لَيْسَ مِنْ الثَّلَاثِ فَلِمَا ظَنَّهُ مِنْ تَنَاقُضِهِ عَدَلَ عَنْ تَرْجِيحِهِ . وَلَكِنَّ هَذَا التَّنَاقُضَ لَمْ يَنْقُلْهُ : لَا هُوَ ؛ وَلَا أَحَدٌ غَيْرُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ الْقَائِلِينَ بِهِ وَلَا مَنْ اتَّبَعَهُ . كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ ؛ وَإِنَّمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد لَمَّا وَجَدُوا غَيْرَهُمْ قَدْ ذَكَرُوا الْفَرْقَ فِيهِ بَيْنَ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ ؛ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ كَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ والطَّحَاوِي : أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا ؛ وَإِنَّمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَالْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ قَاطِبَةً : إمَّا جَعْلُ الْخُلْعِ فُرْقَةً بَائِنَةً وَلَيْسَ بِطَلَاقِ . وَإِمَّا جَعْلُهُ طَلَاقًا . وَمَا رَأَيْت فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ وَلَا اُعْتُبِرَ فِيهِ عَدَمُ نِيَّةِ الطَّلَاقِ ؛ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ كَمَا يَقُولُ عِكْرِمَةُ : كُلُّ ما أَجَازَهُ الْمَالُ فَلَيْسَ بِطَلَاقِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ : مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا مَقْصُودَ الْعَقْدِ ؛ لَا لَفْظًا مُعَيَّنًا وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ . وَبِبُطْلَانِ هَذَا الْفَرْقِ يَسْتَدِلُّ مَنْ يَجْعَلُ الْجَمِيعَ طَلَاقًا : فَيُبْطِلُ الْقَوْلَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَهَذَا الْفَرْقُ إذَا قِيلَ بِهِ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَجِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ فَسْخًا ؛ وَلِهَذَا عَدَلَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ تَرْجِيحِ هَذَا الْقَوْلِ ؛ لِمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ أَهْلَهُ يُفَرِّقُونَ . " وَأَيْضًا " فَفِي السُّنَنِ أَنَّ { فَيْرُوزَ الديلمي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلِّقْ أَيَّتَهمَا شِئْت قَالَ : فَعَمَدْت إلَى أَسْبَقِهِمَا صُحْبَةً فَفَارَقْتهَا } . وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ فَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطَلِّقَ إحْدَاهُمَا وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ ؛ وَلَيْسَتْ
مِنْ
الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ قَدْ
تَنَاوَلَ مَا هُوَ فَسْخٌ لَيْسَ مِنْ الثَّلَاثِ . وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الَّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ إذَا قَالَ : قَدْ طَلَقَتْ
هَذِهِ كَانَ ذَلِكَ فُرْقَةً لَهَا وَاخْتِيَارًا لِلْأُخْرَى ؛ خِلَافَ مَا
يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : أَنَّهُ إذَا
قَالَ لِإِحْدَاهُمَا طَلِّقْهَا كَانَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا لَهَا . قَالُوا :
لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا لِزَوْجَةٍ . فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ
مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْعُقُولِ ؛ فَإِنَّ الْمُطَلِّقَ لِلْمَرْأَةِ زَاهِدٌ
فِيهَا رَاغِبٌ عَنْهَا فَكَيْفَ يَكُونُ مُخْتَارًا لَهَا مُرِيدًا لِبَقَائِهَا
وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا ظَنُّهُمْ أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ لَا
يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا هُوَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَهَذَا ظَنٌّ فَاسِدٌ
مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَجْعَلْ الشَّارِعُ
لَهُ لَفْظًا مُعَيَّنًا ؛ بَلْ إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِأَيِّ لَفْظٍ
يَحْتَمِلُهُ وَقَعَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
لَمْ يُنَازِعْ فِي ذَلِكَ إلَّا بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشِّيعَةِ
وَالظَّاهِرِيَّةِ ؛ وَلَا يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ عَنْ السَّلَفِ . فَإِذَا
قَالَ : فَارَقْتُك . أَوْ سَرَّحْتُك
. أَوْ : سَيَّبْتُك . وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكِنَايَاتِ . فَإِذَا أَتَى بِهَذِهِ الْكِنَايَاتِ مَعَ
الْعِوَضِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَهُ : سَرِّحْنِي أَوْ سَيِّبْنِي بِأَلْفِ أَوْ
فَارِقْنِي بِأَلْفِ أَوْ خَلِّنِي بِأَلْفِ . فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا
وَبَيْنَ أَنْ تَقُولَ : فادني بِأَلْفِ أَوْ اخْلَعْنِي بِأَلْفِ أَوْ افْسَخْ
نِكَاحِي بِأَلْفِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ . مَعَ أَنَّ
لَفْظَ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَنَوَى بِهِمَا
الطَّلَاقَ وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَهُمَا مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ فِي
الطَّلَاقِ . فَأَيُّ فَرْقٍ فِي أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ
؟ !
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ الْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . " أَحَدُهُمَا " كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . " وَالثَّانِيَةُ " يَصِحُّ كَالْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهِيَ اخْتِيَارُ الخرقي . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ الطَّلَاقَ وَيَقَعَ بِهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ لَا يَكُونُ فَسْخًا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَوْ أَجَازَ أَنْ يَكُونَ فَسْخًا بِلَا عِوَضٍ لَكَانَ الرَّجُلُ يَمْلِكُ فَسْخَ النِّكَاحِ ابْتِدَاءً وَلَا يُحْسَبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ الثَّلَاثِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ عَدَدٍ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ : وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ لِلطَّلَاقِ عَدَدٌ . فَلَوْ كَانَ لَفْظُ الْفَسْخِ أَوْ غَيْرِهِ يَقَعُ وَلَا يُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ لَكَانَ ذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ بَدَلَ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الطَّلَاقِ بِلَا عَدَدٍ . وَهَذَا بَاطِلٌ . وَإِنْ قِيلَ : هُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ . قِيلَ : هَذَا أَشَدُّ بُطْلَانًا ؛ فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ إنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ وَلَا يَمْلِكُ طَلَاقًا بَائِنًا بَطَلَ هَذَا . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يَمْلِكُ إيقَاعَ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَلَوْ جُوِّزَ لَهُ أَنْ يُوقِعَهُ بِلَفْظِ الْفَسْخِ وَلَا يَكُونُ مِنْ الثَّلَاثِ لَزِمَ الْمَحْذُورُ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ كُلَّمَا شَاءَ وَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ مِنْ الثَّلَاثِ . وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَازَعْ الْعُلَمَاءُ أَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ بِلَا عِوَضٍ وَلَا سُؤَالٍ لَا يَكُونُ فَسْخًا ؛ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً بَائِنَةً بِلَا عِوَضٍ : هَلْ تَمْلِكُ ذَلِكَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .
فَإِنَّ
الْعُلَمَاءَ تَنَازَعُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ .
فَقِيلَ : إنْ شَاءَ الزَّوْجُ طَلَّقَ طَلَاقًا بَائِنًا وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ
طَلَاقًا رَجْعِيًّا ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لَهُ . وَإِنْ شَاءَ
أَثْبَتَهَا . وَإِنْ شَاءَ نَفَاهَا . وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَد
. وَأَظُنُّهُ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ . وَقِيلَ : لَا
يَمْلِكُ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ ابْتِدَاءً بَلْ إذَا طَلَبَتْ مِنْهُ
الْإِبَانَةَ مَلَكَ ذَلِكَ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَد اخْتَارَهَا الخرقي . وَقِيلَ : لَا يَمْلِكُ إبَانَتَهَا بِلَا عِوَضٍ ؛ بَلْ
سَوَاءٌ طَلَبَتْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ تَطْلُبْهُ وَلَا يَمْلِكُ إبَانَتَهَا إلَّا
بِعِوَضِ . وَهَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ
وَهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَة ودَاوُد
وَغَيْرِهِمْ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ النُّقُولِ الثَّابِتَةِ عَنْ أَكْثَرِ
الصَّحَابَةِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ الطَّلَاقَ إلَّا رَجْعِيًّا وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
طَلَاقٌ بَائِنٌ مِنْ الثَّلَاثِ ؛ إلَّا بِعِوَضِ لَا بِغَيْرِ عِوَضٍ بَلْ كُلُّ
فُرْقَةٍ تَكُونُ بَائِنَةً فَلَيْسَتْ مِنْ الثَّلَاثِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْخُلْعَ وَالطَّلَاقَ يَصِحُّ
بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ
لَيْسَ فِي لُغَةِ الْعَجَمِ لَفْظٌ يُفَرِّقُ مَعَ الْعِوَضِ بَيْنَ مَا هُوَ
خُلْعٌ وَمَا هُوَ طَلَاقٌ لَيْسَ بِخُلْعِ ؛ وَإِنَّمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا
مَا يَخْتَصُّ بِالْخُلْعِ مِنْ دُخُولِ الْعِوَضِ فِيهِ وَطَلَبِ الْمَرْأَةِ
الْفُرْقَةَ . فَلَفْظُ الطَّلَاقِ يُضَافُ إلَى غَيْرِ الْمَرْأَةِ
كَقَوْلِهِمْ : طَلَّقْت الدُّنْيَا وَطَلَّقْت وُدَّك . وَإِذَا أُضِيفَ إلَى
الْمَرْأَةِ فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ كَمَا تَقُولُ
أَنْتِ : طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ أَوْ طَالِقٌ مِنْ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ
وَلَوْ
وَصَلَ لَفْظَ الطَّلَاقِ بِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ بِهِ بِلَا رَيْبٍ وَإِنْ نَوَاهُ
وَلَمْ يَصِلْهُ بِلَفْظِ دَيْنٍ وَفِي قَبُولِهِ فِي الْحُكْمِ نِزَاعٌ . فَإِذَا
وَصَلَ لَفْظَ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفِ . فَقَالَتْ :
قَبِلْت . أَوْ قَالَتْ : طَلِّقْنِي بِأَلْفِ . فَقَالَ : طَلَّقْتُك . كَانَ هَذَا
طَلَاقًا مُقَيَّدًا بِالْعِوَضِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الطَّلَاقَ الْمُطْلَقَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ جَعَلَهُ اللَّهُ رَجْعِيًّا وَجَعَلَ فِيهِ
تَرَبُّصَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ؛ وَجَعَلَهُ ثَلَاثًا . فَأَثْبَتّ لَهُ ثَلَاثَةَ
أَحْكَامٍ .
وَهَذَا لَيْسَ بِرَجْعِيٍّ بِدَلَالَةِ النَّصِّ
وَالْإِجْمَاعِ وَلَا تَتَرَبَّصُ فِيهِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ
بِالسُّنَّةِ فَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يُجْعَلَ مِنْ الثَّلَاثِ ؛ وَذَلِكَ
لِأَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى " الطَّلَاقِ " عِنْدَ
الْإِطْلَاقِ ؛ وَإِنَّمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ مَعَ قَيْدٍ
كَمَا يُسَمَّى الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ "
نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " فَيُسَمَّى
نَذْرًا مُقَيَّدًا ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ النَّذْرِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ
مِنْ الْأَيْمَانِ ؛ لَا مِنْ النُّذُورِ : عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ
السَّلَفِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا .
وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْمَاءِ " عِنْدَ
الْإِطْلَاقِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَنِيَّ ؛ وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى مَاءً مَعَ
التَّقْيِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
{ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْخُفِّ " لَا يَتَنَاوَلُ
عِنْدَ الْإِطْلَاقِ الْمَقْطُوعَ وَإِنْ كَانَ يُقَالُ خُفٌّ مَقْطُوعٌ . فَلَا
يَدْخُلُ الْمَقْطُوعُ فِي لَفْظِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
وَلَا فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ مِنْ لُبْسِ الْخُفِّ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ ؛ فَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحْرِمَ أَوَّلًا بِقَطْعِ الْخُفَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ لَيْسَ بِخُفِّ ثُمَّ رَخَّصَ فِي عَرَفَاتٍ فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ وَلُبْسِ الْخِفَافِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فَتْقَ السَّرَاوِيلِ وَلَا قَطْعَ الْخِفَافِ . وَالسَّرَاوِيلُ الْمَفْتُوقُ وَالْخُفُّ الْمَقْطُوعُ : لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى " الْخُفِّ " و " السَّرَاوِيلِ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْبَيْعِ " الْمُطْلَقِ لَا يَتَنَاوَلُ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى بَيْعًا مَعَ التَّقْيِيدِ . وَكَذَلِكَ " الْإِيمَانُ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَأَمَّا مَعَ التَّقْيِيدِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } لَا يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْإِيمَانِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْبِشَارَةِ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا تَنَاوَلَ الْإِخْبَارَ بِمَا يَسُرُّ ؛ وَأَمَّا مَعَ التَّقْيِيدِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فَالطَّلَاقُ الْمُطْلَقُ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَتَنَاوَلُ الطَّلَاقَ الَّذِي يُوقِعُهُ الزَّوْجُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَتَثْبُتُ لَهُ فِيهِ الرَّجْعَةُ وَمَا كَانَ بِعِوَضِ فَلَا رَجْعَةَ لَهُ فِيهِ ؛ وَلَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الْمُطْلَقِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ فِدَاءٌ تَفْتَدِي بِهِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا
كَمَا تَفْتَدِي الْأَسِيرَةُ نَفْسَهَا مِنْ أَسْرِهَا ؛ وَهَذَا الْفِدَاءُ لَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ سَوَاءٌ وَقَعَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ أَوْ الْفَسْخِ أَوْ الْفِدَاءِ وَالسَّرَاحِ ؛ أَوْ الْفِرَاقِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الْإِبَانَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ . وَلِهَذَا جَازَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ : فَيَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَخْتَلِعَهَا كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَفْتَدِيَ الْأَسِيرَةَ ؛ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبْذُلَ الْأَجْنَبِيُّ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ عِوَضًا لِيُعْتِقَهُ ؛ وَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِمَا إذَا كَانَ قَصْدُهُ تَخْلِيصَهَا مِنْ رِقِّ الزَّوْجِ ؛ لِمَصْلَحَتِهَا فِي ذَلِكَ كَمَا يَفْتَدِي الْأَسِيرَ . وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَجْهٌ أَنَّهُ إذَا قِيلَ : إنَّهُ فَسْخٌ : لَمْ يَصِحَّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ . قَالُوا . لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إقَالَةً ؛ وَالْإِقَالَةُ لَا تَصِحُّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقَةِ الْخُرَاسَانِيَّةِ . وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ فَسْخٌ هُوَ فَسْخٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبَيْنِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ " شَرْحِ الْوَجِيزِ " لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْعِرَاقِيِّينَ كَأَبِي إسْحَاقَ الشِّيرَازِيّ فِي " خِلَافِهِ " وَغَيْرِهِ . وَهَذَا لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ كَافْتِدَاءِ الْأَسِيرِ وَكَالْبَذْلِ لِإِعْتَاقِ الْعَبْدِ ؛ لَا كَالْإِقَالَةِ ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ رَفْعُ مِلْكِ الزَّوْجِ عَنْ رِقِّ الْمَرْأَةِ لِتَعُودَ خَالِصَةً مِنْ رِقِّهِ ؛ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ نَقْلَ مِلْكٍ إلَيْهَا ؛ فَهُوَ شَبِيهٌ بِإِعْتَاقِ الْعَبْدِ ؛ وَفَكِّ الْأَسِيرِ ؛ لَا بِالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ فَلِهَذَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ بِدُونِ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى ؛ وَجَوَّزَهُ الْأَكْثَرُونَ بأكثر مِنْ الصَّدَقَاتِ ؛ وَيَجُوزُ أَيْضًا بِغَيْرِ جِنْسِ الصَّدَاقِ وَلَيْسَتْ الْإِقَالَةُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ
الْإِقَالَةُ
الْمَقْصُودُ بِهَا تَرَادُّ الْعِوَضِ . وَإِذَا كَرِهْنَا أَوْ حَرَّمْنَا
أَخْذَ زِيَادَةٍ عَلَى صَدَاقِهَا فَهَذَا لِأَنَّ الْعِوَضَ الْمُطْلَقَ فِي
خُرُوجِهَا مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ هُوَ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ فَإِنَّ
الْبُضْعَ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ كَمَا يُبَاعُ الْمَالُ
وَيُوهَبُ وَيُورَثُ وَكَمَا تُؤَجَّرُ الْمَنَافِعُ وَتُعَارُ وَتُورَثُ
وَالتِّجَارَةُ وَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فِي الْأَمْوَالِ بِالنَّصِّ
وَالْإِجْمَاعِ .
وَأَمَّا التِّجَارَةُ الْمُجَرَّدَةُ فِي الْمَنَافِعِ
: مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَارًا وَيُؤَجِّرَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ الْأُجْرَةِ
مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ يُحْدِثُهُ . فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا
رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد " أَشْهَرُهُمَا " عَنْهُ يَجُوزُ وَهُوَ
قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ . " وَالثَّانِي
" : لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . قَالُوا . لِأَنَّهُ يَدْخُلُ
فِي رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ . و " الْأَوَّلُ " أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ
هَذِهِ الْمَنَافِعَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ . بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا
سَلَّمَ إلَيْهِ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِالْعَيْنِ تَلِفَتْ
عَلَى مِلْكِهِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَةُ ؛ فَإِنَّ
هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَلَفِ الثَّمَرِ قَبْلَ صَلَاحِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا
أَنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي تُورَثُ قَدْ تُنُوزِعَ فِي جَوَازِ التِّجَارَةِ
فِيهَا ؛ فَكَيْفَ بِالْأَبْضَاعِ الَّتِي لَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ
؛ وَإِنَّمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَرِثُونَ الْأَبْضَاعَ فَأَبْطَلَ
اللَّهُ ذَلِكَ . فَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُفَارِقَ الْمَرْأَةَ وَيُزَوِّجَهَا
بِغَيْرِهِ لِيَأْخُذَ صَدَاقَهَا لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ . وَلَوْ وُطِئَتْ
بِشُبْهَةِ لَكَانَ الْمَهْرُ لَهَا دُونَهُ فَلِهَذَا نَهَى عَنْ الزِّيَادَةِ .
وَإِذَا شَبَّهَ الْخُلْعَ بِالْإِقَالَةِ ؛ فَالْإِقَالَةُ فِي كُلِّ عَقْدٍ
بِحَسَبِهِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .==
======
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق