37.مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ)
== كَانَتْ صَلَاتُهُ الْفَرِيضَةَ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ وَغَيْرَهُمَا : كَانَتْ صَلَاتُهُ مُعْتَدِلَةً فَإِنْ فَضَّلَ مُفَضِّلٌ إطَالَةَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ تَقْلِيلِ الرَّكَعَاتِ وَتَخْفِيفِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ : فَهَذَانِ مُتَقَارِبَانِ . وَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ فِي حَالٍ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا صَلَّى الضُّحَى يَوْمَ الْفَتْحِ صَلَّى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ يُخَفِّفُهُنَّ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ . وَكَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ لَمَّا شَقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ إطَالَةُ الْقِيَامِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقُنُوتَ يَكُونُ عِنْدَ النَّوَازِلِ وَأَنَّ الدُّعَاءَ فِي الْقُنُوتِ لَيْسَ شَيْئًا مُعَيَّنًا وَلَا يَدْعُو بِمَا خَطَرَ لَهُ بَلْ يَدْعُو مِنْ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ بِمَا يُنَاسِبُ سَبَبَ الْقُنُوتِ كَمَا أَنَّهُ إذَا دَعَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ دَعَا بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقْصُودَ فَكَذَلِكَ إذَا دَعَا فِي الِاسْتِنْصَارِ دَعَا بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقْصُودَ كَمَا لَوْ دَعَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لِذَلِكَ السَّبَبِ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقْصُودَ فَهَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ مِنْ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ الَّتِي يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ فَإِنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ يُسَنُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَنَحْوِهِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِسُنَّةِ رَاتِبَةٍ وَلَا يَسْجُدُ لَهُ لَكِنْ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا فِي ذَلِكَ لَهُ تَأْوِيلُهُ كَسَائِرِ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ . وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَتْبَعَ إمَامَهُ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ
فَإِذَا
قَنَتَ قَنَتَ مَعَهُ وَإِنْ تَرَكَ الْقُنُوتَ لَمْ يَقْنُتْ فَإِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ
لِيُؤْتَمَّ بِهِ } وَقَالَ : { لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى أَئِمَّتِكُمْ } .
وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ
أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } . أَلَا
تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ قَرَأَ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِسُورَةِ مَعَ
الْفَاتِحَةِ وَطَوَّلَهُمَا عَلَى الْأُولَيَيْنِ : لَوَجَبَتْ مُتَابَعَتُهُ فِي
ذَلِكَ . فَأَمَّا مُسَابَقَةُ الْإِمَامِ فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ . فَإِذَا
قَنَتَ لَمْ يَكُنْ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُسَابِقَهُ : فَلَا بُدَّ مِنْ
مُتَابَعَتِهِ وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَدْ أَنْكَرَ عَلَى
عُثْمَانَ التَّرْبِيعَ بِمِنَى ثُمَّ إنَّهُ صَلَّى خَلْفَهُ أَرْبَعًا . فَقِيلَ
لَهُ : فِي ذَلِكَ فَقَالَ : الْخِلَافُ شَرٌّ . وَكَذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
لَمَّا سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ وَقْتِ الرَّمْيِ فَأَخْبَرَهُ ثُمَّ قَالَ : افْعَلْ
كَمَا يَفْعَلُ إمَامُك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ لِرَجُلِ يَؤُمُّ
قَوْمًا فَيَخُصُّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَهُمْ فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ
خَانَهُمْ } . فَهَلْ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنَّهُ كُلَّمَا دَعَا اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَشْرَكَ الْمَأْمُومِينَ ؟ وَهَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَخُصُّ نَفْسَهُ بِدُعَائِهِ
فِي صَلَاتِهِ دُونَهُمْ ؟
فَكَيْفَ
الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ . أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ . مَا تَقُولُ ؟ قَالَ :
أَقُولُ : اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ . كَمَا بَاعَدْت
بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى
الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ
بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ } فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي
أَنَّهُ دَعَا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً وَكَانَ إمَامًا . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ
فِي الِاسْتِفْتَاحِ الَّذِي أَوَّلُهُ { وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ - فِيهِ - فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي
لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا فَإِنَّهُ لَا يَصْرِفُ
عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ } . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ
كَانَ يَقُولُ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ الرُّكُوعِ بَعْدَ قَوْلِهِ : { لَا
مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت } { اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي
مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ
الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ } . وَجَمِيعُ
هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ فِي دُعَائِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ مِنْ
فِعْلِهِ وَمِنْ أَمْرِهِ لَمْ يُنْقَلْ فِيهَا إلَّا لَفْظُ الْإِفْرَادِ .
كَقَوْلِهِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ
عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ
الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } . وَكَذَا دُعَاؤُهُ بَيْنَ
السَّجْدَتَيْنِ وَهُوَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكِلَاهُمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ إمَامًا أَحَدُهُمَا بِحُذَيْفَةَ وَالْآخَرُ بِابْنِ عَبَّاسٍ . وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ { رَبِّ اغْفِرْ لِي رَبِّ اغْفِرْ لِي } وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ { اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي } وَنَحْوُ هَذَا فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَدْعُو فِي هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ . وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَيْثُ يَرَوْنَ أَنَّهُ يَشْرَعُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ . وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ إنْ صَحَّ فَالْمُرَادُ بِهِ الدُّعَاءُ الَّذِي يُؤَمِّنُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ : كَدُعَاءِ الْقُنُوتِ فَإِنَّ الْمَأْمُومَ إذَا أَمَّنَ كَانَ دَاعِيًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ : { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَدْعُو وَالْآخَرُ يُؤَمِّنُ . وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ مُؤَمِّنًا عَلَى دُعَاءِ الْإِمَامِ فَيَدْعُو بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَمَا فِي دُعَاءِ الْفَاتِحَةِ فِي قَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } فَإِنَّ الْمَأْمُومَ إنَّمَا أَمَّنَ لِاعْتِقَادِهِ . أَنَّ الْإِمَامَ يَدْعُو لَهُمَا جَمِيعًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ خَانَ الْإِمَامُ الْمَأْمُومَ . فَأَمَّا الْمَوَاضِعُ الَّتِي يَدْعُو فِيهَا كُلُّ إنْسَانٍ لِنَفْسِهِ كَالِاسْتِفْتَاحِ وَمَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَمَا أَنَّ الْمَأْمُومَ يَدْعُو لِنَفْسِهِ فَالْإِمَامُ يَدْعُو لِنَفْسِهِ . كَمَا يُسَبِّحُ الْمَأْمُومُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إذَا سَبَّحَ الْإِمَامُ فِي
الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ وَكَمَا يَتَشَهَّدُ إذَا تَشَهَّدَ وَيُكَبِّرُ إذَا كَبَّرَ فَإِنْ
لَمْ يَفْعَلْ الْمَأْمُومُ ذَلِكَ فَهُوَ الْمُفَرِّطُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ
كَانَ صَحِيحًا صَرِيحًا مُعَارِضًا لِلْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ
الْمُتَوَاتِرَةِ وَلِعَمَلِ الْأُمَّةِ وَالْأَئِمَّةِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ
فَكَيْفَ وَلَيْسَ مِنْ الصَّحِيحِ وَلَكِنْ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ حَسَنٌ وَلَوْ
كَانَ فِيهِ دَلَالَةٌ لَكَانَ عَامًّا وَتِلْكَ خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ يَقْضِي
عَلَى الْعَامِّ . ثُمَّ لَفْظُهُ { فَيَخُصُّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةِ دُونَهُمْ }
يُرَادُ بِمِثْلِ هَذَا إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ دُعَاءٌ وَهَذَا لَا يَكُونُ
مَعَ تَأْمِينِهِمْ . وَأَمَّا مَعَ كَوْنِهِمْ مُؤَمِّنِينَ عَلَى الدُّعَاءِ
كُلَّمَا دَعَا فَيَحْصُلُ لَهُمْ كَمَا حَصَلَ لَهُ بِفِعْلِهِمْ وَلِهَذَا جَاءَ
دُعَاءُ الْقُنُوتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ : { اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك
وَنَسْتَهْدِيك } إلَى آخِرِهِ . فَفِي مِثْلِ هَذَا يَأْتِي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ
وَيَتَّبِعُ السُّنَّةَ عَلَى وَجْهِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ : هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَمْ
بِدْعَةٌ ؟ وَذَكَرُوا أَنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ صَلَّاهَا بَعْدَ
الْمَغْرِبِ وَتَمَّمَهَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، السُّنَّةُ فِي التَّرَاوِيحِ أَنْ
تُصَلَّى بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ
وَالْأَئِمَّةُ . وَالنَّقْلُ الْمَذْكُورُ عَنْ
الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَاطِلٌ فَمَا كَانَ الْأَئِمَّةُ يُصَلُّونَهَا إلَّا بَعْدَ الْعِشَاءِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَعَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ تَعَمَّدَ صَلَاتَهَا قَبْلَ الْعِشَاءِ فَإِنَّ هَذِهِ تُسَمَّى قِيَامَ رَمَضَانَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَ رَمَضَانَ وَسَنَنْت لَكُمْ قِيَامَهُ فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } . وَقِيَامُ اللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْعِشَاءِ . وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي السُّنَنِ { أَنَّهُ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ قِيَامَ رَمَضَانَ صَلَّى بَعْدَ الْعِشَاءِ } . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامَهُ بِاللَّيْلِ هُوَ وِتْرَهُ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِ رَمَضَانَ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً لَكِنْ كَانَ يُصَلِّيهَا طِوَالًا . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ قَامَ بِهِمْ أبي بْنُ كَعْبٍ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِشْرِينَ رَكْعَةً يُوتِرُ بَعْدَهَا وَيُخَفِّفُ فِيهَا الْقِيَامَ فَكَانَ تَضْعِيفُ الْعَدَدِ عِوَضًا عَنْ طُولِ الْقِيَامِ . وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُومُ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً فَيَكُونُ قِيَامُهَا أَخَفَّ وَيُوتِرُ بَعْدَهَا بِثَلَاثِ . وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُومُ بِسِتِّ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً يُوتِرُ بَعْدَهَا وَقِيَامُهُمْ الْمَعْرُوفُ عَنْهُمْ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ . وَلَكِنْ الرَّافِضَةُ تَكْرَهُ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ . فَإِذَا صَلَّوْهَا قَبْلَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ لَا تَكُونُ هِيَ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ كَمَا أَنَّهُمْ إذَا تَوَضَّئُوا يَغْسِلُونَ
أَرْجُلَهُمْ
أَوَّلَ الْوُضُوءِ وَيَمْسَحُونَهَا فِي آخِرِهِ ، فَمَنْ صَلَّاهَا قَبْلَ
الْعِشَاءِ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْمُبْتَدِعَةِ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا يَصْنَعُهُ أَئِمَّةُ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ
الْأَنْعَامِ فِي رَمَضَانَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ هَلْ
هِيَ بِدْعَةٌ أَمْ لَا ؟.
فَأَجَابَ :
نَعَمْ بِدْعَةٌ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا
غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُمْ تَحَرَّوْا ذَلِكَ وَإِنَّمَا عُمْدَةُ
مَنْ يَفْعَلُهُ مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ سُورَةَ
الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ جُمْلَةً . مُشَيَّعَةً بِسَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ
فَاقْرَءُوهَا جُمْلَةً لِأَنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ
ضَعِيفٌ وَفِي قِرَاءَتِهَا جُمْلَةً مِنْ الْوُجُوهِ الْمَكْرُوهَةِ أُمُورٌ .
مِنْهَا : أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُطَوِّلُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ
الصَّلَاةِ عَلَى الْأُولَى تَطْوِيلًا فَاحِشًا . وَالسُّنَّةُ تَطْوِيلُ
الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ كَمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا تَطْوِيلُ آخِرِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَى أَوَّلِهِ
وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ فَإِنَّهُ كَانَ يُطَوِّلُ أَوَائِلَ مَا كَانَ
يُصَلِّيهِ مِنْ الرَّكَعَاتِ عَلَى أَوَاخِرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ قَوْمٍ يُصَلُّونَ بَعْدَ التَّرَاوِيحِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْجَمَاعَةِ ثُمَّ
فِي آخِرِ اللَّيْلِ يُصَلُّونَ تَمَامَ مِائَةِ رَكْعَةٍ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ
صَلَاةَ الْقَدْرِ . وَقَدْ امْتَنَعَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مِنْ فِعْلِهَا .
فَهَلْ الصَّوَابُ مَعَ مَنْ يَفْعَلُهَا ؟ أَوْ مَعَ مَنْ يَتْرُكُهَا ؟ وَهَلْ
هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَوْ مَكْرُوهَةٌ ؟ وَهَلْ
يَنْبَغِي فِعْلُهَا وَالْأَمْرُ بِهَا أَوْ تَرْكُهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ اللَّه ، بَلْ الْمُصِيبُ هَذَا الْمُمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِهَا
وَاَلَّذِي تَرَكَهَا . فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ
مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ هِيَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ وَلَا فَعَلَ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا
يَسْتَحِبُّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ
تُتْرَكَ وَيُنْهَى عَنْهَا . وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي التَّرَاوِيحِ
فَمُسْتَحَبٌّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ مِنْ أَجْلِ مَقْصُودِ
التَّرَاوِيحِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِيهَا لِيَسْمَعَ الْمُسْلِمُونَ كَلَامَ
اللَّهِ . فَإِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ فِيهِ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَفِيهِ { كَانَ
جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ
حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ } .
وَسُئِلَ :
عَنْ سُنَّةِ الْعَصْرِ : هَلْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيهَا حَدِيثٌ ؟ وَالْخِلَافُ الَّذِي فِيهَا مَا الصَّحِيحُ مِنْهُ ؟.
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ أَمَّا الَّذِي صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ : { حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ : رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ
وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ
بَعْدَ الْعِشَاءِ . وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ } . وَفِي الصَّحِيحِ
أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا بَنَى
اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } وَجَاءَ فِي السُّنَنِ تَفْسِيرُهُ : {
أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ
الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ }
. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ
صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثُمَّ
قَالَ فِي الثَّالِثَةِ : لِمَنْ شَاءَ } كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ
سُنَّةً . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُصَلِّي
قَبْلَ
الْعَصْرِ وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ الْعِشَاءِ . وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ
أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يُصَلُّونَ
بَيْنَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَإِقَامَتِهَا رَكْعَتَيْنِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَاهُمْ فَلَا يَنْهَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ
ذَلِكَ } . فَمِثْلُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ حَسَنَةٌ لَيْسَتْ سُنَّةً فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ أَنْ تُتَّخَذَ سُنَّةً .
وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَبْلَ
الْعَصْرِ وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ الْعِشَاءِ فَلَا تُتَّخَذُ سُنَّةً
وَلَا يَكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى فِيهَا ؛ بِخِلَافِ مَا فَعَلَهُ وَرَغَّبَ فِيهِ
فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْكَدُ مِنْ هَذَا . وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي
قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا } وَهُوَ ضَعِيفٌ . وَرُوِيَ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ } . وَالْمُرَادُ بِهِ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الظُّهْرِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ لِلْعَصْرِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ أَمْ لَا أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ الْمَكْتُوبَاتِ عَشْرَ
رَكَعَاتٍ أَوْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَوْ
أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ
الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ } وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي
الصَّحِيح أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } وَرُوِيَتْ فِي السُّنَنِ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحِ سِوَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ . وَأَمَّا قَبْلَ الْعَصْرِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ إلَّا وَفِيهِ ضَعْفٌ بَلْ خَطَأٌ كَحَدِيثِ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ سِتَّةَ عَشَرَ رَكْعَةً مِنْهَا قَبْلَ الْعَصْرِ وَهُوَ مَطْعُونٌ فِيهِ فَإِنَّ الَّذِينَ اعْتَنَوْا بِنَقْلِ تَطَوُّعَاتِهِ كَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ بَيَّنُوا مَا كَانَ يُصَلِّيهِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ الْعِشَاءِ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّيهَا لَكِنْ كَانَ أَصْحَابُهُ يُصَلُّونَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَهُوَ يَرَاهُمْ فَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ } كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ حَسَنَةٌ وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الْعَصْرِ كَمَا يُصَلِّي قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَحَسَنٌ وَأَمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ كَانَ يُصَلِّيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ فَهَذَا خَطَأٌ . وَالصَّلَاةُ مَعَ الْمَكْتُوبَةِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ إحْدَاهَا سُنَّةُ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ فَهَاتَانِ أَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِمَا وَهُمَا سُنَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَكَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَلَمْ يَجْعَلْ
مَالِكٌ سُنَّةً رَاتِبَةً غَيْرَهُمَا وَالثَّانِيَةُ مَا كَانَ يُصَلِّيهِ مَعَ
الْمَكْتُوبَةِ فِي الْحَضَرِ وَهُوَ عَشْرُ رَكَعَاتٍ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ
رَكْعَةً وَقَدْ أَثْبَتَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد مَعَ
الْمَكْتُوبَاتِ سُنَّةً مُقَدَّرَةً بِخِلَافِ مَالِكٍ وَالثَّالِثَةُ
التَّطَوُّعُ الْجَائِزُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَ سُنَّةً
لِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ
وَلَا قَدَّرَ فِيهِ عَدَدًا وَالصَّلَاةُ قَبْلَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاءِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَقَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ صَلَاةُ الضُّحَى
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ سُنَّةُ الْعَصْرِ مُسْتَحَبَّةٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قَبْلَ
الْعَصْرِ شَيْئًا وَإِنَّمَا كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ : إمَّا
رَكْعَتَيْنِ وَإِمَّا أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا . وَكَانَ يُصَلِّي بَعْدَ
الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ
رَكْعَتَيْنِ . وَأَمَّا قَبْلَ الْعَصْرِ وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ
الْعِشَاءِ فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي ؛ لَكِنْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ
قَالَ : { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ
شَاءَ } كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ
تَطَوُّعًا قَبْلَ الْعَصْرِ فَهُوَ حَسَنٌ . لَكِنْ لَا يَتَّخِذُ ذَلِكَ سُنَّةً
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ تُقْضَى السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا فَاتَتْ السُّنَّةُ الرَّاتِبَةُ . مِثْلَ سُنَّةِ الظُّهْرِ . فَهَلْ
تُقْضَى بَعْدَ الْعَصْرِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد :
أَحَدُهُمَا : لَا تُقْضَى وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ .
وَالثَّانِي : تُقْضَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَقْوَى . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ لَا يُوَاظِبُ عَلَى السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ ؟ .
فَأَجَابَ :
مَنْ أَصَرَّ عَلَى تَرْكِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى قِلَّةِ دِينِهِ وَرُدَّتْ
شَهَادَتُهُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ : هَلْ لَهَا سُنَّةٌ ؟ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ
الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ رَحْمَةً مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ فَمَا حُجَّةُ مَنْ
يَدَّعِي السُّنَّةَ ؟ وَقَدْ أَنْكَرَ عُمَرُ عَلَى مَنْ سَبَّحَ بَعْدَ
الْفَرِيضَةِ . فَهَلْ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ تَأَكُّدُ السُّنَّةِ فِي
السَّفَرِ كَأَبِي حَنِيفَةَ ؟ وَهَلْ نُقِلَ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَمْ لَا
؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الَّذِي ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ مِنْ التَّطَوُّعِ فَهُوَ رَكْعَتَا الْفَجْرِ
حَتَّى إنَّهُ لَمَّا نَامَ عَنْهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ مُنْصَرَفَهُ مِنْ
خَيْبَرَ قَضَاهُمَا مَعَ الْفَرِيضَةِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَكَذَلِكَ قِيَامُ
اللَّيْلِ وَالْوِتْرِ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ
كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ وَيُوتِرُ
عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ } . وَأَمَّا
الصَّلَاةُ قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا : فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ
ذَلِكَ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يُصَلِّ مَعَهَا شَيْئًا وَكَذَلِكَ كَانَ يُصَلِّي
بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ صَلَّى
مَعَهَا شَيْئًا .
وَابْنُ
عُمَرَ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالسُّنَّةِ وَأَتْبَعَهُمْ لَهَا وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ
فَقَدْ تَنَازَعُوا فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ الصَّلَاةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
كَانَ بِلَالٌ كَمَا أَمَرَهُ . النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَفْصِلُ بَيْنَ أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ حَتَّى يَتَّسِعَ لِرَكْعَتَيْنِ فَكَانَ
مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ يُصَلِّي بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَالنَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَاهُمْ وَيُقِرُّهُمْ وَقَالَ : { بَيْنَ
كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ
أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ } مَخَافَةَ أَنْ
تُتَّخَذَ سُنَّةً . فَإِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ
مِقْدَارَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الصَّلَاةُ حَسَنَةٌ وَأَمَّا إنْ كَانَ يَصِلُ
الْأَذَانَ بِالْإِقَامَةِ فَالِاشْتِغَالُ بِإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ هُوَ
السُّنَّةُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا
سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ } . وَلَا يَنْبَغِي
لِأَحَدِ أَنْ يَدَعَ إجَابَةَ الْمُؤَذِّنِ وَيُصَلِّي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ
فَإِنَّ { السُّنَّةَ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ : مِثْلَ مَا
يَقُولُ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى
النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ
الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ } إلَى آخِرِهِ ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ لَهَا وِرْدٌ بِاللَّيْلِ تُصَلِّيهِ فَتَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ
فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ . فَقِيلَ لَهَا : إنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ عَلَى
النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ فَهَلْ هُوَ صَحِيحٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ } . لَكِنْ
إذَا كَانَ عَادَتُهُ أَنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا وَإِنَّمَا قَعَدَ لِعَجْزِهِ
فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِيهِ أَجْرَ الْقَائِمِ . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ
الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } فَلَوْ عَجَزَ عَنْ
الصَّلَاةِ كُلِّهَا لِمَرَضِ كَانَ اللَّهُ يَكْتُبُ لَهُ أَجْرَهَا كُلَّهُ ؛
لِأَجْلِ نِيَّتِهِ وَفِعْلِهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا عَجَزَ عَنْ
أَفْعَالِهَا .
وَسُئِلَ
:
عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا
تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا } .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا لَفْظُ الْحَدِيثِ { اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ }
وَإِذَا لَمْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا كُنْتُمْ كَالْمَيِّتِ وَكَانَتْ
كَالْقُبُورِ ؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَاَلَّذِي لَا
يَذْكُرُ رَبَّهُ كَمَثَلِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ } وَفِي لَفْظٍ { مَثَلُ
الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَاَلَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ
مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ } .
وَسُئِلَ :
عَنْ صَلَاةِ نِصْفِ شَعْبَانَ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ لَيْلَةَ النِّصْفِ وَحْدَهُ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ
خَاصَّةٍ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ فَهُوَ أَحْسَنُ .
وَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ فِي الْمَسَاجِدِ عَلَى صَلَاةٍ مُقَدَّرَةٍ .
كَالِاجْتِمَاعِ عَلَى مِائَةِ رَكْعَةٍ بِقِرَاءَةِ أَلْفٍ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ } دَائِمًا . فَهَذَا بِدْعَةٌ لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ
الْأَئِمَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّغَائِبِ فَلَا أَصْلَ لَهَا . بَلْ هِيَ مُحْدَثَةٌ . فَلَا
تُسْتَحَبُّ لَا جَمَاعَةً وَلَا فُرَادَى . فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُخَصَّ لَيْلَةُ
الْجُمُعَةِ بِقِيَامِ . أَوْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِصِيَامِ } . وَالْأَثَرُ
الَّذِي ذُكِرَ فِيهَا كَذِبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَلَمْ
يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَصْلًا . وَأَمَّا لَيْلَةُ
النِّصْفِ فَقَدْ رُوِيَ فِي فَضْلِهَا أَحَادِيثُ وَآثَارٌ وَنُقِلَ عَنْ
طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا فَصَلَاةُ
الرَّجُلِ فِيهَا وَحْدَهُ قَدْ تَقَدَّمَهُ فِيهِ سَلَفٌ وَلَهُ فِيهِ حُجَّةٌ
فَلَا يُنْكَرُ مِثْلُ هَذَا . وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيهَا جَمَاعَةً فَهَذَا
مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّاعَاتِ
وَالْعِبَادَاتِ فَإِنَّهُ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ إمَّا وَاجِبٌ
وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ .
وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالتَّرَاوِيحِ فَهَذَا سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ
يَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَالْمُدَاوَمَةُ . وَالثَّانِي مَا لَيْسَ
بِسُنَّةِ رَاتِبَةٍ مِثْلَ الِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ تَطَوُّعٍ مِثْلَ قِيَامِ
اللَّيْلِ أَوْ عَلَى قِرَاءَةِ قُرْآنٍ أَوْ ذِكْرِ اللَّهِ أَوْ دُعَاءٍ .
فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يُتَّخَذْ عَادَةً رَاتِبَةً . فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَّى التَّطَوُّعَ فِي جَمَاعَةٍ أَحْيَانًا وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ إلَّا مَا ذُكِرَ وَكَانَ أَصْحَابُهُ إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ وَالْبَاقِي يَسْتَمِعُونَ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى ذَكَرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ وَمِنْهُمْ وَاحِدٌ يَقْرَأُ فَجَلَسَ مَعَهُمْ } وَقَدْ رُوِيَ فِي الْمَلَائِكَةِ السَّيَّارِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ . فَلَوْ أَنَّ قُومَا اجْتَمَعُوا بَعْضَ اللَّيَالِي عَلَى صَلَاةِ تَطَوُّعٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَّخِذُوا ذَلِكَ عَادَةً رَاتِبَةً تُشْبِهُ السُّنَّةَ الرَّاتِبَةَ لَمْ يُكْرَهْ . لَكِنَّ اتِّخَاذَهُ عَادَةً دَائِرَةً بِدَوَرَانِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ الشَّرِيعَةِ وَتَشْبِيهِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ بِالْمَشْرُوعِ . وَلَوْ سَاغَ ذَلِكَ لَسَاغَ أَنْ يَعْمَلَ صَلَاةً أُخْرَى وَقْتَ الضُّحَى أَوْ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَوْ تَرَاوِيحَ فِي شَعْبَانَ أَوْ أَذَانًا فِي الْعِيدَيْنِ أَوْ حَجًّا إلَى الصَّخْرَةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَذَا تَغْيِيرٌ لِدِينِ اللَّهِ وَتَبْدِيلٌ لَهُ . وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي لَيْلَةِ الْمَوْلِدِ وَغَيْرِهَا . وَالْبِدَعُ الْمَكْرُوهَةُ مَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَبَّةً فِي الشَّرِيعَةِ وَهِيَ أَنْ يُشَرِّعَ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فَمَنْ جَعَلَ شَيْئًا دِينًا وَقُرْبَةً بِلَا شَرْعٍ مِنْ اللَّهِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } فَالْبِدْعَةُ ضِدُّ الشِّرْعَةِ وَالشِّرْعَةُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ وَإِنْ لَمْ يُفْعَلْ عَلَى عَهْدِهِ كَالِاجْتِمَاعِ فِي التَّرَاوِيحِ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ وَجَمْعِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ . وَقَتْلِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ : مِثْلَ تَخْصِيصِ
مَكَانٍ
أَوْ زَمَانٍ بِاجْتِمَاعِ عَلَى عِبَادَةٍ فِيهِ كَمَا خَصَّ الشَّارِعُ
أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ وَأَيَّامَ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ . وَكَمَا خَصَّ
مَكَّةَ بِشَرَفِهَا وَالْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ وَسَائِرَ الْمَسَاجِدِ بِمَا
شَرَعَهُ فِيهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ وَأَنْوَاعَ الْعِبَادَاتِ كُلٌّ بِحَسْبِهِ ؛
وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ مِنْ
النُّصُوصِ والإجماعات فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْبِدْعَةِ ضِدُّ الشِّرْعَةِ وَهُوَ
مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الدِّينِ فَمَتَى ثَبَتَ بِنَصِّ أَوْ إجْمَاعٍ فِي فِعْلٍ
أَنَّهُ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ
بِدْعَةً وَقَدْ قَرَّرْت ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي قَاعِدَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ
الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ ؟ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
" صَلَاةُ الرَّغَائِبِ " بِدْعَةٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ لَمْ
يَسُنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ
خُلَفَائِهِ وَلَا اسْتَحَبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ : كَمَالِكِ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي
وَاللَّيْثِ وَغَيْرِهِمْ . وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِيهَا كَذِبٌ بِإِجْمَاعِ
أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ الَّتِي تُذْكَرُ
أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَفِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ وَأَلْفِيَّةِ
نِصْفِ شَعْبَانَ وَالصَّلَاةِ يَوْمَ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَغَيْرِ هَذَا
مِنْ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ
الْمُصَنِّفِينَ فِي الرَّقَائِقِ فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ
بِالْحَدِيثِ أَنَّ أَحَادِيثَهُ كُلَّهَا مَوْضُوعَةٌ وَلَمْ يَسْتَحِبَّهَا
أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامِ وَلَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ
بِصِيَامِ } . وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي تُذْكَرُ فِي صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
وَلَيْلَةِ الْعِيدَيْنِ كَذِبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ هَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الصَّلَاةُ لَمْ يُصَلِّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا أَئِمَّةُ
الْمُسْلِمِينَ وَلَا رَغَّبَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَلَا الْأَئِمَّةُ وَلَا ذَكَرُوا
لِهَذِهِ اللَّيْلَةِ فَضِيلَةً تَخُصُّهَا . وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي
ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ
بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ . وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ :
أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ : فِي " سُجُودِ الْقُرْآنِ "
وَهُوَ نَوْعَانِ : خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ السُّجُودِ وَمَدْحٌ لَهُمْ أَوْ أَمْرٌ
بِهِ وَذَمٌّ عَلَى تَرْكِهِ . فَالْأَوَّلُ سَجْدَةُ الْأَعْرَافِ { إنَّ
الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ
وَلَهُ يَسْجُدُونَ } وَهَذَا ذَكَرَهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ
وَالذِّكْرِ . وَفِي الرَّعْدِ { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } وَفِي
النَّحْلِ { أَوَلَمْ يَرَوْا إلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ
ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } {
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ
وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ }
{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وَفِي سُبْحَانَ : { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ سُجُودٍ مَعَ مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ فَسَجَدَ . وَكَذَلِكَ فِي مَرْيَمَ { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } فَهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ سَجَدُوا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ وَأُولَئِكَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ يَسْجُدُونَ . وَظَاهِرُ هَذَا سُجُودٌ مُطْلَقٌ كَسُجُودِ السَّحَرَةِ وَكَقَوْلِهِ { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ } وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الرُّكُوعَ . فَالسُّجُودُ هُوَ خُضُوعٌ لَهُ وَذُلٌّ لَهُ ؛ وَلِهَذَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْخُضُوعِ . كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : تَرَى الْأَكَمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ . قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ : السُّجُودُ التَّوَاضُعُ وَالْخُضُوعُ وَأَنْشَدُوا :
سَاجِدُ
الْمَنْخِرِ مَا يَرْفَعُهُ * * * خَاشِعُ الطَّرْفِ أَصَمُّ الْمَسْمَعِ
قِيلَ لِسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : أَيَسْجُدُ الْقَلْبُ ؟ قَالَ : نَعَمْ
سَجْدَةً لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْهَا أَبَدًا . وَفِي " سُورَةِ الْحَجِّ
" الْأُولَى خَبَرُ : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ
وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إنَّ اللَّهَ
يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } وَالثَّانِيَةُ أَمْرٌ مَقْرُونٌ بِالرُّكُوعِ وَلِهَذَا
صَارَ فِيهَا نِزَاعٌ . وَسَجْدَةُ الْفُرْقَانِ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا
وَزَادَهُمْ نُفُورًا } خَبَرٌ مَقْرُونٌ بِذَمِّ مَنْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَلَمْ
يَسْجُدْ لَيْسَ هُوَ مَدْحًا . وَكَذَلِكَ سَجْدَةُ " النَّمْلِ " : {
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا
يَهْتَدُونَ } { أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } {
اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ
ذَمَّ مَنْ يَسْجُدُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَمْ يَسْجُدْ لِلَّهِ . وَمَنْ قَرَأَ
أَلَا يَا اُسْجُدُوا . كَانَتْ أَمْرًا . وَفِي " الم تَنْزِيل السَّجْدَة
" { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا
بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْأَمْرِ وَالتَّخْصِيصِ ؛ فَإِنَّهُ نَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَمْ يَسْجُدْ إذَا ذُكِّرَ بِهَا . وَفِي " ص " خَبَرٌ عَنْ سَجْدَةِ دَاوُد وَسَمَّاهَا رُكُوعًا . وَ " حم تَنْزِيل " أَمْرٌ صَرِيحٌ : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } . وَ " النَّجْم " أَمْرٌ صَرِيحٌ : { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } وَ " الِانْشِقَاق " أَمْرٌ صَرِيحٌ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } . وَ " { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } " أَمْرٌ مُطْلَقٌ : { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } فَالسِّتَّةُ الْأُوَلُ إلَى الْأُولَى مِنْ الْحَجِّ خَبَرٌ وَمَدْحٌ . وَالتِّسْعُ الْبَوَاقِي مِنْ الثَّانِيَةِ مِنْ الْحَجِّ أَمْرٌ وَذَمٌّ لِمَنْ لَمْ يَسْجُدْ إلَّا " ص " فَنَقُولُ : قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ . قِيلَ : يَجِبُ " وَقِيل لَا يَجِبُ " وَقِيلَ يَجِبُ إذَا قُرِئَتْ السَّجْدَةُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد وَاَلَّذِي يَتَبَيَّنُ لِي أَنَّهُ وَاجِبٌ : فَإِنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا مَدْحٌ لَا تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى الْوُجُوبِ لَكِنَّ آيَاتِ الْأَمْرِ وَالذَّمِّ وَالْمُطْلَقَ مِنْهَا قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ كَالثَّانِيَةِ مِنْ الْحَجِّ وَالْفُرْقَانِ وَاقْرَأْ وَهَذَا ضَعِيفٌ فَكَيْفَ وَفِيهَا مَقْرُونٌ بِالتِّلَاوَةِ كَقَوْلِهِ
{ إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } فَهَذَا نَفْيٌ لِلْإِيمَانِ بِالْآيَاتِ عَمَّنْ لَا يَخِرُّ سَاجِدًا إذَا ذُكِّرَ بِهَا . وَإِذَا كَانَ سَامِعًا لَهَا فَقَدْ ذُكِّرَ بِهَا . وَكَذَلِكَ " سُورَةُ الِانْشِقَاقِ " { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } وَهَذَا ذَمٌّ لِمَنْ لَا يَسْجُدُ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَقَوْلِهِ : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } { وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ } { فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } . وَكَذَلِكَ " سُورَةُ النَّجْمِ " قَوْلُهُ : { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } { وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ } { وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ } { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } أَمْرٌ بَالِغًا عَقِبَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ يَقْتَضِي أَنَّ سَمَاعَهُ سَبَبُ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ لَكِنَّ السُّجُودَ الْمَأْمُورَ بِهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِسُجُودِ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِسُجُودِ التِّلَاوَةِ فَمَنْ ظَنَّ هَذَا أَوْ هَذَا فَقَدَ غَلِطَ بَلْ هُوَ مُتَنَاوِلٌ لَهُمَا جَمِيعًا كَمَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ . فَالسُّجُودُ عِنْدَ سَمَاعِ آيَةِ السَّجْدَةِ هُوَ سُجُودٌ مُجَرَّدٌ عِنْدَ سَمَاعِ آيَةِ السَّجْدَةِ سَوَاءٌ تُلِيَتْ مَعَ سَائِرِ الْقُرْآنِ أَوْ وَحْدَهَا لَيْسَ هُوَ سُجُودًا عِنْدَ تِلَاوَةِ مُطْلَقِ الْقُرْآنِ فَهُوَ سُجُودٌ عِنْدَ جِنْسِ الْقُرْآنِ . وَعِنْدَ خُصُوصِ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ فَالْأَمْرُ يَتَنَاوَلُهُ . وَهُوَ أَيْضًا مُتَنَاوِلٌ لِسُجُودِ الْقُرْآنِ أَيْضًا وَهُوَ أَبْلَغُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
قَالَ : { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } فَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِهِ إلَّا مَنْ إذَا ذُكِّرَ بِهَا خَرَّ سَاجِدًا وَسَبَّحَ بِحَمْدِ رَبِّهِ وَهُوَ لَا يَسْتَكْبِرُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ : { بِآيَاتِنَا } لَيْسَ يَعْنِي بِهَا آيَاتِ السُّجُودِ فَقَطْ بَلْ جَمِيعَ الْقُرْآنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إذَا ذُكِّرَ بِجَمِيعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ يَخِرُّ سَاجِدًا وَهَذَا حَالُ الْمُصَلِّي فَإِنَّهُ يَذَّكَّرُ بِآيَاتِ اللَّهِ بِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَالْإِمَامُ يَذَّكَّرُ بِقِرَاءَةِ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ حَتَّى يَخِرُّوا سُجَّدًا وَهُوَ سُجُودُهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ سُجُودٌ مُرَتَّبٌ يَنْتَقِلُونَ أَوَّلًا إلَى الرُّكُوعِ ثُمَّ إلَى السُّجُودِ وَالسُّجُودُ مَثْنَى كَمَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ لِيَجْتَمِعَ فِيهِ خَرُورَانِ : خُرُورٌ مِنْ قِيَامٍ وَهُوَ السَّجْدَةُ الْأُولَى وَخُرُورٌ مِنْ قُعُودٍ وَهُوَ السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ . وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ قَعْدَةِ الْفَصْلِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا كَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ ؛ فَإِنَّ الْخُرُورَ سَاجِدًا لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ قُعُودٍ أَوْ قِيَامٍ . وَإِذَا فَصَلَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ كَحَدِّ السَّيْفِ أَوْ كَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ لَمْ يَكُنْ هَذَا خُرُورًا . وَلَكِنَّ الَّذِي جَوَّزَهُ ظَنَّ أَنَّ السُّجُودَ يَحْصُلُ بِوَضْعِ الرَّأْسِ عَلَى الْأَرْضِ كَيْفَ مَا كَانَ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ . بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ كَمَا قَالَ : { إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا } وَلَمْ يَقُلْ : سَجَدُوا . فَالْخُرُورُ مَأْمُورٌ
بِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَفْسُ الْخُرُورِ عَلَى الذَّقَنِ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ كَمَا أَنَّ وَضْعَ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } فَمَدَحَ هَؤُلَاءِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِخَرُورِهِمْ لِلْأَذْقَانِ أَيْ عَلَى الْأَذْقَانِ سُجَّدًا . وَالثَّانِي بِخَرُورِهِمْ لِلْأَذْقَانِ : أَيْ عَلَيْهَا يَبْكُونَ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ نَفْسَ الْخُرُورِ عَلَى الذَّقَنِ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْخُرُورِ إلْصَاقَ الذَّقَنِ بِالْأَرْضِ كَمَا تُلْصَقُ الْجَبْهَةُ وَالْخُرُورُ عَلَى الذَّقَنِ هُوَ مَبْدَأُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودُ مُنْتَهَاهُ فَإِنَّ السَّاجِدَ يَسْجُدُ عَلَى جَبْهَتِهِ لَا عَلَى ذَقَنِهِ لَكِنَّهُ يَخِرُّ عَلَى ذَقَنِهِ وَالذَّقَنُ آخِرُ حَدِّ الْوَجْهِ وَهُوَ أَسْفَلُ شَيْءٍ مِنْهُ وَأَقْرَبُهُ إلَى الْأَرْضِ . فَاَلَّذِي يَخِرُّ عَلَى ذَقَنِهِ يَخِرُّ وَجْهُهُ وَرَأْسُهُ خُضُوعًا لِلَّهِ . وَمِنْ حِينَئِذٍ قَدْ شُرِعَ فِي السُّجُودِ فَكَمَا أَنَّ وَضْعَ الْجَبْهَةِ هُوَ آخِرُ السُّجُودِ فَالْخُرُورُ عَلَى الذَّقَنِ أَوَّلُ السُّجُودِ وَتَمَامُ الْخُرُورِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ } أَيْ لِلْوُجُوهِ . قَالَ الزَّجَّاجُ : الَّذِي يَخِرُّ وَهُوَ قَائِمٌ إنَّمَا يَخِرُّ لِوَجْهِهِ وَالذَّقَنُ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ وَهُوَ غُضْرُوفُ أَعْضَاءِ الْوَجْهِ . فَإِذَا ابْتَدَأَ يَخِرُّ فَأَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ مِنْ وَجْهِهِ إلَى الْأَرْضِ الذَّقَنُ .
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : أَوَّلُ مَا يَلْقَى الْأَرْضَ مِنْ الَّذِي يَخِرُّ قَبْلَ أَنْ يُصَوِّبَ جَبْهَتَهُ ذَقَنُهُ فَلِذَلِكَ قَالَ : { لِلْأَذْقَانِ } وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَخِرُّونَ لِلْوُجُوهِ فَاكْتَفَى بِالذَّقَنِ مِنْ الْوَجْهِ . كَمَا يَكْتَفِي بِالْبَعْضِ مِنْ الْكُلِّ . وَبِالنَّوْعِ مِنْ الْجِنْسِ . قُلْت : وَاَلَّذِي يَخِرُّ عَلَى الذَّقَنِ لَا يَسْجُدُ عَلَى الذَّقَنِ فَلَيْسَ الذَّقَنُ مِنْ أَعْضَاءِ السُّجُودِ بَلْ أَعْضَاءُ السُّجُودِ سَبْعَةٌ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ : الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى الْأَنْفِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ } وَلَوْ سَجَدَ عَلَى ذَقَنِهِ ارْتَفَعَتْ جَبْهَتُهُ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَعَذَّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ ؛ لِأَنَّ الْأَنْفَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ نَاتِئٌ يَمْنَعُ إلْصَاقَهُمَا مَعًا بِالْأَرْضِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَالسَّاجِدُ يَخِرُّ عَلَى ذَقَنِهِ وَيَسْجُدُ عَلَى جَبْهَتِهِ . فَهَذَا خُرُورُ السُّجُودِ . ثُمَّ قَالَ : { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ } فَهَذَا خُرُورُ الْبُكَاءِ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ سُجُودٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ . فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ : { إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } فَهَذَا خُرُورٌ وَسُجُودٌ وَبُكَاءٌ . وَالثَّانِي : كَقَوْلِهِ : { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ } فَقَدْ يَبْكِي الْبَاكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ مَعَ خُضُوعِهِ بِخُرُورِهِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى حَدِّ السُّجُودِ
وَهَذَا عِبَادَةٌ أَيْضًا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُرُورِ لِلَّهِ وَالْبُكَاءِ لَهُ . وَكِلَاهُمَا عِبَادَةٌ لِلَّهِ فَإِنَّ بُكَاءَ الْبَاكِي لِلَّهِ كَاَلَّذِي يَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ . مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ . وَقَدْ رُوِيَ { عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ : عَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَيْنٌ يَخْرُجُ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ : إمَامٌ عَادِلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةِ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ حَسَبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } . فَذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ إذْ كُلٌّ مِنْهُمْ كَمَّلَ الْعِبَادَةَ الَّتِي قَامَ بِهَا وَقَدْ صَنَّفَ مُصَنِّفٌ فِي نَعْتِهِمْ سَمَّاهُ ( اللُّمْعَةَ فِي أَوْصَافِ السَّبْعَةِ . فَالْإِمَامُ الْعَادِلُ : كَمَّلَ مَا يَجِبُ مِنْ الْإِمَارَةِ وَالشَّابُّ النَّاشِئُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ كَمَّلَ مَا يَجِبُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَاَلَّذِي قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ كَمَّلَ عِمَارَةَ الْمَسَاجِدِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِقَوْلِهِ : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } . وَالْعَفِيفُ : كَمَّلَ الْخَوْفَ مِنْ اللَّهِ وَالْمُتَصَدِّقُ كَمَّلَ الصَّدَقَةَ لِلَّهِ ؛ وَالْبَاكِي : كَمَّلَ الْإِخْلَاصَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَنْ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } لَا رَيْبَ أَنَّهُ سَجَدَ . كَمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ سَجَدَ لِلَّهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مَدَحَهُ بِكَوْنِهِ خَرَّ رَاكِعًا وَهَذَا أَوَّلُ السُّجُودِ وَهُوَ خُرُورُهُ . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَوَّلَ فِعْلِهِ وَهُوَ خُرُورُهُ رَاكِعًا لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْخُرُورُ كَانَ لِيَسْجُدَ . كَمَا أَثْنَى عَلَى النَّبِيِّينَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا { إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } { الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ } أَنَّهُمْ { إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ } وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخُرُورَ هُوَ أَوَّلُ الْخُضُوعِ الْمُنَافِي لِلْكِبْرِ فَإِنَّ الْمُتَكَبِّرَ يَكْرَهُ أَنْ يَخِرَّ وَيُحِبَّ أَنْ لَا يَزَالَ مُنْتَصِبًا مُرْتَفِعًا إذَا كَانَ الْخُرُورُ فِيهِ ذُلٌّ وَتَوَاضُعٌ وَخُشُوعٌ ؛ وَلِهَذَا يَأْنَفُ مِنْهُ أَهْلُ الْكِبْرِ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِ الْعَرَبِ . فَكَانَ أَحَدُهُمْ إذَا سَقَطَ مِنْهُ الشَّيْءُ لَا يَتَنَاوَلُهُ لِئَلَّا يَخِرُّ وَيَنْحَنِي . فَإِنَّ الْخُرُورَ انْخِفَاضُ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَهُوَ أَعْلَى مَا فِي الْإِنْسَانِ وَأَفْضَلُهُ وَهُوَ قَدْ خُلِقَ رَفِيعًا مُنْتَصِبًا فَإِذَا خَفَضَهُ لَا سِيَّمَا بِالسُّجُودِ كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ ذُلِّهِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصْلُحْ السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ فَمَنْ سَجَدَ لِغَيْرِهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ فَهُوَ مُسْتَكْبِرٌ عَنْ عِبَادَتِهِ وَكِلَاهُمَا كَافِرٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ . قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وَقَالَ
تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } وَقَالَ فِي قِصَّةِ بلقيس : { وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ } { أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } وَالشَّمْسُ أَعْظَمُ مَا يُرَى فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَأَعَمُّهُ نَفْعًا وَتَأْثِيرًا . فَالنَّهْيُ عَنْ السُّجُودِ لَهَا نَهْيٌ عَمَّا هُوَ دُونَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى مِنْ الْكَوَاكِبِ وَالْأَشْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ : { وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ } دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لِلْخَالِقِ لَا لِلْمَخْلُوقِ وَإِنْ عَظُمَ قَدْرُهُ ؛ بَلْ لِمَنْ خَلَقَهُ . وَهَذَا لِمَنْ يَقْصِدُ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ . كَمَا قَالَ : { إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَسْجُدَ لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ فِي بَنِي آدَمَ مَنْ يَسْتَكْبِرُ عَنْ السُّجُودِ لَهُ فَقَالَ : الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ " بَلْ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ سَآمَةٌ وَلَا مَلَالَةٌ . بِخِلَافِ الْآدَمِيِّينَ فَوَصَفَهُمْ هُنَا بِالتَّسْبِيحِ لَهُ وَوَصَفَهُمْ بِالتَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ جَمِيعًا فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ }
وَهُمْ
يَصُفُّونَ لَهُ صُفُوفًا كَمَا قَالُوا : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } {
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَّا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ
الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ
عِنْدَ رَبِّهَا قَالَ : يَسُدُّونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي
الصَّفِّ } .
فَصْلٌ :
فَآيَاتُهُ سُبْحَانَهُ تُوجِبُ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فَهْمُهَا
وَتَدَبُّرُهَا لِيَعْلَمَ مَا تَضَمَّنَتْهُ . وَالثَّانِي : عِبَادَتُهُ
وَالْخُضُوعُ لَهُ إذَا سُمِعَتْ فَتِلَاوَتُهُ إيَّاهَا وَسَمَاعُهَا يُوجِبُ
هَذَا وَهَذَا فَلَوْ سَمِعَهَا السَّامِعُ وَلَمْ يَفْهَمْهَا كَانَ مَذْمُومًا
وَلَوْ فَهِمَهَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهَا كَانَ مَذْمُومًا بَلْ لَا بُدَّ
لِكُلِّ أَحَدٍ عِنْدَ سَمَاعِهَا مِنْ فَهْمِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا . كَمَا
أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ اسْتِمَاعِهَا فَالْمُعْرِضُ عَنْ
اسْتِمَاعِهَا كَافِرٌ وَاَلَّذِي لَا يَفْهَمُ مَا أُمِرَ بِهِ فِيهَا كَافِرٌ .
وَاَلَّذِي يَعْلَمُ مَا أُمِرَ بِهِ فَلَا يُقِرُّ بِوُجُوبِهِ وَيَفْعَلُهُ
كَافِرٌ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَذُمُّ الْكُفَّارَ بِهَذَا وَهَذَا . وَهَذَا
كَقَوْلِهِ : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } { كَأَنَّهُمْ
حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ } { فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } وَقَوْلِهِ : { وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وَقَوْلِهِ : { كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } { بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَقَالَ فِيمَنْ لَمْ يَفْهَمْهَا وَيَتَدَبَّرْهَا : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } فَذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ وَلَوْ فَهِمُوا لَمْ يَعْمَلُوا بِعِلْمِهِمْ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } { إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : لَمْ يَتَغَافَلُوا عَنْهَا فَكَأَنَّهُمْ صُمٌّ لَمْ يَسْمَعُوهَا عَمَّنْ لَمْ يَرَوْهَا . وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ : لَمْ يَبْقَوْا عَلَى حَالِهِمْ الْأُولَى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يَرَوْا وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا خَرُّوا حَقِيقَةً . تَقُولُ الْعَرَبُ شَتَمْت فُلَانًا فَقَامَ يَبْكِي وَقَعَدَ يَنْدُبُ وَأَقْبَلَ يَعْتَذِرُ وَظَلَّ يَفْتَخِرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَامَ وَلَا قَعَدَ . قُلْت : فِي ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ لَفْظُ الْخُرُورِ دُونَ غَيْرِهِ حِكْمَةٌ فَإِنَّهُمْ لَوْ خَرُّوا وَكَانُوا صُمًّا وَعُمْيَانًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَمْدُوحًا بَلْ مَعِيبًا . فَكَيْفَ إذَا كَانُوا صُمًّا وَعُمْيَانًا بِلَا خُرُورٍ . فَلَا بُدَّ مِنْ شَيْئَيْنِ : مِنْ الْخُرُورِ وَالسُّجُودِ . وَلَا بُدَّ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ لِمَا فِي آيَاتِهِ مِنْ النُّورِ وَالْهُدَى
وَالْبَيَانِ . وَكَذَلِكَ لَمَّا شُرِعَتْ الصَّلَاةُ شُرِعَ فِيهَا الْقِرَاءَةُ فِي الْقِيَامِ ثُمَّ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . فَأَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } فَافْتَتَحَهَا بِالْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَخَتَمَهَا بِالْأَمْرِ بِالسُّجُودِ فَقَالَ : { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّذْكِيرَ بِهَا كَقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ مُوجِبٌ لِلسُّجُودِ وَالتَّسْبِيحِ وَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ إذَا ذُكِّرَ بِهَا يَخِرُّ سَاجِدًا وَيُسَبِّحُ بِحَمْدِ رَبِّهِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَهَذَا مُتَنَاوِلٌ الْآيَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا سُجُودٌ وَهِيَ جُمْهُورُ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَفِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ آلَافِ آيَةٍ وَأَمَّا آيَاتُ السَّجْدَةِ فَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً . وَقَوْلُهُ : { ذُكِّرُوا بِهَا } يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْآيَاتِ فَالتَّذْكِيرُ بِهَا جَمِيعُهَا مُوجِبٌ لِلتَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ التَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ . وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ عَامَّةُ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ جِنْسِ التَّسْبِيحِ فَمَنْ لَمْ يُسَبِّحْ فِي السُّجُودِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَإِذَا أَتَى بِنَوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّسْبِيحِ الْمَشْرُوعِ أَجْزَأَهُ . وَلِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . قِيلَ : لَا يَجِبُ ذِكْرٌ بِحَالِ
وَقِيلَ : يَجِبُ وَيَتَعَيَّنُ قَوْلُهُ : " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ . وَقِيلَ : يَجِبُ جِنْسُ التَّسْبِيحِ وَإِنْ كَانَ هَذَا النَّوْعُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِهِ أَنْ يُجْعَلَ فِي السُّجُودِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنْوَاعٌ أُخَرُ . وَقَوْلُهُ : { اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ } فِيهِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ إذْ قَدْ يُقَالُ الْمُسَبِّحُ لِرَبِّهِ : بِأَيِّ اسْمٍ سَبَّحَهُ فَقَدْ سَبَّحَ اسْمَ رَبِّهِ الْأَعْلَى . كَمَا أَنَّهُ بِأَيِّ اسْمٍ دَعَاهُ فَقَدْ دَعَا رَبَّهُ الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى . كَمَا قَالَ : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَقَالَ : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } فَإِذَا كَانَ يُدْعَى بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَبِأَيِّ اسْمٍ دَعَاهُ فَقَدْ دَعَا الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَهُوَ يُسَبِّحُ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَبِأَيِّ اسْمٍ سَبَّحَ فَقَدْ سَبَّحَ الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَسْمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ تَابِعٌ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ . وَفِي قَوْله تَعَالَى { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } فَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مَنْ قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالسُّجُودِ وَالْمُصَلِّي قَدْ قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِالسُّجُودِ فَلِهَذَا يَسْمَعُ الْقُرْآنَ وَيَسْجُدُ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ نَفْسِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ الْقُرْآنَ . وَقَدْ
يُقَالُ : لَا يُصَلُّونَ ؛ لَكِنْ قَوْلَهُ : { خَرُّوا سُجَّدًا } صَرِيحٌ فِي السُّجُودِ الْمَعْرُوفِ لِاقْتِرَانِهِ بِلَفْظِ الْخُرُورِ . وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَفِيهَا نِزَاعٌ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُصَلُّونَ قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ . وَالثَّانِي : لَا يَخْضَعُونَ لَهُ وَلَا يَسْتَكِينُونَ لَهُ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى . قَالَ : وَاحْتَجَّ بِهَا قَوْمٌ عَلَى وُجُوبِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ . وَإِنَّمَا الْمَعْنَى لَا يَخْشَعُونَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَضَافَ السُّجُودَ إلَى جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَالسُّجُودُ يَخْتَصُّ بِمَوَاضِعَ مِنْهُ . قُلْت : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَذْكُرُونَ غَيْرَهُ : كَالثَّعْلَبِيِّ والبغوي وَحَكَوْهُ عَنْ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي : فَمَا عَلِمْت أَحَدًا نَقَلَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَاَلَّذِينَ قَالُوهُ إنَّمَا قَالُوهُ لَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ أَنْ يَسْجُدَ فَأَرَادُوا أَنْ يُفَسِّرُوا الْآيَةَ بِمَعْنَى يَجِبُ فِي كُلِّ حَالٍ . فَقَالُوا : يَخْضَعُونَ وَيَسْتَكِينُونَ . فَإِنَّ هَذَا يُؤْمَرُ
بِهِ كُلُّ مَنْ قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ . وَلَفْظُ السُّجُودِ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ . كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ لَكِنْ يُقَالُ لَهُمْ : الْخُضُوعُ مَأْمُورٌ بِهِ وَخُضُوعُ الْإِنْسَانِ وَخُشُوعُهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالسُّجُودِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ السُّجُودِ الْمُضَافِ إلَى بَنِي آدَمَ : حَيْثُ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ ؛ إذْ هُوَ خُضُوعُ الْآدَمِيِّ لِلرَّبِّ وَالرَّبُّ لَا يَرْضَى مِنْ النَّاسِ بِدُونِ هَذَا الْخُضُوعِ إذْ هُوَ غَايَةُ خُضُوعِ الْعَبْدِ وَلِكُلِّ مَخْلُوقٍ خُضُوعٌ بِحَسْبِهِ هُوَ سُجُودُهُ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سُجُودُ الْإِنْسَانِ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا خُضُوعٌ لَيْسَ فِيهِ سُجُودُ الْوَجْهِ : فَهَذَا لَا يُعْرَفُ بَلْ يُقَالُ : هُمْ مَأْمُورُونَ : إذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ بِالسُّجُودِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السُّجُودُ التَّامُّ عَقِبَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ فَقَدْ أَتَوْا بِالسُّجُودِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِمْ حَصَلَ لَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ بِاعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالْعَزْمِ عَلَى الِامْتِثَالِ . فَإِذَا اعْتَقَدُوا وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَعَزَمُوا عَلَى الِامْتِثَالِ فَهَذَا مَبْدَأُ السُّجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ ثُمَّ إذَا صَلَّوْا فَهَذَا تَمَامُهُ . كَمَا قَالَ فِي الْمُشْرِكِينَ : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } فَهُمْ إذَا تَابُوا وَالْتَزَمُوا الصَّلَاةَ كُفَّ عَنْ قِتَالِهِمْ . فَهَذَا مَبْدَأُ إقَامَتِهَا ثُمَّ إذَا فَعَلُوهَا فَقَدْ أَتَمُّوا إقَامَتَهَا . وَأَمَّا إذَا الْتَزَمُوهَا
بِالْكَلَامِ وَلَمْ يَفْعَلُوا فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَجَدَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ صَلَّيْت مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ . فَقَرَأَ { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } فَسَجَدَ فَقُلْت : مَا هَذِهِ ؟ قَالَ : سَجَدْت بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ وَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ } وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّتِهِ . وَأَمَّا سُجُودُهُ فِيهَا فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ دُونَ الْبُخَارِيِّ . وَالسُّجُودُ فِيهَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ لَفْظَ السُّجُودِ فِيهَا لَمْ يُرِدْ بِهِ إلَّا مُطْلَقَ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَأَمَّا السُّجُودُ الْمَعْرُوفُ فَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ السُّجُودُ الْخَاصُّ مَشْرُوعًا إذَا تُلِيَتْ لَا سِيَّمَا فِي الصَّلَاةِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ جَوَابُ مَنْ أَجَابَ مَنْ احْتَجَّ بِهَا عَلَى وُجُوبِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ : بِأَنَّ الْمُرَادَ الْخُضُوعُ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا فُسِّرَ السُّجُودُ بِالصَّلَاةِ كَمَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ لَمْ يَجِبْ سُجُودُ التِّلَاوَةِ . قِيلَ الصَّلَاةُ مُرَادَةٌ مِنْ جِنْسِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ . كَمَا تَقَدَّمَ . وَهَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ عَلَى مَنْ قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنْ يَسْجُدَ
فَإِنْ قُرِئَ عَلَيْهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ قَرِيبًا إذَا حَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ سَاعَةٍ يُقْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا الْقُرْآنُ إلَّا هُوَ وَقْتُ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا ؛ إذْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ فَإِذَا لَمْ يُصَلِّ فَهُوَ مِمَّنْ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُ فَإِنْ قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ سَجْدَةً يَخِرُّ فِيهَا مِنْ قِيَامٍ وَسَجْدَةٍ يَخِرُّ فِيهَا مِنْ قُعُودٍ وَكُلٌّ مِنْهُمَا بَعْدَ رُكُوعٍ كَمَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا السُّجُودُ عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ : فَهُوَ السُّجُودُ الْخَاصُّ وَهُوَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ وَهَذَا سُجُودٌ مُبَادَرٌ إلَيْهِ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهَا أَمَرَتْهُ أَنْ يَسْجُدَ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَمِنْ تَمَامِ الْمُبَادَرَةِ أَنْ يَسْجُدَ عِنْدَ سَمَاعِهَا سُجُودَ التِّلَاوَةِ . ثُمَّ يَسْجُدَ عِنْدَ تِلَاوَةِ غَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَأْمُرُ بِالسُّجُودِ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ هِيَ أَوْ غَيْرُهَا فَهِيَ الْآمِرَةُ بِالسُّجُودِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ دُونَ سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي لَا يَسْجُدُ عِنْدَهَا فَكَانَ لَهَا حَضٌّ مِنْ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ مَعَ عُمُومِ كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَتُخَصُّ بِالسُّجُودِ لَهَا وَيَسْجُدُ فِي الصَّلَاةِ إذَا قُرِئَتْ كَمَا يَسْجُدُ إذَا قُرِئَ غَيْرُهَا . وَبِهَذَا فَسَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّهُ سَجَدَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ وَفَعَلَهُ إذَا خَرَجَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ أَوْ تَفْسِيرًا لِمُجْمَلِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ فَدَلَّ
ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ السُّجُودِ الَّذِي سَجَدَهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ لَا سِيَّمَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ . وَالصَّلَاةُ مَفْرُوضَةٌ وَإِتْمَامُهَا مَفْرُوضٌ فَلَا تُقْطَعُ إلَّا بِعَمَلِ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ إتْمَامِهَا فَعُلِمَ أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ إتْمَامِهَا بِلَا سُجُودٍ وَلَوْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ فِعْلًا مِنْ جِنْسِهَا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ . وَهُنَا سُجُودُ التِّلَاوَةِ مَشْرُوعٌ فِيهَا . وَعَنْ أَحْمَد فِي وُجُوبِ هَذَا السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ رِوَايَتَانِ : وَالْأَظْهَرُ الْوُجُوبُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ لِوُجُوهِ مُتَعَدِّدَةٍ : مِنْهَا أَنَّ نَفْسَ الْأَئِمَّةِ يُؤْمَرُونَ أَنْ يُصَلُّوا كَمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ هَكَذَا صَلَّى . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ : { لَا يَسْجُدُونَ } وَلَمْ يَقُلْ لَا يُصَلُّونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ السُّجُودَ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ فَيَتَنَاوَلُ أَيْضًا الْخُضُوعَ وَالْخُشُوعَ كَمَا مُثِّلَ . فَالْقُرْآنُ مُوجِبٌ لِمُسَمَّى السُّجُودِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ فَمَا مِنْ سُجُودٍ إلَّا وَالْقُرْآنُ مُوجِبٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا فَهُوَ كَافِرٌ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ كُلُّ سُجُودٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ بَلْ هُوَ بِحَسَبِ مَا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى تَكْرَارِ السُّجُودِ عِنْدَ تَكْرَارِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ
وَهَذَا وَاجِبٌ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِ الصَّلَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ بِالسُّجُودِ : فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَإِنَّهَا فَرْضٌ بِالِاتِّفَاقِ وَيَتَنَاوَلُ سُجُودَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ السُّجُودَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا تُلِيَ سَبَبًا لَهُ وَإِلَّا كَانَ أَجْنَبِيًّا . وَالْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا السُّجُودَ مِنْ السُّجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَخْرُجُ السُّجُودُ الْمَقْرُونُ بِالْأَمْرِ عَنْ الْأَمْرِ وَهَذَا كَسُجُودِ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ لَمَّا أُمِرُوا . وَهَكَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي . يَقُولُ : يَا وَيْلَهُ . أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْت بِالسُّجُودِ فَأَبَيْت فَلِي النَّارُ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ هَذَا تَرْغِيبًا فِي هَذَا السُّجُودِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا السُّجُودَ مَأْمُورٌ بِهِ كَمَا كَانَ السُّجُودُ لِآدَمَ ؛ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا أَمْرٌ وَقَدْ سُنَّ السُّجُودُ عَقِبَهُ فَمَنْ سَجَدَ كَانَ مُتَشَبِّهًا بِالْمَلَائِكَةِ وَمَنْ أَبَى تَشَبَّهَ بإبليس ؛ بَلْ هَذَا سُجُودٌ لِلَّهِ فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ السُّجُودِ لِآدَمَ . وَهَذَا الْحَدِيثُ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْوُجُوبِ وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ أَيْضًا .
وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ { وَالنَّجْمِ } سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ . كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّهُمْ سَجَدُوا إلَّا رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصَى وَقَالَ يَكْفِينِي هَذَا . قَالَ فَلَقَدْ رَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهَذَا السُّجُودِ وَأَنَّ تَارِكَهُ كَانَ مَذْمُومًا وَلَيْسَ هُوَ سُجُودَ الصَّلَاةِ ؛ بَلْ كَانَ خُضُوعًا لِلَّهِ وَفِيهِمْ كُفَّارٌ وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَضِّئًا لَكِنْ سُجُودُ الْخُضُوعِ إذَا تُلِيَ كَلَامُهُ . كَمَا أَثْنَى عَلَى مَنْ إذَا سَمِعَهُ سَجَدَ فَقَالَ : { إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } وَهَذَا وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ مُتَنَاوِلٌ سُجُودَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ رَكَعُوا وَسَجَدُوا فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مُتَنَاوِلٌ سُجُودَ الْقُرْآنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ السُّجُودَ بَعْضُ الصَّلَاةِ وَهُنَا ذَكَرَ سُجُودًا مُجَرَّدًا عَلَى الْأَذْقَانِ فَمَا بَقِيَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الرُّكُوعِ ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يَكُونُ عَلَى الْأَذْقَانِ . وَقَوْلُهُ : { لِلْأَذْقَانِ } أَيْ عَلَى الْأَذْقَانِ . كَمَا قَالَ : { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أَيْ عَلَى الْجَبِينِ . وَقَوْلُهُ : { لِلْأَذْقَانِ } يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ السُّجُودِ
وَأَنَّهُمْ سَجَدُوا عَلَى الْأَنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ حَتَّى الْتَصَقَتْ الْأَذْقَانُ بِالْأَرْضِ لَيْسُوا كَمَنْ سَجَدَ عَلَى الْجَبْهَةِ فَقَطْ وَالسَّاجِدُ عَلَى الْأَنْفِ قَدْ لَا يُلْصِقُ الذَّقَنَ بِالْأَرْضِ إلَّا إذَا زَادَ انْخِفَاضُهُ . وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْجُدْ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ زَيْدٌ النَّجْمَ وَيَقُولُ عُمَرُ : " لَمَّا قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ سُورَةَ النَّحْلِ حَتَّى جَاءَ السَّجْدَةَ فَنَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ حَتَّى إذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَهَا حَتَّى جَاءَ السَّجْدَةُ . قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ تَشَرَّفُوا فَقَالَ : إنَّا نَمُرُّ بِالسَّجْدَةِ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا وَلَكِنْ قَدْ تَشَوَّفْتُمْ ثُمَّ نَزَلَ فَسَجَدَ " . فَيُقَالُ : تِلْكَ قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ وَلَعَلَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْجُدُ زَيْدٌ لَمْ يَسْجُدْ هُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : أَنْتَ إمَامُنَا فَإِنْ سَجَدْت سَجَدْنَا . وَقَالَ عُثْمَانُ : إنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ جَلَسَ إلَيْهَا وَاسْتَمَعَ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَمِعِ وَلَا تَجِبُ عَلَى السَّامِعِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ إذَا لَمْ يَسْجُدْ الْقَارِئُ . وَقَدْ يُقَالُ : كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُذْرٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : أَنَّ السُّجُودَ فِيهَا مَشْرُوعٌ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : يُمْكِنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى
طَهَارَةٍ لَكِنْ قَدْ يُرَجَّحُ جَوَازُ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ السُّجُودَ فِي النَّجْمِ وَحْدَهَا مَنْسُوخٌ ؛ بِخِلَافِ اقْرَأْ وَالِانْشِقَاقِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَجَدَ فِيهِمَا وَسَجَدَ مَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ } وَهُوَ أَسْلَمَ بَعْدَ خَيْبَرَ . وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ لَمْ يَسْجُدْ فِي الْمُفَصَّلِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَأَمَّا سُوَرُ النَّجْمِ : . بَلْ حَدِيثُ زَيْدٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ فِيهَا قَالَ هَؤُلَاءِ فَيَكُونُ النَّسْخُ فِيهَا خَاصَّةً لَا فِي غَيْرِهَا لَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ أَلْقَاهُ حِينَ ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ وَافَقَهُمْ تَرْكَ السُّجُودِ فِيهَا بِالْكُلِّيَّةِ سَدًّا لِهَذِهِ الذَّرِيعَةِ . وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ تَأْتِي فِي آخِرِ الْقِيَامِ وَسَجْدَةُ الصَّلَاةِ تُغْنِي عَنْهَا فَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ : فَلَوْ كَانَ صَرِيحًا لَكَانَ قَوْلُهُ وَإِقْرَارُ مَنْ حَضَرَ وَلَيْسُوا كُلَّ الْمُسْلِمِينَ . وَقَوْلُ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ . ثُمَّ يُقَالُ : قَدْ يَكُونُ مُرَادُ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا السُّجُودُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَهُوَ إذَا قَرَأَهَا الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ السُّجُودَ فِي هَذِهِ الْحَالِ
لَيْسَ كَالسُّجُودِ الْمُطْلَقِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ فِيهِ الْإِمَامُ الْخُطْبَةَ وَيَعْمَلُ عَمَلًا كَثِيرًا . وَالسُّنَّةُ فِي الْخُطْبَةِ الْمُوَالَاةُ فَلَمَّا تَعَارَضَ هَذَا وَهَذَا صَارَ السُّجُودُ غَيْرَ وَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ الْقَارِئَ يَشْتَغِلُ بِعِبَادَةِ أَفْضَلَ مِنْهُ وَهُوَ خُطْبَةُ النَّاسِ وَإِنْ سَجَدَ جَازَ . وَلِهَذَا يَقُولُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : إنَّ هَذَا السُّجُودَ لَا يُسْتَحَبُّ قَالَ : وَلَيْسَ الْعَمَلُ عِنْدَنَا عَلَى أَنْ يَسْجُدَ الْإِمَامُ إذَا قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُسْتَحَبُّ السُّجُودُ فِي الصَّلَاةِ لَا السِّرِّ وَلَا الْجَهْرِ . وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا يَقُولُونَ : لَا يُسْتَحَبُّ فِي صَلَاةِ السِّرِّ مَعَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُوجِبُ السُّجُودَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يُوجِبُهُ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ لَمْ يَسْتَحِبُّوهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ ؛ بَلْ اتِّصَالُ الصَّلَاةِ عِنْدَهُمْ أَفْضَلُ فَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُرَادَ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يُكْتَبْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ كَمَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ لَا يُسْتَحَبُّ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْحَالِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ الدُّعَاءَ بِعَرَفَةَ لَمَّا كَانَتْ سُنَّتُهُ الِاتِّصَالَ لَمْ يَقْطَعْ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ بَلْ صُلِّيَتْ قَبْلَهُ فَكَذَلِكَ الْخَاطِبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَقْصُودُهُ خِطَابُهُمْ وَأَمْرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ ثُمَّ الصَّلَاةُ عَقِبَ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَشْتَغِلُوا عَنْ هَذَا الْمَقْصُودِ مَعَ أَنَّ عَقِبَهُ يَحْصُلُ السُّجُودُ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ يَسْقُطُ لِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ . أَلَا
تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ قَرَأَ لِنَفْسِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؟ قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يَسْجُدَ دُونَ النَّاسِ كَمَا لَا يَشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَسْجُدَ لِسَهْوِهِ ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ السُّجُودِ وَهُوَ مَعَ الْبُعْدِ وَإِنْ قُلْنَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فَهُوَ كَمَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ إمَامِهِ . وَلَوْ قَرَأَ بِالسَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ بِهَا دُونَ الْإِمَامِ . وَمَا أَعْلَمُ فِي هَذَا نِزَاعًا . فَهُنَا مُحَافَظَتُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فِي الْفِعْلِ الظَّاهِرِ أَفْضَلُ مِنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَمِنْ سُجُودِ السَّهْوِ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ إنَّمَا سَجَدَ النَّاسُ لَمَّا سَجَدَ عُمَرُ وَلَوْ لَمْ يَسْجُدْ لَمْ يَسْجُدُوا حِينَئِذٍ . فَإِذَا كَانَ حَدِيثُ عُمَرَ قَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ حُجَّةٌ وَلَوْ كَانَ مَرْفُوعًا . وَأَيْضًا فَسُجُودُ الْقُرْآنِ هُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ إذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فِي الْجَامِعِ سَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَفِي تَرْكِ ذَلِكَ إخْلَالٌ بِذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا رَجَّحْنَا أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ لَا تَجِبُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَالنَّاسُ يَجْتَمِعُونَ لَهَا أَعْظَمَ مِنْ الْجُمُعَةِ وَقَدْ شُرِعَ فِيهَا التَّكْبِيرُ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا يَنْضَبِطُ فَإِنَّهُ لَوْ حَضَرَهَا فِي
الْمِصْرِ
الْعَظِيمِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ
بِحُضُورِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ .
وَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ فَالْأَظْهَرُ وُجُوبُهَا أَيْضًا فَإِنَّهَا مِنْ
أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ النُّسُكُ الْعَامُّ فِي جَمِيعِ
الْأَمْصَارِ وَالنُّسُكُ مَقْرُونٌ بِالصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ صَلَاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } فَأَمَرَ بِالنَّحْرِ كَمَا أَمَرَ
بِالصَّلَاةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا
لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ
فَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } وَقَالَ
: { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا
فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا
لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا
دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } وَهِيَ
مِنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ الَّذِي أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ وَبِهَا
يُذْكَرُ قِصَّةُ الذَّبِيحِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ
يَتْرُكُونَ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَتَرْكُ الْمُسْلِمِينَ
كُلِّهِمْ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ تَرْكِ الْحَجِّ فِي بَعْضِ السِّنِينَ . وَقَدْ
قَالُوا إنَّ الْحَجَّ كُلَّ عَامٍ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ
شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَالضَّحَايَا فِي عِيدِ النَّحْرِ كَذَلِكَ بَلْ هَذِهِ
تُفْعَلُ فِي كُلِّ بَلَدٍ
هِيَ وَالصَّلَاةُ فَيَظْهَرُ بِهَا عِبَادَةُ اللَّهِ وَذِكْرُهُ وَالذَّبْحُ لَهُ وَالنُّسُكُ لَهُ مَا لَا يَظْهَرُ بِالْحَجِّ كَمَا يَظْهَرُ ذِكْرُ اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ فِي الْأَعْيَادِ . وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِالْأَمْرِ بِهَا . وَقَدْ خَرَجَ وُجُوبُهَا قَوْلًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَوْ ظَاهِرِ مَذْهَبِ مَالِكٍ . ونفاة الْوُجُوبِ لَيْسَ مَعَهُمْ نَصٌّ فَإِنَّ عُمْدَتَهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ وَدَخَلَ الْعَشْرُ فَلَا يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ } . قَالُوا : وَالْوَاجِبُ لَا يُعَلَّقُ بِالْإِرَادَةِ . وَهَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ فَإِنَّ الْوَاجِبَ لَا يُوكِلُ إلَى إرَادَةِ الْعَبْدِ . فَيُقَالُ : إنْ شِئْت فَافْعَلْهُ ؛ بَلْ قَدْ يُعَلَّقُ الْوَاجِبُ بِالشَّرْطِ لِبَيَانِ حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ . كَقَوْلِهِ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } وَقَدْ قَدَّرُوا فِيهِ : إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ وَقَدَّرُوا : إذَا أَرَدْت الْقِرَاءَةَ فَاسْتَعِذْ وَالطَّهَارَةُ وَاجِبَةٌ وَالْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ وَقَدْ قَالَ : { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } وَمَشِيئَةُ الِاسْتِقَامَةِ وَاجِبَةٌ . وَأَيْضًا فَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْقَادِرِ فَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ . كَمَا قَالَ : { مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ فَإِنَّهُ قَدْ تَضِلُّ الضَّالَّةُ وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ } وَالْحَجُّ فَرْضٌ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ . فَقَوْلُهُ : { مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ } كَقَوْلِهِ : { مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ
فَلْيَتَعَجَّلْ } وَوُجُوبُهَا حِينَئِذٍ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهَا فَاضِلًا عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ . كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ . وَيَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِالشَّاةِ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ - صَاحِبُ الْمَنْزِلِ - وَنِسَائِهِ وَأَوْلَادِهِ وَمِنْ مَعَهُمْ . كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ . وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُضَحِّ بَلْ اشْتَرَى لَحْمًا . فَقَدْ تَكُونُ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ . كَمَا تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَقَدْ يَكُونُ مَنْ لَمْ يُضَحِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِعَةٌ فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَوْبِيخَ أَهْلِ الْمُبَاهَاةِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَهَا لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِتَرْكِهَا ذَلِكَ الْعَامِ تَوْبِيخَهُمْ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامُ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالِ مَعَهُمْ حُزَمُ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ } فَكَانَ يَدَعُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ الْوَاجِبَةَ لِأَجْلِ عُقُوبَةِ الْمُتَخَلِّفِينَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْجِهَادِ الَّذِي قَدْ يَضِيقُ وَقْتُهُ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَلَوْ أَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ كَالْمُحْتَسِبِ وَغَيْرِهِ تَخَلَّفَ بَعْضَ الْأَيَّامِ عَنْ الْجُمُعَةِ لِيَنْظُرَ مَنْ لَا يُصَلِّيهَا فَيُعَاقِبَهُ جَازَ ذَلِكَ . وَكَانَ هَذَا مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِتَرْكِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ عُقُوبَةَ أُولَئِكَ وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَوْلَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ
لَحَرَّقَ
الْبُيُوتَ عَلَى مَنْ فِيهَا لَكِنْ فِيهَا مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ جُمُعَةٌ
وَلَا جَمَاعَةٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَلَا تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ .
كَمَا لَا تُرْجَمُ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا ؛ لِأَنَّ قَتْلَ
الْجَنِينِ لَا يَجُوزُ . كَمَا فِي حَدِيثِ الغامدية .
فَصْلٌ :
وَسُجُودُ الْقُرْآنِ لَا يُشْرَعُ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَلَا تَحْلِيلٌ : هَذَا هُوَ
السُّنَّةُ الْمَعْرُوفَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْأَئِمَّةِ
الْمَشْهُورِينَ . وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَتْ صَلَاةً فَلَا تُشْتَرَطُ لَهَا
شُرُوطُ الصَّلَاةِ بَلْ تَجُوزُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ . كَمَا كَانَ ابْنُ
عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ ؛ لَكِنْ هِيَ بِشُرُوطِ الصَّلَاةِ
أَفْضَلُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخِلَّ بِذَلِكَ إلَّا لِعُذْرِ . فَالسُّجُودُ
بِلَا طَهَارَةٍ خَيْرٌ مِنْ الْإِخْلَالِ بِهِ ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ
لَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِ وَلَا عَلَى
مَنْ لَمْ يَسْجُدْ قَارِئُهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ السُّجُودُ جَائِزًا عِنْدَ
جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْتَمِّ فِي الصَّلَاةِ
تَبَعًا لِإِمَامِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ قَالُوا . لَا يَجِبُ فِي غَيْرِ
هَذِهِ الْحَالِ وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ زَيْدٍ عَلَى أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا وَكَمَا لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَإِنْ جَازَ لَهُ فِعْلُهَا لَا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يُجَوِّزُونَ فِعْلَهَا إلَّا مَعَ الطَّهَارَةِ وَلَكِنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهَا لِلْحَدِيثِ . وَالْمَرْوِيُّ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ عِبَادَةٍ إلَى عِبَادَةٍ . وَعَلَى هَذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ : ( بَابُ سَجْدَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكُ نَجِسٌ لَيْسَ لَهُ وُضُوءٌ ) . قَالَ : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَذَكَرَ { سُجُودَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّجْمِ لَمَّا سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَهَذَا فَعَلُوهُ تَبَعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ قَوْلَهُ : { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا . } وَمَعْلُومٌ أَنَّ جِنْسَ الْعِبَادَةِ لَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ بَلْ إنَّمَا تُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ . فَكَذَلِكَ جِنْسُ السُّجُودِ يُشْتَرَطُ لِبَعْضِهِ وَهُوَ السُّجُودُ الَّذِي لِلَّهِ كَسُجُودِ الصَّلَاةِ وَسَجْدَتَيْ السَّهْوِ بِخِلَافِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَسُجُودِ الشُّكْرِ وَسُجُودِ الْآيَاتِ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ سُجُودِ السَّحَرَةِ لَمَّا آمَنُوا بِمُوسَى عَلَى وَجْهِ الرِّضَا بِذَلِكَ السُّجُودِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَوَضِّئِينَ وَلَا يَعْرِفُونَ الْوُضُوءَ . فَعُلِمَ أَنَّ السُّجُودَ الْمُجَرَّدَ لِلَّهِ مِمَّا يُحِبُّهُ
اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ مُتَوَضِّئًا وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِخِلَافِهِ وَهَذَا سُجُودُ إيمَانٍ وَنَظِيرُهُ { الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَاعْتَصَمُوا بِالسُّجُودِ وَلَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ خَالِدٌ فَقَتَلَهُمْ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا فَوَدَاهُمْ بِنِصْفِ دِيَةٍ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ السُّجُودَ } وَلَمْ يَكُونُوا بَعْدُ قَدْ أَسْلَمُوا وَلَا عَرَفُوا الْوُضُوءَ بَلْ سَجَدُوا لِلَّهِ سُجُودَ الْإِسْلَامِ كَمَا سَجَدَ السَّحَرَةُ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَيَقُولُوا : حِطَّةٌ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِوُضُوءِ وَلَا كَانَ الْوُضُوءُ مَشْرُوعًا لَهُمْ ؛ بَلْ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وَسَوَاءٌ أُرِيدَ السُّجُودُ بِالْأَرْضِ أَوْ الرُّكُوعُ . فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ الرُّكُوعُ فَهُوَ عِبَادَةٌ مُفْرَدَةٌ : يَتَضَمَّنُ الْخُضُوعَ لِلَّهِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ السُّجُودِ . لَكِنَّ شَرْعَنَا شُرِعَ فِيهِ سُجُودٌ مُفْرَدٌ وَأَمَّا رُكُوعٌ مُفْرَدٌ فَفِيهِ نِزَاعٌ جَوَّزَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَدَلًا عَنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ . وَأَيْضًا فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ بِالسُّجُودِ الْمُجَرَّدِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وَلَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالْوُضُوءِ فَإِنَّ الْوُضُوءَ مِنْ خَصَائِصِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ كَمَا جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ { أَنَّهُمْ
يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ وَأَنَّ الرَّسُولَ يَعْرِفُهُمْ بِهَذِهِ السِّيمَاءِ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْرَكُهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَغَيْرُهُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ : { هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي } . حَدِيثٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهِ وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ خَبَرٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَيَمُّمٌ إذَا عَدِمُوا الْمَاءَ وَهَذِهِ الْأُمَّةُ مِمَّا فُضِّلَتْ بِهِ التَّيَمُّمُ مَعَ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ . وَالْوُضُوءِ . فَإِنْ قِيلَ : أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءُ إنَّمَا سَجَدُوا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ تَجُوزُ لَهُمْ بِغَيْرِ وُضُوءٍ . قِيلَ : لَمْ يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَنَحْنُ إنَّمَا نَتَّبِعُ مِنْ شَرْعِ الْأَنْبِيَاءِ مَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا وَمَا أَخْبَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَصَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا لِنَعْتَبِرَ بِهِ . وَقَالَ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } وَكَذَلِكَ ذُكِرَ عَنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ : أَنَّهُمْ { إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا }
وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّهَارَةَ لِلصَّلَاةِ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَكَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ } وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ . يَبْقَى الْكَلَامُ فِي مُسَمَّى " الصَّلَاةِ " فَإِنَّ الَّذِينَ أَوْجَبُوا الطَّهَارَةَ لِلسُّجُودِ الْمُجَرَّدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ . فَقَالُوا : يُسَلِّمُ مِنْهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُكَبِّرُ تَكْبِيرَتَيْنِ : تَكْبِيرَةٌ لِلِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَةٌ لِلسُّجُودِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَتَشَهَّدُ فِيهِ وَلَيْسَ مَعَهُمْ لِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَثَرٌ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ بَلْ هُوَ مِمَّا قَالُوهُ بِرَأْيِهِمْ لَمَّا ظَنُّوهُ صَلَاةً . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تَكُونُ الصَّلَاةُ إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَمَا دُونُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ صَلَاةً إلَّا رَكْعَةَ الْوِتْرِ . وَاحْتَجَّ بِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى } وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ . وَلَمْ يَشْتَرِطْ الطَّهَارَةَ لِمَا دُونَ ذَلِكَ لَا لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَلَا لِغَيْرِهَا . وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ . فَإِنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصِّحَاحِ الَّذِي رَوَاهُ الثقاة قَوْلُهُ : { صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى } وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَ " النَّهَارِ " فَزِيَادَةٌ انْفَرَدَ بِهَا البارقي وَقَدْ ضَعَّفَهَا أَحْمَد
وَغَيْرُهُ وَالْمَرْجِعُ فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ إلَى الرَّسُولِ . وَفِي السُّنَنِ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } . وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ : فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ " الصَّلَاةَ " الَّتِي مِفْتَاحُهَا الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا تَحْرِيمُهُ التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهُ التَّسْلِيمُ : كَالصَّلَاةِ الَّتِي فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ سَوَاءٌ كانت مَثْنَى أَوْ وَاحِدَةً أَوْ كَانَتْ ثَلَاثًا مُتَّصِلَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَهُوَ يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ فَإِنَّ تَحْرِيمَهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلَهَا التَّسْلِيمُ . وَالصَّحَابَةُ أُمِرُوا بِالطِّهَارَةِ لِمَا فَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ . فَقَالَ فِي ( بَابِ سُنَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ } وَقَالَ : { صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ } وَقَالَ : { صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ } سَمَّاهَا صَلَاةً وَلَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُصَلِّي إلَّا طَاهِرًا وَلَا يُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبِهَا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } وَفِيهَا صُفُوفٌ وَإِمَامٌ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي ذَكَرَهَا كُلَّهَا مُنْتَفِيَةٌ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ
وَسُجُودِ الْآيَاتِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُسَمِّ ذَلِكَ صَلَاةً وَلَمْ يُشْرَعْ لَهَا الِاصْطِفَافُ وَتَقَدُّمُ الْإِمَامِ كَمَا يُشْرَعُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَتَيْ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ . وَلَا سَنَّ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَامًا لَمْ يُرْوَ ذَلِكَ عَنْهُ لَا بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ وَلَا جَعَلَ لَهَا تَكْبِيرَ افْتِتَاحٍ وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَبَّرَ فِيهَا إمَّا لِلرَّفْعِ وَإِمَّا لِلْخَفْضِ . وَالْحَدِيثُ فِي السُّنَنِ . وَابْنُ عَبَّاسٍ جَوَّزَ التَّيَمُّمَ لِلْجِنَازَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ تُشْتَرَطُ لَهَا عِنْدَهُ وَكَذَلِكَ هَذِهِ الصِّفَاتُ مُنْتَفِيَةٌ فِي الطَّوَافِ فَلَيْسَ فِيهِ تَسْلِيمٌ وَالْكَلَامُ جَائِزٌ فِيهِ وَلَيْسَ فِيهِ اصْطِفَافٌ وَإِمَامٌ وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ بَيْنَ الطَّائِفِ وَالْمُصَلِّي وَلَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ لَكِنَّهُ كَانَ يَطُوفُ مُتَطَهِّرًا هُوَ وَالصَّحَابَةُ وَكَانُوا يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَ الطَّوَافِ وَلَا يُصَلِّي إلَّا مُتَطَهِّرًا وَالنَّهْيُ إنَّمَا جَاءَ فِي طَوَافِ الْحَائِضِ فَقَالَ : { الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ } وَقَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ وَقِيلَ : لِأَجْلِ الطَّوَافِ وَقِيلَ : لَهُمَا . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَطْهِيرَهُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ .
وَأَيْضًا فَإِبْرَاهِيمُ وَالنَّبِيُّونَ بَعْدَهُ كَانُوا يَطُوفُونَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ كَمَا كَانُوا يُصَلُّونَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَشَرْعُهُمْ شَرْعُنَا إلَّا فِيمَا نُسِخَ فَالصَّلَاةُ قَدْ أُمِرْنَا بِالْوُضُوءِ لَهَا وَلَمْ يُفْرَضُ عَلَيْنَا الْوُضُوءُ لِغَيْرِهَا كَمَا جُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَحَيْثُ مَا أَدْرَكَتْ الْمُسْلِمَ الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا تَيَمَّمَ وَصَلَّى وَمَنْ قَبْلَنَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ بَلْ كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَنَابَةِ حَتَّى يَغْتَسِلُوا كَمَا يُمْنَعُ الْجُنُبُ مِنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ وَمِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ . وَيَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مُعْتَكِفًا وَغَيْرِ مُعْتَكِفٍ . وَيَجُوزُ لَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالْمَرْوِيُّ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنْ عِبَادَةٍ إلَى عِبَادَةٍ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ إذَا كَانَ يَتْلُو الْكِتَابَ الْعَزِيزَ بَيْنَ جَمَاعَةٍ
فَقَرَأَ سَجْدَةً فَقَامَ عَلَى قَدَمَيْهِ وَسَجَدَ . فَهَلْ قِيَامُهُ أَفْضَلُ
مِنْ سُجُودِهِ . وَهُوَ قَاعِدٌ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ فِعْلُهُ ذَلِكَ رِيَاءٌ
وَنِفَاقٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
بَلْ سُجُودُ التِّلَاوَةِ قَائِمًا أَفْضَلُ مِنْهُ قَاعِدًا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ
مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
وَغَيْرِهِمَا وَكَمَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ بَلْ وَكَذَلِكَ سُجُودُ الشُّكْرِ
كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ سُجُودِهِ لِلشُّكْرِ قَائِمًا وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الِاعْتِبَارِ
فَإِنَّ صَلَاةَ الْقَائِمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ . وَقَدْ ثَبَتَ {
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ أَحْيَانًا
يُصَلِّي قَاعِدًا فَإِذَا قَرُبَ مِنْ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ
وَهُوَ قَائِمٌ وَأَحْيَانًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَهُوَ قَاعِدٌ } فَهَذَا قَدْ
يَكُونُ لِلْعُذْرِ أَوْ لِلْجَوَازِ وَلَكِنْ تَحَرِّيهِ مَعَ قُعُودِهِ أَنْ
يَقُومَ لِيَرْكَعَ وَيَسْجُدَ وَهُوَ قَائِمٌ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ .
إذْ هُوَ أَكْمَلُ وَأَعْظَمُ خُشُوعًا لِمَا فِيهِ مِنْ هُبُوطِ رَأْسِهِ
وَأَعْضَائِهِ السَّاجِدَةِ لِلَّهِ مِنْ الْقِيَامِ .
وَمَنْ
كَانَ لَهُ وِرْدٌ مَشْرُوعٌ مِنْ صَلَاةِ الضُّحَى أَوْ قِيَامِ لَيْلٍ أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهِ حَيْثُ كَانَ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَدَعَ وِرْدَهُ الْمَشْرُوعَ لِأَجْلِ كَوْنِهِ بَيْنَ النَّاسِ إذَا عَلِمَ
اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ سِرًّا لِلَّهِ مَعَ اجْتِهَادِهِ فِي
سَلَامَتِهِ مِنْ الرِّيَاءِ وَمُفْسِدَاتِ الْإِخْلَاصِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ
الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ : تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ
وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ . وَفِعْلُهُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي تَكُونُ
فِيهِ مَعِيشَتُهُ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ
مِنْ أَنْ يَفْعَلَهُ حَيْثُ تَتَعَطَّلُ مَعِيشَتُهُ وَيَشْتَغِلُ قَلْبُهُ
بِسَبَبِ ذَلِكَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَجْمَعَ لِلْقَلْبِ
وَأَبْعَدَ مِنْ الْوَسْوَاسِ كَانَتْ أَكْمَلَ . وَمَنْ نَهَى عَنْ أَمْرٍ
مَشْرُوعٍ بِمُجَرَّدِ زَعْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ رِيَاءٌ فَنَهْيُهُ مَرْدُودٌ
عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ لَا يُنْهَى عَنْهَا خَوْفًا مِنْ
الرِّيَاءِ بَلْ يُؤْمَرُ بِهَا وَبِالْإِخْلَاصِ فِيهَا وَنَحْنُ إذَا رَأَيْنَا
مَنْ يَفْعَلُهَا أَقْرَرْنَاهُ وَإِنْ جَزَمْنَا أَنَّهُ يَفْعَلُهَا رِيَاءً
فَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا
كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا }
فَهَؤُلَاءِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ
يُقِرُّونَهُمْ عَلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ الدِّينِ وَإِنْ كَانُوا مُرَائِينَ
وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي تَرْكِ إظْهَارِ
الْمَشْرُوعِ
أَعْظَمُ مِنْ الْفَسَادِ فِي إظْهَارِهِ رِيَاءً كَمَا أَنَّ فَسَادَ تَرْكِ
إظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَوَاتِ أَعْظَمُ مِنْ الْفَسَادِ فِي إظْهَارِ
ذَلِكَ رِيَاءً ؛ وَلِأَنَّ الْإِنْكَارَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْفَسَادِ فِي
إظْهَارِ ذَلِكَ رِئَاءَ النَّاسِ .
الثَّانِي : لِأَنَّ الْإِنْكَارَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَا أَنْكَرَتْهُ
الشَّرِيعَةُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَنْ أَشُقَّ
بُطُونَهُمْ ؟ } وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : مَنْ أَظْهَرَ لَنَا
خَيْرًا أَحْبَبْنَاهُ وَوَالَيْنَاهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ
بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا شَرًّا أَبْغَضْنَاهُ عَلَيْهِ وَإِنْ
زَعَمَ أَنَّ سَرِيرَتَهُ صَالِحَةٌ . الثَّالِثُ : أَنَّ تَسْوِيغَ مِثْلِ هَذَا يُفْضِي
إلَى أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ
وَالدِّينِ إذَا رَأَوْا مَنْ يُظْهِرُ أَمْرًا مَشْرُوعًا مَسْنُونًا قَالُوا :
هَذَا مِرَاءٌ فَيَتْرُكُ أَهْلُ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ إظْهَارَ الْأُمُورِ
الْمَشْرُوعَةِ حَذَرًا مِنْ لَمْزِهِمْ وَذَمِّهِمْ فَيَتَعَطَّلُ الْخَيْرُ
وَيَبْقَى لِأَهْلِ الشِّرْكِ شَوْكَةٌ يُظْهِرُونَ الشَّرَّ وَلَا أَحَدَ
يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ شَعَائِرِ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ يَطْعَنُ
عَلَى مَنْ يُظْهِرُ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ
وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ
سَخِرَ
اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَضَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَامَ تَبُوكَ جَاءَ بَعْضُ
الصَّحَابَةِ بِصُرَّةِ كَادَتْ يَدُهُ تَعْجِزُ مِنْ حَمْلِهَا فَقَالُوا : هَذَا
مِرَاءٌ وَجَاءَ بَعْضُهُمْ بِصَاعِ فَقَالُوا : لَقَدْ كَانَ اللَّهُ غَنِيًّا
عَنْ صَاعِ فُلَانٍ فَلَمَزُوا هَذَا وَهَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ وَصَارَ
عِبْرَةً فِيمَنْ يَلْمِزُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُئِلَ :
عَنْ الرَّجُلِ إذَا تُلِيَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِيهِ سَجْدَةٌ سَجَدَ عَلَى
غَيْرِ وُضُوءٍ فَهَلْ يَأْثَمُ ؟ أَوْ يَكْفُرُ ؛ أَوْ تُطْلَقُ عَلَيْهِ
زَوْجَتُهُ ؟.
فَأَجَابَ :
لَا يَكْفُرُ وَلَا تُطْلَقُ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ وَلَكِنْ يَأْثَمُ عِنْدَ
أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ
مَنْ صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ فِيمَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ بِالْإِجْمَاعِ .
كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَإِذَا كَفَرَ كَانَ
مُرْتَدًّا . وَالْمُرْتَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ
وَلَكِنَّ تَكْفِيرَ هَذَا لَيْسَ مَنْقُولًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ وَلَا
عَنْ صَاحِبَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ أَتْبَاعِهِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
عَلَى أَنَّهُ يُعَزَّرُ وَلَا يَكْفُرُ إلَّا إذَا اسْتَحَلَّ ذَلِكَ
وَاسْتَهْزَأَ بِالصَّلَاةِ . وَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ : فَمِنْ
الْعُلَمَاءِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهَا تَجُوزُ بِغَيْرِ
طَهَارَةٍ
وَمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ لَا يَكْفُرُ فَاعِلُهُ
بِالِاتِّفَاقِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا تَبِينُ
مِنْهُ زَوْجَتُهُ إلَّا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى
الْإِسْلَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ هَلْ يَدْعُو بِهِ فِي الصَّلَاةِ ؟ أَمْ بَعْدَ
السَّلَامِ ؟ .
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ الدُّعَاءُ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ وَغَيْرِهَا : قَبْلَ السَّلَامِ
وَبَعْدَهُ وَالدُّعَاءُ قَبْلَ السَّلَامِ أَفْضَلُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ
وَالْمُصَلِّي قَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يَنْصَرِفْ فَهَذَا أَحْسَنُ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَالنِّزَاعِ فِي ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ وَغَيْرِهَا ،
فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ اضْطِرَابًا كَثِيرًا .
فَنَقُولُ : قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ
عَامًّا لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ
رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ وَفِي لَفْظٍ
فَلْيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى وَفِي لَفْظٍ فَيُتِمُّ صَلَاتَهُ وَفِي لَفْظٍ
سَجْدَةً } وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ وَكَذَلِكَ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً
مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ وَفِي لَفْظٍ : فَلْيُتِمَّ
صَلَاتَهُ وَفِي لَفْظٍ فَلْيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى وَفِي لَفْظٍ : سَجْدَةً }
وَفِي هَذَا أَمْرُهُ بِالرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْفَجْرِ عِنْدَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ . وَفِيهِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ عِنْدَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ صَحَّتْ
تِلْكَ الرَّكْعَةُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَصِلَ إلَيْهَا أُخْرَى . وَهَذَا الثَّانِي مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعَلَى هَذَا مَجْمُوعُ الصَّحَابَةِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ : كَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ فَقَالَ : لَوْ طَلَعَتْ لَمْ تَجِدْنَا غَافِلِينَ . فَهَذَا خِطَابُ الصِّدِّيقِ لِلصَّحَابَةِ يُبَيِّنُ أَنَّهَا لَوْ طَلَعَتْ لَمْ يَضُرَّهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ تَجِدْهُمْ غَافِلِينَ بَلْ وَجَدْتهمْ ذَاكِرِينَ اللَّهَ مُمْتَثِلِينَ لِقَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ } وَهَذَا الْقَوْلُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : يَقْضِي مَا نَامَ عَنْهُ أَوْ نَسِيَهُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ يَقُولُونَ : تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهَا صَارَتْ فَائِتَةً وَالْفَوَاتُ عِنْدَهُمْ لَا يُقْضَى فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ بِخِلَافِ عَصْرِ يَوْمِهِ فَإِنَّهَا حَاضِرَةٌ مَفْعُولَةٌ فِي وَقْتِهَا . وَاحْتَجُّوا بِتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ يَوْمَ نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْهَا حَتَّى طَلَعَتْ
الشَّمْسُ . وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِوُجُوهِ . أَحَدُهَا : أَنَّ التَّأْخِيرَ كَانَ لِأَجْلِ الْمَكَانِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هَذَا وَادٍ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ } . الثَّانِي : أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ . الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ فِيمَنْ ابْتَدَأَ قَضَاءَ الْفَائِتَةِ . أَمَّا مَنْ صَلَّى رَكْعَةً قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْوَقْتَ . كَمَا قَالَ : { فَقَدْ أَدْرَكَ } وَالثَّانِيَةُ تُفْعَلُ تَبَعًا كَمَا يَفْعَلُهُ الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً . قَالُوا : وَهَذَا أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ ؛ لِأَنَّ الْغُرُوبَ مَشْهُودٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَهُ . وَأَمَّا الطُّلُوعُ فَهُوَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ لَا يَعْلَمُ مَتَى تَطْلُعُ . فَإِذَا صَلَّى صَلَّى فِي الْوَقْتِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَأْثَمُ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهَا قَبْلَ الطُّلُوعِ كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْمَوَاقِيتِ " أَنَّهُ سَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالْقَائِلُ يَقُولُ : قَدْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ " . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { وَقْتُ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ } وَقَالَ : { وَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ } وَفِي لَفْظٍ : { مَا لَمْ تُضَيَّفْ لِلْغُرُوبِ } فَمَنْ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ جَمِيعَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ صَلَّى الْعَصْرَ وَقْتَ الْغُرُوبِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ آثِمٌ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ ؛ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى
إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } . لَكِنْ جَعَلَهُ الرَّسُولُ مُدْرِكًا لِلْوَقْتِ وَهُوَ وَقْتُ الضَّرُورَةِ فِي مِثْلِ النَّائِمِ إذَا اسْتَيْقَظَ وَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ وَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا أَفَاقَا فَأَمَّا مَنْ أَمْكَنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ بِالتَّأْخِيرِ إلَيْهِ وَهُوَ مِنْ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ وَلَكِنْ فِعْلُهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَيْرٌ مِنْ تَفْوِيتِهَا ؛ فَإِنَّ تَفْوِيتَهَا مِنْ الْكَبَائِرِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ : صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } وَأَمَّا الْمُصَلِّي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ مَنْ صَلَّى رَكْعَةً بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَمَنْ صَلَّى رَكْعَةً قَبْلَ طُلُوعِهَا أَوْ قَدْ صَلَّاهَا قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ شَيْءٌ مِنْهَا فَهُوَ وَقَوْلُهُمْ : إنَّ ذَلِكَ يُصَلِّي الثَّانِيَةَ فِي وَقْتِ جَوَازٍ بَعْدَ الْغُرُوبِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ . فَإِنَّهُ يُصَلِّي الثَّانِيَةَ وَقْتَ نَهْيٍ . يُقَالُ : الْكَلَامُ فِي الْأَمْرَيْنِ لِمَ جَوَّزْتُمْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ وَقْتَ النَّهْيِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إنَّمَا جَعَلَ وَقْتَ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَغْرُبْ الشَّمْسُ أَوْ تُضَيَّفْ لِلْغُرُوبِ وَلَمْ تُجَوِّزُوا فِعْلَ الْفَجْرِ وَقْتَ النَّهْيِ ؟ الثَّانِي : أَنَّ مُصَلِّيَ الْعَصْرِ وَإِنْ صَلَّى الثَّانِيَةَ فِي غَيْرِ وَقْتِ نَهْيٍ فَمُصَلِّي الْفَجْرِ صَلَّى الْأُولَى فِي غَيْرِ وَقْتِ نَهْيٍ ثُمَّ إنَّهُ تَرَجَّحَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ صَلَّى الْأُولَى فِي وَقْتِهَا بِلَا ذَمٍّ وَلَا نَهْيٍ ؛ بِخِلَافِ مُصَلِّي الْعَصْرِ فَإِنَّهُ إنَّمَا صَلَّى الْأُولَى مَعَ الذَّمِّ وَالنَّهْيِ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ وَاتِّفَاقُهُمْ : عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ كُلِّ صَلَاةٍ ؛ بَلْ عَصْرُ يَوْمِهِ تُفْعَلُ وَقْتَ النَّهْيِ بِالنَّصِّ وَاتِّفَاقِهِمْ . وَكَذَلِكَ الثَّانِيَةُ مِنْ الْفَجْرِ تُفْعَلُ بِالنَّصِّ مَعَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ . فَإِنْ قِيلَ فَهُوَ مَذْمُومٌ عَلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقْتَ النَّهْيِ فَكَيْفَ يَقُولُونَ : لَمْ يَنْهَ قَبْلَ الذَّمِّ ؟ إنَّمَا هُوَ لِتَأْخِيرِهَا إلَى هَذَا الْوَقْتِ ثُمَّ إذَا عَصَى بِالتَّأْخِيرِ أُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلَا يُفَوِّتُهَا فَإِنَّ التَّفْوِيتَ أَعْظَمُ إثْمًا ؛ وَلَا يَجُوزُ بِحَالِ مِنْ الْأَحْوَالِ وَكَانَ أَنْ يُصَلِّيَهَا مَعَ نَوْعٍ مِنْ الْإِثْمِ خَيْرًا مِنْ أَنْ يُفَوِّتَهَا فَيَلْزَمُهُ مِنْ الْإِثْمِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ . وَالشَّارِعُ دَائِمًا يُرَجِّحُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا ؛ وَيَدْفَعُ شَرَّ الشَّرَّيْنِ بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا وَهَذَا كَمَنْ مَعَهُ مَاءٌ فِي السَّفَرِ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِطَهَارَتِهِ يُؤْمَرُ بِأَنْ يَتَطَهَّرَ بِهِ فَإِنْ أَرَاقَهُ عَصَى وَأُمِرَ بِالتَّيَمُّمِ وَكَانَتْ صَلَاتُهُ
بِالتَّيَمُّمِ خَيْرًا مِنْ تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ ؛ لَكِنْ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَمُفَوِّتُ الْوَقْتِ لَا تُمْكِنُهُ الْإِعَادَةُ . كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَقَدْ دَلَّ النَّصُّ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ شَامِلًا لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقَدْ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى قَضَاءِ الْفَوَائِتِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ } وَفِي حَدِيثِ أَبِي قتادة الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمِ : { لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ : عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الْأُخْرَى فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا } فَقَدْ أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ حِينَ يَنْتَبِهُ وَحِينَ يَذْكُرُ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَقْتٍ . وَهَذَا الْعُمُومُ أَوْلَى مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ ذَاكَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْفَرْضَ ؛ لَا أَدَاءً وَلَا قَضَاءً لَمْ يَتَنَاوَلْ عَصْرَ يَوْمِهِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الْفَجْرِ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا اسْتَيْقَظَ أَوْ ذَكَرَ فَهُوَ وَقْتُ تِلْكَ الصَّلَاةِ فَكَانَ فِعْلُهَا فِي وَقْتِهَا كَفِعْلِ عَصْرِ يَوْمِهِ فِي وَقْتِهَا مَعَ أَنَّ هَذَا مَعْذُورٌ وَذَاكَ غَيْرُ مَعْذُورٍ لَكِنْ يُقَالُ : هَذَا الْمُفَوِّتُ لَوْ أَخَّرَهَا حَتَّى يَزُولَ وَقْتُ النَّهْيِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ تَفْوِيتٌ ثَانٍ بِخِلَافِ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُصَلِّهَا لَفَاتَتْ وَكَذَلِكَ الثَّانِيَةُ مِنْ الْفَجْرِ .
فَيُقَالُ
: هَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ تَأْخِيرِهَا لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ كَمَا أَخَّرَهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : { هَذَا وَادٍ حَضَرَنَا
فِيهِ الشَّيْطَانُ } وَمِثْلُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا حَتَّى يَتَطَهَّرَ غَيْرُهُ
وَيُصَلُّوهَا جَمَاعَةً كَمَا صَلَّوْا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْفَجْرِ لَمَّا نَامُوا عَنْهَا بِخِلَافِ الْفَجْرِ
وَالْعَصْرِ الْحَاضِرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْوِيتُهَا بِحَالِ مِنْ
الْأَحْوَالِ . وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَّاهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا عُمُومَ
لِوَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتِ غُرُوبِهَا فَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمَوَاقِيتِ
أَوْلَى وَأَحْرَى .
فَصْلٌ :
وَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ
بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ }
رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَاحْتَجَّ بِهِ
الْأَئِمَّةُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ وَأَخَذُوا
بِهِ وَجَوَّزُوا الطَّوَافَ وَالصَّلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ كَمَا
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ . وَأَمَّا فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فَعَنْ أَحْمَد فِيهِ
رِوَايَتَانِ . وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ
وَغَيْرِهِمَا لَا يَرَوْنَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِي
وَقْتِ النَّهْيِ وَالْحُجَّةُ مَعَ أُولَئِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ قَوْلَهُ : { لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ } عُمُومٌ مَقْصُودٌ فِي الْوَقْتِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ الْمَوَاقِيتُ الْخَمْسَةُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ لَمْ يَخُصَّ مِنْهُ صُورَةً لَا بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ وَحَدِيثُ النَّهْيِ مَخْصُوصٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْعُمُومُ الْمَحْفُوظُ رَاجِحٌ عَلَى الْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْبَيْتَ مَا زَالَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيُصَلُّونَ عِنْدَهُ مِنْ حِينِ بَنَاهُ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ يَطُوفُونَ بِهِ وَيُصَلُّونَ عِنْدَهُ وَكَذَلِكَ لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ كَثُرَ طَوَافُ الْمُسْلِمِينَ بِهِ وَصَلَاتُهُمْ عِنْدَهُ . وَلَوْ كَانَتْ رَكْعَتَا الطَّوَافِ مَنْهِيًّا عَنْهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ نَهْيًا عَامًّا لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَى ذَلِكَ وَلَكَانَ ذَلِكَ يُنْقَلُ وَلَمْ يَنْقُلْ مُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الطَّوَافَ طَرَفَيْ النَّهَارِ أَكْثَرُ وَأَسْهَلُ . الرَّابِعُ : أَنَّ فِي النَّهْيِ تَعْطِيلًا لِمَصَالِحِ ذَلِكَ مِنْ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ .
الْخَامِسُ
: أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ وَمَا كَانَ لِسَدِّ
الذَّرِيعَةِ فَإِنَّهُ يُفْعَلُ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَذَلِكَ أَنَّ
الصَّلَاةَ فِي نَفْسِهَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَقِيمُوا وَلَنْ
تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } فَلَيْسَ فِيهَا
نَفْسِهَا مَفْسَدَةٌ تَقْتَضِي النَّهْيَ وَلَكِنْ وَقْتُ الطُّلُوعَ
وَالْغُرُوبِ الشَّيْطَانُ يُقَارِنُ الشَّمْسَ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا
الْكُفَّارُ فَالْمُصَلِّي حِينَئِذٍ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ فِي جِنْسِ الصَّلَاةِ .
فَالسُّجُودُ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ مَعْبُودَهُمْ وَلَا يَقْصِدُونَ
مَقْصُودَهُمْ لَكِنْ يُشَبِّهُهُمْ فِي الصُّورَةِ فَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي
هَاتَيْنِ الْوَقْتَيْنِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ حَتَّى يَنْقَطِعَ التَّشَبُّهُ
بِالْكُفَّارِ وَلَا يَتَشَبَّهَ بِهِمْ الْمُسْلِمُ فِي شِرْكِهِمْ كَمَا نَهَى
عَنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالسَّفَرِ مَعَهَا وَالنَّظَرِ إلَيْهَا
لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ الْفَسَادِ وَنَهَاهَا أَنْ تُسَافِرَ إلَّا مَعَ
زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ وَكَمَا نَهَى عَنْ سَبِّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ ؛
لِئَلَّا يَسُبُّوا اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَكَمَا نَهَى عَنْ أَكْلِ
الْخَبَائِثِ لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ التَّغْذِيَةُ الَّذِي يَقْتَضِي
الْأَعْمَالَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا وَأَمْثَالِ ذَلِكَ .
ثُمَّ إنَّ مَا نَهَى عَنْهُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْمَصْلَحَةِ
الرَّاجِحَةِ كَمَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى الْمَخْطُوبَةِ وَالسَّفَرُ بِهَا إذَا
خِيفَ ضَيَاعُهَا كَسَفَرِهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مِثْلَ سَفَرِ أُمِّ كُلْثُومٍ
وَكَسَفَرِ عَائِشَةَ لَمَّا تَخَلَّفَتْ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ
الْمُعَطِّلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ إلَّا لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْمَفْسَدَةِ فَإِذَا كَانَ مُقْتَضِيًا لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ لَمْ يَكُنْ مُفْضِيًا إلَى الْمَفْسَدَةِ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْمَفْسَدَةِ وَلَيْسَ النَّاسُ مُحْتَاجِينَ إلَيْهِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ لِسِعَةِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُبَاحُ فِيهَا الصَّلَاةُ بَلْ فِي النَّهْيِ عَنْهُ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ مَصَالِحُ أُخَرُ مِنْ إجْمَامِ النُّفُوسِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ مَنْ ثِقَلِ الْعِبَادَةِ كَمَا يُجَمُّ بِالنَّوْمِ وَغَيْرِهِ . وَلِهَذَا قَالَ مُعَاذٌ : إنِّي لَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي . وَمِنْ تَشْوِيقِهَا وَتَحْبِيبِ الصَّلَاةِ إلَيْهَا إذَا مُنِعَتْ مِنْهَا وَقْتًا فَإِنَّهُ يَكُونُ أَنْشَطَ وَأَرْغَبَ فِيهَا فَإِنَّ الْعِبَادَةَ إذَا خُصَّتْ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ نَشِطَتْ النُّفُوسُ لَهَا أَعْظَمَ مِمَّا تَنْشَطُ لِلشَّيْءِ الدَّائِمِ . وَمِنْهَا : أَنَّ الشَّيْءَ الدَّائِمَ تَسْأَمُ مِنْهُ وَتَمَلُّ وَتَضْجَرُ فَإِذَا نَهَى عَنْهُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ زَالَ ذَلِكَ الْمَلَلُ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ مِنْ الْمَصَالِحِ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ فَفِي النَّهْيِ دَفْعٌ لِمَفَاسِدَ وَجَلْبٌ لِمَصَالِحَ مِنْ غَيْرِ تَفْوِيتِ مَصْلَحَةٍ . وَأَمَّا مَا كَانَ لَهُ سَبَبٌ فَمِنْهَا مَا إذَا نَهَى عَنْهُ فَاتَتْ الْمَصْلَحَةُ وَتَعَطَّلَ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ وَتَحْصِيلِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَالْمَصْلَحَةِ الْعَظِيمَةِ فِي دِينِهِمْ مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ كَالْمُعَادَةِ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ وَكَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا
مَا تَنْقُصُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ لَا سِيَّمَا
لِلْقَادِمِينَ وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْتَنِمُوا الطَّوَافَ فِي تِلْكَ
الْأَيَّامِ وَالطَّوَافُ لَهُمْ وَلِأَهْلِ الْبَلَدِ طَرَفَيْ النَّهَارِ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنْ يُقَالَ : ذَوَاتُ الْأَسْبَابِ إنَّمَا دَعَا
إلَيْهَا دَاعٍ ؛ لَمْ تُفْعَلْ لِأَجْلِ الْوَقْتِ ؛ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ
الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا سَبَبَ لَهُ وَحِينَئِذٍ فَمَفْسَدَةُ النَّهْيِ إنَّمَا
تَنْشَأُ مِمَّا لَا سَبَبَ لَهُ دُونَ مَا لَهُ السَّبَبُ وَلِهَذَا قَالَ فِي
حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { لَا تَتَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا
غُرُوبَهَا } وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى
قَضَاءِ الْفَوَائِتِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ .
فَصْلٌ :
وَالْمُعَادَةُ : إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ تُعَادُ فِي
وَقْتِ النَّهْيِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمْ . وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ جَعَلُوهَا مِمَّا
نُهِيَ عَنْهُ وَاحْتَجَّ الْأَكْثَرُونَ بِثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ :
أَحَدُهَا : حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّتَهُ فَصَلَّيْت مَعَهُ صَلَاةَ الْفَجْرِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ . إذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي آخِرِ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ فَقَالَ : عَلَيَّ بِهِمَا فَأُتِيَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا فَقَالَ : مَا مَنْعُكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا ؟ قَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا . قَالَ : لَا تَفْعَلَا إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ . كَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرِهِمَا وَأَحْمَد وَالْأَثْرَمِ . وَالثَّانِي : مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ بِشْرِ بْنِ مِحْجَنٍ عَنْ أَبِيهِ : { أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُذِّنَ لِلصَّلَاةِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى ثُمَّ رَجَعَ وَمِحْجَنٌ فِي مَجْلِسِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَنَعَك أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ ؟ أَلَسْت بِرَجُلِ مُسْلِمٍ ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ قَدْ صَلَّيْت فِي أَهْلِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جِئْت فَصَلِّ مَعَ النَّاسِ وَإِنْ كُنْت قَدْ صَلَّيْت } وَهَذَا يَدُلُّ بِعُمُومِهِ وَالْأَوَّلُ صَرِيحٌ فِي الْإِعَادَةِ بَعْدَ الْفَجْرِ . الثَّالِثُ : مَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَتْ عَلَيْك أُمَرَاءُ
يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ؟ قَالَ : قُلْت فَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْتهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةٌ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَرَبَ فَخِذِي : كَيْفَ أَنْتَ إذَا بَقِيت فِي قَوْمٍ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ؟ قَالَ : فَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اذْهَبْ لِحَاجَتِك فَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَأَنْتَ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلِّ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ أَيْضًا { صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْت الصَّلَاةَ فَصَلِّ وَلَا تَقُلْ إنِّي قَدْ صَلَّيْت فَلَا أُصَلِّي } وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَطْعًا فَإِنَّهُمَا هُمَا اللَّتَانِ كَانَ الْأُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَهُمَا ؛ بِخِلَافِ الْفَجْرِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ لَمْ يَكُونُوا يُؤَخِّرُونَهَا وَلَكِنْ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الْعَصْرَ أَحْيَانًا إلَى شُرُوعِ الْغُرُوبِ . وَحِينَئِذٍ فَقَدَ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ يُصَلِّيَهَا مَعَهُمْ بَعْدَ أَنْ صَلَّاهَا وَيَجْعَلَهَا نَافِلَةً وَهُوَ فِي وَقْتِ نَهْيٍ لِأَنَّهُ قَدْ صَلَّى الْعَصْرَ ؛ وَلِأَنَّهُمْ قَدْ يُؤَخِّرُونَ الْعَصْرَ إلَى الِاصْفِرَارِ فَهَذَا صَرِيحٌ بِالْإِعَادَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ .
فَصْلٌ
:
وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى
الْجِنَازَةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ وَتِلْكَ الْأَنْوَاعُ
الثَّلَاثَةُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا قَوْلُ أَحْمَد أَنَّهَا تُفْعَلُ فِي
أَوْقَاتِ النَّهْيِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَحَادِيثُ خَاصَّةٌ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا
فِي وَقْتِ النَّهْيِ فَلِهَذَا اسْتَثْنَاهَا وَاسْتَثْنَى الْجِنَازَةَ فِي
الْوَقْتَيْنِ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
وَأَمَّا سَائِرُ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ : مِثْلَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَسُجُودِ
التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَمِثْلَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِي
الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ وَمِثْلَ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي
الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ . فَاخْتَلَفَ كَلَامُهُ فِيهَا . وَالْمَشْهُورُ
عَنْهُ النَّهْيُ وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ : كالخرقي
وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . لَكِنْ
أَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ السُّجُودَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ لَا وَاجِبَ
عِنْدَهُ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : جَوَازُ جَمِيعِ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ
وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ
الرَّاجِحُ فِي هَذَا الْبَابِ لِوُجُوهِ :
مِنْهَا : أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ قَدْ ثَبَتَ الْأَمْرُ بِهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي قتادة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ . قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ } وَعَنْهُ قَالَ : { دَخَلْت الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ بَيْنَ ظهراني النَّاسِ قَالَ : فَجَلَسْت فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَنَعَك أَنْ تَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ ؟ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُك جَالِسًا وَالنَّاسُ جُلُوسٌ قَالَ : فَإِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ } فَهَذَا فِيهِ الْأَمْرُ بِرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ وَالنَّهْيُ عَنْ أَنْ يَجْلِسَ حَتَّى يَرْكَعَهُمَا وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ وَقْتٍ عُمُومًا مَحْفُوظًا لَمْ يَخُصَّ مِنْهُ صُورَةً بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ . وَحَدِيثُ النَّهْيِ قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامِّ وَالْعَامُّ الْمَحْفُوظُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ فَإِنَّ هَذَا قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامِّ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُقْتَضِيَ لِعُمُومِهِ قَائِمٌ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ . الْوَجْهُ الثَّانِي : مَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقَالَ : صَلَّيْت يَا فُلَانُ ؟ قَالَ : لَا قَالَ : قُمْ فَارْكَعْ وَفِي رِوَايَةٍ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ } وَلِمُسْلِمِ قَالَ : ثُمَّ قَالَ : { إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا } وَأَحْمَد أَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ هُوَ وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ . كَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ
وَابْنِ الْمُنْذِرِ كَمَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مِثْلَ الْحَسَنِ وَمَكْحُولٍ وَغَيْرِهِمَا . وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَعْرِفُوا هَذَا الْحَدِيثَ فَنُهُوا عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ نَهْيٍ كَمَا نُقِلَ عَنْ شريح والنَّخَعِي وَابْنِ سِيرِين وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاللَّيْثِ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ . وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَقْتَ النَّهْيِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالْخَطِيبَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَشَدُّ نَهْيًا ؛ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ وَإِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا فَإِذَا كَانَ قَدْ أُمِرَ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فِي وَقْتِ الْخُطْبَةِ فَهُوَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ أَوْلَى بِالْأَمْرِ . وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي غَيْرِ وَقْتِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ يُسَنُّ لَهُ الرُّكُوعُ لِقَوْلِهِ : { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } وَقَالُوا تَنْقَطِعُ الصَّلَاةُ بِجُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ غَيْرُ الدَّاخِلِ يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَيُوجِزُ وَهَذَا تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ بَلْ إذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالتَّحِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهُوَ وَقْتُ نَهْيٍ عَنْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَشْغَلُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ ؛ فَأَوْقَاتُ النَّهْيِ الْبَاقِيَةِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يُصَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ؛ وَلَا يُطَافُ
بِالْبَيْتِ وَلَا يُصَلِّي رَكْعَتَا الطَّوَافَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ هُنَا أَوْكَدُ وَأَضْيَقُ مِنْهُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فَإِذَا أَمَرَ هُنَا بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَالْأَمْرُ بِهَا هُنَاكَ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : قَدْ ثَبَتَ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ مِنْ النَّهْيِ : كَالْعَصْرِ الْحَاضِرَةِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْفَائِتَةِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ . وَالْمُعَادَةُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ ثَبَتَ انْقِسَامُ الصَّلَاةِ أَوْقَاتَ النَّهْيِ إلَى مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَمَشْرُوعٍ غَيْرِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ الشَّارِعُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَيَجْعَلُ هَذَا مَأْمُورًا وَهَذَا مَحْظُورًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَأْذُونُ فِيهِ لَهُ سَبَبٌ فَالْمُصَلِّي صَلَاةَ السَّبَبِ صَلَّاهَا لِأَجْلِ السَّبَبِ لَمْ يَتَطَوَّعْ تَطَوُّعًا مُطْلَقًا وَلَوْ لَمْ يُصَلِّهَا لَفَاتَهُ مَصْلَحَةُ الصَّلَاةِ كَمَا يَفُوتُهُ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ مَا فِي صَلَاةِ التَّحِيَّةِ مِنْ الْأَجْرِ وَكَذَلِكَ يَفُوتُهُ مَا فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ كَذَلِكَ يَفُوتُهُ مَا فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَسَائِرِ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ شَيْئًا آخَرَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ : حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ وَغَيْرِهَا . وَإِنْ كَانَ الثَّانِي قِيلَ لَهُمْ : فَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْفَرْقَ بَلْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَعْضٍ وَرَخَّصَ فِي بَعْضٍ وَلَا تَعْلَمُونَ الْفَرْقَ فَلَا يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَتَكَلَّمُوا فِي سَائِرِ مَوَارِدِ
النِّزَاعِ لَا بِنَهْيٍ وَلَا بِإِذْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ الَّذِي فَرَّقَ بِهِ الشَّارِعُ فِي صُورَةِ النَّصِّ فَأَبَاحَ بَعْضًا وَحَرَّمَ بَعْضًا مُتَنَاوَلًا لِمَوَارِدِ النِّزَاعِ إمَّا نَهْيًا عَنْهُ وَإِمَّا إذْنًا فِيهِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَاحِدًا مِنْ النَّوْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَنْهَوْا إلَّا عَمَّا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ ؛ لِانْتِفَاءِ الْوَصْفِ الْمُبِيحِ عَنْهُ وَلَا تَأْذَنُوا إلَّا فِيمَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ أَذِنَ فِيهِ ؛ لِشُمُولِ الْوَصْفِ الْمُبِيحِ لَهُ . وَأَمَّا التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ بِغَيْرِ أَصْلٍ مُفَرَّقٍ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَلَا يَجُوزُ . فَإِنْ قِيلَ : أَحَادِيثُ النَّهْيِ عَامَّةٌ فَنَحْنُ نَحْمِلُهَا عَلَى عُمُومِهَا إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ فَمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ لِمَجِيءِ نَصٍّ خَاصٍّ فِيهِ خَصَّصْنَاهَا بِهِ وَإِلَّا أَبْقَيْنَاهَا عَلَى الْعُمُومِ . قِيلَ : هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ كَانَ هَذَا الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ لَمْ يُعَارِضْهُ عمومات مَحْفُوظَةٌ أَقْوَى مِنْهُ وَأَنَّهُ لَمَّا خُصَّ مِنْهُ صُوَرٌ عُلِمَ اخْتِصَاصُهَا بِمَا يُوجِبُ الْفَرْقَ فَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ صُوَرٌ لِمَعْنَى مُنْتَفٍ مِنْ غَيْرِهَا بَقِيَ مَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ فَكَيْفَ وَعُمُومُهُ مُنْتَفٍ وَقَدْ عَارَضَهُ أَحَادِيثُ خَاصَّةٌ وَعَامَّةٌ عُمُومًا مَحْفُوظًا وَمَا خُصَّ مِنْهُ لَمْ يَخْتَصَّ بِوَصْفِ يُوجِبُ اسْتِثْنَاءَهُ دُونَ غَيْرِهِ بَلْ غَيْرُهُ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِتَخْصِيصِهِ أَوْ أَوْلَى مِنْهُ بِالتَّخْصِيصِ .
وَحَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةُ إلَى تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ مِنْهَا إلَى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَأْخِيرُ الطَّوَافِ بِخِلَافِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّهَا لَا تُمْكِنُ ؛ ثُمَّ الرَّجُلُ إذَا دَخَلَ وَقْتُ نَهْيٍ إنْ جَلَسَ وَلَمْ يُصَلِّ كَانَ مُخَالِفًا لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَوِّتًا هَذِهِ الْمَصْلَحَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ آثِمًا بِالْمَعْصِيَةِ وَإِنْ بَقِيَ قَائِمًا أَوْ امْتَنَعَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فَهَذَا شَرٌّ عَظِيمٌ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُصَلِّي سُنَّةَ الْفَجْرِ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ يَأْتِي إلَى الْمَسْجِدِ فَاَلَّذِينَ يَكْرَهُونَ التَّحِيَّةَ : مِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ حَتَّى يُقِيمَ فَيَدْخُلُ يُصَلِّي مَعَهُمْ وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ دُخُولَ بَيْتِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الشَّرِيفِ وَذِكْرَ اللَّهِ فِيهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ وَيَجْلِسُ وَلَا يُصَلِّي فَيُخَالِفُ الْأَمْرَ وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَأْمُورُونَ بِالتَّحِيَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَلَوْ كَانُوا مَنْهِيِّينَ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ حِينَئِذٍ لَكَانَ هَذَا مِمَّا يَظْهَرُ نَهْيُ الرَّسُولِ عَنْهُ فَكَيْفَ وَهُوَ قَدْ أَمَرَهُمْ إذَا دَخَلَ أَحَدُهُمْ الْمَسْجِدَ وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَا يَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أَلَيْسَ فِي أَمْرِهِمْ بِهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْقَاتِ ؟ الْوَجْهُ الرَّابِعُ : مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنْ النَّهْيَ كَانَ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الشِّرْكِ وَذَوَاتِ الْأَسْبَابِ فِيهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ وَالْفَاعِلُ يَفْعَلُهَا لِأَجْلِ السَّبَبِ لَا يَفْعَلُهَا مُطْلَقًا فَتَمْتَنِعُ فِيهِ الْمُشَابَهَةُ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَضَى رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ } وَهُوَ قَضَاءُ النَّافِلَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ مَعَ إمْكَانِ قَضَائِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَالنَّوَافِلُ الَّتِي إذَا لَمْ تُفْعَلْ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ تَفُوتُ هِيَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ قَضَاءِ نَافِلَةٍ فِي هَذَا الْوَقْتِ مَعَ إمْكَانِ فِعْلِهَا فِي غَيْرِهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ مِمَّا أُمِرَ بِهِ : كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَقَدْ اخْتَارَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي أَنَّ السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ تُقْضَى بَعْدَ الْعَصْرِ وَلَا تُقْضَى فِي سَائِرِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ . كَالْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ . وَذَكَرَ أَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَد : أَنْ قَضَاءَ سُنَّةِ الْفَجْرِ جَائِزٌ بَعْدَهَا إلَّا أَنَّ أَحْمَد اخْتَارَ أَنْ يَقْضِيَهَا مِنْ الضُّحَى . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : إنْ صَلَّاهُمَا بَعْدَ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ ؛ وَأَمَّا أَنَا فَأَخْتَارُ ذَلِكَ وَذَكَرَ فِي قَضَاءِ الْوِتْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ يَفْعَلُهُ . قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ : أَيُوتِرُ الرَّجُلُ بَعْدَ مَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وعبادة بْنِ الصَّامِتِ وفضالة بْنِ عُبَيْدٍ وَعَائِشَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ . وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . وَأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَوْتَرَ بَعْدَ الْمُؤَذِّنِ لَأَوْتَرَ لَهُ وَسَأَلُوا عَلِيًّا . قَالَ : أَعْرِفُ : يُوتِرُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَأَنْكَرَ
ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ نِزَاعًا إلَّا عَنْ أَبِي مُوسَى مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي بَعْدَ الْفَجْرِ . قَالَ : وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ الصَّحِيحَةُ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي النَّهْيِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَإِنَّمَا فِيهِ حَدِيثُ أبي وَقَدْ احْتَجَّ أَحْمَد بِحَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ الْغِفَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ : الْوِتْرَ } وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ . قَالَ مَالِكٌ : مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ قَالَ : وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى [ الخرقي ] (*) فِي " الْإِرْشَادِ " مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ قِيَاسًا عَلَى الْوِتْرِ . قُلْت : وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ لَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرَهُ الخرقي وَغَيْرُهُ مِنْ قُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ إبَاحَةَ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ : قَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَلَكِنْ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ الْكُسُوفِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ فِي بَابِهِمَا . فَلَمْ يَنْهَ عَنْ قَضَاءِ السُّنَنِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ . فَاخْتَارَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : أَنَّ السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ تُقْضَى بَعْدَ الْعَصْرِ وَلَا تُقْضَى فِي سَائِرِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَلَا يُفْعَلُ غَيْرُهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ كَالتَّحِيَّةِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَصَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ
وَصَلَاةِ التَّوْبَةِ وَسُنَّةِ الْوُضُوءِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ لَا فِي هَذَا الْوَقْتِ ؛ وَلَا فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا الْقَضَاءَ فِيهَا قَدْ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ قَالُوا : وَالنَّهْيُ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهِ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِيهِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ سَائِرُ الْأَوْقَاتِ وَالرَّوَاتِبُ لَهَا مَزِيَّةٌ وَهَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَأَمْرَهُ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ أَقْوَى مِنْ قَضَاءِ سُنَّةِ فَائِتَةٍ فَإِذَا جَازَ هَذَا فَذَاكَ أجوز فَإِنَّ قَضَاءَ السُّنَنِ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَلَا أَمْرٌ بِنَفْسِ السُّنَّةِ : سُنَّةِ الظُّهْرِ لَكِنَّهُ فَعَلَهَا وَدَاوَمَ عَلَيْهَا وَقَضَاهَا لَمَّا فَاتَتْهُ . وَمَا أَمَرَ بِهِ أُمَّتَهُ لَا سِيَّمَا وَكَانَ هُوَ أَيْضًا يَفْعَلُهُ فَهُوَ أَوْكَدُ مِمَّا فَعَلَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ . فَإِذَا جَازَ لَهُمْ فِعْلُ هَذَا فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ فَفِعْلُ ذَاكَ أَوْلَى وَإِذَا جَازَ قَضَاءُ سُنَّةِ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَضَاءُ سُنَّةِ الْفَجْرِ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْلَى فَإِنَّ ذَاكَ وَقْتَهَا وَإِذَا أَمْكَنَ تَأْخِيرُهَا إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ أَمْكَنَ تَأْخِيرُ تِلْكَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقَدْ كَانُوا يُصَلُّونَ بَيْنَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَإِقَامَتِهَا وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَاهُمْ وَيُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ : وَقَالَ : { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ } كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً " .
فَصْلٌ
:
وَالنَّهْيُ فِي الْعَصْرِ مُعَلَّقٌ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ : فَإِذَا صَلَّاهَا
لَمْ يُصَلِّ بَعْدَهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ لَمْ يُصَلِّ وَمَا لَمْ يُصَلِّهَا
فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَهَذَا ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالِاتِّفَاقِ ؛ فَإِنَّ
النَّهْيَ مُعَلَّقٌ بِالْفِعْلِ .
وَأَمَّا الْفَجْرُ : فَفِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَفِيهِ عَنْ أَحْمَد
رِوَايَتَانِ :
قِيلَ : إنَّهُ مُعَلَّقٌ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا يَتَطَوَّعُ بَعْدَهُ
بِغَيْرِ الرَّكْعَتَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَمَذْهَبِ
أَبِي حَنِيفَةَ . قَالَ النَّخَعِي كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّطَوُّعَ بَعْدَ
الْفَجْرِ .
وَقِيلَ : إنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالْفِعْلِ كَالْعَصْرِ . وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ
وَالشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ النَّهْيُ إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ كَمَا
فِي الْعَصْرِ . وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ تُسَوِّي بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ كَمَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ
مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى
تُشْرِقَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ }
وَكَذَلِكَ فِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ : { وَعَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ } وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ } وَلِمُسْلِمِ { لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عبسة قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَخْبِرْنِي عَنْ الصَّلَاةِ قَالَ : { صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَحْضُورَةٌ مَشْهُودَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ثُمَّ اُقْصُرْ عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ ثُمَّ اُقْصُرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ } . وَالْأَحَادِيثُ الْمُخْتَصَّةُ بِوَقْتِ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وَبِالِاسْتِوَاءِ : حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ } هَذَا اللَّفْظُ لِمُسْلِمِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : { ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ . مَوْتَانَا : حِينَ تَطْلُعُ
الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ وَحِينَ تَتَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ } . وَوَقْتُ الزَّوَالِ لَيْسَ فِي عَامَّةِ الْأَحَادِيثِ وَلَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ ؛ لَكِنْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عبسة وَتَابَعَهُمَا الصنابحي . وَعَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ اعْتَمَدَ أَحْمَد وَلَمَّا ذُكِرَ لَهُ الرُّخْصَةُ فِي الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ : فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عبسة وَحَدِيثِ الصنابحي . والخرقي لَمْ يَذْكُرْهُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ بَلْ قَالَ : وَيَقْضِي الْفَوَائِتَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْفَرْضَ وَيَرْكَعُ لِلطَّوَافِ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَقَدْ كَانَ صَلَّى فِي كُلِّ وَقْتِ نَهْيٍ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ وَهُوَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ وَقْتَ نَهْيٍ إلَّا هَذَانِ وَيَقْتَضِي أَنَّ مَا أَبَاحَهُ يُفْعَلُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَيَقْتَضِي أَنَّ النَّهْيَ مُعَلَّقٌ بِالْفِعْلِ فَإِنَّهُ قَالَ : بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَلَمْ يَقُلْ الْفَجْرَ وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَاسْتَثْنَى الرَّكْعَتَيْنِ بَلْ اسْتَثْنَى الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ . وَهَذِهِ أَلْفَاظُ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ كَمَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْوَقْتَ لَاسْتَثْنَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْفَرْضِ كَمَا وَرَدَ اسْتِثْنَاءُ ذَلِكَ فِي مَا نَهَى عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : { لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ إلَّا سَجْدَتَيْنِ } فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ الصَّلَاةِ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ . وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَرْضُهَا وَسُنَّتُهَا وَقْتَ نَهْيٍ وَمَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ سُنَّتُهَا وَفَرْضُهَا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذَا وَقْتُ نَهْيٍ ؟ وَهَلْ يَكُونُ وَقْتَ نَهْيٍ سُنَّ فِيهِ الصَّلَاةُ دَائِمًا بِلَا سَبَبٍ ؟ وَأَمَرَ بِتَحَرِّي الصَّلَاةِ فِيهِ ؟ هَذَا تَنَاقُضٌ مَعَ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ جُعِلَ وَقْتًا لِلصَّلَاةِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ لَيْسَ كَوَقْتِ الْعَصْرِ الَّذِي جُعِلَ آخِرَ الْوَقْتِ فِيهِ إذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ . وَالنَّهْيُ هُوَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَسْجُدُونَ لَهَا وَهَذَا لَا يَكُونُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلِهَذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي النَّهْيِ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لَكِنْ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاتَيْنِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ فَإِنَّ الْمُتَطَوِّعَ قَدْ يُصَلِّي بَعْدَهُمَا حَتَّى يُصَلِّيَ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ . وَالنَّهْيُ فِي هَذَيْنِ أَخَفُّ وَلِهَذَا كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ . فَأَمَّا قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَا وَجْهَ لِلنَّهْيِ لَكِنْ لَا يُسَنُّ ذَلِكَ الْوَقْتُ إلَّا الْفَجْرَ سُنَّتُهَا وَفَرْضُهَا . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَيُوتِرُ ثُمَّ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى الْفَرْضَ وَكَانَ يَضْطَجِعُ أَحْيَانًا
لِيَسْتَرِيحَ إمَّا بَعْدَ الْوِتْرِ وَإِمَّا بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَكَانَ إذَا غَلَبَهُ مِنْ اللَّيْلِ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَدَلَ قِيَامِهِ مِنْ اللَّيْلِ وَلَمْ يَكُنْ يَقْضِي ذَلِكَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَّسِعُ لِذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِيهَا طُولٌ وَكَانَ يُغَلِّسُ بِالْفَجْرِ . وَفِي الصَّحِيحِ { مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ فَقَرَأَهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنْهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ كَانَ أَبْلَغَ لَكِنْ إذَا قَرَأَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ فَإِنَّ هَذَا الْوَقْتَ تَابِعٌ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَلِهَذَا يُقَالُ فِيمَا قَبْلَ الزَّوَالِ : فَعَلْنَاهُ اللَّيْلَةَ . وَيُقَالُ بَعْدَ الزَّوَالِ : فَعَلْنَاهُ الْبَارِحَةَ وَهُوَ وَقْتُ الضُّحَى وَهُوَ خَلْفٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ . وَلِهَذَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَامَ عَنْ قِيَامِهِ قَضَاهُ مِنْ الضُّحَى فَيُصَلِّي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً } . وَقَدْ جَاءَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } . فَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إنَّمَا سَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ السُّنَّةَ الرَّاتِبَةَ وَفَرْضُهَا الْفَجْرُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ لَمْ يُسَنَّ وَلَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ إذَا لَمْ يَتَّخِذْ سُنَّةً كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ } . كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً .
فَهَذَا
فِيهِ إبَاحَةُ الصَّلَاةِ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ كَمَا { كَانَ الصَّحَابَةُ
يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ أَذَانَيْ الْمَغْرِبِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَاهُمْ وَيُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ } فَكَذَلِكَ
الصَّلَاةُ بَيْنَ أَذَانَيْ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ كَذَلِكَ بَيْنَ أَذَانَيْ
الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ لَكِنْ بَيْنَ أَذَانَيْ الْفَجْرِ الرَّكْعَتَانِ سُنَّةٌ
بِلَا رَيْبٍ وَمَا سِوَاهَا يُفْعَلُ وَلَا يُتَّخَذُ سُنَّةً فَلَا يُدَاوِمُ
عَلَيْهِ وَيُؤْمَرُ بِهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ كَمَا هُوَ حَالُ السُّنَّةِ
فَإِنَّ السُّنَّةَ تَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ وَيُدَاوِمُ عَلَيْهَا كَمَا أَنَّهُمْ
كُلُّهُمْ مَسْنُونٌ لَهُمْ رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا .
فَإِذَا قِيلَ : لَا سُنَّةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا رَكْعَتَانِ فَهَذَا
صَحِيحٌ وَأَمَّا النَّهْيُ الْعَامُّ فَلَا . وَالْإِنْسَانُ قَدْ لَا يَقُومُ
مِنْ اللَّيْلِ فَيُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَقَدْ اسْتَحَبَّ
السَّلَفُ لَهُ قَضَاءَ وِتْرِهِ بَلْ وَقِيَامَهُ مِنْ اللَّيْلِ فِي هَذَا
الْوَقْتِ وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى الضُّحَى .
فَصْلٌ :
وَلِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا
أَقْوَالٌ : قِيلَ بِالنَّهْيِ مُطْلَقًا وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد .
وَقِيلَ : الْإِذْنُ مُطْلَقًا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الخرقي وَيُرْوَى عَنْ
مَالِكٍ . وَقِيلَ : بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَبَاحَهُ فِيهَا عَطَاءٌ فِي الشِّتَاءِ دُونَ الصَّيْفِ ؛
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو
بْنِ عبسة " { ثُمَّ بَعْدَ طُلُوعِهَا صَلِّ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ
مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ
الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ثُمَّ اُقْصُرْ عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ } . فَعَلَّلَ النَّهْيَ حِينَئِذٍ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ . وَفِي الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ بِمُقَارَنَةِ الشَّيْطَانِ فَقَالَ : " { ثُمَّ اُقْصُرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ } وَفِي الْغُرُوبِ قَالَ : " { ثُمَّ اُقْصُرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ } . وَأَمَّا مُقَارَنَةُ الشَّيْطَانِ لَهَا حِينَ الِاسْتِوَاءِ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَدِيثِ إلَّا فِي حَدِيثِ الصنابحي . قَالَ : " { إنَّهَا تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ قَارَنَهَا ثُمَّ إذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا فَإِذَا زَالَتْ قَارَنَهَا وَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا فَإِذَا غَرَبَتْ قَارَنَهَا } فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ . لَكِنْ الصنابحي قَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ صُحْبَةٌ فَلَمْ يَسْمَعْ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عبسة فَإِنَّهُ صَحِيحٌ سَمِعَهُ مِنْهُ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ عَامَّةَ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِيهَا إلَّا النَّهْيُ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ أَوْ بَعْدَ الصَّلَاتَيْنِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ نِصْفَ النَّهَارِ نَوْعٌ آخَرُ لَهُ عِلَّةٌ غَيْرُ عِلَّةِ ذَيْنك الْوَقْتَيْنِ . يُوَضِّحُ هَذَا : أَنَّ الْكُفَّارَ يَسْجُدُونَ لَهَا وَقْتَ الطُّلُوعِ وَوَقْتَ
الْغُرُوبِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا سُجُودُهُمْ لَهَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ وَلَمْ يُعَلِّلْ بِهِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ ضَبْطَ هَذَا الْوَقْتِ مُتَعَسِّرٌ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } وَهَذَا حَدِيثٌ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَلَقِّيه بِالْقَبُولِ فَأَخْبَرَ أَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ : " { فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ } وَأَمَرَ بِالْإِبْرَادِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ . فَفِي الصَّيْفِ تُسْجَرُ نِصْفَ النَّهَارِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ فِي الْحَرِّ وَهُوَ يُؤْمَرُ بِأَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ الزَّوَالِ حَتَّى يَبْرُدَ لَكِنْ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فَاءَتْ الْأَفْيَاءُ فَطَالَتْ الأظلة بَعْدَ تَنَاهِي قِصَرِهَا وَهَذَا مَشْرُوعٌ فِي الْإِبْرَادِ فَلِهَذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ جَائِزَةً مِنْ حِينِ الزَّوَالِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عبسة : " { ثُمَّ اُقْصُرْ عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ مِنْ حِينِ يُقْبِلُ الْفَيْءُ فَيَفِيءُ الظِّلُّ : أَيْ يَرْجِعُ مِنْ جِهَةِ الْمَغْرِبِ إلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ وَيَرْجِعُ فِي الزِّيَادَةِ بَعْدَ النُّقْصَانِ . وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ لَفْظَ الْفَيْءِ مُخْتَصٌّ بِمَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ
مَعْنَى الرُّجُوعِ . وَلَفْظُ الظِّلِّ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا فَإِنَّهُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَكُونُ الظِّلُّ مُمْتَدًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا } ثُمَّ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ كَانَتْ عَلَيْهِ دَلِيلًا فَتَمَيَّزَ الظِّلُّ عَنْ الضُّحَى وَنَسَخَتْ الشَّمْسُ الظِّلَّ لَا تَزَالُ تَنْسَخُهُ وَهُوَ يَقْصُرُ إلَى الزَّوَالِ فَإِذَا زَالَتْ فَإِنَّهُ يُعَادُ مُمْتَدًّا إلَى الْمَشْرِقِ حَيْثُ ابْتَدَأَ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَوَّلَ مَا نَسَخَتْهُ عَنْ الْمَشْرِقِ ثُمَّ عَنْ الْمَغْرِبِ ثُمَّ تَفِيءُ إلَى الْمَشْرِقِ ثُمَّ الْمَغْرِبِ وَلَمْ يَزَلْ يَمْتَدُّ وَيَطُولُ إلَى أَنْ تَغْرُبَ فَيَنْسَخُ الظِّلُّ جَمِيعَ الشَّمْسِ . فَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عبسة : " { ثُمَّ اُقْصُرْ عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ } . وَعَلَى هَذَا فَمَنْ رَخَّصَ فِي الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ : إنَّهَا لَا تُسْجَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَمَا قَدْ رُوِيَ وَقَالُوا : إنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الْإِبْرَادُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَلْ يَجُوزُ عَقِبَ الزَّوَالِ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ النَّاسِ وَفِي الْإِبْرَادِ مَشَقَّةٌ لِلْخَلْقِ . وَيَجُوزُ عِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ وَقْتَ الزَّوَالِ كَمَا فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ وَقْتَ نَهْيٍ وَالْجُمُعَةُ جَائِزَةٌ فِيهِ وَالْفَرَائِضُ الْمُؤَدَّاةُ لَا تُشْرَعُ فِي وَقْتِ النَّهْيِ لِغَيْرِ عُذْرٍ كَمَا قُلْنَا فِي الْفَجْرِ فَإِنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ . وَبِالْجُمْلَةِ جَوَازُ الصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى أَصْلِ أَحْمَد أَظْهَرُ مِنْهُ عَلَى أَصْلِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ الْجُمُعَةَ وَقْتَ الزَّوَالِ وَلَا يَجْعَلُ
ذَلِكَ
وَقْتَ نَهْيٍ بَلْ قَدْ قِيلَ فِي مَذْهَبِهِ : أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إلَّا فِي
ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ وَقْتُ نَهْيٍ فِي غَيْرِهَا .
فَعُلِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا وَكَمَا أَنَّ الْإِبْرَادَ
الْمَأْمُورَ بِهِ فِي غَيْرِهَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ فِيهَا بَلْ يُنْهَى عَنْهُ
وَهُوَ مُعَلَّلٌ بِأَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَكَذَلِكَ قَدْ
عَلَّلَ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ . وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ :
" { فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } . وَإِذَا كَانَتْ
مُخْتَصَّةً بِمَا سِوَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ : فَكَذَلِكَ الْأُخْرَى وَعَلَى
مُقْتَضَى هَذِهِ الْعِلَّةِ لَا يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ لَا
فِي الشِّتَاءِ وَلَا يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا فِي السُّنَنِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّهُ نَهَى عَنْ
الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ } وَهُوَ أَرْجَحُ مِمَّا
احْتَجُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْفَجْرِ مُعَلَّقٌ بِالْوَقْتِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا
مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ
:
فِي أَنَّ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ تُفْعَلُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ .
فَقَدْ كَتَبْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الْإسْكَنْدرية وَغَيْرِهَا كَلَامًا
مَبْسُوطًا : فِي أَنَّ هَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ اخْتَارَهَا أَبُو
الْخَطَّابِ . وَكُنَّا قَبْلُ مُتَوَقِّفِينَ لِبَعْضِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي
احْتَجَّ بِهَا الْمَانِعُونَ فَلَمَّا بَحَثْنَا عَنْ حَقِيقَتِهَا وَجَدْنَاهَا
أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً أَوْ غَيْرَ دَالَّةٍ وَذَكَرْنَا أَنَّ الدَّلَائِلَ عَلَى
ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ : مِنْهَا : أَنَّ أَحَادِيثَ الْأَمْرِ بِذَوَاتِ
الْأَسْبَابِ كَقَوْلِهِ : " { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا
يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } عَامٌّ مَحْفُوظٌ لَا خُصُوصَ فِيهِ
وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ عَامٌّ بَلْ كُلُّهَا
مَخْصُوصَةٌ فَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْعَامِّ الَّذِي لَا خُصُوصَ فِيهِ فَإِنَّهُ
حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ وَالْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ ؛
بِخِلَافِ الثَّانِي وَهُوَ أَقْوَى مِنْهُ بِلَا رَيْبٍ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ قَدْ
ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِصَلَاةِ
تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ لِلدَّاخِلِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ هُنَا بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ لِثُبُوتِ النَّصِّ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَشَدُّ بِلَا رَيْبٍ فَإِذَا فُعِلَتْ هُنَاكَ فَهُنَا أَوْلَى . وَمِنْهَا : أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَفْظُهُ : " { لَا تَتَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا } . وَالتَّحَرِّي هُوَ التَّعَمُّدُ وَالْقَصْدُ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ . فَأَمَّا مَا لَهُ سَبَبٌ فَلَمْ يَتَحَرَّهُ ؛ بَلْ فَعَلَهُ لِأَجْلِ السَّبَبِ وَالسَّبَبُ أَلْجَأَهُ إلَيْهِ . وَهَذَا اللَّفْظُ الْمُقَيَّدُ الْمُفَسَّرُ يُفَسِّرُ سَائِرَ الْأَلْفَاظِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ عَنْ التَّحَرِّي وَلَوْ كَانَ عَنْ النَّوْعَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ وَلَكَانَ الْحُكْمُ قَدْ عُلِّقَ بِلَفْظِ عَدِيمِ التَّأْثِيرِ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ جَوَازُ بَعْضِ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ بَعْضُهَا بِالنَّصِّ كَالرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْفَجْرِ وَكَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَكَالْمُعَادَةِ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ وَبَعْضُهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ كَالْعَصْرِ عِنْدَ الْغُرُوبِ وَكَالْجِنَازَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَإِذَا نُظِرَ فِي الْمُقْتَضِي لِلْجَوَازِ لَمْ تُوجَدْ لَهُ عِلَّةٌ صَحِيحَةٌ إلَّا كَوْنَهَا ذَاتَ سَبَبٍ فَيَجِبُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِذَلِكَ وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعَادَةِ وَبَيْنَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَالْأَمْرُ بِهَذِهِ أَصَحُّ وَكَذَلِكَ الْكُسُوفُ قَدْ أَمَرَ بِهَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ نَقُولَ : الصَّلَاةُ فِي وَقْتِ النَّهْيِ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ مَفْسَدَةً مَحْضَةً لَا تُشْرَعُ بِحَالِ : كَالسُّجُودِ لِلشَّمْسِ نَفْسِهَا أَوْ يَكُونُ مِمَّا يُشْرَعُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْعَصْرَ تُصَلَّى وَقْتَ الْغُرُوبِ قَبْلَ سُقُوطِ الْقُرْصِ كُلِّهِ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَوْلُهُ : " { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ } وَالْأَوَّلُ : قَدْ اُتُّفِقَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي : قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَيَقُولُ : إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ بَطَلَتْ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى مَنْهِيًّا عَنْهَا فَائِتَةً وَالْعَصْرُ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ دَخَلَ فِي وَقْتِ الْجَوَازِ لَا فِي وَقْتِ النَّهْيِ وَقَدْ ضَعَّفَ أَحْمَد وَالْجُمْهُورُ هَذَا الْفَرْقَ وَقَالُوا : الْكَلَامُ فِي الْعَصْرِ وَقْتَ الْغُرُوبِ فَإِنَّهُ وَقْتُ نَهْيٍ كَمَا أَنَّ مَا بَعْدَ الطُّلُوعِ وَقْتُ نَهْيٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعَصْرَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ لَكِنْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ كَالْحَائِضِ تَطْهُرُ وَالنَّائِمِ يَسْتَيْقِظُ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ أَخَّرَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهَا فِي وَقْتِ النَّهْيِ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يُصَلِّيَهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ . فَإِذَا قِيلَ : صَلَاتُهَا فِي الْوَقْتِ فَرْضٌ . قِيلَ : وَقَضَاءُ الْفَائِتَةِ عَلَى الْفَوْرِ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ : " { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ } .
وَأَيْضًا : فَإِذَا صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ الطُّلُوعِ فَقَدْ شَرَعَ فِيهَا قَبْلَ وَقْتِ النَّهْيِ فَهُوَ أَخَفُّ مِنْ ابْتِدَائِهَا وَقْتَ النَّهْيِ مَعَ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي أَغْلَظِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَهُوَ وَقْتُ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ لَيْسَ مَفْسَدَةً مَحْضَةً لَا تُشْرَعُ بِحَالِ ؛ بَلْ تُشْرَعُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عُلِمَ أَنَّ وُجُودَ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَا يُوجِبُ مَفْسَدَةَ النَّهْيِ إذْ لَوْ وُجِدَتْ لَمَا جَازَ شَيْءٌ مِنْ الصَّلَوَاتِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَالشَّرْعُ قَدْ اسْتَقَرَّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ بَلْ الْعِبَادَةُ الَّتِي تَفُوتُ إذَا أُخِّرَتْ تُفْعَلُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ كَانَ فِي فِعْلِهَا مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورِ مَا لَا يَسُوغُ عِنْدَ إمْكَانِ فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ مِثْلَ الصَّلَاةِ بِلَا قِرَاءَةٍ وَصَلَاةِ الْعُرْيَانِ وَصَلَاةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَالصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ بِلَا اغْتِسَالٍ وَلَا وُضُوءٍ وَالصَّلَاةِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَا يَحْرُمُ فِعْلُهَا إذَا قَدَرَ أَنْ يَفْعَلَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْوَقْتِ . ثُمَّ إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ مَعَ النَّقْصِ لِئَلَّا يَفُوتُ وَإِنْ أَمْكَنَ فِعْلُهَا بَعْدَ الْوَقْتِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ . فَعُلِمَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ . مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ وَاجِبَاتِهَا وَهَذَا فِي التَّطَوُّعِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَّا عريانا أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَوْ مَعَ سَلَسِ الْبَوْلِ صَلَّى كَمَا
يُصَلِّي الْفَرْضَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ إلَّا مَعَ الْكَمَالِ تَعَذَّرَ فِعْلُهُ فَكَانَ فِعْلُهُ مَعَ النَّقْصِ خَيْرًا مِنْ تَعْطِيلِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذَوَاتُ الْأَسْبَابِ إنْ لَمْ تُفْعَلْ وَقْتَ النَّهْيِ فَاتَتْ وَتَعَطَّلَتْ وَبَطَلَتْ الْمَصْلَحَةُ الْحَاصِلَةُ بِهِ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّ الْأَوْقَاتَ فِيهَا سِعَةٌ فَإِذَا تَرَكَ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ حَصَلَتْ حِكْمَةُ النَّهْيِ وَهُوَ قَطْعٌ لِلتَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ لَا يَحْتَاجُ حُصُولُهَا إلَى الْمَنْعِ مِنْ جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ . بَلْ يَحْصُلُ الْمَنْعُ مِنْ بَعْضِهَا فَيَكْفِي التَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ . وَأَيْضًا فَالنَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا هُوَ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ لِئَلَّا يَتَشَبَّهُ بِالْمُشْرِكِينَ فَيُفْضِي إلَى الشِّرْكِ وَمَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ لَا لِأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ فِي نَفْسِهِ يُشْرَعُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ وَلَا تَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ لِغَيْرِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ . وَالصَّلَاةُ لِلَّهِ فِيهِ لَيْسَ فِيهَا مَفْسَدَةٌ بَلْ هِيَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْمَفْسَدَةِ فَإِذَا تَعَذَّرَتْ الْمَصْلَحَةُ إلَّا بِالذَّرِيعَةِ شُرِعَتْ وَاكْتَفَى مِنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ . وَهُوَ التَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ . فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ مَفْسَدَةٌ وَلَا تَفْوِيتُ مَصْلَحَةٍ لِإِمْكَانِ فِعْلِهِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ . وَهَذَا أَصْلٌ لِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ : فِي أَنَّ مَا كَانَ مِنْ " بَابِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ " إنَّمَا يُنْهَى عَنْهُ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إلَّا بِهِ وَقَدْ يُنْهَى عَنْهُ ؛ وَلِهَذَا يُفَرَّقُ فِي الْعُقُودِ بَيْنَ الْحِيَلِ وَسَدِّ الذَّرَائِعِ : فَالْمُحْتَالُ
يَقْصِدُ الْمُحْرِمَ فَهَذَا يُنْهَى عَنْهُ . وَأَمَّا الذَّرِيعَةُ فَصَاحِبُهَا لَا يَقْصِدُ الْمُحْرِمَ لَكِنْ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهَا نُهِيَ عَنْهَا وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ فَلَا . وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ يُبَالِغُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ حَتَّى يَنْهَى عَنْهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا . وَ " ذَوَاتُ الْأَسْبَابِ " كُلِّهَا تَفُوتُ إذَا أُخِّرَتْ عَنْ وَقْتِ النَّهْيِ : مِثْلَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَمِثْلَ الصَّلَاةِ عَقِبَ الطَّهَارَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ بِلَالٍ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الِاسْتِخَارَةِ : إذَا كَانَ الَّذِي يَسْتَخِيرُ لَهُ يَفُوتُ إذَا أُخِّرَتْ الصَّلَاةُ . وَكَذَلِكَ صَلَاةُ التَّوْبَةِ فَإِذَا أَذْنَبَ فَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَتُوبَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ . وَنَحْوَ قَضَاءِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ كَمَا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ . وَكَمَا أَقَرَّ الرَّجُلُ عَلَى قَضَاءِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بَعْدَ الْفَجْرِ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَأْخِيرُهَا ؛ لَكِنْ تَفُوتُ مَصْلَحَةُ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْقَضَاءِ فَإِنَّ الْقَضَاءَ مَأْمُورٌ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْوَاجِبِ وَاجِبٌ وَفِي الْمُسْتَحَبِّ مُسْتَحَبٌّ . وَالشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ الْقَضَاءَ فِي وَقْتِ النَّهْيِ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ تَعْجِيلَهُ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ وَهِيَ مَعَ هَذَا لَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ
الْوَقْتِ ؛ لَكِنْ يَفُوتُ فَضْلُ تَقْدِيمِهَا وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ كَمَا جَازَ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لِلْعُرْيَانِ وَالْمُتَيَمِّمِ وَإِنْ أَمْكَنَ فِعْلُهَا آخِرَ الْوَقْتِ بِالْوُضُوءِ وَالسُّتْرَةِ ؛ لَكِنْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ فِي الْوَاجِبِ وَمُحْتَاجٌ فِي السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ إلَى تَكْمِيلِ فَرْضِهِ ؛ فَإِنَّ الرَّوَاتِبَ مُكَمِّلَاتٌ لِلْفَرْضِ وَمُحْتَاجٌ إلَى أَنْ لَا يَزِيدَ التَّفْوِيتُ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ فَكُلَّمَا قَرُبَ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْأَمْرِ مِمَّا يَبْعُدُ مِنْهُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَيُقَرِّبُهَا مِنْ الْوَقْتِ مَا اسْتَطَاعَ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي يُجَوِّزُ فِعْلَ الرَّوَاتِبِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ مُوَافَقَةً لِأَبِي الْخَطَّابِ لَكِنْ أَبُو الْخَطَّابِ يُعَمِّمُ كَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ الصَّوَابُ . فَإِنْ قِيلَ : فَالتَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ يَفُوتُ مَنْ قَصْدُهُ عِمَارَةُ الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا بِالصَّلَاةِ ؟ قِيلَ : هَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَا يُمْكِنُ بَشَرًا أَنْ يُصَلِّيَ دَائِمًا جَمِيعَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَقْتِ رَاحَةٍ وَنَوْمٍ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ رِجَالًا قَالَ أَحَدُهُمْ : أَنَا أَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ : وَأَنَا أَقْوَمُ لَا أَنَامُ وَقَالَ الْآخَرُ : لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ الْآخَرُ : لَا آكُلُ اللَّحْمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَكِنْ أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } بَلْ قَدْ قِيلَ : إنَّ مِنْ جُمْلَةِ حِكْمَةِ النَّهْيِ عَنْ التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إجْمَامَ النُّفُوسِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ لِتَنْشَطَ لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَنْبَسِطُ إلَى مَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْهُ وَتَنْشَطُ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ الرَّاحَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ رَأَى رَجُلًا يَتَنَفَّلُ فِي وَقْتِ نَهْيٍ فَقَالَ : نَهَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَذُكِرَ
لَهُ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ . فِي الْكَرَاهَةِ . فَقَالَ هَذَا : لَا أَسْمَعُهُ
وَأُصَلِّي كَيْفَ شِئْت فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا التَّطَوُّعُ الَّذِي لَا سَبَبَ لَهُ : فَهُوَ
مَنْهِيٌّ عَنْهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ
صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَكَانَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ مَنْ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ . فَمَنْ فَعَلَ
ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ اتِّبَاعًا لِمَا سَنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إذْ قَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا
مَا لَهُ سَبَبٌ : كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ فَهَذَا فِيهِ
نِزَاعٌ وَتَأْوِيلٌ : فَإِنْ كَانَ يُصَلِّي صَلَاةً يَسُوغُ فِيهَا
الِاجْتِهَادُ لَمْ يُعَاقَبْ . وَأَمَّا رَدُّهُ الْأَحَادِيثَ بِلَا حُجَّةٍ
وَشَتْمُ النَّاهِي وَقَوْلُهُ لِلنَّاهِي :
أُصَلِّي
كَيْفَ شِئْت فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ إذْ الرَّجُلُ عَلَيْهِ أَنْ
يُصَلِّيَ كَمَا يُشْرَعُ لَهُ لَا كَمَا يَشَاءُ هُوَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي وَقْتِ النَّهْيِ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ
يُصَلِّيَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا
رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ
: أَنَّهُ لَا يُصَلِّيهَا . وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ
يُصَلِّيهَا وَهَذَا أَظْهَرُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : " { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ
حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } . وَهَذَا أَمْرٌ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ
وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ صُورَةٌ مِنْ الصُّوَرِ . وَأَمَّا نَهْيُهُ
عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ غُرُوبِهَا فَقَدْ خُصَّ
مِنْهُ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ . مِنْهَا قَضَاءُ الْفَوَائِتِ . وَمِنْهَا
رَكْعَتَا الطَّوَافِ . وَمِنْهَا الْمُعَادَةُ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ وَغَيْرُ
ذَلِكَ . وَالْعَامُّ الْمَحْفُوظُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ .
وَأَيْضًا
: فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَقْتَ الْخُطْبَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا كَالنَّهْيِ فِي
هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ أَوْ أَوْكَدَ ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إذَا
دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَا يَجْلِسْ
حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } فَإِذَا كَانَ قَدْ أَمَرَ بِالتَّحِيَّةِ فِي
هَذَا الْوَقْتِ وَهُوَ وَقْتُ نَهْيٍ . فَكَذَلِكَ الْوَقْتُ الْآخَرُ بِطَرِيقِ
الْأَوْلَى وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ أَحْمَد فِي هَذَا لِمَجِيءِ السُّنَّةِ
الصَّحِيحَةِ بِهِ بِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فَإِنَّ مَذْهَبَهُمَا فِي
الْمَوْضِعَيْنِ النَّهْيُ فَإِنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُمَا هَذِهِ . السُّنَّةُ
الصَّحِيحَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ " هَلْ تُفْعَلُ " فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ
؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا دَخَلَ
أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } فَإِذَا
دَخَلَ وَقْتُ نَهْيٍ فَهَلْ يُصَلِّي ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنْ
أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ يُصَلِّي فَإِنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ قَدْ
خُصَّ مِنْ صُوَرٍ كَثِيرَةٍ . وَخُصَّ مِنْ نَظِيرِهِ . وَهُوَ وَقْتُ
الْخُطْبَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "
{ إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا
يَجْلِسْ
حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } فَإِذَا أَمَرَ بِالتَّحِيَّةِ وَقْتَ
الْخُطْبَةِ فَفِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ إذَا تَوَضَّأَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَقَدْ
صَلَّى الْفَجْرَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ شُكْرًا لِلْوُضُوءِ ؟.
فَأَجَابَ :
هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُفْعَلَ لِحَدِيثِ بِلَالٍ .
بَابُ
صَلَاة الْجَمَاعَةِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ هَلْ هِيَ فَرْضُ عَيْنٍ أَمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ أَمْ
سُنَّةٌ فَإِنْ كَانَتْ فَرْضَ عَيْنٍ وَصَلَّى وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ .
فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟ وَمَا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ؟
وَمَا حُجَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ ؟ وَمَا الرَّاجِحُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا
مِنْ أَوْكَدِ الْعِبَادَاتِ وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ وَأَعْظَمِ شَعَائِرِ
الْإِسْلَامِ وَعَلَى مَا ثَبَتَ فِي فَضْلِهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : " { تَفْضُلُ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ
عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } هَكَذَا فِي حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ . وَأَبِي سَعِيدٍ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ بِسَبْعِ وَعِشْرِينَ وَالثَّلَاثَةُ فِي الصَّحِيحِ . وَقَدْ جُمِعَ
بَيْنَهُمَا . بِأَنَّ حَدِيثَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ ذُكِرَ فِيهِ الْفَضْلُ
الَّذِي بَيْنَ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ وَالصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفَضْلُ خَمْسُ وَعِشْرُونَ وَحَدِيثُ السَّبْعَةِ وَالْعِشْرِينَ ذُكِرَ فِيهِ صَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا وَصَلَاتُهُ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفَضْلُ بَيْنَهُمَا فَصَارَ الْمَجْمُوعُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ وَمَنْ ظَنَّ مِنْ الْمُتَنَسِّكَةِ أَنَّ صَلَاتَهُ وَحْدَهُ أَفْضَلُ إمَّا فِي خَلْوَتِهِ وَإِمَّا فِي غَيْرِ خَلْوَتِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَأَضَلُّ مِنْهُ مَنْ لَمْ يَرَ الْجَمَاعَةَ إلَّا خَلْفَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ فَعَطَّلَ الْمَسَاجِدَ عَنْ الْجَمِيعِ وَالْجَمَاعَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ وَعَمَّرَ الْمَسَاجِدَ بِالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا وَرَسُولُهُ وَصَارَ مُشَابِهًا لِمَنْ نَهَى عَنْ عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ وَأَمَرَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ . فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَعَ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا فِي الْمَسَاجِدِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَقَالَ تَعَالَى { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }
وَقَالَ
تَعَالَى : { وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } .
وَأَمَّا مَشَاهِدُ الْقُبُورِ وَنَحْوِهَا : فَقَدَ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُخَصَّ بِصَلَاةِ أَوْ
دُعَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ
وَالذِّكْرَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْمَسَاجِدِ فَقَدْ كَفَرَ . بَلْ قَدْ
تَوَاتَرَتْ السُّنَنُ فِي النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِهَا لِذَلِكَ . كَمَا ثَبَتَ
فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا
فَعَلُوا : قَالَتْ عَائِشَةُ : " وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزَ قَبْرَهُ
وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا
أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْحُسْنِ
وَالتَّصَاوِيرِ فَقَالَ : " { أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ
الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ
التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
وَثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ قَالَ :
قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : " { أَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا
يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ
فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :
" { إنَّ مِنْ شَرَارِ الْخَلْقِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ
أَحْيَاءٌ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } وَفِي مُوَطَّأِ
مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا
يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ
أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " { لَا
تَتَّخِذُوا
قَبْرِي
عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ
إقَامَةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسَاجِدِ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ
وَأَجَلِّ الْقُرُبَاتِ وَمَنْ فَضَّلَ تَرْكَهَا عَلَيْهَا إيثَارًا لِلْخَلْوَةِ
وَالِانْفِرَادِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجَمَاعَاتِ أَوْ جَعَلَ
الدُّعَاءَ وَالصَّلَاةَ فِي الْمَشَاهِدِ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ
فَقَدْ انْخَلَعَ مِنْ رِبْقَةِ الدِّينِ وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ . { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } . وَلَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهَا وَاجِبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ أَوْ عَلَى
الْكِفَايَةِ أَوْ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَقِيلَ :
هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَقَطْ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
وَيُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ
وَهَذَا هُوَ الْمُرَجَّحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ
مَالِكٍ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَقِيلَ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى
الْأَعْيَانِ ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ
مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ
تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا صَلَّى مُنْفَرِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ هَلْ تَصِحُّ
صَلَاتُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ؟ أَحَدُهُمَا لَا تَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ
مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَد ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي شَرْحِ
الْمَذْهَبِ عَنْهُمْ وَبَعْضِ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَابْنِ عَقِيلٍ وَهُوَ قَوْلُ
طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ .
وَالثَّانِي تَصِحُّ مَعَ إثْمِهِ بِالتَّرْكِ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ
أَحْمَد وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ .
وَاَلَّذِينَ نَفَوْا الْوُجُوبَ احْتَجُّوا بِتَفْضِيلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ
وَحْدَهُ . قَالُوا : وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ
الْمُنْفَرِدِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَفْضِيلٌ وَحَمَلُوا مَا جَاءَ مَنْ هَمَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحْرِيقِ عَلَى مَنْ تَرَكَ
الْجُمُعَةَ أَوْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ
الْجَمَاعَةِ مَعَ النِّفَاقِ وَإِنَّ تَحْرِيقَهُمْ كَانَ لِأَجْلِ النِّفَاقِ
لَا لِأَجْلِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ .
وَأَمَّا الْمُوجِبُونَ : فَاحْتَجُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } الْآيَةَ . وَفِيهَا
دَلِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا
أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مَعَهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَذَلِكَ
دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا حَالَ الْخَوْفِ وَهُوَ يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى
عَلَى وُجُوبِهَا حَالَ الْأَمْنِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ سَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ جَمَاعَةً وَسَوَّغَ فِيهَا مَا لَا
يَجُوزُ لِغَيْرِ عُذْرٍ . كَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ وَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ
فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عُذْرٍ بِالِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ مُفَارَقَةُ
الْإِمَامِ قَبْلَ السَّلَامِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَكَذَلِكَ التَّخَلُّفُ عَنْ
مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ كَمَا يَتَأَخَّرُ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بَعْدَ رُكُوعِهِ
مَعَ الْإِمَامِ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ أَمَامَهُمْ . قَالُوا : وَهَذِهِ
الْأُمُورُ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ لَوْ فُعِلَتْ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ
الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةً بَلْ مُسْتَحَبَّةً لَكَانَ قَدْ الْتَزَمَ فِعْلَ
مَحْظُورٍ مُبْطِلٍ لِلصَّلَاةِ وَتُرِكَتْ الْمُتَابَعَةُ الْوَاجِبَةُ فِي
الصَّلَاةِ لِأَجْلِ فِعْلٍ مُسْتَحَبٍّ مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ
أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا صَلَاةً تَامَّةً فَعُلِمَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ .
وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُقَارَنَةُ
بِالْفِعْلِ وَهِيَ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً . وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا
يُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } فَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي
لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ : صَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ وَصُومُوا مَعَ
الصَّائِمِينَ { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى
اخْتِصَاصِ الرُّكُوعِ بِذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالصَّلَاةُ كُلُّهَا تُفْعَلُ مَعَ الْجَمَاعَةِ . قِيلَ : خَصَّ الرُّكُوعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ تُدْرَكُ بِهِ الصَّلَاةُ فَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ فَأَمَرَ بِمَا يُدْرَكُ بِهِ الرَّكْعَةُ كَمَا قَالَ لِمَرْيَمَ : { اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ : اُقْنُتِي مَعَ الْقَانِتِينَ لَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ إدْرَاكِ الْقِيَامِ وَلَوْ قِيلَ : اُسْجُدِي لَمْ يَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ إدْرَاكِ الرُّكُوعِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ وَمَا بَعْدَهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . ( وَأَمَّا السُّنَّةُ فَالْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي الْبَابِ : مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ : فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ } فَهَمَّ بِتَحْرِيقِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الصَّلَاةَ وَفِي لَفْظٍ قَالَ : " { أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا وَلَقَدْ هَمَمْت أَنَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ } الْحَدِيثَ . وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ " { لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ لَأَمَرْت أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ } الْحَدِيثَ . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ هَمَّ بِتَحْرِيقِ الْبُيُوتِ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الصَّلَاةَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ فِيهَا مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ شُهُودُ الصَّلَاةِ وَفِي تَحْرِيقِ الْبُيُوتِ قَتْلُ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْحُبْلَى .
وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } . وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ شُهُودِ الْجُمُعَةِ فَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يُبَيِّنُ ضَعْفَ قَوْلِهِ حَيْثُ ذَكَرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِهَمِّهِ بِتَحْرِيقِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الصَّلَاةَ . وَأَمَّا مَنْ حَمَلَ الْعُقُوبَةَ عَلَى النِّفَاقِ لَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لِأَوْجُهِ : أَحَدُهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يُقِيلُ الْمُنَافِقِينَ إلَّا عَلَى الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَإِنَّمَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ مِنْ تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ فَلَوْلَا أَنَّ فِي ذَلِكَ تَرْكَ وَاجِبٍ لَمَا حَرَّقَهُمْ . ( الثَّانِي أَنَّهُ رَتَّبَ الْعُقُوبَةَ عَلَى تَرْكِ شُهُودِ الصَّلَاةِ فَيَجِبُ رَبْطُ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ الَّذِي ذَكَرَهُ . الثَّالِثُ أَنَّهُ سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ حَدِيثُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ حَيْثُ اسْتَأْذَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ أَثْنَى عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَسْتَخْلِفُهُ
عَلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ يُؤَذِّنُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
الرَّابِعُ أَنَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى وُجُوبِهَا أَيْضًا : كَمَا قَدْ ثَبَتَ
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ
قَالَ : " { مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُصَلِّ
هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ
لِنَبِيِّهِ سُنَنَ الْهُدَى وَأَنَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي
الْمَسَاجِدِ الَّتِي يُنَادَى بِهِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَأَنَّكُمْ لَوْ
صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا صَلَّى هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ
لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ
لَضَلَلْتُمْ وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ
مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ
الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ } . فَقَدْ أَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ
مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقْرَارِ وُجُوبِهَا عِنْدَ
الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَوْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مُسْتَحَبَّةً كَقِيَامِ
اللَّيْلِ وَالتَّطَوُّعَاتِ الَّتِي مَعَ الْفَرَائِضِ وَصَلَاةِ الضُّحَى
وَنَحْوِ ذَلِكَ . كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا
يَفْعَلُهَا مَعَ إيمَانِهِ كَمَا { قَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ : وَاَللَّهِ لَا
أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ . فَقَالَ : أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ }
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ كَانَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ إلَّا مُنَافِقٌ
كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ كَخُرُوجِهِمْ إلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ فَإِنَّ
النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدِ فِي التَّخَلُّفِ إلَّا مَنْ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ عُذْرًا فَأَذِنَ لَهُ لِأَجْلِ عُذْرِهِ . ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ كَشَفَ اللَّهُ أَسْرَارَ الْمُنَافِقِينَ وَهَتَكَ أَسْتَارَهُمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ تَخَلَّفُوا لِغَيْرِ عُذْرٍ . وَاَلَّذِينَ تَخَلَّفُوا لِغَيْرِ عُذْرٍ مَعَ الْإِيمَانِ عُوقِبُوا بِالْهَجْرِ حَتَّى هِجْرَانِ نِسَائِهِمْ لَهُمْ حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . ( فَإِنْ قِيلَ فَأَنْتُمْ الْيَوْمَ تَحْكُمُونَ بِنِفَاقِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا وَتُجَوِّزُونَ تَحْرِيقَ الْبُيُوتِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذُرِّيَّةٌ . قِيلَ لَهُ : مِنْ الْأَفْعَالِ مَا يَكُونُ وَاجِبًا وَلَكِنْ تَأْوِيلُ الْمُتَأَوِّلِ يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْهُ وَقَدْ صَارَ الْيَوْمَ كَثِيرٌ مِمَّنْ هُوَ مُؤْمِنٌ لَا يَرَاهَا وَاجِبَةً عَلَيْهِ فَيَتْرُكُهَا مُتَأَوِّلًا وَفِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ تَأْوِيلٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَاشَرَهُمْ بِالْإِيجَابِ . وَأَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ : " { أَنَّ أَعْمَى اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَأَذِنَ لَهُ فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ : هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَأَجِبْ } فَأَمَرَهُ بِالْإِجَابَةِ إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ ؛ وَلِهَذَا أَوْجَبَ أَحْمَد الْجَمَاعَةَ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ . وَفِي لَفْظٍ فِي السُّنَنِ " { أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنِّي رَجُلٌ شَاسِعُ الدَّارِ وَإِنَّ الْمَدِينَةَ كَثِيرَةُ الْهَوَامِّ وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَائِمُنِي فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ
أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي ؟ فَقَالَ : هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : لَا أَجِدُ لَك رُخْصَةً } . وَهَذَا نَصٌّ فِي الْإِيجَابِ لِلْجَمَاعَةِ مَعَ كَوْنِ الرَّجُلِ مُؤْمِنًا . وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِتَفْضِيلِ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ فَعَنْهُ جَوَابَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَمَنْ صَحَّحَ صَلَاتَهُ قَالَ : الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ كَالْوَقْتِ فَإِنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الْعَصْرَ إلَى وَقْتِ الِاصْفِرَارِ كَانَ آثِمًا مَعَ كَوْنِ الصَّلَاةِ صَحِيحَةً بَلْ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَّرَهَا إلَى أَنْ يَبْقَى مِقْدَارَ رَكْعَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ . " { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ } قَالَ : وَالتَّفْضِيلُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْضُولَ جَائِزٌ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ } فَجَعَلَ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ خَيْرًا مِنْ الْبَيْعِ وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ وَالْبَيْعُ حَرَامٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } . وَمَنْ قَالَ : لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ إلَّا لِعُذْرِ احْتَجَّ بِأَدِلَّةِ الْوُجُوبِ قَالَ : وَمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ كَانَ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ .
وَأَمَّا الْوَقْتُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَلَافِيهِ فَإِذَا فَاتَ لَمْ يُمْكِنْ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِيهِ فَنَظِيرُ ذَلِكَ فَوْتُ الْجُمُعَةِ وَفَوْتُ الْجَمَاعَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا فَإِذَا فَوَّتَ الْجُمُعَةَ الْوَاجِبَةَ كَانَ آثِمًا وَعَلَيْهِ الظُّهْرُ إذْ لَا يُمْكِنُ سِوَى ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ مَنْ فَوَّتَ الْجَمَاعَةَ الْوَاجِبَةَ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِ شُهُودُهَا وَلَيْسَ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ أُخْرَى فَإِنَّهُ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ هُنَا لِعَدَمِ إمْكَانِ صَلَاتِهِ جَمَاعَةً كَمَا تَصِحُّ الظُّهْرُ مِمَّنْ تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ . وَلَيْسَ وُجُوبُ الْجَمَاعَةِ بِأَعْظَمَ مِنْ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ مُنْفَرِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ ثُمَّ أُقِيمَتْ الْجَمَاعَةُ فَهَذَا عِنْدَهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ . ثُمَّ لَمْ يُجِبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا صَلَاةَ لَهُ } . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : " { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ . } فَإِنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَقَدْ رَوَاهُ الدارقطني مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوَّى ذَلِكَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ . قَالُوا : وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَرْفُ النَّفْيِ دَخَلَ عَلَى فِعْلٍ شَرْعِيٍّ إلَّا لِتَرْكِ وَاجِبٍ فِيهِ كَقَوْلِهِ : " { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } وَ " { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ } . وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَنْ حَدِيثِ التَّفْضِيلِ . بِأَنْ قَالُوا : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْذُورِ كَالْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ وَصَلَاةُ النَّائِمِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ } وَأَنَّ تَفْضِيلَهُ صَلَاةَ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ . كَتَفْضِيلِهِ صَلَاةَ الْقَائِمِ عَلَى صَلَاةِ الْقَاعِدِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ كَمَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ . وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْعُلَمَاءَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ : هَلْ الْمُرَادُ بِهِمَا الْمَعْذُورُ أَوْ غَيْرُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقَالَتْ طَائِفَةٌ الْمُرَادُ بِهِمَا غَيْرُ الْمَعْذُورِ . قَالُوا لِأَنَّ الْمَعْذُورَ أَجْرُهُ تَامٌّ بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } قَالُوا : فَإِذَا كَانَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ يُكْتَبُ لَهُمَا مَا كَانَا يَعْمَلَانِ فِي الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ . فَكَيْفَ تَكُونُ صَلَاةُ الْمَعْذُورِ قَاعِدًا أَوْ مُنْفَرِدًا دُونَ صَلَاتِهِ فِي الْجَمَاعَةِ قَاعِدًا وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ تَفْضِيلَ صَلَاةِ الْقَائِمِ عَلَى النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِي الْفَرْضِ وَاجِبٌ . وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لَزِمَهُ أَنْ يُجَوِّزَ تَطَوُّعَ الصَّحِيحِ مُضْطَجِعًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ : " { وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ } . وَقَدْ
طَرَدَ هَذَا الدَّلِيلَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَجَوَّزُوا أَنْ يَتَطَوَّعَ الرَّجُلُ مُضْطَجِعًا لِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ لِأَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلِتَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى الْمَرِيضِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَعَدُّوهُ بِدْعَةً وَحَدَثًا فِي الْإِسْلَامِ . وَقَالُوا : لَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا قَطُّ صَلَّى فِي الْإِسْلَامِ عَلَى جَنْبِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَفَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَهُ وَلَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ مَرَّةً لِتَبْيِينِ الْجَوَازِ فَقَدْ كَانَ يَتَطَوَّعُ قَاعِدًا وَيُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ فَلَوْ كَانَ هَذَا سَائِغًا لَفَعَلَهُ وَلَوْ مَرَّةً . أَوْ لَفَعَلَهُ أَصْحَابُهُ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا هَذَا مَعَ ظُهُورِ حُجَّتِهِمْ قَدْ تَنَاقَضَ مَنْ لَمْ يُوجِبْ الْجَمَاعَةَ مِنْهُمْ حَيْثُ حَمَلُوا قَوْلَهُ : " { تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ الْمَعْذُورِ فَيُقَالُ لَهُمْ : لِمَ كَانَ التَّفْضِيلُ هُنَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ وَالتَّفْضِيلُ هُنَاكَ فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ وَهَلْ هَذَا إلَّا تَنَاقُضٌ . وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْجَمَاعَةَ وَحَمَلَ التَّفْضِيلَ عَلَى الْمَعْذُورِ فَطَرَدَ دَلِيلَهُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ .
وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ مُنَازِعُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ : " { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } فَجَوَابُهُمْ عَنْهُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَبُ مِثْلُ الثَّوَابِ الَّذِي كَانَ يُكْتَبُ لَهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ ؛ لِأَجْلِ نِيَّتِهِ لَهُ وَعَجْزِهِ عَنْهُ بِالْعُذْرِ . وَهَذِهِ " قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ " أَنَّ مَنْ كَانَ عَازِمًا عَلَى الْفِعْلِ عَزْمًا جَازِمًا وَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ فَهَذَا الَّذِي كَانَ لَهُ عَمَلٌ فِي صِحَّتِهِ وَإِقَامَتِهِ عَزْمُهُ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ وَقَدْ فَعَلَ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ مَا أَمْكَنَهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ . كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ : فِيمَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ يُدْرِكُ الْجَمَاعَةَ فَوَجَدَهَا قَدْ فَاتَتْ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } الْآيَةَ . فَهَذَا وَمِثْلُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَعْذُورَ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ ثَوَابِ الصَّحِيحِ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَفْعَلَ وَقَدْ عَمِلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَفْسُ عَمَلِهِ مِثْلَ عَمَلِ الصَّحِيحِ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ صَلَاةَ الْمَرِيضِ نَفْسَهَا فِي الْأَجْرِ مِثْلُ صَلَاةِ الصَّحِيحِ وَلَا أَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ الْمَعْذُورِ فِي نَفْسِهَا مِثْلُ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ
وَإِنَّمَا فِيهِ أَنْ يُكْتَبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ كَمَا يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ إذَا فَاتَتْهُ مَعَ قَصْدِهِ لَهَا . وَأَيْضًا فَلَيْسَ كُلُّ مَعْذُورٍ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ عَمَلِ الصَّحِيحِ وَإِنَّمَا يُكْتَبُ لَهُ إذَا كَانَ يَقْصِدُ عَمَلَ الصَّحِيحِ وَلَكِنْ عَجَزَ عَنْهُ . فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ كَانَ عَادَتُهُ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ وَالصَّلَاةَ قَائِمًا ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ لِمَرَضِهِ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ ، وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ وَكَذَلِكَ مَنْ تَطَوَّعَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ وَقَدْ كَانَ يَتَطَوَّعُ فِي الْحَضَرِ قَائِمًا يُكْتَبُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الْإِقَامَةِ . فَأَمَّا مَنْ لَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةِ وَلَا الصَّلَاةَ قَائِمًا إذَا مَرِضَ فَصَلَّى وَحْدَهُ أَوْ صَلَّى قَاعِدًا فَهَذَا لَا يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ صَلَاةِ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ . وَمَنْ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْذُورِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ صَلَاةَ هَذَا قَاعِدًا مِثْلَ صَلَاةِ الْقَائِمِ وَصَلَاتَهُ مُنْفَرِدًا مِثْلَ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ . وَأَيْضًا فَيُقَالُ : تَفْضِيلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ وَلِصَلَاةِ الْقَائِمِ عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَاعِدِ عَلَى الْمُضْطَجَعِ إنَّمَا دَلَّ عَلَى فَضْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ حَيْثُ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ صَحِيحَةً .
أَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الصَّلَاةِ المفضولة تَصِحُّ حَيْثُ تَصِحُّ تِلْكَ أَوْ لَا تَصِحُّ فَالْحَدِيثُ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ وَلَا سِيقَ الْحَدِيثُ لِأَجْلِ بَيَانِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَفَسَادِهَا ؛ بَلْ وُجُوبُ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَسُقُوطِ ذَلِكَ وَوُجُوبِ الْجَمَاعَةِ وَسُقُوطِهَا : يُتَلَقَّى مِنْ أَدِلَّةٍ أُخَرَ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا : كَوْنُ هَذَا الْمَعْذُورِ يُكْتَبُ لَهُ تَمَامُ عَمَلِهِ أَوْ لَا يُكْتَبُ لَهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ بَلْ يُتَلَقَّى مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ وَقَدْ بَيَّنَتْ سَائِرُ النُّصُوصِ أَنَّ تَكْمِيلَ الثَّوَابِ هُوَ لِمَنْ كَانَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الْفَاضِلَ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ لَا لِكُلِّ أَحَدٍ . وَتُثْبِتُ نُصُوصٌ أُخَرُ وُجُوبَ الْقِيَامِ فِي الْفَرْضِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : " { صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } . وَبَيَّنَ جَوَازَ التَّطَوُّعِ قَاعِدًا لَمَّا رَآهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ قُعُودًا فَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ يُصَلِّي قَاعِدًا مَعَ كَوْنِهِ كَانَ يَتَطَوَّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ . كَذَلِكَ تُثْبِتُ نُصُوصٌ أُخَرُ وُجُوبَ الْجَمَاعَةِ فَيُعْطِي كُلَّ حَدِيثٍ حَقَّهُ فَلَيْسَ بَيْنَهَا تَعَارُضٌ وَلَا تَنَافٍ وَإِنَّمَا يَظُنُّ التَّعَارُضَ وَالتَّنَافِي مَنْ حَمَّلَهَا مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعْطِهَا حَقَّهَا بِسُوءِ نَظَرِهِ وَتَأْوِيلِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَسَائِلَ يَكْثُرُ وُقُوعُهَا وَيَحْصُلُ الِابْتِلَاءُ بِهَا وَالضِّيقُ
وَالْحَرَجُ عَلَى رَأْيِ إمَامٍ بِعَيْنِهِ : مِنْهَا " مَسْأَلَةُ
الْجَمَاعَةِ لِلصَّلَاةِ " هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ ؟ أَمْ سُنَّةٌ ؟ وَإِذَا
قُلْنَا : وَاجِبَةٌ هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ . بِدُونِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ
عَلَيْهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا سُنَّةٌ وَقِيلَ : إنَّهَا
وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَقِيلَ : إنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ .
وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ
أَمَرَ بِهَا فِي حَالِ الْخَوْفِ فَفِي حَالِ الْأَمْنِ أَوْلَى وَآكَدُ .
وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى . { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } وَهَذَا
أَمْرٌ بِهَا . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ ابْنَ أُمِّ
مَكْتُومٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَخِّصَ
لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ : هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قَالَ :
نَعَمْ قَالَ : فَأَجِبْ وَفِي رِوَايَةٍ مَا أَجِدُ لَك رُخْصَةً } وَابْنُ أُمِّ
مَكْتُومٍ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى
{ عَبَسَ وَتَوَلَّى } { أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } وَكَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا رُخْصَةَ لِمُؤْمِنِ فِي تَرْكِهَا . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَالَ : " { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالِ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ . } وَفِي رِوَايَةٍ " { لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَحْرِيقِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ الْجَمَاعَةِ مَنْ فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ فَإِنَّ تَعْذِيبَ أُولَئِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا جَمَاعَةَ عَلَيْهِمْ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ أَوْ كَانَ لِأَجْلِ نِفَاقِهِمْ . فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُهُمْ لِأَجْلِ النِّفَاقِ بَلْ لَا يُعَاقِبُهُمْ إلَّا بِذَنْبِ ظَاهِرٍ فَلَوْلَا أَنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ الْجَمَاعَةِ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعِقَابَ لَمَا عَاقَبَهُمْ . وَالْحَدِيثُ قَدْ بَيَّنَ فِيهِ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَأَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجَمَاعَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ يُتْرَكُ لَهَا أَكْثَرُ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَغَيْرِهَا فَلَوْلَا وُجُوبُهَا لَمْ يُؤْمَرْ بِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ لِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ .
فَصْلٌ
:
وَإِذَا تَرَكَ الْجَمَاعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ : فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَحَدُهُمَا : تَصِحُّ صَلَاتُهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { تَفْضُلُ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي
الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً }
وَالثَّانِي : لَا تَصِحُّ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ثُمَّ لَمْ
يُجِبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا صَلَاةَ لَهُ } وَلِقَوْلِهِ : " { لَا
صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } وَقَدْ قَوَّاهُ عَبْدُ
الْحَقِّ الإشبيلي . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ وَاجِبَةً فَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا
فِي الصَّلَاةِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ . وَحَدِيثُ التَّفْضِيلِ مَحْمُولٌ عَلَى
حَالِ الْعُذْرِ . كَمَا فِي قَوْلِهِ : " { صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى
النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ وَصَلَاةُ الْقَائِمِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ
صَلَاةِ
الْقَاعِدِ } . وَهَذَا عَامٌّ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ . وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ قَاعِدًا أَوْ نَائِمًا إلَّا فِي حَالِ الْعُذْرِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ نَائِمًا عِنْدَ جَمَاهِيرَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ إلَّا وَجْهًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّطَوُّعَ بِالصَّلَاةِ مُضْطَجِعًا بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ لِأَجْلِ نِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْمَلُ عَادَتُهُ قَبْلَ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْجَمَاعَةَ لِمَرَضِ أَوْ سَفَرٍ وَكَانَ يَعْتَادُهَا كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْتَادُهَا لَمْ يَكُنْ يُكْتَبْ لَهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالَيْنِ أَنَّ مَا لَهُ بِنَفْسِ الْفِعْلِ صَلَاةُ مُنْفَرِدٍ . وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ إذَا صَلَّى قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِذَا صَلَّى الرَّجُلُ وَحْدَهُ . وَأَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي جَمَاعَةٍ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فِعْلُ الْجَمَاعَةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ كَمَنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ وَصَلَّى ظُهْرًا وَإِنْ قَصَدَ الرَّجُلُ الْجَمَاعَةَ وَوَجَدَهُمْ قَدْ صَلَّوْا كَانَ لَهُ أَجْرُ مَنْ صَلَّى فِي الْجَمَاعَةِ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ
مِنْ رَكْعَةٍ فَلَهُ بِنِيَّتِهِ أَجْرُ الْجَمَاعَةِ وَلَكِنْ هَلْ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ أَوْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ . فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَكُونُ كَمَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي : يَكُونُ كَمَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا كَقَوْلِ مَالِكٍ وَهَذَا أَصَحُّ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ } وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَمَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ إلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا إذَا أَدْرَكَهُمْ فِي التَّشَهُّدِ . وَمِنْ فَوَائِدِ النِّزَاعِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَلَّى خَلْفَ الْمُقِيمِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً فَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ وَلَا لِلْجَمَاعَةِ إلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ مُتَابَعَةً لِلْإِمَامِ . وَلَوْ بَعْدَ السَّلَامِ كَالْمُنْفَرِدِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
فَأَمَّا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ : فَاتَّبِعْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ مِنْ وُجُوبِهَا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ
وَسُقُوطِهَا بِالْعُذْرِ . وَتَقْدِيمُ الْأَئِمَّةِ بِمَا قَدَّمَ بِهِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : " { يَؤُمُّ
الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ
سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً
فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً } فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ أَوْ
الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ . وَإِنَّمَا يَكُونُ
تَرْجِيحُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ عَلَى بَعْضٍ إذْ اسْتَوَوْا فِي الْمَعْرِفَةِ
بِإِقَامِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَفَعَلَهَا عَلَى السُّنَّةِ
وَفِي دِينِ الْإِمَامِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ الْمَأْمُومُ عَنْ نَقْصِ
الصَّلَاةِ خَلْفَهُ . فَإِذَا اسْتَوَيَا فِي كَمَالِ الصَّلَاةِ مِنْهُمَا
وَخَلْفَهُمَا قُدِّمَ الْأَقْرَأُ ثُمَّ الْأَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ وَإِلَّا
فَفَضْلُ الصَّلَاةِ فِي نَفْسِهَا مُقَدَّمٌ عَلَى صِفَةِ إمَامِهَا وَمَا
يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فِيهَا مُقَدَّمٌ عَلَى مَا
يُسْتَحَبُّ مِنْ ذَلِكَ .
وَغَيْرُهُ . قَدْ يَقُولُ هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ . وَقَدْ يَقُولُ هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . وَلَهُمْ فِي تَقْدِيمِ الْأَئِمَّةِ خِلَافٌ وَيَأْمُرُهُمْ بِإِقَامَةِ الصُّفُوفِ فِيهَا كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سُنَنِهَا الْخَمْسِ : وَهِيَ تَقْوِيمُ الصُّفُوفِ وَرَصُّهَا وَتَقَارُبُهَا وَسَدُّ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ وَتَوْسِيطُ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ وَبِأَمْرِهِ بِالْإِعَادَةِ كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثَيْنِ ثَابِتَيْنِ عَنْهُ فَإِنَّهُ أَمَرَ الْمُنْفَرِدَ خَلْفَ الصَّفِّ بِالْإِعَادَةِ كَمَا أَمَرَ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ بِالْإِعَادَةِ وَكَمَا أَمَرَ الْمُسِيءَ فِي وُضُوئِهِ الَّذِي تَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ مِنْ قَدَمِهِ لَمْ يَمَسَّهُ الْمَاءُ بِالْإِعَادَةِ فَهَذِهِ . الْمَوَاضِعُ دَلَّتْ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ وَالِاصْطِفَافِ فِي الصَّلَاةِ وَالْإِتْيَانِ بِأَرْكَانِهَا . وَاَلَّذِينَ خَالَفُوا حَدِيثَ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ وَالشَّافِعِيُّ رَآهُ مُعَارَضًا بِكَوْنِ الْإِمَامِ يُصَلِّي وَحْدَهُ وَبَكَوْنِ مُلَيْكَةَ جَدَّةَ أَنَسٍ صَلَّتْ خَلْفَهُمْ وَبِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ لَمَّا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ . وَأَمَّا أَحْمَد فَأَصْلُهُ فِي الْأَحَادِيثِ إذَا تَعَارَضَتْ فِي قَضِيَّتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ غَيْرِ مُتَمَاثِلَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلُ كُلَّ حَدِيثٍ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا يَرُدُّ أَحَدَهُمَا
بِالْآخَرِ . فَيَقُولُ فِي مِثْلِ هَذِهِ : الْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ مَعَ النِّسَاءِ . صَلَّتْ بَيْنَهُنَّ وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَعَ الرِّجَالِ لَمْ تُصَلِّ إلَّا خَلْفَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ وَحْدَهَا ؛ لِأَنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنْ مُصَافَّةِ الرِّجَالِ فَانْفِرَادُهَا عَنْ الرِّجَالِ أَوْلَى بِهَا مِنْ مُصَافَّتِهِمْ كَمَا أَنَّهَا إذَا صَلَّتْ بِالنِّسَاءِ صَلَّتْ بَيْنَهُنَّ ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا كَمَا يُصَلِّي إمَامُ الْعُرَاةِ بَيْنَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةُ الرَّجُلِ الْكَاسِي إذَا أَمَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ الصَّفِّ . وَنَقُولُ : إنَّ الْإِمَامَ لَا يُشْبِهُ الْمَأْمُومَ فَإِنَّ سُنَّتَهُ التَّقَدُّمُ لَا الْمُصَافَّةُ وَسُنَّةَ الْمُؤْتَمِّينَ الِاصْطِفَافُ . نَعَمْ يَدُلُّ انْفِرَادُ الْإِمَامِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى جَوَازِ انْفِرَادِ الرَّجُلِ الْمَأْمُومِ لِحَاجَةِ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَكَانٌ يُصَلِّي فِيهِ إلَّا مُنْفَرِدًا فَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ فَلَيْسَ الِاصْطِفَافُ إلَّا بَعْضَ وَاجِبَاتِهَا فَسَقَطَ بِالْعَجْزِ فِي الْجَمَاعَةِ كَمَا يَسْقُطُ غَيْرُهُ فِيهَا وَفِي مَتْنِ الصَّلَاةِ . وَلِهَذَا كَانَ تَحْصِيلُ الْجَمَاعَةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَالْمَرَضِ وَنَحْوِهِمَا مَعَ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ وَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَمُفَارَقَةِ الْإِمَامِ وَمَعَ تَرْكِ الْمَرِيضِ الْقِيَامَ : أَوْلَى مِنْ أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا وَلِهَذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمُؤْتَمِّ عَلَى الْإِمَامِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَحَالِ الزِّحَامِ وَنَحْوِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ صِفَاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ . وَلِهَذَا سَقَطَ عِنْدَهُ . وَعِنْدَ غَيْرِهِ . مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مَا يُعْتَبَرُ لِلْجَمَاعَةِ : مِنْ
عَدْلِ الْإِمَامِ وَحَلِّ الْبَيْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ فَجَوَّزُوا بَلْ أَوْجَبُوا فِعْلَ صَلَوَاتِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْخَوْفِ وَالْمَنَاسِكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ الْفَاجِرِينَ وَفِي الْأَمْكِنَةِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا أَفْضَى تَرْكُ ذَلِكَ إلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْ إلَى فِتْنَةٍ فِي الْأُمَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ " { لَا يُؤْمِنُ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ سُلْطَانٌ يَخَافُ سَيْفَهُ أَوْ سَوْطَهُ } لِأَنَّ غَايَةَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَدْلُ الْإِمَامِ وَاجِبًا فَيَسْقُطُ بِالْعُذْرِ كَمَا سَقَطَ كَثِيرٌ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فِي جَمَاعَةِ الْخَوْفِ بِالْعُذْرِ . وَمَنْ اهْتَدَى لِهَذَا الْأَصْلِ ، وَهُوَ أَنَّ نَفْسَ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ فَكَذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ فِي الْجَمَاعَاتِ وَنَحْوِهَا فَقَدْ هُدِيَ لِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ التَّوَسُّطِ بَيْنَ إهْمَالِ بَعْضِ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ رَأْسًا كَمَا قَدْ يُبْتَلَى بِهِ بَعْضُهُمْ وَبَيْنَ الْإِسْرَافِ فِي ذَلِكَ الْوَاجِبِ حَتَّى يُفْضِيَ إلَى تَرْكِ غَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي هِيَ أَوْكَدُ مِنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْأَوْكَدُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ كَمَا قَدْ يُبْتَلَى بِهِ آخَرُونَ . فَإِنَّ فِعْلَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ دُونَ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ هُوَ الْوَسَطُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَنْبَنِي مَسَائِلُ الْهِجْرَةِ وَالْعَزْمِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ " مَسْأَلَةِ الْإِمَامَةِ " بِحَيْثُ لَا يُفْعَلُ وَلَا تَسَعُ الْقُدْرَةُ وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ : يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لِلْحَاجَةِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ . وَكَمَا لَوْ كَانَ الْمُفْتَرِضُ غَيْرَ قَارِئٍ كَمَا فِي
حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ وَمُعَاذٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ لَا يُجَوِّزُهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَأَمَّا إذَا جَوَّزَهُ مُطْلَقًا فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ لَا يُجَوِّزُهُ بِحَالِ فَصَارَتْ الْأَقْوَالُ فِي مَذْهَبِهِ وَغَيْرِ مَذْهَبِهِ ثَلَاثَةً . وَالْمَنْعُ مُطْلَقًا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ كَمَا أَنَّ الْجَوَازَ مُطْلَقًا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . وَيُشْبِهُ هَذَا مُفَارَقَةُ الْمَأْمُومِ إمَامَهُ قَبْلَ السَّلَامِ فَعَنْهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : أَوْسَطُهَا جَوَازُ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ كَمَا تَفْعَلُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَكَمَا فَعَلَ الَّذِي طَوَّلَ عَلَيْهِ مُعَاذٌ صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ طُولُ الصَّلَاةِ . وَالثَّانِيَةُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّالِثَةُ : الْجَوَازُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَد عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنْ تَؤُمَّ الْمَرْأَةُ الرِّجَالَ لِحَاجَةِ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ قَارِئَةً وَهُمْ غَيْرُ قَارِئِينَ فَتُصَلِّي بِهِمْ التَّرَاوِيحَ كَمَا أَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ وَرَقَةَ أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا وَجَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا وَتَتَأَخَّرُ خَلْفَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مَأْمُومِينَ بِهَا لِلْحَاجَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ يُجَوِّزُ تَقَدُّمَ الْمَأْمُومِ لِحَاجَةِ هَذَا مَعَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ : " { لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ
رَجُلًا } وَإِنَّ الْمَنْعَ مِنْ إمَامَةِ الْمَرْأَةِ بِالرِّجَالِ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ . وَلِهَذَا الْأَصْلِ اسْتَعْمَلَ أَحْمَد مَا اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْإِمَامِ : " { إذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ } وَأَنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُشْبِهُ قِيَامَ الْأَعَاجِمِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ فَسَقَطَ عَنْ الْمَأْمُومِينَ الْقِيَامُ لِمَا فِي الْقِيَامِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِمَامِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ فِي الْقِيَامِ لَهُ . وَكَذَلِكَ عَمَلُ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ لَمَّا اعْتَلُّوا فَصَلَّوْا قُعُودًا وَالنَّاسُ خَلْفَهُمْ قُعُودٌ كأسيد بْنِ الحضير وَلَكِنْ كَرِهَ هَذَا لِغَيْرِ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ إذْ لَا حَاجَةَ إلَى نَقْصِ الصَّلَاةِ فِي الِائْتِمَامِ بِهِ ، وَلِهَذَا كَرِهَهُ أَيْضًا إذَا مَرِضَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ مَرَضًا مُزْمِنًا ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ انْصِرَافُهُ عَنْ الْإِمَامَةِ وَلَمْ يَرَ هَذَا مَنْسُوخًا بِكَوْنِهِ فِي مَرَضِهِ صَلَّى فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ قَاعِدًا وَهُمْ قِيَامٌ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ وَبَيْنَ مَا فَعَلَهُ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ فَعَلُوا مَا أَمَرَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَعَ شُهُودِهِمْ لِفِعْلِهِ . فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْقُعُودِ مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ وَالْقُعُودِ فِي أَثْنَائِهَا إذْ يَجُوزُ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا إذْ لَيْسَ فِي الْفِعْلِ تَحْرِيمٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ بِحَالِ مَعَ مَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ الْكَلَامِ الدَّقِيقِ الَّذِي لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْقُلُوبُ الصَّحِيحَةُ
الَّتِي
دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا أَمَرْتُكُمْ
بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَأَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ جَمْعُ
الْوَاجِبَيْنِ قُدِّمَ أَرْجَحُهُمَا وَسَقَطَ الْآخَرُ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ
وَالتَّنْبِيهُ عَلَى ضَوَابِطَ مِنْ مَآخِذِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ .
وَسُئِلَ :
عَنْ أَقْوَامٍ يَسْمَعُونَ الدَّاعِيَ وَلَمْ يُجِيبُوا ؟ وَفِيهِمْ مَنْ
يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَفِيهِمْ مَنْ لَا تَرَاهُ يُصَلِّي وَيَرَاهُ جَمَاعَةٌ
مِنْ النَّاسِ وَلَا يَرَوْنَهُ بِالصَّلَاةِ وَحَالُهُ لَمْ تُرْضِ اللَّهَ وَلَا
رَسُولَهُ مِنْ جِهَةِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا . فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ يَرَاهُ
فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يُوَلِّيَ عَنْهُ أَوْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ ؟
أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ . وَأَيْضًا : هَلْ يَجُوزُ لِرَجُلِ إذَا كَانَ إمَامًا
فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ لَمْ يُصَلِّ فِيهِ إلَّا نَفَرَانِ أَوْ
ثَلَاثَةٌ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ هُوَ يُصَلِّي فِيهِ احْتِسَابًا ؟ وَأَيْضًا
إنْ كَانَ يُصَلِّي فِيهِ بِأُجْرَةِ لَا مَا يَطْلُبُ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِهِ
إلَّا لِأَجْلِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَفْتُونَا
يَرْحَمْكُمْ اللَّهُ .
فَأَجَابَ :
الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُقَامُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ شَعَائِرِ
الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ وَسُنَّتِهِ الْهَادِيَةِ . كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ
ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : " إنَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي
الْمَسْجِدِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الصَّلَاةُ
مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّكُمْ لَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا صَلَّى هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادِي بَيْنَ الرِّجَالِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ " وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالِ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ الْحَطَبِ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إلَى الْمَسْجِدِ فَسَأَلَهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ : أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : أَجِبْ وَفِي رِوَايَةٍ فِي السُّنَنِ قَالَ : أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : لَا أَجِدُ لَك رُخْصَةً } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ قَالُوا : مَا الْعُذْرُ ؟ قَالَ : خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُؤَكَّدَةِ فِي الدِّينِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَهِيَ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ : كَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَهِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ عِنْدَ طَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ الْمُرَجَّحُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَالْمُصِرُّ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ رَجُلُ سُوءٍ يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُزْجَرُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَإِنْ قِيلَ . إنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفِسْقِ مُضَيِّعًا لِلصَّلَاةِ فَهَذَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } وَتَجِبُ عُقُوبَتُهُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَدْعُوهُ إلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ . وَمَنْ كَانَ إمَامًا رَاتِبًا فِي مَسْجِدٍ فَصَلَاتُهُ فِيهِ إذَا لَمْ تَقُمْ الْجَمَاعَةُ إلَّا بِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ جَمَاعَةٍ . وَمَنْ عُرِفَ مِنْهُ التَّظَاهُرُ بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ أَوْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُهْجَرَ وَلَا يُسَلَّمَ عَلَيْهِ تَعْزِيرًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَتُوبَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ يُقْتَدَى بِهِ فِي تَرْكِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ
فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ ؛ إمَّا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ
وَإِمَّا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . وَالْأَدِلَّةُ مِنْ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا
سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَمْ يُوجِبْهَا فَإِنَّهُ يُذَمُّ مَنْ دَاوَمَ عَلَى
تَرْكِهَا حَتَّى إنَّ مَنْ دَاوَمَ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ الَّتِي هِيَ دُونَ
الْجَمَاعَةِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ عِنْدَهُمْ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ
فَكَيْفَ بِمَنْ يُدَاوِمُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ ؟ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهَا
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَيُلَامُ عَلَى تَرْكِهَا فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ
حُكْمٍ وَلَا شَهَادَةٍ وَلَا فُتْيَا مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ
الرَّاتِبَةِ الَّتِي هِيَ دُونَ الْجَمَاعَةِ فَكَيْفَ بِالْجَمَاعَةِ الَّتِي
هِيَ أَعْظَمُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ جَارٍ لِلْمَسْجِدِ وَلَمْ يَحْضُرْ مَعَ الْجَمَاعَةِ الصَّلَاةَ
وَيَحْتَجُّ بِدُكَّانِهِ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانَ لَا
يُصَلِّي فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَإِذَا ظَهَرَ
مِنْهُ الْإِهْمَالُ لِلصَّلَاةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ : إذَا فَرَغْت صَلَّيْت
بَلْ مَنْ ظَهَرَ كَذِبُهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَيُلْزَمُ بِمَا أَمَرَ
اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ.
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي " صَلَاةِ الْفَذِّ " فَقَالَ
أَحَدُهُمَا : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { صَلَاةُ
الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ } وَقَالَ
الْآخَرُ : " مَتَى كانت الْجَمَاعَةُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ فَهِيَ كَصَلَاةِ
الْفَذِّ " ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَتْ الْجَمَاعَةُ كَصَلَاةِ الْفَذِّ ؛ بَلْ الْجَمَاعَةُ أَفْضَلُ وَلَوْ
كَانَتْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ ؛ لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ صَلَّى
جَمَاعَةً فِي بَيْتِهِ هَلْ
يَسْقُطُ
عَنْهُ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ ؟ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ
الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ ؟ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ
حُضُورَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا لِعُذْرِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ
السُّنَنُ وَالْآثَارُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ أَدْرَكَ آخِرَ جَمَاعَةٍ وَبَعْدَ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ جَمَاعَةٌ
أُخْرَى فَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ مُتَابَعَةُ هَؤُلَاءِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ ؟
أَوْ يَنْتَظِرُ الْجَمَاعَةَ الْأُخْرَى ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ هَلْ
يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ
إدْرَاكِ رَكْعَةٍ ؟ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا
وَطَرَدَ قِيَاسَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ فِي الْجُمُعَةِ : يَكُونُ مُدْرِكًا
لَهَا بِإِدْرَاكِ الْقَعْدَةِ فَيُتِمُّهَا جُمُعَةً . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ :
أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا إلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ وَطَرَدَ الْمَسْأَلَةَ
فِي ذَلِكَ حَتَّى فِيمَنْ أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ الْوَقْتِ ، فَإِنَّ الْمَوَاضِعَ
الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَنْوَاعٌ : أَحَدُهَا : الْجُمُعَةُ
. وَالثَّانِي : فَضْلُ الْجَمَاعَةِ .
وَالثَّالِثُ : إدْرَاكُ الْمُسَافِرِ مِنْ صَلَاةِ الْمُقِيمِ . وَالرَّابِعُ : إدْرَاكُ بَعْضِ الصَّلَاةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ كَإِدْرَاكِ بَعْضِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ . وَالْخَامِسُ : إدْرَاكُ آخِرِ الْوَقْتِ كَالْحَائِضِ تَطْهُرُ وَالْمَجْنُونِ يُفِيقُ وَالْكَافِرِ يُسْلِمُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ . وَالسَّادِسُ : إدْرَاكُ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْوُجُوبَ بِذَلِكَ فَإِنَّ فِي هَذَا الْأَصْلِ السَّادِسِ نِزَاعًا . وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَقَالَا فِي الْجُمُعَةِ بِقَوْلِ مَالِكٍ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً يُصَلِّي إلَيْهَا أُخْرَى وَمَنْ أَدْرَكَهُمْ فِي التَّشَهُّدِ صَلَّى أَرْبَعًا . وَأَمَّا سَائِرُ الْمَسَائِلِ فَفِيهَا نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِمَا يُرَجِّحُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالْأَظْهَرُ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ كَمَا ذَكَرَهُ الخرقي فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ
الصَّلَاةَ } فَهَذَا نَصٌّ عَامٌّ فِي جَمِيعِ صُوَرِ إدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ سَوَاءٌ كَانَ إدْرَاكَ جَمَاعَةٍ أَوْ إدْرَاكَ الْوَقْتِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْفَجْرَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ } . وَهَذَا نَصٌّ فِي رَكْعَةٍ فِي الْوَقْتِ . وَقَدْ عَارَضَ هَذَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ : { مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً } وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ مَا إذَا أَدْرَكَ السَّجْدَةَ الْأُولَى وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّجْدَةِ الرَّكْعَةُ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَهَا وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ } إلَى آخِرِهِ . وَفِي اللَّفْظِ الْمَشْهُورِ " رَكْعَتَيْنِ " وَكَمَا رُوِيَ : { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ سَجْدَتَيْنِ } وَهُمَا رَكْعَتَانِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَمَنْ سَجَدَ بَعْدَ الْوِتْرِ سَجْدَتَيْنِ مُجَرَّدَتَيْنِ عَمَلًا بِهَذَا فَهُوَ غالط بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِإِدْرَاكِ سَجْدَةٍ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ يَقُولُوا بِالْحَدِيثِ . فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمُدْرَكُ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ وَكَانَ بَعْدَهَا جَمَاعَةٌ أُخْرَى فَصَلَّى مَعَهُمْ فِي جَمَاعَةٍ صَلَاةً تَامَّةً فَهَذَا أَفْضَلُ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ مُصَلِّيًا فِي جَمَاعَةٍ ؛ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الْمُدْرَكُ رَكْعَةً أَوْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ وَقُلْنَا إنَّهُ يَكُونُ بِهِ مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ فَهُنَا قَدْ تَعَارَضَ إدْرَاكُهُ
لِهَذِهِ
الْجَمَاعَةِ وَإِدْرَاكُهُ لِلثَّانِيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا فَإِنَّ إدْرَاكَ
الْجَمَاعَةِ مِنْ أَوَّلِهَا أَفْضَلُ . كَمَا جَاءَ فِي إدْرَاكِهَا بِحَدِّهَا
فَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَتَانِ سَوَاءً فَالثَّانِيَةُ أَفْضَلُ وَإِنْ
تَمَيَّزَتْ الْأُولَى بِكَمَالِ الْفَضِيلَةِ أَوْ كَثْرَةِ الْجَمْعِ أَوْ
فَضْلِ الْإِمَامِ أَوْ كَوْنِهَا الرَّاتِبَةَ فَهِيَ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ
أَفْضَلُ وَتِلْكَ مِنْ جِهَةِ إدْرَاكِهَا بِحَدِّهَا أَفْضَلُ وَقَدْ
يَتَرَجَّحُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً . وَأَمَّا إنْ قَدَّرَ أَنَّ
الثَّانِيَةَ أَكْمَلُ أَفْعَالًا وَإِمَامًا أَوْ جَمَاعَةً فَهُنَا قَدْ
تَرَجَّحَتْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ تَكُنْ
تُعْرَفُ فِي السَّلَفِ إلَّا إذَا كَانَ مُدْرِكًا لِمَسْجِدِ آخَرَ فَإِنَّهُ
لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ إمَامَانِ رَاتِبَانِ وَكَانَتْ
الْجَمَاعَةُ تَتَوَفَّرُ مَعَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ
صَلَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً وَلَوْ رَكْعَةً
خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَلَوْ كَانَ جَمَاعَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ صَلَّى فَرْضَهُ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَوَجَدَهُمْ
يُصَلُّونَ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْجَمَاعَةِ مِنْ الْفَائِتِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا صَلَّى الرَّجُلُ الْفَرِيضَةَ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدًا تُقَامُ فِيهِ تِلْكَ
الصَّلَاةُ
فَلْيُصَلِّهَا مَعَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا
أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ
لِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَ النَّاسِ : فَقَالَ : { مَا لَكُمَا لَمْ
تُصَلِّيَا ؟ أَلَسْتُمَا مُسْلِمَيْنِ ؟ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا فَقَالَ : إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ
أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ
} . وَمَنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ إلَى قَضَائِهَا عَلَى
الْفَوْرِ سَوَاءٌ فَاتَتْهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ
. كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ الرَّاجِحُ
فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا إذَا فَاتَتْ عَمْدًا كَانَ قَضَاؤُهَا
وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ . وَإِذَا صَلَّى مَعَ الْجَمَاعَةِ نَوَى
بِالثَّانِيَةِ مُعَادَةً وَكَانَتْ الْأُولَى فَرْضًا وَالثَّانِيَةُ نَفْلًا
عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ . وَقِيلَ :
الْفَرْضُ أَكْمَلُهُمَا وَقِيلَ : ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ : { شَهِدْت حَجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّيْت مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي
مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ وَانْحَرَفَ فَإِذَا هُوَ
بِرَجُلَيْنِ فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا فَقَالَ :
عَلَيَّ
بِهِمَا فَإِذَا بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا فَقَالَ : مَا مَنَعَكُمَا أَنْ
تُصَلِّيَا مَعَنَا ؟ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا صَلَّيْنَا فِي
رِحَالِنَا قَالَ : فَلَا تَفْعَلَا إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ
أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ
} . وَالثَّانِي : عَنْ سَلْمَانَ بْنِ سَالِمٍ قَالَ : { رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُمَرَ جَالِسًا عَلَى الْبَلَاطِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ فَقُلْت : يَا
عَبْدَ اللَّهِ مَا لَك لَا تُصَلِّي ؟ فَقَالَ : إنِّي قَدْ صَلَّيْت وَإِنِّي
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا تُعَادُ
صَلَاةٌ مَرَّتَيْنِ } فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ فِي الْإِعَادَةِ
مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ
وَأَنَّهُ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْصِدَ إعَادَةَ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ
سَبَبٍ يَقْتَضِي الْإِعَادَةَ إذْ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لِلصَّلَاةِ
الشَّرْعِيَّةِ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ كَانَ يُمْكِنُ الْإِنْسَانَ أَنْ يُصَلِّيَ
الظُّهْرَ مَرَّاتٍ وَالْعَصْرَ مَرَّاتٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا لَا
رَيْبَ فِي كَرَاهَتِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْأَسْوَدِ : فَهُوَ إعَادَةٌ
مُقَيَّدَةٌ بِسَبَبِ اقْتَضَى الْإِعَادَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ : { إذَا
صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا
مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } فَسَبَبُ الْإِعَادَةِ هُنَا حُضُورُ الْجَمَاعَةِ
الرَّاتِبَةِ وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَلَّى ثُمَّ حَضَرَ جَمَاعَةً رَاتِبَةً أَنْ
يُصَلِّيَ مَعَهُمْ .
لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ الْإِعَادَةَ مُطْلَقًا كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّهَا إذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ أَكْمَلَ كَمَالِكِ . فَإِذَا أَعَادَهَا فَالْأُولَى هِيَ الْفَرِيضَةُ عِنْدَ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؛ لِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : { فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّهُ سَيَكُونُ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } وَهَذَا أَيْضًا يَتَضَمَّنُ إعَادَتَهَا لِسَبَبِ وَيَتَضَمَّنُ أَنَّ الثَّانِيَةَ نَافِلَةٌ . وَقِيلَ الْفَرِيضَةُ أَكْمَلُهُمَا . وَقِيلَ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ . وَمِمَّا جَاءَ فِي الْإِعَادَةِ لِسَبَبِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا يُصَلِّي مَعَهُ } . فَهُنَا هَذَا الْمُتَصَدِّقُ قَدْ أَعَادَ الصَّلَاةَ لِيَحْصُلَ لِذَلِكَ الْمُصَلِّي فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ ثُمَّ الْإِعَادَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا مَشْرُوعَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمَالِكٍ وَقْتَ النَّهْيِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُشْرَعُ وَقْتَ النَّهْيِ . وَأَمَّا الْمَغْرِبُ : فَهَلْ تُعَادُ عَلَى صِفَتِهَا ؟ أَمْ تُشْفَعُ بِرَكْعَةِ ؟ أَمْ لَا تُعَادُ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ لِلْفُقَهَاءِ . وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ الْإِعَادَةُ لِسَبَبِ مَا ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ صَلَوَاتِ الْخَوْفِ صَلَّى بِهِمْ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ صَلَّى بِطَائِفَةِ رَكْعَتَيْنِ
ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى بِطَائِفَةِ أُخْرَى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ } وَمِثْلُ هَذَا حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لَمَّا كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُنَا إعَادَةٌ أَيْضًا وَصَلَاةٌ مَرَّتَيْنِ . وَالْعُلَمَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا : وَهِيَ مَسْأَلَةُ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ " عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . فَقِيلَ : لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ . وَقِيلَ : يَجُوزُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ . وَقِيلَ : يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ مِثْلُ حَالِ الْخَوْفِ وَالْحَاجَةِ إلَى الِائْتِمَامِ بِالْمُتَطَوِّعِ وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهَا كَرِوَايَةِ ثَالِثَةٍ عَنْ أَحْمَد . وَيُشْبِهُ هَذَا إعَادَةُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُشْرَعُ بِغَيْرِ سَبَبٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بَلْ لَوْ صَلَّى عَلَيْهَا مَرَّةً ثَانِيَةً ثُمَّ حَضَرَ مَنْ لَمْ يُصَلِّ ، فَهَلْ يُصَلِّي عَلَيْهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . قِيلَ : يُصَلِّي عَلَيْهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَيُصَلِّي عِنْدَهُمَا عَلَى الْقَبْرِ لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ بَعْدَ مَا صَلَّى عَلَيْهَا غَيْرُهُمْ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ كَمَا يَنْهَيَانِ عَنْ إقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ قَالُوا ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِالصَّلَاةِ الْأُولَى فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ نَافِلَةً وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ لَا يُتَطَوَّعُ بِهَا . وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ يُصَلِّي الْفَرِيضَةَ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ
عَلَيْهِ وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد يُجِيبُونَ بِجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الثَّانِيَةَ تَقَعُ فَرْضًا عَمَّنْ فَعَلَهَا وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي سَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ : أَنَّ مَنْ فَعَلَهَا أَسْقَطَ بِهَا فَرْضَ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ فَعَلَهَا فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِإِسْقَاطِ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ يُسْقِطَ الْفَرْضَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ . وَقِيلَ : بَلْ هِيَ نَافِلَةٌ وَيَمْنَعُونَ قَوْلَ الْقَائِلِ : إنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا يُتَطَوَّعُ بِهَا بَلْ قَدْ يُتَطَوَّعُ بِهَا إذَا كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ . وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَيْنِ الْمَأْخَذَيْنِ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الْجِنَازَةَ مَنْ لَمْ يُصَلِّ أَوَّلًا : فَهَلْ لِمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ تَبَعًا ؟ كَمَا يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا فِي الْمَكْتُوبَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ . قِيلَ : لَا يَجُوزُ هُنَا ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ هُنَا نَفْلٌ بِلَا نِزَاعٍ ، وَهِيَ لَا يَتَنَفَّلُ بِهَا ، وَقِيلَ : بَلْ لَهُ الْإِعَادَةُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ صَلَّى خَلْفَهُ مَنْ كَانَ قَدْ صَلَّى أَوَّلًا ، وَهَذَا أَقْرَبُ فَإِنَّ هَذِهِ الْإِعَادَةَ بِسَبَبِ اقْتَضَاهُ لَا إعَادَةً مَقْصُودَةً وَهَذَا سَائِغٌ فِي الْمَكْتُوبَةِ وَالْجِنَازَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَمَّنْ يَجِدُ الصَّلَاةَ قَدْ أُقِيمَتْ . فَأَيُّمَا أَفْضَلُ صَلَاةُ
الْفَرِيضَةِ ؟ أَوْ يَأْتِي بِالسُّنَّةِ وَيَلْحَقُ الْإِمَامَ وَلَوْ فِي
التَّشَهُّدِ ؟ وَهَلْ رَكْعَتَا الْفَجْرِ سُنَّةٌ لِلصُّبْحِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } وَفِي رِوَايَةٍ
{ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الَّتِي أُقِيمَتْ } فَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا
يَشْتَغِلُ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَلَا بِسُنَّةِ الْفَجْرِ وَقَدْ اتَّفَقَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ عَنْهَا بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ .
وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ : وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ
الْإِقَامَةَ فَلَا يُصَلِّي السُّنَّةَ لَا فِي بَيْتِهِ وَلَا فِي غَيْرِ
بَيْتِهِ . بَلْ يَقْضِيهَا إنْ شَاءَ بَعْدَ الْفَرْضِ . وَالسُّنَّةُ أَنْ
يُصَلِّيَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ سُنَّةً وَالْفَرِيضَةُ
رَكْعَتَانِ وَلَيْسَ بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْفَرِيضَةِ سُنَّةٌ إلَّا
رَكْعَتَانِ وَالْفَرِيضَةُ تُسَمَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ وَصَلَاةَ الْغَدَاةِ
وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ تُسَمَّى سُنَّةَ الْفَجْرِ وَسُنَّةَ الصُّبْحِ
وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ " الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ " ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ نِزَاعٌ وَاضْطِرَابٌ مَعَ عُمُومِ
الْحَاجَةِ إلَيْهِ . وَأُصُولُ الْأَقْوَالِ ثَلَاثَةٌ : طَرَفَانِ وَوَسَطٌ .
فَأَحَدُ الطَّرَفَيْنِ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ بِحَالِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ بِكُلِّ حَالٍ . وَالثَّالِثُ :
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ ؛ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ
أَنْصَتَ وَلَمْ يَقْرَأْ فَإِنَّ اسْتِمَاعَهُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ خَيْرٌ
مِنْ قِرَاءَتِهِ وَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ قَرَأَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّ
قِرَاءَتَهُ خَيْرٌ مِنْ سُكُوتِهِ فَالِاسْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ
أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ هَذَا قَوْلُ
جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَجُمْهُورِ
أَصْحَابِهِمَا وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ : فَهَلْ الْقِرَاءَةُ حَالَ مُخَافَتَةِ الْإِمَامِ بِالْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَأْمُومِ ؟ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ . أَشْهَرُهُمَا أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالِاسْتِمَاعُ حَالَ جَهْرِ الْإِمَامِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَالْقِرَاءَةُ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ ؟ وَهَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ إذَا قَرَأَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ حِينَئِذٍ مُحَرَّمَةٌ وَإِذَا قَرَأَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ حَامِدٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ . وَالثَّانِي أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَنَظِيرُ هَذَا إذَا قَرَأَ حَالَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : هَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا } . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : يَقْرَأُ حَالَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ إنَّمَا يَأْمُرُونَهُ أَنْ يَقْرَأَ حَالَ الْجَهْرِ بِالْفَاتِحَةِ خَاصَّةً وَمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُسْتَمِعًا لَا قَارِئًا .
وَهَلْ قِرَاءَتُهُ لِلْفَاتِحَةِ مَعَ الْجَهْرِ وَاجِبَةٌ ، أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ . وَالثَّانِي أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ الأوزاعي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَاخْتِيَارُ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاحْتِيَاطِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا سَبِيلَ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَفِي فَسْخِ الْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ . يَتَعَيَّنُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ النَّظَرُ فِيمَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ صَلَاةُ الْعَصْرِ يَخْرُجُ وَقْتُهَا إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ كَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : حِينَئِذٍ يَدْخُلُ وَقْتُهَا وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى وَقْتٍ تَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ بَعْدَ مَصِيرِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى ظِلِّ الزَّوَالِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَالْمَغْرِبُ أَيْضًا تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِهِمْ إذَا صَلَّى بَعْدَ الْغُرُوبِ وَالْعِشَاءُ تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِهِمْ إذَا صَلَّى بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَالْفَجْرُ
تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِهِمْ إذَا صَلَّاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الْإِسْفَارِ الشَّدِيدِ وَأَمَّا الْعَصْرُ فَهَذَا يَقُولُ : تُصَلَّى إلَى الْمِثْلَيْنِ وَهَذَا يَقُولُ لَا تُصَلَّى إلَّا بَعْدَ الْمِثْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُصَلَّى مِنْ حِينِ يَصِيرُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ إلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ فَوَقْتُهَا أَوْسَعُ كَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَدَنِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مِنْ الْمَسَائِلِ مَسَائِلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْمَلَ فِيهَا بِقَوْلِ يُجْمَعُ عَلَيْهِ لَكِنْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ عَلَيْهِ دَلَائِلُ شَرْعِيَّةٌ تُبَيِّنُ الْحَقَّ . وَمِنْ ذَلِكَ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ فَإِنَّ الْحَجَّ الَّذِي اتَّفَقَ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِهِ أَنْ يُهِلَّ مُتَمَتِّعًا يُحْرِمَ بِعُمْرَةِ ابْتِدَاءً وَيُهِلَّ قَارِنًا وَقَدْ سَاقَ الْهَدْيَ فَأَمَّا إنْ أَفْرَدَ أَوْ قَرَنَ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَفِي حَجِّهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ فَنَقُولُ : إذَا جَهَرَ الْإِمَامُ اسْتَمَعَ لِقِرَاءَتِهِ فَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ لِبُعْدِهِ فَإِنَّهُ يَقْرَأُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ لِصَمَمِهِ أَوْ كَانَ يَسْمَعُ
هَمْهَمَةَ الْإِمَامِ وَلَا يَفْقَهُ مَا يَقُولُ : فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَقْرَأُ ؛ لِأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ إمَّا مُسْتَمِعًا وَإِمَّا قَارِئًا وَهَذَا لَيْسَ بِمُسْتَمِعِ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُ السَّمَاعِ فَقِرَاءَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ سُكُوتِهِ فَنَذْكُرُ الدَّلِيلَ عَلَى الْفَصْلَيْنِ . عَلَى أَنَّهُ فِي حَالِ الْجَهْرِ يَسْتَمِعُ وَأَنَّهُ فِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ يَقْرَأُ . فَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَوَّلِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ : أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْخُطْبَةِ وَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَذَكَرَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ حَالَ الْجَهْرِ . ثُمَّ يَقُولُ : قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لَفْظٌ عَامٌّ فَإِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ يَعُمُّهُمَا . وَالثَّانِي بَاطِلٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يَجِبُ الِاسْتِمَاعُ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلَا يَجِبُ فِي
الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ اسْتِمَاعَ الْمُسْتَمِعِ إلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ الَّذِي يَأْتَمُّ بِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ أَوْلَى مِنْ اسْتِمَاعِهِ إلَى قِرَاءَةِ مَنْ يَقْرَأُ خَارِجَ الصَّلَاةِ دَاخِلَةٌ فِي الْآيَةِ إمَّا عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَمْرِ الْمَأْمُومِ بِالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَسَوَاءٌ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ . فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ . فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ أَوْلَى مِنْ الْقِرَاءَةِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَالْمُنَازِعُ يُسَلِّمُ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ مَأْمُورٌ بِهِ دُونَ الْقِرَاءَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ . وَالْآيَةُ أَمَرَتْ بِالْإِنْصَاتِ إذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ . وَالْفَاتِحَةُ أُمُّ الْقُرْآنِ وَهِيَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَتِهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَالْفَاتِحَةُ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ . وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الِاسْتِمَاعَ إلَى غَيْرِهَا دُونَهَا مَعَ إطْلَاقِ لَفْظِ الْآيَةِ وَعُمُومِهَا مَعَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا . فَإِنَّ قَوْلَهُ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ } يَتَنَاوَلُهَا كَمَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا وَشُمُولُهُ لَهَا أَظْهَرُ لَفْظًا وَمَعْنًى . وَالْعَادِلُ عَنْ اسْتِمَاعِهَا إلَى قِرَاءَتِهَا إنَّمَا يَعْدِلُ لِأَنَّ قِرَاءَتَهَا عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ الِاسْتِمَاعِ وَهَذَا غَلَطٌ يُخَالِفُ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَمَرَتْ الْمُؤْتَمَّ بِالِاسْتِمَاعِ دُونَ الْقِرَاءَةِ وَالْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ اسْتِمَاعَهُ لِمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهِ لِمَا زَادَ عَلَيْهَا .
فَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ لِمَا يَقْرَأْهُ الْإِمَامُ أَفْضَلَ مِنْ الِاسْتِمَاعِ لِقِرَاءَتِهِ لَكَانَ قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَتِهِ لِمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ . وَإِنَّمَا نَازَعَ مَنْ نَازَعَ فِي الْفَاتِحَةِ لِظَنِّهِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَأْمُومِ مَعَ الْجَهْرِ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ لَهُ حِينَئِذٍ . وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْحَاصِلَةَ لَهُ بِالْقِرَاءَةِ يَحْصُلُ بِالِاسْتِمَاعِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا بِدَلِيلِ اسْتِمَاعِهِ لِمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ فَلَوْلَا أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِالِاسْتِمَاعِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَفْعَلَ أَفْضَلَ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِمَاعَ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ عُلِمَ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ يَحْصُلُ لَهُ أَفْضَلُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْقَارِئِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا فَالْمُسْتَمِعُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ يَحْصُلُ لَهُ أَفْضَلُ مِمَّا يَحْصُلُ بِالْقِرَاءَةِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْأَدْنَى وَيُنْهَى عَنْ الْأَعْلَى . وَثَبَتَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ كَمَا قَالَ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَفِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ مُرْسَلًا وَمُسْنَدًا لَكِنْ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ الثقاة رَوَوْهُ مُرْسَلًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْنَدَهُ بَعْضُهُمْ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه مُسْنَدًا وَهَذَا الْمُرْسَلُ قَدْ عَضَّدَهُ
ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَقَالَ بِهِ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمُرْسِلُهُ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ وَمِثْلُ هَذَا الْمُرْسَلِ يُحْتَجُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ الِاحْتِجَاجِ بِمِثْلِ هَذَا الْمُرْسَلِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ إلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ أَمْرٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ دَلَالَةً قَاطِعَةً ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا جَمِيعُ الْأُمَّةِ فَكَانَ بَيَانُهَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْبَيَانِ وَجَاءَتْ السُّنَّةُ مُوَافِقَةً لِلْقُرْآنِ . فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَنَا فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا فَقَالَ : أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمّكُمْ أَحَدُكُمْ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } . وَهَذَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الطَّوِيلِ الْمَشْهُورِ . لَكِنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ زَادَ فِيهِ عَلَى بَعْضٍ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ : { وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهَا وَهِيَ زِيَادَةٌ مِنْ الثِّقَةِ لَا تُخَالِفُ الْمَزِيدَ بَلْ تُوَافِقُ مَعْنَاهُ وَلِهَذَا رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . فَإِنَّ الْإِنْصَاتَ إلَى قِرَاءَةِ الْقَارِئِ مِنْ تَمَامِ الِائْتِمَامِ بِهِ فَإِنَّ مَنْ قَرَأَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ لَمْ يَكُونُوا مُؤْتَمِّينَ بِهِ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ حِكْمَةَ سُقُوطِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ فَإِنَّ مُتَابَعَتَهُ لِإِمَامِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا حَتَّى فِي الْأَفْعَالِ فَإِذَا أَدْرَكَهُ سَاجِدًا سَجَدَ مَعَهُ وَإِذَا أَدْرَكَهُ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ
تَشَهَّدَ عَقِبَ الْوِتْرِ وَهَذَا لَوْ فَعَلَهُ مُنْفَرِدًا لَمْ يَجُزْ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِأَجْلِ الِائْتِمَامِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِائْتِمَامَ يَجِبُ بِهِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ وَيَسْقُطُ بِهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه . قِيلَ لِمُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ : حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ يَعْنِي { وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } قَالَ هُوَ عِنْدِي صَحِيحٌ . فَقِيلَ لَهُ : لِمَا لَا تَضَعُهُ هَاهُنَا ؟ يَعْنِي فِي كِتَابِهِ فَقَالَ : لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٍ وَضَعْته هَاهُنَا إنَّمَا وَضَعْت هَاهُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ أكيمة الليثي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا فَقَالَ : هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : نَعَمْ . يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ } . قَالَ : فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ يَقُولُ : قَوْلُهُ : " فَانْتَهَى النَّاسُ " مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ .
وَرُوِيَ
عَنْ الْبُخَارِيِّ نَحْوُ ذَلِكَ فَقَالَ : فِي الْكُنَى مِنْ التَّارِيخِ
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُوسُفُ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ سَمِعْت ابْنَ أكيمة الليثي يُحَدِّثُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ
سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : { صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ ثُمَّ قَالَ : هَلْ
قَرَأَ مِنْكُمْ أَحَدٌ مَعِي ؟ قُلْنَا : نَعَمْ قَالَ : إنِّي أَقُولُ مَا لِي
أُنَازَعُ الْقُرْآنَ } قَالَ : فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِيمَا
جَهَرَ الْإِمَامُ قَالَ اللَّيْثُ : حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ يَقُلْ :
فَانْتَهَى النَّاسُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ : هُوَ قَوْلُ ابْنِ أكيمة وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ .
وَهَذَا إذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ فَهُوَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ
عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَقْرَءُونَ فِي الْجَهْرِ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ مِنْ أَعْلَمِ
أَهْلِ زَمَانِهِ أَوْ أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ وَقِرَاءَةُ
الصَّحَابَةِ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَتْ
مَشْرُوعَةً وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً تَكُونُ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ
الَّتِي يَعْرِفُهَا عَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ
فَيَكُونُ الزُّهْرِيُّ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهَا فَلَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا
لَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى انْتِفَائِهَا فَكَيْفَ إذَا قَطَعَ الزُّهْرِيُّ
بِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَقْرَءُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَهْرِ .
[ فَإِنْ قِيلَ : قَالَ البيهقي : ابْنُ أكيمة رَجُلٌ مَجْهُولٌ لَمْ يُحَدِّثْ
إلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَحْدَهُ وَلَمْ يُحَدِّثْ عَنْهُ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ .
قِيلَ
: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي فِيهِ : صَحِيحُ
الْحَدِيثِ حَدِيثُهُ مَقْبُولٌ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ البستي أَنَّهُ
قَالَ : رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ وَابْنُ أَبِيهِ
عُمَرُ وَسَالِمُ بْنُ عَمَّارٍ ابْنُ أكيمة بْنِ عُمَرَ ] (*) .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ كيسان أَنَّهُ سَمِعَ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : " مَنْ صَلَّى رَكْعَةً لَمْ يَقْرَأْ
فِيهَا لَمْ يُصَلِّ إلَّا وَرَاءَ الْإِمَامِ " وَرَوَى أَيْضًا عَنْ
نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا سُئِلَ : هَلْ يُقْرَأُ
خَلْفَ الْإِمَامِ ؟ يَقُولُ : إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ خَلْفَ الْإِمَامِ
تُجْزِئُهُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيَقْرَأْ . قَالَ :
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَرَوَى
مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ
ثَابِتٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَالَ : لَا قِرَاءَةَ مَعَ
الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ . وَرَوَى البيهقي عَنْ أَبِي وَائِلٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ
ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَالَ : أَنْصِتْ
لِلْقُرْآنِ فَإِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا وَسَيَكْفِيك ذَلِكَ الْإِمَامُ
وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ هُمَا فَقِيهَا أَهْلِ الْمَدِينَةِ
وَأَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَفِي كَلَامِهِمَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ
الْمَانِعَ إنْصَاتُهُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ .
وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ " عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : وَرَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ يُسَبِّحُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَالَ : وَلَمْ يَصِحَّ وَخَالَفَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ إسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ . مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : إذَا لَمْ يَجْهَرْ الْإِمَامُ فِي الصَّلَوَاتِ فَاقْرَأْ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ أُخْرَى فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الْعِشَاءِ . وَأَيْضًا فَفِي إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ يُؤْمَرُ بِالِاسْتِمَاعِ دُونَ الْقِرَاءَةِ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْتِمَاعَهُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ قِرَاءَتِهِ مَعَهُ بَلْ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِمَاعِ دُونَ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْإِمَامِ . وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الْجَهْرِ وَاجِبَةً عَلَى الْمَأْمُومِ لَلَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَقْرَأَ مَعَ الْإِمَامِ وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ لَهُ حَتَّى يَقْرَأَ وَلَمْ نَعْلَمْ نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَقِرَاءَتُهُ مَعَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ مَعَهُ فِي حَالِ الْجَهْرِ بَلْ نَقُولُ : لَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَالِاسْتِمَاعِ مُسْتَحَبَّةً لَاسْتُحِبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ
السُّكُوتُ لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ . وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْكُتُ لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُونَ وَلَا نَقَلَ هَذَا أَحَدٌ عَنْهُ بَلْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ سُكُوتُهُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ لِلِاسْتِفْتَاحِ وَفِي السُّنَنِ { أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ : سَكْتَةٌ فِي أَوَّلِ الْقِرَاءَةِ وَسَكْتَةٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِرَاءَةِ } وَهِيَ سَكْتَةٌ لَطِيفَةٌ لِلْفَصْلِ لَا تَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ السَّكْتَةَ كَانَتْ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ سَكَتَاتٍ وَلَا أَرْبَعُ سَكَتَاتٍ فَمَنْ نَقَلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ سَكَتَاتٍ أَوْ أَرْبَعَ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّكْتَةُ الَّتِي عَقِبَ قَوْلِهِ : { وَلَا الضَّالِّينَ } مِنْ جِنْسِ السَّكَتَاتِ الَّتِي عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يُسَمَّى سُكُوتًا ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ يَقْرَأُ فِي مِثْلِ هَذَا . وَكَانَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَصْحَابِنَا يَقْرَأُ عَقِبَ السُّكُوتِ عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ . فَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سُكُوتِ الْإِمَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَقِيلَ : لَا سُكُوتَ فِي الصَّلَاةِ بِحَالِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ . وَقِيلَ : فِيهَا سَكْتَةٌ وَاحِدَةٌ لِلِاسْتِفْتَاحِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ فِيهَا : سَكْتَتَانِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا لِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ : سَكْتَةٌ حِينَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ وَسَكْتَةٌ إذَا فَرَغَ مِنْ السُّورَةِ الثَّانِيَةِ . قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ } فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فَقَالَ : كَذَبَ سَمُرَةُ . فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَدِينَةِ إلَى أبي بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ : صَدَقَ سَمُرَةُ رَوَاهُ أَحْمَدُ . وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : { سَكْتَةٌ إذَا كَبَّرَ . وَسَكْتَةٌ إذَا فَرَغَ مِنْ { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } } وَأَحْمَدُ رَجَّحَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى وَاسْتَحَبَّ السَّكْتَةَ الثَّانِيَةَ ؛ لِأَجْلِ الْفَصْلِ . وَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَحْمَدُ أَنْ يَسْكُتَ الْإِمَامُ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ وَلَكِنْ بَعْضُ أَصْحَابِهِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ يَسْكُتُ سَكْتَةً تَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لَكَانَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ . وَالسَّكْتَةُ الثَّانِيَةُ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ قَدْ نَفَاهَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَذَلِكَ أَنَّهَا سَكْتَةٌ يَسِيرَةٌ قَدْ لَا يَنْضَبِطُ مِثْلُهَا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا بَعْدَ
الْفَاتِحَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَسْكُتْ إلَّا سَكْتَتَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّ إحْدَاهُمَا طَوِيلَةٌ وَالْأُخْرَى بِكُلِّ حَالٍ لَمْ تَكُنْ طَوِيلَةً مُتَّسِعَةً لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ خَلْفَهُ إمَّا فِي السَّكْتَةِ الْأُولَى وَإِمَّا فِي الثَّانِيَةِ لَكَانَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَكَيْفَ وَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّكْتَةِ الثَّانِيَةِ خَلْفَهُ يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَكَانَ الصَّحَابَةُ أَحَقَّ النَّاسِ بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ . وَأَيْضًا فَالْمَقْصُودُ بِالْجَهْرِ اسْتِمَاعُ الْمَأْمُومِينَ وَلِهَذَا يُؤَمِّنُونَ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِ دُونَ السِّرِّ فَإِذَا كَانُوا مَشْغُولِينَ عَنْهُ بِالْقِرَاءَةِ فَقَدْ أَمَرَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُحَدِّثَ مَنْ لَمْ يَسْتَمِعْ لِحَدِيثِهِ وَيَخْطُبَ مَنْ لَمْ يَسْتَمِعْ لِخُطْبَتِهِ وَهَذَا سَفَهٌ تُنَزِّهُ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ . وَلِهَذَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ : { مَثَلُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } فَهَكَذَا إذَا كَانَ يَقْرَأُ وَالْإِمَامُ يَقْرَأُ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ
:
وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ مَأْمُورًا بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ
لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ لَمْ يَشْتَغِلْ عَنْ ذَلِكَ بِغَيْرِهَا لَا بِقِرَاءَةِ
وَلَا ذِكْرٍ وَلَا دُعَاءٍ فَفِي حَالِ جَهْرِ الْإِمَامِ لَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا
يَتَعَوَّذُ . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ . وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد . قِيلَ : إنَّهُ حَالَ الْجَهْرِ
يَسْتَفْتِحُ وَيَتَعَوَّذُ وَلَا يَقْرَأُ ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِمَاعِ يَحْصُلُ
لَهُ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ ؛ بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ
فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُمَا . وَقِيلَ : يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ لِأَنَّ
الِاسْتِفْتَاحَ تَابِعٌ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ التَّعَوُّذِ
فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِلْقِرَاءَةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ لَا يَتَعَوَّذُ . وَقِيلَ
: لَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ حَالَ الْجَهْرِ وَهَذَا أَصَحُّ فَإِنَّ
ذَلِكَ يَشْغَلُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ عَمَّا أُمِرَ بِهِ بِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ . ثُمَّ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَد : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا
هُوَ فِي حَالِ سُكُوتِ الْإِمَامِ هَلْ يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِفْتَاحِ أَوْ
الِاسْتِعَاذَةِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا
أَوْ لَا يَشْتَغِلُ إلَّا بِالْقِرَاءَةِ لِكَوْنِهَا مُخْتَلِفًا فِي وُجُوبِهَا . وَأَمَّا فِي حَالِ الْجَهْرِ فَلَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِ الْإِنْصَاتِ وَالْمَعْرُوفِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ هُوَ فِي حَالِ الْجَهْرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّعْلِيلِ وَأَمَّا فِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ وَاسْتِفْتَاحُهُ حَالَ سُكُوتِ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ يُعْتَاضُ عَنْهَا بِالِاسْتِمَاعِ بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاحِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا فَيُقَالُ : وَكَذَلِكَ الِاسْتِفْتَاحُ هَلْ يَجِبُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ : إنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ الْقِرَاءَةُ فِي حَالِ الْجَهْرِ . وَاخْتَارَ ابْنُ بَطَّةَ وُجُوبَ الِاسْتِفْتَاحِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ حَالَ الْمُخَافَتَةِ أَفْضَلُ فِي مَذْهَبِهِ مِنْ الِاسْتِفْتَاحِ فَقَدْ غَلِطَ عَلَى مَذْهَبِهِ . وَلَكِنْ هَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَ مَنْ اسْتَحَبَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ حَالَ الْجَهْرِ وَهَذَا مَا عَلِمْت أَحَدًا قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ قَبْلَ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَبَ أَحْمَد وَلَا عَامَّةَ أَصْحَابِهِ مَعَ أَنَّ تَعْلِيلَ الْأَحْكَامِ بِالْخِلَافِ عِلَّةٌ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يُعَلِّقُ الشَّارِعُ بِهَا الْأَحْكَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ حَادِثٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ يَسْلُكُهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي
نَفْسِ
الْأَمْرِ لِطَلَبِ الِاحْتِيَاطِ . وَعَلَى هَذَا فَفِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ
هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ مَعَ الِاسْتِفْتَاحِ الِاسْتِعَاذَةُ إذَا لَمْ يَقْرَأْ ؟
عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَالصَّوَابُ : أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ لَا تُشْرَعُ إلَّا
لِمَنْ قَرَأَ فَإِنْ اتَّسَعَ الزَّمَانُ لِلْقِرَاءَةِ اسْتَعَاذَ وَقَرَأَ
وَإِلَّا أَنْصَتَ.
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْفَصْلُ الثَّانِي " وَهُوَ الْقِرَاءَةُ إذَا لَمْ
يَسْمَعْ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ كَحَالِ مُخَافَتَةِ الْإِمَامِ وَسُكُوتِهِ
فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا يَتَنَاوَلُ الْمُصَلِّيَ
أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي
الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ وَمَا وَرَدَ مِنْ الْفَضْلِ
لِقَارِئِ الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ الْمُصَلِّيَ أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَاوَلُ
غَيْرَهُ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَرَأَ
الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ : الم
حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ } قَالَ
التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَدْ ثَبَتَ فِي خُصُوصِ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ
صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ ثَلَاثًا } أَيْ : غَيْرُ تَمَامٍ فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ : إنِّي أَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ . فَقَالَ : اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { قَالَ اللَّهُ : قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ . فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ : مَجَّدَنِي عَبْدِي وَقَالَ مَرَّةً : فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ : هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْن حُصَيْنٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ : بسبح اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : أَيّكُمْ قَرَأَ ؟ أَوْ أَيُّكُمْ الْقَارِئُ قَالَ رَجُلٌ : أَنَا قَالَ : قَدْ ظَنَنْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خالجنيها } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَهَذَا قَدْ قَرَأَ خَلْفَهُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَلَمْ يَنْهَهُ وَلَا غَيْرَهُ عَنْ الْقِرَاءَةِ لَكِنْ قَالَ : { قَدْ ظَنَنْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خالجنيها } أَيْ نَازَعَنِيهَا . كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ } .
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { كَانُوا يَقْرَءُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : خَلَطْتُمْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ } فَهَذَا كَرَاهَةٌ مِنْهُ لِمَنْ نَازَعَهُ وَخَالَجَهُ وَخَلَطَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَهَذَا لَا يَكُونُ مِمَّنْ قَرَأَ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ أَسْمَعَ غَيْرَهُ وَهَذَا مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُنَازَعَةِ لِغَيْرِهِ لَا لِأَجْلِ كَوْنِهِ قَارِئًا خَلْفَ الْإِمَامِ وَأَمَّا مَعَ مُخَافَتَةِ الْإِمَامِ . فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَلِهَذَا قَالَ : " أَيُّكُمْ الْقَارِئُ ؟ " . أَيْ الْقَارِئُ الَّذِي نَازَعَنِي لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْقَارِئَ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَازِعُ وَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ خَالَجَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَاهَةُ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ إنَّمَا هِيَ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْصَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوْ إذَا نَازَعَ غَيْرَهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إنْصَاتٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَا مُنَازَعَةٌ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ . وَالْقَارِئُ هُنَا لَمْ يَعْتَضْ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِاسْتِمَاعِ فَيَفُوتُهُ الِاسْتِمَاعُ وَالْقِرَاءَةُ جَمِيعًا مَعَ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ بِخِلَافِ وُجُوبِهَا فِي حَالِ الْجَهْرِ فَإِنَّهُ شَاذٌّ حَتَّى نَقَلَ أَحْمَد الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ . وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ : { قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } } أَنَّ ذَلِكَ يَعُمُّ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ . وَأَيْضًا فَجَمِيعُ الْأَذْكَارِ الَّتِي يُشْرَعُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَهَا سِرًّا يُشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ
أَنْ يَقُولَهَا سِرًّا كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَكَالتَّشَهُّدِ وَالدُّعَاءِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فَلِأَيِّ مَعْنًى لَا تُشْرَعُ لَهُ الْقِرَاءَةُ فِي السِّرِّ وَهُوَ لَا يَسْمَعُ قِرَاءَةَ السِّرِّ وَلَا يُؤَمِّنُ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي السِّرِّ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَقَالَ : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ } وَهَذَا أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ فَإِنَّهُ مَا خُوطِبَ بِهِ خُوطِبَتْ بِهِ الْأُمَّةُ مَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِالتَّخْصِيصِ . كَقَوْلِهِ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } وَقَوْلِهِ : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } وَقَوْلِهِ : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا أَمْرٌ يَتَنَاوَلُ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ وَالْمُنْفَرِدَ بِأَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَيَكُونُ الْمَأْمُومُ مَأْمُورًا بِذِكْرِ رَبِّهِ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ إذَا كَانَ مُسْتَمِعًا كَانَ مَأْمُورًا بِالِاسْتِمَاعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَمِعًا كَانَ مَأْمُورًا بِذِكْرِ رَبِّهِ فِي نَفْسِهِ . وَالْقُرْآنُ أَفْضَلُ الذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } وَقَالَ : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } . وَأَيْضًا : فَالسُّكُوتُ بِلَا قِرَاءَةٍ وَلَا ذِكْرٍ وَلَا دُعَاءٍ لَيْسَ عِبَادَةً
وَلَا مَأْمُورًا بِهِ ؛ بَلْ يَفْتَحُ بَابَ الْوَسْوَسَةِ فَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ أَفْضَلِ الْخَيْرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالذِّكْرُ بِالْقُرْآنِ أَفْضَلُ مَنْ غَيْرِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي مِنْهُ فَقَالَ : قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لِلَّهِ فَمَا لِي قَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي وَاهْدِنِي فَلَمَّا قَامَ قَالَ : هَكَذَا بِيَدَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا هَذَا فَقَدَ مَلَأَ يَدَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ } رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي . وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الْقِرَاءَةَ فِي الْجَهْرِ : احْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ عبادة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا كُنْتُمْ وَرَائِي فَلَا تَقْرَءُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا } . وَهَذَا الْحَدِيثُ مُعَلَّلٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِأُمُورِ كَثِيرَةٍ ضَعَّفَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ضَعْفِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَلَاةَ إلَّا
بِأُمِّ الْقُرْآنِ } فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عبادة . وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَغَلِطَ فِيهِ بَعْضُ الشَّامِيِّينَ وَأَصْلُهُ أَنَّ عبادة كَانَ يَؤُمُّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ هَذَا فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْمَرْفُوعُ بِالْمَوْقُوفِ عَلَى عبادة . وَأَيْضًا : فَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَسَطُوا الْقَوْلَ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ . وَتَارَةً أَفْرَدُوا الْقَوْلَ فِيهَا فِي مُصَنَّفَاتٍ مُفْرَدَةٍ وَانْتَصَرَ طَائِفَةٌ لِلْإِثْبَاتِ فِي مُصَنَّفَاتٍ مُفْرَدَةٍ : كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ . وَطَائِفَةٌ لِلنَّفْيِ : كَأَبِي مُطِيعٍ البلخي وَكَرَّامٍ وَغَيْرِهِمَا . وَمَنْ تَأَمَّلَ مُصَنَّفَاتِ الطَّوَائِفِ تَبَيَّنَ لَهُ الْقَوْلُ الْوَسَطُ فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفْرَدَةَ تَتَضَمَّنُ صُوَرَ كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ قَوْلُ مَنْ يَنْهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى فِي صَلَاةِ السِّرِّ . وَقَوْلُ مَنْ يَأْمُرُ بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ مَعَ سَمَاعِ جَهْرِ الْإِمَامِ وَالْبُخَارِيُّ مِمَّنْ بَالَغَ فِي الِانْتِصَارِ لِلْإِثْبَاتِ بِالْقِرَاءَةِ حَتَّى مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ ؛ بَلْ يُوجِبُ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَابْنُ حَزْمٍ وَمَعَ هَذَا فَحُجَجُهُ وَمُصَنَّفُهُ إنَّمَا تَتَضَمَّنُ تَضْعِيفَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَوَابِعِهَا مِثْلَ كَوْنِهِ (1) .
وَقَالَ
أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ بَعْدَ كَلَامٍ : وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ
الْكِتَابِ } وَهَذَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ
فِي صَحِيحَيْهِمَا وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْبُخَارِيُّ فِي مُصَنَّفِهِ . فَقَالَ
: ( بَابُ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ
طُرُقٍ : مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَة وَصَالِحِ بْنِ كيسان وَيُوسُفَ بْنِ
يَزَيدٍ . قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ : { لَا
صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَصَاعِدًا } وَعَامَّةُ
الثقاة . لَمْ يُتَابِعْ مَعْمَرًا فِي قَوْلِهِ : " فَصَاعِدًا " مَعَ
أَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَقَوْلُهُ : " فَصَاعِدًا
" غَيْرُ مَعْرُوفٍ مَا أَرَادَ بِهِ حَرْفَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ؛
إلَّا أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِهِ : { لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي رُبُعِ
دِينَارٍ فَصَاعِدًا } فَقَدْ تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ وَفِي
أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ . قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَيُقَالُ : إنَّ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ إسْحَاقَ تَابَعَ مَعْمَرًا وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ رُبَّمَا
رَوَى عَنْ الزُّهْرِيِّ ثُمَّ أَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزُّهْرِيِّ غَيْرَهُ
وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ هَذَا مِنْ صَحِيحِ حَدِيثِهِ أَمْ لَا . قُلْت : مَعْنَى
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَقَدْ
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْمُصَنَّفِ : حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ [ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مَيْمُونٍ ] (*) ثَنَا أَبُو عُثْمَانَ النهدي { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ فَنَادَى أَنْ لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا زَادَ } وَقَالَ أَيْضًا : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جريج . عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { تُجْزِئُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنْ زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْآخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي السُّنَنِ . قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قتادة عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ : { أَمَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ } . قُلْت : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ حَالَ سَمَاعِهِ لِجَهْرِ الْإِمَامِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ إنَّ زِيَادَتَهُ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَتَرْكَ إنْصَاتِهِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ خَيْرٌ . وَلَا أَنَّ الْمَأْمُومَ مَأْمُورٌ حَالَ الْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ زَائِدَةٍ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَكَذَلِكَ عَلَّلَهَا الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثِ عبادة فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ الْمُسْتَمِعَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْحَدِيثِ وَلَكِنْ هَبْ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي حَدِيثِ عبادة فَهِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَأَيْضًا فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَأْمُرُ بِإِنْصَاتِ الْمَأْمُومِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَبْطَلَ صَلَاتَهُ إذَا لَمْ يُنْصِتْ بَلْ قَرَأَ مَعَهُ . وَحِينَئِذٍ يُقَالُ تَعَارَضَ عُمُومُ قَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ }
وَعُمُومُ الْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : يُنْصِتُ إلَّا فِي حَالِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ : قَوْلَهُ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } يُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَأْمُورُ بِالْإِنْصَاتِ إنْ سَلَّمُوا شُمُولَ اللَّفْظِ لَهُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ فَإِنَّهُ إنَّمَا قَالَ : { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ } . وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّ إنْصَاتَ الْمَأْمُومِ لِقِرَاءَةِ إمَامِهِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ مَعَهُ وَزِيَادَةً ؛ فَإِنَّ اسْتِمَاعَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ أَوْلَى بِهِ بِالْقِرَاءَةِ بِاتِّفَاقِهِمْ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَأْمُومُ الْمُسْتَمِعُ لِقِرَاءَةِ إمَامِهِ أَفْضَلَ مِنْ الْقَارِئِ لَكَانَ قِرَاءَتُهُ أَفْضَلَ لَهُ وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ الْأَمْرُ بِالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِنْصَاتِ وَالْقِرَاءَةِ وَلَوْلَا أَنَّ الْإِنْصَاتَ يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ وَزِيَادَةٌ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِتَرْكِ الْأَفْضَلِ لِأَجْلِ الْمَفْضُولِ . وَأَيْضًا فَهَذَا عُمُومٌ قَدْ خَصَّ مِنْهُ الْمَسْبُوقَ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ وَغَيْرِهِ وَخَصَّ مِنْهُ الصَّلَاةَ بِإِمَامَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى بِالنَّاسِ وَقَدْ سَبَقَهُ أَبُو بَكْرٍ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ قَرَأَ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ لِأَنَّهُ بَنَى عَلَى صَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ فَإِذَا سَقَطَتْ عَنْهُ الْفَاتِحَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَعَنْ الْمَأْمُومِ أَوْلَى . وَخَصَّ مِنْهُ حَالَ الْعُذْرِ وَحَالُ اسْتِمَاعِ الْإِمَامِ حَالُ عُذْرٍ فَهُوَ مَخْصُوصٌ وَأَمْرُ الْمَأْمُومِ بِالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ لَمْ يُخَصّ مَعَهُ شَيْءٌ لَا بِنَصِّ
خَاصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَإِذَا تَعَارَضَ عمومان أَحَدُهُمَا مَحْفُوظٌ وَالْآخَرُ مَخْصُوصٌ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْمَحْفُوظِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْصَاتِ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى اتِّبَاعِ الْمَأْمُومِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُنْصِتَ يَحْصُلُ لَهُ بِإِنْصَاتِهِ وَاسْتِمَاعِهِ مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ قِرَاءَتِهِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْخُطْبَةِ وَفِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ فَالْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْإِنْصَاتِ يَتَنَاوَلُ الْإِنْصَاتَ عَنْ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا . وَأَمَّا وُجُوبُ قِرَاءَتِهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَإِذَا أَنْصَتَ إلَى الْإِمَامِ الَّذِي يَقْرَؤُهَا كَانَ خَيْرًا مِمَّا يَقْرَأُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَكَانَ صَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُجْزِئُهُ ؛ بَلْ هُوَ أَفْضَلُ لَهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ السُّنَّةُ وَهُوَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى نَفْسِهِ إلَّا الصَّلَاةَ فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ ؛ لَكِنَّ هَذَا أَفْضَلُ مِنْهُ . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي إيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ جَعَلَ الشَّارِعُ الْأَفْضَلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمَنْذُورِ وَإِلْغَاءُ تَعْيِينِهِ هُوَ بِالنَّذْرِ فَكَيْفَ يُوجِبُ الشَّارِعُ شَيْئًا وَلَا يَجْعَلُ أَفْضَلَ مِنْهُ يَقُومُ مَقَامَهُ وَالشَّارِعُ حَكِيمٌ لَا يُعَيِّنُ شَيْئًا قَطُّ وَغَيْرُهُ أَوْلَى بِالْفِعْلِ مِنْهُ ؛ بِخِلَافِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ قَدْ يَخُصُّ بِنَذْرِهِ وَوَقْفِهِ وَوَصِيَّتِهِ مَا غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَلِّيَ إذَا سَهَى بِسُجُودِ السَّهْوِ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ .
ثُمَّ الْمَأْمُومُ إذَا سَهَى يَتَحَمَّلُ إمَامُهُ عَنْهُ سَهْوَهُ ؛ لِأَجْلِ مُتَابَعَتِهِ لَهُ مَعَ إمْكَانِهِ أَنْ يَسْجُدَ بَعْدَ سَلَامِهِ . وَإِنْصَاتُهُ لِقِرَاءَتِهِ أَدْخَلُ فِي الْمُتَابَعَةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يَجْهَرُ لِمَنْ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ فَإِذَا اشْتَغَلَ أَحَدٌ مِنْ الْمُصَلِّينَ بِالْقِرَاءَةِ لِنَفْسِهِ كَانَ كَالْمُخَاطِبِ لِمَنْ لَا يَسْتَمِعُ إلَيْهِ كَالْخَطِيبِ الَّذِي يَخْطُبُ النَّاسَ وَكُلُّهُمْ يَتَحَدَّثُونَ وَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { كَحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } فَإِنَّهُ لَمْ يَفْقَهْ مَعْنَى الْمُتَابَعَةِ كَاَلَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ كَالْحِمَارِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوَّلَ رَأْسُهُ رَأْسَ حِمَارٍ } فَإِنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْإِمَامِ فَكَيْفَ يُسَابِقُهُ وَلِهَذَا ضَرَبَ عُمَرُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ : لَا وَحْدَك صَلَّيْت وَلَا بِإِمَامِك اقْتَدَيْت . وَأُمِرَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ سَهْوًا أَنْ يَعُودَ فَيَتَخَلَّفَ بِقَدْرِ مَا سَبَقَ بِهِ الْإِمَامَ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى ذَلِكَ وَذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ الْآثَارَ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ . فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى صَلَاةً فَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ } وَفِي تَمَامِهِ فَقُلْت : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إنِّي أَكُونُ أَحْيَانًا وَرَاءَ الْإِمَامِ قَالَ : اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك يَا فَارِسِيُّ فَإِنِّي سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { قَالَ اللَّهُ : قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ } الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ .
وَالْبُخَارِيُّ احْتَجَّ بِهِ فِي هَذَا الْمُصَنَّفِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُخْرِجْهُ فِي صَحِيحِهِ عَلَى عَادَتِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَإِسْنَادُهُ الْمَشْهُورُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ حَدِيثُ الْعَلَاءِ عَنْ ابْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِذٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ . قَالَ الْبُخَارِيُّ : ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرقاشي ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زريع ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ ثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ } قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَزَادَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ : وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ ثَنَا أَبَانُ ثَنَا عَامِرٌ الْأَحْوَلُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ مخدجة } . وَقَالَ : حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ بِشْرٍ ثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ السلعي ثَنَا حُسَينٌ الْمُعَلَّمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ فَهِيَ خِدَاجٌ }
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ ثنَا مُوسَى ثَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : فِي كُلِّ صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا أَعْلَنَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَحْنُ نُعْلِنُهُ وَمَا أَسَرَّ فَنَحْنُ نُسِرُّهُ . وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ أَبِي الزاهرية : ثَنَا كَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ سَمِعَ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفِي كُلِّ صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : وَجَبَتْ هَذِهِ } . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } فَإِنَّ الْمُسْتَمِعَ الْمُنْصِتَ قَارِئٌ بَلْ أَفْضَلُ مِنْ الْقَارِئِ لِنَفْسِهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا زَادَ } وَقَوْلُهُ : { أُمِرْنَا أَنْ نَقْرَأَ بِهَا وَمَا تَيَسَّرَ } فَإِنَّ الْمُسْتَمِعَ الْمُنْصِتَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِقِرَاءَةِ الزِّيَادَةِ . وَأَيْضًا : فَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ : مَا أَسْمَعَنَا أَسْمَعْنَاكُمْ وَمَا أَخْفَى عَلَيْنَا أَخْفَيْنَا عَلَيْكُمْ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِمَامُ وَإِلَّا فَالْمَأْمُومُ لَا يُسْمِعُ أَحَدًا قِرَاءَتَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { أَفِي كُلِّ صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ ؟ } وَقَوْلُهُ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } . فَصَلَاةُ الْمَأْمُومِ الْمُسْتَمِعِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِيهَا قِرَاءَةٌ بَلْ الْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ الْإِمَامُ ضَامِنٌ لِصَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ فِي ضِمْنِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَفِيهَا الْقِرَاءَةُ . وَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ إذَا كَانَ الْإِمَامُ أُمِّيًّا لَمْ يَقْتَدِ بِهِ الْقَارِئُ . فَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَا تُغْنِي عَنْ
الْمَأْمُومِ شَيْئًا بَلْ كُلٌّ يَقْرَأُ لِنَفْسِهِ : لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ عَجْزِهِ عَنْ الْقِرَاءَةِ وَعَجْزِهِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِاسْتِمَاعِ مَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَلَيْسَتْ قِرَاءَةً وَاجِبَةً . فَكَيْفَ لَا يُؤْمَرُ بِالِاسْتِمَاعِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ الْفَاتِحَةَ وَهِيَ الْفَرْضُ وَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِاسْتِمَاعِ التَّطَوُّعِ دُونَ اسْتِمَاعِ الْفَرْضِ . وَإِذَا كَانَ الِاسْتِمَاعُ لِلْقِرَاءَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَاجِبًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَالِاسْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْجَبُ . ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقِيلَ لَهُ : احْتِجَاجُك بِقَوْلِ اللَّهِ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } أَرَأَيْت إذَا لَمْ يَجْهَرْ الْإِمَامُ أَيَقْرَأُ خَلْفَهُ فَإِنْ قَالَ : لَا تَبْطُلُ دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ : { فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } وَإِنَّمَا يَسْتَمِعُ لِمَا يَجْهَرُ مَعَ أَنَّا نَسْتَعْمِلُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاسْتَمِعُوا لَهُ } نَقُولُ : يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ عِنْدَ السَّكَتَتَانِ . قَالَ سَمُرَةُ : { كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَتَانِ : سَكْتَةٌ حِينَ يُكَبِّرُ وَسَكْتَةٌ حِينَ يَفْرَغُ مِنْ قِرَاءَتِهِ } . وَقَالَ ابْنُ خثيم : قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : أَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَإِنْ سَمِعْت قِرَاءَتَهُ . فَإِنَّهُمْ قَدْ أَحْدَثُوا مَا لَمْ يَكُونُوا يَصْنَعُونَهُ إنَّ السَّلَفَ كَانَ إذَا أَمَّ أَحَدُهُمْ النَّاسَ كَبَّرَ ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ مَنْ خَلْفَهُ قَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثُمَّ قَرَأَ وَأَنْصَتَوا . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ سَكَتَ سَكْتَةً قَالَ :
وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَيْمُونُ بْنُ مهران وَغَيْرُهُمْ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَرَوْنَ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ سُكُوتِ الْإِمَامِ لِيَكُونَ مُقْتَدِيًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } فَتَكُونُ قِرَاءَتُهُ فِي السَّكْتَةِ . فَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ أَنْصَتَ حَتَّى يَكُونَ مُتَّبِعًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } . وَإِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ شَيْئًا مِنْ حَقِّ الصَّلَاةِ فَحَقٌّ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ أَنْ يُتِمُّوا قَالَ عَلْقَمَةُ : إنْ لَمْ يُتِمَّ الْإِمَامُ أَتْمَمْنَا . وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وحميد بْنُ هِلَالٍ : أَقْرَأُ بِالْحَمْدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . قَالَ : وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ يُجْزِئُهُ أَنْ يَقْرَأَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَقْرَأَ بِآيَةِ : يَنْقُضُ آخِرُهُمْ عَلَى أَوَّلِهِمْ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ . وَقِيلَ لَهُ : مَنْ أَبَاحَ لَك الثَّنَاءَ وَالْإِمَامُ يَقْرَأُ بِخَبَرِ أَوْ قِيَاسٍ وَحَظَرَ عَلَى غَيْرِك الْفَرْضَ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ وَلَا خَبَرَ عِنْدَك وَلَا اتِّفَاقَ لِأَنَّ عِدَّةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَرَوْا الثَّنَاءَ لِلْإِمَامِ وَلَا لِغَيْرِهِ : يُكَبِّرُونَ ثُمَّ يَقْرَءُونَ فَتَحَيَّرَ عِنْدَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ مَعَ أَنَّ هَذَا صَنَعَهُ فِي أَشْيَاءَ مِنْ الْفَرْضِ فَجَعَلَ الْوَاجِبَ أَهْوَنَ مِنْ التَّطَوُّعِ .
زَعَمْت (1) أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ أَوْ الْعِشَاءِ يُجْزِئُهُ وَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي رَكْعَةٍ مِنْ أَرْبَعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ لَمْ يُجْزِئْهُ . قُلْت : وَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي رَكْعَةٍ مِنْ الْمَغْرِبِ أَجْزَأَهُ وَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي رَكْعَةٍ مِنْ الْوِتْرِ لَمْ يُجْزِئْهُ فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قُلْت : أَمَّا سَكْتَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يُكَبِّرُ فَقَدْ بَيَّنَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ فِيهَا دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ لَمْ يَكُنْ سُكُوتًا مَحْضًا ؛ لِأَجْلِ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِينَ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُكَبِّرُ وَيَجْهَرُ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ يُعَلِّمُهُ النَّاسَ . وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ عَلَى مَنْ اسْتَفْتَحَ حَالَ الْجَهْرِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ هَلْ يَسْتَفْتِحُ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَيَتَعَوَّذُ أَوْ يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ إلَّا إذَا قَرَأَ أَوْ لَا يَسْتَفْتِحُ حَالَ الْجَهْرِ وَلَا يَتَعَوَّذُ فِيهِ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد . لَكِنَّ الْأَظْهَرَ مَا احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْصَاتِ يَقْتَضِي الْإِنْصَاتَ عَنْ كُلِّ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِمَاعِ الْقِرَاءَةِ مِنْ ثَنَاءٍ وَقِرَاءَةٍ وَدُعَاءٍ كَمَا يُنْصِتُ لِلْخُطْبَةِ بَلْ الْإِنْصَاتُ لِلْقِرَاءَةِ أَوْكَدُ . وَلَكِنْ إذَا سَكَتَ
الْإِمَامُ السَّكْتَةَ الْأُولَى لِلثَّنَاءِ فَهُنَا عِنْدَ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا اسْتِفْتَاحُ الْمَأْمُومِ أَوْلَى مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي هَذِهِ السَّكْتَةِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْقِرَاءَةِ تَحَصَّلَ لَهُ بِاسْتِمَاعِهِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَأَمَّا مَقْصُودُ الِاسْتِفْتَاحِ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِاسْتِفْتَاحِهِ لِنَفْسِهِ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْكُتُ مُسْتَفْتِحًا وَعُمَرُ كَانَ يَجْهَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ لِيُعَلِّمَهُ الْمَأْمُومِينَ فَعُلِمَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلْمَأْمُومِ . وَلَوْ اشْتَغَلَ عَنْهُ بِالْقِرَاءَةِ لَفَاتَهُ الِاسْتِفْتَاحُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْكُتُ لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُونَ فِي حَالِ سُكُوتِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لَا يَسْتَحِبُّونَ لِلْإِمَامِ سُكُوتًا لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مَنْ اسْتَحَبَّ لَهُ السُّكُوتَ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّ لَهُ فِي حَالِ سُكُوتِ الْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ وَلَا يَسْتَفْتِحَ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الدِّينَوَرِيِّ وَأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّ لَهُ الْقِرَاءَةَ بِالْفَاتِحَةِ فِي حَالِ جَهْرِ الْإِمَامِ . كَمَا اخْتَارَهُ جَدِّي أَبُو الْبَرَكَاتِ . وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِي وَغَيْرِهِمَا . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ فِي حَالِ سُكُوتِهِ وَيَقْرَأَ لِيَجْمَعَ بَيْنَهُمَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ لَهُ الْقِرَاءَةَ دُونَ السُّكُوتِ . كَمَا أَنَّ الَّذِينَ يَكْرَهُونَ قِرَاءَتَهُ حَالَ الْجَهْرِ : مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ لَهُ
الِاسْتِفْتَاحَ حَالَ الْجَهْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُهُ وَهُوَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَمَذْهَبُ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ فِي حَالِ سُكُوتِهِ لِلِاسْتِفْتَاحِ يَسْتَفْتِحُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ . وَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَنَّ عِدَّةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَرَوْا الِاسْتِفْتَاحَ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ : هُوَ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْإِمَامُ هُنَا لَا سُكُوتَ لَهُ وَحِينَئِذٍ فَإِنْ قَرَأْنَا مَعَهُ خَالَفْنَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَكِنْ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَسْتَفْتِحُ حِينَئِذٍ فَيَشْتَغِلُ بِالِاسْتِفْتَاحِ عَنْ اسْتِمَاعِ الْقِرَاءَةِ . وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا إلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَحْمِلُ الْقِرَاءَةَ عَنْ الْمَأْمُومِ وَلَا يَحْمِلُ عَنْهُ الِاسْتِفْتَاحَ لَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ وَالْمَأْمُومُ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ فَلَا يَشْتَغِلُ عَنْ ذَلِكَ بِثَنَاءِ كَمَا لَا يَشْتَغِلُ عَنْهُ بِقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ مِنْ الثَّنَاءِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَسْكُتُ لِلثَّنَاءِ وَأَدْرَكَهُ الْمَأْمُومُ أَثْنَى مَعَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْكُتُ أَوْ أَدْرَكَ الْمَأْمُومُ وَهُوَ يَقْرَأُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ فَلَا يَعْدِلُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ فِي وُجُوبِ الثَّنَاءِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد قِيلَ فِي وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَإِذَا نُهِيَ عَنْ الْقِرَاءَةِ لِاسْتِمَاعِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فَلِأَنْ يَنْهَى عَنْ الثَّنَاءِ أَوْلَى لِقَوْلِهِ :
{
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } وَإِلَّا تَنَاقَضُوا . كَمَا ذَكَرَهُ
الْبُخَارِيُّ .
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ : اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك يَا فَارِسِيُّ
فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : {
قَالَ اللَّهُ : قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ } إلَى
آخِرِهِ . فَقَدْ يُقَالُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْقِرَاءَةِ
؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَضِيلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ الْقِسْمَةِ لَا
لِقَوْلِهِ : { مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ
فَهِيَ خِدَاجٌ } فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ خِدَاجًا إذَا لَمْ
يَقْرَأْ لَأَمَرَهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ . وَلَمْ يُعَلِّلْ
الْأَمْرَ بِحَدِيثِ الْقِسْمَةِ . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : ذَكَرَهُ
تَوْكِيدًا أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا قَسَمَ الْقِرَاءَةَ قَسَمَ الصَّلَاةَ فَدَلَّ
عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الصَّلَاةِ إذْ لَوْ خَلَتْ عَنْهَا لَمْ
تَكُنْ الْقِسْمَةُ مَوْجُودَةً . وَعَلَى هَذَا يَبْقَى الْحَدِيثَانِ
مَدْلُولُهُمَا وَاحِدٌ . وَقَوْلُهُ : اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك . مُجْمَلٌ
فَإِنْ أَرَادَ مَا أَرَادَ غَيْرُهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ
أَوْ سُكُوتِ الْإِمَامِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخَالِفًا ؛ لِقَوْلِ أُولَئِكَ
يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مِمَّنْ رَوَى قَوْلَهُ : { وَإِذَا
قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } وَرَوَى قَوْلَهُ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ
الْكِتَابِ . وَمَا زَادَ } وَقَالَ : { تُجْزِئُ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَإِذَا
زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمَأْمُومَ
الْمُسْتَمِعَ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ فَإِنَّ هَذَا لَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ
عَلَى الْفَاتِحَةِ خَيْرًا لَهُ بَلْ الِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ خَيْرًا لَهُ
فَلَا يَجْزِمُ حِينَئِذٍ بِأَنَّهُ أَمَرَهُ
أَنْ يَقْرَأَ حَالَ اسْتِمَاعِهِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ بِلَفْظِ مُجْمَلٍ . قَالَ الْبُخَارِيُّ (*) : وَرَوَى ابْنُ صَالِحٍ عَنْ الْأَصْفَهَانِيِّ عَنْ الْمُخْتَارِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ " مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَدْ أَخْطَأَ الْفِطْرَةَ " قَالَ : وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمُخْتَارَ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ ابْنِهِ وَلَا أَبِيهِ مِنْ عَلِيٍّ وَلَا يَحْتَجُّ أَهْلُ الْحَدِيثِ بِمِثْلِهِ . وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ عَلِيٍّ أَوْلَى وَأَصَحُّ . قُلْت : حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ لَا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ إنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا قَالَهُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ إذَا سَمِعَ الْإِمَامَ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ . كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا . قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَرَوَى دَاوُد بْنُ قَيْسٍ عَنْ ابْنِ نِجَادٍ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ " وَدِدْت أَنَّ الَّذِي يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي فِيهِ جَمْرٌ " . قَالَ : وَهَذَا مُرْسَلٌ وَابْنُ نِجَادٍ لَمْ يُعْرَفُ وَلَا سُمِّيَ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ فِي فِي الْقَارِئِ خَلْفَ الْإِمَامِ جَمْرَةٌ ؛ لِأَنَّ الْجَمْرَةَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَتَوَهَّمَ ذَلِكَ عَلَى سَعْدٍ مَعَ إرْسَالِهِ وَضَعْفِهِ . قَالَ :
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كهيل عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ " وَدِدْت أَنَّ الَّذِي يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ مُلِئَ فُوهُ تِبْنًا " قَالَ : وَهَذَا مُرْسَلٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَخَالَفَهُ ابْنُ عَوْنٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ وَقَالَ : رَضْفًا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِوُجُوهِ . أَمَّا أَحَدُهَا : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَلَاعَنُوا بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا بِالنَّارِ وَلَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَمْلَأَ أَفْوَاهَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَحُذَيْفَةَ وَمَنْ ذَكَرْنَا رَضْفًا وَلَا تِبْنًا وَلَا تُرَابًا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إذَا ثَبَتَ الْخَبَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ فَلَيْسَ فِي قَوْلِ الْأَسْوَدِ وَنَحْوِهِ حُجَّةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ لَيْسَ أَحَدٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ : " وَدِدْت أَنَّ الَّذِي يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ مُلِئَ فُوهُ سُكْرًا " . قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَرَوَى عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : " مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ " وَلَا يُعْرَفُ لِهَذَا
الْإِسْنَادِ سَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَلَا يَصِحُّ مِثْلُهُ . قَالَ : وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَنَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْمُلَيْحِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو مجلز وَمَكْحُولٌ وَمَالِكٌ وَابْنُ عَوْنٍ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ يَرَوْنَ الْقِرَاءَةَ . ( وَكَانَ أَنَسٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ يَسْتَحِبَّانِ [ الْقِرَاءَةَ ] خَلْفَ الْإِمَامِ ) (*) . قُلْت : قَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْإِمَامِ . فَقَالَ : لَا قِرَاءَةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْقِرَاءَةَ مَعَهُ فِي الْجَهْرِ كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ . وَأَمَّا فِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ فَلَا يُقَالُ قَرَأَ مَعَهُ كَمَا لَا يُقَالُ إنَّ أَحَدَ الْمَأْمُومِينَ يَقْرَأُ مَعَ الْآخَرِ وَكَمَا لَا يُقَالُ : إنَّهُ اسْتَفْتَحَ مَعَهُ وَتَشَهَّدَ مَعَهُ وَسَبَّحَ مَعَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَكَذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ تَقَدَّمَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِإِنْصَاتِ الْمَأْمُومِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَكَانَ يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ . وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : إنْ كَانَ قَالَهُ أَوْ قَوْلُ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ نَقَلُوا عَنْهُ كَالْأَسْوَدِ :
وَدِدْت أَنَّ الَّذِي يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ مُلِئَ فُوهُ رَضْفًا أَوْ تِبْنًا أَوْ تُرَابًا " يَتَنَاوَلُ مَنْ قَرَأَ وَهُوَ يَسْمَعُ الْإِمَامَ يَقْرَأُ فَتَرَكَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُ سَعْدٍ إنْ كَانَ قَالَهُ : " وَدِدْت أَنَّ فِي فِيهِ جَمْرًا " لَا سِيَّمَا إذَا نَازَعَ الْإِمَامَ الْقِرَاءَةَ بِأَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَوْ مَنْ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ يَسْمَعُ حِسَّهُ فَيَكُونُ مِمَّنْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ : { مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ } وَقَالَ فِيهِ : { عَلِمْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خالجنيها } وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَ فِي السِّرِّ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِحَيْثُ يُخَالِجُ الْإِمَامَ وَيُنَازِعُهُ أَوْ يُخَالِجُ وَيُنَازِعُ غَيْرَهُ مِنْ الْمَأْمُومِينَ لَكَانَ مُسِيئًا فِي ذَلِكَ . وَقَوْلُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ : " وَدِدْت أَنَّهُ مُلِئَ فُوهُ سُكْرًا " إذَا قَرَأَ حَيْثُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْقِرَاءَةُ لِقِرَاءَتِهِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ السِّرِّ وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ " يَتَنَاوَلُ مَنْ تَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ وَفَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ . فَقَرَأَ وَهُوَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ وَفِي بُطْلَانِ صَلَاةِ هَذَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَنْ قَالَ هَذَا مِنْ السَّلَفِ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ فَقَدْ يُرِيدُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا . كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَخْلُصَ إلَى جَلْدِهِ فَتَحْرُقَ ثِيَابَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ } وَتَعْذِيبُ الْإِنْسَانِ بِعَذَابِ فِي الدُّنْيَا أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ رُكُوبِ
مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ . فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ قِرَاءَتَهُ حَالَ اسْتِمَاعِ إمَامِهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ تَرَكَ بِهَا مَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَفَعَلَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ جَازَ أَنْ يَقُولَ ؛ لِأَنْ يَحْصُلَ بِفِيهِ شَيْءٌ يُؤْذِيهِ فَيَمْنَعَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ كَمَا قَدْ يُقَالُ : لِمَنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ مُحَرَّمَةٍ : لَوْ كُنْت أَخْرَسَ لَكَانَ خَيْرًا لَك وَلَا يُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّا نَحْنُ نُعَذِّبُهُ بِذَلِكَ لَكِنْ يُرَادُ لَوْ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِهَذَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِي الذَّنْبِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمتلاعنين : { عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ } وَالْوَاحِدُ مِنْ السَّلَفِ قَدْ يَذْكُرُ مَا فِي الْفِعْلِ مِنْ الْوَعِيدِ وَإِنْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ مُتَأَوِّلًا لِقَوْلِ عَائِشَةَ " أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَتُوبَ " وَلَيْسَ فِي هَذَا تَلَاعُنٌ بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا بِالنَّارِ وَلَا تَعْذِيبٌ بِعَذَابِ اللَّهِ بَلْ فِيهِ تَمَنَّى أَنْ يُبْتَلَى بِمَا يَمْنَعُهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ . وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَذًى لَهُ . وَالْعَالِمُ قَدْ يَذْكُرُ الْوَعِيدَ فِيمَا يَرَاهُ ذَنْبًا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُتَأَوِّلَ مَغْفُورٌ لَهُ لَا يَنَالُهُ الْوَعِيدُ . لَكِنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُقْتَضِي لِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ عِنْدَهُ فَكَيْفَ وَهُوَ لَمْ يُذْكَرْ إلَّا مَا يَمْنَعُهُ عَمَّا يَرَاهُ ذَنْبًا .
وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : " وَدِدْت أَنَّهُ مُلِئَ فُوهُ سُكْرًا " يَتَنَاوَلُ مَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَمَعَ هَذَا فَمَنْ فَعَلَ الْقِرَاءَةِ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَانَ مُثَابًا عَلَى اجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ يَقُولُ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ وَاجِبٌ أَوْ مُحَرَّمٌ مَا يُنَاسِبُ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَمَنَّى أَنْ يَمْلَأَ أَفْوَاهَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رَضْفًا وَلَا تِبْنًا ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ عَامَّةُ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي السِّرِّ وَذَمِّ الذَّامِّينَ لِمَنْ يَقْرَأُ فِي الْجَهْرِ . فَلَمْ يَتَوَارَدْ الذَّمُّ وَالْفِعْلُ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُمَا تَوَارَدَا مِنْ السَّلَفِ فَهُوَ كَتَوَارُدِهِمَا مِنْ الْخَلَفِ . وَحِينَئِذٍ فَهَذَا يَتَكَلَّمُ بِاجْتِهَادِهِ وَهَذَا بِاجْتِهَادِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ لِبَعْضِ أَكَابِرِهِمْ قُدَّامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِمَّا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ التَّأْوِيلِ فِي الْقِتَالِ فِي الْفِتَنِ وَالدُّعَاءِ فِي الْقُنُوتِ بِاللَّعْنِ وَغَيْرِهِ مَعَ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ : { لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } وَقَوْلِهِ : { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ } فَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَعِيدُ يَنْدَفِعُ عَنْهُمْ بِالتَّأْوِيلِ
فِي الدِّمَاءِ فَلِأَنْ يَنْدَفِعَ بِالتَّأْوِيلِ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ حَرَّقَ بِالنَّارِ الْمُرْتَدِّينَ وَكَذَلِكَ الصِّدِّيقُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ حَرَّقَ فَإِذَا جَازَ هَذَا عَلَى الْخِلَافِ مَعَ ثُبُوتِ النَّصِّ بِخِلَافِهِ ؛ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَغْلَطَ بَعْضُهُمْ فِيمَا يَرَاهُ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِ مُتَوَاتِرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي السِّرِّ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بَلْ وَنَفْيُ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ مُطْلَقًا مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُمْ . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْكِتَابِ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ ثَنَا زِيَادٌ وَهُوَ الْجَصَّاصُ ثَنَا الْحَسَنُ حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ قَالَ : { لَا تُزَكُّوا صَلَاةَ مُسْلِمٍ إلَّا بِطَهُورِ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَرَاءَ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ بِفَاتِحَةٍ وَآيَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ } . فَلَمْ يُوجِبْ الْفَاتِحَةَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ إمَامًا كَمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الطَّهَارَةَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ بَلْ أَوْجَبَهَا مَعَ الِانْفِرَادِ .
ثُمَّ رَوَى الْبُخَارِيُّ قَوْلَهُ : { لَا تَقْرَءُوا خَلْفِي إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } وَذَكَرَ طُرُقَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ فَقَالَ حَدَّثَنَا شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَنَا النَّضْرُ ثَنَا عِكْرِمَةُ ثَنَا عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ . عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ (1) .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
النَّاسُ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ مُتَنَازِعُونَ فِي الْوُجُوبِ
وَالِاسْتِحْبَابِ : فَقِيلَ تُكْرَهُ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ . وَقِيلَ : بَلْ تَجِبُ بِالْفَاتِحَةِ مُطْلَقًا كَمَا
هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَغَيْرِهِ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
حَزْمٍ وَزَادَ لَا تُشْرَعُ بِغَيْرِ ذَلِكَ بِحَالِ . وَقِيلَ : بَلْ تَجِبُ بِهَا
فِي صَلَاةِ السِّرِّ فَقَطْ كَقَوْلِهِ الْقَدِيمِ . وَالْإِمَامُ أَحْمَد ذَكَرَ
إجْمَاعَ النَّاسِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ .
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ وَلَا تُكْرَهُ مُطْلَقًا بَلْ
تُسْتَحَبُّ الْقِرَاءَةُ فِي صَلَاةِ السِّرِّ وَفِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ
بِالْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا
. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ سَكَتَاتٌ فَقَرَأَ فِيهَا . فَهَلْ
تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ أَمْ تُسْتَحَبُّ بِالْفَاتِحَةِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .
فَمَذْهَبُ أَحْمَد وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا تُكْرَهُ بِالْفَاتِحَةِ
وَغَيْرِهَا وَاخْتَارَ طَائِفَةٌ أَنَّهَا تُسْتَحَبُّ
حِينَئِذٍ بِالْفَاتِحَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّي وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِي . وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي قِرَاءَتِهَا خُرُوجًا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهَا فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَقْرَأْ فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ خِلَافٌ بِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَ فَإِنَّمَا يَفُوتُهُ الِاسْتِمَاعُ حِينَ قِرَاءَتِهَا فَقَطْ . الثَّانِي : الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ حَدِيثُ عبادة : " { إذَا كُنْتُمْ وَرَائِي أَوْ وَرَاءَ الْإِمَامِ فَلَا تَقْرَءُوا إلَّا بِأُمِّ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا } وَهُوَ حُجَّةُ الْمُوجِبِينَ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : النَّهْيُ إنَّمَا هُوَ حَالُ اسْتِمَاعِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فَقَطْ فَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَالْقِرَاءَةُ مَشْرُوعَةٌ . فَعُلِمَ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى الْفَاتِحَةُ حَالَ النَّهْيِ عَنْ غَيْرِهَا وَهَذَا يُفِيدُ قِرَاءَتَهَا حَالَ اسْتِمَاعِ الْجَهْرِ . ثُمَّ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قِيلَ : إنَّهَا وَاجِبَةٌ وَأَنَّهُ لَا يَقْرَأُ بِغَيْرِهَا بِحَالِ . كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ . وَقِيلَ : بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ وَالنَّهْيُ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِهَا حَالَ الْجَهْرِ فَلَا يُفِيدُ النَّهْيَ مُطْلَقًا . وَقِيلَ : بَلْ يُفِيدُ اسْتِثْنَاءَ قِرَاءَتِهَا مِنْ النَّهْيِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّهْيِ
لَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ . وَقَوْلُهُ : " { فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا } تَعْلِيلٌ بِوُجُوبِ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ . فَإِنَّ كَوْنَهَا رُكْنًا اقْتَضَى أَنْ تُسْتَثْنَى فِي هَذِهِ الْحَالِ لِلْمَأْمُومِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَفْرُوضَةً عَلَيْهِ كَفَرَائِضِ الْكِفَايَاتِ إذَا قَامَ بِهَا طَائِفَةٌ سَقَطَ بِهَا الْفَرْضُ ثُمَّ قَامَ بِهَا آخَرُونَ فَإِنَّهُ يُقَالُ : هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ إسْقَاطُهَا بِفِعْلِ الْغَيْرِ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : الْجِنَازَةُ تُفْعَلُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ لِأَنَّهَا فَرْضٌ وَإِنْ فُعِلَتْ مَرَّةً ثَانِيَةً فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا تُفْعَلُ فَرْضًا فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ إسْقَاطُهَا بِفِعْلِ الْغَيْرِ . وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ هِيَ رُكْنٌ وَلِلْمَأْمُومِ أَنْ يَجْتَزِئَ بِقِرَاءَةِ إمَامِهِ وَلَهُ أَنْ يُسْقِطَهَا بِنَفْسِهِ . وَهَذَا كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الَّتِي يَتَحَمَّلُهَا الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ كَصَدَقَةِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهَا هَلْ تَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ ابْتِدَاءً أَوْ تَحَمُّلًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَصَحُّهُمَا : أَنَّهَا تُحْمَلُ فَلَوْ أَخْرَجَتْهَا الزَّوْجَةُ لَجَازَ فَتَكُونُ الزَّوْجَةُ مُخَيَّرَةً بَيْنَ أَنْ تُخْرِجَهَا وَبَيْنَ أَنْ تُلْزِمَ الزَّوْجَ بِإِخْرَاجِهَا فَلَوْ أَخْرَجَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ أَخْرَجَتْهَا هِيَ وَلَمْ تَعْتَدَّ بِذَلِكَ الْإِخْرَاجِ لَكَانَ ، لَكِنَّ الْإِمَامَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قِرَاءَةٍ وَهُوَ يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنْ الْمَأْمُومِ . فَالْقِرَاءَةُ الْوَاحِدَةُ تُجْزِي عَنْ إمَامِهِ وَعَنْهُ وَإِنْ قَرَأَ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ فَحَسَنٌ كَسَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لَكِنَّ هَذَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْأَئِمَّةِ .
وَأَمَّا
الَّذِينَ كَرِهُوا الْقِرَاءَةَ فِي حَالِ اسْتِمَاعِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ مُطْلَقًا
وَهُمْ الْجُمْهُورُ . فَحُجَّتُهُمْ قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فَأَمَرَ
بِالْإِنْصَاتِ مُطْلَقًا وَمَنْ قَرَأَ وَهُوَ يَسْتَمِعُ فَلَمْ يُنْصِتْ .
وَمَنْ أَجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِغَيْرِ حَالِ قِرَاءَةِ
الْفَاتِحَةِ فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ
أَحْمَد مِنْ إجْمَاعِ النَّاسِ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّلَاةِ وَفِي
الْخُطْبَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : " { وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } "
. وَأَيْضًا : فَالْمُسْتَمِعُ لِلْفَاتِحَةِ هُوَ كَالْقَارِئِ ؛ وَلِهَذَا
يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهَا . وَقَالَ : " { إذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ
فَأَمِّنُوا فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } . وَأَمَّا الْإِنْصَاتُ الْمَأْمُورُ بِهِ حَالَ
قِرَاءَةِ الْإِمَامِ ؛ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُتَابَعَةِ لِلْإِمَامِ فَهُوَ
فَاعِلٌ لِلِاتِّبَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَيْ بِمَقْصُودِ الْقِرَاءَةِ وَإِذَا
قَرَأَ الْفَاتِحَةَ تَرَكَ الْمُتَابَعَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا بِالْإِنْصَاتِ
وَتَرَكَ الْإِنْصَاتَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَعْتَضْ عَنْ
هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إلَّا بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ الَّتِي حَصَلَ
الْمَقْصُودُ مِنْهَا بِاسْتِمَاعِهِ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ وَتَأْمِينِهِ عَلَيْهَا
. وَكَانَ قَدْ تَرَكَ الْإِنْصَاتَ الْمَأْمُورَ بِهِ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ
فَفَاتَهُ هَذَا الْوَاجِبُ وَلَمْ يَعْتَضْ عَنْهُ إلَّا مَا حَصَلَ مَقْصُودُهُ
بِدُونِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا دَارَ
الْأَمْرُ بَيْنَ تَفْوِيتِ أَحَدِ أَمْرَيْنِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ تَحْصِيلَ أَحَدِهِمَا كَانَ تَحْصِيلُ مَا يَفُوتُ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ أَوْلَى مِنْ تَحْصِيلِ مَا يَقُومُ بَدَلُهُ مَقَامَهُ . وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَمِعُ كَالْقَارِئِ لَكَانَ الْمُسْتَحَبُّ حَالَ جَهْرِهِ بِغَيْرِ الْفَاتِحَةِ أَنْ يَقْرَأَ الْمَأْمُومُ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ لِلْمَأْمُومِ حَالَ سَمَاعِ الْقِرَاءَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ أَنْ يَسْتَمِعَ وَلَا يَقْرَأَ : عُلِمَ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ بِالِاسْتِمَاعِ وَإِلَّا كَانَ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِ التِّلَاوَةَ بَلْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْإِنْصَاتَ حَالَ الْقِرَاءَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ فَالْإِنْصَاتُ حَالَ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ أَوْلَى . وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ طَعَنَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا قَوْلٌ مُطْلَقٌ . وَأَيْضًا فَإِنْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى الْإِمَامِ الَّذِي لَهُ سَكَتَاتٌ يُقَرِّرُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَهُ لَيْسَ فِيهِ عُمُومٌ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : " { إذَا كُنْتُمْ وَرَائِي فَلَا تَقْرَءُوا إلَّا بِأُمِّ الْكِتَابِ } وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ النَّهْيِ لَهُمْ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ كَمَا رَوَى ذَلِكَ سَمُرَةُ وأبي بْنُ كَعْبٍ . كَمَا ثَبَتَ سُكُوتُهُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالدُّعَاءِ الَّذِي رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ فِي هَذَا السُّكُوتِ يُمْكِنُ فِيهِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَكَيْفَ إذَا قَرَأَ بَعْضَهَا فِي سَكْتَةٍ وَبَعْضَهَا فِي سَكْتَةٍ أُخْرَى . فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي قَوْلِهِ : " { إذَا كُنْتُمْ وَرَائِي فَلَا تَقْرَءُوا إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ بِهَا فِي حَالِ الْجَهْرِ
فَإِنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ النَّهْيِ فَلَا يُفِيدُ إلَّا الْإِذْنَ الْمُطْلَقَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَنْهِيِّينَ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِهَا لَا يُمْكِنُ قِرَاءَتُهَا فِي حَالِ سَكَتَاتِهِ . يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ جُمْهُورَ الْمُنَازِعِينَ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ فِي صَلَاةِ السِّرِّ يَقْرَأُ بِالْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا وَيُسَلِّمُونَ أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَقْرَأَ بِمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ قَرَأَ وَأَنَّ الْبَعِيدَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ يَقْرَأُ بِالْفَاتِحَةِ وَبِمَا زَادَ . فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا النَّهْيُ خَاصًّا فِيمَنْ صَلَّى خَلْفَهُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ . وَاسْتِثْنَاءُ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِإِمْكَانِ قِرَاءَتِهَا فِي سَكَتَاتِهِ . يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ } وَفِي رِوَايَةٍ { بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَرَوَاهَا (1) عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : { كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إمَامِكُمْ قُلْنَا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : لَا تَفْعَلُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَالدَّارَقُطْنِي وَقَالَ إسْنَادَهُ حَسَنٌ .
وَرَوَاهَا (1) عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : { صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَقَالَ : هَلْ تَقْرَءُونَ إذَا جَهَرْت بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ بَعْضُنَا : إنَّا لَنَصْنَعُ ذَلِكَ قَالَ : فَلَا وَأَنَا أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ فَلَا تَقْرَءُوا بِشَيْءِ مِنْ الْقُرْآنِ إذَا جَهَرْت بِالْقِرَاءَةِ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ وَالنَّسَائِي وَالدَّارَقُطْنِي . وَلَهُ أَيْضًا " { لَا يَجُوزُ صَلَاةٌ لَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ فِيهَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ } وَقَالَ إسْنَادٌ حَسَنٌ وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ : هَلْ يَقْرَءُونَ وَرَاءَهُ بِشَيْءِ أَمْ لَا ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمَأْمُومِ لَكَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ لَفَعَلَهُ عَامَّتُهُمْ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِفْهَامِهِ . فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ قِرَاءَةً خَلْفَهُ حَالَ الْجَهْرِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ نَهَاهُمْ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ أُمِّ الْكِتَابِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْتِبَاسِ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ تَكُونُ بِالْقِرَاءَةِ مَعَهُ حَالَ الْجَهْرِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَالْعِلَّةُ مُتَنَاوِلَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ فَإِنَّ مَا يُوجِبُ ثِقَلَ الْقِرَاءَةِ وَالْتِبَاسَهَا عَلَى الْإِمَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَهَذَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْتَمِّينَ الَّذِينَ يَرَوْنَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ حَالَ جَهْرِ الْإِمَامِ وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً فَيُثْقِلُونَ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْإِمَامِ وَيُلْبِسُونَهَا عَلَيْهِ وَيُلْبِسُونَ عَلَى مَنْ يُقَارِبُهُمْ الْإِصْغَاءَ وَالِاسْتِمَاعَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ فَيُفَوِّتُونَ مَقْصُودَ جَهْرِ الْإِمَامِ وَمَقْصُودَ اسْتِمَاعِ الْمَأْمُومِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَكُونُ مَكْرُوهًا ثُمَّ إذَا فُرِضَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَأْمُومِينَ يَقْرَءُونَ خَلْفَهُ فَنَفْسُ جَهْرِهِ لَا لِمَنْ يَسْتَمِعُ فَلَا يَكُونُ فِيهِ فَائِدَةٌ لِقَوْلِهِ " { إذَا أَمَّنَ فَأَمِّنُوا } وَيَكُونُونَ قَدْ أَمَّنُوا عَلَى قُرْآنٍ لَمْ يَسْتَمِعُوهُ وَلَا اسْتَمَعَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ السُّكُوتَ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ بِقَدْرِ مَا يَقْرَءُونَ وَهُمْ لَا يُوجِبُونَ السُّكُوتَ الَّذِي يَسَعُ قَدْرَ الْقِرَاءَةِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِبُّونَهُ ، فَعُلِمَ أَنَّ اسْتِحْبَابَ السُّكُوتِ يُنَاسِبُ اسْتِحْبَابَ الْقِرَاءَةِ فِيهِ وَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ وَاجِبَةً لَوَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ بِقَدْرِهَا سُكُوتًا فِيهِ ذِكْرٌ أَوْ سُكُوتًا مَحْضًا وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ السُّكُوتَ لِأَجْلِ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ . يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ الْإِنْصَاتَ حَالَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَنَا فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا فَقَالَ : أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمّكُمْ أَحَدُكُمْ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِي . قِيلَ لِمُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هُوَ صَحِيحٌ يَعْنِي : " { إذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } قَالَ : عِنْدِي صَحِيحٌ . قِيلَ لَهُ : لِمَ لَا تَضَعُهُ هَاهُنَا ؟ يَعْنِي فِي كِتَابِهِ قَالَ : لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٍ وَضَعْته هَاهُنَا . إنَّمَا وَضَعْت هَاهُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ يَعْنِي مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَجْمَعْ عَلَيْهَا وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى وَرَوَاهَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى مُسْلِمٌ . وَلَمْ يَرْوِهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَعَنْ ابْنِ أكيمة الليثي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ : هَلْ قَرَأَ ؟ يَعْنِي أَحَدًا مِنَّا آنِفًا قَالَ رَجُلٌ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهَ قَالَ : إنِّي أَقُولُ : مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ } فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ الصَّلَاةِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ . قَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ قَالَ قَوْلُهُ : فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ إلَى آخِرِهِ . مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ البيهقي : ابْنُ أكيمة رَجُلٌ مَجْهُولٌ لَمْ يُحَدِّثْ إلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ
وَحْدَهُ وَلَمْ يُحَدِّثْ عَنْهُ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ وَجَوَابُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي : صَحِيحُ الْحَدِيثِ حَدِيثُهُ مَقْبُولٌ وَتَزْكِيَةُ أَبِي حَاتِمٍ هُوَ فِي الْغَايَةِ . [ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ البستي أَنَّهُ قَالَ : رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ وَابْنُ ابْنِهِ عَمْرُو بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أكيمة بْنِ عُمَرَ ] (*) . الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أكيمة إلَّا مَا فِي حَدِيثِ عبادة الَّذِي اعْتَمَدَهُ البيهقي وَنَحْوُهُ . مِنْ أَنَّهُمْ قَرَءُوا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَنَّهُ قَالَ : " { مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ } . الثَّالِثُ : أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ أكيمة رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ فَإِذَا كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مُسَلَّمَ صِحَّةِ مَتْنِهِ وَأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ وَاَلَّذِي احْتَجَّ بِهِ مُنَازِعُوهُ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَانَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مَعْمُولًا بِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَمَا فِي حَدِيثِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ قَدْ انْفَرَدَ بِهَا مِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَرْوِهَا إلَّا بَعْضُ أَهْلِ السُّنَنِ وَطَعَنَ فِيهَا الْأَئِمَّةُ وَكَانَتْ الزِّيَادَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا أَحَقَّ بِالْقَدْحِ فِي الْأَصْلِ الْمُتَّفَقِ عَلَى رِوَايَتِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَانْتَهَى النَّاسُ . فَهَذَا إذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ كَانَ تَابِعًا فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ أَعْلَمُ التَّابِعِينَ فِي زَمَنِهِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي وَالْهِمَمُ عَلَى نَقْلِ مَا كَانَ يُفْعَلُ فِيهَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَنْفَرِدُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ فَجَزْمُ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِرَاءَةَ خَلْفَهُ حَالَ الْجَهْرِ بَعْدَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَيُوَافِقُ قَوْلَهُ : { وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَاتِحَةً وَلَا غَيْرَهَا . وَتَحَقَّقَ أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ إمَّا ضَعِيفَةُ الْأَصْلِ أَوْ لَمْ يَحْفَظْ رَاوِيهَا لَفْظَهَا وَأَنَّ مَعْنَاهَا كَانَ مِمَّا يُوَافِقُ سَائِرَ الرِّوَايَاتِ وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الثَّابِتَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْمُحْتَمَلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَتَمَامُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ يَتَّضِحُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ بسبح اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : أَيُّكُمْ قَرَأَ ؟ أَوْ أَيُّكُمْ الْقَارِئُ ؟ قَالَ رَجُلٌ : أَنَا فَقَالَ : قَدْ ظَنَنْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خالجنيها } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ خَلْفَهُ فِي صَلَاةِ السِّرِّ بِزِيَادَةِ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهُ لَهُمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ السِّرِّ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ لَا يَقْرَأُ خَلْفَهُ بِحَالِ أَوْ لَا يَقْرَأُ بِزِيَادَةِ عَلَى الْفَاتِحَةِ . وَقَوْلُهُ : " { قَدْ ظَنَنْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجْنِيهَا } لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ أَصْلِ
الْقِرَاءَةِ وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَرْفَعَ حِسَّهُ بِحَيْثُ يُخَالِجُ الْإِمَامَ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ وَكَمَا قَدْ يَفْعَلُ الْإِمَامُ . كَمَا قَالَ أَبُو قتادة : كَانَ يُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا . وَفِيهِ أَيْضًا : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ فِي السِّرِّ لَا بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا . إذْ لَوْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ الْقِرَاءَةَ خَلْفَهُ وَهُوَ لَمْ يُنْكِرْ قِرَاءَةَ سُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ قَالَ : " { أَيُّكُمْ قَرَأَ أَوْ أَيُّكُمْ الْقَارِئُ ؟ } بَلْ مِنْ الْمَعْلُومِ فِي الْعَادَةِ أَنَّ الْقَارِئَ خَلْفَهُ لَمْ يَقْرَأْ بسبح إلَّا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي السِّرِّ لَا بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا . كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا اسْتَخْلَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ حِينَ ذَهَبَ يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ثُمَّ رَجَعَ يَقْرَأُ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى أَبُو بَكْرٍ وَكَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ لَمَّا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ } وَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَرْضًا عَلَى الْمَأْمُومِ مُطْلَقًا لَمْ تَسْقُطْ بِسَبْقِ وَلَا جَهْلٍ . كَمَا أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ قَالَ لَهُ : " { ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } وَأَمَرَ الَّذِي صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ .
وَأَيْضًا فَتَحَمُّلُ الْإِمَامِ الْقِرَاءَةَ عَنْ الْمَأْمُومِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقْرَأَ فَيَأْتِي هُوَ بِالْكَمَالِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ الَّذِي لَا اسْتِمَاعَ مَعَهُ وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ مُتَيَقَّنٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْقَارِئَ لِلْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ السَّاكِتِ الَّذِي لَا يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ غَيْرِهِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : " { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ } فَكَرَاهَةُ هَذَا الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا وَجْهَ لَهُ أَصْلًا وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَمِعِ فَإِنَّ اسْتِمَاعَهُ يَقُومُ مَقَامَ قِرَاءَتِهِ . وَدَلِيلُ ذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ حَالَ الْقِرَاءَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ بِالْإِنْصَاتِ إمَّا أَمْرَ إيجَابٍ وَإِمَّا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَهُمْ الْقِرَاءَةُ حَالَ الِاسْتِمَاعِ فَلَوْلَا أَنَّ الِاسْتِمَاعَ كَالْقِرَاءَةِ بَلْ وَأَفْضَلَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالْإِنْصَاتِ مَنْهِيًّا عَنْ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْأَدْنَى وَيَنْهَى عَنْ الْأَفْضَلِ . وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عبادة " { فَلَا تَقْرَءُوا بِشَيْءِ مِنْ الْقُرْآنِ إذَا جَهَرْت بِالْقِرَاءَةِ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } فَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ الْقِرَاءَةِ إذَا جَهَرَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ : فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَهَذَا الْمُفَسَّرُ يُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ . قَالَ : " { تَقْرَءُونَ خَلْفَ إمَامِكُمْ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ قَالَ : فَلَا تَفْعَلُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } يَعْنِي فِي الْجَهْرِ . وَيُبَيِّنُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { كَانُوا يَقْرَءُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : خَلَطْتُمْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ } فَهَذَا يَكُونُ فِي صَلَاةِ جَهْرٍ أَوْ فِي صَلَاةِ سِرٍّ رَفَعَ الْمَأْمُومُ فِيهَا صَوْتَهُ حَتَّى سَمِعَهُ الْإِمَامُ وَإِلَّا فَالْمَأْمُومُ الَّذِي يَقْرَأُ سِرًّا فِي نَفْسِهِ لَا يَخْلِطُ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا يَخْلِطُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ ؛ بِخِلَافِ الْمَأْمُومِ الَّذِي يَقْرَأُ حَالَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فَإِنَّ الْإِمَامَ قَطْعًا يُخْلَطُ عَلَيْهِ حَتَّى إنَّ مِنْ الْمَأْمُومِينَ مَنْ يُعِيدُ الْفَاتِحَةَ مَرَّاتٍ لِأَنَّ صَوْتَ الْإِمَامِ يَشْغَلُهُ قَطْعًا . بَلْ إذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَ الْمَأْمُومَ يُخْلَطُ عَلَيْهِ وَيَلْبَسُ وَيُخَالِجُ الْإِمَامَ فَكَيْفَ بِالْإِمَامِ فِي حَالِ جَهْرِهِ مَعَ الْمَأْمُومِ وَالْمَأْمُومُ يَلْبِسُ عَلَى الْمَأْمُومِ حَالَ الْجَهْرِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَهَرَ وَحْدَهُ كَانَ أَدْنَى حِسٍّ يَلْبِسُ عَلَيْهِ وَيُثْقِلُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْأَصْوَاتُ هَادِئَةً هُدُوءًا تَامًّا وَإِلَّا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ وَلَبِسَ عَلَيْهِ وَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ . وَلِهَذَا تَجِدُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ سَمَاعَ الْقَصَائِدِ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ يُشَوِّشُونَ بِأَدْنَى حِسٍّ وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يُشَوِّشُ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُشَوِّشُ عَلَيْهِ بِأَدْنَى حِسٍّ فَكَيْفَ مَنْ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ قَرَأَ قَارِئٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ عَلَى جَمَاعَةٍ وَهُمْ لَا يُنْصِتُونَ لَهُ بَلْ
يَقْرَءُونَ لِأَنْفُسِهِمْ لَتَشَوَّشَ عَلَيْهِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْقِيَاسِيَّةِ الْقَوْلُ الْمُعْتَدِلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ تُبَيِّنُ الصَّوَابَ فَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْإِمَامِ . فَقَالَ : " لَا قِرَاءَةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَمَعْلُومُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ مِنْ أَعْلَمِ الصَّحَابَةِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ عَالِمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِالْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا حَالَ الْجَهْرِ مَشْرُوعَةً لَمْ يَقُلْ لَا قِرَاءَةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ . وَقَوْلُهُ : " مَعَ الْإِمَامِ " إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ قَرَأَ مَعَهُ حَالَ الْجَهْرِ . فَأَمَّا حَالَ الْمُخَافَتَةِ فَلَا هَذَا يَقْرَأُ مَعَ هَذَا وَلَا هَذَا مَعَ هَذَا وَكَلَامُ زَيْدٍ هَذَا يَنْفِي الْإِيجَابَ وَالِاسْتِحْبَابَ وَيُثْبِتُ النَّهْيَ وَالْكَرَاهَةَ . وَعَنْ وَهْبِ بْنِ كيسان أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : مَنْ صَلَّى رَكْعَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَلَمْ يُصَلِّ ؛ إلَّا وَرَاءَ الْإِمَامِ . رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ . وَجَابِرٌ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ تِلْكَ الطَّبَقَةِ وَرَوَى مَالِكٌ أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَانَ إذَا سُئِلَ : هَلْ يَقْرَأُ أَحَدٌ خَلْفَ الْإِمَامِ ؟ يَقُولُ : إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ
خَلْفَ الْإِمَامِ فَحَسْبُهُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيَقْرَأْ . قَالَ : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَابْنُ عُمَرَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالسُّنَّةِ وأتبعهم لَهَا . وَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمَأْمُومِ لَكَانَ هَذَا مِنْ الْعِلْمِ الْعَامِّ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانًا عَامًّا وَلَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ لَكَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ عَمَلًا عَامًّا وَلَكَانَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ لَمْ يَخْفَ مِثْلُ هَذَا الْوَاجِبِ عَلَى ابْنِ عُمَرَ حَتَّى يَتْرُكَهُ مَعَ كَوْنِهِ وَاجِبًا عَامَّ الْوُجُوبِ عَلَى عَامَّةِ الْمُصَلِّينَ قَدْ بَيَّنَ بَيَانًا عَامًّا بِخِلَافِ مَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا فَإِنَّ هَذَا قَدْ يَخْفَى . وَرَوَى البيهقي عَنْ أَبِي وَائِلٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَالَ : أَنْصِتْ لِلْقُرْآنِ فَإِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا وَسَيَكْفِيك ذَاكَ الْإِمَامُ . فَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَاهُ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ ؛ لِأَجْلِ الْإِنْصَاتِ . وَالِاشْتِغَالُ بِهِ لَمْ يَنْهَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَمِعًا كَمَا فِي صَلَاةِ السِّرِّ وَحَالِ السَّكَتَاتِ . فَإِنَّ الْمَأْمُومَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُنْصِتًا وَلَا مُشْتَغِلًا بِشَيْءِ . وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ ابْنَ مَسْعُودٍ مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَمُبَيِّنٌ لِمَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَحَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي تَقَدَّمَ قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمُسْنَدًا وَمُرْسَلًا فَأَمَّا الْمَوْقُوفُ عَلَى جَابِرٍ فَثَابِتٌ بِلَا نِزَاعٍ وَكَذَلِكَ الْمُرْسَلُ ثَابِتٌ بِلَا نِزَاعٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ } وَأَمَّا الْمُسْنَدُ فَتُكُلِّمَ فِيهِ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الجعفي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ . وَجَابِرٌ الجعفي كَذَّبَهُ أَيُّوبُ وَزَائِدَةُ وَوَثَّقَهُ الثَّوْرِيُّ وَسَعِيدٌ وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ : لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا كَرَامَةَ لَيْسَ بِشَيْءِ . وَقَالَ النَّسَائِي مَتْرُوكٌ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يُتَكَلَّمْ فِي جَابِرٍ لِحَدِيثِهِ إنَّمَا تُكُلِّمَ فِيهِ لِرَأْيِهِ . قَالَ أَبُو دَاوُد لَيْسَ عِنْدِي بِالْقَوِيِّ مِنْ حَدِيثِهِ وَقَوْلُهُ " { فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ } لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ الْقِرَاءَةُ كَمَا احْتَجَّ بِذَلِكَ مَنْ احْتَجَّ بِهِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ فَإِنَّ قَوْلَهُ : " { قِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْتَزِئَ بِذَلِكَ وَأَنَّ الْوَاجِبَ يَسْقُطُ عَنْهُ بِذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ كَمَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ الْوَاجِبَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَلَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ . وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَبُّ . وَأَقْصَى مَا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ كَأَنَّهُ قَدْ قَرَأَ . ثُمَّ إنَّ أَذْكَارَ الصَّلَاةِ وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا إذَا فَعَلَهَا الْعَبْدُ مَرَّةً
لَمْ يُكْرَهْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهَا فِي مَحَلِّهَا مَرَّةً ثَانِيَةً لِغَرَضِ صَحِيحٍ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " { اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَدِّدُ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ كَمَا رَدَّدَ قَوْلَهُ : { إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } آخِرُ مَا وُجِدَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ
أَيْضًا :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ : فَالنَّاسُ فِيهَا طَرَفَانِ وَوَسَطٌ
. مِنْهُمْ : مَنْ يَكْرَهُ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى يَبْلُغَ بِهَا
بَعْضُهُمْ إلَى التَّحْرِيمِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ صَلَاةُ السِّرِّ وَالْجَهْرِ
وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْل الْكُوفَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ :
كَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَكِّدُ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ
الْإِمَامِ حَتَّى يُوجِبَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَإِنْ سَمِعَ الْإِمَامَ
يَقْرَأُ وَهَذَا هُوَ الْجَدِيدُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ طَائِفَةٍ
مَعَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ السِّرِّ وَفِي
حَالِ سَكَتَاتِ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْبَعِيدِ الَّذِي لَا
يَسْمَعُ الْإِمَامَ . وَأَمَّا الْقَرِيبُ الَّذِي يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ
فَيَأْمُرُونَهُ بِالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ إمَامِهِ ؛ إقَامَةً لِلِاسْتِمَاعِ
مَقَامَ التِّلَاوَةِ . وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ : كَمَالِكِ وَأَحْمَد
وَغَيْرِهِمْ
مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَفُقَهَاءِ الْآثَارِ . وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عَمَلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَتَتَّفِقُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ . وَهَذَا الِاخْتِلَافُ شَبِيهٌ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ : هَلْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ ؟ أَمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُصَلِّي لِنَفْسِهِ ؟ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ . فَأَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِيهَا وَمَبْنِيَّةٌ عَلَيْهَا مُطْلَقًا حَتَّى أَنَّهُ يُوجِبُ الْإِعَادَةَ عَلَى الْمَأْمُومِ حَيْثُ وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ عَلَى الْإِمَامِ . وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ لَا فِي فَرْضٍ وَلَا سُنَّةٍ ؛ وَلِهَذَا أُمِرَ الْمَأْمُومُ بِالتَّسْمِيعِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ وَلَمْ يُبْطِلْ صَلَاتَهُ بِنَقْصِ صَلَاةِ الْإِمَامِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ مُسْتَثْنَاةٍ كَتَحَمُّلِ الْإِمَامِ عَنْ الْمَأْمُومِ سُجُودَ السَّهْوِ وَتَحَمُّلِ الْقِرَاءَةِ إذَا كَانَ الْمَأْمُومُ مَسْبُوقًا وَإِبْطَالِ صَلَاةِ الْقَارِئِ خَلْفَ الْأُمِّيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَحْمَد : فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ . كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاسْتِمَاعِ لِلْقِرَاءَةِ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَالْمُشَارَكَةِ فِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ وَلَا يَقُولُ الْمَأْمُومُ عِنْدَهُمَا سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ بَلْ يَحْمَدُ جَوَابًا لِتَسْمِيعِ الْإِمَامِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهَا . فِيمَا يُعْذَرَانِ فِيهِ دُونَ مَا لَا يُعْذَرَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِمَامَةِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ قِرَاءَةِ الْمُؤْتَمِّ خَلْفَ الْإِمَامِ : جَائِزَةٌ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا
قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ : هَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَبْطُلُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ أَيُّمَا أَفْضَلُ
فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ ؟ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : أَنَّ
الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي حَالِ سُكُوتِ الْإِمَامِ : كَصَلَاةِ
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْأَخِيرَتَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
وَكَذَلِكَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ إذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ .
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يَقْرَأَ خَلْفَهُ
بِحَالِ وَالسَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْرَأُ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَقْرَأُ
خَلْفَ الْإِمَامِ . وَأَمَّا إذَا سَمِعَ الْمَأْمُومُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ
فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَمِعُ وَلَا يَقْرَأُ بِحَالِ
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَمَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقْرَأُ حَالَ الْجَهْرِ بِالْفَاتِحَةِ خَاصَّةً
وَمَذْهَبُ
طَائِفَةٍ
كالأوزاعي وَغَيْرِهِ مِنْ الشَّامِيِّينَ يَقْرَؤُهَا اسْتِحْبَابًا وَهُوَ
اخْتِيَارُ جَدِّنَا . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هُوَ الْفَرْقُ
بَيْنَ حَالِ الْجَهْرِ وَحَالِ الْمُخَافَتَةِ فَيَقْرَأُ فِي حَالِ السِّرِّ
وَلَا يَقْرَأُ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فَلْيَسْتَمِعْ
وَإِذَا سَكَتَ فَلْيَقْرَأْ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ الَّذِي
لَا اسْتِمَاعَ مَعَهُ . وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ
حَسَنَاتٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا
يَفُوتُ هَذَا الْأَجْرُ بِلَا فَائِدَةٍ بَلْ يَكُونُ إمَّا مُسْتَمِعًا وَإِمَّا
قَارِئًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا تُدْرَكُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ ؟ .
فَأَجَابَ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تُدْرَكُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا : أَنَّهُمَا لَا يُدْرَكَانِ إلَّا بِرَكْعَةِ
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ اخْتَارَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَيْضًا كَأَبِي الْمَحَاسِنِ الرياني وَغَيْرِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا يُدْرَكَانِ بِتَكْبِيرَةٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . ( وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُدْرَكُ إلَّا بِرَكْعَةِ وَالْجَمَاعَةَ تُدْرَكُ بِتَكْبِيرَةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ؛ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا أَنَّ قَدْرَ التَّكْبِيرَةِ لَمْ يُعَلِّقْ بِهِ الشَّارِعُ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ لَا فِي الْوَقْتِ وَلَا فِي الْجُمُعَةِ وَلَا الْجَمَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا . فَهُوَ وَصْفٌ مُلْغًى فِي نَظَرِ الشَّارِعِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ . الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ فَتَعْلِيقُهَا بِالتَّكْبِيرَةِ إلْغَاءٌ لِمَا اعْتَبَرَهُ وَاعْتِبَارٌ لِمَا أَلْغَاهُ وَكُلُّ ذَلِكَ فَاسِدٌ فِيمَا اعْتَبَرَ فِيهِ الرَّكْعَةَ وَعَلَّقَ الْإِدْرَاكَ بِهَا فِي الْوَقْتِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ
الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ وَإِذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ } . وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ : " { إذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً } فَالْمُرَادُ بِهَا الرَّكْعَةُ التَّامَّةُ كَمَا فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ ؛ وَلِأَنَّ الرَّكْعَةَ التَّامَّةَ تُسَمَّى بَاسِمِ الرُّكُوعِ فَيُقَالُ : رَكْعَةٌ وَبِاسْمِ السُّجُودِ فَيُقَالُ سَجْدَةٌ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ . الثَّالِثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ الْإِدْرَاكَ مَعَ الْإِمَامِ بِرَكْعَةِ وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ } وَهَذَا نَصٌّ رَافِعٌ لِلنِّزَاعِ . الرَّابِعُ أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُدْرَكُ إلَّا بِرَكْعَةِ كَمَا أَفْتَى بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَنَسٌ وَغَيْرُهُمْ . وَلَا يُعْلَمُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ . وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ وَلِهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ طَرَدَ أَصْلَهُ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا وَلَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الثَّابِتَةَ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ تُبْطِلُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ . الْخَامِسُ : أَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُهَا
جَمِيعَهَا مُنْفَرِدًا فَلَا يَكُونُ قَدْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ شَيْئًا يُحْتَسَبُ لَهُ بِهِ فَلَا يَكُونُ قَدْ اجْتَمَعَ هُوَ وَالْإِمَامُ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ فَتَكُونُ صَلَاتُهُ جَمِيعًا صَلَاةَ مُنْفَرِدٍ . يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ إلَّا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَإِذَا أَدْرَكَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ لَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِمَا فَعَلَهُ مَعَهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ مَعَهُ الْقِيَامَ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَجِلْسَةَ الْفَصْلِ وَلَكِنْ لَمَّا فَاتَهُ مُعْظَمُ الرَّكْعَةِ وَهُوَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ فَاتَتْهُ الرَّكْعَةُ فَكَيْفَ يُقَالُ مَعَ هَذَا أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُمْ مَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِهِ فَإِدْرَاكُ الصَّلَاةِ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ نَظِيرُ إدْرَاكِ الرَّكْعَةِ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَدْ أَدْرَكَ مَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ وَإِذَا لَمْ يُدْرِكْ مِنْ الصَّلَاةِ رَكْعَةً كَانَ كَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ الرُّكُوعَ مَعَ الْإِمَامِ فِي فَوْتِ الرَّكْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يُدْرِكْ مَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِهِ وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الْقِيَاسِ . ( السَّادِسُ : أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا : أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا ائْتَمَّ بِمُقِيمِ وَأَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً فَمَا فَوْقَهَا فَإِنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ وَإِنْ أَدْرَكَ مَعَهُ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ صَلَّاهَا مَقْصُورَةً نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ قَدْ ائْتَمَّ بِمُقِيمِ فِي جُزْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ فَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ وَإِذَا لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُ رَكْعَةً فَصَلَاتُهُ صَلَاةُ مُنْفَرِدٍ فَيُصَلِّيهَا مَقْصُورَةً .
وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحَائِضَ إذَا طَهُرَتْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ لَزِمَهَا الْعَصْرُ وَإِنْ طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ لَزِمَهَا الْعِشَاءُ وَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ بِأَقَلَّ مِنْ مِقْدَارِ رَكْعَةٍ لَمْ يَلْزَمْهَا شَيْءٌ . وَأَمَّا الظُّهْرُ وَالْمَغْرِبُ : فَهَلْ يَلْزَمُهَا بِذَلِكَ ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ ؟ فَقِيلَ : لَا يَلْزَمُهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : يَلْزَمُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ . ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِيمَا تَلْزَمُ بِهِ الصَّلَاةُ الْأُولَى عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ بِمَا تَجِبُ بِهِ الثَّانِيَةُ وَهَلْ هُوَ رَكْعَةٌ ؟ أَوْ تَكْبِيرَةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَالثَّانِي لَا تَجِبُ إلَّا بِأَنْ تُدْرَكَ زَمَنًا يَتَّسِعُ لِفِعْلِهَا وَهُوَ أَصَحُّ . وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا الْوَقْتُ وَهِيَ طَاهِرَةٌ ثُمَّ حَاضَتْ هَلْ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُهَا كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي يَلْزَمُهَا كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُوجِبُونَ عَلَيْهَا الصَّلَاةَ فِيمَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْوُجُوبُ عَلَى قَوْلَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا قَدْرُ تَكْبِيرَةٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَالثَّانِي : أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا زَمَنٌ تَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَفِعْلِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ : هَلْ يَلْزَمُهَا فِعْلُ الثَّانِيَةِ مِنْ الْمَجْمُوعَتَيْنِ مَعَ الْأُولَى ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد . وَالْأَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهَا لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرِ جَدِيدٍ وَلَا أَمْرَ هُنَا يَلْزَمُهَا بِالْقَضَاءِ وَلِأَنَّهَا أَخَّرَتْ تَأْخِيرًا جَائِزًا فَهِيَ غَيْرُ مُفْرِطَةٍ . وَأَمَّا النَّائِمُ أَوْ النَّاسِي وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُفْرِطٍ أَيْضًا فَإِنَّ مَا يَفْعَلُهُ لَيْسَ قَضَاءً بَلْ ذَلِكَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِ حِينَ يَسْتَيْقِظُ وَيَذْكُرُ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ بَعْدَ وَقْتِهَا وَإِنَّمَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِالْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ لِمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ كَأَمْرِهِ لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ بِالْإِعَادَةِ لَمَّا تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا وَكَأَمْرِهِ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ مُنْفَرِدًا بِالْإِعَادَةِ لَمَّا تَرَكَ الْمُصَافَّةَ الْوَاجِبَةَ وَكَأَمْرِهِ
لِمَنْ
تَرَكَ لُمْعَةً مِنْ قَدَمِهِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ بِالْإِعَادَةِ لَمَّا
تَرَكَ الْوُضُوءَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَأَمَرَ النَّائِمَ وَالنَّاسِيَ بِأَنْ
يُصَلِّيَا إذَا ذَكَرَا وَذَلِكَ هُوَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِمَا وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَرْفَعُ قَبْلَ الْإِمَامِ وَيَخْفِضُ وَنُهِيَ فَلَمْ يَنْتَهِ فَمَا
حُكْمُ صَلَاتِهِ ؟ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا مُسَابَقَةُ الْإِمَامِ فَحَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . لَا يَجُوزُ
لِأَحَدِ أَنْ يَرْكَعَ قَبْلَ إمَامِهِ وَلَا يَرْفَعَ قَبْلَهُ وَلَا يَسْجُدَ
قَبْلَهُ . وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
: " { لَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ فَإِنِّي مَهْمَا
أَسْبِقْكُمْ بِهِ إذَا رَكَعْت تُدْرِكُونِي بِهِ إذَا رَفَعْت إنِّي قَدْ بدنت }
وَقَوْلِهِ " { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ
فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ
وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ } { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَتِلْكَ بِتِلْكَ وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ
فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ يَسْمَعُ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا كَبَّرَ
وَسَجَدَ فَكَبِّرُوا وَاسْجُدُوا فَإِنَّ الْإِمَامَ يَسْجُدُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ
قَبْلَكُمْ فَتِلْكَ بِتِلْكَ } .
وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ } وَهَذَا لِأَنَّ الْمُؤْتَمَّ مُتَّبِعٌ لِلْإِمَامِ مُقْتَدٍ بِهِ وَالتَّابِعُ الْمُقْتَدِي لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى مَتْبُوعِهِ وَقُدْوَتِهِ فَإِذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ كَانَ كَالْحِمَارِ الَّذِي لَا يَفْقَهُ مَا يُرَادُ بِعَمَلِهِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ : " { مَثَلُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } . وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ وَالتَّعْزِيرَ الَّذِي يُرْدِعُهُ وَأَمْثَالَهُ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ : أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُسَابِقُ الْإِمَامَ فَضَرَبَهُ . وَقَالَ : لَا وَحْدَك صَلَّيْت وَلَا بِإِمَامِك اقْتَدَيْت . وَإِذَا سَبَقَ الْإِمَامَ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ لَكِنْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ بِقَدْرِ مَا سَبَقَ بِهِ الْإِمَامَ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُقَدَّرَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَمَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ سَهْوًا لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِي الصَّلَاةِ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا سَهْوًا فَكَانَ كَمَا لَوْ زَادَ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا سَهْوًا وَذَلِكَ لَا يَبْطُلُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَكِنْ مَا يَفْعَلُهُ قَبْلَ الْإِمَامِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ فِعْلِ الْإِمَامِ لَيْسَ وَقْتًا لِفِعْلِ الْمَأْمُومِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَبَّرَ قَبْلَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُجْزِئُهُ عَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُحْرِمَ إذَا حَلَّ الْوَقْتُ لَا قَبْلَهُ وَأَنْ يُحْرِمَ الْمَأْمُومُ إذَا أَحْرَمَ الْإِمَامُ لَا قَبْلَهُ . فَكَذَلِكَ الْمَأْمُومُ
لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ رُكُوعُهُ وَسُجُودُهُ إذَا رَكَعَ الْإِمَامُ وَسَجَدَ لَا قَبْلَ ذَلِكَ فَمَا فَعَلَهُ سَابِقًا وَهُوَ سَاهٍ عُفِيَ لَهُ عَنْهُ وَلَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِهِ فَلِهَذَا أَمَرَهُ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ أَنْ يَتَخَلَّفَ بِمِقْدَارِهِ لَيَكُونَ فِعْلُهُ بِقَدْرِ فِعْلِ الْإِمَامِ . وَأَمَّا إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ عَمْدًا فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَمَنْ أَبْطَلَهَا قَالَ : إنَّ هَذَا زَادَ فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا فَتَبْطُلُ كَمَا لَوْ فَعَلَ قَبْلَهُ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا عَمْدًا فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِلَا رَيْبٍ وَكَمَا لَوْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا عَمْدًا . وَقَدْ قَالَ الصَّحَابَةُ لِلْمُسَابِقِ : لَا وَحْدَك صَلَّيْت وَلَا بِإِمَامِك اقْتَدَيْت وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ وَحْدَهُ وَلَا مُؤْتَمًّا فَلَا صَلَاةَ لَهُ وَعَلَى هَذَا فَعَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يَتُوبَ مِنْ الْمُسَابَقَةِ وَيَتُوبَ مِنْ نَقْرِ الصَّلَاةِ وَتَرْكِ الطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ فَعَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ أَنْ يَأْمُرُوهُ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَيَنْهَوْهُ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ . فَإِنْ قَامَ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَإِلَّا أَثِمُوا كُلُّهُمْ . وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَعْزِيرِهِ وَتَأْدِيبِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَعَلَ ذَلِكَ وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا هَجْرَهُ وَكَانَ ذَلِكَ مُؤَثِّرًا فِيهِ هَجَرَهُ حَتَّى يَتُوبَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ
:
عَنْ الْمُصَافَحَةِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ : هَلْ هِيَ سُنَّةٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ لَيْسَتْ مَسْنُونَةً بَلْ
هِيَ بِدْعَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الْإِمَامَةِ
سُئِلَ :
رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْإِمَامَةِ هَلْ فِعْلُهَا أَفْضَلُ أَمْ تَرْكُهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
بَلْ يُصَلِّي بِهِمْ وَلَهُ أَجْرٌ بِذَلِكَ . كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ .
" { ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ يَوْمَ الْقِيَامَة : رَجُلٌ أَمَّ
قَوْمًا وَهُمْ لَهُ رَاضُونَ } . الْحَدِيثَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ : أَحَدُهُمَا حَافِظٌ الْقُرْآنَ وَهُوَ وَاعِظٌ يَحْضُرُ
الدُّفَّ وَالشَّبَّابَةَ وَالْآخَرُ عَالِمٌ مُتَوَرِّعٌ . فَأَيُّهُمَا أَوْلَى
بِالْإِمَامَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { يَؤُمُّ الْقَوْمَ
أَقْرَأُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا
فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا } . فَإِذَا كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَعْلَمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْآخَرِ مُتَعَيِّنًا فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَاجِرًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُسُوقِ وَالْآخَرُ مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى فَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِهَا وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَقْرَأَ وَأَعْلَمَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْفَاسِقِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَنَهْيَ تَنْزِيهٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { لَا يَؤُمَّن فَاجِرٌ مُؤْمِنًا إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسَوْطِ أَوْ عَصًا } . وَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْفَاسِقِ مَعَ إمْكَانِ تَوْلِيَةِ الْبَرِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الصَّلَاةُ خَلْفَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَخَلْفَ أَهْلِ
الْفُجُورِ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ
: لَكِنْ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ فِي هَؤُلَاءِ أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَاحِدِ مِنْ
هَؤُلَاءِ فِي الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَيْرِهِ .
فَإِنَّ مَنْ كَانَ مُظْهِرًا لِلْفُجُورِ أَوْ الْبِدَعِ يَجِبُ الْإِنْكَارُ
عَلَيْهِ وَنَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ هَجْرُهُ لِيَنْتَهِيَ
عَنْ فُجُورِهِ وَبِدْعَتِهِ ؛ وَلِهَذَا فَرَّقَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ بَيْنَ
الدَّاعِيَةِ وَغَيْرِ الدَّاعِيَةِ فَإِنَّ الدَّاعِيَةَ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ
فَاسْتَحَقَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السَّاكِتِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ
مَنْ أَسَرَّ بِالذَّنْبِ فَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ فَإِنَّ
الْخَطِيئَةَ إذَا خَفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا وَلَكِنْ إذَا
أُعْلِنَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ
الْمُنَافِقُونَ تُقْبَلُ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ وَتُوكَلُ سَرَائِرُهُمْ إلَى
اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ مَنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ .
فَإِذَا كَانَ دَاعِيَةً مُنِعَ مِنْ وِلَايَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَشَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا لِأَجْلِ فَسَادِ الصَّلَاةِ أَوْ اتِّهَامِهِ فِي شَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ فَإِذَا أَمْكَنَ لِإِنْسَانِ أَلَّا يُقَدِّمَ مُظْهِرًا لِلْمُنْكَرِ فِي الْإِمَامَةِ وَجَبَ ذَلِكَ . لَكِنْ إذَا وَلَّاهُ غَيْرُهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ صَرْفُهُ عَنْ الْإِمَامَةِ أَوْ كَانَ هُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ صَرْفِهِ إلَّا بِشَرِّ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ مَا أَظْهَرَهُ مِنْ الْمُنْكَرِ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْفَسَادِ الْقَلِيلِ بِالْفَسَادِ الْكَثِيرِ وَلَا دَفْعُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ بِتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَمَطْلُوبُهَا تَرْجِيحُ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَجْتَمِعَا جَمِيعًا وَدَفْعُ شَرِّ الشَّرَّيْنِ إذَا لَمْ يَنْدَفِعَا جَمِيعًا . فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ مَنْعُ الْمُظْهِرِ لِلْبِدْعَةِ وَالْفُجُورِ إلَّا بِضَرَرِ زَائِدٍ عَلَى ضَرَرِ إمَامَتِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بَلْ يُصَلِّي خَلْفَهُ مَا لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا إلَّا خَلْفَهُ كَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَالْجَمَاعَةِ . إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إمَامٌ غَيْرُهُ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْحَجَّاجِ وَالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ وَغَيْرِهِمَا الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ فَإِنَّ تَفْوِيتَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الِاقْتِدَاءِ فِيهِمَا بِإِمَامِ فَاجِرٍ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ عَنْهُمَا لَا يَدْفَعُ فُجُورَهُ فَيَبْقَى تَرْكُ الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِدُونِ دَفْعِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ . وَلِهَذَا كَانَ التَّارِكُونَ لِلْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ خَلْفَ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ مُطْلَقًا مَعْدُودِينَ عِنْدَ
السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ فِعْلُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ خَلْفَ الْبَرِّ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهَا خَلْفَ الْفَاجِرِ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا صَلَّى خَلْفَ الْفَاجِرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ لِلْعُلَمَاءِ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : أَنَّهُ يُعِيدُ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا لَا يُشْرَعُ بِحَيْثُ تَرَكَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِنْكَارِ بِصَلَاتِهِ خَلْفَ هَذَا فَكَانَتْ صَلَاتُهُ خَلْفَهُ مَنْهِيًّا عَنْهَا فَيُعِيدُهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُعِيدُ . قَالَ : لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي نَفْسِهَا صَحِيحَةٌ وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَرْكِ الْإِنْكَارِ هُوَ أَمْرٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ الصَّلَاةِ وَهُوَ يُشْبِهُ الْبَيْعَ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الصَّلَاةُ إلَّا خَلْفَهُ كَالْجُمُعَةِ فَهُنَا لَا تُعَادُ الصَّلَاةُ وَإِعَادَتُهَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا قِيلَ : إنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْفَاسِقِ لَا تَصِحُّ أُعِيدَتْ الْجُمُعَةُ خَلْفَهُ وَإِلَّا لَمْ تُعَدْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . بَلْ النِّزَاعُ فِي الْإِعَادَةِ حَيْثُ يُنْهَى الرَّجُلُ عَنْ الصَّلَاةِ . فَأَمَّا إذَا أُمِرَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَهُ فَالصَّحِيحُ هُنَا أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ .
وَأَمَّا الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ يَكْفُرُ بِبِدْعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَهُنَاكَ قَدْ تَنَازَعُوا فِي نَفْسِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ خَلْفَهُ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ يَكْفُرُ أُمِرَ بِالْإِعَادَةِ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ خَلْفَ كَافِرٍ لَكِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالنَّاسُ مُضْطَرِبُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِيهَا رِوَايَتَانِ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ فِيهَا قَوْلَانِ . وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد أَيْضًا فِيهَا رِوَايَتَانِ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكَلَامِ فَذَكَرُوا لِلْأَشْعَرِيِّ فِيهَا قَوْلَيْنِ . وَغَالِبُ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ فِيهَا تَفْصِيلٌ . وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا فَيُطْلَقُ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِ صَاحِبِهِ وَيُقَالُ مَنْ قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ لَكِنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي قَالَهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا . وَهَذَا كَمَا فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ نُصُوصِ الْوَعِيدِ حَقٌّ لَكِنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ لَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْوَعِيدِ فَلَا يُشْهَدُ لِمُعَيَّنِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِالنَّارِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ ثُبُوتِ مَانِعٍ فَقَدْ لَا يَكُونُ التَّحْرِيمُ بَلَغَهُ وَقَدْ يَتُوبُ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَقَدْ تَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ عَظِيمَةٌ تَمْحُو عُقُوبَةَ ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ وَقَدْ يُبْتَلَى بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُ عَنْهُ وَقَدْ يَشْفَعُ فِيهِ شَفِيعٌ مُطَاعٌ .
وَهَكَذَا الْأَقْوَالُ الَّتِي يَكْفُرُ قَائِلُهَا قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَمْ تَبْلُغْهُ النُّصُوصُ الْمُوجِبَةُ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَقَدْ تَكُونُ عِنْدَهُ وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فَهْمِهَا وَقَدْ يَكُونُ قَدْ عَرَضَتْ لَهُ شُبُهَاتٌ يَعْذُرُهُ اللَّهُ بِهَا فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مُجْتَهِدًا فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَأَخْطَأَ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ خَطَأَهُ كَائِنًا مَا كَانَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَسَائِلِ النَّظَرِيَّةِ أَوْ الْعَمَلِيَّةِ هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَجَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَمَا قَسَّمُوا الْمَسَائِلَ إلَى مَسَائِلِ أُصُولٍ يَكْفُرُ بِإِنْكَارِهَا وَمَسَائِلِ فُرُوعٍ لَا يَكْفُرُ بِإِنْكَارِهَا . فَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ نَوْعٍ وَتَسْمِيَتِهِ مَسَائِلَ الْأُصُولِ وَبَيْنَ نَوْعٍ آخَرَ وَتَسْمِيَتِهِ مَسَائِلَ الْفُرُوعِ فَهَذَا الْفَرْقُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ لَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَعَنْهُمْ تَلَقَّاهُ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِهِمْ وَهُوَ تَفْرِيقٌ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ : مَا حَدُّ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الَّتِي يَكْفُرُ الْمُخْطِئُ فِيهَا ؟ وَمَا الْفَاصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ ؟ فَإِنْ قَالَ : مَسَائِلُ الْأُصُولِ هِيَ مَسَائِلُ الِاعْتِقَادِ وَمَسَائِلُ الْفُرُوعِ هِيَ مَسَائِلُ الْعَمَلِ . قِيلَ لَهُ : فَتَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَى رَبَّهُ أَمْ لَا ؟ وَفِي أَنَّ عُثْمَانَ أَفْضَلُ مِنْ عَلِيٍّ أَمْ عَلِيٌّ أَفْضَلُ ؟ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَتَصْحِيحِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ هِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَلَا كُفْرَ فِيهَا بِالِاتِّفَاقِ
وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ هِيَ مَسَائِلُ عَمَلِيَّةٌ وَالْمُنْكِرُ لَهَا يَكْفُرُ بِالِاتِّفَاقِ . وَإِنْ قَالَ الْأُصُولُ : هِيَ الْمَسَائِلُ الْقَطْعِيَّةُ قِيل لَا : كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْعَمَلِ قَطْعِيَّةٌ وَكَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً وَكَوْنُ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ وَقَدْ تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ رَجُلٍ قَطْعِيَّةً لِظُهُورِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ لَهُ كَمَنْ سَمِعَ النَّصَّ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَيَقَّنَ مُرَادَهُ مِنْهُ . وَعِنْدَ رَجُلٍ لَا تَكُونُ ظَنِّيَّةً فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً لِعَدَمِ بُلُوغِ النَّصِّ إيَّاهُ أَوْ لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ أَوْ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ بِدَلَالَتِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثُ الَّذِي قَالَ لِأَهْلِهِ : " { إذَا أَنَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ . فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ بِرَدِّ مَا أَخَذَ مِنْهُ وَالْبَحْرَ بِرَدِّ مَا أَخَذَ مِنْهُ وَقَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت ؟ قَالَ خَشْيَتَك يَا رَبِّ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ } فَهَذَا شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ . وَفِي الْمَعَادِ بَلْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَعُودُ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ اللَّهُ عَلَيْهِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ بَيْنَ النَّوْعِ وَالْعَيْنِ وَلِهَذَا حَكَى طَائِفَةٌ عَنْهُمْ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَفْهَمُوا غَوْرَ قَوْلِهِمْ فَطَائِفَةٌ تَحْكِي عَنْ أَحْمَد فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ رِوَايَتَيْنِ مُطْلَقًا حَتَّى تَجْعَلَ الْخِلَافَ فِي تَكْفِيرِ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ الْمُفَضِّلَةِ لِعَلِيِّ وَرُبَّمَا رَجَّحَتْ التَّكْفِيرَ وَالتَّخْلِيدَ فِي النَّارِ وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ أَحْمَد وَلَا غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ بَلْ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُ الْمُرْجِئَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ وَلَا يُكَفِّرُ مَنْ يُفَضِّلُ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ بَلْ نُصُوصُهُ صَرِيحَةٌ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ تَكْفِيرِ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . وَإِنَّمَا كَانَ يُكَفِّرُ الْجَهْمِيَّة الْمُنْكِرِينَ لِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ ؛ لِأَنَّ مُنَاقَضَةَ أَقْوَالِهِمْ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ : وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلُ الْخَالِقِ وَكَانَ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِمْ حَتَّى عَرَفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ وَأَنَّهُ يَدُورُ عَلَى التَّعْطِيلِ وَتَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة مَشْهُورٌ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . لَكِنْ مَا كَانَ يَكْفُرُ أَعْيَانُهُمْ فَإِنَّ الَّذِي يَدْعُو إلَى الْقَوْلِ أَعْظَمُ مِنْ الَّذِي يَقُولُ بِهِ وَاَلَّذِي يُعَاقِبُ مُخَالِفَهُ أَعْظَمُ مِنْ الَّذِي يَدْعُو فَقَطْ وَاَلَّذِي يُكَفِّرُ مُخَالِفَهُ أَعْظَمُ مِنْ الَّذِي يُعَاقِبُهُ وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِينَ كَانُوا مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ يَقُولُونَ بِقَوْلِ الْجَهْمِيَّة : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَيَدْعُونَ النَّاسَ إلَى ذَلِكَ
ويمتحنونهم وَيُعَاقِبُونَهُمْ إذَا لَمْ يُجِيبُوهُمْ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ لَمْ يُجِبْهُمْ . حَتَّى أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا أَمْسَكُوا الْأَسِيرَ لَمْ يُطْلِقُوهُ حَتَّى يُقِرَّ بِقَوْلِ الْجَهْمِيَّة : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَلَا يُوَلُّونَ مُتَوَلِّيًا وَلَا يُعْطُونَ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إلَّا لِمَنْ يَقُولُ ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا فَالْإِمَامُ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَرَحَّمَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ لِمَنْ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ لِلرَّسُولِ وَلَا جَاحِدُونَ لِمَا جَاءَ بِهِ وَلَكِنْ تَأَوَّلُوا فَأَخْطَئُوا وَقَلَّدُوا مَنْ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ لَمَّا قَالَ لِحَفْصِ الْفَرْدِ حِينَ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ : كَفَرْت بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ . بَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُفْرٌ وَلَمْ يَحْكُمْ بِرِدَّةِ حَفْصٍ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ بِهَا وَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُرْتَدٌّ لَسَعَى فِي قَتْلِهِ وَقَدْ صَرَّحَ فِي كُتُبِهِ بِقَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ . وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي الْقَدَرِيِّ : إنْ جَحَدَ عِلْمَ اللَّهِ كَفَرَ وَلَفْظُ بَعْضِهِمْ نَاظَرُوا الْقَدَرِيَّةَ بِالْعِلْمِ فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ خَصَمُوا وَإِنْ جَحَدُوهُ كَفَرُوا . وَسُئِلَ أَحْمَد عَنْ الْقَدَرِيِّ : هَلْ يَكْفُرُ ؟ فَقَالَ : إنْ جَحَدَ الْعِلْمَ كَفَرَ وَحِينَئِذٍ فَجَاحِدُ الْعِلْمِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجَهْمِيَّة . وَأَمَّا قَتْلُ الدَّاعِيَةِ إلَى
الْبِدَعِ
فَقَدْ يُقْتَلُ لِكَفِّ ضَرَرِهِ عَنْ النَّاسِ كَمَا يُقْتَلُ الْمُحَارِبُ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كُفْرًا فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أُمِرَ
بِقَتْلِهِ يَكُونُ قَتْلُهُ لِرِدَّتِهِ وَعَلَى هَذَا قُتِلَ غَيْلَانُ
الْقَدَرِيُّ وَغَيْرُهُ قَدْ يَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَهَذِهِ
الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا
عَلَيْهَا تَنْبِيهًا .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا مَنْ لَا يُقِيمُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فَلَا يُصَلِّي خَلْفَهُ إلَّا
مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فَلَا يُصَلِّي خَلْفَ الْأَلْثَغِ الَّذِي يُبَدِّلُ حَرْفًا
بِحَرْفِ إلَّا حَرْفَ الضَّادِ إذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرَفِ الْفَمِ كَمَا هُوَ
عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ : مِنْهُمْ مَنْ قَالَ :
لَا يُصَلَّى خَلْفَهُ وَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ أَبْدَلَ
حَرْفًا بِحَرْفِ ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَ الضَّادِ الشِّدْقُ وَمَخْرَجَ الظَّاءِ
طَرَفُ الْأَسْنَانِ . فَإِذَا قَالَ ( وَلَا الظَّالِّينَ ) كَانَ مَعْنَاهُ
ظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَصِحُّ وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ
الْحَرْفَيْنِ فِي السَّمْعِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَحِسُّ أَحَدِهِمَا مِنْ جِنْسِ
حِسِّ الْآخَرِ لِتَشَابُهِ الْمَخْرَجَيْنِ . وَالْقَارِئُ إنَّمَا يَقْصِدُ
الضَّلَالَ الْمُخَالِفَ لِلْهُدَى وَهُوَ الَّذِي يَفْهَمُهُ الْمُسْتَمِعُ
فَأَمَّا الْمَعْنَى الْمَأْخُوذُ مِنْ ظَلَّ فَلَا يَخْطِرُ بِبَالِ أَحَدٍ
وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَرْفَيْنِ
الْمُخْتَلِفَيْنِ
صَوْتًا وَمَخْرَجًا وَسَمْعًا كَإِبْدَالِ الرَّاءِ بِالْغَيْنِ فَإِنَّ هَذَا
لَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ المرازقة وَعَنْ بِدْعَتِهِمْ .
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالْجُمُعَةَ وَغَيْرَ
ذَلِكَ خَلْفَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ بِدْعَةً وَلَا فِسْقًا بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ .
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِائْتِمَامِ أَنْ يَعْلَمَ الْمَأْمُومُ اعْتِقَادَ
إمَامِهِ وَلَا أَنْ يَمْتَحِنَهُ فَيَقُولُ : مَاذَا تَعْتَقِدُ ؟ بَلْ يُصَلِّي
خَلْفَ مَسْتُورِ الْحَالِ . وَلَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ فَاسِقٌ
أَوْ مُبْتَدِعٌ فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَد وَمَالِكٍ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ الصِّحَّةُ .
وَقَوْلُ الْقَائِلِ لَا أُسَلِّمُ مَالِي إلَّا لِمَنْ أَعْرِفُ . وَمُرَادُهُ
لَا أُصَلِّي خَلْفَ مَنْ لَا أَعْرِفُهُ كَمَا لَا أُسَلِّمُ مَالِي إلَّا لِمَنْ
أَعْرِفُهُ كَلَامُ جَاهِلٍ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ .
فَإِنَّ الْمَالَ إذَا أَوْدَعَهُ الرَّجُلَ الْمَجْهُولَ فَقَدْ يَخُونُهُ
فِيهِ وَقَدْ يُضَيِّعُهُ . وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَوْ أَخْطَأَ أَوْ نَسِيَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ الْمَأْمُومُ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { أَئِمَّتُكُمْ يُصَلُّونَ لَكُمْ وَلَهُمْ . فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } . فَجُعِلَ خَطَأُ الْإِمَامِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَهُمْ وَقَدْ صَلَّى عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ جُنُبٌ نَاسِيًا لِلْجَنَابَةِ فَأَعَادَ وَلَمْ يَأْمُرْ الْمَأْمُومِينَ بِالْإِعَادَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ الْإِمَامُ مَا يَسُوغُ عِنْدَهُ وَهُوَ عِنْدَ الْمَأْمُومِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ وَيُصَلِّيَ وَلَا يَتَوَضَّأَ أَوْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ أَوْ يَتْرُكَ الْبَسْمَلَةَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ بَلْ فِي أَنَصِّهِمَا عَنْهُ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ اخْتَارَهُ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِمَامَ صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ مُتَعَمِّدًا وَالْمَأْمُومُ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى مَاتَ الْمَأْمُومُ لَمْ يُطَالِبْ اللَّهُ الْمَأْمُومَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُصَلِّي بِلَا وُضُوءٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُصَلٍّ ؛ بَلْ لَاعِبٌ وَلَوْ عَلِمَ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ فَفِي الْإِعَادَةِ نِزَاعٌ . وَلَوْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ
مُبْتَدِعٌ يَدْعُو إلَى بِدْعَتِهِ أَوْ فَاسِقٌ ظَاهِرُ الْفِسْقِ وَهُوَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ الَّذِي لَا تُمْكِنُ الصَّلَاةُ إلَّا خَلْفَهُ كَإِمَامِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْحَجِّ بِعَرَفَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يُصَلِّي خَلْفَهُ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْعَقَائِدِ : إنَّهُ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَ خَلْفَ كُلِّ إمَامٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْيَةِ إلَّا إمَامٌ وَاحِدٌ فَإِنَّهَا تُصَلَّى خَلْفَهُ الْجَمَاعَاتُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فَاسِقًا . هَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ : أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا بَلْ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَمَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ الْفَاجِرِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَد . وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ . كَمَا ذَكَرَهُ فِي رِسَالَةِ عبدوس . وَابْنِ مَالِكٍ وَالْعَطَّارِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا وَلَا يُعِيدُهَا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ الْفُجَّارِ وَلَا يُعِيدُونَ كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حَتَّى أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ مَرَّةً الصُّبْحَ أَرْبَعًا ثُمَّ قَالَ : أَزِيدُكُمْ ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا زِلْنَا مَعَك مُنْذُ الْيَوْمَ فِي زِيَادَةٍ وَلِهَذَا رَفَعُوهُ إلَى عُثْمَانَ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لَمَّا حُصِرَ صَلَّى بِالنَّاسِ شَخْصٌ فَسَأَلَ سَائِلٌ عُثْمَانَ . فَقَالَ : إنَّك إمَامُ عَامَّةٍ وَهَذَا الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ إمَامُ فِتْنَةٍ . فَقَالَ : يَا ابْنَ أَخِي إنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَحْسَنِ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فَإِذَا أَحْسَنُوا فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إسَاءَتَهُمْ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَالْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ صَحِيحَةٌ فَإِذَا صَلَّى الْمَأْمُومُ خَلْفَهُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ لَكِنْ إنَّمَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ بِدْعَةً أَوْ فُجُورًا لَا يُرَتَّبُ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ حَتَّى يَتُوبَ فَإِذَا أَمْكَنَ هَجْرُهُ حَتَّى يَتُوبَ كَانَ حَسَنًا وَإِذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ وَصَلَّى خَلْفَ غَيْرِهِ أُثِرَ ذَلِكَ حَتَّى يَتُوبَ أَوْ يُعْزَلَ أَوْ يَنْتَهِيَ النَّاسُ عَنْ مِثْلِ ذَنْبِهِ . فَمِثْلُ هَذَا إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَلَمْ يَفُتْ الْمَأْمُومَ جُمُعَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ . وَأَمَّا إذَا كَانَ تَرَكَ الصَّلَاةَ يَفُوتُ الْمَأْمُومَ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ فَهُنَا لَا يَتْرُكُ الصَّلَاةَ خَلْفَهُمْ إلَّا مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ رَتَّبَهُ وُلَاةُ الْأُمُورِ وَلَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مَصْلَحَةٌ فَهُنَا لَيْسَ عَلَيْهِ تَرْكُ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ بَلْ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْإِمَامِ الْأَفْضَلِ أَفْضَلُ وَهَذَا كُلُّهُ يَكُونُ فِيمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ فِسْقٌ أَوْ بِدْعَةٌ تَظْهَرُ مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَبِدْعَةِ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة
وَنَحْوِهِمْ
. وَمَنْ أَنْكَرَ مَذْهَبَ الرَّوَافِضِ وَهُوَ لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ
وَالْجَمَاعَةَ بَلْ يُكَفِّرُ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ وَقَعَ فِي مِثْلِ مَذْهَبِ
الرَّوَافِضِ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَنْكَرَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ
تَرْكُهُمْ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَتَكْفِيرَ الْجُمْهُورِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ " فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ
فِيهَا نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ . فَإِذَا لَمْ تَجِدْ إمَامًا غَيْرَهُ كَالْجُمُعَةِ
الَّتِي لَا تُقَامُ إلَّا بِمَكَانِ وَاحِدٍ وَكَالْعِيدَيْنِ وَكَصَلَوَاتِ
الْحَجِّ خَلْفَ إمَامِ الْمَوْسِمِ فَهَذِهِ تُفْعَلُ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ
وَفَاجِرٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَإِنَّمَا تَدَعُ مِثْلَ
هَذِهِ الصَّلَوَاتِ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ
مِمَّنْ لَا يَرَى الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْيَةِ
إلَّا مَسْجِدٌ وَاحِدٌ فَصَلَاتُهُ فِي الْجَمَاعَةِ خَلْفَ الْفَاجِرِ خَيْرٌ
مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ مُنْفَرِدًا ؛ لِئَلَّا يُفْضِي إلَى تَرْكِ
الْجَمَاعَةِ مُطْلَقًا . وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ غَيْرِ
الْمُبْتَدِعِ فَهُوَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ بِلَا رَيْبٍ لَكِنْ إنْ صَلَّى
خَلْفَهُ فَفِي صَلَاتِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَأَبِي حَنِيفَةَ تَصِحُّ صَلَاتُهُ . وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَحْمَد فَفِي
مَذْهَبِهِمَا النِّزَاعُ وَتَفْصِيلٌ .
وَهَذَا
إنَّمَا هُوَ فِي الْبِدْعَةِ الَّتِي يُعْلَمُ أَنَّهَا تُخَالِفُ الْكِتَابَ
وَالسُّنَّةَ مِثْلَ بِدَعِ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ . فَأَمَّا
مَسَائِلُ الدِّينِ الَّتِي يَتَنَازَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي هَذِهِ
الْبِلَادِ مِثْلَ " مَسْأَلَةِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ " وَنَحْوِهَا
فَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْمُتَنَازِعَيْنِ مُبْتَدِعًا وَكِلَاهُمَا جَاهِلٌ
مُتَأَوِّلٌ فَلَيْسَ امْتِنَاعُ هَذَا مِنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ هَذَا بِأَوْلَى
مِنْ الْعَكْسِ فَأَمَّا إذَا ظَهَرَتْ السُّنَّةُ وَعُلِمَتْ فَخَالَفَهَا
وَاحِدٌ فَهَذَا هُوَ الَّذِي فِيهِ النِّزَاعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ
وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اسْتَفَاضَ عَنْهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَشِيشَةَ وَهُوَ إمَامٌ
فَقَالَ رَجُلٌ : لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ
وَقَالَ : تَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ } فَهَذَا الَّذِي
أَنْكَرَ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِآكِلِ الْحَشِيشَةِ أَنْ
يَؤُمَّ بِالنَّاسِ ؟ وَإِذَا كَانَ الْمُنْكِرُ مُصِيبًا فَمَا يَجِبُ عَلَى
الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ فِي الْمَكَانِ أَنْ
يَعْزِلَهُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى فِي الْإِمَامَةِ بِالنَّاسِ مَنْ يَأْكُلُ
الْحَشِيشَةَ أَوْ يَفْعَلُ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُحَرَّمَةِ مَعَ إمْكَانِ
تَوْلِيَةِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ .
كَيْفَ وَفِي الْحَدِيثِ : { مَنْ قَلَّدَ رَجُلًا عَمَلًا عَلَى عِصَابَةٍ وَهُوَ يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَخَانَ رَسُولَهُ وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { اجْعَلُوا أَئِمَّتَكُمْ خِيَارَكُمْ فَإِنَّهُمْ وَفْدُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ } . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { إذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ ، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لَمْ يَزَالُوا فِي سَفَالٍ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ . فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا } فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْدِيمِ الْأَفْضَلِ بِالْعِلْمِ بِالْكِتَابِ ثُمَّ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ الْأَسْبَقِ إلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِنَفْسِهِ ثُمَّ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ : { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ يُصَلِّي بِقَوْمِ إمَامًا فَبَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْزِلُوهُ عَنْ الْإِمَامَةِ وَلَا يُصَلُّوا خَلْفَهُ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ هَلْ أَمَرَهُمْ بِعَزْلِهِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ إنَّك آذَيْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَإِذَا كَانَ الْمَرْءُ يُعْزَلُ لِأَجْلِ إسَاءَتِهِ فِي الصَّلَاةِ وَبُصَاقِهِ فِي الْقِبْلَةِ فَكَيْفَ الْمُصِرُّ عَلَى أَكْلِ الْحَشِيشَةِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا لِلْمُسْكِرِ مِنْهَا كَمَا عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ إذْ السُّكْرُ مِنْهَا حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَاسْتِحْلَالُ ذَلِكَ كُفْرٌ بِلَا نِزَاعٍ .
وَأَمَّا احْتِجَاجُ الْمُعَارِضِ بِقَوْلِهِ : { تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ } فَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَه عَنْهُ { لَا يَؤُمَّنَّ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسَوْطِ أَوْ عَصًا } . وَفِي إسْنَادِ الْآخَرِ مَقَالٌ أَيْضًا . الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ مَنْ وُلِّيَ وَإِنْ كَانَ تَوْلِيَةُ ذَلِكَ الْمُولَى لَا تَجُوزُ فَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يُوَلُّوا عَلَيْهِمْ الْفُسَّاقَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْفُذُ حُكْمُهُ أَوْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّتِهَا : فَقِيلَ لَا تَصِحُّ . كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا . وَقِيلَ : بَلْ تَصِحُّ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُمَا وَلَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي تَوْلِيَتُهُ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُوبِ الْإِنْكَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ الَّذِينَ يَسْكَرُونَ مِنْ الْحَشِيشَةِ ؛ بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا حَرَامٌ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ آكِلَهَا يُحَدُّ وَأَنَّهَا نَجِسَةٌ فَإِذَا كَانَ آكِلُهَا لَمْ يَغْسِلْ مِنْهَا فَمَهُ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً وَلَوْ غَسَلَ فَمَهُ
مِنْهَا أَيْضًا فَهِيَ خَمْرٌ . وَفِي الْحَدِيثِ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ : عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ } . وَإِذَا كَانَتْ صَلَاتُهُ تَارَةً بَاطِلَةً وَتَارَةً غَيْرَ مَقْبُولَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَمَنْ مَنَعَ الْمُنْكَرَ عَلَيْهِ فَقَدْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدَ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ ؛ وَمَنْ قَالَ : فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ } فَالْمُخَاصِمُونَ عَنْهُ مُخَاصِمُونَ فِي بَاطِلٍ وَهُمْ فِي سَخَطِ اللَّهِ . وَالْحَائِلُونَ ذَلِكَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ مُضَادُّونَ لِلَّهِ فِي أَمْرِهِ وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ حَالَهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ خَطِيبٍ قَدْ حَضَرَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فَامْتَنَعُوا عَنْ الصَّلَاةِ
خَلْفَهُ ؛ لِأَجْلِ بِدْعَةٍ فِيهِ فَمَا هِيَ الْبِدْعَةُ الَّتِي تَمْنَعُ
الصَّلَاةَ خَلْفَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَحَدًا مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ
وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فَاسِقًا . وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ تَرْكُ الْجُمُعَةِ
وَنَحْوِهَا لِأَجْلِ فِسْقِ الْإِمَامِ بَلْ عَلَيْهِمْ فِعْلُ ذَلِكَ خَلْفَ
الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا وَإِنْ عَطَّلُوهَا لِأَجْلِ فِسْقِ الْإِمَامِ
كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
وَغَيْرِهِمَا . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِمَامِ إذَا كَانَ
فَاسِقًا أَوْ مُبْتَدِعًا وَأَمْكَنَ أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ عَدْلٍ . فَقِيلَ :
تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا . وَهَذَا مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ
: لَا تَصِحُّ خَلْفَ الْفَاسِقِ إذَا أَمْكَنَ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْعَدْلِ
وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ إمَامٍ يَقُولُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي خُطْبَتِهِ : إنَّ
اللَّهَ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ أَزَلِيٍّ قَدِيمٍ لَيْسَ بِحَرْفِ وَلَا صَوْتٍ
فَهَلْ تَسْقُطُ الْجُمُعَةُ خَلْفَهُ أَمْ لَا ؟ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ
كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي
يَقْرَأهُ النَّاسُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ يَقْرَؤُهُ النَّاسُ بِأَصْوَاتِهِمْ .
فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ وَالْقُرْآنُ
جَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ . وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ
مُبْتَدِعًا فَإِنَّهُ يُصَلَّى خَلْفَهُ الْجُمُعَةَ ؛ وَتَسْقُطُ بِذَلِكَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ إمَامٍ قَتَلَ ابْنَ عَمِّهِ : فَهَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ . أَمْ
لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ قَتَلَ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا بِغَيْرِ حَقٍّ
فَيَنْبَغِي
أَنْ يُعْزَلَ عَنْ الْإِمَامَةِ وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ إلَّا لِضَرُورَةِ
مِثْلَ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ إمَامٌ غَيْرَهُ ؛ لَكِنْ إذَا تَابَ وَأَصْلَحَ
فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ
السَّيِّئَاتِ . فَإِذَا تَابَ التَّوْبَةَ الشَّرْعِيَّةَ جَازَ أَنْ يُقَرَّ
عَلَى إمَامَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ أَيْضًا :
عَنْ إمَامِ مَسْجِدٍ قَتَلَ : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى خَلْفَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ قَدْ قَتَلَ الْقَاتِلُ أَوَّلًا ثُمَّ عَمَدُوا أَقَارِبُ
الْمَقْتُولِ إلَى أَقَارِبِ الْقَاتِلِ فَقَتَلُوهُمْ . فَهَؤُلَاءِ عُدَاةٌ مِنْ
أَظْلَمِ النَّاسِ وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ
ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وَلِهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ :
إنَّ هَؤُلَاءِ الْقَاتِلِينَ يَقْتُلُهُمْ السُّلْطَانُ حَدًّا وَلَا يُعْفَى
عَنْهُمْ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَجْعَلُونَ أَمْرَهُمْ إلَى أَوْلِيَاءِ
الْمَقْتُولِ وَمَنْ كَانَ مِنْ الْخُطَبَاءِ يَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ
الدِّمَاءِ فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ الَّذِينَ يَتَعَيَّنُ
عَزْلُهُمْ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ يَكُونُ
إمَامًا لِلظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى فَارَقَتْهُ
وَصَارَ يَخْلُو بِهَا . فَهَلْ يُصَلَّى خَلْفَهُ ؟ وَمَا حُكْمُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَبْدًا عَلَى
مَوَالِيهِ } فَسَعْيُ الرَّجُلِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا
مِنْ الذُّنُوبِ الشَّدِيدَةِ وَهُوَ مِنْ فِعْلِ السَّحَرَةِ وَهُوَ مِنْ
أَعْظَمِ فِعْلِ الشَّيَاطِينِ . لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ يُخَبِّبُهَا عَلَى
زَوْجِهَا لِيَتَزَوَّجَهَا هُوَ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الْخَلْوَةِ بِهَا وَلَا
سِيَّمَا إذَا دَلَّتْ الْقَرَائِنُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ . وَمِثْلُ هَذَا لَا
يَنْبَغِي أَنْ يُوَلَّى إمَامَةَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ يَتُوبُ فَإِنْ
تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِذَا أَمْكَنَ الصَّلَاةُ خَلْفَ عَدْلٍ
مُسْتَقِيمِ السِّيرَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى خَلْفَهُ فَلَا يُصَلَّى خَلْفَ
مَنْ ظَهَرَ فُجُورُهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ إمَامٍ يَقْرَأُ عَلَى الْجَنَائِزِ ، هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي صَلَاةً كَامِلَةً وَهُوَ
مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ فَالصَّلَاةُ خَلْفَهُ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ مَنْ
يَقْرَأُ عَلَى الْجَنَائِزِ فَإِنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ
وَجْهٍ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْجَنَائِزِ مَكْرُوهَةٌ فِي الْمَذَاهِبِ
الْأَرْبَعَةِ . وَأَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا أَعْظَمُ كَرَاهَةً فَإِنَّ
الِاسْتِئْجَارَ عَلَى التِّلَاوَةِ لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ
الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ إمَامٍ يَبْصُقُ فِي الْمِحْرَابِ هَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ أَمْ لَا
؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، يَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ . وَفِي سُنَنِ أَبِي
دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ عَزَلَ
إمَامًا لِأَجْلِ بُصَاقِهِ فِي الْقِبْلَةِ وَقَالَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ : لَا
تُصَلُّوا خَلْفَهُ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ نَهَيْتهمْ أَنْ
يُصَلُّوا خَلْفِي قَالَ : نَعَمْ إنَّك قَدْ آذَيْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ } .
فَإِنْ عُزِلَ عَنْ الْإِمَامَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَوْ انْتَهَى الْجَمَاعَةُ أَنْ
يُصَلُّوا خَلْفَهُ ؛ لِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ سَائِغًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ :
عَنْ رِجْلٍ فَقِيهٍ عَالِمٍ خَاتِمٍ لِلْقُرْآنِ وَبِهِ عُذْرٌ : يَدُهُ
الشِّمَالُ خَلْفَهُ مِنْ حَدِّ الْكَتِفِ وَلَهُ أَصَابِعُ لَحْمٍ وَقَدْ قَالُوا
: إنَّ الصَّلَاةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ خَلْفَهُ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ يَدَاهُ يَصِلَانِ إلَى الْأَرْضِ فِي السُّجُودِ فَإِنَّهُ تَجُوزُ
الصَّلَاةُ خَلْفَهُ بِلَا نِزَاعٍ . وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَ
أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَهُ
السُّجُودُ عَلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ
أَعْظُمٍ : الْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ } .
فَإِنَّ السُّجُودَ تَامٌّ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ تَامَّةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْخَصِيِّ هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، تَصِحُّ خَلْفَهُ . كَمَا تَصِحُّ خَلْفَ الْفَحْلِ
بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ مِمَّنْ هُوَ
دُونَهُ فَإِذَا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ كَانَ
مُقَدَّمًا عَلَيْهِ فِي الْإِمَامَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَفْضُولُ فَحْلًا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مَا عِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ وَهُوَ يُصَلِّي بِالْأُجْرَةِ . فَهَلْ
يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد . وَقِيلَ : يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ .
وَالْخِلَافُ فِي الْأَذَانِ أَيْضًا .
لَكِنَّ
الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ يَجُوزُ عَلَى
الْأَذَانِ وَعَلَى الْإِمَامَةِ مَعَهُ وَمُنْفَرِدَةٌ وَفِي الِاسْتِئْجَارِ
عَلَى هَذَا وَنَحْوِهِ كَالتَّعْلِيمِ عَلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ : إنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْحَاجَةِ وَلَا يَجُوزُ بِدُونِ حَاجَةٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مُعَرَّفٍ عَلَى الْمَرَاكِبِ وَبَنَى مَسْجِدًا وَجَعَلَ لِلْإِمَامِ
فِي كُلِّ شَهْرٍ أُجْرَةً مِنْ عِنْدِهِ فَهَلْ هُوَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ ؟
وَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ يُعْطِي هَذِهِ الدَّرَاهِمَ مِنْ أُجْرَةِ الْمَرَاكِبِ الَّتِي لَهُ
جَازَ أَخْذُهَا وَإِنْ كَانَ يُعْطِيهَا مِمَّا يَأْخُذُ مِنْ النَّاسِ بِغَيْرِ
حَقٍّ فَلَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ إمَامِ بَلَدٍ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ ، وَفِي الْبَلَدِ
رَجُلٌ آخَرُ يَكْرَهُ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ . فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ خَلْفَهُ
أَمْ لَا ؟ وَإِذَا لَمْ يُصَلِّ
خَلْفَهُ
وَتَرَكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ . هَلْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ ؟ وَاَلَّذِي
يَكْرَهُ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يُصَحِّحُ الْفَاتِحَةَ
وَفِي الْبَلَدِ مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ وَأَفْقَهُ .
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا كَوْنُهُ لَا يُصَحِّحُ الْفَاتِحَةَ فَهَذَا بَعِيدٌ
جِدًّا فَإِنَّ عَامَّةَ الْخَلْقِ مِنْ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ يَقْرَءُونَ
الْفَاتِحَةَ قِرَاءَةً تُجْزِئُ بِهَا الصَّلَاةَ فَإِنَّ اللَّحْنَ الْخَفِيَّ
وَاللَّحْنَ الَّذِي لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَفِي
الْفَاتِحَةِ قِرَاءَاتٌ كَثِيرَةٌ قَدْ قُرِئَ بِهَا . فَلَوْ قَرَأَ (
عَلَيْهِمْ وَ ( عَلَيْهُمْ ) ( عَلَيْهُمُ ). أَوْ قَرَأَ : ( الصِّرَاطَ ) وَ (
السِّرَاطَ ) وَ ( الزراط ) . فَهَذِهِ قِرَاءَاتٌ مَشْهُورَةٌ . وَلَوْ قَرَأَ :
( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) وَ ( الْحَمْدُ لُلَّهِ ) أَوْ قَرَأَ ( رَبُّ
الْعَالَمِينَ ) أَوْ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . أَوْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ . لَكَانَتْ قِرَاءَاتٍ قَدْ قُرِئَ بِهَا . وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَ
مَنْ قَرَأَ بِهَا . وَلَوْ قَرَأَ : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالضَّمِّ أَوْ
قَرَأَ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) بِالْفَتْحِ لَكَانَ هَذَا لَحْنًا لَا
يُحِيلُ الْمَعْنَى وَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ . وَإِنْ كَانَ إمَامًا رَاتِبًا
وَفِي الْبَلَدِ مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ صَلَّى خَلْفَهُ . فَإِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ فِي
سُلْطَانِهِ } وَإِنْ كَانَ مُتَظَاهِرًا بِالْفِسْقِ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ
يُقِيمُ الْجَمَاعَةَ غَيْرُهُ صُلِّيَ
خَلْفَهُ
أَيْضًا وَلَمْ يَتْرُكْ الْجَمَاعَةَ وَإِنْ تَرَكَهَا فَهُوَ آثِمٌ مُخَالِفٌ
لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ إمَامًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَوْ عَلَيْهِ
نَجَاسَةٌ لَا يَعْلَمُ بِهَا : فَهَلْ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ
كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً : فَهَلْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ خَلْفَهُ تَصِحُّ ؟
أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْمَأْمُومُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَدَثِ الْإِمَامِ أَوْ النَّجَاسَةِ
الَّتِي عَلَيْهِ حَتَّى قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد إذَا كَانَ الْإِمَامُ غَيْرَ
عَالِمٍ وَيُعِيدُ وَحْدَهُ إذَا كَانَ مُحْدِثًا . وَبِذَلِكَ مَضَتْ سُنَّةُ
الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَإِنَّهُمْ صَلَّوْا بِالنَّاسِ ثُمَّ رَأَوْا
الْجَنَابَةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَأَعَادُوا وَلَمْ يَأْمُرُوا النَّاسَ
بِالْإِعَادَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
فِي انْعِقَادِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ . النَّاسُ فِيهِ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ
كُلَّ امْرِئٍ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ وَفَائِدَةُ الِائْتِمَامِ فِي تَكْثِيرِ
الثَّوَابِ بِالْجَمَاعَةِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ
لَكِنْ قَدْ عُورِضَ بِمَنْعِهِ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ وَالرَّجُلُ
بِالْمَرْأَةِ وَإِبْطَالُ صَلَاةِ الْمُؤْتَمِّ بِمَنْ لَا صَلَاةَ لَهُ :
كَالْكَافِرِ وَالْمُحْدِثِ . وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا
مَوْضِعَهُ . وَمِنْ الْحُجَّةِ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْأَئِمَّةِ : { إنْ أَحْسَنُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ
أَسَاءُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا مُنْعَقِدَةٌ
بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَفُرِّعَ عَلَيْهَا مُطْلَقًا فَكُلُّ خَلَلٍ حَصَلَ فِي
صَلَاةِ الْإِمَامِ يَسْرِي إلَى صَلَاةِ الْمَأْمُومِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِمَامُ ضَامِنٌ } . وَعَلَى هَذَا فَالْمُؤْتَمُّ
بِالْمُحْدِثِ
النَّاسِي لِحَدَثِهِ يُعِيدُ كَمَا يُعِيدُ إمَامُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ . حَتَّى اخْتَارَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ كَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنْ لَا يَأْتَمَّ الْمُتَوَضِّئُ بِالْمُتَيَمِّمِ لِنَقْصِ طَهَارَتِهِ عَنْهُ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا مُنْعَقِدَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ لَكِنْ إنَّمَا يَسْرِي النَّقْصُ إلَى صَلَاةِ الْمَأْمُومِ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ مِنْهُمَا فَأَمَّا مَعَ الْعُذْرِ فَلَا يَسْرِي النَّقْصُ فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَعْتَقِدُ طَهَارَتَهُ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي الْإِمَامَةِ وَالْمَأْمُومُ مَعْذُورٌ فِي الِائْتِمَامِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَعَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ مَا يُؤْثَرُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي نَفْسِ صِفَةِ الْإِمَامِ النَّاقِصِ ؛ أَنَّ حُكْمَهُ مَعَ الْحَاجَةِ يُخَالِفُ حُكْمَهُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ . فَحُكْمُ صَلَاتِهِ كَحُكْمِ نَفْسِهِ . وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي اقْتِدَاءُ الْمُؤْتَمِّ بِإِمَامِ قَدْ تَرَكَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْمَأْمُومُ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ الْإِمَامُ مُتَأَوِّلًا تَأْوِيلًا يَسُوغُ كَأَنْ لَا يَتَوَضَّأَ مِنْ خُرُوجِ النَّجَاسَاتِ وَلَا مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ اعْتِقَادَ الْإِمَامِ هُنَا صِحَّةُ صَلَاتِهِ كَاعْتِقَادِهِ صِحَّتَهَا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحَدَثِ وَأَوْلَى . فَإِنَّهُ هُنَاكَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَهَذَا أَصْلٌ نَافِعٌ أَيْضًا . وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يُصَلُّونَ
لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَخْطَأَ كَانَ دَرْكُ خَطَئِهِ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَأْمُومِينَ . فَمَنْ صَلَّى مُعْتَقِدًا طَهَارَتَهُ وَكَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَقُلْنَا عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِلنَّجَاسَةِ كَمَا يُعِيدُ مِنْ الْحَدَثِ : فَهَذَا الْإِمَامُ مُخْطِئٌ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ فَيَكُونُ خَطَؤُهُ عَلَيْهِ فَيُعِيدُ صَلَاتَهُ . وَأَمَّا الْمَأْمُومُونَ فَلَهُمْ هَذِهِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ خَطَئِهِ شَيْءٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا نَصٌّ فِي إجْزَاءِ صَلَاتِهِمْ وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ بَعْضَ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ بِتَأْوِيلِ أَخْطَأَ فِيهِ عِنْدَ الْمَأْمُومِ : مِثْلَ أَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ وَيُصَلِّيَ أَوْ يَحْتَجِمَ وَيُصَلِّيَ أَوْ يَتْرُكَ قِرَاءَةَ الْبَسْمَلَةِ أَوْ يُصَلِّيَ وَعَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَا يُعْفَى عَنْهَا عِنْدَ الْمَأْمُومِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا الْإِمَامُ أَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا إنْ لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا . فَتَكُونُ هَذِهِ الصَّلَاةُ لِلْمَأْمُومِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ خَطَإِ إمَامِهِ شَيْءٌ . وَكَذَلِكَ رَوَى أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَأَصَابَ الْوَقْتَ وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ فَلَهُ وَلَهُمْ وَمَنْ انْتَقَصَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ } لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَبُو دَاوُد " وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ " فَهَذَا الِانْتِقَاصُ يُفَسِّرُهُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ الْخَطَأُ وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ : { وَإِنْ أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ } أَنَّهُ إذَا تَعَمَّدَ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَلِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ يَتْرُكُ الْأَرْكَانَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا لَا تَنْبَغِي الصَّلَاةُ خَلْفَهُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ يَؤُمُّ قَوْمًا وَأَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانُوا يَكْرَهُونَ هَذَا الْإِمَامَ لِأَمْرِ فِي دِينِهِ : مِثْلَ كَذِبِهِ
أَوْ ظُلْمِهِ أَوْ جَهْلِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَيُحِبُّونَ
الْآخَرَ لِأَنَّهُ أَصْلَحُ فِي دِينِهِ مِنْهُ . مِثْلَ أَنْ يَكُونَ أَصْدَقَ
وَأَعْلَمَ وأدين فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُوَلَّى عَلَيْهِمْ هَذَا الْإِمَامُ
الَّذِي يُحِبُّونَهُ وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْإِمَامِ الَّذِي يَكْرَهُونَهُ أَنْ
يَؤُمَّهُمْ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ :
رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ وَرَجُلٌ لَا يَأْتِي الصَّلَاةَ
إلَّا دِبَارًا وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ : هَلْ تَصِحُّ صَلَاةُ بَعْضِهِمْ خَلْفَ
بَعْضٍ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ لَا يُصَلِّي
بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ ؟ وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهَلْ هُوَ مُبْتَدِعٌ ؟ أَمْ
لَا ؟ وَإِذَا فَعَلَ الْإِمَامُ مَا يَعْتَقِدُ
أَنَّ
صَلَاتَهُ مَعَهُ صَحِيحَةٌ وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ خِلَافَ ذَلِكَ . مِثْلَ
أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ تَقِيًّا أَوْ رَعَفَ أَوْ احْتَجَمَ أَوْ مَسَّ ذَكَرَهُ
أَوْ مَسَّ النِّسَاءَ بِشَهْوَةِ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَوْ قَهْقَهَ فِي
صَلَاتِهِ أَوْ أَكَلَ لَحْمَ الْإِبِلِ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ
وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ كَانَ الْإِمَامُ
لَا يَقْرَأُ الْبَسْمَلَةَ أَوْ لَمْ يَتَشَهَّدْ التَّشَهُّدَ الْآخَرَ أَوْ
لَمْ يُسَلِّمْ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ ذَلِكَ فَهَلْ
تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ وَالْحَالُ هَذِهِ ؟ وَإِذَا شُرِطَ فِي إمَامِ
الْمَسْجِدِ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَكَانَ غَيْرُهُ أَعْلَمَ
بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْهُ وَوُلِّيَ . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ
تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ تَجُوزُ صَلَاةُ بَعْضِهِمْ خَلْفَ بَعْضٍ كَمَا كَانَ
الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ مَعَ تَنَازُعِهِمْ
فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ
السَّلَفِ إنَّهُ لَا يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ
فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ
الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ : مِنْهُمْ مَنْ يَقْرَأُ الْبَسْمَلَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا
يَقْرَؤُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْهَرُ بِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَجْهَرُ بِهَا
وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْنُتُ
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ الْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ وَالْقَيْءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَمَسِّ النِّسَاءِ بِشَهْوَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي صَلَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُصَلِّي خَلْفَ بَعْضٍ : مِثْلَ مَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ الْبَسْمَلَةَ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا وَصَلَّى أَبُو يُوسُفَ خَلْفَ الرَّشِيدِ وَقَدْ احْتَجَمَ وَأَفْتَاهُ مَالِكٌ بِأَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ فَصَلَّى خَلْفَهُ أَبُو يُوسُفَ وَلَمْ يُعِدْ . وَكَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ الْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ فَقِيلَ لَهُ : فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ . تُصَلِّي خَلْفَهُ ؟ فَقَالَ : كَيْفَ لَا أُصَلِّي خَلْفَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٍ . وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لَهَا صُورَتَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنْ لَا يَعْرِفَ الْمَأْمُومُ أَنَّ إمَامَهُ فَعَلَ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَهُنَا يُصَلِّي الْمَأْمُومُ خَلْفَهُ بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ مُتَقَدِّمٌ وَإِنَّمَا خَالَفَ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : فَزَعَمَ
أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْحَنَفِيِّ لَا تَصِحُّ وَإِنْ أَتَى بِالْوَاجِبَاتِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ إلَى أَنْ يُسْتَتَابَ كَمَا يُسْتَتَابُ أَهْلُ الْبِدَعِ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى أَنْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ يُصَلِّي بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَأَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْمَفْرُوضِ وَالْمَسْنُونِ بَلْ يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ الشَّرْعِيَّةَ وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهَذَا وَاجِبًا لَبَطَلَتْ صَلَوَاتُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِيَاطُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ فِيهِ نِزَاعٌ وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ خَفِيَّةٌ وَأَكْثَرُ مَا يُمْكِنُ الْمُتَدَيِّنُ أَنْ يَحْتَاطَ مِنْ الْخِلَافِ وَهُوَ لَا يَجْزِمُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . فَإِنْ كَانَ الْجَزْمُ بِأَحَدِهِمَا وَاجِبًا فَأَكْثَرُ الْخَلْقِ لَا يُمْكِنُهُمْ الْجَزْمُ بِذَلِكَ وَهَذَا الْقَائِلُ نَفْسُهُ لَيْسَ مَعَهُ إلَّا تَقْلِيدُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَلَوْ طُولِبَ بِأَدِلَّةِ شَرْعِيَّةٍ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ إمَامِهِ دُونَ غَيْرِهِ لَعَجَزَ عَنْ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مِثْلِ هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ . الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَيَقَّنَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ فَعَلَ مَا لَا يَسُوغُ عِنْدَهُ : مِثْلَ أَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ أَوْ النِّسَاءَ لِشَهْوَةِ أَوْ يَحْتَجِمَ أَوْ يَفْتَصِدَ أَوْ يَتَقَيَّأَ . ثُمَّ يُصَلِّيَ بِلَا وُضُوءٍ فَهَذِهِ الصُّورَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ إمَامِهِ . كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ بَلْ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَد عَلَى هَذَا . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } . فَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ خَطَأَ الْإِمَامِ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْمَأْمُومِ وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ سَائِغٌ لَهُ وَأَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلَ فَإِنَّهُ مُجْتَهِدٌ أَوْ مُقَلِّدٌ مُجْتَهِدٌ . وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ خَطَأَهُ فَهُوَ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ صَلَاتِهِ وَأَنَّهُ لَا يَأْثَمُ إذَا لَمْ يُعِدْهَا بَلْ لَوْ حَكَمَ بِمِثْلِ هَذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ نَقْضُ حُكْمِهِ بَلْ كَانَ يُنْفِذُهُ . وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ فَعَلَ بِاجْتِهَادِهِ فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَالْمَأْمُومُ قَدْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ كَانَتْ صَلَاةُ كُلٍّ مِنْهُمَا صَحِيحَةً وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ أَدَّى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَقَدْ حَصَلَتْ مُوَافَقَةُ الْإِمَامِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ خَطَأً مِنْهُ فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِمَامَ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا أَخْطَأَ فِيهِ وَأَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ . وَلَوْ أَخْطَأَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فَسَلَّمَ الْإِمَامُ خَطَأً وَاعْتَقَدَ الْمَأْمُومُ جَوَازَ
مُتَابَعَتِهِ
فَسَلَّمَ كَمَا سَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَلَّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ سَهْوًا مَعَ عِلْمِهِمْ
بِأَنَّهُ إنَّمَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَكَمَا لَوْ صَلَّى خَمْسًا سَهْوًا
فَصَلَّوْا خَلْفَهُ خَمْسًا كَمَا صَلَّى الصَّحَابَةُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ خَمْسًا فَتَابَعُوهُ مَعَ
عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ صَلَّى خَمْسًا ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ جَوَازَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ
تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ
الْمُخْطِئُ هُوَ الْإِمَامَ وَحْدَهُ . وَقَدْ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ
الْإِمَامَ لَوْ سَلَّمَ خَطَأً لَمْ تَبْطُلْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ إذَا لَمْ
يُتَابِعْهُ وَلَوْ صَلَّى خَمْسًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ إذَا لَمْ
يُتَابِعْهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ خَطَأً لَا
يَلْزَمُ فِيهِ بُطْلَانُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ مَنْ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّجُلِ خَلْفَ مَنْ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ فَهَذِهِ تَصِحُّ
بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَالْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي صُورَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : خِلَافُهَا
شَاذٌّ وَهُوَ مَا إذَا أَتَى الْإِمَامُ بِالْوَاجِبَاتِ كَمَا يَعْتَقِدُهُ
الْمَأْمُومُ لَكِنْ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا مِثْلَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ إذَا فَعَلَهُ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ فَهَذَا فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ . وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْخَلَفِ صِحَّةُ الصَّلَاةِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ إذَا تَرَكَ الْإِمَامُ مَا يَعْتَقِدُ الْمَأْمُومُ وُجُوبَهُ مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ قِرَاءَةَ الْبَسْمَلَةِ سِرًّا وَجَهْرًا وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا . أَوْ مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ أَوْ لَمْسِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ . أَوْ الْقَهْقَهَةِ أَوْ خُرُوجِ النَّجَاسَاتِ أَوْ النَّجَاسَةِ النَّادِرَةِ وَالْمَأْمُومُ يَرَى وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ . أَصَحُّهُمَا صِحَّةُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْرَحُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بَلْ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ لَا يَقْرَءُونَ الْبَسْمَلَةَ وَمَذْهَبُهُ وُجُوبُ قِرَاءَتِهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } فَجَعَلَ خَطَأَ الْإِمَامِ عَلَيْهِ دُونَ الْمَأْمُومِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ إنْ كَانَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ فِيهَا هُوَ الصَّوَابَ فَلَا نِزَاعَ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فَخَطَؤُهُ مُخْتَصٌّ بِهِ وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ : الْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ إمَامِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي
بِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ إنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَهُوَ يُنَفِّذُ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ اقْتِدَائِهِ بِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ حُكْمُهُ بَاطِلًا لَمْ يَجُزْ إنْفَاذُ الْبَاطِلِ وَلَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ الطَّهَارَةَ نَاسِيًا لَمْ يُعِدْ الْمَأْمُومُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . كَمَا ثَبَتَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مَعَ أَنَّ النَّاسِيَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ وَالْمُتَأَوِّلُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ . فَإِذَا صَحَّتْ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فَلِأَنْ تَصِحَّ خَلْفَ مَنْ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ أَوْلَى وَالْإِمَامُ يُعِيدُ إذَا ذَكَرَ دُونَ الْمَأْمُومِ وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْ الْإِمَامِ وَلَا مِنْ الْمَأْمُومِ تَفْرِيطٌ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَرْجِعُ عَنْ اعْتِقَادِهِ بِقَوْلِهِ . بِخِلَافِ مَا إذَا رَأَى عَلَى الْإِمَامِ نَجَاسَةً وَلَمْ يُحَذِّرْهُ مِنْهَا فَإِنَّ الْمَأْمُومَ هُنَا مُفَرِّطٌ فَإِذَا صَلَّى يُعِيدُ لِأَنَّ ذَلِكَ لِتَفْرِيطِهِ وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَا يُعِيدُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحْمَد فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَعِلْمُ الْمَأْمُومِ بِحَالِ الْإِمَامِ فِي صُورَةِ التَّأْوِيلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ مَغْفُورٌ لَهُ خَطَؤُهُ فَلَا تَكُونُ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
هَلْ يُقَلِّدُ الشَّافِعِيُّ حَنَفِيًّا وَعَكْسُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الوترية
وَفِي جَمْعِ الْمَطَرِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ يَجُوزُ لِلْحَنَفِيِّ وَغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ
يُجَوِّزُ الْجَمْعَ مِنْ الْمَطَرِ لَا سِيَّمَا وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقَدْ كَانَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَجْمَعُ مَعَ وُلَاةِ الْأُمُورِ بِالْمَدِينَةِ إذَا
جَمَعُوا فِي الْمَطَرِ . وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يُقَلِّدَ
رَجُلًا بِعَيْنِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ وَيَسْتَحِبُّهُ
إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا زَالَ
الْمُسْلِمُونَ يَسْتَفْتُونَ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ فَيُقَلِّدُونَ تَارَةً
هَذَا وَتَارَةً هَذَا . فَإِذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ يُقَلِّدُ فِي مَسْأَلَةٍ
يَرَاهَا أَصْلَحَ فِي دِينِهِ أَوْ الْقَوْلُ بِهَا أَرْجَحُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ
جَازَ هَذَا بِاتِّفَاقِ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُحَرِّمْ
ذَلِكَ لَا أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا مَالِكٌ وَلَا الشَّافِعِيُّ وَلَا أَحْمَد .
وَكَذَلِكَ الْوِتْرُ وَغَيْرُهُ يَنْبَغِي لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَتْبَعَ فِيهِ
إمَامَهُ فَإِنْ
قَنَتَ
قَنَتَ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَقْنُتْ لَمْ يَقْنُتْ وَإِنْ صَلَّى بِثَلَاثِ
رَكَعَاتٍ مَوْصُولَةٍ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْ فَصَلَ فَصَلَ أَيْضًا . وَمِنْ
النَّاسِ مَنْ يَخْتَارُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَصِلَ إذَا فَصَلَ إمَامُهُ
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا إذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْضَ الصَّلَاةِ وَقَامَ لِيَأْتِيَ بِمَا
فَاتَهُ فَائْتَمَّ بِهِ آخَرُونَ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْضًا وَقَامَ يَأْتِي بِمَا فَاتَهُ فَائْتَمَّ
بِهِ آخَرُونَ . جَازَ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ إمَامٍ يُصَلِّي صَلَاةَ الْفَرْضِ بِالنَّاسِ ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا
صَلَاةً أُخْرَى وَيَقُولُ : هَذِهِ عَنْ صَلَاةٍ فَاتَتْكُمْ هَلْ يَسُوغُ هَذَا
؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ لِلْإِمَامِ الرَّاتِبِ أَنْ يَعْتَادَ أَنْ يُصَلِّيَ
بِالنَّاسِ الْفَرِيضَةَ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ مُخَالِفَةٌ
لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَلَمْ يَسْتَحِبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . لَا أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا مَالِكٍ وَلَا الشَّافِعِيِّ . وَلَا أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ . بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَعَادَ بِأُولَئِكَ الْمَأْمُومِينَ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ دَائِمًا أَنَّ هَذَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ كَانَ ضَالًّا . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْإِمَامِ إذَا صَلَّى مَرَّةً ثَانِيَةً بِقَوْمِ آخَرِينَ غَيْرَ الْأَوَّلِينَ . مِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمُ ذَلِكَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ . وَمَنْ عَلَيْهِ فَوَائِتُ فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ أَمَّا كَوْنُ الْإِمَامِ يُعِيدُ الصَّلَاةَ دَائِمًا مَعَ الصَّلَاةِ الْحَاضِرَةِ وَأَنْ يُصَلُّوا خَلْفَهُ فَهَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ . وَإِنْ قَالَ : إنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَجْلِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْفَوَائِتِ . وَأَقَلُّ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِ الْأَئِمَّةُ فَتَبْقَى بِهِ سُنَّةٌ يَرْبُو عَلَيْهَا الصَّغِيرُ وَتُغَيَّرُ بِسَبَبِهَا شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ فِي الْبَوَادِي وَمَوَاضِعِ الْجَهْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا مَنْ أَدَّى فَرْضَهُ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا ، فَهَلْ
يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ لِمَنْ يُؤَدِّي فَرْضَهُ ؟ مِثْلَ
أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ مَرَّتَيْنِ هَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَفِيهَا
ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد : إحْدَاهَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهِيَ
اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ .
وَالثَّانِيَةُ : يَجُوزُ مُطْلَقًا وَهِيَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِهِ :
كَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَهِيَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَالثَّانِيَةُ : يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَصَلَاةِ الْخَوْفِ . قَالَ
الشَّيْخُ : وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّنَا أَبِي الْبَرَكَاتِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ
صَلَاةَ الْخَوْفِ مَرَّتَيْنِ وَصَلَّى بِطَائِفَةِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى
بِطَائِفَةِ أُخْرَى وَسَلَّمَ .
وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ مُطْلَقًا احْتَجَّ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمَعْرُوفِ : { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْطَلِقُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ } . وَفِي رِوَايَةٍ : { فَكَانَتْ الْأُولَى فَرْضًا لَهُ وَالثَّانِيَةُ نَفْلًا . } وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ حُجَّةٌ مُسْتَقِيمَةٌ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِلَفْظِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ . كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ } . وَ { بِأَنَّ الْإِمَامَ ضَامِنٌ } فَلَا تَكُونُ صَلَاتُهُ أَنْقَصَ مِنْ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ مَا يَدْفَعُ تِلْكَ الْحُجَجَ . وَالِاخْتِلَافُ الْمُرَادُ بِهِ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَفْعَالِ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا وَإِلَّا فَيَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا خَلْفَ مُفْتَرِضٍ . كَمَا هُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { يَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ { صَلَّى بِمَسْجِدِ الْخَيْفِ فَرَأَى رَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا فَقَالَ : مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا ؟ قَالَا : قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا فَقَالَ : إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ { رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَحْدَهُ فَقَالَ : أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ } فَقَدْ ثَبَتَ صَلَاةُ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرَضِ . فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَثَبَتَ أَيْضًا بِالْعَكْسِ . فَعُلِمَ أَنَّ مُوَافَقَةَ الْإِمَامِ فِي نِيَّةِ الْفَرْضِ أَوْ
النَّفْلِ
لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَالْإِمَامُ ضَامِنٌ . وَإِنْ كَانَ مُتَنَفِّلًا .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي
قِيَامَ رَمَضَانَ يُصَلِّي خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُتِمُّ
رَكْعَتَيْنِ فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ جَوَازُ هَذَا كُلِّهِ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي
أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِهِمْ ثَانِيًا إلَّا لِحَاجَةِ أَوْ مَصْلَحَةٍ مِثْلَ
أَنْ يَكُونَ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ غَيْرُهُ أَوْ هُوَ
أَحَقُّ الْحَاضِرِينَ بِالْإِمَامَةِ ؛ لِكَوْنِهِ أَعْلَمَهُمْ بِكِتَابِ
اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَوْ كَانُوا مُسْتَوِينَ فِي الْعِلْمِ وَهُوَ أَسْبَقُهُمْ
إلَى هِجْرَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ أَقْدَمُهُمْ سِنًّا
فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ
فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ
كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي
الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا } فَقُدِّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَضِيلَةِ فِي الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْعِلْمِ قُدِّمَ بِالسَّبْقِ إلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ
وَقُدِّمَ السَّابِقُ بِاخْتِيَارِهِ وَهُوَ الْمُهَاجِرُ عَلَى مَنْ سَبَقَ
بِخَلْقِ اللَّهِ لَهُ وَهُوَ الْكَبِيرُ السِّنِّ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ
وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ } فَمَنْ سَبَقَ إلَى هَجْرِ
السَّيِّئَاتِ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا فَهُوَ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَيُقَدَّمُ
فِي الْإِمَامَةِ فَإِذَا حَضَرَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ وَكَانَ قَدْ
صَلَّى
فَرْضَهُ فَإِنَّهُ يَؤُمُّهُمْ كَمَا أَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَائِفَةِ بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مَرَّتَيْنِ وَكَمَا كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي ثُمَّ يَؤُمُّ قَوْمَهُ أَهْلَ قُبَاء لِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّهُمْ بِالْإِمَامَةِ وَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ مَنْسُوخٌ وَلَمْ يَأْتُوا عَلَى ذَلِكَ بِحُجَّةِ صَحِيحَةٍ وَمَا ثَبَتَ مِنْ الْأَحْكَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ دَعْوَى نَسْخِهِ بِأُمُورِ مُحْتَمِلَةٍ لِلنَّسْخِ وَعَدَمِ النَّسْخِ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ إذَا صَلَّى عَلَيْهَا الرَّجُلُ إمَامًا ثُمَّ قُدِّمَ آخَرُونَ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ إذَا كَانَ أَحَقَّهُمْ بِالْإِمَامَةِ وَلَهُ إذَا صَلَّى غَيْرُهُ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً أَنْ يُعِيدَهَا مَعَهُمْ تَبَعًا كَمَا يُعِيدُ الْفَرِيضَةَ تَبَعًا مِثْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ يَأْتِي مَسْجِدًا فِيهِ إمَامٌ رَاتِبٌ فَيُصَلِّي مَعَهُمْ فَإِنَّ هَذَا مَشْرُوعٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد بِلَا نِزَاعٍ وَكَذَلِكَ مَذْهَبُهُ فِيمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْجِنَازَةِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا بَعْدَ غَيْرِهِ وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ إذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ . هَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ وَمَالِكٍ لَا يُرَى الْإِعَادَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَاهَا إلَّا لِلْوَلِيِّ . وَأَمَّا إذَا صَلَّى هُوَ عَلَى الْجِنَازَةِ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا غَيْرُهُ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا مَعَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . قِيلَ :
لَا
يُعِيدُهَا . قَالُوا : لِأَنَّ الثَّانِيَةَ نَفْلٌ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَا
يُتَنَفَّلُ بِهَا . وَقِيلَ : بَلْ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى عَلَى قَبْرٍ
مَنْبُوذٍ صَلَّى مَعَهُ مَنْ كَانَ صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا . وَإِعَادَةُ
صَلَاةِ الْجِنَازَةِ مِنْ جِنْسِ إعَادَةِ الْفَرِيضَةِ فَتُشْرَعُ حَيْثُ
شَرَعَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَعَلَى هَذَا : فَهَلْ يُؤَمُّ عَلَى
الْجِنَازَةِ مَرَّتَيْنِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ
. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ حَضَرَ جَمَاعَةً أُخْرَى فَصَلَّى
بِهِمْ إمَامًا فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ " مَسْأَلَةُ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ
" فَإِنَّ الْإِمَامَ كَانَ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ فَإِذَا صَلَّى بِغَيْرِهِ
إمَامًا : فَهَذَا جَائِزٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد :
أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ . فَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ الْإِمَامُ هُوَ الْقَارِئَ وَهُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْإِمَامَةِ دُونَهُمْ
فَفِعْلُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ حَسَنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ إمَامِ مَسْجِدَيْنِ . هَلْ يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا أَمْكَنَ أَنْ يُرَتَّبَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ إمَامٌ رَاتِبٌ فَلَا يَصْلُحُ
أَنْ يُرَتَّبَ إمَامٌ فِي مَسْجِدَيْنِ فَإِذَا صَلَّى إمَامًا فِي مَوْضِعَيْنِ
فَفِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ لِمَنْ يُؤَدِّي فَرِيضَتَهُ خِلَافٌ
بَيْنِ الْعُلَمَاءِ . فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ . أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ
الثَّانِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يُصَلِّي الْفَرْضَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي نَفْلًا ؟ .
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ شَاكًّا فِي وُجُوبِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ .
هَلْ يَأْتَمُّ بِهِ الْمُفْتَرِضُ ؟ .
فَأَجَابَ :
قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الشَّاكَّ يُؤَدِّيهَا بِنِيَّةِ
الْوُجُوبِ إذًا كَمَا قُلْنَا فِي نِيَّةِ الْإِغْمَاءِ وَإِنْ لَمْ نَقُلْ
بِوُجُوبِ الصَّوْمِ . كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ شَكَّ فِي انْتِقَاضِ وُضُوئِهِ
يَتَوَضَّأُ . وَكَذَلِكَ صُوَرُ الشَّكِّ فِي وُجُوبِ طَهَارَةٍ أَوْ صِيَامٍ
أَوْ زَكَاةٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ نُسُكٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛
بِخِلَافِ مَا لَوْ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ عَدَمُهُ فَإِنَّ
هَذِهِ خَرَجَ فِيهَا خِلَافٌ ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ نَفْلٌ لَكِنَّهَا
فِي اعْتِقَادِهِ وَاجِبَةٌ وَالْمَشْكُوكُ فِيهَا هِيَ فِي قَصْدِهِ وَاجِبَةٌ
وَالِاعْتِقَادُ مُتَرَدِّدٌ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ وَجَدَ جَمَاعَةً يُصَلُّونَ الظُّهْرَ . فَأَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ
مَعَهُمْ الصُّبْحَ فَلَمَّا قَامَ الْإِمَامُ لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ
فَارَقَهُ بِالسَّلَامِ فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الصَّلَاةُ ؟ وَعَلَى أَيِّ
مَذْهَبٍ تَصِحُّ ؟ .
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الصَّلَاةُ لَا تَصِحُّ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد
فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَتَصِحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ وَجَدَ الصَّلَاةَ قَائِمَةً فَنَوَى الِائْتِمَامَ وَظَنَّ أَنَّ
إمَامَهُ زَيْدٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو . هَلْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ ؟
وَكَذَلِكَ لَوْ ظَنَّ الْإِمَامُ فِي الْمَأْمُومِ مِثْلَ ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ إمَامِ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ
كَائِنًا
مَنْ كَانَ وَظَنَّ أَنَّهُ زَيْدٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو صَحَّتْ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَبْيَضُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَسْوَدُ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ عَلَيْهِ كِسَاءً فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَبَاءَةٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ خَطَأِ الظَّنِّ الَّذِي لَا يَقْدَحُ فِي الِائْتِمَامِ . وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ زَيْدٍ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ عَمْرٌو لَمْ يُصَلِّ خَلْفَهُ وَكَانَ عَمْرٌو فَهَذَا لَمْ يَأْتَمَّ بِهِ . وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . وَهَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَلَّى بِلَا ائْتِمَامٍ ؟ أَوْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ كَمَا لَوْ كَانَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ بَاطِلَةً وَالْمَأْمُومُ لَا يَعْلَمُ . فَلَا يَضُرُّ الْمُؤْتَمَّ الْجَهْلُ بِعَيْنِ الْإِمَامِ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْإِمَامِ الَّذِي يُصَلِّي بِتِلْكَ الْجَمَاعَةِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ لَمْ يَضُرَّهُ الْجَهْلُ بِعَيْنِ الْمَأْمُومِينَ بَلْ إذَا نَوَى الصَّلَاةَ بِمَنْ خَلْفَهُ جَازَ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ إذَا عُيِّنَ فَأَخْطَأَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ مُطْلَقًا . وَالصَّوَابُ : الْفَرْقُ بَيْنَ تَعْيِينِهِ بِالْقَصْدِ بِحَيْثُ يَكُونُ قَصْدُهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا خَلْفَهُ وَبَيْنَ تَعْيِينِ الظَّنِّ بِحَيْثُ يَكُونُ قَصْدُهُ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْإِمَامِ مُطْلَقًا . لَكِنْ ظَنَّ أَنَّهُ زَيْدٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ مُنْفَرِدًا . هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟
وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَمْ لَا ؟
وَالْأَئِمَّةُ الْقَائِلُونَ بِهَذَا مِنْ غَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛
كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ
وَالْأَوْزَاعِي قَدْ قَالَ عَنْهُمْ رَجُلٌ أَعْنِي عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ
الْمَذْكُورِينَ هَؤُلَاءِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ فَصَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ
مَا حُكْمُهُ ؟ وَهَلْ يَسُوغُ تَقْلِيدُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ لِمَنْ يَجُوزُ
لَهُ التَّقْلِيدُ ؟ كَمَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؟ أَمْ
لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ
الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ الْمُصَلِّيَ خَلْفَ الصَّفِّ
بِالْإِعَادَةِ وَقَالَ : { لَا صَلَاةَ لِفَذِّ خَلْفَ الصَّفِّ } وَقَدْ صَحَّحَ
الْحَدِيثَيْنِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَأَسَانِيدُهُمَا
مِمَّا تَقُومُ بِهِمَا الْحُجَّةُ ؛ بَلْ الْمُخَالِفُونَ لَهُمَا يَعْتَمِدُونَ
فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ عَلَى مَا هُوَ أَضْعَفُ إسْنَادًا مِنْهُمَا
وَلَيْسَ فِيهِمَا مَا يُخَالِفُ الْأُصُولَ بَلْ مَا فِيهِمَا هُوَ مُقْتَضَى النُّصُوصِ
الْمَشْهُورَةِ وَالْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ فَإِنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ
سُمِّيَتْ جَمَاعَةً
لِاجْتِمَاعِ الْمُصَلِّينَ فِي الْفِعْلِ مَكَانًا وَزَمَانًا فَإِذَا أَخَلُّوا بِالِاجْتِمَاعِ الْمَكَانِيِّ أَوْ الزَّمَانِيِّ مِثْلَ أَنْ يَتَقَدَّمُوا أَوْ بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ يَتَخَلَّفُوا عَنْهُ تَخَلُّفًا كَثِيرًا لِغَيْرِ عُذْرٍ كَانَ ذَلِكَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا مُفْتَرِقِينَ غَيْرَ مُنْتَظِمِينَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَلْفَ هَذَا وَهَذَا خَلْفَ هَذَا كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَةِ بَلْ قَدْ أُمِرُوا بِالِاصْطِفَافِ بَلْ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْوِيمِ الصُّفُوفِ وَتَعْدِيلِهَا وَتَرَاصِّ الصُّفُوفِ وَسَدِّ الْخَلَلِ وَسَدِّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ كُلُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي تَحْقِيقِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الِاصْطِفَافُ وَاجِبًا لَجَازَ أَنْ يَقِفَ وَاحِدٌ خَلْفَ وَاحِدٍ وَهَلُمَّ جَرَّا . وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ عِلْمًا عَامًّا أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ لَفَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَوْ مَرَّةً بَلْ وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلُوا الصَّفَّ غَيْرَ مُنْتَظِمٍ : مِثْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ هَذَا عَلَى هَذَا وَيَتَأَخَّرَ هَذَا عَنْ هَذَا لَكَانَ ذَلِكَ شَيْئًا قَدْ عُلِمَ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ بَلْ إذَا صَلَّوْا قُدَّامَ الْإِمَامِ كَانَ أَحْسَنَ مِنْ مِثْلِ هَذَا . فَإِذَا كَانَ الْجُمْهُورُ لَا يُصَحِّحُونَ الصَّلَاةَ قُدَّامَ الْإِمَامِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَكَيْفَ تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِ الِاصْطِفَافِ . فَقِيَاسُ الْأُصُولِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الِاصْطِفَافِ وَأَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ لَا تَصِحُّ كَمَا جَاءَ بِهِ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ هَذِهِ السُّنَّةُ
مِنْ وَجْهٍ يَثِقُ بِهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ لَمْ يَسْمَعْهَا وَقَدْ يَكُونُ ظَنَّ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ . وَاَلَّذِينَ عَارَضُوهُ احْتَجُّوا بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمَرْأَةِ مُنْفَرِدَةً كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ أَنَسًا وَالْيَتِيمَ صُفَّا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُفَّتْ الْعَجُوزُ خَلْفَهُمَا } . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّةِ وُقُوفِهَا مُنْفَرِدَةً إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْجَمَاعَةِ امْرَأَةٌ غَيْرَهَا كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِوُقُوفِ الْإِمَامِ مُنْفَرِدًا . وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ لَمَّا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّفِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ } . وَهَذِهِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لَا تُقَاوِمُ حُجَّةَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ وُقُوفَ الْمَرْأَةِ خَلْفَ صَفِّ الرِّجَالِ سُنَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا وَلَوْ وَقَفَتْ فِي صَفِّ الرِّجَالِ لَكَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا . وَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ يُحَاذِيهَا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . أَحَدُهُمَا تَبْطُلُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي حَفْصٍ . مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَالثَّانِي لَا تَبْطُلُ . كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا مَعَ تَنَازُعِهِمْ فِي الرَّجُلِ الْوَاقِفِ مَعَهَا : هَلْ يَكُونُ فَذًّا أَمْ لَا ؟ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد بُطْلَانُ صَلَاةِ مَنْ يَلِيهَا فِي الْمَوْقِفِ . وَأَمَّا وُقُوفُ الرَّجُلِ وَحْدَهُ خَلْفَ الصَّفِّ فَمَكْرُوهٌ وَتَرْكٌ لِلسُّنَّةِ بِاتِّفَاقِهِمْ فَكَيْفَ يُقَاسُ الْمَنْهِيُّ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَكَذَلِكَ وُقُوفُ الْإِمَامِ أَمَامَ الصَّفِّ هُوَ السُّنَّةُ . فَكَيْفَ يُقَاسُ الْمَأْمُورُ بِهِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ إنَّمَا هُوَ قِيَاسُ الْمَسْكُوتِ عَلَى الْمَنْصُوصِ أَمَّا قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى مَنْصُوصٍ يُخَالِفُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ كَقِيَاسِ الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ وَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا . ( وَالثَّانِي أَنَّ الْمَرْأَةَ وَقَفَتْ خَلْفَ الصَّفِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْ تُصَافُّهُ وَلَمْ يُمْكِنْهَا مُصَافَّةَ الرِّجَالِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مَعَهَا فِي الصَّلَاةِ امْرَأَةٌ لَكَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تَقُومَ مَعَهَا وَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الرَّجُلِ الْمُنْفَرِدِ عَنْ صَفِّ الرِّجَالِ . وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَجِدَ الرَّجُلُ مَوْقِفًا إلَّا خَلْفَ الصَّفِّ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُبْطِلِينَ لِصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ وَإِلَّا ظَهَرَ صِحَّةُ صَلَاتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ جَمِيعَ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ . وَطَرْدُ هَذَا صِحَّةُ صَلَاةِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْإِمَامِ لِلْحَاجَةِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد .
وَإِذَا كَانَ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَإِتْمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ فَكَذَلِكَ الِاصْطِفَافُ وَتَرْكُ التَّقَدُّمِ . وَطَرَدَ هَذَا بَقِيَّةَ مَسَائِلِ الصُّفُوفِ كَمَسْأَلَةِ مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَرَ الْإِمَامَ وَلَا مَنْ وَرَاءَهُ مَعَ سَمَاعِهِ لِلتَّكْبِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَمَّا الْإِمَامُ فَإِنَّمَا قُدِّمَ لِيَرَاهُ الْمَأْمُومُونَ فَيَأْتَمُّونَ بِهِ وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي الْمَأْمُومِ . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ مِنْ الِاصْطِفَافِ الْمَأْمُورَ بِهِ مَا يَكُونُ بِهِ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقِفَ وَحْدَهُ ثُمَّ يَجِيءُ آخَرُ فَيُصَافُّهُ فِي الْقِيَامِ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فِيهِ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ : " وَلَا تَعُدْ " وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الرَّكْعَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْفَذِّ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ وَهَذَا مُبَيَّنٌ مُفَسَّرٌ وَذَلِكَ مُجْمَلٌ حَتَّى لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ بِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّفِّ بَعْدَ اعْتِدَالِ الْإِمَامِ كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ لَكَانَ سَائِغًا فِي مِثْلِ هَذَا دُونَ مَا أَمَرَ فِيهِ بِالْإِعَادَةِ فَهَذَا لَهُ وَجْهٌ وَهَذَا لَهُ وَجْهٌ . وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ كَقَوْلِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد فَلَا يَسُوغُ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ الْمُنْفَرِدَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالنَّهْيِ وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ كَمَا أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ بِالْإِعَادَةِ .
وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الْمَذْكُورُونَ : فَمِنْ سَادَاتِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ إمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ أَجَلُّ مِنْ أَقْرَانِهِ : كَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ بْنِ حَيٍّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ (*) وَلَهُ مَذْهَبٌ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ بِأَرْضِ خُرَاسَانَ . وَالْأَوْزَاعِي إمَامُ أَهْلِ الشَّامِ وَمَا زَالُوا عَلَى مَذْهَبِهِ إلَى الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ بَلْ أَهْلُ الْمَغْرِبِ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إلَيْهِمْ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ : هُوَ شَيْخُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَعَ هَذَا فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمَا وَمَذْهَبُهُ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ وَمَذْهَبُهُمْ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ فَلَمْ يَجْمَعْ النَّاسُ الْيَوْمَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ ؛ بَلْ الْقَائِلُونَ بِهِ كَثِيرٌ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ . وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرْقٌ فِي الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بَيْنَ شَخْصٍ وَشَخْصٍ فَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِي وَالثَّوْرِيُّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةٌ فِي زَمَانِهِمْ وَتَقْلِيدُ كُلٍّ مِنْهُمْ كَتَقْلِيدِ الْآخَرِ لَا يَقُولُ مُسْلِمٌ إنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ هَذَا دُونَ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَقْلِيدِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّمَا نَمْنَعُهُ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَعْرِفُ مَذَاهِبَهُمْ وَتَقْلِيدُ الْمَيِّتِ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فَمَنْ مَنَعَهُ قَالَ : هَؤُلَاءِ مَوْتَى وَمَنْ سَوَّغَهُ قَالَ : لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْيَاءِ مَنْ يَعْرِفُ قَوْلَ الْمَيِّتِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ الْإِجْمَاعُ الْيَوْمَ قَدْ انْعَقَدَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ . وَيَنْبَنِي ذَلِكَ عَلَى مَسْأَلَةٍ مَعْرُوفَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهِيَ : أَنَّ الصَّحَابَةَ مَثَلًا أَوْ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ أَوْ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِهِمَا فَهَلْ يَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا يَرْفَعُ ذَلِكَ الْخِلَافَ ؟ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَمَنْ قَالَ : إنَّ مَعَ إجْمَاعِ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي لَا يَسُوغُ الْأَخْذُ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ وَاعْتَقَدَ أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ يُرَكِّبُ مِنْ هَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ الْمَنْعَ . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْخِلَافَ الْقَدِيمَ حُكْمُهُ بَاقٍ ؛ لِأَنَّ الْأَقْوَالَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ قَائِلِيهَا فَإِنَّهُ يَسُوغُ الذَّهَابَ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لِلْمُجْتَهِدِ الَّذِي وَافَقَ اجْتِهَادَهُ . وَأَمَّا التَّقْلِيدُ فَيَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ وَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أَيْضًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي يَقُولُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ أَوْ غَيْرُهُمْ قَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبَاقِيَةُ مَذَاهِبُهُمْ فَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُ مُؤَيَّدٌ بِمُوَافَقَةِ هَؤُلَاءِ وَيَعْتَضِدُ بِهِ وَيُقَابِلُ بِهَؤُلَاءِ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَقْرَانِهِمْ . فَيُقَابِلُ بِالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا إذْ الْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ مَالِكٌ
وَالْأَوْزَاعِي
وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَجُزْ أَنَّ يُقَالَ قَوْلُ هَذَا هُوَ
الصَّوَابُ دُونَ هَذَا إلَّا بِحُجَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
هَلْ التَّبْلِيغُ وَرَاءَ الْإِمَامِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ زَمَنِ الْخُلَفَاءِ
الرَّاشِدِينَ ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمَعَ الْأَمْنِ مِنْ إخْلَالِ شَيْءٍ مِنْ
مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَالطُّمَأْنِينَةِ الْمَشْرُوعَةِ وَاتِّصَالِ الصُّفُوفِ
وَالِاسْتِمَاعِ لِلْإِمَامِ مِنْ وَرَاءَهُ إنْ وَقَعَ خَلَلٌ مِمَّا ذُكِرَ هَلْ
يُطْلَقُ عَلَى فَاعِلِهِ الْبِدْعَةُ ؟ وَهَلْ ذَهَبَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ إلَى بُطْلَانِ صَلَاتِهِ بِذَلِكَ ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ اعْتَقَدَ
ذَلِكَ قُرْبَةً فَعَلَهُ أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَمْ يَكُنْ التَّبْلِيغُ وَالتَّكْبِيرُ وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّحْمِيدِ
وَالتَّسْلِيمِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَا عَلَى عَهْدِ خُلَفَائِهِ وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانِ طَوِيلٍ إلَّا
مَرَّتَيْنِ : مَرَّةً صُرِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
فَرَسٍ رَكِبَهُ فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ قَاعِدًا فَبَلَّغَ أَبُو بَكْرٍ عَنْهُ
التَّكْبِيرَ . كَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَمَرَّةً أُخْرَى فِي
مَرَضِ مَوْتِهِ بَلَّغَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا مَشْهُورٌ .
مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ مُؤْتَمًّا فِيهَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ إمَامًا لِلنَّاسِ فَيَكُونُ تَبْلِيغُ أَبِي بَكْرٍ إمَامًا لِلنَّاسِ وَإِنْ كَانَ مُؤْتَمًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَكَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { كَانَ النَّاسُ يَأْتَمُّونَ بِأَبِي بَكْرٍ وَأَبُو بَكْرٍ يَأْتَمُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ تَبْلِيغًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ ؛ لِمَرَضِهِ . وَالْعُلَمَاءُ الْمُصَنِّفُونَ لَمَّا احْتَاجُوا أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى جَوَازِ التَّبْلِيغِ لِحَاجَةِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا هَذَا وَهَذَا يَعْلَمُهُ عِلْمًا يَقِينِيًّا مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا التَّبْلِيغَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ لَيْسَ بِمُسْتَحَبِّ بَلْ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تَبْطُلُ صَلَاةُ فَاعِلِهِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا الْحَاجَةُ لِبُعْدِ الْمَأْمُومِ أَوْ لِضَعْفِ الْإِمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي هَذِهِ وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَحْمَد أَنَّهُ جَائِزٌ فِي هَذَا الْحَالِ وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَبَلَغَنِي أَنَّ أَحْمَد تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ وَحَيْثُ جَازَ وَلَمْ يَبْطُلُ فَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُخِلَّ بِشَيْءِ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ .
فَأَمَّا
إنْ كَانَ الْمُبَلِّغُ لَا يَطْمَئِنُّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَإِنْ كَانَ أَيْضًا يَسْبِقُ
الْإِمَامَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَهُوَ الَّذِي
دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَإِنْ كَانَ يُخِلُّ
بِالذِّكْرِ الْمَفْعُولِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ
فَفِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ خِلَافٌ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهَا
تَبْطُلُ وَلَا رَيْبَ أَنَّ التَّبْلِيغَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ بِدْعَةٌ وَمَنْ
اعْتَقَدَهُ قُرْبَةً مُطْلَقَةً فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إمَّا جَاهِلٌ وَإِمَّا
مُعَانِدٌ وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الطَّوَائِفِ قَدْ ذَكَرُوا
ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ حَتَّى فِي الْمُخْتَصَرَاتِ . قَالُوا : وَلَا يَجْهَرُ
بِشَيْءِ مِنْ التَّكْبِيرِ . إلَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى
اعْتِقَادِ كَوْنِهِ قُرْبَةً فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ
الْإِجْمَاعَ هَذَا أَقَلُّ أَحْوَالِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ :
هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُكَبَّرُ خَلْفَ الْإِمَامِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يُشْرَعُ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ خَلْفَ الْإِمَامِ الَّذِي هُوَ
الْمُبَلِّغُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ : بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّ بِلَالًا لَمْ
يَكُنْ يُبَلِّغُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَلَا
غَيْرُهُ وَلَمْ يَكُنْ يُبَلِّغُ خَلْفَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَكِنْ
لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالنَّاسِ
مَرَّةً وَصَوْتُهُ ضَعِيفٌ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي إلَى جَنْبِهِ يُسْمِعُ
النَّاسَ التَّكْبِيرَ فَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِذَلِكَ
عَلَى
أَنَّهُ يُشْرَعُ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الْحَاجَةِ : مِثْلَ ضَعْفِ صَوْتِهِ فَأَمَّا
بِدُونِ ذَلِكَ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ .
وَتَنَازَعُوا فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ يَفْعَلُهُ . عَلَى قَوْلَيْنِ :
وَالنِّزَاعُ فِي الصِّحَّةِ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد
وَغَيْرِهِمَا . غَيْرَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ التَّبْلِيغِ خَلْفَ الْإِمَامِ : هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ بِدْعَةٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا التَّبْلِيغُ خَلْفَ الْإِمَامِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ غَيْرُ
مُسْتَحَبَّةٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَإِنَّمَا يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ
الْإِمَامُ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَخُلَفَاؤُهُ يَفْعَلُونَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُبَلِّغُ خَلْفَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعُفَ صَوْتُهُ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يُسْمِعُ بِالتَّكْبِيرِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ تَبْطُلُ
صَلَاةُ الْمُبَلِّغِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد
وَغَيْرِهِمَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ تُجْزِئُ الصَّلَاةُ قُدَّامَ الْإِمَامِ أَوْ خَلْفَهُ فِي الْمَسْجِدِ
وَبَيْنَهُمَا حَائِلٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا صَلَاةُ الْمَأْمُومِ قُدَّامَ الْإِمَامِ . فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا تَصِحُّ مُطْلَقًا وَإِنْ قِيلَ إنَّهَا
تُكْرَهُ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالْقَوْلُ
الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مُطْلَقًا
كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ مِنْ
مَذْهَبِهِمَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا تَصِحُّ مَعَ الْعُذْرِ دُونَ غَيْرِهِ
مِثْلَ مَا إذَا كَانَ زَحْمَةً فَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ
أَوْ الْجِنَازَةَ إلَّا قُدَّامَ الْإِمَامِ فَتَكُونُ صَلَاتُهُ قُدَّامَ
الْإِمَامِ خَيْرًا لَهُ مِنْ تَرْكِهِ لِلصَّلَاةِ . وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ
مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَهُوَ
أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَرْجَحُهَا
وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَ التَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَامِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْوَاجِبَاتُ كُلُّهَا تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ . وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ فَالْوَاجِبُ فِي الْجَمَاعَةِ أَوْلَى بِالسُّقُوطِ ؛ وَلِهَذَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُصَلِّي مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَاللِّبَاسِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ يَجْلِسُ فِي الْأَوْتَارِ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مُنْفَرِدًا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ أَدْرَكَهُ سَاجِدًا أَوْ قَاعِدًا كَبَّرَ وَسَجَدَ مَعَهُ وَقَعَدَ مَعَهُ ؛ لِأَجْلِ الْمُتَابَعَةِ . مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ لَهُ بِذَلِكَ وَيَسْجُدُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ هُوَ لَمْ يَسْهَ . وَأَيْضًا فَفِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَعْمَلُ الْعَمَلَ الْكَثِيرَ وَيُفَارِقُ الْإِمَامَ قَبْلَ السَّلَامِ وَيَقْضِي الرَّكْعَةَ الْأُولَى قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ لِأَجْلِ الْجَمَاعَةِ وَلَوْ فَعَلَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ . وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ : أَنَّ الْإِمَامَ الرَّاتِبَ إذَا صَلَّى جَالِسًا صَلَّى الْمَأْمُومُونَ جُلُوسًا ؛ لِأَجْلِ مُتَابَعَتِهِ فَيَتْرُكُونَ الْقِيَامَ الْوَاجِبَ لِأَجْلِ الْمُتَابَعَةِ كَمَا اسْتَفَاضَتْ
السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلَّوْا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ } . وَالنَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : قِيلَ : لَا يَؤُمُّ الْقَاعِدُ الْقَائِمَ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ . وَقِيلَ : بَلْ يَؤُمُّهُمْ وَيَقُومُونَ وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقُعُودِ مَنْسُوخٌ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : بَلْ ذَلِكَ مُحْكَمٌ وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأسيد بْنِ حضير وَغَيْرِهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا . وَعَلَى هَذَا فَلَوْ صَلَّوْا قِيَامًا فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهِمْ قَوْلَانِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْجَمَاعَةَ تُفْعَلُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ لَا يُمْكِنُهُ الِائْتِمَامُ بِإِمَامِهِ إلَّا قُدَّامَهُ كَانَ غَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْمَوْقِفَ لِأَجْلِ الْجَمَاعَةِ وَهَذَا أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهِ وَمِثْلُ هَذَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَلَوْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُصَافُّهُ وَلَمْ يَجْذِبْ أَحَدًا يُصَلِّي مَعَهُ صَلَّى وَحْدَهُ خَلْفَ الصَّفِّ وَلَمْ يَدَعْ الْجَمَاعَةَ كَمَا أَنَّ
الْمَرْأَةَ
إذَا لَمْ تَجِدْ امْرَأَةً تُصَافُّهَا فَإِنَّهَا تَقِفُ وَحْدَهَا خَلْفَ
الصَّفِّ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَهُوَ إنَّمَا أُمِرَ بِالْمُصَافَّةِ مَعَ
الْإِمْكَانِ لَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُصَافَّةِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا صَلَاةُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ أَوْ فِي
الْمَسْجِدِ وَبَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَإِنْ كَانَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً جَازَ
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أَوْ نَهْرٌ تَجْرِي
فِيهِ السُّفُنُ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد
: أَحَدُهُمَا : الْمَنْعُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي : الْجَوَازُ
كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ يَمْنَعُ
الرُّؤْيَةَ وَالِاسْتِطْرَاقَ فَفِيهَا عِدَّةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يَجُوزُ وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ . وَقِيلَ : يَجُوزُ فِي
الْمَسْجِدِ دُونَ غَيْرِهِ . وَقِيلَ : يَجُوزُ مَعَ الْحَاجَةِ وَلَا يَجُوزُ
بِدُونِ الْحَاجَةِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مَعَ الْحَاجَةِ
مُطْلَقًا : مِثْلَ أَنْ تَكُونَ أَبْوَابُ الْمَسْجِدِ مُغْلَقَةً أَوْ تَكُونَ
الْمَقْصُورَةُ الَّتِي فِيهَا الْإِمَامُ
مُغْلَقَةً
أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ . فَهُنَا لَوْ كَانَتْ الرُّؤْيَةُ وَاجِبَةً لَسَقَطَتْ
لِلْحَاجَةِ . كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ وَاجِبَاتِ
الصَّلَاةِ وَالْجَمَاعَةِ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي
الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاةِ الْإِنْسَانِ وَحْدَهُ بِكُلِّ حَالٍ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ حَائِلٌ
بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَرَى مَنْ يَرَاهُ : هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ ؟ أَمْ
لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .
وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ أَحْمَد فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمِنْبَرَ
لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ وَالسُّنَّةُ فِي الصُّفُوفِ أَنْ يُتِمُّوا
الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ . فَمَنْ صَلَّى فِي
مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ مَعَ خُلُوِّ مَا يَلِي الْإِمَامَ كَانَتْ صَلَاتُهُ
مَكْرُوهَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ إمَامٍ يُصَلِّي خَلْفَهُ جَمَاعَةٌ وَقُدَّامَهُ جَمَاعَةٌ . فَهَلْ تَصِحُّ
صَلَاةُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى الْإِمَامِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الَّذِينَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَصَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ
بِلَا رَيْبٍ . وَأَمَّا الَّذِينَ قُدَّامَهُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِمْ ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ . قِيلَ : تَصِحُّ . وَقِيلَ : لَا تَصِحُّ . وَقِيلَ : تَصِحُّ إذَا
لَمْ يُمْكِنْهُمْ الصَّلَاةُ مَعَهُ إلَّا تَكَلُّفًا وَهَذَا أَوْلَى
الْأَقْوَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ :
عَنْ الْحَوَانِيتِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْجَامِعِ مِنْ أَرْبَابِ الْأَسْوَاقِ ،
إذَا اتَّصَلَتْ بِهِمْ الصُّفُوفُ ن فَهَلْ تَجُوزُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي
حَوَانِيتِهِمْ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا فَعَلَى النَّاسِ أَنْ يَسُدُّوا
الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالَ : يَسُدُّونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ } . فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَسُدَّ الصُّفُوفَ الْمُؤَخَّرَةَ مَعَ خُلُوِّ الْمُقَدِّمَةِ وَلَا يُصَفُّ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْحَوَانِيتِ مَعَ خُلُوِّ الْمَسْجِدِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ التَّأْدِيبَ وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ تَخَطِّيهِ وَيَدْخُلُ لِتَكْمِيلِ الصُّفُوفِ الْمُقَدَّمَةِ فَإِنَّ هَذَا لَا حُرْمَةَ لَهُ . كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُقَدِّمَ مَا يُفْرَشُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَيَتَأَخَّرَ هُوَ وَمَا فُرِشَ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ بَلْ يُزَالُ وَيُصَلِّي مَكَانَهُ عَلَى الصَّحِيحِ بَلْ إذَا امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ بِالصُّفُوفِ صَفُّوا خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَإِذَا اتَّصَلَتْ الصُّفُوفُ حِينَئِذٍ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَسْوَاقِ صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ . وَأَمَّا إذَا صَفُّوا وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الصَّفِّ الْآخَرِ طَرِيقٌ يَمْشِي النَّاسُ فِيهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُمْ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الصُّفُوفِ حَائِطٌ بِحَيْثُ لَا يَرَوْنَ الصُّفُوفَ وَلَكِنْ يَسْمَعُونَ التَّكْبِيرَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى فِي حَانُوتِهِ وَالطَّرِيقُ خَالٍ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَلَيْسَ
لَهُ
أَنْ يَقْعُدَ فِي الْحَانُوتِ وَيَنْتَظِرَ اتِّصَالَ الصُّفُوفِ بِهِ بَلْ
عَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ فَيَسُدَّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الْأَسْوَاقِ وَفِي الدَّكَاكِينِ وَالطُّرُقَاتِ
اخْتِيَارًا هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ اتَّصَلَتْ الصُّفُوفُ فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ لِمَنْ تَأَخَّرَ وَلَمْ
يُمْكِنْهُ إلَّا ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا تَعَمَّدَ الرَّجُلُ أَنْ يَقْعُدَ
هُنَاكَ . وَيَتْرُكَ الدُّخُولَ إلَى الْمَسْجِدِ كَاَلَّذِينَ يَقْعُدُونَ فِي
الْحَوَانِيتِ فَهَؤُلَاءِ مُخْطِئُونَ مُخَالِفُونَ لِلسُّنَّةِ . فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا
تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ تَصُفُّ
الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالَ : يُكْمِلُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ
وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ } . وَقَالَ : { خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ
أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا } . وَأَمَّا إذَا لَمْ تَتَّصِلْ الصُّفُوفُ بَلْ
كَانَ بَيْنَ الصُّفُوفِ طَرِيقٌ فَفِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ قَوْلَانِ
لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد.
أَحَدُهُمَا
: لَا تَصِحُّ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي : تَصِحُّ كَقَوْلِ
الشَّافِعِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ جَامِعٍ بِجَانِبِ السُّوقِ بِحَيْثُ يُسْمَعُ التَّكْبِيرُ مِنْهُ : هَلْ
تَجُوزُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي السُّوقِ ؟ أَوْ عَلَى سَطْحِ السُّوقِ ؟ أَوْ
فِي الدَّكَاكِينِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا امْتَلَأَ الْجَامِعُ جَازَ أَنْ يُصَلَّى فِي
الطُّرُقَاتِ . فَإِذَا امْتَلَأَتْ صَلَّوْا فِيمَا بَيْنَهَا مِنْ الْحَوَانِيتِ
. وَغَيْرِهَا . وَأَمَّا إذَا لَمْ تَتَّصِلْ الصُّفُوفُ فَلَا . وَكَذَلِكَ
فَوْقَ الأسطحة وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ جَمَعَ جَمَاعَةً عَلَى نَافِلَةٍ وَأَمَّهُمْ مِنْ أَوَّلِ رَجَبٍ
إلَى آخِرِ رَمَضَانَ يُصَلِّي بِهِمْ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ عِشْرِينَ رَكْعَةً
بِعَشْرِ تَسْلِيمَاتٍ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَتَّخِذُ ذَلِكَ شِعَارًا وَيَحْتَجُّ
بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
وَالْأَنْصَارِيَّ الَّذِي قَالَ لَهُ : السُّيُولُ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَك
فَهَلْ هَذَا مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ
أَمْ لَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي جَمَاعَةٍ
نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ الرَّاتِبَةُ
كَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَقِيَامِ رَمَضَانَ فَهَذَا يُفْعَلُ فِي
الْجَمَاعَةِ دَائِمًا كَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ . الثَّانِي : مَا لَا
تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ الرَّاتِبَةُ : كَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالسُّنَنِ
الرَّوَاتِبِ وَصَلَاةِ الضُّحَى وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
فَهَذَا
إذَا فُعِلَ جَمَاعَةً أَحْيَانًا جَازَ . وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ الرَّاتِبَةُ فِي
ذَلِكَ فَغَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بَلْ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَكُونُوا
يَعْتَادُونَ الِاجْتِمَاعَ لِلرَّوَاتِبِ عَلَى مَا دُونَ هَذَا . وَالنَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا تَطَوَّعَ فِي ذَلِكَ فِي جَمَاعَةٍ
قَلِيلَةٍ أَحْيَانًا فَإِنَّهُ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَحْدَهُ ؛ لَكِنْ لَمَّا
بَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَهُ صَلَّى مَعَهُ وَلَيْلَةً أُخْرَى صَلَّى مَعَهُ
حُذَيْفَةُ وَلَيْلَةً أُخْرَى صَلَّى مَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَكَذَلِكَ صَلَّى
عِنْدَ عتبان بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ فِي مَكَانٍ يَتَّخِذُهُ مُصَلًّى
صَلَّى مَعَهُ وَكَذَلِكَ صَلَّى بِأَنَسِ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ . وَعَامَّةُ
تَطَوُّعَاتِهِ إنَّمَا كَانَ يُصَلِّيهَا مُفْرَدًا وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ
فِي التَّطَوُّعَاتِ الْمَسْنُونَةِ فَأَمَّا إنْشَاءُ صَلَاةٍ بِعَدَدِ مُقَدَّرٍ
وَقِرَاءَةٍ مُقَدَّرَةٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ تُصَلَّى جَمَاعَةً رَاتِبَةً
كَهَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا : " كَصَلَاةِ الرَّغَائِبِ
" فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ " وَالْأَلْفِيَّةِ " فِي
أَوَّلِ رَجَبٍ وَنِصْفِ شَعْبَانَ وَلَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ
رَجَبٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ
الْإِسْلَامِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الْمُعْتَبَرُونَ وَلَا يُنْشِئُ
مِثْلَ هَذَا إلَّا جَاهِلٌ مُبْتَدِعٌ وَفَتْحُ مِثْلِ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ
تَغْيِيرَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَأَخْذِ نَصِيبٍ مِنْ حَالِ الَّذِينَ شَرَعُوا
مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ
الْجُزْءُ
الْرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ
كِتَابُ الفِقْهِ
الْجُزْءُ الرَّابِع : من صَلَاةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ إلى الزَّكَاةِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بَابُ صَلَاةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ شَيْخٍ كَبِيرٍ وَقَدْ انْحَلَّتْ أَعْضَاؤُهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ
يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ وَلَا يَتَحَرَّكَ وَلَا يَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ وَإِذَا
سَجَدَ مَا يَسْتَطِيعُ الرَّفْعَ فَكَيْفَ يُصَلِّي ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيُصَلِّي قَاعِدًا
إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الْقِيَامَ وَيُومِئُ بِرَأْسِهِ إيمَاءً بِحَسَبِ حَالِهِ
وَإِنْ سَجَدَ عَلَى فَخْذِهِ جَازَ وَيَمْسَحُ بِخِرْقَةٍ إذَا تَخَلَّى
وَيُوَضِّئُهُ غَيْرُهُ إذَا أَمْكَنَ وَيَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فيوضيه
فِي آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِلَا قَصْرٍ ثُمَّ
إذَا دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ويوضيه الْفَجْرَ
. وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصَّلَاةَ قَاعِدًا صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ وَوَجْهُهُ
إلَى الْقِبْلَةِ ،
وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يُوَضِّئُهُ وَلَا يُيَمِّمُهُ صَلَّى عَلَى حَسَبِ
حَالِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى قَفَاهُ وَرِجْلَاهُ إلَى الْقِبْلَةِ أَوْ عَلَى
جَنْبِهِ وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ
يُوَجِّهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى إلَى أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَ شَرْقًا أَوْ
غَرْبًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
هَلْ تَجُوزُ صَلَاةُ الْمَرْأَةِ قَاعِدَةً مَعَ قُدْرَتِهَا عَلَى الْقِيَامِ ؟
فَأَجَابَ :
فَصْلٌ : وَأَمَّا صَلَاةُ الْفَرْضِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ
فَلَا تَصِحُّ لَا مِنْ رَجُلٍ وَلَا امْرَأَةٍ بَلْ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا
فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِك } . وَلَكِنْ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ
جَالِسًا وَيَجُوزُ التَّطَوُّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ قِبَلَ أَيِّ
جِهَةٍ تَوَجَّهَتْ بِصَاحِبِهَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ
يُصَلِّي
عَلَى دَابَّتِهِ قِبَلَ أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا
غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ . وَيَجُوزُ لِلْمَرِيضِ
إذَا شَقَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ رَجُلٌ لَا يُمْكِنُهُ النُّزُولُ
إلَى الْأَرْضِ صَلَّى عَلَى رَاحِلَتِهِ وَالْخَائِفُ مِنْ عَدُوِّهِ إذَا نَزَلَ
يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
هَلْ الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ أَوْ عَزِيمَةٌ ؟ وَعَنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ
الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ طَلْحَةَ
بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : كُلُّ
ذَلِكَ قَدْ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَرَ
الصَّلَاةَ وَأَتَمَّ } .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ فَهُوَ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ فَإِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ قَطُّ إلَّا
رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ فِي
السَّنَةِ
الْأُولَى مِنْ خِلَافَتِهِ لَكِنَّهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَتَمَّهَا بِمِنًى لِأَعْذَارٍ مَذْكُورَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ خَطَأٌ عَلَى عَائِشَةَ . وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي يَحْيَى الْمَدَنِيُّ الْقَدَرِيُّ وَهُوَ وَطَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو الْمَكِّيُّ ضَعِيفَانِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَا يُحْتَجُّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا هُوَ دُونَ هَذَا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : " فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ " . وَقِيلَ لِعُرْوَةِ : فَلِمَ أَتَمَّتْ عَائِشَةُ الصَّلَاةَ ؟ قَالَ : تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ . فَهَذِهِ عَائِشَةُ تُخْبِرُ بِأَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَابْنُ أُخْتِهَا عُرْوَةُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَا : يُذْكَرُ أَنَّهَا أَتَمَّتْ بِالتَّأْوِيلِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا بِذَلِكَ سُنَّةٌ . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ { عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمْعَةِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ } . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ نَقَلُوا بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا قَطُّ وَلَكِنَّ الثَّابِتَ عَنْهُ أَنَّهُ صَامَ فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ وَكَانَ أَصْحَابُهُ مِنْهُمْ الصَّائِمُ وَمِنْهُمْ الْمُفْطِرُ .
وَأَمَّا الْقَصْرُ فَكُلُّ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَقْصُرُونَ مِنْهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُ أَهْلِ مَكَّةِ بِمِنًى وَعَرَفَةَ وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّرْبِيعِ : هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ أَوْ تُرِكَ لِلْأَوْلَى ؟ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ أَوْ هُمَا سَوَاءٌ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ . كَقَوْلِ لِلشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا . كَبَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَالثَّالِثُ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْقَصْرُ أَفْضَلُ : كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الصَّحِيحِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَالرَّابِعُ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْإِتْمَامُ مَكْرُوهٌ كَقَوْلِ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَالْخَامِسُ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقَصْرَ وَاجِبٌ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ . وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ سُنَّةٌ وَأَنَّ الْإِتْمَامَ مَكْرُوهٌ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ نِيَّةُ الْقَصْرِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَنْهُ فِي مَذْهَبِهِ .
وَسُئِلَ
:
هَلْ لِمَسَافَةِ الْقَصْرِ قَدْرٌ مَحْدُودٌ عَنْ الشَّارِعِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
فَأَجَابَ :
السُّنَّةُ أَنْ يَقْصُرَ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ فَيُصَلِّيَ الرُّبَاعِيَّةَ
رَكْعَتَيْنِ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ . هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَلَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ
أَرْبَعًا قَطُّ . وَمَا رُوِيَ عَنْهُ { أَنَّهُ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا
فِي حَيَاتِهِ } فَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ . وَقَدْ
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُسَافِرِ إذَا صَلَّى أَرْبَعًا . فَقِيلَ : لَا
يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ وَالْجُمْعَةَ
وَالْعِيدَ أَرْبَعًا وَقِيلَ : يَجُوزُ وَلَكِنَّ الْقَصْرَ أَفْضَلُ عِنْدَ
عَامَّتِهِمْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا خِلَافٌ شَاذٌّ وَلَا يَفْتَقِرُ الْقَصْرُ إلَى
نِيَّةٍ ؛ بَلْ لَوْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَ
أَرْبَعًا اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَجَّ
بِالْمُسْلِمِينَ حِجَّةَ الْوَدَاعِ يُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ
إلَى أَنْ رَجَعَ } وَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ
وَالْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ وَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ
جَمْعًا وَقَصْرًا . وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا أَنْ يَنْوِيَ لَا جَمْعًا وَلَا
قَصْرًا .
وَأَقَامَ بِمِنًى يَوْمَ الْعِيدِ وَ أَمَامَ مِنًى يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَالْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بَعْدَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا لَا بِمِنًى وَلَا بِغَيْرِهَا فَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَيَقْصُرُونَ بِهَا وَبِمِنًى وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ كَمَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَة وَهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَاخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَأَبِي الْخَطَّابِ فِي عِبَادَاتِهِ . وَقَدْ قِيلَ : يَجْمَعُونَ وَلَا يَقْصُرُونَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَقِيلَ : لَا يَقْصُرُونَ وَلَا يَجْمَعُونَ . كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ . وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقْصُرُونَ وَيَجْمَعُونَ هُنَاكَ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ هُنَاكَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ هُنَاكَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ ؛ وَلَكِنْ نُقِلَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ دَاخِلَ مَكَّةَ وَكَذَلِكَ كَانَ عُمَرُ يَأْمُرُ أَهْلَ مَكَّةَ بِالْإِتْمَامِ إذَا صَلَّى بِهِمْ فِي الْبَلَدِ وَأَمَّا بِمِنًى فَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَصْرِ أَهْلِ مَكَّةَ خَلْفَهُ فَقِيلَ : كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ النُّسُكِ فَلَا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ سَفَرًا قَصِيرًا هُنَاكَ وَقِيلَ : بَلْ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ السَّفَرِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَالْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَصَرُوا لِأَجْلِ سَفَرِهِمْ وَلِهَذَا لَمْ يَكُونُوا يَقْصُرُونَ بِمَكَّةَ وَكَانُوا مُحْرِمِينَ وَالْقَصْرُ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا فَلَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إلَّا مُسَافِرٌ وَكُلُّ مُسَافِرٍ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَمَا { قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ النَّحْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمْعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ نَقْصٍ : أَيْ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : " فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ " . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يَخْتَصُّ بِسَفَرٍ دُونَ سَفَرٍ ؟ أَمْ يَجُوزُ فِي كُلِّ سَفَرٍ ؟ وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي كُلِّ سَفَرٍ قَصِيرًا كَانَ أَوْ طَوِيلًا كَمَا قَصَرَ أَهْلُ مَكَّةَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَمِنًى وَبَيْنَ مَكَّةَ وَعَرَفَةَ نَحْوُ بَرِيدٍ أَرْبَعِ فَرَاسِخَ . وَأَيْضًا فَلَيْسَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَخُصَّانِ بِسَفَرٍ دُونَ سَفَرٍ لَا بِقَصْرٍ وَلَا بِفِطْرِ وَلَا تَيَمُّمٍ وَلَمْ يَحُدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ بِحَدِّ لَا زَمَانِيٍّ وَلَا مَكَانِيٍّ وَالْأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي ذَلِكَ مُتَعَارِضَةٌ
لَيْسَ
عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ وَهِيَ مُتَنَاقِضَةٌ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُدَّ
ذَلِكَ بِحَدٍّ صَحِيحٍ . فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تُذْرَعُ بِذَرْعِ مَضْبُوطٍ فِي
عَامَّةِ الْأَسْفَارِ وَحَرَكَةُ الْمُسَافِرِ تَخْتَلِفُ . وَالْوَاجِبُ أَنْ
يُطْلَقَ مَا أَطْلَقَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَيُقَيَّدَ مَا قَيَّدَهُ فَيَقْصُرُ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ سَفَرٍ
وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسَّفَرِ مِنْ الْقَصْرِ
وَالصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ . وَمَنْ قَسَّمَ
الْأَسْفَارَ إلَى قَصِيرٍ وَطَوِيلٍ وَخَصَّ بَعْضَ الْأَحْكَامِ بِهَذَا
وَبَعْضَهَا بِهَذَا وَجَعَلَهَا مُتَعَلِّقَةً بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ فَلَيْسَ
مَعَهُ حُجَّةٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
إذَا سَافَرَ إنْسَانٌ سَفَرًا مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثَةِ
فَرَاسِخَ هَلْ يُبَاحُ لَهُ الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ ؛ بَلْ أَرْبَعَةٌ ؛ بَلْ خَمْسَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَا الْجَمْعُ وَلَا الْقَصْرُ . وَالثَّانِي : يُبَاحُ الْجَمْعُ دُونَ الْقَصْرِ . وَالثَّالِثُ : يُبَاحُ الْجَمْعُ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ خَاصَّةً لِلْمَكِّيِّ وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ قَصِيرًا . وَالرَّابِعُ : يُبَاحُ الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ . وَالْخَامِسُ : يُبَاحُ ذَلِكَ مُطْلَقًا . وَاَلَّذِي يَجْمَعُ لِلسَّفَرِ هَلْ يُبَاحُ لَهُ الْجَمْعُ مُطْلَقًا أَوْ لَا يُبَاحُ إلَّا إذَا كَانَ مُسَافِرًا ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا وَلِهَذَا نَصَّ أَحْمَد عَلَى أَنَّهُ يَجْمَعُ إذَا كَانَ لَهُ شَغْلٌ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى كُلُّ عُذْرٍ يُبِيحُ تَرْكَ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ يُبِيحُ الْجَمْعَ وَلِهَذَا يُجْمَعُ لِلْمَطَرِ وَالْوَحْلِ وَلِلرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ ؛ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَيَجْمَعُ الْمَرِيضُ وَالْمُسْتَحَاضَةُ وَالْمُرْضِعُ فَإِذَا جَدَّ السَّيْرُ بِالْمُسَافِرِ جَمَعَ سَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا كَمَا مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . يَجْمَعُ النَّاسُ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ الْمَكِّيُّ وَغَيْرُ الْمَكِّيِّ مَعَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَفَرُهُمْ قَصِيرٌ . وَكَذَلِكَ جَمَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمَتَى قَصَرُوا يَقْصُرُ خَلْفَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُ أَهْلِ مَكَّةَ وَعَرَفَةُ مِنْ مَكَّةَ
بَرِيدٌ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد كَأَبِي الْخَطَّابِ فِي الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ : إنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقْصُرُونَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ وَإِنْ كَانَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ بِخِلَافِهِ : أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَقِّتْ لِلْقَصْرِ مَسَافَةً وَلَا وَقْتًا وَقَدْ قَصَرَ خَلْفَهُ أَهْلُ مَكَّةَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي الدَّلِيلِ . وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ سَفَرًا . مِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّدَ لَهُ وَيَبْرُزَ لِلصَّحْرَاءِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مِثْلِ دِمَشْقَ وَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ قُرَاهَا الشَّجَرِيَّةِ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ كَمَا يَنْتَقِلُ مِنْ الصالحية إلَى دِمَشْقَ فَهَذَا لَيْسَ بِمُسَافِرِ كَمَا أَنَّ مَدِينَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْقُرَى الْمُتَقَارِبَةِ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ نَخِيلُهُمْ وَمَقَابِرُهُمْ وَمَسَاجِدُهُمْ قُبَاء وَغَيْرِ قُبَاء وَلَمْ يَكُنْ خُرُوجُ الْخَارِجِ إلَى قُبَاء سَفَرًا وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَقْصُرُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ } فَجَمِيعُ الْأَبْنِيَةِ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْمَدِينَةِ وَمَا خَرَجَ عَنْ أَهْلِهَا فَهُوَ مِنْ الْأَعْرَابِ أَهْلِ الْعَمُودِ . وَالْمُنْتَقِلُ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ نَاحِيَةٍ إلَى نَاحِيَةٍ لَيْسَ بِمُسَافِرِ وَلَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَلَكِنَّ هَذِهِ مَسَائِلُ اجْتِهَادٍ
فَمَنْ
فَعَلَ مِنْهَا بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَلَمْ
يُهْجَرْ . وَهَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ هَلْ يُشْتَرَطُ لَهُ
نِيَّةٌ ؟ فَالْجُمْهُورُ لَا يَشْتَرِطُونَ النِّيَّةَ كَمَالِكٍ وَأَبِي
حَنِيفَةَ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ مُقْتَضَى
نُصُوصِهِ . وَالثَّانِي : تُشْتَرَطُ . كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ
أَصْحَابِ أَحْمَد كالخرقي وَغَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَمَنْ عَمِلَ
بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ سَفَرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقْصُرَ فِيهِ وَيَفْطُرَ
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ
الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ كَمَا { قَصَرَ أَهْلُ مَكَّةَ
خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ }
وَعَرَفَةُ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَسِيرَةُ بَرِيدٍ ؛ وَلِأَنَّ السَّفَرَ
مُطْلَقٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ مُسَافِرٍ إلَى بَلَدٍ وَمَقْصُودُهُ أَنْ يُقِيمَ مُدَّةَ شَهْرٍ
أَوْ أَكْثَرَ فَهَلْ يُتِمُّ الصَّلَاةَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا نَوَى أَنْ يُقِيمَ بِالْبَلَدِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا قَصَرَ
الصَّلَاةَ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
دَخَلَ مَكَّةَ . فَإِنَّهُ أَقَامَ بِهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ يَقْصُرُ
الصَّلَاةَ . وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَالْأَحْوَطُ أَنْ يُتِمَّ
الصَّلَاةَ . وَأَمَّا إنْ قَالَ غَدًا أُسَافِرُ أَوْ بَعْدَ غَدٍ أُسَافِرُ
وَلَمْ يَنْوِ الْمُقَامَ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ أَبَدًا فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِمَكَّةَ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ
الصَّلَاةَ وَأَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ } .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ خَرَجَ إلَى الْخَرِبَةِ لِأَجْلِ الْحُمَّى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ
يُقِيمُ مُدَّةَ شَهْرَيْنِ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ ؟ وَإِذَا جَازَ
الْقَصْرُ . فَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ أَمْ الْقَصْرُ ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الْإِتْمَامَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الْقَصْرَ وَالصَّحِيحُ أَنَّ كِلَاهُمَا سَائِغٌ فَمَنْ قَصَرَ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَمَنْ أَتَمَّ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي الْأَفْضَلِ : فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَكٌّ فِي جَوَازِ الْقَصْرِ فَأَرَادَ الِاحْتِيَاطَ فَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ وَأَمَّا مَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ السُّنَّةُ وَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْرَعْ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يُحِدَّ السَّفَرَ بِزَمَانٍ أَوْ بِمَكَانِ وَلَا حَدَّ الْإِقَامَةَ أَيْضًا بِزَمَنٍ مَحْدُودٍ لَا ثَلَاثَةٍ وَلَا أَرْبَعَةٍ وَلَا اثْنَا عَشَرَ وَلَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ . كَمَا كَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ يَفْعَلُ حَتَّى كَانَ مَسْرُوقٌ قَدْ وَلَّوْهُ وِلَايَةً لَمْ يَكُنْ يَخْتَارُهَا فَأَقَامَ سِنِينَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ . وَقَدْ أَقَامَ الْمُسْلِمُونَ بِنَهَاوَنْدَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ وَكَانُوا يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ حَاجَتَهُمْ لَا تَنْقَضِي فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَلَا أَكْثَرَ . كَمَا أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ وَأَقَامُوا بِمَكَّةَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ يُفْطِرُونَ فِي رَمَضَانَ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ . وَإِذَا كَانَ التَّحْدِيدُ لَا أَصْلَ لَهُ فَمَا دَامَ الْمُسَافِرُ مُسَافِرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَلَوْ أَقَامَ فِي مَكَانٍ شُهُورًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . كَتَبَهُ : أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة .
وَسُئِلَ
:
هَلْ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ أَمْ الْقَصْرُ ؟
وَمَا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ؟ وَمَا حُجَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ ؟ وَمَا
الرَّاجِحُ مِنْ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ فِعْلُ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا أَفْضَلُ إذَا لَمْ
يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى الْجَمْعِ فَإِنَّ غَالِبَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كَانَ يُصَلِّيهَا فِي السَّفَرِ إنَّمَا
يُصَلِّيهَا فِي أَوْقَاتِهَا . وَإِنَّمَا كَانَ الْجَمْعُ مِنْهُ مَرَّاتٍ
قَلِيلَةً . وَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ
وَظَنُّهُمْ أَنَّ هَذَا يُشْرَعُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ وَالْجَمْعُ رُخْصَةٌ
عَارِضَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
جَمِيعِ أَسْفَارِهِ كَانَ يُصَلِّي الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَنْقُلْ
أَحَدٌ أَنَّهُ صَلَّى فِي سَفَرِهِ الرُّبَاعِيَّةَ أَرْبَعًا ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ
أَصْحَابُهُ مَعَهُ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى { عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّهَا
أَتَمَّتْ مَعَهُ وَأَفْطَرَتْ } حَدِيثٌ ضَعِيفٌ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهَا فِي
الصَّحِيحِ : " أَنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ
رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ
صَلَاةُ السَّفَرِ " . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمْعَةِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فَإِنَّ نَفْيَ الْجُنَاحِ لِبَيَانِ الْحُكْمِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْرُ هُوَ السُّنَّةَ . كَمَا قَالَ : { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } نَفَى الْجُنَاحَ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُمْ مِنْ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَجْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِهِمْ لِلطَّوَافِ بَيْنَهُمَا وَالطَّوَافُ بَيْنَهُمَا مَأْمُورٌ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ إمَّا رُكْنٌ وَإِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْخَوْفَ وَالسَّفَرَ لِأَنَّ الْقَصْرَ يَتَنَاوَلُ قَصْرَ الْعَدَدِ وَقَصْرَ الْأَرْكَانِ فَالْخَوْفُ يُبِيحُ قَصْرَ الْأَرْكَانِ وَالسَّفَرُ يُبِيحُ قَصْرَ الْعَدَدِ فَإِذَا اجْتَمَعَا أُبِيحَ الْقَصْرُ بِالْوَجْهَيْنِ وَإِنْ انْفَرَدَ السَّفَرُ أُبِيحَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقَصْرِ وَالْعُلَمَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِي الْمُسَافِرِ : هَلْ فَرْضُهُ الرَّكْعَتَانِ ؟ وَلَا يَحْتَاجُ قَصْرُهُ إلَى نِيَّةٍ ؟ أَمْ لَا يَقْصُرُ إلَّا بِنِيَّةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :
وَالْأَوَّلُ : قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ . وَالثَّانِي : قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد اخْتَارَهُ الخرقي وَغَيْرُهُ . وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ بِأَصْحَابِهِ وَلَا يُعْلِمُهُمْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَقْصُرُ وَلَا يَأْمُرُهُمْ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ . وَلِهَذَا { لَمَّا سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ نَاسِيًا قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ : أَقُصِرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت ؟ فَقَالَ : لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ قَالَ : بَلَى قَدْ نَسِيت } . وَفِي رِوَايَةٍ . { لَوْ كَانَ شَيْءٌ لَأَخْبَرْتُكُمْ بِهِ } وَلَمْ يَقُلْ لَوْ قُصِرَتْ لَأَمَرْتُكُمْ أَنْ تَنْوُوا الْقَصْرَ وَكَذَلِكَ لَمَّا جَمَعَ بِهِمْ لَمْ يُعْلِمْهُمْ أَنَّهُ جَمَعَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَلْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَجْمَعُ حَتَّى يَقْضِيَ الصَّلَاةَ الْأُولَى فَعُلِمَ أَيْضًا أَنَّ الْجَمْعَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَنْ يَنْوِيَ حِينَ الشُّرُوعِ فِي الْأُولَى كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد يُوَافِقُ ذَلِكَ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّرْبِيعِ فِي السَّفَرِ : هَلْ هُوَ حَرَامٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ أَوْ تَرْكُ الْأَوْلَى ؟ أَوْ هُوَ الرَّاجِحُ ؟ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ : أَنَّ الْقَصْرَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا
وَمَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَلْ نَصُّهُمَا أَنَّ الْإِتْمَامَ مَكْرُوهٌ . وَمَذْهَبُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ : أَنَّ الْقَصْرَ هُوَ الْأَفْضَلُ وَالتَّرْبِيعَ تَرْكُ الْأَوْلَى . وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ أَنَّ التَّرْبِيعَ أَفْضَلُ وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْخَوَارِجِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ إلَّا مَعَ الْخَوْفِ وَيَذْكُرُ هَذَا قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ آمَنَ مَا كَانَ النَّاسُ } وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ عُمَرُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُسَوَّى بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ وَفِعْلُ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا أَفْضَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ حَاجَةً عِنْدَ الْأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبَيْهِمَا بَلْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْجَمْعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ إذَا كَانَ نَازِلًا وَإِنَّمَا يَجْمَعُ إذَا كَانَ سَائِرًا بَلْ عِنْد مَالِكٍ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ وَإِنْ كَانَ نَازِلًا .
وَسَبَبُ هَذَا النِّزَاعِ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ أَحَادِيثِ الْجَمْعِ فَإِنَّ أَحَادِيثَ الْجَمْعِ قَلِيلَةٌ فَالْجَمْعُ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِيهِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَقُلْ بِغَيْرِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ وَقْتِهَا إلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ بمزدلفة وَصَلَاةَ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ جَمْعٍ } . وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ { فِي الْفَجْرِ لِغَيْرِ وَقْتِهَا } الَّتِي كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِيهِ فَإِنَّهُ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّهُ صَلَّى الْفَجْرَ بمزدلفة بَعْدَ أَنْ بَرِقَ الْفَجْرُ } وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْفَجْرَ لَا يُصَلَّى حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ لَا بمزدلفة وَلَا غَيْرِهَا لَكِنْ بمزدلفة غَلَّسَ بِهَا تَغْلِيسًا شَدِيدًا . وَأَمَّا أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ فَبَلَغَتْهُمْ أَحَادِيثُ فِي الْجَمْعِ صَحِيحَةٌ كَحَدِيثِ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاذٍ وَكُلُّهَا مِنْ الصَّحِيحِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّاهُمَا جَمِيعًا وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ثُمَّ رَكِبَ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا عَجِلَ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ " أَنَّ
ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ " بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ . وَيَقُولُ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي سَفْرَةٍ سافرها فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ . وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : { جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ . قَالَ : فَقُلْت : مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ } بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ جَمَعَ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ } . وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } قَالَ أَيُّوبُ لَعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَجْمَعُونَ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَيَجْمَعُ مَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ . وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا الْعَمَلُ مِنْ الصَّحَابَةِ .
وَقَوْلُهُمْ : " أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ " يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ تَأْخِيرَ الْأُولَى إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَتَقْدِيمَ الثَّانِيَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فَإِنَّ مُرَاعَاةَ مِثْلَ هَذَا فِيهِ حَرَجٌ عَظِيمٌ . ثُمَّ إنَّ هَذَا جَائِزٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَرَفْعُ الْحَرَجِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَخَّصَ لِأَهْلِ الْأَعْذَارِ فِيمَا يَرْفَعُ بِهِ عَنْهُمْ الْحَرَجَ دُونَ غَيْرِ أَرْبَابِ الْأَعْذَارِ . وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ : أَنَّ الْمَوَاقِيتَ لِأَهْلِ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةٌ وَلِغَيْرِهِمْ خَمْسَةٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ مَوَاقِيتَ وَالطَّرَفُ الثَّانِي يَتَنَاوَلُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ . وَالزُّلَفُ يَتَنَاوَلُ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءِ . وَكَذَلِكَ قَالَ : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } وَالدُّلُوكُ هُوَ الزَّوَالُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ . يُقَالُ : دَلَكَتْ الشَّمْسُ وَزَالَتْ وَزَاغَتْ وَمَالَتْ . فَذَكَرَ الدُّلُوكَ وَالْغَسَقَ وَبَعْدَ الدُّلُوكِ يُصَلَّى الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَفِي الْغَسَقِ تُصَلَّى الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ ذَكَرَ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَهُوَ الدُّلُوكُ وَآخِرَ الْوَقْتِ وَهُوَ الْغَسَقُ وَالْغَسَقُ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتِهِ . وَلِهَذَا قَالَ الصَّحَابَةُ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَغَيْرِهِ : الْمَرْأَةَ الْحَائِضَ إذَا طَهُرَتْ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ . وَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ . وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد . وَأَيْضًا فَجَمْعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بِغَيْرِهِمَا لِلْعُذْرِ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَيُؤَخِّرَ الْعَصْرَ إلَى دُخُولِ وَقْتِهَا وَلَكِنْ لِأَجْلِ النُّسُكِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْوُقُوفِ قُدِّمَ الْعَصْرُ . وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَجْمَعُ بمزدلفة وَعَرَفَةَ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ كَذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى صَلَّى مَعَهُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِتَأْخِيرِ الْعَصْرِ وَلَا بِتَقْدِيمِ الْمَغْرِبِ فَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا يَجْمَعُونَ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْبَيِّنَةِ الْوَاضِحَةِ الَّتِي لَا رَيْبَ فِيهَا ؛ وَعُذْرُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ سَبَبَ الْجَمْعِ هُوَ السَّفَرُ الطَّوِيلُ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجَمْعَ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ بَلْ يُجْمَعُ لِلْمَطَرِ وَيُجْمَعُ لِلْمَرَضِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ فِي جَمْعِ الْمُسْتَحَاضَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا بِالْجَمْعِ فِي حَدِيثَيْنِ . وَأَيْضًا فَكَوْنُ الْجَمْعِ يَخْتَصُّ بِالطَّوِيلِ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : يُجْمَعُ فِي الْقَصِيرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ الْجَمْعِ وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَفْعَلُهُ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الْجَمْعُ فَإِنَّمَا كَانَ يَجْمَعُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ إذَا جَدَّ
بِهِ السَّيْرُ وَكَانَ لَهُ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ . كَمَا جَمَعَ بِعَرَفَةَ
وَمُزْدَلِفَةَ وَكَانَ يَجْمَعُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَحْيَانًا كَانَ إذَا
ارْتَحَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى الْعَصْرِ ثُمَّ صَلَّاهُمَا
جَمِيعًا وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ . وَأَمَّا إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ
الزَّوَالِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا
كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِعَرَفَةَ وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي السُّنَنِ وَهَذَا
إذَا كَانَ لَا يَنْزِلُ إلَى وَقْتِ الْمَغْرِبِ كَمَا كَانَ بِعَرَفَةَ لَا
يُفِيضُ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَأَمَّا إذَا كَانَ يَنْزِلُ وَقْتَ الْعَصْرِ
فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا فَلَيْسَ الْقَصْرُ كَالْجَمْعِ بَلْ
الْقَصْرُ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ وَأَمَّا الْجَمْعُ فَإِنَّهُ رُخْصَةٌ عَارِضَةٌ
وَمَنْ سَوَّى مِنْ الْعَامَّةِ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ فَهُوَ جَاهِلٌ
بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَقْوَالِ
عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا وَالْعُلَمَاءُ
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا سُنَّةٌ وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ وَتَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْآخَرِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا وَأَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْحَرَجِ وَالشُّغْلِ بِحَدِيثِ رُوِيَ فِي ذَلِكَ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا : يَعْنِي إذَا كَانَ هُنَاكَ شُغْلٌ يُبِيحُ لَهُ تَرْكَ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ وَيَجُوزُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْجَمْعُ لِلْمَرَضِ وَيَجُوزُ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَفِي صَلَاتَيْ النَّهَارِ نِزَاعٌ بَيْنَهُمْ وَيَجُوزُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ الْجَمْعُ لِلْوَحْلِ وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَيَجُوزُ لِلْمُرْضِعِ أَنْ تَجْمَعَ إذَا كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهَا غَسْلُ الثَّوْبِ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ : هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ ؟ فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ : لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَعَلَيْهِ تَدُلُّ نُصُوصُهُ وَأُصُولُهُ . وَقَالَ اُ لشافعي وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَدْ بُسِطَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَلَاةِ الْجَمْعِ فِي الْمَطَرِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ ، هَلْ يَجُوزُ مِنْ
الْبَرْدِ الشَّدِيدِ ؟ أَوْ الرِّيحِ الشَّدِيدِ ؟ أَمْ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ
الْمَطَرِ خَاصَّةً ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ
لِلْمَطَرِ وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ وَالْوَحْلِ الشَّدِيدِ ،
وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ
وَغَيْرِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يَؤُمُّ قَوْمًا ، وَقَدْ وَقَعَ الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ فَأَرَادَ
أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الْمَغْرِبَ فَقَالُوا لَهُ : يَجْمَعُ فَقَالَ : لَا
أَفْعَلُ فَهَلْ لِلْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْوَحْلِ الشَّدِيدِ وَالرِّيحِ
الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ الْمَطَرُ
نَازِلًا
فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُصَلُّوا فِي
بُيُوتِهِمْ بَلْ تَرْكُ الْجَمْعِ مَعَ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ بِدْعَةٌ
مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ إذْ السُّنَّةُ أَنْ تُصَلَّى الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي
الْمَسَاجِدِ جَمَاعَةً وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَالصَّلَاةُ جَمْعًا فِي الْمَسَاجِدِ أَوْلَى مِنْ
الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ مُفَرَّقَةً بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ
يُجَوِّزُونَ الْجَمْعَ : كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ فِي الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ كَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ
فِي الْخَوْفِ وَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَمِثْلِ الصَّلَاةِ لِدَفْعِ الْبَلَاءِ
عِنْدَ أَسْبَابِهِ كَصَلَوَاتِ الْآيَاتِ فِي الْكُسُوفِ وَنَحْوِهِ أَوْ
الصَّلَاةِ لِاسْتِجْلَابِ النَّعْمَاءِ كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَمِثْلِ
الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ : فَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ
مُتَّبِعُونَ لِعَامَّةِ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي هَذَا الْبَابِ فَيُجَوِّزُونَ فِي صَلَاةِ
الْخَوْفِ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ الْمَحْفُوظَةِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَخْتَارُونَ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ قَطُّ رُبَاعِيَّةً إلَّا مَقْصُورَةً وَمَنْ صَلَّى أَرْبَعًا لَمْ يُبْطِلُوا صَلَاتَهُ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَقَرُّوا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ؛ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكْرَهُهُ وَإِنْ رَأَى تَرْكَهُ أَفْضَلَ وَفِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَهَذَا بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ إلَّا مَرَّاتٍ قَلِيلَةً فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِبُّونَ تَرْكَهُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَدَّ بِهِ السَّيْرُ حَتَّى اُخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَد : هَلْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ النَّازِلِ الَّذِي لَيْسَ بِسَائِرٍ أَمْ لَا ؟ وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعِينَ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ مُخْتَلِفِينَ فِي جَوَازِ الْإِتْمَامِ وَمُجْمِعِينَ عَلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا . وَيُجَوِّزُونَ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " صَلَاةِ الْكُسُوفِ " . فَأَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثُ ركوعات وَأَرْبَعَةٌ وَيُجَوِّزُونَ حَذْفَ الرُّكُوعِ الزَّائِدِ كَمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُطِيلُونَ السُّجُودَ فِيهَا كَمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجْهَرُونَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَكَذَلِكَ " الِاسْتِسْقَاءُ " يُجَوِّزُونَ الْخُرُوجَ إلَى الصَّحْرَاءِ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالدُّعَاءِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُجَوِّزُونَ الْخُرُوجَ وَالدُّعَاءَ بِلَا صَلَاةٍ . كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَيُجَوِّزُونَ الِاسْتِسْقَاءَ بِالدُّعَاءِ تَبَعًا لِلصَّلَوَاتِ الرَّاتِبَةِ كَخُطْبَةِ الْجُمْعَةِ وَنَحْوِهَا كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَلِكَ " الْجِنَازَةُ " فَإِنَّ اخْتِيَارَهُمْ أَنَّهُ يُكَبَّرُ عَلَيْهَا أَرْبَعًا كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ غَالِبًا . وَيَجُوزُ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَحْمَد التَّخْمِيسُ فِي التَّكْبِيرِ وَمُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَبَّرَ خَمْسًا وَفَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ . وَيَجُوزُ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُ التَّسْبِيعُ وَمُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِيهِ لِمَا ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَبِّرُونَ أَحْيَانًا سَبْعًا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا
مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ .
أَمَّا بَعْدُ : فَهَذِهِ " قَاعِدَةٌ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَخْتَلِفُ
بِالسَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ " مِثْلُ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَالْفِطْرِ فِي
شَهْرِ رَمَضَانَ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ جَعَلُوهَا نَوْعَيْنِ : نَوْعًا يَخْتَصُّ
بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ وَهُوَ : الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ . وَنَوْعًا يَقَعُ فِي
الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ كَالتَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَأَكْلُ
الْمَيْتَةِ هُوَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَأَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ
وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَمِنْ الْأَوَّلِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ .
وَالْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ :
أَحَدُهُمَا الْفَرْقُ بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ فَيُقَالُ : هَذَا الْفَرْقُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ الْأَحْكَامُ الَّتِي عَلَّقَهَا اللَّهُ بِالسَّفَرِ عَلَّقَهَا بِهِ مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الطَّهَارَةِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } وقَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الصِّيَامِ { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وقَوْله تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } . وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ } وَقَوْلِ عَائِشَةَ : فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ . { وَقَوْلِ عُمَرَ : صَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمْعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ } . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ } وَقَوْلِ { صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ
أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كُنَّا سَفْرًا أَوْ مُسَافِرِينَ أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ نَوْمٍ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ سَفَرِهِ فَلْيَتَعَجَّلْ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ } فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَغَيْرُهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَيْسَ فِيهَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ سَفَرٍ طَوِيلٍ وَسَفَرٍ قَصِيرٍ . فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَرْقًا لَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ تَعْلِيقِ الشَّارِعِ الْحُكْمَ بِمُسَمَّى الِاسْمِ الْمُطْلَقِ وَتَفْرِيقِ بَعْضِ النَّاسِ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَهُ نَظَائِرُ . مِنْهَا أَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ الطَّهَارَةَ بِمُسَمَّى الْمَاءِ فِي قَوْلِهِ { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَاءٍ وَمَاءٍ وَلَمْ يَجْعَلْ الْمَاءَ نَوْعَيْنِ طَاهِرًا وَطَهُورًا . وَمِنْهَا أَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ الْمَسْحَ بِمُسَمَّى الْخُفِّ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ خُفٍّ وَخُفٍّ : فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَفْتُوقُ وَالْمَخْرُوقُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَيْضًا أَنْ يَثْبُتَ بِنَفْسِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَثْبَتَ الرَّجْعَةَ فِي مُسَمَّى الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُقَسِّمْ طَلَاقَ الْمَدْخُولِ بِهَا إلَى طَلَاقٍ بَائِنٍ وَرَجْعِيٍّ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَثْبَتَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَافْتِدَاءٍ وَالِافْتِدَاءُ الْفُرْقَةُ بِعِوَضِ وَجَعْلُهَا مُوجِبَةً لِلْبَيْنُونَةِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ يُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ . وَهَذَا الْحُكْمُ مُعَلَّقٌ بِهَذَا الْمُسَمَّى لَمْ يُفَرَّقْ فِيهِ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِمُسَمَّى أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } وَقَوْلِهِ { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ يَمِينٍ وَيَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَجَعْلُ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْعَقِدَةِ تَنْقَسِمُ إلَى مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفِّرَةٍ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِمُسَمَّى الْخَمْرِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْخَمْرَ هِيَ الْمُسْكِرُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُسْكِرٍ وَمُسْكِرٍ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِمُسَمَّى الْإِقَامَةِ كَمَا عَلَّقَهُ بِمُسَمَّى السَّفَرِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُقِيمٍ وَمُقِيمٍ . فَجَعْلُ الْمُقِيمِ نَوْعَيْنِ : نَوْعًا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ بِغَيْرِهِ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ . وَنَوْعًا تَنْعَقِدُ بِهِ لَا أَصْلَ لَهُ . بَلْ الْوَاجِبُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ لَمَّا عَلَّقَهَا الشَّارِعُ بِمُسَمَّى السَّفَرِ فَهِيَ
تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ سَفَرٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ السَّفَرُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا وَلَكِنْ ثَمَّ أُمُورٌ لَيْسَتْ مِنْ خَصَائِصِ السَّفَرِ بَلْ تُشْرَعُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فَإِنَّ الْمُضْطَرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ لَمْ يَخُصَّ اللَّهُ حُكْمَهُ بِسَفَرٍ لَكِنَّ الضَّرُورَةَ أَكْثَرُ مَا تَقَعُ بِهِ فِي السَّفَرِ فَهَذَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ فَلَا يُجْعَلُ هَذَا مُعَلَّقًا بِالسَّفَرِ . وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَهَلْ يَجُوزُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . ( أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قِيَاسًا عَلَى الْقَصْرِ . وَ ( الثَّانِي يَجُوزُ كَقَوْلِ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شُرِعَ فِي الْحَضَرِ لِلْمَرَضِ وَالْمَطَرِ فَصَارَ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ إنَّمَا عِلَّتُهُ الْحَاجَةُ لَا السَّفَرُ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لَيْسَ مُعَلَّقًا بِالسَّفَرِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ بِخِلَافِ الْقَصْرِ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ بَلْ { اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ } . وَهَلْ يَسُوغُ ذَلِكَ فِي الْحَضَرِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَإِذَا جُوِّزَ
فِي
الْحَضَرِ فَفِي الْقَصْرِ أَوْلَى . وَأَمَّا إذَا مُنِعَ فِي الْحَضَرِ
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ .
الْمَقَامُ الثَّانِي :
حَدُّ السَّفَرِ الَّذِي عَلَّقَ الشَّارِعُ بِهِ الْفِطْرَ وَالْقَصْرَ . وَهَذَا
مِمَّا اضْطَرَبَ النَّاسُ فِيهِ . قِيلَ : ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ . وَقِيلَ :
يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ . وَقِيلَ : أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ . حَتَّى قِيلَ : مِيلٌ .
وَاَلَّذِينَ حَدَّدُوا ذَلِكَ بِالْمَسَافَةِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : ثَمَانِيَةٌ
وَأَرْبَعُونَ مِيلًا وَقِيلَ : سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ وَقِيلَ : خَمْسَةٌ
وَأَرْبَعُونَ وَقِيلَ أَرْبَعُونَ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ عَنْ مَالِكٍ وَقَدْ قَالَ
أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي لَا أَعْلَمُ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَجْهًا
. وَهُوَ كَمَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ التَّحْدِيدَ بِذَلِكَ لَيْسَ
ثَابِتًا بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ . وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ
يُفَرِّقُونَ بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ
حَدًّا لِلسَّفَرِ الطَّوِيلِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُسَمِّي سَفَرًا إلَّا مَا
بَلَغَ هَذَا الْحَدَّ وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يُسَمِّيهِ سَفَرًا . فَاَلَّذِينَ
قَالُوا : ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ { يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
أَنَّهُ قَالَ { لَا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا
وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ
قَالَ { مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ } وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { مَسِيرَةَ يَوْمٍ } وَفِي السُّنَنِ " بَرِيدًا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ سَفَرٌ وَإِذْنُهُ لَهُ فِي الْمَسْحِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إنَّمَا هُوَ تَجْوِيزٌ لِمَنْ سَافَرَ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ السَّفَرِ كَمَا أَذِنَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَمْسَحَ يَوْمًا وَلَيْلَةً . وَهُوَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ الْإِقَامَةِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : يَوْمَيْنِ اعْتَمَدُوا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ عَنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَمَا رُوِيَ { يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إلَى عسفان } إنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَرِوَايَةُ ابْنِ خُزَيْمَة وَغَيْرِهِ لَهُ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ عِنْدَ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَكَيْفَ يُخَاطِبُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ بِالتَّحْدِيدِ وَإِنَّمَا أَقَامَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ زَمَنًا يَسِيرًا وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ لَا يَحِدُّ لِأَهْلِهَا حَدًّا كَمَا حَدَّهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَا بَالُ التَّحْدِيدِ يَكُونُ لِأَهْلِ مَكَّةَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَأَيْضًا فَالتَّحْدِيدُ بِالْأَمْيَالِ وَالْفَرَاسِخِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ مِسَاحَةِ الْأَرْضِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا خَاصَّةُ النَّاسِ . وَمَنْ ذَكَرَهُ فَإِنَّمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ تَقْلِيدًا وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَدِّرْ الْأَرْضَ بِمِسَاحَةٍ أَصْلًا فَكَيْفَ يُقَدِّرُ الشَّارِعُ لِأُمَّتِهِ حَدًّا لَمْ يَجْرِ
لَهُ ذِكْرٌ فِي كَلَامِهِ وَهُوَ مَبْعُوثٌ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ السَّفَرِ مَعْلُومًا عِلْمًا عَامًّا وَذَرْعُ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ ؛ بَلْ هُوَ إمَّا مُتَعَذَّرٌ وَإِمَّا مُتَعَسِّرٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ الْمُلُوكَ وَنَحْوَهُمْ مَسْحُ طَرِيقٍ فَإِنَّمَا يَمْسَحُونَهُ عَلَى خَطٍّ مُسْتَوٍ أَوْ خُطُوطٍ مُنْحَنِيَةٍ انْحِنَاءً مَضْبُوطًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَافِرِينَ قَدْ يَعْرِفُونَ غَيْرَ تِلْكَ الطَّرِيقِ وَقَدْ يَسْلُكُونَ غَيْرَهَا وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَسَافَةِ صُعُودٌ وَقَدْ يَطُولُ سَفَرُ بَعْضِهِمْ لِبُطْءِ حَرَكَتِهِ وَيَقْصُرُ سَفَرُ بَعْضِهِمْ لِسُرْعَةِ حَرَكَتِهِ وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ هُوَ نَفْسُ السَّفَرِ لَا نَفْسُ مِسَاحَةِ الْأَرْضِ . وَالْمَوْجُودُ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ فِي تَقْدِيرِ الْأَرْضِ بِالْأَزْمِنَةِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَوْضِ { طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ } وَقَوْلِهِ { بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { إحْدَى أَوْ اثْنَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً } فَقِيلَ الْأَوَّلُ بِالسَّيْرِ الْمُعْتَادِ سَيْرُ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ وَالثَّانِي سَيْرُ الْبَرِيدِ ؛ فَإِنَّهُ فِي الْعَادَةِ يُقْطَعُ بِقَدْرِ الْمُعْتَادِ سَبْعَ مَرَّاتٍ . وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ يَقُولُونَ يَوْمٌ تَامٌّ وَيَوْمَانِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ حَدَّهُ بِثَمَانِيَةِ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا : مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ قَاصِدِينَ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ لَكِنَّ هَذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ : كُلُّ اسْمٍ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ فَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ فَمَا كَانَ سَفَرًا فِي عُرْفِ النَّاسِ فَهُوَ
السَّفَرُ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الشَّارِعُ الْحُكْمَ وَذَلِكَ مِثْلُ سَفَرِ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَافَةَ بَرِيدٌ وَهَذَا سَفَرٌ ثَبَتَ فِيهِ جَوَازُ الْقَصْرِ وَالْجَمْعِ بِالسُّنَّةِ ؛ وَالْبَرِيدُ هُوَ نِصْفُ يَوْمٍ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ وَهُوَ رُبُعُ مَسَافَةِ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ يُسَمَّى مَسَافَةَ الْقَصْرِ وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ الذَّاهِبُ إلَيْهَا أَنْ يَرْجِعَ مِنْ يَوْمِهِ . وَأَمَّا مَا دُونَ هَذِهِ الْمَسَافَةِ إنْ كَانَتْ مَسَافَةُ الْقَصْرِ مَحْدُودَةً بِالْمِسَاحَةِ : فَقَدْ قِيلَ يَقْصُرُ فِي مِيلٍ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ سَافَرْت مِيلًا لَقَصَرْت . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : لَمْ نَجِدْ أَحَدًا يَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ وَوُجِدَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ يَقْصُرُونَ فِي هَذَا الْقَدْرِ وَلَمْ يُحِدَّ الشَّارِعُ فِي السَّفَرِ حَدًّا فَقُلْنَا بِذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا يَقْصُرُ بِمَا دُونَ الْمِيلِ . وَلَكِنْ هُوَ عَلَى أَصْلِهِ وَلَيْسَ هَذَا إجْمَاعًا فَإِذَا كَانَ ظَاهِرُ النَّصِّ يَتَنَاوَلُ مَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ أَنْ لَا يَعْرِفَ أَحَدًا ذَهَبَ إلَيْهِ كَعَادَتِهِ فِي أَمْثَالِهِ . وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْصُرُ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَإِمَّا أَنْ تَتَعَارَضَ أَقْوَالُهُ أَوْ تُحْمَلَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ . وَالْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ : " الْمَقَامُ الْأَوَّلُ " أَنَّ مَنْ سَافَرَ مِثْلَ سَفَرِ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَاتٍ
يَقْصُرُ
وَأَمَّا إذَا قِيلَ لَيْسَتْ مَحْدُودَةً بِالْمَسَافَةِ بَلْ الِاعْتِبَارُ
بِمَا هُوَ سَفَرٌ فَمَنْ سَافَرَ مَا يُسَمَّى سَفَرًا قَصَرَ وَإِلَّا فَلَا .
وَقَدْ يَرْكَبُ الرَّجُلُ فَرْسَخًا يَخْرُجُ بِهِ لِكَشْفِ أَمْرٍ وَتَكُونُ
الْمَسَافَةُ أَمْيَالًا وَيَرْجِعُ فِي سَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ وَلَا يُسَمَّى
مُسَافِرًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرُهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَسَافَةِ مُسَافِرًا
بِأَنْ يَسِيرَ عَلَى الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ سَيْرًا لَا يَرْجِعُ فِيهِ ذَلِكَ
الْيَوْمَ إلَى مَكَانِهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ .
أَحَدُهَا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ
عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ
وَفِي أَيَّامِ مِنًى وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بَعْدَهُ وَكَانَ يُصَلِّي
خَلْفَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ وَلَا
نَقَلَ أَحَدٌ لَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ - لَمَّا صَلَّى
بِالْمُسْلِمِينَ بِبَطْنِ عرنة الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ قَصْرًا وَجَمْعًا : ثُمَّ
الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ - يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ . وَلَا
أَمَرَهُمْ بِتَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ
الْحَجِيجِ لَا أَهْلَ مَكَّةَ وَلَا غَيْرَهُمْ صَلَّى خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَ مَا صَلَّى بِجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ
نَقَلَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عُمَرَ قَالَ فِي
هَذَا الْيَوْمِ " يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ
سَفْرٌ " فَقَدْ غَلِطَ وَإِنَّمَا نُقِلَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا فِي جَوْفِ مَكَّةَ لِأَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ لَمَّا صَلَّى فِي جَوْفِ مَكَّةَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ قَامُوا فَأَتَمُّوا وَصَلَّوْا أَرْبَعًا وَفَعَلُوا ذَلِكَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَبِمِنًى أَيَّامَ مِنًى لَكَانَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ بِالضَّرُورَةِ ؛ بَلْ لَوْ أَخَّرُوا صَلَاةَ الْعَصْرِ ثُمَّ قَامُوا دُونَ سَائِرِ الْحُجَّاجِ فَصَلَّوْهَا قَصْرًا لَنُقِلَ ذَلِكَ فَكَيْفَ إذَا أَتَمُّوا الظُّهْرَ أَرْبَعًا دُونَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا فِي إتْمَامِ الظُّهْرِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَرَعَ فِي الْعَصْرِ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَنْتَظِرَهُمْ فَيُطِيلَ الْقِيَامَ وَإِمَّا أَنْ يَفُوتَهُمْ مَعَهُ بَعْضُ الْعَصْرِ بَلْ أَكْثَرُهَا ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانُوا يُتِمُّونَ الصَّلَوَاتِ ؟ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهُوَ عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّ أَهْلَ مَكَّةَ جَمَعُوا مَعَهُ أَظْهَرُ . وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ تَنَازَعُوا فِي أَهْلِ مَكَّةَ هَلْ يَقْصُرُونَ وَيَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . فَقِيلَ لَا يَقْصُرُونَ وَلَا يَجْمَعُونَ . وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَالْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " وَابْنِ عَقِيلٍ فِي " الْفُصُولِ " لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ ؛ وَهَذَا قَصِيرٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ وَلَا يَقْصُرُونَ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَنْقُولَاتُ عَنْ أَحْمَد تُوَافِقُ هَذَا ؛ فَإِنَّهُ أَجَابَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْصُرُونَ . وَلَمْ يَقُلْ : لَا يَجْمَعُونَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي فِي الْجَمْعِ وَأَحْسَنَ فِي ذَلِكَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ وَيَقْصُرُونَ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَهُوَ قَوْلُ طَاوُوسٍ وَابْنِ عُيَيْنَة وَغَيْرِهِمَا : مِنْ السَّلَفِ وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ : كَأَبِي الْخَطَّابِ فِي " الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ " وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ؛ فَإِنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ وَمُوَافِقِيهِ رَجَّحُوا الْجَمْعَ لِلْمَكِّيِّ بِعَرَفَةَ . وَأَمَّا " الْقَصْرُ " فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : الْحُجَّةُ مَعَ مَنْ أَبَاحَ الْقَصْرَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ إلَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ . وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى خِلَافِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَانَ بَعْضُهُمْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرَةِ بَرِيدٍ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِخِلَافِهِ لِمَنْ تَبَيَّنَ السُّنَّةَ وَتَدَبَّرَهَا . فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَسِيَاقَهَا عَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ صَلَّوْا بِصَلَاتِهِ قَصْرًا وَجَمْعًا وَلَمْ يَفْعَلُوا خِلَافَ ذَلِكَ . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا بِعَرَفَةَ وَلَا
مُزْدَلِفَةَ وَلَا مِنًى : { يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ } وَإِنَّمَا نُقِلَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ مَكَّةَ كَمَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ عَنْهُ وَقَوْلُهُ ذَلِكَ فِي دَاخِلِ مَكَّةَ دُونَ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِمِنًى " يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ " وَلَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ . وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ لِأَجْلِ النُّسُكِ كَمَا تَقُولُهُ الْحَنَفِيَّةُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَهُوَ مُقْتَضَى نَصِّهِ ؛ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الْمَكِّيَّ مِنْ الْقَصْرِ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْجَمْعِ وَقَالَ فِي جَمْعِ الْمُسَافِرِ : إنَّهُ يَجْمَعُ فِي الطَّوِيلِ كَالْقَصْرِ عِنْدَهُ وَإِذَا قِيلَ : الْجَمْعُ لِأَجْلِ النُّسُكِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجْمَعُ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ كَمَا تَقُولُهُ الْحَنَفِيَّةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجْمَعُ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجَمْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَفَرًا وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ : مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقَدْ يُقَالُ : لِأَنَّ ذَلِكَ سَفَرٌ قَصِيرٌ وَهُوَ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ كَمَا قَالَ هَذَا وَهَذَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَإِنَّ الْجَمْعَ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يَجْمَعُ فِي حَجَّتِهِ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَلَمْ يَجْمَعْ بِمِنًى وَلَا فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ وَلَكِنْ جَمَعَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بِعَرَفَةَ لِمُجَرَّدِ السَّفَرِ كَمَا قَصَرَ لِلسَّفَرِ ؛ بَلْ لِاشْتِغَالِهِ بِاتِّصَالِ الْوُقُوفِ عَنْ النُّزُولِ وَلِاشْتِغَالِهِ بِالْمَسِيرِ إلَى مُزْدَلِفَةَ وَكَانَ جَمْعُ عَرَفَةَ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ وَجَمْعُ مُزْدَلِفَةَ لِأَجْلِ السَّيْرِ الَّذِي جَدَّ فِيهِ وَهُوَ سَيْرُهُ إلَى مُزْدَلِفَةَ وَكَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ فِي سَفَرِهِ : كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْأُولَى إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا كَمَا فَعَلَ بمزدلفة . وَلَيْسَ فِي شَرِيعَتِهِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ الْقِيَاسِ ؛ بَلْ الْجَمْعُ الَّذِي جَمَعَهُ هُنَاكَ يُشْرَعُ أَنْ يُفْعَلَ نَظِيرُهُ كَمَا يَقُولُهُ الْأَكْثَرُونَ ؛ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولَ هُوَ خَارِجٌ عَنْ الْقِيَاسِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ دَلَّ عَلَى فَسَادِهَا وَلَيْسَ فِيمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ ؛ بَلْ حُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ وَالْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةٍ ثَبَتَ بِنَظِيرِهَا . وَأَمَّا " الْقَصْرُ " فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ السَّفَرِ وَلَا تَعَلُّقَ لَا بِالنُّسُكِ وَلَا مُسَوِّغَ لِقَصْرِ أَهْلِ مَكَّةَ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِهَا إلَّا أَنَّهُمْ بِسَفَرِ وَعَرَفَةُ عَنْ الْمَسْجِدِ بَرِيدٌ كَمَا ذَكَرَهُ الَّذِينَ مَسَحُوا ذَلِكَ وَذَكَرَهُ الأزرقي فِي " أَخْبَارِ مَكَّةَ " . فَهَذَا قَصْرٌ فِي سَفَرٍ قَدْرُهُ بَرِيدٌ وَهُمْ لَمَّا رَجَعُوا إلَى مِنًى كَانُوا فِي الرُّجُوعِ مِنْ السَّفَرِ وَإِنَّمَا كَانَ غَايَةُ قَصْدِهِمْ
بَرِيدًا وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ سَفَرِ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ وَبَيْنَ سَفَرِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ إلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنْ بِلَادِهِمْ وَاَللَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي الصَّلَاةِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا لِمُسَافِرِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسَافِرِينَ وَالْمُقِيمُ إذَا اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ فَإِنَّهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ مَكَّةَ فِي مَكَّةَ { أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ } وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ نِزَاعٌ . الدَّلِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ نَهَى أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ : تَارَةً يُقَدِّرُ . وَتَارَةً يُطْلِقُ . وَأَقَلُّ مَا رُوِيَ فِي التَّقْدِيرِ بَرِيدٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبَرِيدَ يَكُونُ سَفَرًا . كَمَا أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامَ تَكُونُ سَفَرًا وَالْيَوْمَيْنِ تَكُونُ سَفَرًا وَالْيَوْمَ يَكُونُ سَفَرًا . هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَيْسَ لَهَا مَفْهُومٌ ؛ بَلْ نَهَى عَنْ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا . الدَّلِيلُ الثَّالِثُ : أَنَّ السَّفَرَ لَمْ يَحُدَّهُ الشَّارِعُ وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ فَرَجَعَ فِيهِ إلَى مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ وَيَعْتَادُونَهُ فَمَا كَانَ عِنْدَهُمْ سَفَرًا فَهُوَ سَفَرٌ وَالْمُسَافِرُ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى مَقْصِدِهِ وَيَعُودَ إلَى وَطَنِهِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ مَرْحَلَةٌ يَذْهَبُ فِي نِصْفِهَا وَيَرْجِعُ فِي نِصْفِهَا وَهَذَا هُوَ الْبَرِيدُ وَقَدْ حَدُّوا بِهَذِهِ الْمَسَافَةِ " الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ " وَ " كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي " وَ " الْعَدْوَ عَلَى الْخَصْمِ " وَ " الْحَضَانَةَ " وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . فَلَوْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ
مَحْدُودَةً لَكَانَ حَدُّهَا بِالْبَرِيدِ أَجْوَدَ ؛ لَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ السَّفَرَ لَيْسَ مُحَدَّدًا بِمَسَافَةِ ؛ بَلْ يَخْتَلِفُ فَيَكُونُ مُسَافِرًا فِي مَسَافَةِ بَرِيدٍ وَقَدْ يَقْطَعُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ مُسَافِرًا . الدَّلِيلُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْمُسَافِرَ رَخَّصَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي رَمَضَانَ وَأَقَلُّ الْفِطْرِ يَوْمٌ وَمَسَافَةُ الْبَرِيدِ يَذْهَبُ إلَيْهَا وَيَرْجِعُ فِي يَوْمٍ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفِطْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَيَحْتَاجُ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ ؛ بِخِلَافِ مَا دُونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَصْرٍ وَلَا فِطْرٍ إذَا سَافَرَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَرَجَعَ قَبْلَ الزَّوَالِ . وَإِذَا كَانَ غُدُوُّهُ يَوْمًا وَرَوَاحُهُ يَوْمًا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ وَهَذَا قَدْ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ يُرَخَّصُ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ وَيُفْطِرَ فِي بَرِيدٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ لَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ إذَا لَمْ يُعَدَّ مُسَافِرًا . الدَّلِيلُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ لَيْسَ تَحْدِيدُ مَنْ حَدَّ الْمَسَافَةَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِأَوْلَى مِمَّنْ حَدَّهَا بِيَوْمَيْنِ وَلَا الْيَوْمَانِ بِأَوْلَى مِنْ يَوْمٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ لَهَا حَدٌّ بَلْ كُلُّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا يُشْرَعُ [ فِيهِ ذَلِكَ ] (1) . وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْقَصْرُ فِي مَسَافَةِ بَرِيدٍ فَعُلِمَ أَنَّ فِي الْأَسْفَارِ مَا قَدْ يَكُونُ بَرِيدًا وَأَدْنَى مَا يُسَمَّى سَفَرًا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ الْبَرِيدُ . وَأَمَّا مَا دُونَ الْبَرِيدِ كَالْمِيلِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ وَكَانَ يَأْتِيهِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا } وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَهْلَ قُبَاء وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي كَانُوا يَأْتُونَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَقْصُرْ الصَّلَاةَ هُوَ وَلَا هُمْ وَقَدْ كَانُوا يَأْتُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ نَحْوِ مِيلٍ وَفَرْسَخٍ وَلَا يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ وَالْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ وَالنِّدَاءُ قَدْ يُسْمَعُ مِنْ فَرْسَخٍ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ أُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ وَالْعَوَالِي بَعْضُهَا مِنْ الْمَدِينَةِ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْمَدِينَةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَسَاكِنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ } وَقَالَ : { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ } . وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَيُنْظَرُ فِيهِ هَلْ هُوَ ثَابِتٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ ثَبَتَ فَالرِّوَايَةُ عَنْهُ مُخْتَلِفَةٌ وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ إذَا قَطَعْت مِنْ الْمَسَافَةِ مِيلًا وَلَا رَيْبَ أَنْ قُبَاء مِنْ الْمَدِينَةِ أَكْثَرُ مِنْ مِيلٍ وَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَلَا غَيْرُهُ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ إذَا ذَهَبُوا إلَى قُبَاء . فَقَصْرُ أَهْلِ مَكَّةَ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ وَعَدَمُ قَصْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الصَّلَاةَ إلَى قُبَاء وَنَحْوِهَا مِمَّا حَوْلَ الْمَدِينَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ إذَا كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِالسَّفَرِ لَا تُفْعَلُ إلَّا فِيمَا يُسَمَّى سَفَرًا ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي
خُرُوجِهِ
إلَى مَسْجِدِ قُبَاء مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا
وَلَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ الدَّاخِلُونَ مِنْ الْعَوَالِي يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ؛
وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسَافَةَ قَرِيبَةٌ كَالْمَسَافَةِ فِي الْمِصْرِ .
وَاسْمُ " الْمَدِينَةِ " يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ كُلَّهَا فَلَمْ
يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْأَعْرَابُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
الْقُرْآنُ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَعْرَابِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَسِيرُهُ إلَى قُبَاء كَأَنَّهُ فِي الْمَدِينَةِ فَلَوْ
سُوِّغَ ذَلِكَ سُوِّغَتْ الصَّلَاةُ فِي الْمِصْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِلَّا
فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ يُصَلِّي
بِأَصْحَابِهِ جَمْعًا وَقَصْرًا لَمْ يَكُنْ يَأْمُرُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِنِيَّةِ
الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ ؛ بَلْ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ يُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ جَمْعٍ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ بِعَرَفَةَ وَلَمْ
يُعْلِمْهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ بَعْدَهَا ثُمَّ صَلَّى
بِهِمْ الْعَصْرَ وَلَمْ يَكُونُوا نَوَوْا الْجَمْعَ وَهَذَا جَمْعُ تَقْدِيمٍ .
وَكَذَلِكَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ صَلَّى بِهِمْ بِذِي الحليفة
الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِنِيَّةِ قَصْرٍ وَفِي الصَّحِيحِ :
أَنَّهُ { لَمَّا صَلَّى إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ وَسَلَّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ
قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أَقُصِرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت قَالَ : لَمْ
أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ قَالَ : بَلَى قَدْ نَسِيت قَالَ : أَكَمَا يَقُولُ ذُو
الْيَدَيْنِ ؟ قَالُوا : نَعَمْ فَأَتَمَّ الصَّلَاةَ } وَلَوْ كَانَ الْقَصْرُ
لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا نَوَوْهُ لَبَيَّنَ ذَلِكَ وَلَكَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ
. وَالْإِمَامُ أَحْمَد لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِيمَا أَعْلَمُ أَنَّهُ اشْتَرَطَ
النِّيَّةَ فِي جَمْعٍ وَلَا
قَصْرٍ
؛ وَلَكِنْ ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كالخرقي وَالْقَاضِي . وَأَمَّا
أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا : إنَّمَا يُوَافِقُ
مُطْلَقَ نُصُوصِهِ . وَقَالُوا لَا يُشْتَرَطُ لِلْجَمْعِ وَلَا لِلْقَصْرِ
نِيَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَغَيْرِهِمَا ؛ بَلْ قَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ لَهُ أَنْ
يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ قَبْل مَغِيبِ الشَّفَقِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ
لَهُ الْجَمْعُ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ والمروذي وَذَكَرَ ذَلِكَ
الْقَاضِي فِي " الْجَامِعِ الْكَبِيرِ " فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا
يُشْتَرَطُ فِي الْجَمْعِ نِيَّةٌ .
وَلَا تُشْتَرَطُ أَيْضًا " الْمُقَارَنَةُ " فَإِنَّهُ لَمَّا أَبَاحَ
أَنْ تُصَلَّى الْعِشَاءُ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ
لَهُ الْجَمْعُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الشَّفَقُ الْأَبْيَضُ لِأَنَّ
مَذْهَبَهُ الْمُتَوَاتِرَ عَنْهُ أَنَّ الْمُسَافِرَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ بَعْدَ
مَغِيبِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِهَا عِنْدَهُ وَحِينَئِذٍ
يَخْرُجُ وَقْتُ الْمَغْرِبِ عِنْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا لَهَا فِي وَقْتِ
الْمَغْرِبِ بَلْ فِي وَقْتِهَا الْخَاصِّ . وَأَمَّا فِي الْحَضَرِ فَاسْتَحَبَّ
تَأْخِيرَهَا إلَى أَنْ يَغِيبَ الْأَبْيَضُ قَالَ : لِأَنَّ الْحُمْرَةَ قَدْ
تَسْتُرُهَا الْحِيطَانُ فَيَظُنُّ أَنَّ الْأَحْمَرَ قَدْ غَابَ وَلَمْ يَغِبْ
فَإِذَا غَابَ الْبَيَاضُ تَيَقَّنَ مَغِيبَ الْحُمْرَةِ . فَالشَّفَقُ عِنْدَهُ
فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْحُمْرَةُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الشَّكُّ فِي الْحَضَرِ
لِاسْتِتَارِ الشَّفَقِ بِالْحِيطَانِ احْتَاطَ بِدُخُولِ الْأَبْيَضِ . فَهَذَا
مَذْهَبُهُ الْمُتَوَاتِرُ مِنْ نُصُوصِهِ الْكَثِيرَةِ .
وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ رِوَايَةً عَنْهُ أَنَّ الشَّفَقَ فِي الْحَضَرِ الْأَبْيَضِ وَفِي السَّفَرِ الْأَحْمَرِ . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ حَقِيقَتُهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَإِلَّا فَلَمْ يَقُلْ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ الشَّفَقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَخْتَلِفُ بِالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ . وَأَحْمَد قَدْ عَلَّلَ الْفَرْقَ . فَلَوْ حُكِيَ عَنْهُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ كَانَ الْمُفَسَّرُ مِنْ كَلَامِهِ يُبَيِّنُهُ . وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ رِوَايَةً عَنْهُ أَنَّ الشَّفَقَ مُطْلَقُ الْبَيَاضِ . وَمَا أَظُنُّ هَذَا إلَّا غَلَطًا عَلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّ أَوَّلَ الشَّفَقِ إذَا غَابَ فِي السَّفَرِ خَرَجَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ - وَهُوَ يُجَوِّزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ - عَلِمَ أَنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ مَغِيبِهَا لَا بَعْدَ مَغِيبِ الْأَحْمَرِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِجَوَازِ الْجَمْعِ . الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ عِنْدَهُ هُوَ الْجَمْعُ فِي الْوَقْتِ وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى كَالْجَمْعِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ إذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَالْعِشَاءَ فِي آخِرِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ - حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ - جَازَ ذَلِكَ وَقَدْ نَصَّ أَيْضًا عَلَى نَظِيرِ هَذَا فَقَالَ : إذَا صَلَّى إحْدَى صَلَاتَيْ الْجَمْعِ فِي بَيْتِهِ وَالْأُخْرَى فِي الْمَسْجِدِ فَلَا بَأْسَ . وَهَذَا نَصٌّ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ هُوَ جَمْعٌ فِي الْوَقْتِ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُوَاصَلَةُ وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَلَى قُرْبِ الْفَصْلِ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمَّا
صَلَّى بِهِمْ بِالْمَدِينَةِ ثَمَانِيًا جَمِيعًا وَسَبْعًا جَمِيعًا لَمْ
يُنْقَلْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ ابْتِدَاءً بِالنِّيَّةِ وَلَا السَّلَفُ بَعْدَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ
فِي الْقَصْرِ مَبْنِيٌّ عَلَى فَرْضِ الْمُسَافِرِ . فَصَارَتْ الْأَقْوَالُ
لِلْعُلَمَاءِ فِي اقْتِرَانِ الْفِعْلِ ثَلَاثَةً .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاقْتِرَانُ لَا فِي وَقْتِ الْأُولَى وَلَا
الثَّانِيَةِ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي السَّفَرِ
وَجَمْعِ الْمَطَرِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجِبُ الِاقْتِرَانُ فِي وَقْتِ الْأُولَى دُونَ
الثَّانِيَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ
الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ فَإِنْ كَانَ
الْجَمْعُ فِي وَقْتِ الْأُولَى اُشْتُرِطَ الْجَمْعُ وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ
الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْأُولَى فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ وَأَمَّا
الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا فَتَصِحُّ صَلَاتُهُ لَهَا وَإِنْ
أَخَّرَهَا وَلَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ . وَعَلَى هَذَا تُشْتَرَطُ
الْمُوَالَاةُ فِي وَقْتِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ .
وَالثَّالِثُ : تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا يُشْتَرَطُ
التَّرْتِيبُ وَهَذَا وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمَعْنَى
ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا صَلَّى الْأُولَى وَأَخَّرَ الثَّانِيَةَ أَثِمَ وَإِنْ
كَانَتْ وَقَعَتْ صَحِيحَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إذَا أَخَّرَ الْأُولَى
إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ الثَّانِيَةَ مَعَهَا فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ
بِمَنْزِلَةِ
أَخَّرَهَا إلَى وَقْتِ الضَّرُورَةِ وَيَكُونُ قَدْ صَلَّاهَا فِي وَقْتِهَا مَعَ الْإِثْمِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بِحَالٍ لَا فِي وَقْتِ الْأُولَى وَلَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلِأَنَّ مُرَاعَاةَ ذَلِكَ يُسْقِطُ مَقْصُودَ الرُّخْصَةِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ مَنْ حَمَلَ الْجَمْعَ عَلَى الْجَمْعِ بِالْفِعْلِ وَهُوَ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَيُحْرِمَ بِالثَّانِيَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا كَمَا تَأَوَّلَ جَمْعَهُ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ وَمُرَاعَاةُ هَذَا مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ وَأَشَقِّهَا ؛ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبْتَدِئَ فِيهَا إذَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَوْ ثَلَاثٍ فِي الْمَغْرِبِ وَيُرِيدُ مَعَ ذَلِكَ أَلَّا يُطِيلَهَا وَإِنْ كَانَ بِنِيَّةِ الْإِطَالَةِ تُشْرَعُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُطِيلَهَا أَوْ أَنْ يَنْتَظِرَ أَحَدًا لِيُحَصِّلْ الرُّكُوعَ وَالْجَمَاعَةَ لَمْ يُشْرَعْ ذَلِكَ وَيَجْتَهِدُ فِي أَنْ يُسَلِّمَ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَاعَاةَ هَذَا مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَهُوَ يُشْغِلُ قَلْبَ الْمُصَلِّي عَنْ مَقْصُودِ الصَّلَاةِ وَالْجَمْعُ شُرِعَ رُخْصَةً وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ فَكَيْفَ لَا يُشْرَعُ إلَّا مَعَ حَرَجٍ شَدِيدٍ وَمَعَ مَا يَنْقُضُ مَقْصُودَ الصَّلَاةِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّيْسِيرُ وَرَفْعُ الْحَرَجِ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ وَلَا يَلْتَزِمُ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ مِنْ الْأُولَى إلَّا
قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِهَا الْخَاصِّ وَكَيْفَ يَعْلَمُ ذَلِكَ الْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ وَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ إنَّمَا يُعْرَفُ عَلَى سَبِيلِ التَّحْدِيدِ بِالظِّلِّ وَالْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ لَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ الظِّلِّ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلَاتٌ حِسَابِيَّةٌ يَعْرِفُ بِهَا الْوَقْتَ وَلَا مُوَقِّتٌ يَعْرِفُ ذَلِكَ بِالْآلَاتِ الْحِسَابِيَّةِ وَالْمَغْرِبُ إنَّمَا يُعْرَفُ آخِرُ وَقْتِهَا بِمَغِيبِ الشَّفَقِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى جِهَةِ الْغَرْبِ هَلْ غَرَبَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ أَوْ الْأَبْيَضُ وَالْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ مَنْهِيٌّ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتٍ أَوْ فُسْطَاطٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتُرُهُ عَنْ الْغَرْبِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ النَّظَرُ إلَى الْمَغْرِبِ فَلَا يُمْكِنُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَحَرَّى السَّلَامَ فِي آخِرِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُسَلِّمَ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِزَمَنٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَعَهُ يُسَلِّمُ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ . ثُمَّ الثَّانِيَةُ لَا يُمْكِنُهُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ يَشْرَعَ فِيهَا حَتَّى يَعْلَمَ دُخُولَ الْوَقْتِ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلٍ وَكُلْفَةٍ مِمَّا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُرَاعِيهِ ؛ بَلْ وَلَا أَصْحَابِهِ فَهَؤُلَاءِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ لِغَالِبِ النَّاسِ إلَّا مَعَ تَفْرِيقِ الْفِعْلِ وَأُولَئِكَ لَا يَكُونُ الْجَمْعُ عِنْدَهُمْ إلَّا مَعَ اقْتِرَانِ الْفِعْلِ وَهَؤُلَاءِ فَهِمُوا مِنْ الْجَمْعِ اقْتِرَانَ الْفِعْلَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ وَقْتَيْنِ وَأُولَئِكَ قَالُوا لَا يَكُونُ
الْجَمْعُ
إلَّا فِي وَقْتَيْنِ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى تَفْرِيقِ الْفِعْلِ وَكِلَا
الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ . وَالسُّنَّةُ جَاءَتْ بِأَوْسَعَ مِنْ هَذَا وَهَذَا
وَلَمْ تُكَلِّفْ النَّاسَ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَالْجَمْعُ جَائِزٌ فِي
الْوَقْتِ الْمُشْتَرِكِ فَتَارَةً يَجْمَعُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ كَمَا جَمَعَ
بِعَرَفَةَ . وَتَارَةً يَجْمَعُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ كَمَا جَمَعَ بمزدلفة
وَفِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ . وَتَارَةً يَجْمَعُ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي وَسَطِ
الْوَقْتَيْنِ وَقَدْ يَقَعَانِ مَعًا فِي آخِرِ وَقْتِ الْأُولَى وَقَدْ يَقَعَانِ
مَعًا فِي أَوَّلِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ وَقَدْ تَقَعُ هَذِهِ فِي هَذَا وَهَذِهِ
فِي هَذَا ؛ وَكُلُّ هَذَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ
الْوَقْتَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مُشْتَرَكٌ وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّوَسُّطُ بِحَسَبِ
الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَفِي عَرَفَةَ وَنَحْوِهَا يَكُونُ التَّقْدِيمُ هُوَ
السُّنَّةَ .
وَكَذَلِكَ جَمْعُ الْمَطَرِ : السُّنَّةُ أَنْ يَجْمَعَ لِلْمَطَرِ فِي وَقْتِ
الْمَغْرِبِ حَتَّى اخْتَلَفَ مَذْهَبُ أَحْمَد هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ
لِلْمَطَرِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَقِيلَ إنَّ ظَاهِرَ
كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّ الْأَفْضَلَ
التَّأْخِيرُ وَهُوَ غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ
وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ ظَنَّ أَنَّ التَّأْخِيرَ فِي الْجَمْعِ أَفْضَلُ
مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ يَجُوزُ فِعْلُهَا بَعْدَ الْوَقْتِ عِنْدَ
النَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ وَلَا يَجُوزُ فِعْلُهَا قَبْلَ الْوَقْتِ بِحَالِ بَلْ
لَوْ صَلَّاهَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ أَعَادَهَا وَهَذَا غَلَطٌ ؛
فَإِنَّ الْجَمْعَ بمزدلفة إنَّمَا الْمَشْرُوعُ فِيهِ تَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ إلَى
وَقْتِ الْعِشَاءِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ سَوَّغَ لَهُ هُنَاكَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ فِي طَرِيقِهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَغْرِبِ هَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي طَرِيقِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَأَمَّا التَّأْخِيرُ فَهُوَ كَالتَّقْدِيمِ بَلْ صَاحِبُهُ أَحَقُّ بِالذَّمِّ وَمَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَإِنَّ وَقْتَهَا فِي حَقِّهِ حِينَ يَسْتَيْقِظُ وَيَذْكُرُهَا وَحِينَئِذٍ هُوَ مَأْمُورٌ بِهَا لَا وَقْتَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ فَلَمْ يُصَلِّهَا إلَّا فِي وَقْتِهَا . وَأَمَّا مَنْ صَلَّى قَبْلَ الزَّوَالِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَعَمِّدًا فَهَذَا فَعَلَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ الْوَقْتِ كَالْمَحْبُوسِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ الْوَقْتِ فَهَذَا فِي إجْزَائِهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ فِي صِيَامِهِ إذَا صَامَ حَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ شُهُورِ رَمَضَانَ كَالْأَسِيرِ إذَا صَامَ بِالتَّحَرِّي ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ قَبْلَ الْوَقْتِ فَفِي إجْزَائِهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَأَمَّا مَنْ صَلَّى فِي الْمِصْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ غَلَطًا فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ وَهَلْ تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ نَفْلًا أَوْ تَقَعُ بَاطِلَةً ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا بِحَالِ كَمَا لَمْ يُبِحْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهَا قَبْلَ وَقْتِهَا بِحَالِ فَلَيْسَ جَمْعُ التَّأْخِيرِ بِأَوْلَى مِنْ جَمْعِ التَّقْدِيمِ ؛ بَلْ ذَاكَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ
ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَغَيْرِهِ . وَمَنْ أَطْلَقَ مِنْ أَصْحَابِهِ الْقَوْلَ بِتَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا مُطْلَقًا فَقَدْ أَخْطَأَ عَلَى مَذْهَبِهِ . وَأَحَادِيثُ الْجَمْعِ الثَّابِتَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْثُورَةٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَمُعَاذٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وَقَدْ تَأَوَّلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مَنْ أَنْكَرَ الْجَمْعَ عَلَى تَأْخِيرِ الْأُولَى إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَتَقْدِيمِ الثَّانِيَةِ إلَى أَوَّلِ وَقْتِهَا وَقَدْ جَاءَتْ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ بِأَنَّ الْجَمْعَ كَانَ يَكُونُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ وَفِي وَقْتِ الْأُولَى وَجَاءَ الْجَمْعُ مُطْلَقًا وَالْمُفَسَّرُ يُبَيِّنُ الْمُطْلَقَ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَجَّلَ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ وَيَذْكُرُ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } . قَالَ الطَّحَاوِي : حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إنَّمَا فِيهِ الْجَمْعُ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ مَنْ فَعَلَهُ وَذَكَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ
وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفَ كَانَ جَمْعُهُ ؛ وَهَذَا إنَّمَا فِيهِ التَّأْخِيرُ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ لَا فِيمَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْمُثْبِتُونَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذهلي حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مُسْعِدَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ { عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَسْرَعَ السَّيْرَ فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَسَأَلْت نَافِعًا فَقَالَ : بَعْدَ مَا غَابَ الشَّفَقُ بِسَاعَةِ وَقَالَ : إنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ } وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اسْتَصْرَخَ عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَهِيَ بِالْمَدِينَةِ فَأَقْبَلَ فَسَارَ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَبَدَتْ النُّجُومُ فَقَالَ رَجُلٌ كَانَ يَصْحَبُهُ : الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ فَسَارَ ابْنُ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ : الصَّلَاةَ فَقَالَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا عَجَّلَ بِهِ أَمْرٌ فِي سَفَرٍ جَمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ } . فَسَارَ حَتَّى إذَا غَابَ الشَّفَقُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَسَارَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثًا . وَرَوَى البيهقي هَذَيْنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مَشْهُورٍ قَالَ وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ { نَافِعٍ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ : فَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّفَقِ حَتَّى ذَهَبَ هَوِيٌّ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ قَالَ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَوْ حَزَبَهُ أَمْرٌ } . قَالَ : وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ نَافِعٍ فَذَكَرَ أَنَّهُ سَارَ قَرِيبًا مِنْ رُبُعِ اللَّيْلِ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الدارقطني حَدَّثَنَا ابْنُ صَاعِدٍ والنيسابوري حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ زَيْدٍ حَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ أَقْبَلَ مِنْ مَكَّةَ وَجَاءَهُ خَبَرُ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ فَأَسْرَعَ السَّيْرَ فَلَمَّا غَابَتْ الشَّمْسُ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : الصَّلَاةَ فَسَكَتَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : الصَّلَاةَ فَقَالَ الَّذِي قَالَ لَهُ " الصَّلَاةَ " : إنَّهُ لَيَعْلَمُ مِنْ هَذَا عِلْمًا لَا أَعْلَمُهُ فَسَارَ حَتَّى إذَا كَانَ بَعْدَ مَا غَابَ الشَّفَقُ بِسَاعَةٍ نَزَلَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَكَانَ لَا يُنَادِي لِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَأَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا جَمَعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَالَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ بِسَاعَةِ وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ أَيْنَ تَوَجَّهَتْ بِهِ السُّبْحَةُ فِي السَّفَرِ } . وَيُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ . قَالَ البيهقي : اتَّفَقَتْ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَيُّوبَ السختياني وَعُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ : عَلَى أَنَّ جَمْعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ وَخَالَفَهُمْ مَنْ لَا يُدَانِيهِمْ فِي حِفْظِ أَحَادِيثِ نَافِعٍ وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ جَابِرٍ رَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ
وَلَفْظُهُ : حَتَّى إذَا كَانَ فِي آخِرِ الشَّفَقِ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَقَدْ تَوَارَى الشَّفَقُ فَصَلَّى بِنَا ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَجَّلَ بِهِ الْأَمْرُ صَنَعَ هَكَذَا . وَقَالَ : وَبِمَعْنَاهُ رَوَاهُ فضيل بْنُ غَزَوَانَ وَعِطَافُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ نَافِعٍ وَرِوَايَةُ الْحُفَّاظِ مِنْ أَصْحَابِ نَافِعٍ أَوْلَى بِالصَّوَابِ . فَقَدْ رَوَاهُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ذُؤَيْبٍ : عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَ رِوَايَتِهِمْ أَمَّا حَدِيثُ سَالِمٍ فَرَوَاهُ عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَخِيهِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سَالِمٍ وَأَمَّا حَدِيثُ أَسْلَمَ فَأَسْنَدَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ : أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنِي { زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَبَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ شِدَّةُ وَجَعٍ فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى إذَا كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ : إنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ . وَأَسْنَدَ أَيْضًا مِنْ كِتَابِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ أَنَا أَبُو صَالِحٍ وَابْنُ بكير قَالَا حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنِي { عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ وَكَانَ مِنْ صَالِحِي الْمُسْلِمِينَ صِدْقًا وَدِينًا قَالَ : غَابَتْ الشَّمْسُ وَنَحْنُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَسِرْنَا فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ قَدْ أَمْسَى قُلْنَا لَهُ : الصَّلَاةَ فَسَكَتَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ وَتَصَوَّبَتْ النُّجُومُ فَنَزَلَ فَصَلَّى الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا ثُمَّ قَالَ :
رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ صَلَّى صَلَاتِي هَذِهِ يَقُولُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ لَيْلٍ } . وَأَمَّا حَدِيثُ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأُسْنِدَ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة عَنْ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ { إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ : صَحِبْت ابْنَ عُمَرَ فَلَمَّا غَابَتْ الشَّمْسُ هِبْنَا أَنْ نَقُولَ لَهُ قُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَلَمَّا ذَهَبَ بَيَاضُ الْأُفُقِ وَفَحْمَةُ الْعِشَاءِ نَزَلَ فَصَلَّى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَرَكْعَتَيْنِ ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْنَا فَقَالَ هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ } . وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ زَاغَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ } هَذَا لَفْظُ الْفِعْلِ عَنْ عَقِيلٍ عَنْهُ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ : حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ عَقِيلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ إذَا عَجَّلَ بِهِ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ } . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شَبَّابَةَ : حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَقِيلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إذَا
أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ أَخَّرَ
الظُّهْرَ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا }
وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَا الفريابي أَنَا إسْحَاقُ بْنُ
رَاهَوَيْه أَنَا شَبَّابَةُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَقِيلٍ [ عن ابن
شهاب ] (*) عَنْ أَنَسٍ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذَا كَانَ فِي السَّفَرِ فَزَالَتْ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ
وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ ارْتَحَلَ } . قُلْت : هَكَذَا فِي هَذِهِ
الرِّوَايَةِ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْمَشْهُورِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَمَّا
حَدِيثُ مُعَاذٍ فَمِنْ إفْرَادِ مُسْلِمٍ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ
وَزُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَقُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ وَهَذَا لَفْظُ مَالِكٍ عَنْ
أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ :
أَنَّ { مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَخْبَرَهُمْ : أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ
وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى
الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ
وَالْعِشَاءِ } .
قُلْت : الْجَمْعُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ : أَمَّا إذَا كَانَ سَائِرًا فِي
وَقْتِ الْأُولَى فَإِنَّمَا يَنْزِلُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ . فَهَذَا هُوَ
الْجَمْعُ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ
وَهُوَ نَظِيرُ جَمْعِ مُزْدَلِفَةَ . وَأَمَّا إذَا كَانَ وَقْتَ الثَّانِيَةِ
سَائِرًا أَوْ رَاكِبًا فَجَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى فَهَذَا نَظِيرُ الْجَمْعِ
بِعَرَفَةَ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ وَأَمَّا إذَا كَانَ نَازِلًا فِي وَقْتِهِمَا جَمِيعًا نُزُولًا
مُسْتَمِرًّا : فَهَذَا مَا عَلِمْت رُوِيَ مَا يُسْتَدَلُّ
بِهِ عَلَيْهِ إلَّا حَدِيثَ مُعَاذٍ هَذَا ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ كَانَ نَازِلًا فِي خَيْمَةٍ فِي السَّفَرِ وَأَنَّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ دَخَلَ إلَى بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا . فَإِنَّ الدُّخُولَ وَالْخُرُوجَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَنْزِلِ وَأَمَّا السَّائِرُ فَلَا يُقَالُ دَخَلَ وَخَرَجَ بَلْ نَزَلَ وَرَكِبَ . وَتَبُوكُ هِيَ آخِرُ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُسَافِرْ بَعْدَهَا إلَّا حِجَّةَ الْوَدَاعِ وَمَا نُقِلَ أَنَّهُ جَمَعَ فِيهَا إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَأَمَّا بِمِنًى فِلْم يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ جَمَعَ هُنَاكَ بَلْ نَقَلُوا أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ هُنَاكَ وَلَا نَقَلُوا أَنَّهُ كَانَ يُؤَخِّرُ الْأُولَى إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَلَا يُقَدِّمُ الثَّانِيَةَ إلَى أَوَّلِ وَقْتِهَا وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ أَحْيَانًا فِي السَّفَرِ وَأَحْيَانًا لَا يَجْمَعُ وَهُوَ الْأَغْلَبُ عَلَى أَسْفَارِهِ : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْجَمْعَ لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ السَّفَرِ كَالْقَصْرِ ؛ بَلْ يُفْعَلُ لِلْحَاجَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّفَرِ أَوْ الْحَضَرِ فَإِنَّهُ قَدْ جَمَعَ أَيْضًا فِي الْحَضَرِ لِئَلَّا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ . فَالْمُسَافِرُ إذَا احْتَاجَ إلَى الْجَمْعِ جَمَعَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِسَيْرِهِ وَقْتَ الثَّانِيَةِ أَوْ وَقْتَ الْأُولَى وَشَقَّ النُّزُولُ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ مَعَ نُزُولِهِ لِحَاجَةٍ أُخْرَى : مِثْلَ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى النَّوْمِ وَالِاسْتِرَاحَةِ وَقْتَ الظُّهْرِ وَوَقْتَ الْعِشَاءِ فَيَنْزِلُ وَقْتَ الظُّهْرِ وَهُوَ تعبان سَهْرَانُ جَائِعٌ مُحْتَاجٌ إلَى رَاحَةٍ وَأَكْلٍ وَنَوْمٍ فَيُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ
ثُمَّ
يَحْتَاجُ أَنْ يُقَدِّمَ الْعِشَاءَ مَعَ الْمَغْرِبِ وَيَنَامَ بَعْدَ ذَلِكَ
لِيَسْتَيْقِظَ نِصْفَ اللَّيْلِ لِسَفَرِهِ فَهَذَا وَنَحْوُهُ يُبَاحُ لَهُ
الْجَمْعُ.
وَأَمَّا النَّازِلُ أَيَّامًا فِي قَرْيَةٍ أَوْ مِصْرٍ وَهُوَ فِي ذَلِكَ
كَأَهْلِ الْمِصْرِ : فَهَذَا وَإِنْ كَانَ يَقْصُرُ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ فَلَا
يَجْمَعُ كَمَا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ وَلَا يُصَلِّي
بِالتَّيَمُّمِ وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ : فَهَذِهِ الْأُمُورُ أُبِيحَتْ
لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ الْقَصْرِ فَإِنَّهُ
سُنَّةٌ صَلَاةِ السَّفَرِ . وَالْجَمْعُ فِي وَقْتِ الْأُولَى كَمَا فَعَلَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ : مَأْثُورٌ فِي
السُّنَنِ : مِثْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي
وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ الْمُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ
سَعْدٍ عَنْ هَاشِمِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ
يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَإِنْ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ
تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَنْزِلَ لِلْعَصْرِ وَفِي
الْمَغْرِبِ مِثْلُ ذَلِكَ : إنْ غَابَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ
بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَإِنْ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ
أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَنْزِلَ لِلْعِشَاءِ ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ
بَيْنَهُمَا } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثُ مُعَاذٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
قُلْت : وَقَدْ رَوَاهُ قُتَيْبَةُ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
حَبِيبٍ عَنْ
أَبِي الطُّفَيْلِ ؛ لَكِنْ أَنْكَرُوهُ عَلَى قُتَيْبَةَ قَالَ البيهقي تَفَرَّدَ بِهِ قُتَيْبَةُ عَنْ اللَّيْثِ وَذَكَرَ عَنْ الْبُخَارِيِّ قَالَ : قُلْت : لقتيبة مَعَ مَنْ كَتَبْت عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ حَدِيثَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ ؟ فَقَالَ : كَتَبْته مَعَ خَالِدٍ الْمَدَائِنِيِّ . قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَكَانَ خَالِدٌ هَذَا يُدْخِلُ الْأَحَادِيثَ عَلَى الشُّيُوخِ . قَالَ البيهقي : وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا مِنْ هَذَا رِوَايَةَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ . فَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْل : فَهِيَ مَحْفُوظَةٌ صَحِيحَةٌ . قُلْت : وَهَذَا الْجَمْعُ الَّذِي فَسَّرَهُ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ يَدْخُلُ فِي الْجَمْعِ الَّذِي أَطْلَقَهُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ فَمَنْ رَوَى عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ مُعَاذٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عَامَ تَبُوكَ } . وَهَذَا الْجَمْعُ الْأَوَّلُ : لَيْسَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ . وَلَمْ يَنْزِلْ وَقْتَ الْعَصْرِ فَهَذَا مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَمْعِ بَلْ يُصَلِّي الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا وَقَدْ يَتَّصِلُ سَيْرُهُ إلَى الْغُرُوبِ : فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَمْعِ بِمَنْزِلَةِ جَمْعِ عَرَفَةَ لَمَّا كَانَ الْوُقُوفُ مُتَّصِلًا إلَى الْغُرُوبِ صَلَّى الْعَصْرَ مَعَ الظُّهْرِ ؛ إذْ كَانَ الْجَمْعُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ . وَبِهَذَا تَتَّفِقُ أَحَادِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِلَّا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ : أَنَّهُ جَمَعَ بِمِنًى==
38.مجموع
الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى :
728هـ)
== وَلَا بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَلَا
فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ؛ مَعَ أَنَّهُ أَقَامَ بِهَا بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا
يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ : أَنَّهُ جَمَعَ فِي حَجَّتِهِ إلَّا
بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَمْعُهُ لِقَصْرِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ الْجَمْعُ فِي وَقْتِ الْأُولَى فِي الْمِصْرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَيْضًا مُوَافَقَةً لِحَدِيثِ مُعَاذٍ : ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد فَقَالَ
: وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ كريب
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ
حَدِيثِ الْفَضْلِ . قُلْت : هَذَا الْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ عَنْ حُسَيْنٍ وَحُسَيْنٌ
هَذَا مِمَّنْ يُعْتَبَرُ بِحَدِيثِهِ وَيُسْتَشْهَدُ بِهِ وَلَا يُعْتَمَدُ
عَلَيْهِ وَحْدَهُ : فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ
وَالنَّسَائِي . وَرَوَاهُ البيهقي مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ
جريج عَنْ حُسَيْنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَإِذَا لَمْ تَزُلْ حَتَّى يَرْتَحِلَ سَارَ حَتَّى إذَا
دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ نَزَلَ فَجَمَعَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَإِذَا غَابَتْ
الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَإِذَا
لَمْ تَغِبْ حَتَّى يَرْتَحِلَ سَارَ حَتَّى إذَا أَتَتْ الْعَتَمَةُ نَزَلَ
فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } قَالَ البيهقي وَرَوَاهُ حَجَّاجُ
بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ جريج أَخْبَرَنِي حُسَيْنٌ عَنْ كريب وَكَانَ حُسَيْنٌ
سَمِعَهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِرِوَايَةِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جريج وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ وَقَدْ رَوَاهَا الدارقطني
وَغَيْرُهُ
وَهِيَ مِنْ كُتُبِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ . قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جريج : حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَعَنْ كريب عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ ؟ قُلْنَا بَلَى . قَالَ : { كَانَ إذَا زَاغَتْ لَهُ الشَّمْسُ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ وَإِذَا لَمْ تَزُغْ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ سَارَ حَتَّى إذَا حَانَتْ الْعَصْرُ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَإِذَا حَانَتْ لَهُ الْمَغْرِبُ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ وَإِذَا لَمْ تَحِنْ فِي مَنْزِلِهِ رَكِبَ حَتَّى إذَا كَانَتْ الْعِشَاءُ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا } . قَالَ الدارقطني وَرَوَاهُ عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ ابْنِ جريج عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ حُسَيْنٍ عَنْ كريب . فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ جريج سَمِعَهُ أَوَّلًا مِنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ حُسَيْنٍ كَقَوْلِ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنْهُ ثُمَّ لَقِيَ ابْنُ جريج حُسَيْنًا فَسَمِعَهُ مِنْهُ كَقَوْلِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَحَجَّاجٍ عَنْ ابْنِ جريج . قَالَ البيهقي : وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ وَيَزِيدَ بْنِ الْهَادِي وَأَبِي رويس الْمَدَنِيِّ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَهُوَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَوَاهِدِهِ يَقْوَى ؛ وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا : حَدِيثَ إبْرَاهِيمَ بْنِ طهمان . عَنْ الْحُسَيْنِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ مَسِيرِهِ وَجَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ : وَقَالَ
إبْرَاهِيمُ بْنُ طهمان فَذَكَرَهُ . قُلْت قَوْلُهُ : { عَلَى ظَهْرِ مَسِيرِهِ } قَدْ يُرَادُ بِهِ عَلَى ظَهْرِ سَيْرِهِ فِي وَقْتِ الْأُولَى وَهَذَا مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرِهِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَة كَمَا جَاءَ صَرِيحًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ البيهقي : وَقَدْ رَوَى أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا نَعْلَمُهُ إلَّا مَرْفُوعًا بِمَعْنَى رِوَايَةِ الْحُسَيْنِ وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا مَرْفُوعًا وَإِلَّا فَهُوَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّهُ كَانَ إذَا نَزَلَ مَنْزِلًا فِي السَّفَرِ فَأَعْجَبَهُ الْمَنْزِلُ أَقَامَ فِيهِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ " قَالَ إسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا عَارِمٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ فَذَكَرَهُ . قَالَ عَارِمٌ هَكَذَا حَدَّثَ بِهِ حَمَّادٌ قَالَ : " كَانَ إذَا سَافَرَ فَنَزَلَ مَنْزِلًا فَأَعْجَبَهُ الْمَنْزِلُ أَقَامَ فِيهِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ " وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إسْمَاعِيلُ ثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا كُنْتُمْ سَائِرِينَ فَنَبَا بِكُمْ الْمَنْزِلُ فَسِيرُوا حَتَّى تُصِيبُوا تَجْمَعُونَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كُنْتُمْ نُزُولًا فَعَجَّلَ بِكُمْ أَمْرٌ فَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا ثُمَّ ارْتَحِلُوا . قُلْت : فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْجَمْعِ بِالْمَدِينَةِ صَحِيحٌ مِنْ مَشَاهِيرِ الصِّحَاحِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَابَتْ لَهُ الشَّمْسُ بِمَكَّةَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِسَرَفِ } . قَالَ البيهقي وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ الحماني عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَرَوَاهُ الْأَجْلَحُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ كَذَلِكَ قَالَ أَبُو دَاوُد : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ جَارِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ . عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ بَيْنَهُمَا عَشَرَةُ أَمْيَالٍ يَعْنِي بَيْنَ مَكَّةَ وَسَرِفٍ . قُلْت : عَشَرَةُ أَمْيَالٍ ثَلَاثَةُ فَرَاسِخَ وَثُلُثٌ وَالْبَرِيدُ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ وَهَذِهِ الْمَسَافَةُ لَا تُقْطَعُ فِي السَّيْرِ الْحَثِيثِ حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ فَإِنَّ النَّاسَ يَسِيرُونَ مِنْ عَرَفَةَ عَقِبَ الْمَغْرِبِ وَلَا يَصِلُونَ إلَى جَمْعٍ إلَّا وَقَدْ غَابَ الشَّفَقُ وَمِنْ عَرَفَةَ إلَى مَكَّةَ بَرِيدٌ فَجَمَعَ دُونَ هَذِهِ الْمَسَافَةِ وَهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ فَكَيْفَ بِسَرِفِ وَهَذَا يُوَافِقُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ إذَا كَانَ سَائِرًا أَخَّرَ الْمَغْرِبَ إلَى أَنْ يَغْرُبَ الشَّفَقُ ثُمَّ يُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا . قَالَ البيهقي : وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعُذْرِ السَّفَرِ مِنْ الْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَعَ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ جَمْعِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ بِالْمُزْدَلِفَةِ : وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ
عَنْ الزُّهْرِيِّ : أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ } . قَالَ سَالِمٌ : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُقِيمُ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فَيُصَلِّيهَا ثَلَاثًا ثُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَيُصَلِّيَهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمَ وَلَا يُسَبِّحَ بَيْنَهُمَا بِرَكْعَةِ وَلَا يُسَبِّحَ بَعْدَ الْعِشَاءِ بِسَجْدَةٍ حَتَّى يَقُومُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ : أَنَّهُ قَالَ لِسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : مَا أَشَدَّ مَا رَأَيْت أَبَاك عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ فِي السَّفَرِ ؟ قَالَ : غَرَبَتْ لَهُ الشَّمْسُ بِذَاتِ الْجَيْشِ فَصَلَّاهَا بِالْعَقِيقِ . قَالَ البيهقي : رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَزَادَ فِيهِ : ثَمَانِيَةَ أَمْيَالٍ وَرَوَاهُ ابْنُ جريج عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَزَادَ فِيهِ قَالَ قُلْت : أَيُّ سَاعَةٍ تِلْكَ ؟ قَالَ : قَدْ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ رُبُعُهُ . قَالَ وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ : فَسَارَ أَمْيَالًا ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى . قَالَ يَحْيَى : وَذَكَرَ لِي نَافِعٌ هَذَا الْحَدِيثَ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ : سَارَ قَرِيبًا مِنْ رُبُعِ اللَّيْلِ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى . وَرَوَى مِنْ مُصَنَّفِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قتادة عَنْ جَابِرِ بْنِ
زَيْدٍ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي
السَّفَرِ وَيَقُولُ : هِيَ سُنَّةٌ . وَمِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ :
أَخْبَرَنِي الجريري وَسَلْمَانُ التيمي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النهدي قَالَ :
كَانَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ إذَا عَجَّلَ بِهِمَا
السَّيْرُ جَمَعَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاءِ . وَرَوَيْنَا فِي ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ . وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ
فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ : سَأَلْت سَالِمَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ ؟ فَقَالَ :
نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ أَلَا تَرَى إلَى صَلَاةِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ ؟
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي
سَلَمَةَ ثَنَا الدراوردي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي
عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَأَبِي الزِّنَادِ فِي
أَمْثَالٍ لَهُمْ خَرَجُوا إلَى الْوَلِيدِ وَكَانَ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ
يَسْتَفْتِيهِمْ فِي شَيْءٍ فَكَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ
إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ . قُلْت : فَهَذَا اسْتِدْلَالٌ مِنْ السَّلَفِ بِجَمْعِ
عَرَفَةَ عَلَى نَظِيرِهِ وَأَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا وَهُوَ جَمْعُ
تَقْدِيمٍ لِلْحَاجَةِ فِي السَّفَرِ .
وَأَمَّا الْجَمْعُ بِالْمَدِينَةِ لِأَجْلِ الْمَطَرِ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ رَوَى
مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : صَلَّى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ } . وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ وَقَالَ : أَظُنُّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَطَرٍ . قَالَ البيهقي : وَكَذَلِكَ رَوَاهُ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ " فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ " إلَّا أَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَقَالَا " بِالْمَدِينَةِ " وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ عُيَيْنَة وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِمَعْنَى رِوَايَةِ مَالِكٍ وَسَاقَ البيهقي طُرُقَهَا وَحَدِيثُ زُهَيْرٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ : ثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ } . قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ : فَسَأَلْت سَعِيدًا لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ ؟ قَالَ سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ كَمَا سَأَلْتنِي فَقَالَ : أَرَادَ أَلَّا يُحْرِجَ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِهِ . قَالَ وَقَدْ خَالَفَهُمْ قُرَّةُ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ : " فِي سَفْرَةٍ سافرها إلَى تَبُوكَ " . وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ قُرَّةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سافرها فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } . فَقُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجُ أُمَّتَهُ . قَالَ البيهقي : وَكَانَ قُرَّةُ أَرَادَ حَدِيثَ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ
عَنْ مُعَاذٍ فَهَذَا لَفْظُ حَدِيثِهِ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا فَسَمِعَ قُرَّةُ أَحَدَهُمَا وَمَنْ تَقَدَّمَ ذَكَرَهُ الْآخَرُ . قَالَ : وَهَذَا أَشْبَهُ : فَقَدْ رَوَى قُرَّةُ حَدِيثَ أَبِي الطُّفَيْلِ أَيْضًا . قُلْت : وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَرُوِيَ هَذَا الْمَتْنُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّ قُرَّةَ ثِقَةٌ حَافِظٌ . وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِي حَدِيثَ قُرَّةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ فَجَعَلَهُ مِثْلَ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ حَدِيثَ أَبِي الطُّفَيْلِ وَحَدِيثَهُ هَذَا عَنْ سَعِيدٍ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ حَدَّثَ بِهَذَا وَبِهَذَا . قَالَ البيهقي : وَرَوَاهُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَخَالَفَ أَبَا الزُّبَيْرِ فِي مَتْنِهِ وَذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ } قِيلَ لَهُ : فَمَا أَرَادَ بِذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ . وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ قَالَ سَعِيدٌ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ كَيْلَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . قَالَ البيهقي وَلَمْ يُخْرِجْهُ الْبُخَارِيُّ مَعَ كَوْنِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ مِنْ شَرْطِهِ وَلَعَلَّهُ إنَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ عَلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ . قَالَ : وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَوْلَى أَنْ
تَكُونَ مَحْفُوظَةً فَقَدْ رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَرِيبٍ مِنْ مَعْنَى رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ . قُلْت : تَقْدِيمُ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَلَى رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ لَا وَجْهَ لَهُ فَإِنَّ حَبِيبَ بْنَ أَبِي ثَابِتٍ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَأَبُو الزُّبَيْرِ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ وَأَيْضًا فَأَبُو الزُّبَيْرِ اخْتَلَفَ عَنْهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْمَتْنِ : تَارَةً يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ قُرَّةُ مُوَافَقَةً لِحَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ وَتَارَةً يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا رَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ عَنْهُ عَنْ سَعِيدٍ . فَهَذَا أَبُو الزُّبَيْرِ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ : حَدِيثُ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ مُعَاذٍ فِي جَمْعِ السَّفَرِ وَحَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ . وَحَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي فِيهِ جَمْعُ الْمَدِينَةِ . ثُمَّ قَدْ جَعَلُوا هَذَا كُلَّهُ صَحِيحًا . لِأَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ حَافِظٌ فَلِمَ لَا يَكُونُ حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَيْضًا ثَابِتًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَحَبِيبٌ أَوْثَقُ مَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ؟ وَسَائِرُ أَحَادِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى مَا رَوَاهُ حَبِيبٌ ؛ فَإِنَّ الْجَمْعَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ الْمَطَرِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ " بِالْمَدِينَةِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي السَّفَرِ فَقَوْلُهُ : { جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ } أَوْلَى بِأَنْ يُقَالَ : مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ وَمَنْ قَالَ : " أَظُنُّهُ فِي الْمَطَرِ " فَظَنَّ ظَنَّهُ لَيْسَ هُوَ فِي الْحَدِيثِ بَلْ مَعَ
حِفْظِ الرُّوَاةِ فَالْجَمْعُ صَحِيحٌ قَالَ { مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ } وَقَالَ " وَلَا سَفَرٍ " وَالْجَمْعُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا وَلَا بِهَذَا . وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ أَحْمَد بِهِ عَلَى الْجَمْعِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ لِهَذِهِ الْأُمُورِ أَوْلَى وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْفِعْلِ فَإِنَّهُ إذَا جَمَعَ لِيَرْفَعَ الْحَرَجَ الْحَاصِلَ بِدُونِ الْخَوْفِ وَالْمَطَرِ وَالسَّفَرِ فَالْحَرَجُ الْحَاصِلُ بِهَذِهِ أَوْلَى أَنْ يُرْفَعَ وَالْجَمْعُ لَهَا أَوْلَى مِنْ الْجَمْعِ لِغَيْرِهَا . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يُرِدْ الْجَمْعَ لِلْمَطَرِ - وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ - بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ : خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمًا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَبَدَتْ النُّجُومُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ : الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ قَالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمٍ لَا يَفْتُرُ : الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ فَقَالَ أَتُعَلِّمُنِي بِالسُّنَّةِ لَا أُمَّ لَك ؟ ثُمَّ : قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ : فَحَاكَ فِي صَدْرِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَأَتَيْت أَبَا هُرَيْرَةَ فَسَأَلْته فَصَدَّقَ مَقَالَتَهُ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حدير { عَنْ ابْنِ شَقِيقٍ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ : الصَّلَاةَ فَسَكَتَ : ثُمَّ قَالَ الصَّلَاةَ
فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ : لَا أُمَّ لَك أَتُعَلِّمُنَا بِالصَّلَاةِ وَكُنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ فِي سَفَرٍ وَلَا فِي مَطَرٍ وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِمَا رَوَاهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ فَعُلِمَ أَنَّ الْجَمْعَ الَّذِي رَوَاهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَطَرٍ وَلَكِنْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ يَخْطُبُهُمْ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَرَأَى أَنَّهُ إنْ قَطَعَهُ وَنَزَلَ فَاتَتْ مَصْلَحَتُهُ فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنْ الْحَاجَاتِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْجَمْعُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بِالْمَدِينَةِ لِغَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ بَلْ لِلْحَاجَةِ تَعْرِضُ لَهُ كَمَا قَالَ : " أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمْعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ لَمْ يَكُنْ لِخَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ وَلَا لِسَفَرِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ جَمْعُهُ لِلسَّفَرِ لَجَمَعَ فِي الطَّرِيقِ وَلَجَمَعَ بِمَكَّةَ كَمَا كَانَ يَقْصُرُ بِهَا وَلَجَمَعَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى وَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ وَلَمْ يَجْمَعْ بِمِنَى قَبْلَ التَّعْرِيفِ وَلَا جَمَعَ بِهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَيَّامَ مِنًى بَلْ يُصَلِّي كُلَّ صَلَاةٍ رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ الْمَغْرِبِ وَيُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا وَلَا جَمْعُهُ أَيْضًا كَانَ لِلنُّسُكِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَمَعَ مِنْ حِينِ أَحْرَمَ فَإِنَّهُ مِنْ حِينَئِذٍ صَارَ مُحْرِمَا فَعُلِمَ أَنَّ جَمْعَهُ الْمُتَوَاتِرَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ لَمْ يَكُنْ لِمَطَرٍ وَلَا خَوْفٍ وَلَا لِخُصُوصِ النُّسُكِ وَلَا لِمُجَرَّدِ السَّفَرِ فَهَكَذَا جَمْعُهُ بِالْمَدِينَةِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِنَّمَا
كَانَ الْجَمْعُ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ أُمَّتِهِ فَإِذَا احْتَاجُوا إلَى الْجَمْعِ جَمَعُوا . قَالَ البيهقي : لَيْسَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ شَقِيقٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الثَّابِتَيْنِ عَنْهُ نَفْيُ الْمَطَرِ وَلَا نَفْيُ السَّفَرِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِهِمَا . أَوْ عَلَى مَا أَوَّلَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِمَا مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ . فَيُقَالُ : يَا سُبْحَانَ اللَّهِ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ يَخْطُبُ بِهِمْ بِالْبَصْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَطَرٌ وَهُوَ ذَكَرَ جَمْعًا يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى مِثْلِ مَا فَعَلَهُ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِسَفَرِ أَوْ مَطَرٍ كَانَ ابْنُ عَبَّاس أَجَلَّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى جَمْعِهِ بِجَمْعِ الْمَطَرِ أَوْ السَّفَرِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ لَمْ يَنْفِ السَّفَرَ ؟ وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ مِنْ أَوْثَقِ النَّاسِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ } وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْهُ فَيُقَالُ : هَذَا مِنْ أَضْعَفِ الْحُجَجِ فَهُوَ لَمْ يُخَرِّجْ أَحَادِيثَ أَبِي الزُّبَيْرِ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ شَرْطِهِ يُخَرِّجُهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَرِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَرِيبٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ
ابْنِ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا : الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ } . وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ لِأَيُّوبِ : لَعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ ؟ فَقَالَ عَسَى . فَيُقَالُ : هَذَا الظَّنُّ مِنْ أَيُّوبَ وَعَمْرٍو فَالظَّنُّ لَيْسَ مِنْ مَالِكٍ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي سَمِعُوهُ لَا يَنْفِي الْمَطَرَ فَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ وَلَوْ سَمِعُوا رِوَايَةَ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ الثِّقَةِ الثَّبْتِ لَمْ يَظُنُّوا هَذَا الظَّنَّ ثُمَّ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ حِكَايَةُ فِعْلٍ مُطْلَقٍ لِمَ ذَكَرَ فِيهَا نَفْيَ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ قَصْدُهُ بَيَانَ جَوَازِ الْجَمْعِ بِالْمَدِينَةِ فِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ مَقْصُودُهُ تَعْيِينَ سَبَبٍ وَاحِدٍ فَمَنْ قَالَ إنَّمَا أَرَادَ جَمْعَ الْمَطَرِ وَحْدَهُ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ ثُمَّ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ تَارَةً يُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَطَرِ مُوَافَقَةً لِأَيُّوبِ وَتَارَةً يَقُولُ هُوَ وَأَبُو الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ كَانَ جَمْعًا فِي الْوَقْتَيْنِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة عَنْ { عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ : سَمِعْت جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ : سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيًا جَمِيعًا وَسَبْعًا جَمِيعًا قَالَ : قُلْت : يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ أَرَاهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ قَالَ : وَأَنَا أَظُنُّ ذَلِكَ } . فَيُقَالُ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ أَفْقَهَ وَأَعْلَمَ
مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ - إذَا كَانَ قَدْ صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا الَّذِي تَعْرِفُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ جَوَازَهُ - أَنْ يَذْكُرَ هَذَا الْفِعْلَ الْمُطْلَقَ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ . وَأَنْ يَقُولَ : أَرَادَ بِذَلِكَ أَلَّا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ . وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتَيْنِ قَدْ شُرِعَتْ بِأَحَادِيثِ الْمَوَاقِيتِ . وَابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ مِمَّنْ رَوَى أَحَادِيثَ الْمَوَاقِيتِ { وَإِمَامَةِ جِبْرِيلَ لَهُ عِنْدَ الْبَيْتِ . وَقَدْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَصَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ } . فَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا جَمَعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَأَيُّ غَرَابَةٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كِلَا الصَّلَاتَيْنِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَقَالَ { الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ } فَصَلَاتُهُ لِلْأُولَى وَحْدَهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ . وَكَيْفَ يَلِيقُ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يَقُولَ : فَعَلَ ذَلِكَ كَيْلَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ وَالْوَقْتُ الْمَشْهُورُ هُوَ أَوْسَعُ وَأَرْفَعُ لِلْحَرَجِ مِنْ هَذَا الْجَمْعِ الَّذِي ذَكَرُوهُ وَكَيْفَ يُحْتَجُّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرَ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا صَلَّى فِي الْوَقْتِ الْمُخْتَصِّ بِهَذَا الْفِعْلِ وَكَانَ لَهُ فِي تَأْخِيرِهِ الْمَغْرِبَ حِينَ صَلَّاهَا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ وَحْدَهَا وَتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ مَا يُغْنِيهِ عَنْ هَذَا ؟ وَإِنَّمَا قَصَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيَانَ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ إلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي حَالِ الْجَمْعِ أَوْسَعُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ . وَبِذَلِكَ يَرْتَفِعُ الْحَرَجُ عَنْ الْأُمَّةِ . ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ
فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْجَمْعَ فِي السَّفَرِ . وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا . فَعُلِمَ أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ فِي عَرَفَةَ وَعَادَتُهُ إنَّمَا هُوَ الْجَمْعُ فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا وَأَمَّا الْجَمْعُ فِي الْوَقْتَيْنِ فَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ فَكَيْفَ يَعْدِلُ عَنْ عَادَتِهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا إلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ ؟ وَأَيْضًا فَابْنُ شَقِيقٍ يَقُولُ : حَاكَ فِي صَدْرِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَأَتَيْت أَبَا هُرَيْرَةَ فَسَأَلْته فَصَدَّقَ مَقَالَتَهُ . أَتُرَاهُ حَاكَ فِي صَدْرِهِ أَنَّ الظُّهْرَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ؟ وَأَنَّ الْعَصْرَ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا إلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ ؟ وَهَلْ هَذَا مِمَّا يَخْفَى عَلَى أَقَلِّ النَّاسِ عِلْمًا حَتَّى يَحِيكَ فِي صَدْرِهِ مِنْهُ ؟ وَهَلْ هَذَا مِمَّا يَحْتَاجُ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنْهُ ؟ إنَّ هَذَا مِمَّا تَوَاتَرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَعَلِمُوا جَوَازَهُ . وَإِنَّمَا وَقَعَتْ شُبْهَةٌ لِبَعْضِهِمْ فِي الْمَغْرِبِ خَاصَّةً وَهَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ تَأْخِيرَهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا : فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ كَيْفَمَا كَانَ وَجَوَازُ تَأْخِيرِهَا لَيْسَ مُعَلَّقًا بِالْجَمْعِ بَلْ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا مُطْلَقًا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ حِينَ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ أَيْضًا وَهَكَذَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَيَّنَ أَحَادِيثَ الْمَوَاقِيتِ وَهَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ نُورُ الشَّفَقِ وَوَقْتُ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ } كَمَا قَالَ : { وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَصِرْ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ } فَهَذَا
الْوَقْتُ الْمُخْتَصُّ الَّذِي بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَقَالَ : { الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ } لَيْسَ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِالْجَمْعِ وَلَا تَعَلُّقٌ بِهِ . وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : قَوْلُهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ الْمُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ فِي الْوَقْتَيْنِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْكُوفِيِّينَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَرْقٌ . فَلِمَاذَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْمُطَفِّفِينَ لَا يَحْتَجُّ لِغَيْرِهِ كَمَا يَحْتَجُّ لِنَفْسِهِ ؟ وَلَا يَقْبَلُ لِنَفْسِهِ مَا يَقْبَلُهُ لِغَيْرِهِ ؟ وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ هَذَا مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَاهُ الطَّحَاوِي حَدَّثَنَا ابْنُ خُزَيْمَة وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي دَاوُد وَعِمْرَانُ بْنُ مُوسَى قَالَ : أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ يَحْيَى الأشناني حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : { جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ لِلرُّخْصَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا عِلَّةٍ } لَكِنْ يُنْظَرُ حَالُ هَذَا الأشناني . وَجَمْعُ الْمَطَرِ عَنْ الصَّحَابَةِ فَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لَيْلَةَ الْمَطَرِ جَمَعَ مَعَهُمْ فِي لَيْلَةِ الْمَطَرِ قَالَ البيهقي : وَرَوَاهُ الْعُمَرِيُّ عَنْ نَافِعٍ فَقَالَ : قَبْلَ الشَّفَقِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : أَنْبَأَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبِيبٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي
الْمَطَرِ قَبْلَ الشَّفَقِ [ وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني بِالْإِسْنَادِ الثَّابِتِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ : كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ إذَا جَمَعُوا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَلَا يُنْكَرُ ذَلِكَ ] (*) . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إذَا كَانَ الْمَطَرُ وَأَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَأَبَا بَكْرٍ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَشْيَخَةَ ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَهُمْ وَلَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ لِلْمَطَرِ مِنْ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ الْمَعْمُولِ بِهِ بِالْمَدِينَةِ زَمَنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّهُ مَنْقُولٌ عِنْدَهُمْ بِالتَّوَاتُرِ جَوَازُ ذَلِكَ لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْمَعْ إلَّا لِلْمَطَرِ ؛ بَلْ إذَا جَمَعَ لِسَبَبٍ هُوَ دُونَ الْمَطَرِ مَعَ جَمْعِهِ أَيْضًا لِلْمَطَرِ كَانَ قَدْ جَمَعَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ كَمَا أَنَّهُ إذَا جَمَعَ فِي السَّفَرِ وَجَمَعَ فِي الْمَدِينَةِ كَانَ قَدْ جَمَعَ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ جَمَعَ مِنْ غَيْرِ كَذَا وَلَا كَذَا لَيْسَ نَفْيًا مِنْهُ لِلْجَمْعِ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ بَلْ إثْبَاتٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ جَمَعَ بِدُونِهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ بِهَا أَيْضًا . وَلَوْ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ جَمَعَ بِهَا فَجَمْعُهُ بِمَا هُوَ دُونَهَا دَلِيلٌ عَلَى الْجَمْعِ بِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْجَمْعِ لِلْخَوْفِ وَالْمَطَرِ وَقَدْ جَمَعَ بِعَرَفَةَ
مُزْدَلِفَةَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ . فَالْأَحَادِيثُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ أُمَّتِهِ فَيُبَاحُ الْجَمْعُ إذَا كَانَ فِي تَرْكِهِ حَرَجٌ قَدْ رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ لِلْمَرَضِ الَّذِي يُحْرِجُ صَاحِبَهُ بِتَفْرِيقِ الصَّلَاةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَيَجْمَعُ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ إكْمَالُ الطَّهَارَةِ فِي الْوَقْتَيْنِ إلَّا بِحَرَجٍ كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ وَرَوَى الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قتادة عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ عُمَرَ . وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ صُبْحٍ : حَدَّثَنِي حميد بْنُ هِلَالٍ عَنْ أَبِي قتادة يَعْنِي العدوي : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى عَامِلٍ لَهُ : ثَلَاثٌ مِنْ الْكَبَائِرِ : الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ وَالنَّهْبُ . قَالَ البيهقي : أَبُو قتادة أَدْرَكَ عُمَرَ فَإِنْ كَانَ شَهِدَهُ كَتَبَ فَهُوَ مَوْصُولٌ وَإِلَّا فَهُوَ إذَا انْضَمَّ إلَى الْأَوَّلِ صَارَ قَوِيًّا . وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الْجَمْعِ لِلْعُذْرِ وَلَمْ يَخُصَّ عُمَرُ عُذْرًا مِنْ عُذْرٍ . قَالَ البيهقي : وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ مَوْصُولٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إسْنَادِهِ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ سَلْمَانَ الْتَيْمِي عَنْ حَنَشٍ الصنعائي عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . ا هـ
فَصْلٌ
:
فِي تَمَامِ الْكَلَامِ فِي الْقَصْرِ وَسَبَبِ إتْمَامِ عُثْمَانَ الصَّلَاةَ
بِمِنَى . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهَا بَعْضُ أَقْوَالِ النَّاسِ وَالْقَوْلَانِ
الْأَوَّلَانِ مَرْوِيَّانِ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَدْ ذَكَرَهُمَا أَحْمَد رَوَى
عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : إنَّمَا صَلَّى
عُثْمَانُ بِمِنَى أَرْبَعًا لِأَنَّهُ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْمُقَامِ بَعْدَ
الْحَجِّ وَرَجَّحَ الطَّحَاوِي هَذَا الْوَجْهَ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ
الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَذَكَرَ مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ
أَيُّوبَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : إنَّمَا صَلَّى عُثْمَانُ بِمِنَى أَرْبَعًا
لِأَنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا كَثُرُوا فِي ذَلِكَ الْعَامِ فَأَحَبَّ أَنْ
يُخْبِرَهُمْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ . قَالَ الطَّحَاوِي : فَهَذَا يُخْبِرُ
أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيُعْلِمَ الْأَعْرَابَ بِهِ أَنَّ الصَّلَاةَ
أَرْبَعًا . فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ
ذَلِكَ نَوَى الْإِقَامَةَ فَصَارَ مُقِيمًا فَرْضُهُ أَرْبَعٌ فَصَلَّى بِهِمْ
أَرْبَعًا . لِلسَّبَبِ الَّذِي حَكَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ . وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ مُسَافِرٌ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ قَالَ :
وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا
بِالصَّلَاةِ وَأَحْكَامِهَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَجْهَلَ مِنْهُمْ بِهَا وَبِحُكْمِهَا فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَهُمْ
بِأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ حِينَئِذٍ أَحْدَثُ عَهْدًا إذْ كَانُوا فِي زَمَنِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْعِلْمِ بِفَرْضِ
الصَّلَوَاتِ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إلَى ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ فَلَمَّا كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَلَكِنَّهُ قَصَرَهَا لِيُصَلُّوا مَعَهُ صَلَاةَ السَّفَرِ عَلَى حُكْمِهَا وَيُعَلِّمَهُمْ صَلَاةَ الْإِقَامَةِ عَلَى حُكْمِهَا : كَانَ عُثْمَانُ أَحْرَى أَلَّا يُتِمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ . قَالَ الطَّحَاوِي : وَقَدْ قَالَ آخَرُونَ : إنَّمَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ لَا يَقْصُرُهَا إلَّا مَنْ حَلَّ وَارْتَحَلَ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ قتادة قَالَ : قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان : إنَّمَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ مَنْ حَمَلَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ وَحَلَّ وَارْتَحَلَ وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ . وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ [ عُثْمَانَ بْنِ سَعْدٍ ] (1) عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قتادة : عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عفان كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ : أَلَا لَا يُصَلِّيَن الرَّكْعَتَيْنِ جَابٍ [ وَلَا تان ] (2) وَلَا تَاجِرٌ إنَّمَا يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ مَنْ كَانَ مَعَهُ الزَّادُ وَالْمَزَادُ . وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ : أَنَّ أَيُّوبَ السختياني أَخْبَرَهُمْ عَنْ أَبِي قِلاَبَة الجرمي عَنْ عَمِّهِ أَبِي الْمُهَلَّبِ قَالَ : كَتَبَ عُثْمَانُ : أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ إمَّا لِتِجَارَةِ وَإِمَّا لِجِبَايَةِ وَإِمَّا [ لِجَرِيمٍ ] (3) ثُمَّ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ مَنْ كَانَ شَاخِصًا أَوْ بِحَضْرَةِ عَدُوٍّ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : وَهَذَانِ الْإِسْنَادَانِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ . قَالَ الطَّحَاوِي : قَالُوا : وَكَانَ مَذْهَبُ عُثْمَانَ أَنْ لَا يَقْصُرَ الصَّلَاةَ إلَّا مَنْ يَحْتَاجُ إلَى حَمْلِ الزَّادِ وَالْمَزَادِ وَمَنْ كَانَ شَاخِصًا فَأَمَّا مَنْ كَانَ
فِي مِصْرٍ يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ حَمْلِ الزَّادِ وَالْمَزَادِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ . قَالُوا : وَلِهَذَا أَتَمَّ عُثْمَانُ بِمِنَى لِأَنَّ أَهْلَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَثُرُوا حَتَّى صَارَتْ مِصْرًا يَسْتَغْنِي مَنْ حَلَّ بِهِ عَنْ حَمْلِ الزَّادِ وَالْمَزَادِ . قَالَ الطَّحَاوِي : وَهَذَا الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ مِنًى لَمْ تَصِرْ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ أَعْمَرُ مِنْ مَكَّةَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى بِهَا أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ كَذَلِكَ ثُمَّ صَلَّى بِهَا عُمَرُ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ كَذَلِكَ فَإِذَا كَانَتْ مَعَ عَدَمِ احْتِيَاجِ مَنْ حَلَّ بِهَا إلَى حَمْلِ الزَّادِ وَالْمَزَادِ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ : فَمَا دُونَهَا مِنْ الْمَوَاطِنِ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ . قَالَ فَقَدْ انْتَفَتْ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ كُلُّهَا لِفَسَادِهَا عَنْ عُثْمَانَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ شَيْءٍ مِنْهَا قَصَرَ الصَّلَاةَ غَيْرُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ الَّذِي حَكَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِهَا أَتَمَّهَا وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ إتْمَامَهُ كَانَ لِنِيَّتِهِ الْإِقَامَةَ عَلَى مَا رَوَيْنَا فِيهِ وَعَلَى مَا كَشَفْنَا مِنْ مَعْنَاهُ . قُلْت : الطَّحَاوِي مَقْصُودُهُ أَنْ يَجْعَلَ مَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ مُوَافِقًا لِأَصْلِهِ وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ فَإِنَّ عُثْمَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْمُهَاجِرُونَ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْمُقَامُ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُرَخِّصْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ إذَا قَدِمُوا مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ أَنْ يُقِيمُوا بِهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ قَضَاءِ الْعُمْرَةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا } وَلِهَذَا لَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُ عُمَرَ بِهَا أَمَرَ أَنْ يُدْفَنَ بِالْحِلِّ وَلَا يُدْفَنَ بِهَا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَادَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَدْ كَانَ مَرِضَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ خَافَ سَعْدٌ أَنْ يَمُوتَ بِمَكَّةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَخْلُفُ عَنْ هِجْرَتِي ؟ فَبَشَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَا يَمُوتُ بِهَا . وَقَالَ : إنَّك لَنْ تَمُوتَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِك آخَرُونَ لَكِنَّ الْبَائِسَ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ } . وَمِنْ الْمَعْرُوفِ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ إذَا اعْتَمَرَ يُنِيخُ رَاحِلَتَهُ فَيَعْتَمِرُ ثُمَّ يَرْكَبُ عَلَيْهَا رَاجِعًا فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ نَوَى الْمُقَامَ بِمَكَّةَ ؟ ثُمَّ هَذَا مِنْ الْكَذِبِ الظَّاهِرِ فَإِنَّ عُثْمَانَ مَا أَقَامَ بِمَكَّةَ قَطُّ بَلْ كَانَ إذَا حَجَّ يَرْجِعُ إلَى الْمَدِينَةِ . وَقَدْ حَمَلَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد كَالْقَاضِي وَأَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ فِعْلَ عُثْمَانَ عَلَى قَوْلِهِمْ فَقَالُوا : لَمَّا كَانَ الْمُسَافِرُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْإِتْمَامِ وَالْقَصْرِ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَائِزًا وَفَعَلَ عُثْمَانُ هَذَا لِأَنَّ الْقَصْرَ جَائِزٌ وَالْإِتْمَامَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ حَمَلُوا فِعْلَ عَائِشَةَ . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَوْهُ مِنْ جِهَتِهَا وَذَكَرَ البيهقي قَوْلَ مَنْ قَالَ : أَتَمَّهَا لِأَجْلِ الْأَعْرَابِ ( وَرَوَاهُ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُد ثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ ثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ الزُّهْرِيِّ : أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عفان أَتَمَّ الصَّلَاةَ
بِمِنَى مِنْ أَجْلِ الْأَعْرَابِ لِأَنَّهُمْ كَثُرُوا [ عَامَئِذٍ ] (1) فَصَلَّى بِالنَّاسِ أَرْبَعًا لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ . وَرَوَى البيهقي مِنْ حَدِيثِ [ مُوسَى ] (2) بْنِ إسْحَاقَ الْقَاضِي : ثَنَا [ يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدٍ ] (3) ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَالِمٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حميد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حميد عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان : أَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنَى ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ السُّنَّةَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ صَاحِبَيْهِ وَلَكِنَّهُ حَدَثَ [ طَغَام ] (4) مِنْ النَّاسِ فَخِفْت أَنْ [ يَسْتَنُّوا ] (5) ) قَالَ البيهقي : وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ هَذَا وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ رَآهُ رُخْصَةً فَرَأَى الْإِتْمَامَ جَائِزًا كَمَا رَأَتْهُ عَائِشَةُ . قُلْت : وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ عُدُولَ عُثْمَانَ عَمَّا دَاوَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلِيفَتَاهُ بَعْدَهُ مَعَ أَنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَعَ مَا عُلِمَ مِنْ حِلْمِ عُثْمَانَ وَاخْتِيَارِهِ لَهُ وَلِرَعِيَّتِهِ أَسْهَلُ الْأُمُورِ وَبُعْدُهُ عَنْ التَّشْدِيدِ وَالتَّغْلِيظِ : لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَفْعَلَ الْأَمْرَ الْأَثْقَلَ الْأَشَدَّ مَعَ تَرْكِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلِيفَتَاهُ بَعْدَهُ وَمَعَ رَغْبَةِ عُثْمَانَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلِيفَتَيْهِ بَعْدَهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِ هَذَا الْمَفْضُولِ جَائِزًا إنْ لَمْ يَرَ أَنَّ فِي فِعْلِ ذَلِكَ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً بَعَثَتْهُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ وَهَبْ أَنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا فَكَيْفَ يُلْزِمُ بِذَلِكَ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ فَإِنَّهُمْ إذَا ائْتَمُّوا بِهِ صَلَّوْا بِصَلَاتِهِ
فَيُلْزِمُ الْمُسْلِمِينَ بِالْفِعْلِ الْأَثْقَلِ مَعَ خِلَافِ السُّنَّةِ لِمُجَرَّدِ كَوْنِ ذَلِكَ جَائِزًا وَكَذَلِكَ عَائِشَةُ وَقَدْ وَافَقَ عُثْمَانَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ أُمَرَاؤُهُمْ وَغَيْرُ أُمَرَائِهِمْ وَكَانُوا يُتِمُّونَ وَأَئِمَّةُ الصَّحَابَةِ لَا يَخْتَارُونَ ذَلِكَ كَمَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ : أَنَّ رَجُلًا أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مخرمة وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ كَانَا جَمِيعًا فِي سَفَرٍ وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يُقْصِرُ الصَّلَاةَ وَيُفْطِرُ وَكَانَا يُتِمَّانِ الصَّلَاةَ وَيَصُومَانِ فَقِيلَ لِسَعْدِ : نَرَاك تُقْصِرُ مِنْ الصَّلَاةِ وَتُفْطِرُ وَيُتِمَّانِ فَقَالَ سَعْدٌ : نَحْنُ أَعْلَمُ . وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ قَالَ كُنَّا مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الشَّامِ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَنُصَلِّي نَحْنُ أَرْبَعًا فَنَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ سَعْدٌ : نَحْنُ أَعْلَمُ . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ : جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَتْمَمْنَا لِأَنْفُسِنَا . قُلْت : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ فَلِهَذَا أَتَمُّوا خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي وَرَاءَ الْإِمَامِ بِمِنَى أَرْبَعًا وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ . قَالَ البيهقي : وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ رَأَى الْقَصْرَ رُخْصَةً فَرَأَى الْإِتْمَامَ جَائِزًا كَمَا رَأَتْهُ عَائِشَةُ . قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ اخْتِيَارِهِمْ الْقَصْرَ ثُمَّ
رَوَى الْحَدِيثَ الْمَعْرُوفَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ السبيعي عَنْ أَبِي لَيْلَى قَالَ أَقْبَلَ سَلْمَانُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَاكِبًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَالُوا : تَقَدَّمْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ : إنَّا لَا نَؤُمُّكُمْ وَلَا نَنْكِحُ نِسَاءَكُمْ ؛ إنَّ اللَّهَ هَدَانَا بِكُمْ قَالَ : فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَصَلَّى بِهِمْ أَرْبَعًا قَالَ : فَقَالَ سَلْمَانُ مَا لَنَا وَلَا لِمُرَبَّعَةٍ إنَّمَا كَانَ يَكْفِينَا نِصْفُ الْمُرَبَّعَةِ وَنَحْنُ إلَى الرُّخْصَةِ أَحْوَجُ . قَالَ : فَبَيَّنَ سَلْمَانُ بِمَشْهَدِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ . قُلْت : هَذِهِ الْقَضِيَّةُ كَانَتْ فِي خِلَافَةِ [ عُثْمَان ] (*) وَسَلْمَانُ قَدْ أَنْكَرَ التَّرْبِيعَ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ خِلَافَ السُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ فَإِنَّهُ لَمْ تَكُنْ الْأَئِمَّةُ يُرَبِّعُونَ فِي السَّفَرِ وَقَوْلُهُ : وَنَحْنُ إلَى الرُّخْصَةِ أَحْوَجُ . يُبَيِّنُ أَنَّهَا رُخْصَةٌ وَهِيَ رُخْصَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا كَمَا أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ رُخْصَةٌ وَهِيَ مَأْمُورٌ بِهَا وَفِطْرَ الْمَرِيضِ رُخْصَةٌ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَالصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ رُخْصَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا وَالطَّوَافُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَدْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ إمَّا رُكْنٌ وَإِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا سُنَّةٌ وَاَلَّذِي صَلَّى بِسَلْمَانَ أَرْبَعًا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْقَصْرَ لِمِثْلِهِ ؛ إمَّا لِأَنَّ سَفَرَهُ كَانَ قَصْرًا عِنْدَهُ
وَإِمَّا لِأَنَّ سَفَرَهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ ؛ فَإِنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ لَا يَرَى الْقَصْرَ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَزْوٍ وَكَانَ لِكَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ نِزَاعٌ فِي جِنْسِ سَفَرِ الْقَصْرِ وَفِي قَدْرِهِ . فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْمُعَيَّنَةُ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا حَالُ الْإِمَامِ وَمُتَابَعَةُ سَلْمَانَ لَهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا فَعَلَ شَيْئًا مُتَأَوِّلًا اُتُّبِعَ عَلَيْهِ كَمَا إذَا قَنَتَ مُتَأَوِّلًا أَوْ كَبَّرَ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا مُتَأَوِّلًا . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى خَمْسًا وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ ظَانِّينَ أَنَّ الصَّلَاةَ زِيدَ فِيهَا فَلَمَّا سَلَّمَ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيت فَذَكِّرُونِي } . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِمَامِ إذَا قَامَ إلَى خَامِسَةٍ هَلْ يُتَابِعُهُ الْمَأْمُومُ أَوْ يُفَارِقُهُ وَيُسَلِّمُ أَوْ يُفَارِقُهُ وَيَنْتَظِرُهُ أَوْ يُخَيَّرُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ؟ عَلَى أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ وَهِيَ رِوَايَاتٌ عَنْ أَحْمَد . أَوْ رَأَى أَنَّ التَّرْبِيعَ مَكْرُوهٌ وَتَابَعَ الْإِمَامَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ وَاجِبَةٌ وَيَجُوزُ فِعْلُ الْمَكْرُوهِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَرْبِيعَ الْمُسَافِرِ لَيْسَ كَصَلَاةِ الْفَجْرِ أَرْبَعًا ؛ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ اقْتَدَى بِمُقِيمٍ لَصَلَّى خَلْفَهُ أَرْبَعًا لِأَجْلِ مُتَابَعَةِ إمَامِهِ ؛ فَهَذِهِ الصَّلَاةُ تُفْعَلُ فِي حَالٍ رَكْعَتَيْنِ وَفِي حَالٍ أَرْبَعًا بِخِلَافِ الْفَجْرِ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ الْمُسَافِرِ مُتَابَعَةَ الْمُسَافِرِ لِلْمُقِيمِ لِأَنَّ كِلَاهُمَا اتَّبَعَ إمَامَهُ .
وَهَذَا الْقَوْلُ وَهُوَ الْقَوْلُ بِكَرَاهَةِ التَّرْبِيعِ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَقَدْ سَأَلَهُ هَلْ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا ؟ فَقَالَ لَا يُعْجِبُنِي وَلَكِنَّ السَّفَرَ رَكْعَتَانِ . وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ المروذي أَنَّهُ قَالَ : إنْ شَاءَ صَلَّى أَرْبَعًا وَإِنْ شَاءَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ . وَلَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَد أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْقَصْرُ ؛ بَلْ نُقِلَ عَنْهُ إذَا صَلَّى أَرْبَعًا أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْإِجْزَاءِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ كَرَاهِيَةُ التَّرْبِيعِ وَأَنَّهُ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَلِهَذَا يَذْكُرُ فِي مَذْهَبِهِ هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ أَرْبَعًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّ الْقَصْرَ أَفْضَلُ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَتَوَقُّفُ أَحْمَد عَنْ الْقَوْلِ بِالْإِجْزَاءِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى قَوْلِهِ فِي مَذْهَبِهِ وَذَلِكَ أَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ زَادَ زِيَادَةً مَكْرُوهَةً وَهَذَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَإِنَّهُ أَتَى بِالْوَاجِبِ وَزِيَادَةٍ وَالزِّيَادَةُ إذَا كَانَتْ سَهْوًا لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ خَطَأً إذَا اُعْتُقِدَ جَوَازُهَا وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا يَفْعَلُهَا مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهَا وَإِنَّمَا يَفْعَلُهَا مَنْ يَعْتَقِدُهَا جَائِزَةً . وَلَا نَصَّ بِتَحْرِيمِهَا ؛ بَلْ الْأَدِلَّةُ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ ؛ لَا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ كَالصَّلَاةِ بِدُونِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَمَعَ الِالْتِفَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ . وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى تَمَامِ ذَلِكَ . وَأَمَّا إتْمَامُ عُثْمَانَ فَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ حَالُهُ عَلَى مَا كَانَ يَقُولُ
لَا عَلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ . فَقَوْلُهُ : إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ إمَّا لِتِجَارَةِ وَإِمَّا لِجِبَايَةِ وَإِمَّا لِجَرِيمِ : يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ مَنْ كَانَ شَاخِصًا أَوْ بِحَضْرَةِ عَدُوٍّ . وَقَوْلُهُ : بَيَّنَ فِيهِ مَذْهَبَهُ وَهُوَ : أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ مَنْ كَانَ نَازِلًا فِي قَرْيَةٍ أَوْ مِصْرٍ إلَّا إذَا كَانَ خَائِفًا بِحَضْرَةِ عَدُوٍّ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ مَنْ كَانَ شَاخِصًا أَيْ مُسَافِرًا وَهُوَ الْحَامِلُ لِلزَّادِ وَالْمَزَادِ أَيْ : لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَزَادُ وِعَاءُ الْمَاءِ . يَقُولُ إذَا كَانَ نَازِلًا مَكَانًا فِيهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ كَانَ مُتَرَفِّهًا بِمَنْزِلَةِ الْمُقِيمِ فَلَا يَقْصُرُ ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ إنَّمَا جُعِلَ لِلْمَشَقَّةِ الَّتِي تَلْحَقُ الْإِنْسَانَ وَهَذَا لَا تَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ فَالْقَصْرُ عِنْدَهُ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي يَحْمِلُ الزَّادَ وَالْمَزَادَ وَلِلْخَائِفِ . وَلَمَّا عَمُرَتْ مِنًى وَصَارَ بِهَا زَادٌ وَمَزَادٌ لَمْ يَرَ الْقَصْرَ بِهَا لَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْحَاجِّ وَقَوْلُهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ : وَلَكِنْ حَدَثَ الْعَامُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا مَا حَدَثَ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا هُوَ الْحَادِثَ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَتْ الْجُهَّالُ مِنْ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ فَقَدْ خَافَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّهَا تُفْعَلُ فِي مَكَانٍ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ أَرْبَعًا وَهَذَا عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَأَهَّلَ بِمَكَّةَ فَيَكُونُ هَذَا أَيْضًا مُوَافِقًا فَإِنَّهُ إنَّمَا تَأَهَّلَ بِمَكَانٍ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ وَهُوَ لَا يَرَى الْقَصْرَ لِمَنْ كَانَ نَازِلًا بِأَهْلِهِ فِي مَكَانٍ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ . وَعَلَى هَذَا فَجَمِيعُ مَا ثَبَتَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ عُذْرِهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا .
وَأَمَّا مَا اعْتَذَرَ بِهِ الطَّحَاوِي مِنْ أَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْمَرَ مِنْ مِنًى فِي زَمَنِ عُثْمَانَ . فَجَوَابُ عُثْمَانَ لَهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ ثُمَّ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ ثُمَّ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ : كَانَ خَائِفًا مِنْ الْعَدُوِّ وَعُثْمَانُ يُجَوِّزُ الْقَصْرَ لِمَنْ كَانَ خَائِفًا وَإِنْ كَانَ نَازِلًا فِي مَكَانٍ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُهُ لِلْمُسَافِرِ وَلِمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ . وَأَمَّا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمِنًا لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَازِلًا بِمَكَّةَ وَإِنَّمَا كَانَ نَازِلًا بِالْأَبْطُحِ خَارِجَ مَكَّةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَكُونُوا نَازِلِينَ بِدَارِ إقَامَةٍ وَلَا بِمَكَانٍ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ . وَقَدْ قَالَ أُسَامَةُ : أَيْنَ نَنْزِلُ غَدًا ؟ هَلْ تَنْزِلُ بِدَارِك بِمَكَّةَ ؟ فَقَالَ " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ ؟ نَنْزِلُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ وَهَذَا الْمَنْزِلُ بِالْأَبْطُحِ بَيْنَ الْمَقَابِرِ وَمِنًى . وَكَذَلِكَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْ عَنْ نَفْسِهَا : أَنَّهَا إنَّمَا تُتِمُّ لِأَنَّ الْقَصْرَ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ وَأَنَّ الْإِتْمَامَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهَا . وَالسَّلَفُ وَالْخَلَفُ تَنَازَعُوا فِي سَفَرِ الْقَصْرِ : فِي جِنْسِهِ وَفِي قَدْرِهِ : فَكَانَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ أَحَدَ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا . وَلِلنَّاسِ فِي جِنْسِ سَفَرِ الْقَصْرِ أَقْوَالٌ أُخَرُ مَعَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ خَالَفَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ : مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ . فَرَوَى سُفْيَانُ
بْنُ
عُيَيْنَة عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : اعْتَلَّ عُثْمَانُ
وَهُوَ بِمِنَى فَأَتَى عَلِيٌّ فَقِيلَ لَهُ : صَلِّ بِالنَّاسِ فَقَالَ : إنْ
شِئْتُمْ صَلَّيْت بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ قَالُوا لَا إلَّا صَلَاةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ -
يَعْنُونَ أَرْبَعًا - فَأَبَى . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ (1) .
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْأَرْبَعِ فِي السَّفَرِ عَلَى أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ أَرْبَعًا وَهَذَا
مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ . ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
إذَا جَلَسَ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَالْمَفْعُولُ بَعْدَ
ذَلِكَ كَصَلَاةٍ مُنْفَصِلَةٍ قَدْ تَطَوَّعَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ
مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَمَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ
أَنَّ صَلَاتَهُ بَاطِلَةٌ كَمَا لَوْ صَلَّى عِنْدَهُمْ الْفَجْرَ أَرْبَعًا .
وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ : قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا كَمَنْ صَلَّى فِي
الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : وروينا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ الْإِتْمَامَ فِي السَّفَرِ لِمَنْ شَاءَ فَقَالَ :
لَا الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَانِ حَتْمَانِ لَا يَصِحُّ غَيْرُهُمَا .
وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا فَرَضَ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ . وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَأْتِ بِهَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَكُلُّ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا أَوْ أَقَرَّ مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا فَإِنَّهُ كَذِبٌ . وَأَمَّا فِعْلُ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ فَتَأْوِيلٌ مِنْهُمَا : أَنَّ الْقَصْرَ إنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا تَأَوَّلَ غَيْرُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ جِهَادٍ ثُمَّ قَدْ خَالَفَهُمَا أَئِمَّةُ الصَّحَابَةِ وَأَنْكَرُوا ذَلِكَ . قَالُوا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ } فَأَمَرَ بِقَبُولِهَا وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ . وَمَنْ قَالَ يَجُوزُ الْأَمْرَانِ فَعُمْدَتُهُمْ قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } . قَالُوا : وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمُبَاحِ : لَا فِي الْوَاجِبِ كَقَوْلِهِ : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ } وَقَوْلُهُ : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } وَنَحْوُ ذَلِكَ وَاحْتَجُّوا مِنْ السُّنَّةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَّنَ لِعَائِشَةَ إتْمَامَهَا } وَبِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عُثْمَانَ أَتَمَّ
الصَّلَاةَ بِمِنَى بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ فَأَتَمُّوا خَلْفَهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا حُجَجٌ ضَعِيفَةٌ . أَمَّا الْآيَةُ فَنَقُولُ : قَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بَعْدَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ كَمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ . وَإِذَا كَانَ الْقَصْرُ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْتَجَّ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ لَا فَضِيلَةَ فِيهِ ثُمَّ مَا كَانَ عُذْرُهُمْ عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَحَبًّا هُوَ عُذْرٌ لِغَيْرِهِمْ عَنْ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي السَّعْيِ { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وَالطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ هُوَ السَّعْيُ الْمَشْرُوعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ إمَّا رُكْنٌ وَإِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا سُنَّةٌ . وَأَيْضًا فَالْقَصْرُ وَإِنْ كَانَ رُخْصَةً اسْتِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ فَقَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَالتَّيَمُّمِ لِمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَنَحْوِ ذَلِكَ هَذَا إنْ سَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَصْرُ الْعَدَدِ فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ . قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ قَصْرُ الْعَدَدِ فَقَطْ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ التَّخْصِيصُ بِالْخَوْفِ غَيْرَ مُفِيدٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَصْرُ الْأَعْمَالِ ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ تَقْصُرُ عَنْ صَلَاةِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفُ يُبِيحُ ذَلِكَ . وَهَذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ جَائِزَةٌ حَضَرًا وَسَفَرًا وَالْآيَةُ أَفَادَتْ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْأَصَحُّ : أَنَّ الْآيَةَ أَفَادَتْ قَصْرَ الْعَدَدِ وَقَصْرَ الْعَمَلِ جَمِيعًا ؛ وَلِهَذَا عُلِّقَ ذَلِكَ بِالسَّفَرِ وَالْخَوْفِ فَإِذَا اجْتَمَعَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفُ أُبِيحَ الْقَصْرُ الْجَامِعُ لِهَذَا وَلِهَذَا وَإِذَا انْفَرَدَ السَّفَرُ فَإِنَّمَا يُبِيحُ قَصْرَ الْعَدَدِ وَإِذَا انْفَرَدَ الْخَوْفُ فَإِنَّمَا يُفِيدُ قَصْرَ الْعَمَلِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْفَرْضَ فِي الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ رَكْعَةٌ - كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنُ حَزْمٍ - فَمُرَادُهُ إذَا كَانَ خَوْفٌ وَسَفَرٌ . فَيَكُونُ السَّفَرُ وَالْخَوْفُ قَدْ أَفَادَا الْقَصْرَ إلَى رَكْعَةٍ كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِى : ثَنَا الْمَسْعُودِيُّ - هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ قَالَ : سَأَلْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَقْصَرُهُمَا ؟ قَالَ جَابِرٌ : لَا . فَإِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ لَيْسَتَا بِقَصْرٍ إنَّمَا الْقَصْرُ رَكْعَةٌ عِنْدَ الْقِتَالِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةٌ . قَالَ
ابْنُ حَزْمٍ : ورويناه أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حُذَيْفَةَ وَجَابِرٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسَانِيدَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ . قَالَ ابْنُ حَزْمٌ : وَبِهَذِهِ الْآيَةِ قُلْنَا إنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي السَّفَرِ إنْ شَاءَ رَكْعَةً وَإِنْ شَاءَ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِ { لَا جُنَاحَ } لَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ وَصَلَّاهَا النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً رَكْعَةً فَقَطْ وَمَرَّةً رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الِاخْتِيَارِ كَمَا قَالَ جَابِرٌ . وَأَمَّا صَلَاةُ عُثْمَانَ فَقَدْ عَرَفَ إنْكَارَ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ وَمَعَ هَذَا فَكَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَهُ ؛ بَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَإِنْ انْفَرَدَ وَيَقُولُ الْخِلَافُ شَرٌّ . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا انْفَرَدَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنْ صَلَاةَ السَّفَرِ أَرْبَعًا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُمْ وَمُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ فَعَلَهَا وَإِذَا فَعَلَهَا الْإِمَامُ اُتُّبِعَ فِيهَا وَهَذَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ لَيْسَتْ كَصَلَاةِ الْفَجْرِ بَلْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَلِهَذَا { قَرَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي السُّنَّةِ الَّتِي نَقَلَهَا بَيْنَ الْأَرْبَعِ فَقَالَ : صَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ : تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى } . رَوَاهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : قَالَ عُمَرُ . وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ زِيَادِ
ابْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ زُبَيْدٍ اليامي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْفَجْرِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ تَارَةً وَيُصَلِّي أَرْبَعًا أُخْرَى وَمَنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ إنَّمَا يُصَلِّي أَرْبَعًا لَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ مِنْهَا رَكْعَةً عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا } وَإِذَا حَصَلَتْ شُرُوطُ الْجُمُعَةِ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ . فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ خَطَبَ وَصَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا لَكَانَ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ وَمَعَ هَذَا فَلَيْسُوا كَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ أَرْبَعًا ؛ وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْمَرْأَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي الْجُمُعَةِ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَلَهُ أَنْ يَأْتَمَّ بِمُقِيمٍ فَيُصَلِّي خَلْفَهُ أَرْبَعًا . فَإِنْ قِيلَ : الْجُمُعَةُ يُشْتَرَطُ لَهَا الْجَمَاعَةُ فَلِهَذَا كَانَ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ فِيهَا خِلَافُ حُكْمِ الْمُؤْتَمِّ ؟ وَهَذَا الْفَرْقُ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . قِيلَ لَهُمْ : اشْتِرَاطُ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَالْأَقْوَى أَنَّهُ شَرْطٌ مَعَ الْقُدْرَةِ وَحِينَئِذٍ الْمُسَافِرُ لَمَّا ائْتَمَّ
بِالْمُقِيمِ دَخَلَ فِي الْجَمَاعَةِ الْوَاجِبَةِ فَلَزِمَهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ وَإِنْ قِيلَ : فَلِلْمُسَافِرِينَ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً . قِيلَ : وَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ جَمَاعَةً وَيُصَلُّوا أَرْبَعًا . وَصَلَاةُ الْعِيدِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ أَرْبَعًا : رَكْعَتَيْنِ لِلسُّنَّةِ وَرَكْعَتَيْنِ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَخْرُجُوا إلَى الصَّحْرَاءِ فَصَلَاةُ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ تُفْعَلُ تَارَةً اثْنَتَيْنِ وَتَارَةً أَرْبَعًا كَصَلَاةِ الْمُسَافِرِ بِخِلَافِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ آثَارُ الصَّحَابَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ مِنْ الْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا وَيُصَلُّونَ خَلْفَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مَعَ عُثْمَانَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ كَمَنْ يُصَلِّي الْفَجْرَ أَرْبَعًا لَمَا استجازوا أَنْ يُصَلُّوا أَرْبَعًا كَمَا لَا يَسْتَجِيزُ مُسْلِمٌ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ أَرْبَعًا . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُمْ لَمَّا قَعَدُوا قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَدَّوْا الْفَرْضَ وَالْبَاقِيَ تَطَوُّعٌ . قِيلَ لَهُ : مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدِهِمْ أَنَّهُ قَالَ نَوَيْنَا التَّطَوُّعَ بِالرَّكْعَتَيْنِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ ؛ بَلْ قَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْإِقَامَةِ السُّنَّةَ وَقَالَ { الصُّبْحُ أَرْبَعًا } وَقَدْ صَلَّى قَبْلَ الْإِمَامِ فَكَيْفَ إذَا وَصَلَ الصَّلَاةَ بِصَلَاةِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ حَتَّى يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ أَوْ قِيَامٍ } . وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَصِلُ الْجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا بِصَلَاةِ تَطَوُّعٍ فَكَيْفَ يُسَوِّغُونَ أَنْ يَصِلَ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ إنْ كَانَ لَا يَجُوزُ إلَّا رَكْعَتَانِ بِصَلَاةِ تَطَوُّعٍ ؟ وَأَيْضًا فَلِمَاذَا وَجَبَ عَلَى الْمُقِيمِ خَلْفَ الْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ ؟ وَأَيْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُقِيمُ أَرْبَعًا خَلْفَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ مِنْ جِنْسِ صَلَاةِ الْمُقِيمِ فَإِنَّهُ قَدْ سَلَّمَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُصَلِّيَ هَذَا خَلْفَ هَذَا كَمَا يُصَلِّي الظُّهْرَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَلَيْسَ هَذَا كَمَنَ صَلَّى الظُّهْرَ قَضَاءً خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْفَجْرَ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنْ الْمُسَافِرَ فَرْضُهُ أَرْبَعٌ وَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ رَكْعَتَيْنِ بِالْقَصْرِ فَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأُصُولِ وَهُوَ قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ . فَإِنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ يَمْلِكُ الْمُسَافِرُ إسْقَاطَهُمَا لَا إلَى بَدَلٍ وَلَا إلَى نَظِيرِهِ وَهَذَا يُنَاقِضُ الْوُجُوبَ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ وَاجِبًا
عَلَى الْعَبْدِ وَمَعَ هَذَا لَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ وَلَا فِعْلُ بَدَلِهِ وَلَا نَظِيرِهِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْفَرْضَ عَلَى الْمُسَافِرِ الرَّكْعَتَانِ فَقَطْ وَهَذَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَد وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْقَصْرِ نِيَّةً وَقَالَ : لَا يُعْجِبُنِي الْأَرْبَعُ وَتَوَقَّفَ فِي إجْزَاءِ الْأَرْبَعِ . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ : لَا يَقْصُرُ إلَّا بِنِيَّةٍ . وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ قَوْلِ الخرقي وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَنُصُوصُ أَحْمَد وَأَجْوِبَتُهُ كُلُّهَا مُطْلَقَةٌ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ مُوَافَقَةً لِقُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ كَالْخَلَّالِ وَغَيْرِهِ ؛ بَلْ وَالْأَثْرَمِ وَأَبِي دَاوُد وَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا النِّيَّةَ لَا فِي قَصْرٍ وَلَا فِي جَمْعٍ . وَإِذَا كَانَ فَرْضُهُ رَكْعَتَيْنِ فَإِذَا أَتَى بِهِمَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ نَوَى الْقَصْرَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْجَمَاهِيرِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ السَّلَفِ . وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ اشْتَرَطَ نِيَّةً لَا فِي قَصْرٍ وَلَا فِي جَمْعٍ وَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِتْمَامَ كَانَتْ السُّنَّةُ فِي حَقِّهِ الرَّكْعَتَيْنِ وَلَوْ صَلَّى أَرْبَعًا كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا كَمَا لَمْ يَنْوِهِ . وَلَمْ يَنْقُلْ قَطُّ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ لَا بِنِيَّةِ قَصْرٍ وَلَا نِيَّةِ جَمْعٍ وَلَا كَانَ خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ يَأْمُرُونَ بِذَلِكَ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُمْ مَعَ أَنَّ الْمَأْمُومِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ فِي حَجَّتِهِ صَلَّى بِهِمْ
الظُّهْرَ
بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَصَلَّى بِهِمْ الْعَصْرَ بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ
وَخَلْفَهُ أُمَمٌ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ : كُلُّهُمْ خَرَجُوا
يَحُجُّونَ مَعَهُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُ صَلَاةَ السَّفَرِ : إمَّا
لِحُدُوثِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يُسَافِرْ بَعْدُ لَا
سِيَّمَا النِّسَاءَ صَلَّوْا مَعَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ
وَكَذَلِكَ جَمَعَ بِهِمْ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُصَلِّيَ الْعَصْرَ بَعْدَ الظُّهْرِ حَتَّى صَلَّاهَا .
فَصْلٌ :
السَّفَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِي الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ
مُطْلَقٌ . ثُمَّ قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي جِنْسِ السَّفَرِ وَقَدْرِهِ .
أَمَّا جِنْسُهُ فَاخْتَلَفُوا فِي نَوْعَيْنِ . أَحَدُهُمَا : حُكْمُهُ .
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُقْصَرُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَزْوٍ
. وَهَذَا قَوْلُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ إلَّا ابْنَ حَزْمٍ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ
وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ كَمَا روينا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
عَدِيٍّ : حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عِمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ
الْأَسْوَدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ إلَّا حَاجٌّ
أَوْ مُجَاهِدٌ . وَعَنْ طَاوُوسٍ أَنَّهُ كَانَ يُسْأَلُ عَنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ
فَيَقُولُ : إذَا خَرَجْنَا حُجَّاجًا أَوْ عُمَّارًا صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ التيمي أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْقَصْرَ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ جَهَادٍ وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَنَا نَصٌّ يُوجِبُ عُمُومَ الْقَصْرِ لِلْمُسَافِرِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ إلَّا قَصْرُ الْمُسَافِرِ إذَا خَافَ أَنْ يَفْتِنَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَهَذَا سَفَرُ الْجِهَادِ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَرَ فِي حَجِّهِ وَعُمَرِهِ وَغَزَوَاتِهِ فَثَبَتَ جَوَازُ هَذَا وَالْأَصْلُ فِي الصَّلَاةِ الْإِتْمَامُ فَلَا تَسْقُطُ إلَّا حَيْثُ أَسْقَطَتْهَا السُّنَّةُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَقْصُرُ إلَّا فِي سَفَرٍ يَكُونُ طَاعَةً فَلَا يَقْصُرُ فِي مُبَاحٍ كَسَفَرِ التِّجَارَةِ . وَهَذَا يَذْكُرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد وَالْجُمْهُورُ يُجَوِّزُونَ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْفِطْرُ وَهُوَ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ } رَوَاهُ عَنْهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْكَعْبِيُّ وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ { يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ : فَقَالَ : عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت مِنْهُ فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ } وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ سَفَرَ الْأَمْنِ يَجُوزُ فِيهِ قَصْرُ الْعَدَدِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَدَقَةً مِنْ اللَّهِ عَلَيْنَا أُمِرْنَا
بِقَبُولِهَا . وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إنْ شِئْنَا قَبِلْنَاهَا وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَقْبَلْهَا فَإِنَّ قَبُولَ الصَّدَقَةِ لَا يَجِبُ ؛ لِيَدْفَعُوا بِذَلِكَ الْأَمْرَ بِالرَّكْعَتَيْنِ . وَهَذَا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا أَنْ نَقْبَلَ صَدَقَةَ اللَّهِ عَلَيْنَا وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ وَكُلُّ إحْسَانِهِ إلَيْنَا صَدَقَةٌ عَلَيْنَا فَإِنْ لَمْ نَقْبَلْ ذَلِكَ هَلَكْنَا . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ { عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى } . كَمَا قَالَ : صَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَهَذَا نَقْلٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ الصَّلَاةَ فِي جِنْسِ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ كَمَا سَنَّ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَلَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِسَفَرِ نُسُكٍ أَوْ جِهَادٍ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُسَافِرَ لَمْ يُؤْمَرْ بِأَرْبَعٍ قَطُّ وَحِينَئِذٍ فَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ فُرِضَ عَلَيْهِ أَرْبَعٌ وَحِينَئِذٍ فَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى مُسَافِرٍ أَرْبَعًا فَقَدْ أَوْجَبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ : " وَضَعَ " يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ هَذَا كَمَا قَالَ : " إنَّهُ وَضَعَ عَنْهُ الصَّوْمَ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُسَافِرِ صَوْمُ رَمَضَانَ قَطُّ ؛ لَكِنْ لَمَّا انْعَقَدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فَأَخْرَجَ الْمُسَافِرَ مِنْ ذَلِكَ سُمِّيَ وَضْعًا وَلِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا فِي الْمُقَامِ فَلَمَّا سَافَرَ وُضِعَ بِالسَّفَرِ كَمَا يُقَالُ : مَنْ أَسْلَمَ وُضِعَتْ عَنْهُ الْجِزْيَةَ مَعَ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى مُسْلِمٍ بِحَالِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزٍ ؛ قُلْت لِابْنِ عُمَرَ حَدِّثْنِي عَنْ صَلَاةِ السَّفَرِ قَالَ أَتَخْشَى أَنْ يُكْذَبَ عَلَيَّ ؟ قُلْت لَا . قَالَ : رَكْعَتَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ وَهَذَا مَعْرُوفٌ رَوَاهُ أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ مُوَرِّقٍ العِجْلِي عَنْهُ وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الْآثَارِ . وَفِي لَفْظٍ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَمَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ . وَبَعْضُهُمْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَبَيَّنَ أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا فَاعْتَقَدَ خِلَافَهَا فَقَدْ كَفَرَ . وَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَقْصُرُ إلَّا فِي سَفَرٍ وَاجِبٍ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ الْمَكْرُوهِ وَلَا الْمُحَرَّمِ وَيَقْصُرُ فِي الْمُبَاحِ وَهَذَا أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَهَلْ يَقْصُرُ فِي سَفَرِ النُّزْهَةِ ؟ فِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ : وَأَمَّا السَّفَرُ الْمُحَرَّمُ فَمَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَا يَقْصُرُ فِيهِ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَطَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَقَالُوا يَقْصُرُ فِي
جِنْسِ الْأَسْفَارِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا : يُوجِبُونَ الْقَصْرَ فِي كُلِّ سَفَرٍ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا كَمَا يُوجِبُ الْجَمِيعُ التَّيَمُّمَ إذَا عُدِمَ الْمَاءُ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ وَابْنُ عَقِيلٍ رَجَّحَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ . وَالْحُجَّةُ مَعَ مَنْ جَعَلَ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ مَشْرُوعًا فِي جِنْسِ السَّفَرِ وَلَمْ يَخُصَّ سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ أَطْلَقَا السَّفَرَ قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } كَمَا قَالَ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } الْآيَةَ وَكَمَا تَقَدَّمَتْ النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَنْقُلْ قَطُّ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَصَّ سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ السَّفَرَ يَكُونُ حَرَامًا وَمُبَاحًا وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ السَّفَرِ لَكَانَ بَيَانُ هَذَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَلَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَنَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ وَمَا عَلِمْت عَنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا . وَقَدْ عَلَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحْكَامًا بِالسَّفَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي التَّيَمُّمِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } وَقَوْلُهُ فِي الصَّوْمِ : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ } وَقَوْلُهُ { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ } وَقَوْلُهُ
{ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ } وَقَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ } وَلَمْ يَذْكُرْ قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقْيِيدَ السَّفَرِ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِأَحَدِ نَوْعَيْ السَّفَرِ وَلَا يُبَيِّنُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ذَلِكَ بَلْ يَكُونُ بَيَانُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُتَنَاوِلًا لِلنَّوْعَيْنِ . وَهَكَذَا فِي تَقْسِيمِ السَّفَرِ إلَى طَوِيلٍ وَقَصِيرٍ وَتَقْسِيمِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ إلَى بَائِنٍ وَرَجْعِيٍّ وَتَقْسِيمِ الْأَيْمَانِ إلَى يَمِينٍ مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفِّرَةٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا عَلَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْحُكْمَ فِيهِ بِالْجِنْسِ الْمُشْتَرِكِ الْعَامِّ فَجَعَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ نَوْعَيْنِ : نَوْعًا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَلِكَ الْحُكْمُ وَنَوْعًا لَا يَتَعَلَّقُ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ : لَا نَصًّا وَلَا اسْتِنْبَاطًا . وَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ عُمْدَتُهُمْ قَوْله تَعَالَى فِي الْمَيْتَةِ : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إلَى أَنَّ " الْبَاغِيَ " هُوَ الْبَاغِي عَلَى الْإِمَامِ الَّذِي يَجُوزُ قِتَالُهُ وَ " الْعَادِيَ " هُوَ الْعَادِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ الْمُحَارَبُونَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ . قَالُوا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَيْتَةَ لَا تَحِلُّ لَهُمْ فَسَائِرُ الرُّخَصِ أَوْلَى وَقَالُوا إذَا اُضْطُرَّ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَمَرْنَاهُ أَنْ يَتُوبَ وَيَأْكُلَ وَلَا نُبِيحُ لَهُ إتْلَافَ نَفْسِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْرُوفٌ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَأَمَّا أَحْمَد وَمَالِكٌ فَجَوَّزَا لَهُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ دُونَ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ السَّفَرَ الْمُحَرَّمَ مَعْصِيَةٌ وَالرُّخَصُ لِلْمُسَافِرِ إعَانَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَجُوزُ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ . وَهَذِهِ حُجَجٌ ضَعِيفَةٌ . أَمَّا الْآيَةُ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا : الْمُرَادُ بِالْبَاغِي الَّذِي يَبْغِي الْمُحَرَّمَ مِنْ الطَّعَامِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَلَالِ وَالْعَادِي الَّذِي يَتَعَدَّى الْقَدْرَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الصَّوَابُ دُونَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذَا فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ : الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ وَفِي الْمَدَنِيَّةِ : لِيُبَيِّنَ مَا يَحِلُّ وَمَا يُحَرَّمُ مِنْ الْأَكْلِ وَالضَّرُورَةُ لَا تَخْتَصُّ بِسَفَرِ وَلَوْ كَانَتْ فِي سَفَرٍ فَلَيْسَ السَّفَرُ الْمُحَرَّمُ مُخْتَصًّا بِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَامٌ يَخْرُجُ عَلَيْهِ وَلَا مِنْ شَرْطِ الْخَارِجِ أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا وَالْبُغَاةُ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِهِمْ فِي الْقُرْآنِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُسَافِرِينَ وَلَا كَانَ الَّذِينَ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهِمْ أَوَّلًا مُسَافِرِينَ ؛ بَلْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي مُقِيمِينَ وَاقْتَتَلُوا بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُفَسَّرَ الْآيَةُ بِمَا لَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ وَلَيْسَ فِيهَا كُلُّ سَفَرٍ مُحَرَّمٍ ؟ فَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ لَوْ كَانَ كَمَا قِيلَ لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا لِلسَّفَرِ الْمُحَرَّمِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِلَا سَفَرٍ وَقَدْ يَكُونُ السَّفَرُ الْمُحَرَّمُ بِدُونِهِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ ( { غَيْرَ بَاغٍ } حَالٌ مِنْ ( { اضْطُرَّ } فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَالَ
اضْطِرَارِهِ وَأَكْلِهِ الَّذِي يَأْكُلُ فِيهِ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّهُ قَالَ : { فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِثْمَ إنَّمَا يُنْفَى عَنْ الْأَكْلِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ لَا عَنْ نَفْسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَمَعْنَى الْآيَةِ : فَمَنْ اُضْطُرَّ فَأَكَلَ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ لَا يَبْغِي فِي أَكْلِهِ وَلَا يَتَعَدَّى . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقْرِنُ بَيْنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ . فَالْبَغْيُ مَا جِنْسُهُ ظُلْمٌ وَالْعُدْوَانُ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ الْمُبَاحِ كَمَا قَرَنَ بَيْنَ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فِي قَوْلِهِ : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } فَالْإِثْمُ جِنْسُ الشَّرِّ وَالْعُدْوَانُ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ الْمُبَاحِ فَالْبَغْيُ مِنْ جِنْسِ الْإِثْمِ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } فَالْإِثْمُ جِنْسٌ لِظُلْمِ الْوَرَثَةِ إذَا كَانَ مَعَ الْعَمْدِ وَأَمَّا الْجَنَفُ فَهُوَ الْجَنَفُ عَلَيْهِمْ بِعَمْدٍ وَبِغَيْرِ عَمْدٍ ؛ لَكِنْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الْجَنَفُ الْخَطَأُ وَالْإِثْمُ الْعَمْدُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الْإِثْمَ بِالذِّكْرِ وَهُوَ الْعَمْدُ بَقِيَ الدَّاخِلُ فِي الْجَنَفِ الْخَطَأُ وَلَفْظُ الْعُدْوَانِ مِنْ بَابِ تَعَدِّي الْحُدُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا قَوْلُهُ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } وَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمُبَاحِ وَأَمَّا الذُّنُوبُ فَمَا كَانَ جِنْسُهُ شَرٌّ وَإِثْمٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ هَذَا إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَغَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ مَأْمُورٌ
بِأَنْ
يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ .
وَإِذَا عَدِمَ الْمَاءَ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ
يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ وَمَا زَادَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ لَيْسَتْ طَاعَةً
وَلَا مَأْمُورًا بِهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسَافِرِينَ وَإِذَا فَعَلَهَا
الْمُسَافِرُ كَانَ قَدْ فَعَلَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَصَارَ صَلَاةُ
الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُسَافِرُ الْجُمُعَةَ خَلْفَ
مُسْتَوْطِنٍ . فَهَلْ يُصَلِّيهَا إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا
بِسَفَرِهِ وَإِنْ كَانَ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ صَلَّى أَرْبَعًا ؟ .
وَكَذَلِكَ صَوْمُهُ فِي السَّفَرِ لَيْسَ بِرًّا وَلَا مَأْمُورًا بِهِ ؛ فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : {
لَيْسَ مِنْ الْبَرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } وَصَوْمُهُ إذَا كَانَ مُقِيمًا
أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ صِيَامِهِ فِي سَفَرٍ مُحَرَّمٍ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ
يَتَطَوَّعَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ
ذَلِكَ وَإِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ أَمَا كَانَ يَتَحَرَّى
وَيُصَلِّي ؟ وَلَوْ أُخِذَتْ ثِيَابُهُ أَمَا كَانَ يُصَلِّي عريانا ؟ فَإِنْ
قِيلَ هَذَا لَا يُمْكِنُهُ إلَّا هَذَا قِيلَ : وَالْمُسَافِرُ لَمْ يُؤْمَرْ
إلَّا بِرَكْعَتَيْنِ وَالْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِ أَنْ لَا يَصُومَ وَقَدْ
اخْتَلَفَ النَّاسُ لَوْ صَامَ هَلْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُ ؟ وَاتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّهُ إذَا صَامَ بَعْدَ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ
لَيْسَ فِيهَا احْتِيَاطٌ فَإِنَّ طَائِفَةً يَقُولُونَ : مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا
أَوْ صَامَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يُجْزِئْهُ ذَلِكَ كَمَا
لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ عِنْدَهُمْ . وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ
لَا يُجْزِيهِ إلَّا صَلَاةُ أَرْبَعٍ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَكَذَلِكَ
أَكْلُ
الْمَيْتَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْمُضْطَرِّ : سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّفَرِ أَوْ
الْحَضَرِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ ضَرُورَتُهُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ أَوْ مُحَرَّمٍ فَلَوْ
أَلْقَى مَالَهُ فِي الْبَحْرِ وَاضْطُرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ كَانَ عَلَيْهِ
أَنْ يَأْكُلَهَا وَلَوْ سَافَرَ سَفَرًا مُحَرَّمًا فَأَتْعَبَهُ حَتَّى عَجَزَ
عَنْ الْقِيَامِ صَلَّى قَاعِدًا وَلَوْ قَاتَلَ قِتَالًا مُحَرَّمًا حَتَّى
أَعْجَزَتْهُ الْجِرَاحُ عَنْ الْقِيَامِ صَلَّى قَاعِدًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ قَاتَلَ قِتَالًا مُحَرَّمًا هَلْ يُصَلِّي صَلَاةَ
الْخَوْفِ ؟ قِيلَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ وَلَا يُقَاتِلَ فَإِنْ كَانَ
لَا يَدَعُ الْقِتَالَ الْمُحَرَّمَ فَلَا نُبِيحُ لَهُ تَرْكَ الصَّلَاةِ ؛ بَلْ
إذَا صَلَّى صَلَاةَ خَائِفٍ كَانَ خَيْرًا مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ
بِالْكُلِّيَّةِ ثُمَّ هَلْ يُعِيدُ ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ ثُمَّ إنْ أَمْكَنَ
فِعْلُهَا بِدُونِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُبْطِلَةِ فِي الْوَقْتِ وَجَبَ ذَلِكَ
عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا وَأَمَّا إنْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَلَمْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَفِي صِحَّتِهَا وَقَبُولِهَا بَعْدَ ذَلِكَ نِزَاعٌ .
النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ لَا يَرَى
مُسَافِرًا إلَّا مَنْ حَمَلَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ دُونَ مَنْ كَانَ نَازِلًا
فَكَانَ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذَلِكَ كَالتَّاجِرِ والتاني وَالْجَابِي
الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ
يُقَدِّرْ عُثْمَانُ لِلسَّفَرِ قَدْرًا ؛ بَلْ هَذَا الْجِنْسُ عِنْدَهُ لَيْسَ
بِمُسَافِرِ وَكَذَلِكَ قِيلَ : إنَّهُ لَمْ يَرَ نَفْسَهُ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ
مُسَافِرِينَ بِمِنَى لَمَّا صَارَتْ مِنًى مَعْمُورَةً وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي
شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ سِيرِين أَنَّهُ قَالَ : كَانُوا يَقُولُونَ السَّفَرُ
الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ الَّذِي يُحْمَلُ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ
. وَمَأْخَذُ هَذَا الْقَوْلِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْقَصْرَ إنَّمَا
كَانَ فِي السَّفَرِ لَا فِي الْمُقَامِ وَالرَّجُلُ إذَا كَانَ مُقِيمًا فِي مَكَانٍ يَجِدُ فِيهِ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا ؛ بَلْ مُقِيمًا ؛ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ الَّذِي يَحْتَاجُ أَنْ يَحْمِلَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فَإِنَّ هَذَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا يَلْحَقُ الْمُسَافِرَ مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ . وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ كَأَنَّهُ رَأَى الرُّخْصَةَ إنَّمَا تَكُونُ لِلْمَشَقَّةِ وَالْمَشَقَّةُ إنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى حَمْلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ غَيْرِهِ كَلَامٌ يُفَرِّقُ فِيهِ بَيْنَ جِنْسٍ وَجِنْسٍ . رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الشيباني عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لَا يَغُرَّنكُمْ سَوَادُكُمْ هَذَا مِنْ صَلَاتِكُمْ فَإِنَّهُ مِنْ مِصْرِكُمْ . فَقَوْلُهُ : مِنْ " مِصْرِكُمْ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ السَّوَادَ بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ لَمَّا كَانَ تَابِعًا لَهُ . وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ التيمي عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنْت مَعَ حُذَيْفَةَ بِالْمَدَائِنِ فَاسْتَأْذَنْته أَنْ آتِيَ أَهْلِي بِالْكُوفَةِ فَأَذِنَ لِي وَشَرَطَ عَلَيَّ أَنْ لَا أُفْطِرَ وَلَا أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى أَرْجِعَ إلَيْهِ وَبَيْنَهُمَا نَيِّفٌ وَسِتُّونَ مِيلًا . وَعَنْ حُذَيْفَةَ : أَنْ لَا يُقْصِرَ إلَى السَّوَادِ . وَبَيْنَ الْكُوفَةِ وَالسَّوَادِ تِسْعُونَ مِيلًا . وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ : لَا يَطَأُ أَحَدُكُمْ بِمَاشِيَةِ أَحْدَابَ الْجِبَالِ أَوْ بُطُونَ الْأَوْدِيَةِ وَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ سَفَرٌ لَا وَلَا كَرَامَةَ ؛ إنَّمَا التَّقْصِيرُ فِي السَّفَرِ مِنْ الْبَاءَاتِ مِنْ الْأُفُقِ إلَى الْأُفُقِ .
قُلْت : هَؤُلَاءِ لَمْ يَذْكُرُوا مَسَافَةً مَحْدُودَةً لِلْقَصْرِ لَا بِالزَّمَانِ وَلَا بِالْمَكَانِ ؛ لَكِنْ جَعَلُوا هَذَا الْجِنْسَ مِنْ السَّيْرِ لَيْسَ سَفَرًا كَمَا جَعَلَ عُثْمَانُ السَّفَرَ مَا كَانَ فِيهِ حَمْلُ زَادٍ وَمَزَادٍ . فَإِنْ كَانُوا قَصَدُوا مَا قَصَدَهُ عُثْمَانُ مِنْ أَنَّ هَذَا لَا يَزَالُ يَسِيرُ فِي مَكَانٍ [ لَا ] (1) يُحْمَلُ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ فَهُوَ كَالْمُقِيمِ فَقَدْ وَافَقُوا عُثْمَانَ ؛ لَكِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ خَالَفَ عُثْمَانَ فِي إتْمَامِهِ بِمِنَى . وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ أَنَّ أَعْمَالَ الْبَلَدِ تَبَعٌ لَهُ كَالسَّوَادِ مَعَ الْكُوفَةِ وَإِنَّمَا الْمُسَافِرُ مَنْ خَرَجَ مِنْ عَمَلٍ إلَى عَمَلٍ : كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ : مِنْ أُفُقٍ إلَى أُفُقٍ . فَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ السَّوَادِ : فَإِنَّهُ مِنْ مِصْرِكُمْ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَا حَوْلَ الْمِصْرِ مِنْ الْبَسَاتِينِ وَالْمَزَارِعِ تَابِعَةٌ لَهُ فَهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَإِنْ طَالَ وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ مَسَافَةً . وَهَذَا كَمَا أَنَّ " الْمَخَالِيفَ " وَهِيَ الْأَمْكِنَةُ الَّتِي يُسْتَخْلَفُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَلِيفَةٌ عَنْ الْأَمِيرِ الْعَامِّ بِالْمِصْرِ الْكَبِيرِ وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ : مَنْ خَرَجَ مِنْ مِخْلَافٍ إلَى مِخْلَافٍ . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ : حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْت قَيْسَ بْنَ عِمْرَانَ بْنِ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - وَهُوَ رَدِيفُهُ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ - مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ . قَالَ شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي بِهَذَا قَيْسُ بْنُ عِمْرَانَ وَأَبُوهُ عِمْرَانُ بْنُ عُمَيْرٍ شَاهِدٌ وَعُمَيْرٌ مَوْلَى ابْنِ مَسْعُودٍ .
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَحُدَّ السَّفَرَ بِمَسَافَةٍ طَوِيلَةٍ ؛ وَلَكِنْ اعْتَبَرَ أَمْرًا آخَرَ كَالْأَعْمَالِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُحَدُّ بِمَسَافَةِ وَلَا زَمَانٍ لَكِنْ بِعُمُومِ الْوِلَايَاتِ وَخُصُوصِهَا : مِثْلَ مَنْ كَانَ بِدِمَشْقَ فَإِذَا سَافَرَ إلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ أَعْمَالِهَا كَانَ مُسَافِرًا . وَأَصْحَابُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كَأَنَّهُمْ رَأَوْا مَا رُخِّصَ فِيهِ لِلْمُسَافِرِ إنَّمَا رُخِّصَ فِيهِ لِلْمَشَقَّةِ الَّتِي تَلْحَقُهُ فِي السَّفَرِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَى الرُّخْصَةِ وَعَلِمُوا أَنَّ الْمُتَنَقِّلَ فِي الْمِصْرِ الْوَاحِدِ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ لَيْسَ بِمُسَافِرِ وَكَذَلِكَ الْخَارِجُ إلَى مَا حَوْلَ الْمِصْرِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ إلَى قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَلَمْ يَكُنْ يَقْصُرُ وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ الْعَوَالِي وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصُرُونَ . فَكَانَ الْمُتَنَقِّلُ فِي الْعَمَلِ الْوَاحِدِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ عِنْدَهُمْ . وَهَؤُلَاءِ يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِقَصْرِ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى مَعَ أَنَّ هَذِهِ تَابِعَةٌ لِمَكَّةَ وَمُضَافَةٌ إلَيْهَا وَهِيَ أَكْثَرُ تَبَعًا لَهَا مِنْ السَّوَادِ لِلْكُوفَةِ وَأَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْهَا ؛ فَإِنَّ بَيْنَ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ وَمَوْقِفِ الْإِمَامِ بِعَرَفَةَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ الَّتِي فِي أَسْفَلِ جَبَلِ الرَّحْمَةِ يُرِيدُ بِهَذِهِ الْمَسَافَةِ وَهَذَا السَّيْرِ وَهُمْ مُسَافِرُونَ وَإِذَا قِيلَ : الْمَكَانُ الَّذِي يُسَافِرُونَ إلَيْهِ لَيْسَ بِمَوْضِعِ مُقَامٍ . قِيلَ : بَلْ كَانَ هُنَاكَ قَرْيَةُ نَمِرَةَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا وَكَانَ بِهَا أَسْوَاقٌ وَقَرِيبٌ مِنْهَا عرنة الَّتِي تَصِلُ وَادِيَهَا بِعَرَفَةَ وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ السَّفَرِ
إلَى بَلَدٍ يُقَامُ فِيهِ وَبَلَدٍ لَا يُقَامُ فِيهِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْإِقَامَةَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ سَافَرُوا إلَى مَكَّةَ وَهِيَ بَلَدٌ يُمْكِنُ الْإِقَامَةُ فِيهِ وَمَا زَالُوا مُسَافِرِينَ فِي غَزْوِهِمْ وَحَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ وَقَدْ قَصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ فِي جَوْفِ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَقَالَ : { يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ } وَكَذَلِكَ عُمَرُ بَعْدَهُ فَعَلَ ذَلِكَ رَوَاهُ مَالِكٌ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ بِمِنَى وَمَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَقَدْ غَلِطَ . وَهَذَا بِخِلَافِ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَخُرُوجِهِ إلَى الصَّلَاةِ عَلَى الشُّهَدَاءِ فَإِنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِقَلِيلٍ صَلَّى عَلَيْهِمْ وَبِخِلَافِ ذَهَابِهِ إلَى الْبَقِيعِ وَبِخِلَافِ قَصْدِ أَهْلِ الْعَوَالِي الْمَدِينَةَ لِيَجْمَعُوا بِهَا فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَيْسَ بِسَفَرِ فَإِنَّ اسْمَ الْمَدِينَةِ مُتَنَاوِلٌ لِهَذَا كُلِّهِ وَإِنَّمَا النَّاسُ قِسْمَانِ الْأَعْرَابُ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَلِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَذْهَبُ وَيَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِذَلِكَ أُهْبَةَ السَّفَرِ فَلَا يَحْمِلُ زَادًا وَلَا مَزَادًا لَا فِي طَرِيقِهِ وَلَا فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي يَصِلُ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى مَنْ ذَهَبَ إلَى رُبَضِ مَدِينَتِهِ مُسَافِرًا وَلِهَذَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ حَوْلَ الْمِصْرِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ يُقَدَّرُ بِسَمَاعِ النِّدَاءِ وَبِفَرْسَخِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ سَفَرًا لَمْ تَجِبْ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ يُنْشِئُ لَهَا سَفَرًا ؛ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ فَكَيْفَ يَجِبُ أَنْ يُسَافِرَ لَهَا .
وَعَلَى هَذَا فَالْمُسَافِرُ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا لِقَطْعِهِ مَسَافَةً مَحْدُودَةً وَلَا لِقَطْعِهِ أَيَّامًا مَحْدُودَةً بَلْ كَانَ مُسَافِرًا لِجِنْسِ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ سَفَرٌ وَقَدْ يَكُونُ مُسَافِرًا مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ وَلَا يَكُونُ مُسَافِرًا مِنْ أَبْعَدَ مِنْهَا : مِثْلَ أَنْ يَرْكَبَ فَرَسًا سَابِقًا وَيَسِيرَ مَسَافَةَ بَرِيدٍ ثُمَّ يَرْجِعَ مِنْ سَاعَتِهِ إلَى بَلَدِهِ فَهَذَا لَيْسَ مُسَافِرًا . وَإِنْ قَطَعَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَيَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى حَمْلِ زَادٍ وَمَزَادٍ كَانَ مُسَافِرًا كَمَا كَانَ سَفَرُ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ . وَلَوْ رَكِبَ رَجُلٌ فَرَسًا سَابِقًا إلَى عَرَفَةَ ثُمَّ رَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ إلَى مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ : { يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ وَلَيَالِيهِنَّ - وَالْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً } فَلَوْ قَطَعَ بَرِيدًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَانَ مُسَافِرًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ فَيَجِبُ أَنْ يَمْسَحَ مَسْحَ سَفَرٍ وَلَوْ قَطَعَ الْبَرِيدَ فِي نِصْفِ يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا . فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا اعْتَبَرَ أَنْ يُسَافِرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ سَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ حَثِيثًا أَوْ بَطِيئًا سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَيَّامُ طِوَالًا أَوْ قِصَارًا وَمَنْ قَدَّرَهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ يَوْمَيْنِ جَعَلُوا ذَلِكَ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ وَجَعَلُوا الْمَسَافَةَ الْوَاحِدَةَ حَدًّا يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا فِي يَوْمٍ جَعَلُوهُ مُسَافِرًا وَلَوْ قَطَعَ مَا دُونَهَا فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَجْعَلُوهُ مُسَافِرًا وَهَذَا مُخَالِفٌ لِكَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَهَابِهِ إلَى قُبَاء وَالْعَوَالِي وَأُحُدٍ وَمَجِيءِ أَصْحَابِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ إلَى الْمَدِينَةِ إنَّمَا كَانُوا يَسِيرُونَ فِي عُمْرَانٍ بَيْنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْحَوَائِطِ الَّتِي هِيَ النَّخِيلُ وَتِلْكَ مَوَاضِعُ الْإِقَامَةِ لَا مَوَاضِعُ السَّفَرِ وَالْمُسَافِرُ لَا بُدَّ أَنْ يُسْفِرَ أَيْ يَخْرُجَ إلَى الصَّحْرَاءِ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ " السَّفَرِ " يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . يُقَالُ : سَفَرَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ وَجْهِهَا إذَا كَشَفَتْهُ . فَإِذَا لَمْ يَبْرُزْ إلَى الصَّحْرَاءِ الَّتِي يَنْكَشِفُ فِيهَا مِنْ بَيْنِ الْمَسَاكِنِ لَا يَكُونُ مُسَافِرًا قَالَ تَعَالَى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ } فَجَعَلَ النَّاسَ قِسْمَيْنِ : أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَالْأَعْرَابَ . وَالْأَعْرَابُ هُمْ أَهْلُ الْعَمُودِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ هُمْ أَهْلُ الْمَدَرِ . فَجَمِيعُ مَنْ كَانَ سَاكِنًا فِي مَدَرٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَدِينَةِ سُورٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ دَاخِلُهَا مِنْ خَارِجِهَا ؛ بَلْ كَانَتْ مَحَالَّ مَحَالَّ . وَتُسَمَّى الْمَحَلَّةُ دَارًا وَالْمَحَلَّةُ الْقَرْيَةُ الصَّغِيرَةُ فِيهَا الْمَسَاكِنُ وَحَوْلَهَا النَّخْلُ وَالْمَقَابِرُ لَيْسَتْ أَبْنِيَةً مُتَّصِلَةً فَبَنُو مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ فِي قَرْيَتِهِمْ حَوَالَيْ دُورِهِمْ : أَمْوَالُهُمْ وَنَخِيلُهُمْ وَبَنُو عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ دَارُهُمْ كَذَلِكَ وَبَنُو مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ كَذَلِكَ وَبَنُو سَالِمٍ كَذَلِكَ وَبَنُو سَاعِدَةَ كَذَلِكَ وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ كَذَلِكَ وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَذَلِكَ وَبَنُو عَبْدِ
الْأَشْهَلِ كَذَلِكَ وَسَائِرُ بُطُونِ الْأَنْصَارِ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ ثُمَّ دَارُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ثُمَّ دَارُ بَنِي الْحَارِثِ ثُمَّ دَارُ بَنِي سَاعِدَةَ . وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَزَلَ فِي بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ وَهُنَاكَ بَنَى مَسْجِدَهُ وَكَانَ حَائِطًا لِبَعْضِ بَنِي النَّجَّارِ : فِيهِ نَخْلٌ وَخِرَبٌ وَقُبُورٌ فَأَمَرَ بِالنَّخْلِ فَقُطِعَتْ وَبِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ وَبَنَى مَسْجِدَهُ هُنَاكَ وَكَانَتْ سَائِرُ دُورِ الْأَنْصَارِ حَوْلَ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مِصْرٌ . قَالَ : وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ بَلْ هُوَ نَقْلُ الكوافي عَنْ الكوافي وَذَلِكَ كُلُّهُ مَدِينَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ النَّاسَ نَوْعَيْنِ : أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ . فَمَنْ لَيْسَ مِنْ الْأَعْرَابِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمَدِينَةِ دَاخِلًا وَخَارِجًا وَسُورًا وَرُبَضًا كَمَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَدَائِنِ الْمُسَوَّرَةِ وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَمَ الْمَدِينَةِ بَرِيدًا فِي بَرِيدٍ وَالْمَدِينَةُ بَيْنَ لَابَتَيْنِ وَاللَّابَةُ الْأَرْضُ الَّتِي تُرَابُهَا حِجَارَةٌ سُودٌ وَقَالَ : { مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَمٌ } فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا كُلُّهُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَهُوَ حَرَمٌ فَهَذَا بَرِيدٌ لَا يَكُونُ الضَّارِبُ فِيهِ مُسَافِرًا . وَإِنْ كَانَ الْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ إلَى عَرَفَاتٍ مُسَافِرًا فَعَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى صَحَارَى خَارِجَةٌ عَنْ مَكَّةَ لَيْسَتْ كَالْعَوَالِي
مِنْ الْمَدِينَةِ . وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِمَسَافَةٍ مَحْدُودَةٍ ؛ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ فِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ لَوْ سَافَرَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا وَالْمُسَافِرُ عَنْ الْقَرْيَةِ الصَّغِيرَةِ إذَا سَافَرَ مِثْلَ ذَلِكَ كَانَ مُسَافِرًا فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ بُقْعَةً يُسَافِرُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ فَإِذَا كَانَ مَا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ صَحْرَاءَ لَا مَسَاكِنَ فِيهَا يَحْمِلُ فِيهَا الزَّادَ وَالْمَزَادَ فَهُوَ مُسَافِرٌ وَإِنْ وَجَدَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَقْصِدُهُ . وَكَانَ عُثْمَانُ جَعَلَ حُكْمَ الْمَكَانِ الَّذِي يَقْصِدُهُ حُكْمَ طَرِيقِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْدَمَ فِيهِ الزَّادَ وَالْمَزَادَ وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَقَوْلُهُمْ أَرْجَحُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَرَ بِمَكَّةَ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ وَفِيهَا الزَّادُ وَالْمَزَادُ وَإِذَا كَانَتْ مِنًى قَرْيَةً فِيهَا زَادٌ وَمَزَادٌ فَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ صَحْرَاءُ يَكُونُ مُسَافِرًا مَنْ يَقْطَعُهَا كَمَا كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا وَلَكِنَّ عُثْمَانَ قَدْ تَأَوَّلَ فِي قَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ أَنَّهُ كَانَ خَائِفًا لِأَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ وَالْكُفَّارُ كَثِيرُونَ وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّ هَوَازِنَ جَمَعَتْ لَهُ وَعُثْمَانُ يُجَوِّزُ الْقَصْرَ لِمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ عَدُوٍّ وَهَذَا كَمَا يُحْكَى عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْمُتْعَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا خَائِفِينَ . وَخَالَفَهُ عَلِيٌّ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَقَوْلُهُمْ هُوَ الرَّاجِحُ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ آمِنًا لَا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ وَقَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ
إلَى
الْعُمْرَةِ وَالْقَصْرِ . وَقَصْرُ الْعَدَدِ إنَّمَا هُوَ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ
؛ وَلَكِنْ إذَا اجْتَمَعَ الْخَوْفُ وَالسَّفَرُ أُبِيحَ قَصْرُ الْعَدَدِ
وَقَصْرُ الرَّكَعَاتِ { وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هُوَ وَعُمَرُ بَعْدَهُ لَمَّا صَلَّيَا بِمَكَّةَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ :
أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ } بَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ لِصَلَاتِهِمْ
رَكْعَتَيْنِ مُجَرَّدُ كَوْنِهِمْ سَفْرًا فَلِهَذَا الْحُكْمِ تَعَلَّقَ
بِالسَّفَرِ وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْخَوْفِ . فَعُلِمَ أَنَّ قَصْرَ الْعَدَدِ
لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ خَوْفٌ بِحَالِ . وَكَلَامُ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ
فِي هَذَا الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا السَّفَرَ قَطْعَ
مَسَافَةٍ مَحْدُودَةٍ أَوْ زَمَانٍ مَحْدُودٍ : يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ
النَّاسِ بَلْ كَانُوا يُجِيبُونَ بِحَسَبِ حَالِ السَّائِلِ فَمَنْ رَأَوْهُ
مُسَافِرًا أَثْبَتُوا لَهُ حُكْمَ السَّفَرِ وَإِلَّا فَلَا .
وَلِهَذَا اخْتَلَفَ كَلَامُهُمْ فِي مِقْدَارِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ . فَرَوَى
وَكِيعٌ عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا سَافَرْت يَوْمًا إلَى الْعِشَاءِ فَإِنْ زِدْت
فَاقْصُرْ . وَرَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ : ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ
مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ . عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ : لَا
يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ فِي مَسِيرَةِ يَوْمٍ إلَى الْعَتَمَةِ إلَّا فِي أَكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ . وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ شبيل عَنْ أَبِي جَمْرَةَ
الضبعي قَالَ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَقْصُرُ إلَى الأيلة ؟ قَالَ تَذْهَبُ
وَتَجِيءُ فِي يَوْمٍ ؟ قُلْت : نَعَمْ . قَالَ : لَا إلَّا يَوْمٌ تَامٌّ .
فَهُنَا قَدْ نَهَى أَنْ يَقْصُرَ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ وَهَذِهِ
مَسِيرَةُ بَرِيدٍ وَأَذِنَ فِي يَوْمٍ .
وَفِي الْأَوَّلِ نَهَاهُ أَنْ يَقْصُرَ إلَّا فِي أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ الْأَوَّلِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَاهُ قَالَ : إذَا خَرَجْت مِنْ عِنْدِ أَهْلِك فَاقْصُرْ فَإِذَا أَتَيْت أَهْلَك فَأَتْمِمْ وَعَنْ الأوزاعي : لَا قَصْرَ إلَّا فِي يَوْمٍ تَامٍّ وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْغَازِ الجرشي عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبَى رَبَاحٍ قُلْت : لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَقْصُرُ إلَى عَرَفَةَ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنْ إلَى الطَّائِفِ وعسفان فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا . وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ قُلْت : لِابْنِ عَبَّاسٍ أَقْصُرُ إلَى مِنًى أَوْ عَرَفَةَ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنْ إلَى الطَّائِفِ أَوْ جُدَّةَ أَوْ عسفان فَإِذَا وَرَدْت عَلَى مَاشِيَةٍ لَك أَوْ أَهْلٍ فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ . وَهَذَا الْأَثَرُ قَدْ اعْتَمَدَهُ أَحْمَد وَالشَّافِعِيُّ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : مِنْ عسفان إلَى مَكَّةَ بِسَيْرِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِيلًا قَالَ : وَأَخْبَرَنَا الثقاة : أَنَّ مِنْ جُدَّةَ إلَى مَكَّةَ أَرْبَعِينَ مِيلًا . قُلْت : نَهْيُهُ عَنْ الْقَصْرِ إلَى مِنًى وَعَرَفَةَ قَدْ يَكُونُ لِمَنْ يَقْصِدُ ذَلِكَ لِحَاجَةٍ وَيَرْجِعُ مِنْ يَوْمِهِ إلَى مَكَّةَ حَتَّى يُوَافِقَ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَقْصُرُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْحَجِّ إذَا خَرَجُوا إلَى عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالسُّنَّةِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَأَصْحَابُهُ الْمَكِّيُّونَ كَانُوا يَقْصُرُونَ فِي الْحَجِّ
إلَى عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ : كَطَاوُوسٍ وَغَيْرِهِ . وَابْنُ عُيَيْنَة نَفْسُهُ الَّذِي رَوَى هَذَا الْأَثَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ يَقْصُرُ إلَى عَرَفَةَ فِي الْحَجِّ وَكَانَ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَطَاوُوسِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَتُرَى النَّاسَ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ صَلَّوْا فِي الْمَوْسِمِ خِلَافَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَهَذِهِ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَمَّا حَجُّوا مَعَهُ كَانُوا خَلْقًا كَثِيرًا وَقَدْ خَرَجُوا مَعَهُ إلَى مِنًى يُصَلُّونَ خَلْفَهُ وَإِنَّمَا صَلَّى بِمِنَى أَيَّامَ مِنًى قَصْرًا وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَهُ : أَهْلُ مَكَّةَ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ وَلَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ لَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ . ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بَعْدَهُ كَانَا يُصَلِّيَانِ فِي الْمَوْسِمِ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ كَذَلِكَ وَلَا يَأْمُرَانِ أَحَدًا بِإِتْمَامِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَمَّا صَلَّى بِمَكَّةَ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ . فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ لَا فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ ؛ فَإِنَّهُ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي فِي مَكَّةَ بَلْ كَانَ يُصَلِّي بِمَنْزِلِهِ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَفِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ تَدَبَّرَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى بِأَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ وَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ مُسْلِمٌ قَطُّ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِإِتْمَامِ : عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْصُرُونَ خَلْفَهُ وَهَذَا مِنْ الْعِلْمِ الْعَامِّ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا غَيْرِهِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ أَمَرَ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ
يُتِمُّوا خَلْفَ الْإِمَامِ إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ إنَّمَا أَجَابَ بِهِ مَنْ سَأَلَهُ إذَا سَافَرَ إلَى مِنًى أَوْ عَرَفَةَ سَفَرًا لَا يَنْزِلُ فِيهِ بِمِنَى وَعَرَفَةَ ؛ بَلْ يَرْجِعُ مِنْ يَوْمِهِ فَهَذَا لَا يَقْصُرُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ ذَهَبَ وَرَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ لَا يَقْصُرُ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ مَنْ سَافَرَ يَوْمًا وَلَمْ يَقُلْ : مَسِيرَةَ يَوْمٍ ؛ بَلْ اعْتَبَرَ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ يَوْمًا وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْهُ جَوَازُ الْقَصْرِ إلَى عسفان . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهَا اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِيلًا وَغَيْرُهُ يَقُولُ : أَرْبَعَةُ بُرُدٍ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا . وَاَلَّذِينَ حَدُّوهَا ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ مِيلًا عُمْدَتُهُمْ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ تُخَالِفُ ذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا قَوْلُهُمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ بِبَعْضِ أَقْوَالِهِمَا دُونَ بَعْضٍ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَإِمَّا أَنْ يُطْلَبَ دَلِيلٌ آخَرُ . فَكَيْفَ وَالْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنْوَاعٌ أُخَرُ وَلِهَذَا كَانَ الْمُحَدِّدُونَ بستة عَشَرَ فَرْسَخًا مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إنَّمَا لَهُمْ طَرِيقَانِ : بَعْضُهُمْ يَقُولُ : لَمْ أَجِدْ أَحَدًا قَالَ بِأَقَلَّ مِنْ الْقَصْرِ فِيمَا دُونَ هَذَا فَيَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الشَّافِعِيِّ . وَهَذَا أَيْضًا مَنْقُولٌ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ . فَهَذَانِ الْإِمَامَانِ بَيَّنَا عُذْرَهُمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَعْلَمَا مَنْ قَالَ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرُهُمَا قَدْ عَلِمَ مَنْ قَالَ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولُوا : هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ فَصَارَ إجْمَاعًا . وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُمَا
هَذَا وَغَيْرُهُ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ . وَثَمَّ طَرِيقَةٌ ثَالِثَةٌ سَلَكَهَا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهِيَ أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ مَأْثُورٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَة فِي " مُخْتَصَرِ الْمُخْتَصَرِ " عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إلَى عسفان } " وَهَذَا مَا يَعْلَمُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ هُوَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ . أَفَتَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا حَدَّ مَسَافَةَ الْقَصْرِ لِأَهْلِ مَكَّةَ دُونَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ السُّنَّةِ وَالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ وَدُونَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ؟ وَكَيْفَ يَقُولُ هَذَا وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ صَلَّوْا خَلْفَهُ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَلَمْ يَحُدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ السَّفَرَ بِمَسَافَةٍ لَا بَرِيدٍ وَلَا غَيْرِ بَرِيدٍ وَلَا حَدَّهَا بِزَمَانِ . وَمَالِكٌ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ كَقَوْلِ اللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ . قَالَ : فَإِنْ كَانَتْ أَرْضٌ لَا أَمْيَالَ فِيهَا فَلَا يَقْصُرُونَ فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلثِّقَلِ . قَالَ : وَهَذَا أَحَبُّ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ إلَيَّ . وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ لَا قَصْرَ إلَّا فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا فَصَاعِدًا . وَرُوِيَ عَنْهُ لَا قَصْرَ إلَّا فِي اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا فَصَاعِدًا وَرُوِيَ عَنْهُ : لَا قَصْرَ إلَّا فِي أَرْبَعِينَ مِيلًا فَصَاعِدًا وَرَوَى عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ :
لَا قَصْرَ إلَّا فِي سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا قَصْدًا . ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ " الْمَبْسُوطِ " وَرَأَى لِأَهْلِ مَكَّةَ خَاصَّةً أَنَّ يَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي الْحَجِّ خَاصَّةً إلَى مِنًى فَمَا فَوْقَهَا وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ خَرَجَ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ كَالرِّعَاءِ وَغَيْرِهِمْ فَتَأَوَّلَ فَأَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا الْقَضَاءُ فَقَطْ وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا قَصْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ . وَالْآثَارُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنْوَاعٌ . فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ سَمِعْت جبلة بْنَ سحيم يَقُولُ : سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : لَوْ خَرَجْت مِيلًا لَقَصَرْت الصَّلَاةَ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : إنِّي لَأُسَافِرُ السَّاعَةَ مِنْ النَّهَارِ فَأَقْصُرُ يَعْنِي الصَّلَاةَ . مُحَارِبٌ قَاضِي الْكُوفَةِ مِنْ خِيَارِ التَّابِعِينَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ وَمِسْعَرٌ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الشيباني عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خليدة عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فِي مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ هُوَ طَائِيٌّ وَلَّاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقَضَاءَ بِالْكُوفَةِ مَشْهُورٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَصَرَ إلَى ذَاتِ النُّصُبِ
قَالَ وَكُنْت أُسَافِرُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ الْبَرِيدَ فَلَا يَقْصُرُ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : ذَاتُ النُّصُبِ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا فَهَذَا نَافِعٌ يُ خبر عَنْهُ أَنَّهُ قَصَرَ فِي سِتَّةِ فَرَاسِخَ وَأَنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ بَرِيدًا وَهُوَ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ فَلَا يَقْصُرُ . وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : خَرَجْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إلَى ذَاتِ النُّصُبِ وَهِيَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا فَلَمَّا أَتَاهَا قَصَرَ الصَّلَاةَ وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرَةِ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ . وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ فِي هَذَا وَفِي مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّائِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ الوالبي الأسدي قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ عَنْ تَقْصِيرِ الصَّلَاةِ ؟ قَالَ : حَاجٌّ أَوْ مُعْتَمِرٌ أَوْ غَازٍ ؟ فَقُلْت لَا ؛ وَلَكِنْ أَحَدُنَا يَكُونُ لَهُ الضَّيْعَةُ فِي السَّوَادِ فَقَالَ : تَعْرِفُ السُّوَيْدَاءَ ؟ فَقُلْت سَمِعْت بِهَا وَلَمْ أَرَهَا قَالَ فَإِنَّهَا ثَلَاثٌ وَلَيْلَتَانِ وَلَيْلَةٌ لِلْمُسْرِعِ : إذَا خَرَجْنَا إلَيْهَا قَصَرْنَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى السُّوَيْدَاءِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ مِيلًا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ فَرْسَخًا . قُلْت : فَهَذَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ يُبَيِّنُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ تَحْدِيدًا ؛
لَكِنْ بَيَّنَ بِهَذَا جَوَازَ الْقَصْرِ فِي مِثْلِ هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ لَا يَقْصُرُونَ فِي السَّوَادِ فَأَجَابَهُ ابْنُ عُمَرَ بِجَوَازِ الْقَصْرِ . وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جريج : أَخْبَرَنِي نَافِعٌ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ أَدْنَى مَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ إلَيْهِ مَالٌ لَهُ بِخَيْبَرِ وَهِيَ مَسِيرَةُ ثَلَاثِ قَوَاصِدَ لَمْ يَقْصُرْ فِيمَا دُونَهُ . وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ حميد كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِيمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ وَهِيَ بِقَدْرِ الْأَهْوَازِ مِنْ الْبَصْرَةِ لَا يَقْصُرُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ كَمَا بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْأَهْوَازِ وَهِيَ مِائَةُ مِيلٍ غَيْرَ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ . قَالَ : وَهَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابْنِ عُمَرَ ثُمَّ عَلَى نَافِعٍ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ . قُلْت : هَذَا النَّفْيُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصُرْ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ غَلَطٌ قَطْعًا لَيْسَ هَذَا حِكَايَةً عَنْ قَوْلِهِ حَتَّى يُقَالَ إنَّهُ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ بَلْ نَفْيٌ لِقَصْرِهِ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ ( وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ بِالرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ وَغَيْرِهِ : أَنَّهُ قَصَرَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ غَلَطًا . فَمَنْ رَوَى عَنْ أَيُّوبَ إنْ قَدَّرَ أَنَّ نَافِعًا رَوَى هَذَا فَيَكُونُ حِينَ حَدَّثَ بِهَذَا قَدْ نَسِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَصَرَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَصَرَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ ) (*) .
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِين قَالَ : خَرَجْت مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إلَى أَرْضِهِ وَهِيَ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةِ فَرَاسِخَ فَصَلَّى بِنَا الْعَصْرَ فِي سَفِينَةٍ وَهِيَ تَجْرِي بِنَا فِي دِجْلَةَ قَاعِدًا عَلَى بِسَاطٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ . وَهَذَا فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا خَرَجَ إلَى أَرْضِهِ الْمَذْكُورَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ إلَى غَيْرِهَا حَتَّى يُقَالَ : كَانَتْ مِنْ طَرِيقِهِ فَقَصَرَ فِي خَمْسَةِ فَرَاسِخَ وَهِيَ بَرِيدٌ وَرُبُعٌ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ بَشَّارٍ كِلَاهُمَا عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ { يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ الهنائي : سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ - شُعْبَةُ شَكَّ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ } وَلَمْ يَرَ أَنَسٌ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ الْمَسَافَةِ الطَّوِيلَةِ هَذَا ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ سَأَلَهُ عَنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَهُوَ سُؤَالٌ عَمَّا يَقْصُرُ فِيهِ ؛ لَيْسَ سُؤَالًا عَنْ أَوَّلِ صَلَاةٍ يَقْصُرُهَا . ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ : إنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ لَا يَقْصُرُهَا إلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي هَذَا جَوَابٌ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَنَسًا أَرَادَ أَنَّهُ مَنْ سَافَرَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ قَصَرَ ثُمَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبَيِّنْ هَلْ كَانَ ذَلِكَ الْخُرُوجُ هُوَ السَّفَرَ أَوْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي قَطَعَهُ مِنْ السَّفَرِ فَإِنْ
كَانَ أَرَادَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَفَرَهُ فَهُوَ نَصٌّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الَّذِي قَطَعَهُ مِنْ السَّفَرِ فَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَقْصُرُ إلَيْهِ إذَا كَانَ هُوَ السَّفَرَ : يَقُولُ إنَّهُ لَا يَقْصُرُ إلَّا فِي السَّفَرِ فَلَوْلَا أَنَّ قَطْعَ هَذِهِ الْمَسَافَةِ سَفَرٌ لَمَا قَصَرَ . وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : لَا يَقْصُرُ حَتَّى يَقْطَعَ مَسَافَةً تَكُونُ سَفَرًا لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ قَصْدِهِ الْمَسَافَةَ الَّتِي هِيَ سَفَرٌ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ ودَاوُد وَأَصْحَابِهِ وَابْنُ حَزْمٍ يَحُدُّ مَسَافَةَ الْقَصْرِ بِمِيلِ لَكِنَّ دَاوُد وَأَصْحَابَهُ يَقُولُونَ : لَا يَقْصُرُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَزْوٍ وَابْنُ حَزْمٍ يَقُولُ : إنَّهُ يَقْصُرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ وَابْنُ حَزْمٍ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ : إنَّهُ يُفْطِرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ بِخِلَافِ الْقَصْرِ لِأَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ فِيهِ نَصٌّ عَامٌّ عَنْ الشَّارِعِ وَإِنَّمَا فِيهِ فِعْلُهُ أَنَّهُ قَصَرَ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يَجِدُوا أَحَدًا قَصَرَ فِيمَا دُونَ مِيلٍ وَوَجَدُوا الْمِيلَ مَنْقُولًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَابْنُ حَزْمٍ يَقُولُ السَّفَرُ هُوَ الْبُرُوزُ عَنْ مَحَلَّةِ الْإِقَامَةِ ؛ لَكِنْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى الْبَقِيعِ لِدَفْنِ الْمَوْتَى وَخَرَجَ إلَى الْفَضَاءِ لِلْغَائِطِ وَالنَّاسُ مَعَهُ فَلَمْ يَقْصُرُوا وَلَمْ يُفْطِرُوا . فَخَرَجَ هَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ سَفَرًا وَلَمْ يَجِدُوا أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ يُسَمَّى سَفَرًا ؛ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : لَوْ خَرَجْت مِيلًا لَقَصَرْت الصَّلَاةَ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَافَةَ
جَعَلَهَا سَفَرًا وَلَمْ نَجِدْ أَعْلَى مِنْهَا يُسَمَّى سَفَرًا جَعَلْنَا هَذَا هُوَ الْحَدَّ قَالَ وَمَا دُونَ الْمِيلِ مِنْ آخِرِ بُيُوتِ قَرْيَتِهِ لَهُ حُكْمُ الْحَضَرِ فَلَا يَقْصُرُ فِيهِ وَلَا يُفْطِرُ وَإِذَا بَلَغَ الْمِيلَ فَحِينَئِذٍ صَارَ لَهُ سَفَرٌ يَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةَ وَيُفْطِرُ فِيهِ فَمِنْ حِينَئِذٍ يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ وَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ فَكَانَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ فَإِنَّهُ يُتِمُّ لَيْسَ فِي سَفَرٍ يَقْصُرُ فِيهِ . قُلْت : جَعَلَ هَؤُلَاءِ السَّفَرَ مَحْدُودًا فِي اللُّغَةِ . قَالُوا : وَأَقَلُّ مَا سَمِعْنَا أَنَّهُ يُسَمَّى سَفَرًا هُوَ الْمِيلُ وَأُولَئِكَ جَعَلُوهُ مَحْدُودًا بِالشَّرْعِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ . أَمَّا الشَّارِعُ فَلَمْ يَحُدَّهُ . وَكَذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُسَمَّى سَفَرًا وَمَا لَا يُسَمَّى سَفَرًا هُوَ مَسَافَةٌ مَحْدُودَةٌ بَلْ نَفْسُ تَحْدِيدِ السَّفَرِ بِالْمَسَافَةِ بَاطِلٌ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ ثُمَّ لَوْ كَانَ مَحْدُودًا بِمَسَافَةِ مِيلٍ فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْمِيلَ يَكُونُ مِنْ حُدُودِ الْقَرْيَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ أَكْثَرَ مِنْ مِيلٍ مِنْ مَحَلِّهِ فِي الْحِجَازِ وَلَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ وَإِنْ أَرَادَ مِنْ الْمَكَانِ الْمُجْتَمَعَ الَّذِي يَشْمَلُهُ اسْمُ مَدِينَةٍ مِيلًا قِيلَ لَهُ : فَلَا حُجَّةَ لَك فِي خُرُوجِهِ إلَى الْمَقَابِرِ وَالْغَائِطِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ لَمْ تَكُنْ خَارِجًا عَنْ آخِرِ حَدِّ الْمَدِينَةِ . فَفِي الْجُمْلَةِ كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْعَوَالِي وَإِلَى أُحُدٍ كَمَا كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْمَقَابِرِ وَالْغَائِطِ وَفِي ذَلِكَ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ مِيلٍ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَخْرُجُونَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى أَكْثَرَ مِنْ مِيلٍ وَيَأْتُونَ إلَيْهَا أَبْعَدَ مِنْ مِيلٍ وَلَا يَقْصُرُونَ
كَخُرُوجِهِمْ إلَى قُبَاء وَالْعَوَالِي وَأُحُدٍ وَدُخُولِهِمْ لِلْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ . وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ مَسَاكِنِ الْمَدِينَةِ عَنْ مَسْجِدِهِ أَبْعَدَ مِنْ مِيلٍ فَإِنَّ حَرَمَ الْمَدِينَةِ بَرِيدٌ فِي بَرِيدٍ حَتَّى كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ لِبُعْدِ الْمَكَانِ يَتَنَاوَبَانِ الدُّخُولَ يَدْخُلُ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَصَاحِبُهُ الْأَنْصَارِيُّ يَدْخُلُ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ : لَوْ خَرَجْت مِيلًا قَصَرْت الصَّلَاةَ . هُوَ كَقَوْلِهِ : إنِّي لَأُسَافِرُ السَّاعَةَ مِنْ النَّهَارِ فَأَقْصُرُ وَهَذَا إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا يَقْطَعُهُ مِنْ الْمَسَافَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا فَيَكُونُ قَصْدُهُ إنِّي لَا أُؤَخِّرُ الْقَصْرَ إلَى أَنْ أَقْطَعَ مَسَافَةً طَوِيلَةً وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ إلَّا مَنْ يَقُولُ إذَا سَافَرَ نَهَارًا لَمْ يَقْصُرْ إلَى اللَّيْلِ . وَقَدْ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَؤُلَاءِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ وَقَدْ يُحْمَلُ حَدِيثُ أَنَسٍ عَلَى هَذَا لَكِنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَوْ يَكُونُ مُرَادُ ابْنِ عُمَرَ مَنْ سَافَرَ قَصَرَ وَلَوْ كَانَ قَصْدُهُ هَذِهِ الْمَسَافَةَ إذَا كَانَ فِي صَحْرَاءَ بِحَيْثُ يَكُونُ مُسَافِرًا لَا يَكُونُ مُتَنَقِّلًا بَيْنَ الْمَسَاكِنِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُسَافِرٍ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ هَذَا مُسَافِرٌ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَقَلَّ مِنْ الْمِيلِ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ فَهُوَ أَيْضًا مُسَافِرٌ فَالتَّحْدِيدُ بِالْمَسَافَةِ
لَا أَصْلَ لَهُ فِي شَرْعٍ وَلَا لُغَةٍ وَلَا عُرْفٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا يَعْرِفُ عُمُومُ النَّاسِ مِسَاحَةَ الْأَرْضِ فَلَا يُجْعَلُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عُمُومُ الْمُسْلِمِينَ مُعَلَّقًا بِشَيْءٍ لَا يَعْرِفُونَهُ وَلَمْ يَمْسَحْ أَحَدٌ الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَدَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَرْضَ لَا بِأَمْيَالِ وَلَا فَرَاسِخَ وَالرَّجُلُ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ الْقَرْيَةِ إلَى صَحْرَاءَ لِحَطَبٍ يَأْتِي بِهِ فَيَغِيبُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فَيَكُونُ مُسَافِرًا وَإِنْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ بِخِلَافِ مَنْ يَذْهَبُ وَيَرْجِعُ مِنْ يَوْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُسَافِرًا ؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَأْخُذُ الزَّادَ وَالْمَزَادَ بِخِلَافِ الثَّانِي . فَالْمَسَافَةُ الْقَرِيبَةُ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ تَكُونُ سَفَرًا وَالْمَسَافَةُ الْبَعِيدَةُ فِي الْمَدَّةِ الْقَلِيلَةِ لَا تَكُونُ سَفَرًا . فَالسَّفَرُ يَكُونُ بِالْعَمَلِ الَّذِي سُمِّيَ سَفَرًا لِأَجْلِهِ . وَالْعَمَلُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي زَمَانٍ فَإِذَا طَالَ الْعَمَلُ وَزَمَانُهُ فَاحْتَاجَ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسَافِرُ مِنْ الزَّادِ وَالْمَزَادِ سُمِّيَ مُسَافِرًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَسَافَةُ بَعِيدَةً وَإِذَا قَصَرَ الْعَمَلَ وَالزَّمَانَ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إلَى زَادٍ وَمَزَادٍ لَمْ يُسَمَّ سَفَرًا وَإِنْ بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ فَالْأَصْلُ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يُسَمَّى سَفَرًا وَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ إلَّا فِي زَمَانٍ فَيُعْتَبَرُ الْعَمَلُ الَّذِي هُوَ سَفَرٌ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي مَكَانٍ يُسْفِرُ عَنْ الْأَمَاكِنِ وَهَذَا مِمَّا يَعْرِفُهُ النَّاسُ بِعَادَاتِهِمْ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلَا اللُّغَةِ بَلْ مَا سَمَّوْهُ سَفَرًا فَهُوَ سَفَرٌ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا " الْإِقَامَةُ " فَهِيَ خِلَافُ السَّفَرِ فَالنَّاسُ
رَجُلَانِ مُقِيمٌ وَمُسَافِرٌ . وَلِهَذَا كَانَتْ أَحْكَامُ النَّاسِ فِي
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَحَدَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ : إمَّا حُكْمُ مُقِيمٍ
وَإِمَّا حُكْمُ مُسَافِرٍ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ
وَيَوْمَ إقَامَتِكُمْ } فَجَعَلَ لِلنَّاسِ يَوْمَ ظَعْنٍ وَيَوْمَ إقَامَةٍ . وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَوْجَبَ الصَّوْمَ وَقَالَ : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فَمَنْ لَيْسَ مَرِيضًا وَلَا
عَلَى سَفَرٍ فَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُقِيمُ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ
وَشَطْرَ الصَّلَاةِ } فَمَنْ لَمْ يُوضَعْ عَنْهُ الصَّوْمُ وَشَطْرُ الصَّلَاةِ
فَهُوَ الْمُقِيمُ . وَقَدْ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي حَجَّتِهِ بِمَكَّةَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ سِتَّةَ أَيَّامٍ بِمِنَى
وَمُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُمْ كَانُوا مُسَافِرِينَ وَأَقَامَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ تِسْعَةَ عَشَرَ
يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَأَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ
الصَّلَاةَ . وَمَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ أَنَّ مَا كَانَ يَفْعَلُ بِمَكَّةَ
وَتَبُوكَ لَمْ يَكُنْ يَنْقَضِي فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَا أَرْبَعَةٍ حَتَّى
يُقَالَ :
إنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْيَوْمَ أُسَافِرُ غَدًا أُسَافِرُ . بَلْ فَتَحَ مَكَّةَ وَأَهْلُهَا وَمَا حَوْلَهَا كُفَّارٌ مُحَارِبُونَ لَهُ وَهِيَ أَعْظَمُ مَدِينَةٍ فَتَحَهَا وَبِفَتْحِهَا ذَلَّتْ الْأَعْدَاءُ وَأَسْلَمَتْ الْعَرَبُ . وَسَرَى السَّرَايَا إلَى النَّوَاحِي يَنْتَظِرُ قُدُومَهُمْ وَمِثْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَنْقَضِي فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَقَامَ لِأُمُورٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَنْقَضِي فِي أَرْبَعَةٍ وَكَذَلِكَ فِي تَبُوكَ . وَأَيْضًا فَمَنْ جَعَلَ لِلْمُقَامِ حَدًّا مِنْ الْأَيَّامِ : إمَّا ثَلَاثَةً وَإِمَّا أَرْبَعَةً وَإِمَّا عَشَرَةً وَإِمَّا اثْنَيْ عَشَرَ وَإِمَّا خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ قَالَ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَهِيَ تَقْدِيرَاتٌ مُتَقَابِلَةٌ . فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ تَقْسِيمَ النَّاسِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إلَى مُسَافِرٍ وَإِلَى مُقِيمٍ مُسْتَوْطِنٍ وَهُوَ الَّذِي يَنْوِي الْمُقَامَ فِي الْمَكَانِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَتَجِبُ عَلَيْهِ وَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُ الصَّلَاةِ بِلَا نِزَاعٍ فَإِنَّهُ الْمُقِيمُ الْمُقَابِلُ لِلْمُسَافِرِ وَالثَّالِثُ مُقِيمٌ غَيْرُ مُسْتَوْطِنٍ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ إتْمَامَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْجُمُعَةَ وَقَالُوا : لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَقَالُوا : إنَّمَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِمُسْتَوْطِنِ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ - وَهُوَ تَقْسِيمُ الْمُقِيمِ إلَى مُسْتَوْطِنٍ وَغَيْرِ مُسْتَوْطِنٍ - تَقْسِيمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ ؛ بَلْ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ انْعَقَدَتْ بِهِ وَهَذَا إنَّمَا قَالُوهُ لَمَّا أَثْبَتُوا مُقِيمًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ وَالصِّيَامُ وَوَجَدُوهُ غَيْرَ مُسْتَوْطِنٍ فَلَمْ يُمْكِنْ
أَنْ يَقُولُوا تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ . فَإِنَّ الْجُمُعَةَ إنَّمَا تَنْعَقِدُ بِالْمُسْتَوْطِنِ ؛ لَكِنَّ إيجَابَ الْجُمُعَةِ عَلَى هَذَا وَإِيجَابَ الصِّيَامِ وَالْإِتْمَامِ عَلَى هَذَا هُوَ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فَإِنَّ هَذِهِ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَحَالُهُ بِتَبُوكَ ؛ بَلْ وَهَذِهِ حَالُ جَمِيعِ الْحَجِيجِ الَّذِينَ يَقْدُمُونَ مَكَّةَ لِيَقْضُوا مَنَاسِكَهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُوا وَقَدْ يَقْدُمُ الرَّجُلُ بِمَكَّةَ رَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ وَقَدْ يَقْدُمُ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ وَقَدْ يَقْدُمُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُمْ كُلُّهُمْ مُسَافِرُونَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ جُمُعَةٌ وَلَا إتْمَامٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَوْ قَدِمَ صُبْحَ ثَالِثَةٍ وَثَانِيَةٍ كَانَ يُتِمُّ وَيَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالْإِتْمَامِ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَلَوْ كَانَ هَذَا حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ لَبَيَّنَهُ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ بِنِيَّةِ أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ يُقِيمُهَا لَيْسَ هُوَ أَمْرًا مَعْلُومًا لَا بِشَرْعِ وَلَا لُغَةٍ وَلَا عُرْفٍ . وَقَدْ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا وَالْقَصْرُ فِي هَذَا جَائِزٌ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ وَقَدْ سَمَّاهُ إقَامَةً وَرَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَهَا فَلَوْ أَرَادَ الْمُهَاجِرُ أَنْ يُقِيمَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ النُّسُكِ لَمْ يَكُنْ
لَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ فَرْقٌ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ بَلْ الْمُهَاجِرُ مَمْنُوعٌ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ . فَعُلِمَ أَنَّ الثَّلَاثَ مِقْدَارٌ يُرَخَّصُ فِيهِ فِيمَا كَانَ مَحْظُورَ الْجِنْسِ . قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ } وَقَالَ : { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ } وَجَعَلَ مَا تُحَرَّمُ الْمَرْأَةُ بَعْدَهُ مِنْ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْأَصْلِ مَكْرُوهٌ فَأُبِيحَ مِنْهُ لِلْحَاجَةِ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ ثُمَّ الْمُهَاجِرُ لَوْ قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ الْمَوْسِمِ بِشَهْرٍ أَقَامَ إلَى الْمَوْسِمِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُبَحْ لَهُ إلَّا فِيمَا يَكُونُ سَفَرًا كَانَتْ إقَامَتُهُ إلَى الْمَوْسِمِ سَفَرًا فَتُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ . وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ قَدِمُوا صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَلَوْ أَقَامُوا بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ النُّسُكِ ثَلَاثًا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ وَلَوْ أَقَامُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ ذَلِكَ وَجَازَ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يُقِيمَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ أَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا بِمَكَّةَ وَلَمْ يَكُونُوا بِذَلِكَ مُقِيمِينَ إقَامَةً خَرَجُوا بِهَا عَنْ السَّفَرِ وَلَا كَانُوا مَمْنُوعِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُقِيمِينَ لِأَجْلِ تَمَامِ
الْجِهَادِ وَخَرَجُوا مِنْهَا إلَى غَزْوَةِ حنين ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ لَا يَقْدُمُ إلَّا لِلنُّسُكِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَصْرِ وَلَا بِتَحْدِيدِ السَّفَرِ . وَاَلَّذِينَ حَدُّوا ذَلِكَ بِأَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ بِإِقَامَةِ الْمُهَاجِرِ وَجَعَلَ يَوْمَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ غَيْرَ مَحْسُوبٍ وَمِنْهُمْ مَنْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَنْ قَدِمَ الْمِصْرَ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا يُتِمُّ الصَّلَاةَ ؛ لَكِنْ ثَبَتَتْ الْأَرْبَعَةُ بِإِقَامَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ فَإِنَّهُ أَقَامَهَا وَقَصَرَ . وَقَالُوا فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَتَبُوكَ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَزَمَ عَلَى إقَامَةِ مُدَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ عَامَ الْفَتْحِ غَزْوَ حنين وَهَذَا الدَّلِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ قَدِمَ الْمِصْرَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ السَّفَرِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ ؛ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْعُرْفِ فَإِنَّ التَّاجِرَ الَّذِي يَقْدُمُ لِيَشْتَرِيَ سِلْعَةً أَوْ يَبِيعَهَا وَيَذْهَبُ هُوَ مُسَافِرٌ عِنْدَ النَّاسِ وَقَدْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ وَيَبِيعُهَا فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ وَلَا يَحِدُّ النَّاسُ فِي ذَلِكَ حَدًّا . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : يَقْصُرُ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ قَالُوا : هَذَا غَايَةُ مَا قِيلَ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مُقِيمٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوهُ وَأَحْمَد أَمَرَ بِالْإِتْمَامِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ احْتِيَاطًا وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ إذَا نَوَى إقَامَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ هَلْ يُتِمُّ أَوْ يَقْصُرُ ؟ لِتَرَدُّدِ الِاجْتِهَادِ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الرَّابِعِ فَإِنْ كَانَ صَلَّى الْفَجْرَ بِمَبِيتِهِ وَهُوَ
ذُو طُوًى فَإِنَّمَا صَلَّى بِمَكَّةَ عِشْرِينَ صَلَاةً وَإِنْ كَانَ صَلَّى الصُّبْحَ بِمَكَّةَ فَقَدْ صَلَّى بِهَا إحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنَّمَا صَلَّى الصُّبْحَ يَوْمَئِذٍ بِذِي طُوًى وَدَخَلَ مَكَّةَ ضُحًى كَذَلِكَ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيثَ . قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ إذَا عَزَمَ عَلَى أَنْ يُقِيمَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَتَمَّ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ لِصُبْحِ رَابِعَةٍ قَالَ : فَأَقَامَ الْيَوْمَ الرَّابِعَ وَالْخَامِسَ وَالسَّادِسَ وَالسَّابِعَ وَصَلَّى الْفَجْرَ بِالْأَبْطُحِ يَوْمَ الثَّامِنِ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى إقَامَتِهَا فَإِذَا أَجْمَعَ أَنْ يُقِيمَ كَمَا أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَرَ فَإِذَا أَجْمَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَتَمَّ . قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لَهُ : فَلِمَ لَمْ يَقْصُرْ عَلَى مَا زَادَ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فَيَأْخُذُ بِالْأَحْوَطِ فَيُتِمُّ . قَالَ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : يَقُولُ أَخْرُجُ الْيَوْمَ أَخْرُجُ غَدًا أَيَقْصُرُ ؟ فَقَالَ : هَذَا شَيْءٌ آخَرُ هَذَا لَمْ يَعْزِمْ . فَأَحْمَدُ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ إنَّمَا أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ وَهَذَا لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ مَنْ يُوجِبُ الْقَصْرَ وَيَجْعَلُهُ عَزِيمَةً فِي الزِّيَادَةِ . وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دكين حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ حَبِيبِ ابْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ قَالَ : أَقَمْنَا مَعَ سَعْدٍ بِعُمَانَ - أَوْ بِعَمَّانَ - شَهْرَيْنِ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَنُصَلِّي أَرْبَعًا فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ :
نَحْنُ أَعْلَمُ قَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ي صلي رَكْعَتَيْنِ وَقَدْ حَالَ الثَّلْجُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ . قَالَ بَعْضُهُمْ وَالثَّلْجُ الَّذِي يَتَّفِقُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَذُوبُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَقَدْ أَجْمَعَ إقَامَةَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ قَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ : أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَقَامَ بِالشَّامِ سَنَتَيْنِ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ . قَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دكين حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ قَالَ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا أَقَامَ بِمَكَّةَ قَصَرَ الصَّلَاةَ إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ وَإِنْ أَقَامَ شَهْرَيْنِ إلَّا أَنْ يَجْمَعَ الْإِقَامَةَ . وَابْنُ عُمَرَ كَانَ يَقْدُمُ قَبْلَ الْمَوْسِمِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ حَتَّى إنَّهُ كَانَ أَحْيَانًا يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ كَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَمَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ الْمُقَامُ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ وَلِهَذَا أَوْصَى لَمَّا مَاتَ أَنْ يُدْفَنَ بِسَرِفٍ لِكَوْنِهَا مِنْ الْحِلِّ حَتَّى لَا يُدْفَنَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا وَقَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ : مَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إلَّا رَكْعَتَيْنِ إلَّا أَنْ يَرْفَعَ الْمُقَامَ ؛ وَلِهَذَا أَقَامَ مَرَّةً ثِنْتَيْ عَشْرَةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ يُرِيدُ الْخُرُوجَ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْمَوْسِمِ رَكْعَتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ نَوَى الْإِقَامَةَ إلَى الْمَوْسِمِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ كَثِيرَ الْحَجِّ وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَأْتِي مَكَّةَ قَبْلَ الْمَوْسِمِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ . قَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا ابْنُ
الطَّبَّاعِ
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُوسَى الْفَقِيرُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
ثَابِتِ بْنِ ثوبان عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ ابْنِ محيريز : أَنَّ أَبَا
أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ وَأَبَا صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ وَعَقَبَةَ بْنَ
عَامِرٍ شَتَّوْا بِأَرْضِ الرُّومِ فَصَامُوا رَمَضَانَ وَقَامُوهُ وَأَتَمُّوا
الصَّلَاةَ قَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : خَرَجَ مَسْرُوقٌ إلَى السِّلْسِلَةِ
فَقَصَرَ الصَّلَاةَ فَأَقَامَ سِنِينَ يَقْصُرُ حَتَّى رَجَعَ وَهُوَ يَقْصُرُ .
قِيلَ يَا أَبَا عَائِشَةَ : مَا يَحْمِلُك عَلَى هَذَا ؟ قَالَ : اتِّبَاعُ
السُّنَّةِ.
فَصْلٌ :
وَاَلَّذِينَ لَمْ يَكْرَهُوا أَنْ يُصَلِّيَ الْمُسَافِرُ أَرْبَعًا ظَنُّوا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ
بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَلَى عَهْدِهِ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ . وَظَنُّوا أَنَّ
صَلَاةَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعًا بِمَنْزِلِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ
فِي رَمَضَانَ وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِأَنَّهُمْ
كَانُوا يُسَافِرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَمِنْهُمْ الصَّائِمُ وَمِنْهُمْ الْمُفْطِرُ . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ
الْعِلْمِ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّرْبِيعِ فَحَسِبَهُ
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ صَحِيحًا وَبِذَلِكَ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ
أَصْحَابِ أَحْمَد . قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ
فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ : } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ بِلَا
خَوْفٍ صَدَقَةٌ مِنْ اللَّهِ وَالصَّدَقَةُ
رُخْصَةٌ لَا حَتْمٌ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَقْصُرَ . وَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِي السَّفَرِ بِلَا خَوْفٍ إنْ شَاءَ الْمُسَافِرُ أَنَّ { عَائِشَةَ قَالَتْ : كُلُّ ذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَمَّ فِي السَّفَرِ وَقَصَرَ . } قُلْت وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الدارقطني وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَاصِمٍ : حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عَائِشَةَ : " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ } قَالَ الدارقطني هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ . قَالَ البيهقي : وَلِهَذَا شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ دلهم بْنِ صَالِحٍ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ وَطَلْحَةَ بْنِ عُمَرَ وَكُلُّهُمْ ضَعِيفٌ . وَرَوَى حَدِيثَ دلهم مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى : حَدَّثَنَا دلهم بْنُ صَالِحٍ الْكِنْدِيُّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَرَجْنَا إلَى مَكَّةَ أَرْبَعًا حَتَّى نَرْجِعَ } . وَرَوَى حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ أَشْهَرُهَا عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ } وَرَوَى حَدِيثَ طَلْحَةَ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : كُلُّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَتَمَّ وَقَصَرَ وَصَامَ فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ } قَالَ البيهقي : وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ : كُوفِيٌّ ثِقَةٌ : أَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ : " أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُصَلِّي فِي السَّفَرِ الْمَكْتُوبَةَ أَرْبَعًا " وَرَوَى ذَلِكَ بِإِسْنَادِهِ ثُمَّ قَالَ : وَهُوَ كَالْمُوَافِقِ لِرِوَايَةِ دلهم بْنِ صَالِحٍ وَإِنْ كَانَ
فِي رِوَايَةِ دَلْهم زِيَادَةُ سَنَدٍ . قُلْت : أَمَّا مَا رَوَاهُ الثِّقَةُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ " أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي أَرْبَعًا " فَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ عَائِشَةَ مَعْرُوفٌ عَنْهَا مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ وَإِذَا كَانَ إنَّمَا أَسْنَدَهُ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءُ والثقاة وَقَفُوهُ عَلَى عَائِشَةَ : دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ الْمُسْنِدِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَاهِدًا لِلْمُسْنَدِ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ انْفَرَدَ بِهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ وَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : ضَعِيفٌ كُلُّ حَدِيثٍ أَسْنَدَهُ مُنْكَرٌ . قُلْت : فَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ أَبَاهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَهُوَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ احْتَجُّوا بِهِ مُوَافَقَةً لِمَنْ احْتَجَّ بِهِ كَالشَّافِعِيِّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مَكْذُوبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : لَفْظُهُ : { كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَتُتِمُّ وَيُفْطِرُ وَتَصُومُ } بِمَعْنَى أَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَتْ تُتِمُّ وَتَصُومُ . وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ مَعَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَيْهَا أَيْضًا . قَالَ البيهقي : وَلَهُ شَاهِدٌ قَوِيٌّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الدارقطني مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ : حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : خَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُمْت وَقَصَرَ وَأَتْمَمْت فَقُلْت يَا رَسُول اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي : أَفْطَرْت وَصُمْت وَقَصَرْت وَأَتْمَمْت قَالَ أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ . } وَرَوَاهُ البيهقي مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ الْحَكَمِ : ثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ لَمْ يَذْكُرْ أَبَاهُ قَالَ الدارقطني : الْأَوَّلُ مُتَّصِلٌ وَهُوَ إسْنَادٌ حَسَنٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَدْ أَدْرَكَ عَائِشَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا وَهُوَ مُرَاهِقٌ وَرَوَاهُ البيهقي مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ : ثَنَا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ { عَائِشَةَ : أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ حَتَّى إذَا قَدِمَتْ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي : قَصَرْت وَأَتْمَمْت . وَأَفْطَرْت وَصُمْت فَقَالَ أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ وَمَا عَابَ عَلَيَّ } . قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ : هَكَذَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ . وَمَنْ قَالَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَدْ أَخْطَأَ . قُلْت : أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ إمَامٌ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَكَانَ لَهُ عِنَايَةٌ بِالْأَحَادِيثِ الْفِقْهِيَّةِ وَمَا فِيهَا مِنْ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى طَرِيقَة أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ الَّتِي لَا تَعَصُّبَ فِيهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِثْلَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِينَ ؛ وَلِهَذَا رَجَّحَ هَذِهِ الطَّرِيقَ وَكَذَلِكَ أَهْلُ
السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا النَّسَائِي وَلَفْظُهُ عَنْ { عَائِشَةَ أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ حَتَّى إذَا قَدِمَتْ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَصَرْت وَأَتْمَمْت وَأَفْطَرْت وَصُمْت فَقَالَ أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ وَمَا عَابَ عَلَيَّ } وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ قَدْ يَقْصِدُ نَصْرَ قَوْلِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَيَنْطِقُ لَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ مَا لَوْ خَلَا عَنْ ذَلِكَ الْقَصْدِ لَمْ يَتَكَلَّفْهُ وَلَحَكَمَ بِبُطْلَانِهَا . وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ بِمُتَّصِلِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ إنَّمَا دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَهُوَ صَبِيٌّ وَلَمْ يَضْبِطْ مَا قَالَتْهُ وَقَالَ فِيهِ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ : هَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِهِ الْعَلَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ الأزدي لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ خَطَأٌ قَطْعًا ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : إنَّهَا خَرَجَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ وَمَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي رَمَضَانَ قَطُّ وَلَا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ فِي عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ ؛ بَلْ وَلَا خَرَجَ إلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ قَطُّ إلَّا عَامَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ مُسَافِرًا فِي رَمَضَانَ وَفَتَحَ مَكَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفِي ذَلِكَ السَّفَرِ كَانَ أَصْحَابُهُ مِنْهُمْ الصَّائِمُ وَمِنْهُمْ الْمُفْطِرُ فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي بِهِمْ إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ خَطَأٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَعَامَ فَتْحِ مَكَّةَ لَمْ يَعْتَمِرْ ؛ بَلْ ثَبَتَ بِالنُّقُولِ الْمُسْتَفِيضَةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ أَنَّهُ إنَّمَا اعْتَمَرَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَرْبَعَ عُمَرٍ . مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَالرَّابِعَةُ مَعَ حَجَّتِهِ : عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ فَحَلَّ بِالْحُدَيْبِيَةِ بِالْإِحْصَارِ وَلَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ وَكَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ وَكَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَيْضًا ثُمَّ لَمَّا قَسَّمَ غَنَائِمَ حنين بِالْجِعْرَانَةِ اعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ وَكَانَتْ عُمْرَتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَيْضًا وَالرَّابِعَةُ مَعَ حَجَّتِهِ وَلَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ حَجِّهِ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ حَجَّ مَعَهُ إلَّا عَائِشَةُ لَمَّا كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ وَأَمَرَهَا أَنْ تُهِلَّ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَعْمَرَهَا مَعَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ التَّنْعِيمِ . وَلِهَذَا قِيلَ لَمَّا بُنِيَ هُنَاكَ مِنْ الْمَسَاجِدِ مَسَاجِدُ عَائِشَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا قَبْلَ الْفَتْحِ وَلَا بَعْدَهُ عُمْرَةً مِنْ مَكَّةَ إلَّا عَائِشَةُ . فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ : مِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إلَّا الَّتِي مَعَ حَجِّهِ : عُمْرَةٌ مِنْ الْحُدَيْبِيَة فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةٌ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةٌ مِنْ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حنين وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِهِ } . وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ . وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ { : اعْتَمَرَ أَرْبَعًا : عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَة فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَعُمْرَةٌ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي
ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ صَالَحَهُمْ وَعُمْرَةُ حنين مِنْ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حنين وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِهِ . } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : { اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَرَّتَيْنِ } . وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ . وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْعُمْرَةَ الَّتِي أَتَمَّهَا وَهِيَ عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ وَالْجِعْرَانَةِ وَأَمَّا الْحُدَيْبِيَةُ فَلَمْ يُمْكِنْ إتْمَامُهَا ؛ بَلْ كَانَ مُحْصَرًا لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَفِيهَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِصَارِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { عَائِشَةَ لَمَّا قِيلَ لَهَا : إنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ فَقَالَتْ : يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَهُوَ مَعَهُ وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ } . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : لَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ } وَكَذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَه . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْهَا قَالَتْ : { اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَتَيْنِ : عُمْرَةٌ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةٌ فِي شَوَّالٍ } . وَهَذَا إنْ كَانَ ثَابِتًا عَنْهَا فَلَعَلَّهُ ابْتِدَاءُ سَفَرِهِ كَانَ فِي شَوَّالٍ وَلَمْ تَقُلْ قَطُّ إنَّهُ اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ مَحْضٌ . وَإِذَا ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ إلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يُسَافِرْ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ وَدَخَلَهَا إلَّا ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ
: عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ ثُمَّ غَزْوَةُ الْفَتْحِ ثُمَّ حَجَّةُ الْوَدَاعِ
وَهَذَا مِمَّا لَا يَتَنَازَعُ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالسِّيرَةِ
وَأَحْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُسَافِرْ
فِي رَمَضَانَ إلَى مَكَّةَ إلَّا غَزْوَةَ الْفَتْحِ - كَانَ كُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ
دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ أَنَّهَا
اعْتَمَرَتْ مَعَهُ فِي رَمَضَانَ وَقَالَتْ أَتْمَمْت وَصُمْت فَقَالَ : "
أَحْسَنْت " خَطَأٌ مَحْضٌ .
( فَعُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ لِمَنْ عُلِمَ حَالُهُ أَنْ
يَرْوِيَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ : {
مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيثًا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ
الْكَاذِبِينَ } وَلَكِنْ مَنْ حَدَّثَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا
يَسْتَحِلُّونَ هَذَا فَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَذِبٌ [ لَمْ يَأْثَمْ ] ) (*) .
فَإِنْ قِيلَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ " فِي رَمَضَانَ " خَطَأٌ وَسَائِرُ
الْحَدِيثِ يُمْكِنُ صِدْقُهُ . قِيلَ : بَلْ جَمِيعُ طُرُقِهِ تَدُلُّ عَلَى
أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّهَا قَالَتْ : قُلْت : أَفْطَرْت
وَصُمْت وَقَصَرْت وَأَتْمَمْت فَقَالَ : " أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ " .
وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ . وَأَمَّا السَّفَرُ فِي
غَيْرِ رَمَضَانَ فَلَا يُذْكَرُ فِيهِ مِثْلُ هَذَا لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْفِطْرَ
فِيهِ جَائِزٌ . وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى البيهقي وَغَيْرُهُ بِالْإِسْنَادِ
الثَّابِتِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ { عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : فُرِضَتْ
الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ فَفُرِضَتْ ثَلَاثًا
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَافَرَ صَلَّى
الصَّلَاةَ
الْأُولَى وَإِذَا أَقَامَ زَادَ مَعَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ ؛ لِأَنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ وَالصُّبْحَ لِأَنَّهَا تُطَوَّلُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ } . فَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَافَرَ صَلَّى الصَّلَاةَ الْأُولَى : رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ . فَلَوْ كَانَ تَارَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا لَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ وَهَذَا يُنَاقِضُ تِلْكَ الرِّوَايَةَ الْمَكْذُوبَةَ عَلَى عَائِشَةَ . وَأَيْضًا فَعَائِشَةُ كَانَتْ حَدِيثَةَ السِّنِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَعُمْرُهَا أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً فَإِنَّهُ لَمَّا بَنَى بِهَا بِالْمَدِينَةِ كَانَ لَهَا تِسْعُ سِنِينَ وَإِنَّمَا أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرًا فَإِذَا كَانَ قَدْ بَنَى بِهَا فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ كَانَ عُمْرُهَا قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ بَنَى بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَكَانَ عُمْرُهَا حِينَئِذٍ أَقَلَّ . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً فَهِيَ إنَّمَا تَتَعَلَّمُ الْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَصُومَ وَتُصَلِّيَ مَعَهُ فِي السَّفَرِ خِلَافَ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرُ أَزْوَاجِهِ وَلَا تُخْبِرَهُ بِذَلِكَ حَتَّى تَصِلَ إلَى مَكَّةَ ؟ هَلْ يُظَنُّ مِثْلُ هَذَا بِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ؟ وَمَا بَالُهَا فَعَلَتْ هَذَا فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ دُونَ سَائِرِ أَسْفَارِهَا مَعَهُ ؟ وَكَيْفَ تَطِيبُ نَفْسُهَا بِخِلَافِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ ؟ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا قَالَتْ { : فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَتَمَّهَا فِي الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْفَرِيضَةِ }
وَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَرِوَايَةِ أَصْحَابِهِ الثِّقَاتِ وَمِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كيسان عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ : يَرْوِيهِ مِثْلُ رَبِيعَةَ وَمِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَائِشَةَ . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ عَنْ عَائِشَةَ . فَكَيْفَ تُقْدِمُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ تُصَلِّيَ فِي السَّفَرِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَأْذِنَهُ وَهِيَ تَرَاهُ وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ لَا يُصَلُّونَ إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَأَيْضًا فَهِيَ لَمَّا أَتَمَّتْ الصَّلَاةَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَحْتَجَّ بِأَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَخْبَرُ النَّاسِ بِهَا عُرْوَةُ ابْنُ أُخْتِهَا بَلْ اعْتَذَرَتْ بِعُذْرٍ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ كَمَا رَوَاهُ النَّيْسَابُورِيُّ وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرُهُمَا بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ : ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا فَقُلْت لَهَا : لَوْ صَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ فَقَالَتْ . يَا ابْنَ أُخْتِي إنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيَّ . وَأَيْضًا فَالْحَدِيثُ الثَّابِتُ عَنْ { صَالِحِ بْنِ كيسان أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ الصَّلَاةَ حِينَ فُرِضَتْ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَأُتِمَّتْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا . قَالَ صَالِحٌ فَأَخْبَرَ بِهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ : إنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَنَّ عَائِشَةَ تُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي السَّفَرِ قَالَ فَوَجَدْت عُرْوَةَ يَوْمًا عِنْدَهُ
فَقُلْت : كَيْفَ أَخْبَرْتنِي عَنْ عَائِشَةَ ؟ فَحَدَّثَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ . فَقَالَ عُمَرُ : أَلَيْسَ حَدَّثْتنِي أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي أَرْبَعًا فِي السَّفَرِ ؟ قَالَ : بَلَى } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ " . قَالَ الزُّهْرِيُّ : قُلْت فَمَا شَأْنُ عَائِشَةَ كَانَتْ تُتِمُّ الصَّلَاةَ ؟ قَالَ : إنَّهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ . فَهَذَا عُرْوَةُ يَرْوِي عَنْهَا أَنَّهَا اعْتَذَرَتْ عَنْ إتْمَامِهَا بِأَنَّهَا قَالَتْ لَا يَشُقُّ عَلَيَّ وَقَالَ : إنَّهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إتْمَامَهَا كَانَ بِتَأْوِيلٍ مِنْ اجْتِهَادِهَا وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَسَّنَ لَهَا الْإِتْمَامَ أَوْ كَانَ هُوَ قَدْ أَتَمَّ لَكَانَتْ قَدْ فَعَلَتْ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا يُتَأَوَّلُ بِالِاجْتِهَادِ . ثُمَّ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَقْوَى مَا اُعْتُمِدَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ بِالْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَبْطَلُ مِنْهُ وَهُوَ كَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُتِمُّ فِي السَّفَرِ وَيَقْصُرُ ؟ وَهَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ سُنَّتِهِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ نَقْلًا عَنْهُ وَتَبْلِيغًا إلَى أُمَّتِهِ لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا ؛ بَلْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ زَيْدٌ العمي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : " إنَّا
مَعَاشِرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّا نُسَافِرُ : فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ وَمِنَّا الْمُتِمُّ وَمِنَّا الْمُقْصِرُ فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُتِمُّ عَلَى الْمُقْصِرِ " . هُوَ كَذِبٌ بِلَا رَيْبٍ وَزَيْدٌ العمي مِمَّنْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ مَتْرُوكٌ وَالثَّابِتُ عَنْ أَنَسٍ إنَّمَا هُوَ فِي الصَّوْمِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ فِي السَّفَرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ فُرَادَى ؛ بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَصُومُ وَقَدْ يُفْطِرُ فَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ الْكَذِبِ وَإِنْ كَانَ البيهقي رَوَى هَذَا فَهَذَا مِمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ وَرَآهُ أَهْلُ الْعِلْمِ لَا يَسْتَوْفِي الْآثَارَ الَّتِي لِمُخَالِفِيهِ كَمَا يَسْتَوْفِي الْآثَارَ الَّتِي لَهُ وَأَنَّهُ يَحْتَجُّ بِآثَارٍ لَوْ احْتَجَّ بِهَا مُخَالِفُوهُ لَأَظْهَرَ ضَعْفَهَا وَقَدَحَ فِيهَا وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي هَذَا - مَعَ عِلْمِهِ وَدِينِهِ - مَا أَوْقَعَ أَمْثَالَهُ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ آثَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَافِقَةً لِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ دُونَ آخَرَ . فَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ دُحِضَتْ حُجَجُهُ وَظَهَرَ عَلَيْهِ نَوْعٌ مِنْ التَّعَصُّبِ بِغَيْرِ الْحَقِّ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يَجْمَعُ الْآثَارَ وَيَتَأَوَّلُهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ بِتَأْوِيلَاتٍ يُبَيِّنُ فَسَادَهَا لِتُوَافِقَ الْقَوْلَ الَّذِي يَنْصُرُهُ كَمَا يَفْعَلُهُ صَاحِبُ شَرْحِ الْآثَارِ أَبُو جَعْفَرٍ مَعَ أَنَّهُ يَرْوِي مِنْ الْآثَارِ أَكْثَرَ مِمَّا يَرْوِي البيهقي ؛ لَكِنَّ البيهقي يُنَقِّي الْآثَارَ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا أَكْثَرَ مِنْ الطَّحَاوِي . وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصُرُ وَيُتِمُّ
وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ } قَدْ قِيلَ إنَّهُ مُصَحَّفٌ وَإِنَّمَا لَفْظُهُ " كَانَ يَقْصُرُ وَتُتِمُّ " هِيَ - بِالتَّاءِ - " وَيُفْطِرُ وَتَصُومُ " هِيَ لِيَكُونَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي إسْنَادُهُ أَمْثَلُ مِنْهُ . فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ لَكِنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ عَنْ عَائِشَةَ . وَأَمَّا نَقْلُ هَذَا الْآخَرِ عَنْ عَطَاءٍ فَغَلَطٌ عَلَى عَطَاءٍ قَطْعًا وَإِنَّمَا الثَّابِتُ عَنْ عَطَاءٍ " أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُصَلِّي فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا " كَمَا رَوَاهُ غَيْرُهُ وَلَوْ كَانَ عِنْدَ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ لَكَانَتْ تَحْتَجُّ بِهَا . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا مِنْ فِعْلِهِ لَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِهِ الرِّجَالِ الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَهُ دَائِمًا فِي السَّفَرِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا تَكُونُ عَائِشَةُ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الرِّجَالِ كَقِيَامِهِ بِاللَّيْلِ وَاغْتِسَالِهِ مِنْ الْإِكْسَالِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِعِلْمِهِ ؛ بَلْ أُمُورُ السَّفَرِ أَصْحَابُهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ فِيهَا مِنْ عَائِشَةَ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَخْرُجُ مَعَهُ فِي كُلِّ أَسْفَارِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّهنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ } فَإِنَّمَا كَانَ يُسَافِرُ بِهَا أَحْيَانًا وَكَانَتْ تَكُونُ مُخَدَّرَةً فِي خِدْرِهَا وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ : أَنَّهَا لَمَّا سَأَلَهَا شريح بْنُ هَانِئٍ عَنْ " الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ " قَالَتْ : سَلْ عَلِيًّا ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . هَذَا وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَمْرٌ قَدْ يَفْعَلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي مَنْزِلِهِ فِي الْحَضَرِ فَتَرَاهُ دُونَ الرِّجَالِ ؛ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّيهَا فِي الْحَضَرِ وَلَا فِي السَّفَرِ إلَّا إمَامًا بِأَصْحَابِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ غَيْبَةٍ لِحَاجَةِ كَمَا غَابَ يَوْمَ ذَهَبَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ أَهْلِ قُبَاء وَكَمَا غَابَ فِي السَّفَرِ لِلطَّهَارَةِ فَقَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَصَلَّى بِهِمْ الصُّبْحَ وَلَمَّا حَضَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَّنَ ذَلِكَ وَصَوَّبَهُ . وَإِذَا كَانَ الْإِتْمَامُ إنَّمَا كَانَ وَالرِّجَالُ يُصَلُّونَ خَلْفَهُ فَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ الرِّجَالُ قَطْعًا وَهُوَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِعَادَتِهِ فِي عَامَّةِ أَسْفَارِهِ ؛ فَلَوْ فَعَلَهُ أَحْيَانًا لَتَوَفَّرَتْ هِمَمُهُمْ وَدَوَاعِيهِمْ عَلَى نَقْلِهِ كَمَا نَقَلُوا عَنْهُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَمَّا فَعَلَهُ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ . وَكَمَا نَقَلُوا عَنْهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ أَحْيَانًا وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا الْخَاصِّ مَعَ أَنَّ مُخَالَفَةَ سُنَّتِهِ أَظْهَرُ مِنْ مُخَالَفَةِ بَعْضِ الْوَقْتِ لِبَعْضِ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَشْعُرُونَ بِمُرُورِ الْأَوْقَاتِ كَمَا يَشْعُرُونَ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ اخْتِلَافِ الْعُذْرِ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ يُرَى بِالْعَيْنِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ وَاسْتِدْلَالٍ ؛ بِخِلَافِ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَخُرُوجِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ . وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ جَمْعَهُ إنَّمَا كَانَ فِي غَيْرِ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ بِأَنْ يُقَدِّمَ الثَّانِيَةَ وَيُؤَخِّرَ الْأُولَى إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ كَذَلِكَ . فَهَذَا مِمَّا يَقَعُ فِيهِ شُبْهَةٌ ؛ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ أَرْبَعًا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ يَقَعُ فِيهِ شُبْهَةٌ وَلَا نِزَاعٌ بَلْ كَانَ يَنْقُلُهُ الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا - وَلَا يَنْقُلُهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا يُعْرَفُ قَطُّ إلَّا مِنْ رِوَايَةِ وَاحِدٍ مُضَعَّفٍ عَنْ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ وَالرِّوَايَاتُ الثَّابِتَةُ عَنْ عَائِشَةَ لَا تُوَافِقُهُ بَلْ تُخَالِفُهُ - فَإِنَّهُ لَوْ رُوِيَ لَهُ بِإِسْنَادٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْفَجْرَ مَرَّةً أَرْبَعًا لَصُدِّقَ ذَلِكَ . وَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَدَّقَ بِكُلِّ الْأَخْبَارِ الَّتِي مِنْ هَذَا الْجِنْسِ الَّتِي يَنْفَرِدُ فِيهَا الْوَاحِدُ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ يُنْقَلُ وَيَسْتَفِيضُ . وَهَذَا فِي الضَّعْفِ مِثْلُ أَنْ يُنْقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى : " أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ " وَيُنْقَلُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَلَا يُنْقَلُ إلَّا مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ . وَذَلِكَ مِثْلُ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِى : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ { أَبِي نَضْرَةَ قَالَ : سَأَلَ سَائِلٌ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ ؟ فَقَالَ : إنَّ هَذَا الْفَتَى يَسْأَلُنِي عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ فَاحْفَظُوهُنَّ عَنِّي مَا سَافَرْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَرًا
قَطُّ إلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَرْجِعَ وَشَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حنينا وَالطَّائِفَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ حَجَجْت مَعَهُ وَاعْتَمَرْت فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ ثُمَّ حَجَجْت مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَاعْتَمَرْت فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ ثُمَّ حَجَجْت مَعَ عُمَرَ وَاعْتَمَرْت فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ : أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ ثُمَّ حَجَجْت مَعَ عُثْمَانَ وَاعْتَمَرْت فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ إنَّ عُثْمَانَ أَتَمَّ } . فَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ قَطُّ إلَّا رَكْعَتَيْنِ ؟ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ سَائِرُ الرِّوَايَاتِ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ إنَّمَا نَقَلُوا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ : { يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ } فَهَذَا مِمَّا قَالَهُ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ لَمْ يَقُلْهُ فِي حَجَّتِهِ وَإِنَّمَا هَذَا غَلَطٌ وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ . وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ إبْرَاهِيمُ بْنُ حميد عَنْ حَمَّادٍ بِإِسْنَادِهِ رَوَاهُ البيهقي مِنْ طَرِيقِهِ . وَلَفْظُهُ : { مَا سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَرًا إلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ؛ حَتَّى يَرْجِعَ وَيَقُولَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ قُومُوا فَصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَغَزَا الطَّائِفَ وحنينا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَأَتَى الْجِعْرَانَةَ فَاعْتَمَرَ مِنْهَا وَحَجَجْت مَعَ أَبِي بَكْرٍ
وَاعْتَمَرْت فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَحَجَجْت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ } فَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ إلَّا عَامَ الْفَتْحِ قَبْلَ غَزْوَةِ حنين وَالطَّائِفِ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ صَرِيحًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ { عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : عَرَفْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْت مَعَهُ الْفَتْحَ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَقُولُ : يَا أَهْلَ الْبَلَدِ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ } وَهَذَا إنَّمَا كَانَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فِي نَفْسِ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ بِمِنَى . وَكَذَلِكَ الثَّابِتُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ صَلَّى بِأَهْلِ مَكَّةَ فِي الْحَجِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ بَعْدَ مَا سَلَّمَ : أَتِمُّوا الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ . هَذَا وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لَا مِمَّنْ نَقَلَ صَلَاتَهُ وَلَا مِمَّنْ نَقَلَ نُسُكَهُ وَحَجَّهُ مَعَ تَوَفُّرِ الْهِمَمِ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ مَعَ أَنَّ أَئِمَّةَ فُقَهَاءِ الْحَرَمَيْنِ كَانُوا يَقُولُونَ إنَّ الْمَكِّيِّينَ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى . أَفَيَكُونُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافُ ذَلِكَ ؟ أَمْ كَانُوا جُهَّالًا بِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يَشِيعُ وَلَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ مِمَّنْ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { حَارِثَةَ بْنِ خُزَاعَةَ قَالَ : صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنَى أَكْثَرَ مَا كُنَّا وَآمَنَهُ رَكْعَتَيْنِ } حَارِثَةُ هَذَا
خزاعي وَخُزَاعَةُ مَنْزِلُهَا حَوْلَ مَكَّةَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بِمِنَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ : صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْت مَعَ أَبِي بَكْرٍ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ ؛ وَصَلَّيْت مَعَ عُمَرَ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ : فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ } . وَإِتْمَامُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ قِيلَ إنَّهُ كَانَ لِأَنَّهُ تَأَهَّلَ بِمَكَّةَ فَصَارَ مُقِيمًا وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ { عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ : أَنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بِمِنَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي تَأَهَّلْت بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْت وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلَاةَ مُقِيمٍ بِمَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَقْصُرُ الرَّابِعَةَ } فَإِنَّهُ يَقْصُرُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَاكَ فَإِنَّ عُثْمَانَ كَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَكَانَ الْمُقَامُ بِمَكَّةَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا وَكَانَ عُثْمَانُ إذَا اعْتَمَرَ يَأْمُرُ بِرَاحِلَتِهِ فَتُهَيَّأُ لَهُ فَيَرْكَبُ عَلَيْهَا عَقِبَ الْعُمْرَةِ لِئَلَّا يُقِيمَ بِمَكَّةَ }
فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْطِنًا بِمَكَّةَ إلَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ جَعَلَ التَّأَهُّلَ إقَامَةً لَا اسْتِيطَانًا فَيُقَالُ : مَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ نَفْسُ التَّأَهُّلِ مَانِعًا مِنْ الْقَصْرِ وَهَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ ؛ فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَقْصُرُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ بِمِنَى . وَأَيْضًا فَالْأُمَرَاءُ بَعْدَ عُثْمَانَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا يُتِمُّونَ اقْتِدَاءً بِهِ وَلَوْ كَانَ عُذْرُهُ مُخْتَصًّا بِهِ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ . وَقِيلَ إنَّهُ خَشِيَ أَنَّ الْأَعْرَابَ يَظُنُّونَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْهَلَ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَلَمْ يُتَمِّمْ الصَّلَاةَ . وَأَيْضًا فَهُمْ يَرَوْنَ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُقَامِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ . وَأَيْضًا فَظَنُّهُمْ أَنَّ السُّنَّةَ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ أَرْبَعٌ خَطَأٌ مِنْهُمْ فَلَا يَسُوغُ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ لِيَحْصُلَ بِالْمُخَالَفَةِ مَا هُوَ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَعُرْوَةُ قَدْ قَالَ : إنَّ عَائِشَةَ تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ وَعَائِشَةُ أَخْبَرَتْ أَنَّ الْإِتْمَامَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهَا .
أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ كَمَا رَآهُ مَنْ رَآهُ لِأَجْلِ شُقَّةِ السَّفَرِ وَرَأَوْا أَنَّ الدُّنْيَا لَمَّا اتَّسَعَتْ عَلَيْهِمْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا كَانَ يَحْصُلُ عَلَى مَنْ كَانَ صَلَّى أَرْبَعًا كَمَا قَدْ جَاءَ عَنْ عُثْمَانَ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ الْمُتْعَةِ الَّتِي هِيَ الْفَسْخُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِأَجْلِ حَاجَتِهِمْ إذْ ذَاكَ إلَى هَذِهِ الْمُتْعَةِ فَتِلْكَ الْحَاجَةُ قَدْ زَالَتْ .
بَابٌ
صَلَاةُ الْجُمُعَةِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَبِهِ نَسْتَعِينُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ
وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .
مِنْ أَحْمَد بْنِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة
إلَى مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ كِتَابُهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ
أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ وَغَيْرِهِمْ عَامَّةً وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ
خَاصَّةً . سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنِّي أَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا
هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَسْأَلُهُ
أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى خِيرَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ : مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ
وَخَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى وَدِينِ
الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ وَفْدًا قَدِمُوا مِنْ نَحْوِ أَرْضِكُمْ . فَأَخْبَرُونَا بِنَحْوِ مِمَّا كُنَّا نَسْمَعُ عَنْ أَهْلِ نَاحِيَتِكُمْ مِنْ الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْتِزَامِ شَرِيعَةِ اللَّهِ الَّتِي شَرَعَهَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَمُجَانَبَةِ مَا عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَعْرَابِ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ ؛ مِنْ سَفْكِ بَعْضِهِمْ دِمَاءَ بَعْضٍ وَنَهْبِ أَمْوَالِهِمْ وَقَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ وَالِانْسِلَالِ عَنْ رِبْقَةِ الْإِسْلَامِ وَتَوْرِيثِ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ وَإِسْبَالِ الثِّيَابِ وَالتَّعَزِّي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ . وَهُوَ قَوْلُهُمْ : يَا لَبَنِي فُلَانٍ أَوْ يَا لَفُلَانٍ . وَالتَّعَصُّبِ لِلْقَبِيلَةِ بِالْبَاطِلِ وَتَرْكِ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ فِي النِّكَاحِ مِنْ الْعِدَّةِ وَنَحْوِهَا ثُمَّ مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لِفَرِيقٍ مِنْهُمْ مِنْ الْأَهْوَاءِ الَّتِي بَايَنُوا بِهَا عَقَائِدَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَخَالَفُوا شَرِيعَةَ اللَّهِ لَهُمْ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْأَوَّلِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . وَوَقَعُوا فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَقِيعَةِ الَّتِي لَا تَصْدُرُ مِمَّنْ وَقَرَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ . فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا وَإِيَّاكُمْ مِمَّا ابْتَلَى بِهِ كَثِيرًا مِنْ خَلْقِهِ وَفَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الْمَنَّانَ بَدِيعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ يُتَمِّمَ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ نِعْمَتَهُ وَيُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُمْ لِمَا يُحِبُّ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَيَجْعَلَنَا مِنْ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ لِلسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ .
وَلَيْسَ هَذَا بِبِدْعِ : فَإِنَّ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ مَا زَالُوا مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ إسْلَامٍ وَفَضْلٍ { قَدْ قَدِمَ وَفْدُهُمْ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِمْ الْأَشَجُّ - فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَك هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ وَإِنَّا لَا نَصِلُ إلَيْك إلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نَعْمَلُ بِهِ وَنَأْمُرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا : فَقَالَ : آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ : أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ } وَلَمْ يَكُنْ قَدْ فُرِضَ الْحَجُّ إذْ ذَاكَ { وَقَالَ لِلْأَشَجِّ : إنَّ فِيك لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ : الْحُلْمُ وَالْأَنَاةُ قَالَ : خُلُقَيْنِ تَخَلَّقْت بِهِمَا أَوْ خُلُقَيْنِ جُبِلْت عَلَيْهِمَا ؟ قَالَ خُلُقَيْنِ جُبِلْت عَلَيْهِمَا فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ } . ثُمَّ إنَّهُمْ أَقَامُوا الْجُمُعَةَ بِأَرْضِهِمْ فَأَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ جُمُعَةِ الْمَدِينَةِ جُمُعَةٌ بجواثى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ . ثُمَّ إنَّهُمْ ثَبَتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدَّ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الْعَرَبِ وَقَاتَلَ بِهِمْ أَمِيرُهُمْ الْعَلَاءُ بْنُ
الْحَضْرَمِيُّ - الرَّجُلُ الصَّالِحُ - أَهْلَ الرِّدَّةِ وَلَهُمْ فِي السِّيرَةِ أَخْبَارٌ حِسَانٌ . فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُوَفِّقُ آخِرَهُمْ لِمَا وَفَّقَ لَهُ أَوَّلَهُمْ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ . وَقَدْ حَدَّثَنَا بَعْضُ الْوَفْدِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بِبَعْضِ أَرْضِكُمْ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَفْتَاهُمْ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صِفَةِ الْمَكَانِ فَقَالَ هُنَالِكَ مَسْجِدٌ مَبْنِيٌّ بِمَدَرٍ وَحَوْلَهُ أَقْوَامٌ كَثِيرُونَ مُقِيمُونَ مُسْتَوْطِنُونَ لَا يَظْعَنُونَ عَنْ الْمَكَانِ : شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إلَّا أَنْ يُخْرِجَهُمْ أَحَدٌ بِقَهْرٍ بَلْ هُمْ وَآبَاؤُهُمْ وَأَجْدَادُهُمْ مُسْتَوْطِنُونَ بِهَذَا الْمَكَانِ كَاسْتِيطَانِ سَائِرِ أَهْلِ الْقُرَى لَكِنَّ بُيُوتَهُمْ لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً بِمَدَرٍ إنَّمَا هِيَ مَبْنِيَّةٌ بِجَرِيدِ النَّخْلِ وَنَحْوِهِ . فَاعْلَمُوا - رَحِمَكُمْ اللَّهُ - أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الصُّورَةِ تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ فَإِنَّ كُلَّ قَوْمٍ كَانُوا مُسْتَوْطِنِينَ بِبِنَاءٍ مُتَقَارِبٍ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ إذْ كَانَ مَبْنِيًّا بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ : مِنْ مَدَرٍ وَخَشَبٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ جَرِيدٍ أَوْ سَعَفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنَّ أَجْزَاءَ الْبِنَاءِ وَمَادَّتَهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي ذَلِكَ إنَّمَا الْأَصْلُ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَوْطِنِينَ لَيْسُوا كَأَهْلِ الْخِيَامِ وَالْحُلَلِ الَّذِينَ يَنْتَجِعُونَ فِي الْغَالِبِ مَوَاقِعَ الْقَطْرِ وَيَتَنَقَّلُونَ فِي الْبِقَاعِ وَيَنْقُلُونَ بُيُوتَهُمْ مَعَهُمْ إذَا انْتَقَلُوا وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .
وَبِقِصَّةِ أَرْضِكُمْ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ : لَا تُقَامُ الْجُمُعَةُ فِي الْقُرَى بِالْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ جُمُعَةِ الْمَدِينَةِ جُمُعَةٌ بِالْبَحْرَيْنِ بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا جواثى مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ " وَبِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ عَامِلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْبَحْرَيْنِ فَكَتَبَ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِقُرَى الْبَحْرَيْنِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ : أَقِيمُوا الْجُمُعَةَ حَيْثُ كُنْتُمْ . وَلَعَلَّ الَّذِينَ قَالُوا لَكُمْ : إنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُقَامُ قَدْ تَقَلَّدُوا قَوْلَ مَنْ يَرَى الْجُمُعَةَ لَا تُقَامُ فِي الْقُرَى أَوْ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فِي الْكُتُبِ الْمُخْتَصَرَةِ " إنَّمَا تُقَامُ بِقَرْيَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِنَاءً مُتَّصِلًا أَوْ مُتَقَارِبًا بِحَيْثُ يَشْمَلُهُ اسْمٌ وَاحِدٌ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْبِنَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمَدَرِ مِنْ طِينٍ أَوْ كِلْسٍ أَوْ حِجَارَةٍ أَوْ لَبِنٍ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ بَلْ قَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أُولَئِكَ الْمُسْتَوْطِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ : قَصَبٍ أَوْ خَشَبٍ وَنَحْوِهِ . وَلِهَذَا فَالْعُلَمَاءُ الْأَئِمَّةُ إنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْأَعْرَابِ أَهْلِ الْعَمْدِ وَبَيْنَ الْمُقِيمِينَ بِأَنَّ أُولَئِكَ يَتَنَقَّلُونَ وَلَا يَسْتَوْطِنُونَ بُقْعَةً بِخِلَافِ الْمُسْتَوْطِنِينَ وَقَدْ كَانَ قَوْمٌ مِنْ السَّلَفِ يَبْنُونَ لَهُمْ بُيُوتًا مِنْ قَصَبٍ { وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَفَ مَسْجِدَهُ بِجَرِيدِ النَّخْلِ حَتَّى كَانَ يَكُفُّ الْمَسْجِدَ
إذَا نَزَلَ الْمَطَرُ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَوْ بَنَيْنَا لَك - يَعْنُونَ بِنَاءً مُشَيَّدًا - فَقَالَ : بَلْ عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى } " . وَقَدْ نَصَّ عَلَى مَسْأَلَتِكُمْ بِعَيْنِهَا - وَهِيَ الْبُيُوتُ الْمَصْنُوعَةُ مِنْ جَرِيدٍ أَوْ سَعَفٍ - غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَد كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْحَسَنِ الآمدي وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ . فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ كُلَّ بُيُوتٍ مَبْنِيَّةٍ مِنْ آجُرٍّ أَوْ طِينٍ أَوْ حِجَارَةٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ جَرِيدٍ أَوْ سَعَفٍ فَإِنَّهُ تُقَامُ عِنْدَهُمْ الْجُمُعَةُ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّين : كَصَاحِبِ " الْوَسِيطِ " فِيمَا أَظُنُّ وَمِنْ الْعِرَاقِيِّينَ أَيْضًا أَنَّ بُيُوتَ السَّعَفِ تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ . وَخَالَفَ هَؤُلَاءِ الماوردي فِي الْحَاوِي فَذَكَرَ أَنَّ بُيُوتَ الْقَصَبِ وَالْجَرِيدِ لَا تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ بَلْ تُقَامُ فِي بُيُوتِ الْخَشَبِ الْوَثِيقَةِ . وَهَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَالْقِيَاسُ وَلِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ . فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُهُ عَنْ الْجُمُعَةِ وَهُوَ بِالْبَحْرَيْنِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ جَمِّعُوا حَيْثُمَا كُنْتُمْ . وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَد إلَى حَدِيثِ عُمَرَ هَذَا . وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَمُرُّ بِالْمِيَاهِ الَّتِي
بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهْم يَجْمَعُونَ فِي تِلْكَ الْمَنَازِلِ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ . فَهَذَا عُمَرُ يَأْمُرُ أَهْلَ الْبَحْرِينِ بِالتَّجْمِيعِ حَيْثُ اسْتَوْطَنُوا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ بَعْضَ الْبُيُوتِ تَكُونُ مِنْ جَرِيدٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْ بِنَاءً مَخْصُوصًا وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ أَقَرَّ أَهْلَ الْمَنَازِلِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَلَى التَّجْمِيعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ مَدَرٍ وَإِنَّمَا هِيَ إمَّا مِنْ جَرِيدٍ أَوْ سَعَفٍ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : لَيْسَ عَلَى الْبَادِيَةِ جُمُعَةٌ لِأَنَّهُمْ يَنْتَقِلُونَ . فَعَلَّلَ سُقُوطَهَا بِالِانْتِقَالِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُسْتَوْطِنًا لَا يَنْتَقِلُ بِاخْتِيَارِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ أَهْلِ الْخِيَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أُولَئِكَ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ لَا يَسْتَوْطِنُونَ مَكَانًا بِعَيْنِهِ وَإِنْ اسْتَوْطَنَ فِرَقٌ مِنْهُمْ مَكَانًا فَهُمْ فِي مَظِنَّةِ الِانْتِقَالِ عَنْهُ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَوْطِنِينَ الَّذِينَ يحترثون ويزدرعون وَلَا يَنْتَقِلُونَ إلَّا كَمَا يَنْتَقِلُ أَهْلُ أَبْنِيَةِ الْمَدَرِ . إمَّا لِحَاجَةٍ تَعْرِضُ أَوْ لِيَدٍ غَالِبَةٍ تَنْقُلُهُمْ كَمَا تَفْعَلُهُ الْمُلُوكُ مَعَ الْفَلَّاحِينَ . الثَّانِي : أَنَّ بُيُوتَ أَهْلِ الْخِيَامِ يَنْقُلُونَهَا مَعَهُمْ إذَا انْتَقَلُوا فَصَارَتْ مِنْ الْمَنْقُولِ لَا مِنْ الْعَقَارِ بِخِلَافِ الْخَشَبِ وَالْقَصَبِ وَالْجَرِيدِ فَإِنَّ أَصْحَابَهَا لَا يَنْقُلُونَهَا لِيَبْنُوا بِهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَنْتَقِلُونَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يَبْنُونَ
فِي كُلِّ مَكَانٍ بِمَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ الْأَدِلَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ " إقَامَةُ الْجُمُعَةِ بِالْقُرَى " أَوَّلُ مَا ابْتَدَأَتْ مِنْ نَاحِيَتِكُمْ فَلَا تَقْطَعُوا هَذِهِ الشَّرِيعَةَ مِنْ أَرْضِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ لَكُمْ جَوَامِعَ الْخَيْرِ . ثُمَّ اعْلَمُوا - رَحِمَكُمْ اللَّهُ وَجَمَعَ لَنَا وَلَكُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَكَانَ قَدْ بُعِثَ إلَى ذَوِي أَهْوَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَقُلُوبٍ مُتَشَتِّتَةٍ وَآرَاءٍ مُتَبَايِنَةٍ فَجَمَعَ بِهِ الشَّمْلَ وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَعَصَمَ بِهِ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ . ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ - وَهُوَ الْجَمَاعَةُ - عِمَادٌ لِدِينِهِ . فَقَالَ سُبْحَانَهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ
فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } { وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ . فَانْظُرُوا - رَحِمَكُمْ اللَّهُ كَيْفَ دَعَا اللَّهُ إلَى الْجَمَاعَةِ وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } فَبَرَّأَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا . كَمَا نَهَانَا عَنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } . وَقَدْ كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُجَادَلَةِ مَا يُفْضِي إلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ . فَخَرَجَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَتَجَادَلُونَ فِي الْقَدَرِ فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ وَقَالَ { : أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ ؟ أَمْ إلَى هَذَا دُعِيتُمْ ؟ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَمَا أَغْبِطُ نَفْسِي كَمَا غَبَطْتهَا أَلَّا أَكُونَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَغَيْرُهُ وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً
كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ هِيَ ؟ قَالَ : مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي } " وَفِي رِوَايَةٍ " هِيَ الْجَمَاعَةُ " وَفِي رِوَايَةٍ " { يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ } فَوَصَفَ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ بِأَنَّهُمْ الْمُسْتَمْسِكُونَ بِسُنَّتِهِ وَأَنَّهُمْ هُمْ الْجَمَاعَةُ . وَقَدْ كَانَ الْعُلَمَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إذَا تَنَازَعُوا فِي الْأَمْرِ اتَّبَعُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } وَكَانُوا يَتَنَاظَرُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ مُنَاظَرَةَ مُشَاوَرَةٍ وَمُنَاصَحَةٍ وَرُبَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مَعَ بَقَاءِ الْأُلْفَةِ وَالْعِصْمَةِ وَأُخُوَّةِ الدِّينِ . نَعَمْ مَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَالسُّنَّةَ الْمُسْتَفِيضَةَ أَوْ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ خِلَافًا لَا يُعْذَرُ فِيهِ فَهَذَا يُعَامَلُ بِمَا يُعَامَلُ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ . فَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَدْ خَالَفَتْ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ وَقَالَتْ : " مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْفِرْيَةَ " وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُبَدِّعُونَ الْمَانِعِينَ الَّذِينَ وَافَقُوا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَكَذَلِكَ أَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْوَاتُ يَسْمَعُونَ دُعَاءَ الْحَيِّ لَمَّا قِيلَ لَهَا : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ } " فَقَالَتْ : إنَّمَا قَالَ : إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ مَا قُلْت لَهُمْ حَقٌّ . وَمَعَ هَذَا فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ خَفْقَ النِّعَالِ كَمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } صَحَّ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ . وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَأَوَّلَتْ وَاَللَّهُ يَرْضَى عَنْهَا . وَكَذَلِكَ مُعَاوِيَةُ نُقِلَ عَنْهُ فِي أَمْرِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا كَانَ بِرُوحِهِ وَالنَّاسُ عَلَى خِلَافِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي " الْأَحْكَامِ " فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَنْضَبِطَ وَلَوْ كَانَ كُلَّمَا اخْتَلَفَ مُسْلِمَانِ فِي شَيْءٍ تَهَاجَرَا لَمْ يَبْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عِصْمَةٌ وَلَا أُخُوَّةٌ وَلَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَيِّدَا الْمُسْلِمِينَ يَتَنَازَعَانِ فِي أَشْيَاءَ لَا يَقْصِدَانِ إلَّا الْخَيْرَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ : { لَا يُصَلِّيَن أَحَدٌ الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَتْهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ قَوْمٌ : لَا نُصَلِّي إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَفَاتَتْهُمْ الْعَصْرُ . وَقَالَ قَوْمٌ : لَمْ يُرِدْ مِنَّا تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ فَصَلَّوْا فِي الطَّرِيقِ فَلَمْ يَعِبْ وَاحِدًا مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ } . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْأَحْكَامِ فَمَا لَمْ
يَكُنْ مِنْ الْأُصُولِ الْمُهِمَّةِ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْأَحْكَامِ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ . } نَعَمْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ هَجَرَ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمَّا تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَظَهَرَتْ مَعْصِيَتُهُمْ وَخِيفَ عَلَيْهِمْ النِّفَاقُ فَهَجَرَهُمْ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِهِمْ حَتَّى أَمَرَهُمْ بِاعْتِزَالِ أَزْوَاجِهِمْ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ خَمْسِينَ لَيْلَةً إلَى أَنْ نَزَلَتْ تَوْبَتُهُمْ مِنْ السَّمَاءِ . وَكَذَلِكَ أَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِ صبيغ بْنِ عَسَلٍ التَّمِيمِيِّ لَمَّا رَآهُ مِنْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْ الْكِتَابِ إلَى أَنْ مَضَى عَلَيْهِ حَوْلٌ وَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ فِي التَّوْبَةِ فَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِمُرَاجَعَتِهِ . فَبِهَذَا وَنَحْوِهِ
رَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَهْجُرُوا مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ الزَّيْغِ مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلْبِدَعِ الدَّاعِينَ إلَيْهَا وَالْمُظْهِرِينَ لِلْكَبَائِرِ فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِمَعْصِيَةٍ أَوْ مُسِرًّا لِبِدْعَةٍ غَيْرِ مُكَفِّرَةٍ فَإِنَّ هَذَا لَا يُهْجَرُ وَإِنَّمَا يُهْجَرُ الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ ؛ إذْ الْهَجْرُ نَوْعٌ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ مَنْ أَظْهَرَ الْمَعْصِيَةَ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا . وَأَمَّا مَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا فَإِنَّا نَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُ وَنَكِلُ سَرِيرَتَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ لَمَّا جَاءُوا إلَيْهِ عَامَ تَبُوكَ يَحْلِفُونَ وَيَعْتَذِرُونَ . وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَكْثَرُ مَنْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ : كَمَالِكٍ وَغَيْرِهِ لَا يَقْبَلُونَ رِوَايَةَ الدَّاعِي إلَى بِدْعَةٍ وَلَا يُجَالِسُونَهُ بِخِلَافِ السَّاكِتِ وَقَدْ أَخْرَجَ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِمَّنْ رُمِيَ بِبِدْعَةٍ مِنْ السَّاكِتِينَ وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْ الدُّعَاةِ إلَى الْبِدَعِ . وَاَلَّذِي أَوْجَبَ هَذَا الْكَلَامَ أَنَّ وَفْدَكُمْ حَدَّثُونَا بِأَشْيَاءَ مِنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَكُمْ حَتَّى ذَكَرُوا : أَنَّ الْأَمْرَ آلَ إلَى قَرِيبِ الْمُقَاتَلَةِ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ . وَاَللَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَقُلُوبِكُمْ وَيُصْلِحَ ذَاتَ بَيْنِنَا وَيَهْدِيَنَا سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجَنَا
مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَيُجَنِّبَنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَيُبَارِكَ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا مَا أَبْقَانَا وَيَجْعَلَنَا شَاكِرِينَ لِنِعَمِهِ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْهِ قَابِلِيهَا وَيُتَمِّمَهَا عَلَيْنَا . وَذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ فِي " مَسْأَلَةِ رُؤْيَةِ الْكُفَّارِ رَبَّهُمْ " وَمَا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ الْأَمْرَ يَبْلُغُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ خَفِيفٌ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْجَوَابَ . وَتَقَدَّمَ فِي " كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ " هَلْ
تُشْتَرَطُ لَهُمَا الْإِقَامَةُ أَمْ تُفْعَلُ فِي السَّفَرِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : مِنْ شَرْطِهِمَا جَمِيعًا الْإِقَامَةُ فَلَا
يُشْرَعَانِ فِي السَّفَرِ . هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ .
وَالثَّانِي : يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْجُمُعَةِ دُونَ الْعِيدِ وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ . وَالثَّالِثُ :
لَا يُشْتَرَطُ لَا فِي هَذَا وَلَا هَذَا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ
الظَّاهِرِيَّةِ وَهَؤُلَاءِ عُمْدَتُهُمْ مُطْلَقُ الْأَمْرِ وَلِقَوْلِهِ { إذَا
نُودِيَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يُوجِبُ
الِاخْتِصَاصَ بِالْمُقِيمِ . وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْجُمُعَةِ
وَالْعِيدِ قَالُوا : الْعِيدُ إمَّا نَفْلٌ وَإِمَّا فَرْضٌ عَلَى
الْكِفَايَةِ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ فَرْضٌ آخَرُ كَمَا تَسْقُطُ الظُّهْرُ بِالْجُمُعَةِ وَالنَّوَافِلُ مَشْرُوعَةٌ لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ كَصَلَاةِ الضُّحَى وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَكَذَلِكَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ كَصَلَاةِ الْجَنَائِزِ . وَالصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لِلْمُسَافِرِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَافِرُ أَسْفَارًا كَثِيرَةً . قَدْ اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ سِوَى عُمْرَةِ حَجَّتِهِ وَحَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَمَعَهُ أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ وَغَزَا أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ غَزَاةٍ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ قَطُّ أَنَّهُ صَلَّى فِي السَّفَرِ لَا جُمُعَةً وَلَا عِيدًا بَلْ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ قَطُّ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ مُسَافِرٌ قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَدَمَيْهِ وَلَا عَلَى رَاحِلَتِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ وَلَا عَلَى مِنْبَرٍ كَمَا كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ كَانَ أَحْيَانًا يَخْطُبُ بِهِمْ فِي السَّفَرِ خُطَبًا عَارِضَةً فَيَنْقُلُونَهَا كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (1) وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ قَطُّ أَحَدٌ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي السَّفَرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ؛ بَلْ وَلَا نَقَلَ عَنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ غَيَّرَ الْعَادَةَ فَجَهَرَ وَخَطَبَ لَنَقَلُوا ذَلِكَ وَيَوْمَ عَرَفَةَ خَطَبَ بِهِمْ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ جَهَرَ وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْخُطْبَةُ لِلْجُمُعَةِ ؛
فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْجُمُعَةِ لَخَطَبَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ أَيَّامِ الْجُمَعِ وَإِنَّمَا كَانَتْ لِأَجْلِ النُّسُكِ . وَلِهَذَا كَانَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّهُ يَخْطُبُ بِعَرَفَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ جُمُعَةٍ ؛ فَثَبَتَ بِهَذَا النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّهَا خُطْبَةٌ لِأَجْلِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ جُمُعَةٍ لَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يُصَلِّ الْعِيدَ بِمِنَى لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ فَقَدْ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَدَخَلَهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَدْرَكَ فِيهَا عِيدَ الْفِطْرِ وَلَمْ يُصَلِّ بِهَا يَوْمَ الْعِيدِ صَلَاةَ الْعِيدِ وَلَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ مُسْلِمٌ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَوْ كَانَ صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ بِمَكَّةَ مَعَ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ لَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَكَذَلِكَ بَدْرٌ كَانَتْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَدْرَكَهُ يَوْمَ الْعِيدِ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ عِيدٍ فِي السَّفَرِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ بِالْمَدِينَةِ إلَّا مَعَهُ كَمَا لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ إلَّا مَعَهُ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ مَسَاجِدُ كَثِيرَةٌ لِكُلِّ دَارٍ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ مَسْجِدٌ وَلَهُمْ إمَامٌ يُصَلِّي بِهِمْ وَالْأَئِمَّةُ يُصَلُّونَ بِهِمْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ بِهِمْ لَا جُمُعَةً وَلَا عِيدًا . فَعُلِمَ أَنَّ الْعِيدَ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْجُمُعَةِ لَا مِنْ جِنْسِ التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ وَلَا مِنْ جِنْسِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ تَطَوُّعٌ : مَمْنُوعٌ
وَلَوْ سَلَّمَ قِيلَ لَهُ هَذِهِ مَخْصُوصَةٌ بِخَصَائِصَ لَا يَشْرَكُهَا فِيهَا غَيْرُهَا وَالسُّنَّةُ مَضَتْ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ بَعْدَهُ وَلَمْ يَكُونُوا فِي سَائِرِ التَّطَوُّعِ يَفْعَلُونَ هَذَا وَكَانَ يَخْرُجُ بِهِمْ إلَى الصَّحْرَاءِ وَيُكَبِّرُ فِيهَا وَيَخْطُبُ بَعْدَهَا وَهَذَا مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ يَوْمِ عِيدٍ شَرِيعَةٌ رَاتِبَةٌ وَالِاسْتِسْقَاءُ لَمْ يَخْتَصَّ بِالصَّلَاةِ ؛ بَلْ كَانَ مَرَّةً يَسْتَسْقِي بِالدُّعَاءِ فَقَطْ وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَرَّةً يَخْرُجُ إلَى الصَّحْرَاءِ وَيَسْتَسْقِي بِصَلَاةٍ وَبِغَيْرِ صَلَاةٍ حَتَّى إنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ فِي الِاسْتِسْقَاءِ صَلَاةً كَأَبِي حَنِيفَةَ فَلَمَّا كَانَ الِاسْتِسْقَاءُ يُشْرَعُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ وَلَا خُطْبَةٍ وَلِآحَادِ النَّاسِ لَمْ يَلْحَقْ بِالْعِيدِ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا بِصَلَاةِ وَخُطْبَةٍ وَهُوَ شَرِيعَةٌ رَاتِبَةٌ لَيْسَ مَشْرُوعًا لِأَمْرٍ عَارِضٍ كَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا اسْتَخْلَفَ لِلنَّاسِ مَنْ يُصَلِّي الْعِيدَ بِالضُّعَفَاءِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ صَلَّى أَرْبَعًا وَلَمْ يَكُنْ النَّاسُ يَعْرِفُونَ قَبْلَ عَلِيٍّ أَنْ يُصَلِّيَ أَحَدٌ الْعِيدَ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ فِي الصَّحْرَاءِ فَإِذَا كَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا صَلَاةُ عِيدٍ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وُحْدَانًا وَجَمَاعَةً . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْرَعْهَا لِلنِّسَاءِ بَلْ أَمَرَهُنَّ أَنْ يَخْرُجْنَ يَوْمَ الْعِيدِ حَتَّى أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْحُيَّضِ فَقَالُوا لَهُ : إنْ لَمْ
يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ جِلْبَابٌ قَالَ { لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا } وَهَذَا تَوْكِيدٌ لِخُرُوجِهِنَّ يَوْمَ الْعِيدِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ قَالَ { وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ } وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُنَّ أَنْ يُصَلِّينَ فِي الْبُيُوتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ فَيُصَلِّينَ ظُهْرًا فَلَوْ كَانَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ مَشْرُوعَةً لَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ لَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ تَوْكِيدِ خُرُوجِهِنَّ . وَأَيْضًا لَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَفَعَلَهُ النِّسَاءُ عَلَى عَهْدِهِ كَمَا كُنَّ يُصَلِّينَ التَّطَوُّعَاتِ . فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ النِّسَاءِ صَلَّى الْعِيدَ عَلَى عَهْدِهِ فِي الْبَيْتِ وَلَا مِنْ الرِّجَالِ بَلْ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِأَمْرِهِ إلَى الْمُصَلَّى عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْعِهِ . وَأَيْضًا فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ لَهُ : إنَّ بِالْمَدِينَةِ ضُعَفَاءَ لَا يُمْكِنُهُمْ الْخُرُوجُ مَعَك فَلَوْ اسْتَخْلَفْت مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ صَلَّى بِهِمْ . فَلَوْ كَانَ الْوَاحِدُ يَفْعَلُهَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى الِاسْتِخْلَافِ الَّذِي لَمْ تَمْضِ بِهِ السُّنَّةُ وَدَلَّ مَا فَعَلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَادِرِ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى وَالْعَاجِزِ عَنْهُ . فَالْقَادِرُ يَخْرُجُ وَالنِّسَاءُ قَادِرَاتٌ عَلَى الْخُرُوجِ فَيَخْرُجْنَ وَلَا يُصَلِّينَ وَحْدَهُنَّ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُسَافِرِينَ فِي الْبَلَدِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُصَلُّوا مَعَ الْإِمَامِ فَلَا يُصَلُّونَ وَحْدَهُمْ بِإِمَامِ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُمْ إذَا لَمْ يُصَلُّوهَا صَلَّوْا وَحْدَهُمْ وَإِذَا كَانُوا فِي بُيُوتِهِمْ صَلَّوْا بِإِمَامٍ كَمَا يُصَلُّونَ فِي الصَّحْرَاءِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ
يَوْمَ الْعِيدِ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا وَعَادَتُهُ يُصَلِّي الْعِيدَ فَهَذَا لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ فَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ فَيُصَلُّونَ جَمَاعَةً وَفُرَادَى وَيُصَلُّونَ أَرْبَعًا كَمَا يُصَلُّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِلَا تَكْبِيرٍ وَلَا جَهْرٍ بِالْقِرَاءَةِ وَلَا أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لِأَنَّ الْعِيدَ لَيْسَ لَهُ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ فَلَا يَكُونُ فِي الْمُبْدَلِ عَنْهُ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ فِيهَا وَفِي الظُّهْرِ أَذَانًا وَإِقَامَةً وَالْجُمُعَةُ كُلُّ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَّى الظُّهْرَ ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ وَاجِبَةٌ فَلَا تَسْقُطُ إلَّا عَمَّنْ صَلَّى الْجُمُعَةَ فَلَا بُدَّ لِكُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَنْ يُصَلِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إمَّا الْجُمُعَةَ وَإِمَّا الظُّهْرَ وَلِهَذَا كَانَ النِّسَاءُ وَالْمُسَافِرُونَ وَغَيْرُهُمْ إذَا لَمْ يُصَلُّوا الْجُمُعَةَ صَلَّوْا ظُهْرًا . وَأَمَّا يَوْمُ الْعِيدِ فَلَيْسَ فِيهِ صَلَاةٌ مَشْرُوعَةٌ غَيْرُ صَلَاةِ الْعِيدِ وَإِنَّمَا تُشْرَعُ مَعَ الْإِمَامِ فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى صَلَاتِهَا مَعَ الْإِمَامِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْمُسَافِرِينَ فَعَلُوهَا مَعَهُ وَهُمْ مَشْرُوعٌ لَهُمْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُمْ إنْ شَاءُوا صَلَّوْهَا مَعَ الْإِمَامِ وَإِنْ شَاءُوا صَلَّوْهَا ظُهْرًا ؛ بِخِلَافِ الْعِيدِ فَإِنَّهُمْ إذَا فَوَّتُوهُ فَوَّتُوهُ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ فَكَانَ صَلَاةُ الْعِيدِ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرْأَةِ أَوْكَدَ مِنْ صَلَاةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَالْجُمُعَةُ لَهَا بَدَلٌ بِخِلَافِ الْعِيدِ . وَكُلٌّ مِنْ الْعِيدَيْنِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَامِ مَرَّةً وَالْجُمُعَةُ تَتَكَرَّرُ فِي الْعَامِ خَمْسِينَ جُمُعَةً وَأَكْثَرَ فَلَمْ يَكُنْ تَفْوِيتُ بَعْضِ الْجُمَعِ كَتَفْوِيتِ الْعِيدِ . وَمَنْ يَجْعَلُ الْعِيدَ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى مَنْ
كَانَ فِي الْبَلَدِ مِنْ الْمُسَافِرِينَ وَالنِّسَاءِ كَمَا كَانَ فَإِنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَانُوا يَشْهَدُونَ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ عَلَى الْأَعْيَانِ أَقْوَى مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ تَطَوُّعٌ فَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ وَلَمْ يُعْرَفْ قَطُّ دَارُ إسْلَامٍ يُتْرَكُ فِيهَا صَلَاةُ الْعِيدِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ . وقَوْله تَعَالَى { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ بِالتَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ أَمْرٌ بِالصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّكْبِيرِ الرَّاتِبِ وَالزَّائِدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَإِذَا لَمْ يُرَخِّصْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِهِ لِلنِّسَاءِ فَكَيْفَ لِلرِّجَالِ . وَمَنْ قَالَ : هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . قِيلَ لَهُ : هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا تَحْصُلُ مَصْلَحَتُهُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ كَدَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَهْرِ الْعَدُوِّ وَلَيْسَ يَوْمُ الْعِيدِ مَصْلَحَةً مُعَيَّنَةً يَقُومُ بِهَا الْبَعْضُ بَلْ صَلَاةُ يَوْمِ الْعِيدِ شَرَعَ لَهَا الِاجْتِمَاعَ أَعْظَمَ مِنْ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ النِّسَاءَ بِشُهُودِهَا وَلَمْ يُؤْمَرْنَ بِالْجُمُعَةِ بَلْ أَذِنَ لَهُنَّ فِيهَا وَقَالَ : { صَلَاتُكُنَّ فِي بُيُوتِكُنَّ خَيْرٌ لَكُنَّ } . ثُمَّ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ بِأَيِّ عَدَدٍ تَحْصُلُ ؟ فَمَهْمَا قَدَّرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ تَحَكُّمًا سَوَاءٌ قِيلَ بِوَاحِدِ أَوْ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ . وَإِذَا قِيلَ بِأَرْبَعِينَ فَهُوَ قِيَاسٌ عَلَى الْجُمُعَةِ وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ الْعِيدِ
إلَّا لِعَجْزِهِ عَنْهُ وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْ الْجُمُعَةِ لِسَفَرٍ أَوْ أُنُوثَةٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَكَذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنْ فِي الْمِصْرِ مِنْ الْمُسَافِرِينَ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ الْإِتْمَامُ كَمَا لَوْ صَلَّوْا خَلْفَ مَنْ يُتِمُّ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ الْإِتْمَامَ تَبَعًا لِلْإِمَامِ كَذَلِكَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ تَبَعًا لِلْمُقِيمِينَ كَمَا أَوْجَبَهَا عَلَى الْمُقِيمِ غَيْرِ الْمُسْتَوْطِنِ تَبَعًا مَنْ أَثْبَتَ نَوْعًا ثَالِثًا بَيْنَ الْمُقِيمِ الْمُسْتَوْطِنِ وَبَيْنَ الْمُسَافِرِ وَهُوَ الْمُقِيمُ غَيْرُ الْمُسْتَوْطِنِ فَقَالَ : تَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ . وَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ إلَّا مُقِيمٌ وَمُسَافِرٌ . وَالْمُقِيمُ هُوَ الْمُسْتَوْطِنُ وَمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ فَهُوَ مُسَافِرٌ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَهَؤُلَاءِ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ لِأَنَّ قَوْلَهُ { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ } وَنَحْوِهَا يَتَنَاوَلُهُمْ وَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ إلَّا مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْهَا كَالْمَرِيضِ وَالْمَحْبُوسِ وَهَؤُلَاءِ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ؛ لَكِنْ الْمُسَافِرُونَ لَا يَعْقِدُونَ جُمُعَةً لَكِنْ إذَا عَقَدَهَا أَهْلُ الْمِصْرِ صَلَّوْا مَعَهُمْ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ إتْمَامِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ الْمُقِيمِ . وَكَذَلِكَ وُجُوبُهَا عَلَى الْعَبْدِ قَوِيٌّ : إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا إذَا أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ وَالْمُسَافِرُ فِي الْمِصْرِ لَا يُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِنْ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَكَذَلِكَ الْجُمُعَةُ وَأَمَّا إفْطَارُهُ : فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَانَ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ مُفْطِرِينَ وَمَا نُقِلَ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِابْتِدَاءِ
الصَّوْمِ فَالْفِطْرُ كَالْقَصْرِ ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ مَشْرُوعٌ لِلْمُسَافِرِ فِي الْإِقَامَاتِ الَّتِي تَتَخَلَّلُ السَّفَرَ كَالْقَصْرِ ؛ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَإِنَّهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا فِي حَالِ السَّيْرِ وَلِأَنَّ اللَّهَ عَلَّقَ الْفِطْرَ وَالْقَصْرَ بِمُسَمَّى السَّفَرِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَلَيْسَ فِيهِ لَفْظُ إتْمَامٍ بَلْ فِيهِ الْفِعْلُ الَّذِي لَا عُمُومَ لَهُ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الَّذِي يُبَاحُ لِلْعُذْرِ مُطْلَقًا كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ تُبَاحُ لِلْعُذْرِ فِي السَّفَرِ فِي الْفَرِيضَةِ مَعَ الْعُذْرِ الْمَانِعِ مِنْ النُّزُولِ وَالْمُتَطَوِّعُ مُحْتَاجٌ إلَى دَوَامِ التَّطَوُّعِ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ مَعَ النُّزُولِ وَالسَّفَرِ وَإِذَا جَازَ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ إمْكَانِ الْقِيَامِ فَعَلَى الرَّاحِلَةِ لِلْمُسَافِرِ أجوز . وَكَانُوا فِي الْعِيدِ يَأْخُذُونَ مِنْ الصِّبْيَانِ مَنْ يَأْخُذُوهُ كَمَا شَهِدَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ احْتَلَمَ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ شُهُودِهَا مَعَ الْإِمَامِ فَهَذَا أَهْلٌ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ فَرَّقَتْ فِي الْمَأْمُورَاتِ كُلِّهَا بَيْنَ الْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ فَالْقَادِرُ عَلَيْهَا إذَا لَمْ يَأْتِ بِشُرُوطِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلُهَا وَالْعَاجِزُ إذَا عَجَزَ عَنْ بَعْضِ الشُّرُوطِ سَقَطَ عَنْهُ فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الصَّلَاةِ إلَى الْقِبْلَةِ قَائِمًا بِطِهَارَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِدُونِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْعَاجِزِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ كَيْفَمَا أَمْكَنَهُ فَيُصَلِّي عريانا وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَبِالتَّيَمُّمِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا ذَلِكَ فَهَكَذَا يَوْمُ الْعِيدِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ مَعَ الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ وَجَوَّزَ لَهُ أَنْ
يَفْعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِيَحْصُلَ لَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيُصَلِّي أَرْبَعًا وَتَكُونُ الرَّكْعَتَانِ بَدَلَ الْخُطْبَةِ الَّتِي لَمْ يُصَلِّ بِهَا كَمَا كَانَتْ الْخُطْبَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمَةً مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ وَالتَّكْبِيرُ إنَّمَا شُرِعَ فِي الصَّلَاةِ الثُّنَائِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ مَعَهَا خُطْبَةٌ وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْجُمُعَةِ يَجْهَرُ الْإِمَامُ فِي الثُّنَائِيَّةِ وَلَا يَجْهَرُ مَنْ يُصَلِّي الْأَرْبَعَ كَذَلِكَ يَوْمُ الْعِيدِ لَا يَجْهَرُ مَنْ يُصَلِّي الْأَرْبَعَ فَالْمَحْبُوسُ وَالْمَرِيضُ وَاَلَّذِي خَرَجَ لِيُصَلِّيَ فَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ مَعَ الْإِمَامِ يُصَلُّونَ يَوْمَ الْعِيدِ بِخِلَافِ مَنْ تَعَمَّدَ التَّرْكَ . فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَد فِيمَنْ فَاتَهُ الْعِيدُ هَلْ يُصَلِّي أَرْبَعًا أَوْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ؟ عَلَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ قَوْمٍ مُقِيمِينَ بِقَرْيَةِ وَهُمْ دُونَ أَرْبَعِينَ مَاذَا يَجِبُ
عَلَيْهِمْ ؛ أَجُمُعَةٌ ؟ أَمْ ظُهْرٌ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا كَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فَإِنَّهُمْ
يُصَلُّونَ ظُهْرًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي
الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَد
وَأَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : إذَا كَانُوا أَرْبَعِينَ صَلَّوْا جُمُعَةً
.
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؛ هَلْ فَعَلَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ مَنْصُوصٌ فِي مَذْهَبٍ
مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمْ ؟ وَقَوْلُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ } " .
هَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ ؟ أَمْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ
؟ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ
الْأَذَانِ شَيْئًا وَلَا نَقَلَ هَذَا عَنْهُ أَحَدٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يُؤَذَّنُ عَلَى عَهْدِهِ إلَّا إذَا قَعَدَ
عَلَى الْمِنْبَرِ وَيُؤَذِّنُ بِلَالٌ ثُمَّ يَخْطُبُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُطْبَتَيْنِ ثُمَّ يُقِيمُ بِلَالٌ فَيُصَلِّي النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ فَمَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ
يُصَلِّيَ بَعْدَ الْأَذَانِ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ
يُصَلُّونَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَقَلَ عَنْهُ أَحَدٌ
أَنَّهُ صَلَّى فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَا وَقَّتَ
بِقَوْلِهِ : صَلَاةٌ
مُقَدَّرَةٌ قَبْلَ الْجُمُعَةِ بَلْ أَلْفَاظُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا التَّرْغِيبُ فِي الصَّلَاةِ إذَا قَدِمَ الرَّجُلُ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ . كَقَوْلِهِ : " مَنْ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ " . وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا إذَا أَتَوْا الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُصَلُّونَ مِنْ حِينِ يَدْخُلُونَ مَا تَيَسَّرَ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي عَشْرَ رَكَعَاتٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ جَمَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتِ مُقَدَّرَةٌ بِعَدَدِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِعْلِهِ . وَهُوَ لَمْ يَسُنَّ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَا بِقَوْلِهِ وَلَا فِعْلِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ قَبْلَهَا سُنَّةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا رَكْعَتَيْنِ كَمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا أَرْبَعًا كَمَا نُقِلَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هِيَ
ظُهْرٌ
مَقْصُورَةٌ وَتَكُونُ سُنَّةُ الظُّهْرِ سُنَّتَهَا وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ
وَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجُمُعَةَ مَخْصُوصَةٌ بِأَحْكَامٍ تُفَارِقُ بِهَا ظُهْرَ
كُلِّ يَوْمٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ سُمِّيَتْ ظُهْرًا مَقْصُورَةً
فَإِنَّ الْجُمُعَةَ يُشْتَرَطُ لَهَا الْوَقْتُ فَلَا تُقْضَى وَالظُّهْرُ
تُقْضَى وَالْجُمُعَةُ يُشْتَرَطُ لَهَا الْعَدَدُ وَالِاسْتِيطَانُ وَإِذْنُ
الْإِمَامِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالظُّهْرُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُتَلَقَّى أَحْكَامُ الْجُمُعَةِ مِنْ أَحْكَامِ الظُّهْرِ
مَعَ اخْتِصَاصِ الْجُمُعَةِ بِأَحْكَامٍ تُفَارِقُ بِهَا الظُّهْرَ فَإِنَّهُ
إذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ تُشَارِكُ الظُّهْرَ فِي حُكْمٍ وَتُفَارِقُهَا فِي
حُكْمٍ لَمْ يُمْكِنْ إلْحَاقُ مَوْرِدِ النِّزَاعِ بِأَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلِ
فَلَيْسَ جَعْلُ السُّنَّةِ مِنْ مَوَارِدِ الِاشْتِرَاكِ بِأَوْلَى مِنْ
جَعْلِهَا مِنْ مَوَارِدِ الِافْتِرَاقِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي فِي
سَفَرِهِ سُنَّةَ الظُّهْرِ الْمَقْصُورَةِ لَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا
وَإِنَّمَا كَانَ يُصَلِّيهَا إذَا أَتَمَّ الظُّهْرَ فَصَلَّى أَرْبَعًا فَإِذَا
كَانَتْ سُنَّتُهُ الَّتِي فَعَلَهَا فِي الظُّهْرِ الْمَقْصُورَةِ خِلَافَ
التَّامَّةِ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ وَكَانَ السَّبَبُ
الْمُقْتَضِي لِحَذْفِ بَعْضِ الْفَرِيضَةِ أَوْلَى بِحَذْفِ السُّنَّةِ
الرَّاتِبَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : لَوْ كُنْت مُتَطَوِّعًا
لَأَتْمَمْت الْفَرِيضَةَ . فَإِنَّهُ لَوْ اُسْتُحِبَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ
يُصَلِّيَ أَرْبَعًا لَكَانَتْ صَلَاتُهُ لِلظُّهْرِ أَرْبَعًا أَوْلَى مِنْ أَنْ
يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَرْضًا وَرَكْعَتَيْنِ سُنَّةً .
وَهَذَا لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي فِي السَّفَرِ إلَّا رَكْعَتَيْنِ : الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْعِشَاءَ . وَكَذَلِكَ لَمَّا حَجَّ بِالنَّاسِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَمْ يُصَلِّ بِهِمْ بِمِنَى وَغَيْرِهَا إلَّا رَكْعَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ لَمْ يُصَلِّ إلَّا رَكْعَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ عُمَرُ بَعْدَهُ لَمْ يُصَلِّ إلَّا رَكْعَتَيْنِ . وَمَنْ نَقَلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ أَوْ الْعِشَاءَ فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا فَقَدْ أَخْطَأَ . وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ هُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ فِي الْأَصْلِ مَعَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ التَّحْرِيفِ . فَإِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ : أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْطَرْت وَصُمْت ؟ وَقَصَرْت وَأَتْمَمْت ؟ فَقَالَ : أَصَبْت يَا عَائِشَةُ } " فَهَذَا مَعَ ضَعْفِهِ وَقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُفْطِرُ وَيَصُومُ وَيَقْصُرُ وَيُتِمُّ . فَظَنَّ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْحَدِيثَ فِيهِ أَنَّهَا رَوَتْ الْأَمْرَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ إلَّا قَوْلًا مَرْجُوحًا لِلشَّافِعِيِّ . وَأَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ يَكْرَهُونَ التَّرْبِيعَ لِلْمُسَافِرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَنَصِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ التَّرْبِيعُ
كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ : كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . فَيُقَالُ : لَوْ كَانَ اللَّهُ يُحِبُّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ لَكَانَ يَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ أَرْبَعًا فَإِنَّ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ بِبَعْضِ الظُّهْرِ أَفْضَلُ مِنْ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِالتَّطَوُّعِ مَعَ الظُّهْرِ . وَلِهَذَا أَوْجَبَ عَلَى الْمُقِيمِ أَرْبَعًا فَلَوْ أَرَادَ الْمُقِيمُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَرْضًا وَرَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ وَيَنْهَاهُ عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَاَلَّذِي أَمَرَهُ بِهِ خَيْرٌ مِنْ الَّذِي نَهَاهُ عَنْهُ فَعُلِمَ أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَهَا رَكْعَتَيْنِ مَعَ رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا . فَلَمَّا كَانَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَسْتَحِبَّ لِلْمُسَافِرِ التَّرْبِيعَ بِخَيْرِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ لَا يَسْتَحِبَّ التَّرْبِيعَ بِالْأَمْرِ الْمَرْجُوحِ عِنْدَهُ أَوْلَى . فَثَبَتَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الصَّحِيحِ أَنَّ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَكْمَلُ الْأُمُورِ وَأَنَّ هَدْيَهُ خَيْرُ الْهَدْيِ وَأَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَرْضِ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْرِنَ بِهِمَا رَكْعَتَيْ السُّنَّةِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْجُمُعَةَ إذَا كَانَتْ ظُهْرًا مَقْصُورَةً لَمْ يَكُنْ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَقْرِنَ بِهَا سُنَّةَ ظُهْرِ الْمُقِيمِ بَلْ تُجْعَلُ كَظُهْرِ الْمُسَافِرِ الْمَقْصُورَةِ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ وَيُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ
لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ . وَهَذَا لِأَنَّ الْفَجْرَ لَمْ تُقْصَرْ فِي السَّفَرِ فَبَقِيَتْ سُنَّتُهَا عَلَى حَالِهَا بِخِلَافِ الْمَقْصُورَاتِ فِي السَّفَرِ وَالْوِتْرُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ كَسَائِرِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَهُوَ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ وَسُنَّةُ الْفَجْرِ تَدْخُلُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . فَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِ فِي السَّفَرِ لِاسْتِقْلَالِهِ وَقِيَامِ الْمُقْتَضِي لَهُ . وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَلَوْ كَانَ الْأَذَانَانِ عَلَى عَهْدِهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ . ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ : لِمَنْ شَاءَ } كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً . فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ قَبْلَ الْعَصْرِ وَقَبْلَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ رَاتِبَةٍ . وَكَذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ بَيْنَ أَذَانَيْ الْمَغْرِبِ وَهُوَ يَرَاهُمْ فَلَا يَنْهَاهُمْ وَلَا يَأْمُرُهُمْ وَلَا يَفْعَلُ هُوَ ذَلِكَ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ جَائِزٌ . وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الصَّلَاةِ قَبْلَ الْجُمُعَةِ بِقَوْلِهِ : { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ } " . وَعَارَضَهُ غَيْرُهُ فَقَالَ : الْأَذَانُ الَّذِي عَلَى الْمَنَابِرِ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ عُثْمَانَ أَمَرَ بِهِ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَبْلُغُهُمْ الْأَذَانُ حِينَ خُرُوجِهِ وَقُعُودِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ . وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْأَذَانُ لَمَّا سَنَّهُ عُثْمَانُ
وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ صَارَ أَذَانًا شَرْعِيًّا وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَذَانِ الثَّانِي جَائِزَةً حَسَنَةً وَلَيْسَتْ سُنَّةً رَاتِبَةً كَالصَّلَاةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ . وَحِينَئِذٍ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ . وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَد يَدُلُّ عَلَيْهِ . وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يَكُونُ تَرْكُهَا أَفْضَلَ إذَا كَانَ الْجُهَّالُ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ أَوْ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَتُتْرَكُ حَتَّى يَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّهَا لَيْسَتْ سُنَّةً رَاتِبَةً . وَلَا وَاجِبَةً . لَا سِيَّمَا إذَا دَاوَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا فَيَنْبَغِي تَرْكُهَا أَحْيَانًا حَتَّى لَا تُشْبِهَ الْفَرْضَ كَمَا اسْتَحَبَّ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُدَاوَمَ عَلَى قِرَاءَةِ السَّجْدَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا فَإِذَا كَانَ يَكْرَهُ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى ذَلِكَ فَتَرْكُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى مَا لَمْ يَسُنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى . وَإِنْ صَلَّاهَا الرَّجُلُ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ أَحْيَانًا ؛ لِأَنَّهَا تَطَوُّعٌ مُطْلَقٌ أَوْ صَلَاةٌ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ كَمَا يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ لَا لِأَنَّهَا سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ فَهَذَا جَائِزٌ . وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مَعَ قَوْمٍ يُصَلُّونَهَا فَإِنْ كَانَ مُطَاعًا إذَا تَرَكَهَا - وَبَيَّنَ لَهُمْ السُّنَّةَ - لَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ بَلْ عَرَفُوا السُّنَّةَ فَتَرْكُهَا حَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَاعًا وَرَأَى أَنَّ فِي صَلَاتِهَا تَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ أَوْ دَفْعًا لِلْخِصَامِ وَالشَّرِّ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ بَيَانِ الْحَقِّ لَهُمْ وَقَبُولِهِمْ لَهُ
وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا أَيْضًا حَسَنٌ . فَالْعَمَلُ الْوَاحِدُ يَكُونُ فِعْلُهُ مُسْتَحَبًّا تَارَةً وَتَرْكُهُ تَارَةً بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَجَّحُ مِنْ مَصْلَحَةِ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَالْمُسْلِمُ قَدْ يَتْرُكُ الْمُسْتَحَبَّ إذَا كَانَ فِي فِعْلِهِ فَسَادٌ رَاجِحٌ عَلَى مَصْلَحَتِهِ كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاءَ الْبَيْتِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ وَقَالَ لِعَائِشَةَ : { لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ لَنَقَضْت الْكَعْبَةَ وَلَأَلْصَقْتهَا بِالْأَرْضِ وَلَجَعَلْت لَهَا بَابَيْنِ بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ } وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَتَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ لِلْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ وَهُوَ حِدْثَانُ عَهْدِ قُرَيْشٍ بِالْإِسْلَامِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّنْفِيرِ لَهُمْ فَكَانَتْ الْمَفْسَدَةُ رَاجِحَةً عَلَى الْمَصْلَحَةِ . وَلِذَلِكَ اسْتَحَبَّ الْأَئِمَّةُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ أَنْ يَدَعَ الْإِمَامُ مَا هُوَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ إذَا كَانَ فِيهِ تَأْلِيفُ الْمَأْمُومِينَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ فَصْلُ الْوِتْرِ أَفْضَلَ بِأَنْ يُسَلِّمَ فِي الشَّفْعِ ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَةَ الْوِتْرِ وَهُوَ يَؤُمُّ قَوْمًا لَا يَرَوْنَ إلَّا وَصْلَ الْوِتْرِ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الْأَفْضَلِ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الْحَاصِلَةُ بِمُوَافَقَتِهِ لَهُمْ بِوَصْلِ الْوِتْرِ أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ فَصْلِهِ مَعَ كَرَاهَتِهِمْ لِلصَّلَاةِ خَلْفَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْمُخَافَتَةَ بِالْبَسْمَلَةِ أَفْضَلَ أَوْ الْجَهْرَ بِهَا وَكَانَ الْمَأْمُومُونَ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ
فَفَعَلَ الْمَفْضُولَ عِنْدَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُوَافَقَةِ وَالتَّأْلِيفِ الَّتِي هِيَ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ كَانَ جَائِزًا حَسَنًا . وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ خِلَافَ الْأَفْضَلِ لِأَجْلِ بَيَانِ السُّنَّةِ وَتَعْلِيمِهَا لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا كَانَ حَسَنًا مِثْلَ أَنْ يَجْهَرَ بِالِاسْتِفْتَاحِ أَوْ التَّعَوُّذِ أَوْ الْبَسْمَلَةِ لِيَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَهَرَ بِالِاسْتِفْتَاحِ فَكَانَ يُكَبِّرُ وَيَقُولُ : " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك وَلَا إلَهَ غَيْرُك " . قَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ : صَلَّيْت خَلْفَ عُمَرَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً فَكَانَ يُكَبِّرُ ثُمَّ يَقُولُ ذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَلِهَذَا شَاعَ هَذَا الِاسْتِفْتَاحُ حَتَّى عَمِلَ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ . وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَجْهَرَانِ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَكَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ . وَهَذَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْجُمْهُورُ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ الْجَهْرَ بِهَا سُنَّةً رَاتِبَةً كَانَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا فِي الصَّلَاةِ سُنَّةٌ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ جَهْرًا وَذَكَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ أَنَّهَا سُنَّةٌ . وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى فِيهَا قِرَاءَةً بِحَالِ كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْقِرَاءَةَ فِيهَا سُنَّةً كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَغَيْرِهِ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ الْقِرَاءَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ كَالصَّلَاةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَتْ وَاجِبَةً . وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ فَعَلُوا هَذَا وَهَذَا وَكَانَ كِلَا الْفِعْلَيْنِ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِقِرَاءَةٍ وَغَيْرِ قِرَاءَةٍ كَمَا كَانُوا يُصَلُّونَ تَارَةً بِالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ وَتَارَةً بِغَيْرِ جَهْرٍ بِهَا وَتَارَةً بِاسْتِفْتَاحٍ وَتَارَةً بِغَيْرِ اسْتِفْتَاحٍ وَتَارَةً بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ وَتَارَةً بِغَيْرِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَتَارَةً يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَتَيْنِ وَتَارَةً تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً وَتَارَةً يَقْرَءُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ بِالسِّرِّ وَتَارَةً لَا يَقْرَءُونَ وَتَارَةً يُكَبِّرُونَ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا وَتَارَةً خَمْسًا وَتَارَةً سَبْعًا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا وَفِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا . كُلُّ هَذَا ثَابِتٌ عَنْ الصَّحَابَةِ . كَمَا ثَبَتَ عَنْهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُرَجِّعُ فِي الْأَذَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُرَجِّعْ فِيهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُوتِرُ الْإِقَامَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَشْفَعُهَا وَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهَا أَرْجَحَ مِنْ الْآخَرِ فَمَنْ فَعَلَ الْمَرْجُوحَ فَقَدْ فَعَلَ جَائِزًا . وَقَدْ يَكُونُ فِعْلُ الْمَرْجُوحِ أَرْجَحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ كَمَا يَكُونُ تَرْكُ الرَّاجِحِ أَرْجَحَ أَحْيَانًا لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ . وَهَذَا وَاقِعٌ فِي عَامَّةِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ فِي جِنْسِهِ أَفْضَلُ قَدْ يَكُونُ فِي مَوَاطِنَ غَيْرِهِ أَفْضَلُ مِنْهُ كَمَا أَنَّ جِنْسَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْقِرَاءَةِ وَجِنْسَ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الذِّكْرِ وَجِنْسَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ . ثُمَّ الصَّلَاةُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَالْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَالذِّكْرُ هُنَاكَ أَفْضَلُ مِنْهَا وَالدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَقَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ الْمَفْضُولُ أَفْضَلَ بِحَسَبِ حَالِ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ ؛ لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْ الْأَفْضَلِ أَوْ لِكَوْنِ مَحَبَّتِهِ وَرَغْبَتِهِ وَاهْتِمَامِهِ وَانْتِفَاعِهِ بِالْمَفْضُولِ أَكْثَرَ فَيَكُونُ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ لِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ مَزِيدِ عَمَلِهِ وَحُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ وَانْتِفَاعِهِ كَمَا أَنَّ الْمَرِيضَ يَنْتَفِعُ بِالدَّوَاءِ الَّذِي يَشْتَهِيهِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِمَا لَا يَشْتَهِيهِ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ ذَلِكَ أَفْضَلَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ صَارَ الذِّكْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ خَيْرًا مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةُ لِبَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ خَيْرًا مِنْ الصَّلَاةِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لِكَمَالِ انْتِفَاعِهِ بِهِ لَا لِأَنَّهُ فِي جِنْسِهِ أَفْضَلُ .
وَهَذَا الْبَابُ " بَابُ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَلَى بَعْضٍ " إنْ لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ التَّفْضِيلُ وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْأَحْوَالِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَإِلَّا وَقَعَ فِيهَا اضْطِرَابٌ كَثِيرٌ . فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ إذَا اعْتَقَدَ اسْتِحْبَابَ فِعْلٍ وَرُجْحَانَهُ يُحَافِظُ عَلَيْهِ مَا لَا يُحَافِظُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى الْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ وَالْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَجِدُهُ فِيمَنْ يَخْتَارُ بَعْضَ هَذِهِ الْأُمُورِ فَيَرَاهَا شِعَارًا لِمَذْهَبِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا رَأَى تَرْكَ ذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلَ يُحَافِظُ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّرْكِ أَعْظَمَ مِنْ مُحَافَظَتِهِ عَلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَجِدُهُ فِيمَنْ يَرَى التَّرْكَ شِعَارًا لِمَذْهَبِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ . وَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَيُوَسِّعَ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُؤَلِّفَ مَا أَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَرَسُولُهُ وَيُرَاعِيَ فِي ذَلِكَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَيَعْلَمَ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ بَعَثَهُ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ وَأَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِنْسَانِ مِنْ التَّفْصِيلِ مَا يَحْفَظُ بِهِ هَذَا الْإِجْمَالَ وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُ هَذَا مُجْمَلًا وَيَدَعُهُ عِنْدَ التَّفْصِيلِ : إمَّا جَهْلًا وَإِمَّا ظُلْمًا وَإِمَّا اتِّبَاعًا لِلْهَوَى . فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا السُّنَّةُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ
الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ } كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ
كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ : وَبَعْدَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ
وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ } . وَأَمَّا
الظُّهْرُ فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { : أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَهَا
رَكْعَتَيْنِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ : " { أَنَّهُ كَانَ
يُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا . } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ بَنَى اللَّهُ
لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } " . وَجَاءَ مُفَسَّرًا فِي السُّنَنِ : {
أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ
الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ }
. فَهَذِهِ هِيَ السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الصَّحِيحِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ . مَدَارُهَا
عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ : حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ
حَبِيبَةَ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ
بِاللَّيْلِ : إمَّا إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَإِمَّا ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً
فَكَانَ مَجْمُوعُ صَلَاتِهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَرْضُهُ وَنَفْلُهُ
نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً .
وَالنَّاسُ فِي هَذِهِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : مِنْهُمْ مَنْ لَا يُوَقِّتُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا . كَقَوْلِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ لَا يَرَى سُنَّةً إلَّا الْوِتْرَ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ . وَكَانَ يَقُولُ إنَّمَا يُوَقِّتُ أَهْلُ الْعِرَاقِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّرُ فِي ذَلِكَ أَشْيَاءَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ بَلْ بَاطِلَةٍ كَمَا يُوجَدُ فِي مَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَبَعْضِ مَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُوجَدُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْمُقَدَّرَةِ وَالْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ مَا يَعْلَمُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالسُّنَّةِ أَنَّهُ مَكْذُوبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَنْ رَوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا } أَوْ { أَنَّهُ قَضَى سُنَّةَ الْعَصْرِ } " أَوْ { أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ سِتًّا } أَوْ " بَعْدَهَا أَرْبَعًا " أَوْ { أَنَّهُ كَانَ يُحَافِظُ عَلَى الضُّحَى } . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي " الرَّقَائِقِ وَالْفَضَائِلِ " فِي الصَّلَوَاتِ الْأُسْبُوعِيَّةِ وَالْحَوْلِيَّةِ : كَصَلَاةِ يَوْمِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَالسَّبْتِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي حَامِدٍ وَعَبْدِ الْقَادِرِ وَغَيْرِهِمْ . وَكَصَلَاةِ " الْأَلْفِيَّةِ " الَّتِي فِي أَوَّلِ رَجَبٍ وَنِصْفِ شَعْبَانَ وَالصَّلَاةِ " الِاثْنَيْ عَشَرِيَّةَ " الَّتِي فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَالصَّلَاةِ الَّتِي فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ
رَجَبٍ وَصَلَوَاتٍ أُخَرَ تُذْكَرُ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ وَصَلَاةِ لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَدِيثِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ وَلَكِنْ بَلَغَ ذَلِكَ أَقْوَامًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَظَنُّوهُ صَحِيحًا فَعَمِلُوا بِهِ وَهُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى حُسْنِ قَصْدِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ لَا عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ . وَأَمَّا مَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ السُّنَّةُ فَظَنَّ أَنَّ غَيْرَهَا خَيْرٌ مِنْهَا فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ بَلْ كَافِرٌ . وَالْقَوْلُ الْوَسَطُ الْعَدْلُ هُوَ مَا وَافَقَ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ الثَّابِتَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا } . وَقَدْ رُوِيَ السِّتُّ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ جَمْعًا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . وَالسُّنَّةُ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا . كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا بِقِيَامٍ أَوْ كَلَامٍ } فَلَا يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . يَصِلُ السَّلَامَ بِرَكْعَتَيْ السُّنَّةِ فَإِنَّ هَذَا رُكُوبٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَفِي هَذَا مِنْ الْحِكْمَةِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَغَيْرِ الْفَرْضِ كَمَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِ الْعِبَادَةِ . وَلِهَذَا اُسْتُحِبَّ تَعْجِيلُ الْفُطُورِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ وَالْأَكْلُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَنُهِيَ عَنْ اسْتِقْبَالِ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَهَذَا كُلُّهُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الصِّيَامِ وَغَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا . وَهَكَذَا تَمْيِيزُ الْجُمُعَةِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ مِنْ غَيْرِهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَنْوُونَ الْجُمُعَةَ بَلْ يَنْوُونَ الظُّهْرَ وَيُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ سَلَّمُوا وَمَا سَلَّمُوا فَيُصَلُّونَ ظُهْرًا وَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ السُّنَّةَ فَإِذَا حَصَلَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ كَانَ فِي هَذَا مَنْعٌ لِهَذِهِ الْبِدْعَةِ وَهَذَا لَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ :
فَهَلْ يَجْرِي إلَى أَنْ يَأْتِيَ الصَّلَاةَ أَوْ يَأْتِيَ هَوْنًا وَلَوْ
فَاتَتْهُ ؟.
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا خَشِيَ فَوْتَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يُسْرِعُ حَتَّى
يُدْرِكَ مِنْهَا رَكْعَةً فَأَكْثَرَ وَأَمَّا إذَا كَانَ يُدْرِكُهَا مَعَ
الْمَشْيِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ فَهَذَا أَفْضَلُ بَلْ هُوَ السُّنَّةُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالسَّجْدَةِ : هَلْ تَجِبُ الْمُدَاوَمَةُ
عَلَيْهَا أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَتْ قِرَاءَةُ { الم } { تَنْزِيلُ } الَّتِي فِيهَا
السَّجْدَةُ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ ذَوَاتِ السُّجُودِ وَاجِبَةً فِي فَجْرِ
الْجُمُعَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ
ذَمَّ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَالٌّ مُخْطِئٌ يَجِبُ عَلَيْهِ
أَنْ يَتُوبَ مِنْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَكَرَاهِيَتِهِ . فَعِنْدَ مَالِكٍ يُكْرَهُ أَنْ يُقْرَأَ بِالسَّجْدَةِ فِي الْجَهْرِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَجَدَ فِي الْعِشَاءِ بـ { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ { الم } { تَنْزِيلُ } و { هَلْ أَتَى } } . وَعِنْدَ مَالِكٍ يُكْرَهُ أَنْ يَقْصِدَ سُورَةً بِعَيْنِهَا . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فَيَسْتَحِبُّونَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِثْلَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْجُمُعَةِ . وَالذَّارِيَاتُ وَاقْتَرَبَتْ فِي الْعِيدِ وَالَمْ تَنْزِيلُ وَهَلْ أَتَى فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ . لَكِنْ هُنَا مَسْأَلَتَانِ نَافِعَتَانِ : ( إحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ بِسُورَةٍ فِيهَا سَجْدَةٌ أُخْرَى بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَلَيْسَ الِاسْتِحْبَابُ لِأَجْلِ السَّجْدَةِ بَلْ لِلسُّورَتَيْنِ وَالسَّجْدَةُ جَاءَتْ اتِّفَاقًا فَإِنَّ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِيهِمَا ذِكْرُ مَا يَكُونُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ . ( الثَّانِيَةُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا بِحَيْثُ يَتَوَهَّمُ الْجُهَّالُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَأَنَّ تَارِكَهَا مُسِيءٌ بَلْ يَنْبَغِي تَرْكُهَا أَحْيَانًا لِعَدَمِ وُجُوبِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ قَرَأَ " سُورَةِ السَّجْدَةِ " يَوْمَ الْجُمُعَةِ : هَلْ
الْمَطْلُوبُ السَّجْدَةُ فَيُجْزِئُ بَعْضُ السُّورَةِ وَالسَّجْدَةُ فِي
غَيْرِهَا ؟ أَمْ الْمَطْلُوبُ السُّورَةُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ الْمَقْصُودُ قِرَاءَةُ السُّورَتَيْنِ : { الم } {
تَنْزِيلُ } و : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ } لِمَا فِيهِمَا مِنْ ذِكْرِ
خَلْقِ آدَمَ وَقِيَامِ السَّاعَةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ السَّجْدَةَ فَلَوْ قَصَدَ الرَّجُلُ قِرَاءَةَ
سُورَةِ سَجْدَةٍ أُخْرَى كُرِهَ ذَلِكَ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقْرَأُ السُّورَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا فَالسُّنَّةُ قِرَاءَتُهُمَا
بِكَمَالِهِمَا . وَلَا يَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يَظُنَّ
الْجَاهِلُ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ بَلْ يَقْرَأُ أَحْيَانًا غَيْرَهُمَا مِنْ
الْقُرْآنِ . وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد اللَّذَانِ يَسْتَحِبَّانِ قِرَاءَتَهُمَا
. وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ قَصْدُ
قِرَاءَتِهِمَا .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَامَ لِيَقْضِيَ مَا
عَلَيْهِ . فَهَلْ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
بَلْ يُخَافِتُ بِالْقِرَاءَةِ وَلَا يَجْهَرُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا قَامَ
يَقْضِي فَإِنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِيهِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ
وَهُوَ فِيمَا يُدْرِكُهُ فِي حُكْمِ الْمُؤْتَمِّ ؛ وَلِهَذَا يَسْجُدُ
الْمَسْبُوقُ إذَا سَهَا فِيمَا يَقْضِيهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَسْبُوقُ
إنَّمَا يَجْهَرُ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ الْمُنْفَرِدُ فَمَنْ كَانَ مِنْ
الْعُلَمَاءِ مَذْهَبُهُ أَنْ يَجْهَرَ الْمُنْفَرِدُ فِي الْعِشَاءَيْنِ
وَالْفَجْرِ فَإِنَّهُ يَجْهَرُ إذَا قَضَى الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَمَنْ
كَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ لَا يَجْهَرُ فَإِنَّهُ لَا يَجْهَرُ
الْمَسْبُوقُ عِنْدَهُ . وَالْجُمُعَةُ لَا يُصَلِّيهَا أَحَدٌ مُنْفَرِدًا فَلَا
يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجْهَرَ فِيهَا الْمُنْفَرِدُ . وَالْمَسْبُوقُ كَالْمُنْفَرِدِ
فَلَا يَجْهَرُ لَكِنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ ضِمْنًا وَتَبَعًا وَلَا
يُشْتَرَطُ فِي التَّابِعِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَتْبُوعِ وَلِهَذَا لَا
يُشْتَرَطُ لِمَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ الْعَدَدُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . لَكِنْ
مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ
الصَّلَاةَ فَهُوَ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ كَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ
قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ،
وَمَنْ
أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِنَّهُ
مُدْرِكٌ وَإِنْ كَانَتْ بَقِيَّةُ الصَّلَاةِ فُعِلَتْ خَارِجَ الْوَقْتِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي جَامِعِ الْقَلْعَةِ : هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ مَعَ أَنَّ
فِي الْبَلَدِ خُطْبَةً أُخْرَى مَعَ وُجُودِ سُورِهَا وَغَلْقِ أَبْوَابِهَا أَمْ
لَا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا جُمُعَةً لِأَنَّهَا مَدِينَةٌ أُخْرَى .
كَمِصْرِ وَالْقَاهِرَةِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ كَمَدِينَةٍ أُخْرَى فَإِقَامَةُ الْجُمُعَةِ
فِي الْمَدِينَةِ الْكَبِيرَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ لِلْحَاجَةِ يَجُوزُ عِنْدَ
أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا بُنِيَتْ بَغْدَادُ وَلَهَا جَانِبَانِ
أَقَامُوا فِيهَا جُمُعَةً فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ وَجُمُعَةً فِي الْجَانِبِ
الْغَرْبِيِّ . وَجَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَشَبَّهُوا ذَلِكَ
بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) فِي مَدِينَتِهِ إلَّا
فِي مَوْضِعٍ يَخْرُجُ بِالْمُسْلِمِينَ فَيُصَلِّي الْعِيدَ بِالصَّحْرَاءِ
وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ .
فَلَمَّا تَوَلَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَصَارَ بِالْكُوفَةِ وَكَانَ
الْخَلْقُ بِهَا كَثِيرًا قَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ
بِالْمَدِينَةِ شُيُوخًا وَضُعَفَاءَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الْخُرُوجُ إلَى الصَّحْرَاءِ
فَاسْتَخْلَفَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِيدَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ خَارِجَ الصَّحْرَاءِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا يُفْعَلُ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَلِيٌّ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي } . فَمَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْحَاجَةُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَفِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ تَدْعُو إلَى أَكْثَرَ مِنْ جُمُعَةٍ إذْ لَيْسَ لِلنَّاسِ جَامِعٌ وَاحِدٌ يَسَعُهُمْ وَلَا يُمْكِنُهُمْ جُمُعَةٌ وَاحِدَةٌ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ . وَهُنَا وَجْهٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْقَلْعَةَ كَأَنَّهَا قَرْيَةٌ خَارِجَ الْمَدِينَةِ . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّ الْجُمُعَةَ تُقَامُ فِي الْقُرَى ؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ جُمُعَةِ الْمَدِينَةِ جُمُعَةٌ " بجواثى " قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ " وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ . وَكَذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالْجُمُعَةِ حَيْثُ كَانُوا . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِالْمِيَاهِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُمْ يُقِيمُونَ الْجُمُعَةَ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُخَالِفٌ لَجَازَ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ كُلَّ قَرْيَةٍ مِصْرٌ جَامِعٌ كَمَا أَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ يُسَمَّى قَرْيَةً . وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ مَكَّةَ قَرْيَةً بَلْ سَمَّاهَا
"
أُمَّ الْقُرَى " بَلْ وَمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ مَكَّةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ
: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي
أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ } وَسَمَّى مِصْرَ
الْقَدِيمَةَ قَرْيَةً بِقَوْلِهِ : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا
فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } . وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ
كَثِيرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي الْعِيدِ إذَا وَافَقَ الْجُمُعَةَ فَقَالَ
أَحَدُهُمَا : يَجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِيدَ وَلَا يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ ؛
وَقَالَ الْآخَرُ : يُصَلِّيهَا . فَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا اجْتَمَعَ الْجُمُعَةُ وَالْعِيدُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ
فَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَجِبُ
الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ شَهِدَ الْعِيدَ . كَمَا تَجِبُ سَائِرُ الْجُمَعِ
للعمومات الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ . وَالثَّانِي : تَسْقُطُ عَنْ
أَهْلِ الْبِرِّ مِثْلَ أَهْلِ الْعَوَالِي وَالشَّوَاذِّ ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ
بْنَ عفان أَرْخَصَ لَهُمْ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ الْعِيدَ
.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ مَنْ شَهِدَ الْعِيدَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجُمُعَةُ لَكِنْ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ الْجُمُعَةَ لِيَشْهَدَهَا مَنْ شَاءَ شُهُودَهَا وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْعِيدَ . وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ : كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ . وَلَا يُعْرَفُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ . وَأَصْحَابُ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اجْتَمَعَ فِي يَوْمِهِ عِيدَانِ صَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ قَدْ أَصَبْتُمْ خَيْرًا فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ فَلْيَشْهَدْ فَإِنَّا مُجْمِعُونَ } . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا شَهِدَ الْعِيدَ حَصَلَ مَقْصُودُ الِاجْتِمَاعِ ثُمَّ إنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ إذَا لَمْ يَشْهَدْ الْجُمُعَةَ فَتَكُونُ الظُّهْرُ فِي وَقْتِهَا وَالْعِيدُ يُحَصِّلُ مَقْصُودَ الْجُمُعَةِ . وَفِي إيجَابِهَا عَلَى النَّاسِ تَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ وَتَكْدِيرٌ لِمَقْصُودِ عِيدِهِمْ وَمَا سُنَّ لَهُمْ مِنْ السُّرُورِ فِيهِ وَالِانْبِسَاطِ . فَإِذَا حُبِسُوا عَنْ ذَلِكَ عَادَ الْعِيدُ عَلَى مَقْصُودِهِ بِالْإِبْطَالِ وَلِأَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِيدٌ وَيَوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ عِيدٌ وَمِنْ شَأْنِ الشَّارِعِ إذَا اجْتَمَعَ عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَدْخَلَ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى . كَمَا يُدْخِلُ الْوُضُوءَ فِي الْغُسْلِ وَأَحَدَ الْغُسْلَيْنِ فِي الْآخَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ : إذَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ الْعِيدِ وَصَلَّى
الْعِيدَ إنْ اشْتَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ وَإِلَّا فَلَا . فَهَلْ هُوَ
فِيمَا قَالَ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا
مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا . إذَا اجْتَمَعَ
يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُ الْعِيدِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ
:
أَحَدُهَا : أَنَّ الْجُمُعَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى الْعِيدَ وَمَنْ لَمْ يُصَلِّهِ
كَقَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْجُمُعَةَ سَقَطَتْ عَنْ السَّوَادِ الْخَارِجِ عَنْ
الْمِصْرِ كَمَا يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ أَذِنَ لِأَهْلِ الْقُرَى فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ
وَاتَّبَعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَنْ صَلَّى الْعِيدَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجُمُعَةَ لَكِنْ
يَنْبَغِي
لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ الْجُمُعَةَ لِيَشْهَدَهَا مَنْ أَحَبَّ . كَمَا فِي السُّنَنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي عَهْدِهِ عِيدَانِ فَصَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ } . وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ وَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ قَدْ أَصَبْتُمْ خَيْرًا فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ فَلْيَشْهَدْ فَإِنَّا مُجْمِعُونَ } وَهَذَا الْحَدِيث رُوِيَ فِي السُّنَنِ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ خَيَّرَ النَّاسَ فِي شُهُودِ الْجُمُعَةِ . وَفِي السُّنَنِ حَدِيثٌ ثَالِثٌ فِي ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ عَلَى عَهْدِهِ عِيدَانِ فَجَمَعَهُمَا أَوَّلَ النَّهَارِ ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ إلَّا الْعَصْرَ . وَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَذَكَرَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ : قَدْ أَصَابَ السُّنَّةَ . وَهَذَا الْمَنْقُولُ هُوَ الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ . وَهُوَ قَوْلُ مَنْ بَلَغَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَاَلَّذِينَ خَالَفُوهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ السُّنَنِ وَالْآثَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ خُطْبَةٍ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ ، كِلَاهُمَا فَرْضٌ لِوَقْتِهَا فِي سَاعَةٍ
مُشْكِلَةِ الْعَيْنِ ، وَاعْتِبَارُ الشَّرْطِ فِيهَا كَمَا فِي غَيْرِهَا مِنْ
هَيْئَةِ الدِّينِ . كَالظُّهْرِ وَالسُّنَنِ وَالْوَقْتِ وَالْقِبْلَةِ أَيْضًا
بِالتَّأْذِينِ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ تُنَزَّلُ عَلَى عِدَّةِ مَسَائِلَ
بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُتَنَازَعٌ فِيهِ : مِنْهَا إذَا
اجْتَمَعَ عِيدٌ وَجُمُعَةٌ فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْعِيدَ فَرْضٌ يَقُولُ : إنَّ
خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ هِيَ خُطْبَةٌ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ كِلَاهُمَا فَرْضٌ
بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْعِيدِ . فَإِنَّهُ يَقُولُ لَيْسَتْ فَرْضًا . وَإِمَّا
أَنْ تُنَزَّلَ عَلَى مَا إذَا اعْتَقَدَ جُمُعَتَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا تَصِحُّ
فِيهِ جُمُعَتَانِ فَإِنَّهُ تَصِحُّ الْأُولَى وَتَبْطُلُ الثَّانِيَةُ إذَا
كَانَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ . فَإِنْ أُشْكِلَ عَيَّنَ السَّابِقَةَ بَطَلَتَا
جَمِيعًا وَصَلَّوْا ظُهْرًا . فَالْخُطْبَةُ الَّتِي قَبْلَ الثَّانِيَةِ
خُطْبَةٌ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ كِلَاهُمَا فَرْضٌ إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ أَذِنَ
فِي كُلٍّ مِنْهُمَا
وَاعْتَقَدُوا
أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُقَامُ عِنْدَهُمْ وَكِلَاهُمَا يَعْتَقِدُ أَنَّ
جُمُعَتَهُ فَرْضٌ . وَيُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ السَّائِلُ الْفَجْرَ وَالْجُمُعَةَ
فَإِنَّ الْفَجْرَ فَرْضٌ فِي وَقْتِهَا وَالْجُمُعَةَ فَرْضٌ لِوَقْتِهَا
وَبَيْنَهُمَا خُطْبَةٌ هِيَ خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ . وَمِنْهَا خُطَبُ الْحَجِّ :
فَإِنَّ خُطْبَةَ عَرَفَةَ تَكُونُ بَيْنَ الصَّلَاةِ بِعَرَفَةَ وَبَيْنَ صَلَاةِ
الْمَغْرِبِ فَكِلَاهُمَا فَرْضٌ وَالْخُطْبَةُ يَوْمَ النَّحْرِ : تَكُونُ بَيْنَ
الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ فَكِلَاهُمَا فَرْضٌ .
وَسُئِلَ :
هَلْ قِرَاءَةُ الْكَهْفِ بَعْدَ عَصْرِ الْجُمُعَةِ جَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ أَمْ لَا
؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهَا
آثَارٌ ذَكَرَهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ لَكِنْ هِيَ مُطْلَقَةٌ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ مَا سَمِعْت أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بَعْدَ الْعَصْرِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ فَرْشِ السَّجَّادَةِ فِي الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْرِشُ شَيْئًا وَيَخْتَصَّ بِهِ مَعَ غَيْبَتِهِ
وَيَمْنَعَ بِهِ غَيْرَهُ . هَذَا غَصْبٌ لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ وَمَنْعٌ
لِلْمُسْلِمِينَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ .
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ وَأَمَّا مَنْ يَتَقَدَّمُ
بِسَجَّادَةِ فَهُوَ ظَالِمٌ يُنْهَى عَنْهُ وَيَجِبُ رَفْعُ تِلْكَ السَّجَاجِيدِ
وَيُمَكَّنُ النَّاسُ مِنْ مَكَانِهَا . هَذَا مَعَ أَنَّ أَصْلَ الْفَرْشِ
بِدْعَةٌ لَا سِيَّمَا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
. فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ
كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ وَالْخُمْرَةُ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي
عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَغِيرَةٌ لَيْسَتْ
بِقَدْرِ السَّجَّادَةِ . قُلْت فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى عَنْ
عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ : أَنَّهُ
لَا
يَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدٍ إلَّا عَلَى الْأَرْضِ وَلَمَّا قَدِمَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ مِنْ الْعِرَاقِ وَفَرَشَ فِي الْمَسْجِدِ . أَمَرَ
مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ بِحَبْسِهِ تَعْزِيرًا لَهُ حَتَّى رُوجِعَ فِي ذَلِكَ
فَذَكَرَ أَنَّ فِعْلَ هَذَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَسْجِدِ بِدْعَةٌ يُؤَدَّبُ
صَاحِبُهَا . وَعَلَى النَّاسِ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ
وَالْمَنْعُ مِنْهُ لَا سِيَّمَا وُلَاةُ الْأَمْرِ الَّذِينَ لَهُمْ هُنَالِكَ
وِلَايَةٌ عَلَى الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ رَفْعُ هَذِهِ
السَّجَاجِيدِ وَلَوْ عُوقِبَ أَصْحَابُهُ بِالصَّدَقَةِ بِهَا لَكَانَ هَذَا
مِمَّا يُسَوَّغُ فِي الِاجْتِهَادِ انْتَهَى .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقْتَ دُخُولِ الْإِمَامِ
الْمَسْجِدَ : " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ
وَسَلِّمْ . وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ "
. وَفِي دُعَاءِ الْإِمَامِ بَعْدَ صُعُودِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَفِي قَوْلِ
الْمُؤَذِّنِ بَعْدَ الْأَذَانِ الثَّانِي : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ إذَا قُلْت لِصَاحِبِك وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ
فَقَدْ لَغَوْت } أَذَلِكَ مَسْنُونٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مَكْرُوهٌ فِي صَلَاةِ
الْجُمُعَةِ ؟ .
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ هَذَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ
الْعُلَمَاءِ لَكِنْ تَبْلِيغُ الْحَدِيثِ فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ لِأَمْرِ
النَّاسِ بِالْإِنْصَاتِ وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْخُطْبَةِ . وَأَمَّا دُعَاءُ
الْإِمَامِ بَعْدَ صُعُودِهِ وَرَفْعِ الْمُؤَذِّنِينَ أَصْوَاتَهُمْ بِالصَّلَاةِ
فَهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَفْعَلُهُ
بِلَا أَصْلٍ شَرْعِيٍّ . وَأَمَّا رَفْعُ الْمُؤَذِّنِينَ أَصْوَاتَهُمْ وَقْتَ
الْخُطْبَةِ بِالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا فَهَذَا مَكْرُوهٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ
.
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مُؤَذِّنٍ يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِ الْخَطِيبِ إلَى الْجَامِعِ :
" إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ " .
فَقَالَ رَجُلٌ : هَذَا بِدْعَةٌ . فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
جَهْرُ الْمُؤَذِّنِ بِذَلِكَ كَجَهْرِهِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّرَضِّي عِنْدَ
رُقِيِّ الْخَطِيبِ الْمِنْبَرَ أَوْ جَهْرِهِ بِالدُّعَاءِ لِلْخَطِيبِ
وَالْإِمَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَلَا اسْتَحَبَّهُ
أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ الْجَهْرُ بِنَحْوِ ذَلِكَ فِي
الْخُطْبَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابٌ
صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
هَلْ يَتَعَيَّنُ قِرَاءَةٌ بِعَيْنِهَا فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ؟ وَمَا يَقُولُ
الْإِنْسَانُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَهْمَا قَرَأَ بِهِ جَازَ . كَمَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي
نَحْوِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ . لَكِنْ إذَا قَرَأَ بِقَافِ وَاقْتَرَبَتْ أَوْ
نَحْوِ ذَلِكَ . مِمَّا جَاءَ فِي الْأَثَرِ كَانَ حَسَنًا . وَأَمَّا بَيْنَ
التَّكْبِيرَاتِ : فَإِنَّهُ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ .
هَكَذَا رَوَى نَحْوَ هَذَا الْعُلَمَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ .
وَإِنْ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَاَللَّهُ أَكْبَرُ . اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي كَانَ حَسَنًا . وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ :
اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللَّهِ
بُكْرَةً وَأَصِيلًا . وَنَحْوُ ذَلِكَ
وَلَيْسَ
فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالصَّحَابَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ صِفَةِ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ ، وَمَتَى وَقْتُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي التَّكْبِيرِ الَّذِي عَلَيْهِ
جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ : أَنْ
يُكَبِّرَ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَقِبَ
كُلِّ صَلَاةٍ وَيَشْرَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ
الْخُرُوجِ إلَى الْعِيدِ . وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ الْمَنْقُولِ عِنْدَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ : قَدْ رُوِيَ
مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُ أَكْبَرُ
اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ } . وَإِنْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا جَازَ . وَمِنْ
الْفُقَهَاءِ مَنْ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا فَقَطْ وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا
وَيَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ
الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فِي
الصَّلَاةِ فَيُكَبِّرُ الْمَأْمُومُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْأَئِمَّةِ يُكَبِّرُونَ سَبْعًا فِي الْأُولَى
وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ .
وَإِنْ
شَاءَ أَنْ يَقُولَ بَيْنَ التَّكْبِيرَتَيْنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي
وَارْحَمْنِي . كَانَ حَسَنًا كَمَا جَاءَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ التَّكْبِيرُ يَجِبُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ أَكْثَرُ مِنْ عِيدِ الْأَضْحَى ؟
بَيِّنُوا لَنَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا التَّكْبِيرُ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي عِيدِ الْأَضْحَى بِالِاتِّفَاقِ .
وَكَذَلِكَ هُوَ مَشْرُوعٌ فِي عِيدِ الْفِطْرِ : عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد . وَذَكَرَ ذَلِكَ الطَّحَاوِي مَذْهَبًا لِأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابِهِ . وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ خِلَافُهُ لَكِنَّ التَّكْبِيرَ فِيهِ
هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَالتَّكْبِيرُ
فِيهِ أَوْكَدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ : {
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . وَالتَّكْبِيرُ فِيهِ : أَوَّلُهُ مِنْ رُؤْيَةِ
الْهِلَالِ وَآخِرُهُ انْقِضَاءُ الْعِيدِ وَهُوَ فَرَاغُ الْإِمَامِ مِنْ
الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّحِيحِ . وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فِي النَّحْرِ فَهُوَ
أَوْكَدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُشْرَعُ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ
وَأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَنَّ عِيدَ النَّحْرِ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ وَعِيدَ النَّحْرِ أَفْضَلُ مِنْ عِيدِ الْفِطْرِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ فِيهِ النَّحْرَ مَعَ الصَّلَاةِ . وَالْعِبَادَةُ فِي ذَاكَ الصَّدَقَةُ مَعَ الصَّلَاةِ . وَالنَّحْرُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْعِبَادَتَانِ الْبَدَنِيَّةُ وَالْمَالِيَّةُ فَالذَّبْحُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ وَالصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ فِي الْفِطْرِ تَابِعَةٌ لِلصَّوْمِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَهَا طهرة لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ وَلِهَذَا سُنَّ أَنْ تُخْرَجَ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } . وَأَمَّا النُّسُكُ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الْيَوْمِ نَفْسِهِ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَلِهَذَا يُشْرَعُ بَعْدَ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } { إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } . فَصَلَاةُ النَّاسِ فِي الْأَمْصَارِ بِمَنْزِلَةِ رَمْيِ الْحُجَّاجِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَذَبْحُهُمْ فِي الْأَمْصَارِ بِمَنْزِلَةِ ذَبْحِ الْحُجَّاجِ هَدْيَهُمْ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ { أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي السُّنَنِ وَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ { يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ مِنًى عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ } وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ يُكَبِّرُونَ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِحَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ الدارقطني عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلِأَنَّهُ إجْمَاعٌ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وَ " اللَّامُ " إمَّا
مُتَعَلِّقَةٌ بِمَذْكُورِ : أَيْ { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } . . .
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } . كَمَا قَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ
لَكُمْ } . أَوْ بِمَحْذُوفِ : أَيْ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ شَرَعَ ذَلِكَ .
وَهَذَا أَشْهَرُ لِأَنَّهُ قَالَ : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فَيَجِبُ عَلَى
الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ وَيُرِيدُ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَفِيهِ وَهْنٌ .
لَكِنْ يُحْتَجُّ لِلْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ : { مَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
فَإِنَّ آيَةَ الصِّيَامِ وَآيَةَ الطَّهَارَةِ مُتَنَاسِبَتَانِ فِي اللَّفْظِ
وَالْمَعْنَى فَقَوْلُهُ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ } بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } وَقَوْلِهِ :
{ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } كَقَوْلِهِ : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ شَرْعًا : التَّكْبِيرَ عَلَى مَا هَدَانَا وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : كَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ هُوَ التَّكْبِيرُ تَكْبِيرُ الْعِيدِ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ مَخْصُوصَةٌ بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ وَلَعَلَّهُ يَدْخُلُ فِي التَّكْبِيرِ صَلَاةُ الْعِيدِ كَمَا سُمِّيَتْ الصَّلَاةُ تَسْبِيحًا وَقِيَامًا وَسُجُودًا وَقُرْآنًا وَكَمَا أُدْخِلَتْ صَلَاتَا الْجَمْعِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وَأُرِيدَ الْخُطْبَةُ وَالصَّلَاةُ بِقَوْلِهِ : { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } وَيَكُونُ لِأَجْلِ أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا سُمِّيَتْ تَكْبِيرًا خُصَّتْ بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ لَمَّا سُمِّيَتْ قُرْآنًا خُصَّتْ بِقُرْآنٍ زَائِدٍ وَجَعَلَ طُولَ الْقِرَاءَةِ فِيهَا عِوَضًا عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ . وَكَذَلِكَ " صَلَاةُ اللَّيْلِ " لَمَّا سُمِّيَتْ قِيَامًا بِقَوْلِهِ : { قُمِ اللَّيْلَ } خُصَّتْ بِطُولِ الْقِيَامِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيلُ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ بِاللَّيْلِ مَا لَا يُطِيلُهُ بِالنَّهَارِ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إنَّ التَّطْوِيلَ بِاللَّيْلِ أَفْضَلُ وَإِنَّ تَكْثِيرَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِالنَّهَارِ
أَفْضَلُ . وَكَانَ التَّكْبِيرُ أَيْضًا مَشْرُوعًا فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ زِيَادَةً عَلَى الْخُطَبِ الجمعية وَكَانَ التَّكْبِيرُ أَيْضًا مَشْرُوعًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ حِينِ إهْلَالِ الْعِيدِ إلَى انْقِضَاءِ الْعِيدِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ ؛ لَكِنْ هَلْ يَقْطَعُهُ الْمُؤْتَمُّ إذَا شَهِدَ الْمُصَلَّى لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بَعْدَ ذَلِكَ بِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ ؟ أَوْ يَقْطَعُهُ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ لِلِاشْتِغَالِ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ أَوْ لَا يَقْطَعُهُ إلَى انْقِضَاءِ الْخُطْبَةِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إلَى آخِرِ الْعِيدِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْحَجِّ { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } فَقِيلَ : الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ . هِيَ أَيَّامُ الذَّبْحِ وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ التَّسْمِيَةُ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ . وَقِيلَ : هِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . ثُمَّ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ فِيهَا هُوَ ذِكْرُهُ فِي الْعَشْرِ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَنَا وَقِيلَ هُوَ ذِكْرُهُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهَدْيِ وَأَظُنُّهُ مَأْثُورًا عَنْ الشَّافِعِيِّ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَخْرُجَانِ إلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ فَيُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا غَدَاةَ عَرَفَةَ وَهُمْ ذَاهِبُونَ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَةَ يُكَبِّرُ مِنْهُمْ الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُلَبِّي الْمُلَبِّي فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَفِي
أَمْثِلَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ . } وَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ كَقَوْلِهِ { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وَكَقَوْلِهِ : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } وَكَقَوْلِهِ : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ } - إلَى قَوْلِهِ - { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } . وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ( مَا مَوْصُولَةٌ لَا مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى عَلَى الَّذِي رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } وَعَلَى قَوْلِنَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهَا وَقْتَ الذَّبْحِ وَوَقْتَ السَّوْقِ بِالتَّلْبِيَةِ عِنْدَهَا وَبِالتَّكْبِيرِ . يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مُجَرَّدَ التَّسْمِيَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْأُضْحِيَّةِ بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ فَإِنَّ اسْمَهُ مَذْكُورٌ عِنْدَ كُلِّ ذَبْحٍ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُضْحِيَّةِ وَغَيْرِهَا فَمَا وَجَبَ فِيهَا وَجَبَ فِي غَيْرِهَا وَمَا لَمْ يَجِبْ لَمْ يَجِبْ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } - إلَى قَوْلِهِ - { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ } فَجَعَلَ إتْيَانَهُمْ إلَى الْمَشَاعِرِ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ . وَلَوْ أَرَادَ الْأُضْحِيَّةَ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَشَاعِرِ بِهَذَا اخْتِصَاصٌ ؛ فَإِنَّ الْأُضْحِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ يَرُدُّ عَلَى قَوْلِنَا : بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْعَشْرِ فِي الْأَمْصَارِ . فَيُقَالُ : لِمَ خَصَّ ذَلِكَ بِالْإِتْيَانِ إلَى الْمَشَاعِرِ ؟ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهَدْيِ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ يُسَاقُ إلَى مَكَّةَ لَكِنْ عِنْدَهُ يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدْيِ مَتَى وَصَلَ فَأَيُّ فَائِدَةٍ لِتَوْقِيتِهِ بِالْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ . وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الذَّبْحَ بِالْمَشَاعِرِ أَصْلٌ وَبَقِيَّةُ الْأَمْصَارِ تَبَعٌ لِمَكَّةَ وَلِهَذَا كَانَ عِيدُ النَّحْرِ الْعِيدَ الْأَكْبَرَ وَيَوْمُ النَّحْرِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ عِيدُ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ . الثَّانِي : أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ هُنَاكَ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ جَمِيعًا بِخِلَافِ غَيْرِ مَكَّةَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلَّا الْأُضْحِيَّةُ . وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ فَإِنَّ الْهَدْيَ عِنْدَنَا مُؤَقَّتٌ فَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَنْحَرْهُ إلَّا عِنْدَ الْإِحْلَالِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ
الْوَدَاعِ أَنْ يَحِلُّوا إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَهُ وَهَذَا إذَا قَدِمَ بِهِ فِي الْعَشْرِ بِلَا نِزَاعٍ وَأَمَّا إذَا قَدِمَ بِهِ قَبْلَ الْعَشْرِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَدْ أَمَرَا بِذِكْرِهِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ فَهَلَّا شُرِعَ التَّكْبِيرُ فِيهَا فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ كَمَا شُرِعَ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ ؟ . قِيلَ : إنَّمَا شُرِعَ التَّكْبِيرُ فِي لَيْلَةِ الْفِطْرِ إلَى حِينِ انْقِضَاءِ الْعِيدِ وَلَمْ يُشْرَعْ عَقِبَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ عَقِبَ الصَّلَاةِ أَوْكَدُ . فَاخْتُصَّ بِهِ الْعِيدُ الْكَبِيرُ وَأَيَّامُ الْعِيدِ خَمْسَةٌ هِيَ أَيَّامُ الِاجْتِمَاعِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ مِنًى عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَنَا وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهَا أَيَّامُ الذَّبْحِ . فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِيهَا التَّكْبِيرُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَالتَّكْبِيرُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا جُعِلَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ } فَالذِّكْرُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُطْلَقٌ وَإِنْ كَانَتْ السُّنَّةُ قَدْ جَاءَتْ بِالتَّكْبِيرِ فِي عِيدِ النَّحْرِ فِي صَلَاتِهِ وَخُطْبَتِهِ وَدُبُرِ صَلَوَاتِهِ وَرَمْيِ جَمَرَاتِهِ وَالذِّكْرُ فِي آيَةِ الصِّيَامِ يَعْنِي بِالتَّكْبِيرِ عَلَى الْهِدَايَةِ فَهَذَا
ذِكْرٌ لِلَّهِ وَتَكْبِيرٌ لَهُ عَلَى الْهِدَايَةِ وَهُنَاكَ عَلَى الرِّزْقِ . وَقَدْ { ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى خَيْبَرَ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ } وَكَانَ يُكَبِّرُ عَلَى الْأَشْرَافِ مِثْلَ التَّكْبِيرِ إذَا رَكِبَ دَابَّةً وَإِذَا عَلَا نَشْزًا مِنْ الْأَرْضِ وَإِذَا صَعِدَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . { وَقَالَ جَابِرٌ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا هَبَطْنَا سَبَّحْنَا فَوُضِعَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَجَاءَ التَّكْبِيرُ مُكَرَّرًا فِي الْأَذَانِ فِي أَوَّلِهِ وَفِي آخِرِهِ وَالْأَذَانُ هُوَ الذِّكْرُ الرَّفِيعُ وَفِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَهُوَ حَالُ الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ وَالْقِيَامِ إلَيْهَا كَمَا قَالَ " تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ " وَرُوِيَ " أَنَّ التَّكْبِيرَ يُطْفِئُ الْحَرِيقَ " . فَالتَّكْبِيرُ شُرِعَ أَيْضًا لِدَفْعِ الْعَدُوِّ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالنَّارِ الَّتِي هِيَ عَدُوٌّ لَنَا وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ فِي الْمَوَاضِعِ الْكِبَارِ لِكَثْرَةِ الْجَمْعِ أَوْ لِعَظَمَةِ الْفِعْلِ أَوْ لِقُوَّةِ الْحَالِ . أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْكَبِيرَةِ : لِيُبَيِّنَ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ وَتَسْتَوْلِيَ كِبْرِيَاؤُهُ فِي الْقُلُوبِ عَلَى كِبْرِيَاءِ تِلْكَ الْأُمُورِ الْكِبَارِ فَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَيَكُونُ الْعِبَادُ لَهُ مُكَبِّرِينَ فَيَحْصُلُ لَهُمْ مَقْصُودَانِ . مَقْصُودُ الْعِبَادَةِ بِتَكْبِيرِ قُلُوبِهِمْ لِلَّهِ وَمَقْصُودُ الِاسْتِعَانَةِ بِانْقِيَادِ سَائِرِ الْمَطَالِبِ لِكِبْرِيَائِهِ وَلِهَذَا شُرِعَ التَّكْبِيرُ عَلَى الْهِدَايَةِ وَالرِّزْقِ وَالنَّصْرِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ
أَكْبَرُ مَا يَطْلُبُهُ الْعَبْدُ وَهِيَ جِمَاعُ مَصَالِحِهِ . وَالْهَدْيُ أَعْظَمُ مِنْ الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ لِأَنَّ الرِّزْقَ وَالنَّصْرَ قَدْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِمَا إلَّا فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا الْهَدْيُ فَمَنْفَعَتُهُ فِي الْآخِرَةِ قَطْعًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالرِّزْقِ وَالنَّصْرِ فَخُصَّ بِصَرِيحِ التَّكْبِيرِ ؛ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ نِعْمَةِ الْحَقِّ . وذانك دُونَهُ فَوُسِّعَ الْأَمْرُ فِيهِمَا بِعُمُومِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ . فَجِمَاعُ هَذَا أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ عِنْدَ كُلِّ أَمْرٍ كَبِيرٍ مِنْ مَكَانٍ وَزَمَانٍ وَحَالٍ وَرِجَالٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ لِتَسْتَوْلِيَ كِبْرِيَاؤُهُ فِي الْقُلُوبِ عَلَى كِبْرِيَاءِ مَا سِوَاهُ وَيَكُونَ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ . { قَالَ تَعَالَى فِيمَا رَوَى عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَظَمَةُ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْته } . وَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ذَكَرَ التَّكْبِيرَ وَالشُّكْرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } وَالشُّكْرُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَهُوَ الْحَمْدُ وَيَكُونُ بِالْعَمَلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا } فَقَرَنَ بِتَكْبِيرِ الْأَعْيَادِ الْحَمْدَ . فَقِيلَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ طُلِبَ فِيهِ التَّكْبِيرُ وَالشُّكْرُ . وَلِهَذَا رُوِيَ فِي الْأَثَرِ أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ : { اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَانَا } لِيَجْمَعَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْحَمْدِ حَمْدَ الشُّكْرِ كَمَا جَمَعَ
بَيْنَ التَّحْمِيدِ تَحْمِيدِ الثَّنَاءِ وَالتَّكْبِيرِ فِي قَوْلِهِ : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } فَأَمَرَ بِتَحْمِيدِهِ وَتَكْبِيرِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " وَهِيَ شَطْرَانِ : فَالتَّسْبِيحُ قَرِينُ التَّحْمِيدِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ { أَفْضَلُ الْكَلَامِ مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } . وَفِي الْقُرْآنِ { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } . { فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } هَكَذَا فِي الصِّحَاحِ عَنْ عَائِشَةَ فَجُعِلَ قَوْلُهُ : " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك " تَأْوِيلَ { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ }
وَقَالَ : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَالْآثَارُ فِي اقْتِرَانِهِمَا كَثِيرَةٌ . وَأَمَّا التَّهْلِيلُ فَهُوَ قَرِينُ التَّكْبِيرِ كَمَا فِي كَلِمَاتِ الْأَذَانِ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ بَعْدَ دُعَاءِ الْعِبَادِ إلَى الصَّلَاةِ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ . وَهُوَ ذِكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَفِي وَسَطِهِ دُعَاءُ الْخَلْقِ إلَى الصَّلَاةِ وَالْفَلَاحِ . فَالصَّلَاةُ هِيَ الْعَمَلُ . وَالْفَلَاحُ هُوَ ثَوَابُ الْعَمَلِ لَكِنْ جُعِلَ التَّكْبِيرُ شَفْعًا وَالتَّشَهُّدُ وِتْرًا فَمَعَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ شَهَادَةٌ ؛ وَجُعِلَ أَوَّلُهُ مُضَاعَفًا عَلَى آخِرِهِ فَفِي أَوَّلِ الْأَذَانِ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَيَتَشَهَّدُ مَرَّتَيْنِ وَالشَّهَادَتَانِ جَمِيعًا بِاسْمِ الشَّهَادَةِ وَفِي آخِرِهِ التَّكْبِيرُ مَرَّتَانِ فَقَطْ مَعَ التَّهْلِيلِ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَلَا الشَّهَادَةِ الْأُخْرَى . وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْزِلَةِ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَإِنَّ الْأُولَيَيْنِ فُضِّلَتَا بِقِرَاءَةِ السُّورَةِ وَبِالْجَهْرِ فِي الْقِرَاءَةِ فَحَصَلَ الْفَضْلُ فِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ وَوَصْفِهَا كَمَا أَنَّ الشَّطْرَ الْأَوَّلَ مِنْ الْأَذَانِ فُضِّلَ فِي قَدْرِ الذِّكْرِ وَفِي وَصْفِهِ لَكِنَّ الْوَصْفَ هُنَا كَوْنُ التَّوْحِيدِ قُرِنَ بِهِ لَفْظُ أَشْهَدُ وَلِهَذَا حُذِفَ فِي الْإِقَامَةِ عِنْدَ مَنْ يَخْتَارُ إيتَارَهَا وَهِيَ إقَامَةُ بِلَالٍ - مَا فَضَلَ بِهِ مِنْ الْقَدْرِ كَمَا يَخْفِضُ
مِنْ صَوْتِ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ هَذَا الْمَزِيدَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ فَأَشْبَهَ حَذْفَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ . وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الْأُصُولُ فَلَمْ يُحْذَفْ مِنْهَا شَيْءٌ . وَهَكَذَا سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَغَيْرِهِمَا تَطْوِيلُ أَوَّلِ الْعِبَادَةِ عَلَى آخِرِهَا ؛ لِأَسْبَابٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ . وَكَمَا جَمَعَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ فِي الْأَذَانِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي تَكْبِيرِ الْأَشْرَافِ فَكَانَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِذَا عَلَا شَرْفًا فِي غَزْوَةٍ أَوْ حَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا . وَيَقُولُ : { لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَأَعَزَّ جُنْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ } يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا . وَهَذَا فِي الصِّحَاحِ وَكَذَلِكَ عَلَى الدَّابَّةِ كَبَّرَ ثَلَاثًا وَهَلَّلَ ثَلَاثًا فَجَمَعَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي فِيهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : يَا عَدِيُّ مَا يَفِرُّك ؟ أَيَفِرُّك أَنْ يُقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهَلْ تَعْلَمُ مَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ يَا عَدِيُّ مَا يَفِرُّك أَيَفِرُّك أَنْ يُقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ؟ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ أَكْبَرُ مِنْ اللَّهِ } فَقَرَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ حَدِيثُ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ قَالَ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالصَّلَاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَك أَوْ عَلَيْك كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو : فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ مِلْئِهِ لِلْمِيزَانِ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كريز أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . فَجَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ " أَفْضَلِ الدُّعَاءِ وَأَفْضَلِ الثَّنَاءِ فَإِنَّ الذِّكْرَ نَوْعَانِ : دُعَاءٌ وَثَنَاءٌ فَقَالَ : أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ . وَأَفْضَلُ مَا قُلْت هَذَا الْكَلَامَ " . وَلَمْ يَقُلْ أَفْضَلُ مَا قُلْت يَوْمَ عَرَفَةَ هَذَا الْكَلَامَ . وَإِنَّمَا هُوَ أَفْضَلُ مَا قُلْت مُطْلَقًا . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا { أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } . وَأَيْضًا فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً : أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ أَعْلَى شُعَبِ
الْإِيمَانِ هِيَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ . وَأَيْضًا فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا أبي : أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَفِي ذَاكَ أَنَّهَا أَعْلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ وَهَذَا غَايَةُ الْفَضْلِ فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ مُجْتَمِعٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ فَإِذَا كَانَتْ أَعْظَمَ الْقُرْآنِ وَأَعْلَى الْإِيمَانِ ثَبَتَ لَهَا غَايَةُ الرُّجْحَانِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّوْحِيدَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْفَارِقُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَهُوَ ثَمَنُ الْجَنَّةِ وَلَا يَصِحُّ إسْلَامُ أَحَدٍ إلَّا بِهِ وَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَكُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ فَمَنْزِلَتُهُ مَنْزِلَةُ الْأَصْلِ وَمَنْزِلَةُ التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ مَنْزِلَةُ الْفَرْعِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالْجَهْرِ وَعِنْدَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ مِثْلِ الْأَذَانِ الَّذِي تُرْفَعُ بِهِ الْأَصْوَاتُ وَعِنْدَ الصُّعُودِ عَلَى الْأَمَاكِنِ الْعَالِيَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ وَيَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَوَاتِ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْأَعْيَادِ .
{ وَقَالَ جَابِرٌ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا هَبَطْنَا سَبَّحْنَا فَوُضِعَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . فَبَيَّنَ أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الْعُلُوِّ مِنْ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَفْعَالِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ وَالتَّسْبِيحَ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الِانْخِفَاضِ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَفْعَالِ كَمَا فِي السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ . وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّةُ فِي التَّسْبِيحِ الْإِخْفَاءَ حِينَ شُرِعَ فَلَمْ يُشْرَعْ مِنْ الْجَهْرِ بِهِ وَالْإِعْلَانَ مَا شُرِعَ مِنْ ذَلِكَ فِي التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي وَصْفِ الذِّكْرِ إنَّمَا هُوَ لِلزِّيَادَةِ فِي أَمْرِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } فَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي لَا يُسَنُّ فِيهِ الْجَهْرُ كَمَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مُطْلَقًا بِدَلِيلِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَقَالَ : { إنِّي نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقُمْنَ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ } . وَهُنَا أَصْلٌ يَنْبَغِي أَنْ نَعْرِفَهُ . وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ فِي كُلِّ حَالٍ وَلَا لِكُلِّ أَحَدٍ بَلْ
الْمَفْضُولُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ الْفَاضِلِ الْمُطْلَقِ كَمَا أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءُ بَعْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ . وَهَذَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا أَوْ إسْلَامًا } ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَلَا يُؤَمَّن الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } فَذَكَرَ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ فِي الْإِمَامَةِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَرْتَبَةِ ذَا السُّلْطَانِ مِثْلُ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ كَأَمِيرِ الْحَرْبِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَكَأَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهِمْ مُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَفْضَلَ مِنْهُمْ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الذَّهَبَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَدِيدِ وَالنَّوْرَةِ وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْمَعَادِنُ مُقَدَّمَةً عَلَى الذَّهَبِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا دُونَهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا : أَكْثَرُ النَّاسِ يَعْجِزُونَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَلَوْ أُمِرُوا بِهَا لَفَعَلُوهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ أَوْ يَنْتَفِعُونَ انْتِفَاعًا مَرْجُوحًا فَيَكُونُ فِي حَقِّ أَحَدِ هَؤُلَاءِ الْعَمَلُ الَّذِي يُنَاسِبُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ أَفْضَلُ لَهُ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ . وَلِهَذَا يَكُونُ الذِّكْرُ لِكَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ يُورِثُهُ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ يُورِثُهُ الْعِلْمَ وَالْعِلْمُ بَعْدَ الْإِيمَانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وَالْقُرْآنُ يَحْتَاجُ إلَى فَهْمٍ وَتَدَبُّرٍ وَقَدْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَغْلَطُونَ فَيَعْتَقِدُ أَحَدُهُمْ أَنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . { وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحْمِلَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي صَلَاتِي . فَقَالَ : قُلْ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَّا إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ فِي الصَّلَاةِ بَدَلٌ عَنْ الْقِرَاءَةِ لَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ وَبِمَنْزِلَةِ صِيَامِ الشَّهْرَيْنِ مَعَ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ مَعَ الْهَدْيِ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ { مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِأَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ } يَعْنِي الْقُرْآنَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدِّمُ أَهْلَ الْقُرْآنِ فِي الْمَوَاطِنِ كَمَا قَدَّمَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقُبُورِ فَأَذِنَ لَهُمْ أَنْ يَدْفِنُوا الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ وَقَالَ : قَدِّمُوا إلَى الْقِبْلَةِ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا .
{ فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ لَمَّا سُئِلَ : أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ : فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } هَذَا خَرَجَ عَلَى سُؤَالِ سَائِلٍ . فَرُبَّمَا عَلِمَ مِنْ حَالِ السَّائِلِ حَالًا مَخْصُوصَةً كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ : { أَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } إلَى آخِرِهِ . أَرَادَ بِذَلِكَ مِنْ الذِّكْرِ لَا مِنْ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الذِّكْرِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الْقِرَاءَةِ كَمَا أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ فِي وَقْتِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ تَجْدِيدِهِ أَوْ عِنْدَمَا يَقْتَضِي ذِكْرَهُمَا مِثْلَ عَقِبِ الْوُضُوءِ وَدُبُرِ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ . وَكَذَلِكَ فِي مُوَافَقَةِ الْمُؤَذِّنِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَقْرَأُ وَسَمِعَ الْمُؤَذِّنَ فَإِنَّ مُوَافَقَتَهُ فِي ذِكْرِ الْأَذَانِ أَفْضَلُ لَهُ حِينَئِذٍ مِنْ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يُسْتَحَبَّ لَهُ قَطْعُ الْقِرَاءَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا وَقْتُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ يَفُوتُ بِفَوْتِهَا وَالْقِرَاءَةُ لَا تَفُوتُ . فَنَقُولُ : الْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ : حَالٌ يُسْتَحَبُّ فِيهَا الْإِسْرَارُ وَيُكْرَهُ فِيهَا الْجَهْرُ ؛ لِأَنَّهَا حَالُ انْخِفَاضٍ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . فَهُنَا التَّسْبِيحُ أَفْضَلُ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَكَذَلِكَ فِي بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَأَمَّا مَا السُّنَّةُ فِيهِ الْجَهْرُ وَالْإِعْلَانُ كَالْإِشْرَافِ وَالْأَذَانِ فَالسُّنَّةُ فِيهِ التَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ وَأَمَّا مَا يُشْرَعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا .
فَصْلٌ
:
وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ التَّحْمِيدَ قَرِينُ التَّسْبِيحِ وَأَنَّ التَّهْلِيلَ
قَرِينُ التَّكْبِيرِ فَفِي تَكْبِيرِ الْأَعْيَادِ جَمْعٌ بَيْنَ الْقَرِينَيْنِ
فَجُمِعَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَبَيْنَ التَّكْبِيرِ
وَالتَّحْمِيدِ لِقَوْلِهِ : { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فَإِنَّ الْهِدَايَةَ اقْتَضَتْ التَّكْبِيرَ
عَلَيْهَا . فَضُمَّ إلَيْهِ قَرِينُهُ وَهُوَ التَّهْلِيلُ . وَالنِّعْمَةُ
اقْتَضَتْ الشُّكْرَ عَلَيْهَا فَضُمَّ إلَيْهِ أَيْضًا التَّحْمِيدُ وَهَذَا
كَمَا أَنَّ رُكُوبَ الدَّابَّةِ لَمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ أَنَّهُ شَرَفٌ مِنْ
الْأَشْرَافِ وَأَنَّهُ مَوْضِعُ نِعْمَةٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ
سُبْحَانَهُ : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ
رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ
لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا
لَمُنْقَلِبُونَ } فَأَمَرَ بِذِكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَذِكْرِهَا
بِحَمْدِهَا وَأَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ الَّذِي هُوَ قَرِينُ الْحَمْدِ { فَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُتِيَ بِالدَّابَّةِ
فَوَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى
ظَهْرِهَا قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ : { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ
لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا
لَمُنْقَلِبُونَ } ثُمَّ حَمِدَ ثَلَاثًا وَكَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ : لَا
إلَهَ إلَّا أَنْتَ
سُبْحَانَك ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ثُمَّ ضَحِكَ وَقَالَ : ضَحِكْت مِنْ ضَحِكِ الرَّبِّ إذَا قَالَ الْعَبْدُ ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ : عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي } . فَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ذِكْرَ الْأَشْرَافِ وَهُوَ التَّكْبِيرُ مَعَ التَّهْلِيلِ وَخَتَمَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّهُ مَقْرُونٌ بِالتَّوْحِيدِ كَمَا قَدْ رَتَّبَ اقْتِرَانَ الِاسْتِغْفَارِ بِالتَّوْحِيدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } وَقَوْلِهِ : { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ } وَقَوْلِهِ : { فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } فَكَانَ ذِكْرُهُ عَلَى الدَّابَّةِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ . فَهَكَذَا ذِكْرُ الْأَعْيَادِ اجْتَمَعَ فِيهِ التَّعْظِيمُ وَالنِّعْمَةُ فَجَمَعَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْحَمْدِ . فَاَللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَانَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . فَيُشَبِّهُهُ بِذِكْرِ الْأَشْرَافِ فِي تَثْلِيثِهِ وَضَمِّ التَّهْلِيلِ إلَيْهِ وَهَذَا اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا أَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا فَاخْتَارُوا فِيهِ مَا رَوَوْهُ عَنْ طَائِفَةٍ
مِنْ الصَّحَابَةِ وَرَوَاهُ الدارقطني مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَّا إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ } فَيُشَفِّعُونَهُ مَرَّتَيْنِ وَيَقْرِنُونَ بِهِ فِي إحْدَاهُمَا التَّهْلِيلَ وَفِي الْأُخْرَى الْحَمْدَ تَشْبِيهًا لَهُ بِذِكْرِ الْأَذَانِ . فَإِنَّ هَذَا بِهِ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُ فِي الْأَعْيَادِ الَّتِي يُجْتَمَعُ فِيهَا اجْتِمَاعًا عَامًّا كَمَا أَنَّ الْأَذَانَ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فَشَابَهَ الْأَذَانَ فِي أَنَّهُ تَكْبِيرُ اجْتِمَاعٍ لَا تَكْبِيرُ مَكَانٍ وَأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَاةِ لَا بِالشَّرَفِ فَشُرِعَ تَكْرِيرُهُ كَمَا شُرِعَ تَكْرِيرُ تَكْبِيرِ الْأَذَانِ وَهُوَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مَشْفُوعٌ وَكُلُّ الْمَأْثُورِ حَسَنٌ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُثَلِّثُهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَيُشَفِّعُهُ ثَانِيَ مَرَّةٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ تَعْمَلُ بِهَذَا . وَقَاعِدَتُنَا فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ الْقَوَاعِدِ أَنَّ جَمِيعَ صِفَاتِ الْعِبَادَاتِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ إذَا كَانَتْ مَأْثُورَةً أَثَرًا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لَمْ يُكْرَهْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ يُشْرَعُ ذَلِكَ كُلُّهُ كَمَا قُلْنَا فِي أَنْوَاعِ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَفِي نَوْعَيْ الْأَذَانِ التَّرْجِيعِ وَتَرْكِهِ وَنَوْعَيْ الْإِقَامَةِ شَفْعِهَا وَإِفْرَادِهَا وَكَمَا قُلْنَا فِي أَنْوَاعِ التَّشَهُّدَاتِ وَأَنْوَاعِ الِاسْتِفْتَاحَاتِ وَأَنْوَاعِ الِاسْتِعَاذَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقِرَاءَاتِ وَأَنْوَاعِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ الزَّوَائِدِ وَأَنْوَاعِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسُجُودِ السَّهْوِ وَالْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ وَالتَّحْمِيدِ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ
وَحَذْفِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ قَدْ يُسْتَحَبُّ بَعْضُ هَذِهِ الْمَأْثُورَاتِ وَيُفَضَّلُ عَلَى بَعْضٍ إذَا قَامَ دَلِيلٌ يُوجِبُ التَّفْضِيلَ وَلَا يُكْرَهُ الْآخَرُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمُكَلَّفُ أَنْ يَجْمَعَ فِي الْعِبَادَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِتَشَهُّدَيْنِ مَعًا وَلَا بِقِرَاءَتَيْنِ مَعًا وَلَا بِصَلَاتَيْ خَوْفٍ مَعًا وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ كَانَ ذَلِكَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مُحَرَّمٌ تَارَةً وَمَكْرُوهٌ أُخْرَى وَلَا تَنْظُرُ إلَى مَنْ قَدْ يَسْتَحِبُّ الْجَمْعَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ مِثْلُ مَا رَأَيْت بَعْضَهُمْ قَدْ لَفَّقَ أَلْفَاظَ الصَّلَوَاتِ عَلَى النَّبِيِّ الْمَأْثُورَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَحَبَّ فِعْلَ ذَلِكَ الدُّعَاءِ الْمُلَفَّقِ وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لَمَّا { قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي فَقَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا وَفِي رِوَايَةٍ كَثِيرًا وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . فَقَالَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ : كَثِيرًا كَبِيرًا وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي أَشْبَاهِ هَذَا : فَإِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ هَذَا أَوَّلًا لَيْسَ سُنَّةً بَلْ خِلَافُ الْمَسْنُونِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ جَمِيعَهُ جَمِيعًا . وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً إنْ كَانَ الْأَمْرَانِ ثَابِتَيْنِ عَنْهُ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ سُنَّةً بَلْ بِدْعَةٌ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا .
الثَّانِي أَنَّ جَمْعَ أَلْفَاظِ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ الْوَاحِدِ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ مِثْلُ جَمْعِ حُرُوفِ الْقُرَّاءِ كُلِّهِمْ لَا عَلَى سَبِيلِ الدَّرْسِ وَالْحِفْظِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التِّلَاوَةِ وَالتَّدَبُّرِ مَعَ تَنَوُّعِ الْمَعَانِي مِثْلَ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصَّلَاةِ { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } ( بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ . { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } ( بَعِّدْ بَيْنِ أَسْفَارِنَا . { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ( عَمَّا يَعْمَلُونَ . { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ } ( آصَارَهُمْ . { وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } ( وَأَرْجُلِكُمْ . { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } ( حَتَّى يَطَّهَّرْنَ . { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا } ( إلَّا أَنْ يُخَافَا { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } ( أَوْ لَمَسْتُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ قَبِيحَةٌ . الثَّالِثُ أَنَّ الْأَذْكَارَ الْمَشْرُوعَةَ أَيْضًا لَوْ لَفَّقَ الرَّجُلُ لَهُ تَشَهُّدًا مِنْ التَّشَهُّدَاتِ الْمَأْثُورَةِ فَجَمَعَ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَ . . . (1) وَصَلَوَاتِهِ وَبَيْنَ زَاكِيَاتِ تَشَهُّدِ عُمَرَ وَمُبَارَكَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِحَيْثُ يَقُولُ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ وَالْمُبَارَكَاتُ وَالزَّاكِيَاتُ لَمْ يُشْرَعْ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يُسْتَحَبَّ فَغَيْرُهُ أَوْلَى بِعَدَمِ الِاسْتِحْبَابِ .
الرَّابِعُ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَفْعَلُهُ مَنْ ذَهَبَ إلَى كَثْرَةِ الْحُرُوفِ . وَالْأَلْفَاظِ وَقَدْ يَنْقُصُ الْمَعْنَى أَوْ يَتَغَيَّرُ بِذَلِكَ وَلَوْ تَدَبَّرَ الْقَوْلَ لَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَأْثُورِ يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا يُحَصِّلُهُ أَكْمَلَ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : ظُلْمًا كَثِيرًا فَمَتَى كَثُرَ فَهُوَ كَبِيرٌ فِي الْمَعْنَى وَمَتَى كَبُرَ فَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمَعْنَى . وَإِذَا قَالَ : " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ " أَوْ قَالَ : " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ " فَأَزْوَاجُهُ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ آلِهِ بِلَا شَكٍّ أَوْ هُمْ آلُهُ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ : " عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ " لَمْ يَكُنْ قَدْ تَدَبَّرَ الْمَشْرُوعَ . فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَحَدَ الذِّكْرَيْنِ إنْ وَافَقَ الْآخَرَ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى كَانَ كَالْقِرَاءَتَيْنِ اللَّتَيْنِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى مُتَنَوِّعًا كَانَ كَالْقِرَاءَتَيْنِ الْمُتَنَوِّعَتَيْ الْمَعْنَى وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا يُشْرَعُ . وَأَمَّا الْجَمْعُ فِي صَلَوَاتِ الْخَوْفِ أَوْ التَّشَهُّدَاتِ أَوْ الْإِقَامَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ بَيْنَ نَوْعَيْنِ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ الْقَوْلِيَّةُ أَوْ الْفِعْلِيَّةُ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ إنَّمَا يَفْعَلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَفْضَلِ عِنْدَهُ أَوْ قَدْ لَا يَكُونُ
فِيهَا أَفْضَلَ . وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الطُّرُقِ إلَى مَكَّةَ فَكُلُّ أَهْلِ نَاحِيَةٍ يَحُجُّونَ مِنْ طَرِيقِهِمْ وَلَيْسَ اخْتِيَارُهُمْ لِطَرِيقِهِمْ ؛ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ بِحَيْثُ يَكُونُ حَجُّهُمْ أَفْضَلَ مِنْ حَجِّ غَيْرِهِمْ بَلْ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ طَرِيقٍ يَسْلُكُونَهَا فَسَلَكُوا هَذِهِ إمَّا لِيُسْرِهَا عَلَيْهِمْ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ سَوَاءً . فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ اخْتِيَارِ بَعْضِ الْوُجُوهِ الْمَشْرُوعَةِ لِفَضْلِهِ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ مُخْتَارِهِ وَبَيْنَ كَوْنِ اخْتِيَارِ وَاحِدٍ مِنْهَا ضَرُورِيًّا . وَالْمُرَجَّحُ لَهُ عِنْدَهُ سُهُولَتُهُ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ . وَالسَّلَفُ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَقْرَأُ وَيُصَلِّي وَيَدْعُو وَيَذْكُرُ عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ وَأَخَذَ ذَلِكَ الْوَجْهَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَأَهْلُ بُقْعَتِهِ وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْوُجُوهُ سَوَاءً وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا أَفْضَلَ فَجَاءَ فِي الْخَلَفِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ اخْتِيَارَهُ لِمَا اخْتَارَهُ لِفَضْلِهِ فَجَاءَ الْآخَرُ فَعَارَضَهُ فِي ذَلِكَ وَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ أَهْوَاءٌ مُرْدِيَةٌ مُضِلَّةٌ فَقَدْ يَكُونُ النَّوْعَانِ سَوَاءً عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَتَرَى كُلُّ طَائِفَةٍ طَرِيقَهَا أَفْضَلَ وَتُحِبُّ مَنْ يُوَافِقُهَا عَلَى ذَلِكَ وَتُعْرِضُ عَمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْآخَرَ فَيُفَضِّلُونَ مَا سَوَّى اللَّهُ بَيْنَهُ وَيُسَوُّونَ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَهَذَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي دَخَلَ عَلَى الْأُمَّةِ وَقَدْ نَهَى عَنْهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَيْنِ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَمَا قَرَّرْت مِثْلَ ذَلِكَ فِي " الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ " حَيْثُ قَالَ : { اقْرَؤُوا كَمَا عَلِمْتُمْ } .
فَالْوَاجِبُ أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ لَا يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يُجْعَلُ نَفْسُ تَعْيِينٍ وَاحِدٍ مِنْهَا لِضَرُورَةِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ مُوجِبًا لِرُجْحَانِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَوْجَبَ عَلَيَّ عِتْقَ رَقَبَةٍ أَوْ صَلَاةَ جَمَاعَةٍ كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ أَنْ أَعْتِقَ رَقَبَةً وَأُصَلِّيَ جَمَاعَةً وَلَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهَا بَلْ قَدْ لَا تَكُونُ أَفْضَلَ بِحَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ نَظَرٍ فِي الْفَضْلِ ثُمَّ إذَا فُرِضَ أَنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ يُوجِبُ الرُّجْحَانَ لَمْ يُعَبْ عَلَى مَنْ فَعَلَ الْجَائِزَ وَلَا يُنْفَرْ عَنْهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَلَا يُزَادُ الْفَضْلُ عَلَى مِقْدَارِ مَا فَضَّلَتْهُ الشَّرِيعَةُ فَقَدْ يَكُونُ الرُّجْحَانُ يَسِيرًا . لَكِنْ هُنَا مَسْأَلَةٌ تَابِعَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ مَعَ التَّسَاوِي أَوْ الْفَضْلِ أَيُّمَا أَفْضَلُ لِلْإِنْسَانِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُدَاوِمُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ مُخْتَارًا لَهُ أَوْ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ أَفْضَلُ وَيَرَى أَنَّ مُدَاوَمَتَهُ عَلَى ذَلِكَ النَّوْعِ أَفْضَلُ . وَأَمَّا أَكْثَرُهُمْ فَمُدَاوَمَتُهُ عَادَةٌ وَمُرَاعَاةٌ لِعَادَةِ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِ طَرِيقَتِهِ لَا لِاعْتِقَادِ الْفَضْلِ . وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : التَّنَوُّعُ فِي ذَلِكَ مُتَابَعَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ فِي هَذَا اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَإِحْيَاءً لِسُنَّتِهِ وَجَمْعًا بَيْنَ قُلُوبِ الْأُمَّةِ وَأَخْذًا بِمَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَاصَّةِ - أَفْضَلُ مِنْ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى نَوْعٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوُجُوهِ :
أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا هُوَ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ قَدْ فَعَلَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَى أَحَدِهِمَا كَانَ مُوَافَقَتُهُ فِي ذَلِكَ هُوَ التَّأَسِّي وَالِاتِّبَاعُ الْمَشْرُوعُ وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ . الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ اجْتِمَاعَ قُلُوبِ الْأُمَّةِ وَائْتِلَافَهَا وَزَوَالَ كَثْرَةِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْأَهْوَاءِ بَيْنَهَا وَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ وَدَفْعُ مَفْسَدَةٍ عَظِيمَةٍ نَدَبَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إلَى جَلْبِ هَذِهِ وَدَرْءِ هَذِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } . الثَّالِثُ : أَنَّ ذَلِكَ يُخْرِجُ الْجَائِزَ الْمَسْنُونَ عَنْ أَنْ يُشَبَّهَ بِالْوَاجِبِ فَإِنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْمُسْتَحَبِّ أَوْ الْجَائِزِ مُشَبَّهَةٌ بِالْوَاجِبِ وَلِهَذَا أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْمُدَاوِمِينَ عَلَى بَعْضِ الْأَنْوَاعِ الْجَائِزَةِ أَوْ الْمُسْتَحَبَّةِ لَوْ انْتَقَلَ عَنْهُ لَنَفَرَ عَنْهُ قَلْبُهُ وَقَلْبُ غَيْرِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَنْفِرُ عَنْ تَرْكِ كَثِيرٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ؛ لِأَجْلِ الْعَادَةِ الَّتِي جَعَلَتْ الْجَائِزَ كَالْوَاجِبِ . الرَّابِعُ : أَنَّ فِي ذَلِكَ تَحْصِيلَ مَصْلَحَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ فَإِنَّ كُلَّ نَوْعٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَاصَّةٍ وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا فَكَيْفَ إذَا كَانَ
مُسَاوِيًا
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمَرْجُوحَ يَكُونُ رَاجِحًا فِي مَوَاضِعَ .
الْخَامِسُ : أَنَّ فِي ذَلِكَ وَضْعًا لِكَثِيرٍ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ
الَّتِي وَضَعَهَا الشَّيْطَانُ عَلَى الْأُمَّةِ بِلَا كِتَابٍ مِنْ اللَّهِ
وَلَا أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ فَإِنَّ مُدَاوَمَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى أَمْرٍ
جَائِزٍ مُرَجِّحًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ تَرْجِيحًا يُحِبُّ مَنْ يُوَافِقُهُ
عَلَيْهِ وَلَا يُحِبُّ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهِ بَلْ رُبَّمَا أَبْغَضَهُ
بِحَيْثُ يُنْكِرُ عَلَيْهِ تَرْكَهُ لَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَرْكِ
حُقُوقٍ لَهُ وَعَلَيْهِ يُوجِبُ أَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ إصْرًا عَلَيْهِ لَا
يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ وَغَلَا فِي عُنُقِهِ يَمْنَعُهُ أَنْ يَفْعَلَ بَعْضَ مَا
أُمِرَ بِهِ وَقَدْ يُوقِعُهُ فِي بَعْضِ مَا نُهِيَ عَنْهُ . وَهَذَا الْقَدْرُ
الَّذِي قَدْ ذَكَرْته وَاقِعٌ كَثِيرًا فَإِنَّ مَبْدَأَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى
ذَلِكَ يُورِثُ اعْتِقَادًا وَمَحَبَّةً غَيْرَ مَشْرُوعَيْنِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى
الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ يَخْرُجُ
ذَلِكَ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ غَيْرِ الْمَشْرُوعَيْنِ
مِنْ جِنْسِ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ كَأَخْلَاقِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ وَأَخْلَاقِ . . . (1) .
ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إلَى الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ فَيَبْذُلُ مَالَهُ عَلَى
ذَلِكَ عَطِيَّةً وَدَفْعًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ شَرْعِيٍّ
وَيَمْنَعُ مَنْ أَمَرَ الشَّارِعُ
بِإِعْطَائِهِ إيجَابًا أَوْ اسْتِحْبَابًا ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إلَى الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ أَرْضِ الْمَشْرِقِ وَمَبْدَأُ ذَلِكَ تَفْضِيلُ مَا لَمْ تُفَضِّلْهُ الشَّرِيعَةُ . وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ فَضْلَهُ سَبَبٌ لِاِتِّخَاذِهِ فَاضِلًا اعْتِقَادًا وَإِرَادَةً فَتَكُونُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ إمَّا مَنْهِيًّا عَنْهَا وَإِمَّا مفضولة وَالتَّنَوُّعُ فِي الْمَشْرُوعِ بِحَسَبِ مَا تَنَوَّعَ فِيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ . السَّادِسُ : أَنَّ فِي الْمُدَاوَمَةِ عَلَى نَوْعٍ دُونَ غَيْرِهِ هِجْرَانًا لِبَعْضِ الْمَشْرُوعِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِنِسْيَانِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ حَتَّى يَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ بِحَيْثُ يَصِيرُ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ الْعَامَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَفِي نُفُوسِ خَاصَّةِ هَذِهِ الْعَامَّةِ عَمَلُهُمْ مُخَالِفٌ عِلْمَهُمْ فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ الدِّينِ ثُمَّ يَتْرُكُونَ بَيَانَ ذَلِكَ إمَّا خَشْيَةً مِنْ الْخَلْقِ وَإِمَّا اشْتِرَاءً بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا قَدْ رَأَيْنَا مَنْ تَعَوَّدَ أَلَّا يَسْمَعَ إقَامَةً إلَّا مُوتَرَةً أَوْ مَشْفُوعَةً فَإِذَا سَمِعَ الْإِقَامَةَ الْأُخْرَى نَفَرَ عَنْهَا وَأَنْكَرَهَا وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سَمِعَ أَذَانًا لَيْسَ أَذَانَ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ مَنْ اعْتَادَ الْقُنُوتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ . وَهِجْرَانُ بَعْضِ الْمَشْرُوعِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْأُمَّةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ نِسْيَانَهُمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ سَبَبٌ لِإِغْرَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ فَإِذَا اتَّبَعَ الرَّجُلُ جَمِيعَ الْمَشْرُوعِ الْمَسْنُونِ وَاسْتَعْمَلَ الْأَنْوَاعَ الْمَشْرُوعَةَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً كَانَ قَدْ حُفِظَتْ السُّنَّةُ عِلْمًا وَعَمَلًا وَزَالَتْ الْمَفْسَدَةُ الْمَخُوفَةُ مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ . وَنُكْتَةُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ وَإِنْ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى فِعْلِ نَوْعٍ لَكِنَّ حِفْظَ النَّوْعِ الْآخَرِ مِنْ الدِّينِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ جَائِزٌ مَشْرُوعٌ وَفِي الْعَمَلِ بِهِ تَارَةً حِفْظٌ لِلشَّرِيعَةِ وَتَرْكُ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِإِضَاعَتِهِ وَنِسْيَانِهِ . السَّابِعُ : أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْعَدْلُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَحَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ مُحَرَّمًا بَيْنَ عِبَادِهِ وَمِنْ أَعْظَمِ الْعَدْلِ الْعَدْلُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ فَإِنَّ الْعَدْلَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ كَالْقِصَاصِ وَالْمَوَارِيثِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا وَتَرْكُهُ ظُلْمٌ فَالْعَدْلُ فِي أَمْرِ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْهُ وَهُوَ الْعَدْلُ بَيْنَ شَرَائِعِ الدِّينِ وَبَيْنَ أَهْلِهِ . فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ سَوَّى بَيْنَ عَمَلَيْنِ أَوْ عَامِلَيْنِ : كَانَ تَفْضِيلُ أَحَدِهِمَا مِنْ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ وَإِذَا فَضَّلَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ التَّسْوِيَةُ كَذَلِكَ وَالتَّفْضِيلُ أَوْ التَّسْوِيَةُ بِالظَّنِّ وَهَوَى النُّفُوسِ مِنْ جِنْسِ دِينِ الْكُفَّارِ فَإِنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ يُفَضِّلُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ إمَّا ظَنًّا وَإِمَّا هَوًى إمَّا اعْتِقَادًا وَإِمَّا اقْتِصَادًا وَهُوَ سَبَبُ التَّمَسُّكِ بِهِ وَذَمُّ غَيْرِهِ .
فَإِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَرَعَ تِلْكَ الْأَنْوَاعَ إمَّا بِقَوْلِهِ وَإِمَّا بِعَمَلِهِ وَكَثِيرٌ مِنْهَا لَمْ يُفَضِّلْ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ : كَانَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهَا مِنْ الْعَدْلِ وَالتَّفْضِيلُ مِنْ الظُّلْمِ وَكَثِيرٌ مِمَّا تَتَنَازَعُ الطَّوَائِفُ مِنْ الْأُمَّةِ فِي تَفَاضُلِ أَنْوَاعِهِ : لَا يَكُونُ بَيْنَهَا تَفَاضُلٌ بَلْ هِيَ مُتَسَاوِيَةٌ وَقَدْ يَكُونُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا مُقَاوِمًا لِمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآخَرُ ثُمَّ تَجِدُ أَحَدَهُمْ يَسْأَلُ : أَيُّمَا أَفْضَلُ هَذَا أَوْ هَذَا ؟ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ فَاسِدَةٌ فَإِنَّ السُّؤَالَ عَنْ التَّعْيِينِ فَرْعُ ثُبُوتِ الْأَصْلِ فَمَنْ قَالَ إنَّ بَيْنَهُمَا تَفَاضُلًا حَتَّى نَطْلُبَ عَيْنَ الْفَاضِلِ . وَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ : هَذَانِ مُتَمَاثِلَانِ أَوْ مُتَفَاضِلَانِ وَإِنْ كَانَا مُتَفَاضِلَيْنِ : فَهَلْ التَّفَاضُلُ مُطْلَقًا أَوْ فِيهِ تَفْصِيلٌ بِحَيْثُ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ فِي وَقْتٍ وَهَذَا أَفْضَلَ فِي وَقْتٍ ؟ ثُمَّ إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ كَمَا تَرَى فَغَالِبُ الْأَجْوِبَةِ صَادِرَةٌ عَنْ هَوًى وَظُنُونٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ وَمِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى مَا لَمْ تُشْرَعْ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
هَلْ التَّهْنِئَةُ فِي الْعِيدِ وَمَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ :
" عِيدُك مُبَارَكٌ " وَمَا أَشْبَهَهُ هَلْ لَهُ أَصْلٌ فِي
الشَّرِيعَةِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَمَا
الَّذِي يُقَالُ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا التَّهْنِئَةُ يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إذَا لَقِيَهُ
بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ : تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَأَحَالَهُ
اللَّهُ عَلَيْك وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا قَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَرَخَّصَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ
كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . لَكِنْ قَالَ أَحْمَد : أَنَا لَا أَبْتَدِئُ أَحَدًا
فَإِنْ ابْتَدَأَنِي أَحَدٌ أَجَبْته وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوَابَ التَّحِيَّةِ
وَاجِبٌ وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالتَّهْنِئَةِ فَلَيْسَ سُنَّةً مَأْمُورًا
بِهَا وَلَا هُوَ أَيْضًا مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ فَمَنْ فَعَلَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ
وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
صَلَاةِ الْكُسُوفِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ قَوْلِ أَهْلِ التَّقَاوِيمِ : فِي أَنَّ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ هَذَا
الشَّهْرِ يَخْسِفُ الْقَمَرُ وَفِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ تَكْسِفُ الشَّمْسُ
فَهَلْ يُصَدَّقُونَ فِي ذَلِكَ ؟ وَإِذَا خَسَفَا هَلْ يُصَلَّى لَهُمَا ؟ أَمْ
يُسَبَّحُ ؟ وَإِذَا صَلَّى كَيْفَ صِفَةُ الصَّلَاةِ ؟ وَاذْكُر لَنَا أَقْوَالَ
الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْخُسُوفُ وَالْكُسُوفُ لَهُمَا أَوْقَاتٌ مُقَدَّرَةٌ كَمَا
لِطُلُوعِ الْهِلَالِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ وَذَلِكَ مَا أَجْرَى اللَّهُ عَادَتَهُ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَسَائِرِ مَا يَتْبَعُ
جَرَيَانَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ . وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى . كَمَا
قَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي
جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا
عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلَّا بِالْحَقِّ }
وَقَالَ تَعَالَى :
{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ } { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } . وَكَمَا أَنَّ الْعَادَةَ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْهِلَالَ لَا يَسْتَهِلُّ إلَّا لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ الشَّهْرِ أَوْ لَيْلَةَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ إلَّا ثَلَاثِينَ أَوْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ غالط . فَكَذَلِكَ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنَّ الشَّمْسَ لَا تَكْسِفُ إلَّا وَقْتَ الِاسْتِسْرَارِ وَأَنَّ الْقَمَرَ لَا يَخْسِفُ إلَّا وَقْتَ الْإِبْدَارِ وَوَقْتُ إبْدَارِهِ هِيَ اللَّيَالِي الْبِيضُ الَّتِي يُسْتَحَبُّ صِيَامُ أَيَّامِهَا : لَيْلَةُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ . فَالْقَمَرُ لَا يَخْسِفُ إلَّا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي .
وَالْهِلَالُ يَسْتَسِرُّ آخِرَ الشَّهْرِ : إمَّا لَيْلَةً وَإِمَّا لَيْلَتَيْنِ . كَمَا يَسْتَسِرُّ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ وَالشَّمْسُ لَا تَكْسِفُ إلَّا وَقْتَ اسْتِسْرَارِهِ وَلِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيَالِي مُعْتَادَةٌ مَنْ عَرَفَهَا عَرَفَ الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ . كَمَا أَنَّ مَنْ عَلِمَ كَمْ مَضَى مِنْ الشَّهْرِ يَعْلَمُ أَنَّ الْهِلَالَ يَطْلُعُ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ أَوْ الَّتِي قَبْلَهَا . لَكِنَّ الْعِلْمَ بِالْعَادَةِ فِي الْهِلَالِ عِلْمٌ عَامٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْعَادَةِ فِي الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ فَإِنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ حِسَابَ جَرَيَانِهِمَا وَلَيْسَ خَبَرُ الْحَاسِبِ بِذَلِكَ مِنْ بَابِ عِلْمِ الْغَيْبِ وَلَا مِنْ بَابِ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَكُونُ كَذِبُهُ فِيهَا أَعْظَمَ مِنْ صِدْقِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ ثَابِتٍ وَبِنَاءً عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ صَحِيحٍ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ النُّجُومِ فَقَدْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدَّقَهُ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ صَلَاتَهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا } . وَالْكُهَّانُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَهُ مِنْ الْمُنَجِّمِينَ فِي الْأَحْكَامِ وَمَعَ هَذَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ إتْيَانِهِمْ وَمَسْأَلَتِهِمْ فَكَيْفَ بِالْمُنَجِّمِ ؟ وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ .
وَأَمَّا مَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ فَهُوَ مِثْلُ الْعِلْمِ بِأَوْقَاتِ الْفُصُولِ كَأَوَّلِ الرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ وَالْخَرِيفِ وَالشِّتَاءِ لِمُحَاذَاةِ الشَّمْسِ أَوَائِلَ الْبُرُوجِ الَّتِي يَقُولُونَ فِيهَا إنَّ الشَّمْسَ نَزَلَتْ فِي بُرْجِ كَذَا : أَيْ حَاذَتْهُ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ إنَّ الشَّمْسَ تَكْسِفُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الِاسْتِسْرَارِ فَقَدْ غَلِطَ وَقَالَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ . وَمَا يُرْوَى عَنْ الواقدي مِنْ ذِكْرِهِ : أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنْ الشَّهْرِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ : غَلَطٌ . والواقدي لَا يُحْتَجُّ بِمَسَانِيدِهِ فَكَيْفَ بِمَا أَرْسَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنِدَهُ إلَى أَحَدٍ وَهَذَا فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ خَطَأٌ فَأَمَّا هَذَا فَيُعْلَمُ أَنَّهُ خَطَأٌ . وَمَنْ جَوَّزَ هَذَا فَقَدْ قَفَا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وَمَنْ حَاجَّ فِي ذَلِكَ فَقَدْ حَاجَّ فِي مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ اجْتِمَاعِ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ فَهَذَا ذَكَرُوهُ فِي ضِمْنِ كَلَامِهِمْ فِيمَا إذَا اجْتَمَعَ صَلَاةُ الْكُسُوفِ وَغَيْرُهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ رَأَوْا اجْتِمَاعَهَا مَعَ الْوِتْرِ وَالظُّهْرِ وَذَكَرُوا صَلَاةَ الْعِيدِ مَعَ عَدَمِ اسْتِحْضَارِهِمْ هَلْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ أَوْ لَا يُمْكِنُ فَلَا يُوجَدُ فِي تَقْدِيرِهِمْ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِوُجُودِ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ لَكِنْ اُسْتُفِيدَ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ عِلْمُ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ كَمَا يُقَدِّرُونَ مَسَائِلَ يُعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَقَعُ لِتَحْرِيرِ الْقَوَاعِدِ وَتَمْرِينِ الْأَذْهَانِ عَلَى ضَبْطِهَا .
وَأَمَّا تَصْدِيقُ الْمُخْبِرِ بِذَلِكَ وَتَكْذِيبُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَدَّقَ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُهُ وَلَا يُكَذَّبَ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ كَذِبُهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوهُمْ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوهُمْ } . وَالْعِلْمُ بِوَقْتِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لَكِنَّ هَذَا الْمُخْبِرَ الْمُعَيَّنَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِذَلِكَ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَقَدْ يَكُونُ ثِقَةً فِي خَبَرِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ . وَخَبَرُ الْمَجْهُولِ الَّذِي لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَصِدْقِهِ وَلَا يُعْرَفُ كَذِبُهُ مَوْقُوفٌ . وَلَوْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ وَلَكِنْ إذَا تَوَاطَأَ خَبَرُ أَهْلِ الْحِسَابِ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى خَبَرِهِمْ عِلْمٌ شَرْعِيٌّ فَإِنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ لَا تُصَلَّى إلَّا إذَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ وَإِذَا جَوَّزَ الْإِنْسَانُ صِدْقَ الْمُخْبِرِ بِذَلِكَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَنَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاسْتَعَدَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِرُؤْيَةِ ذَلِكَ كَانَ هَذَا حَثًّا مِنْ بَابِ الْمُسَارَعَةِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْكُسُوفِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ بِهَا السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهَا أَهْلُ الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . وَاسْتَفَاضَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ .
وَكَأَنَّ
بَعْضَ النَّاسِ ظَنَّ أَنَّ كُسُوفَهَا كَانَ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ مَاتَ
فَخَطَبَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : { إنَّ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ
أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ }
. وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ { وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ } . وَهَذَا بَيَانٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا سَبَبٌ لِنُزُولِ عَذَابٍ بِالنَّاسِ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا
يُخَوِّفُ عِبَادَهُ بِمَا يَخَافُونَهُ إذَا عَصَوْهُ وَعَصَوْا رُسُلَهُ
وَإِنَّمَا يَخَافُ النَّاسُ مِمَّا يَضُرُّهُمْ فَلَوْلَا إمْكَانُ حُصُولِ
الضَّرَرِ بِالنَّاسِ عِنْدَ الْخُسُوفِ مَا كَانَ ذَلِكَ تَخْوِيفًا قَالَ
تَعَالَى : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا
نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلَّا تَخْوِيفًا } وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُزِيلُ الْخَوْفَ ، أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ
وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِالنَّاسِ
وَصَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْكُسُوفِ صَلَاةً طَوِيلَةً .
وَقَدْ رُوِيَ فِي صِفَةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَنْوَاعٌ ؛ لَكِنَّ الَّذِي
اسْتَفَاضَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَهُوَ
الَّذِي اسْتَحَبَّهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ : كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد : أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ
يَقْرَأُ قِرَاءَةً طَوِيلَةً ثُمَّ يَرْكَعُ رُكُوعًا طَوِيلًا دُونَ
الْقِرَاءَةِ ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْرَأُ قِرَاءَةً طَوِيلَةً دُونَ الْقِرَاءَةِ
الْأُولَى ثُمَّ يَرْكَعُ رُكُوعًا دُونَ الرُّكُوعِ
الْأَوَّلِ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّهُ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا . وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ وَقْتَ الْكُسُوفِ إلَى أَنْ يَتَجَلَّى فَإِنْ فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ التَّجَلِّي ذَكَرَ اللَّهَ وَدَعَاهُ إلَى أَنْ يَتَجَلَّى . وَالْكُسُوفُ يَطُولُ زَمَانُهُ تَارَةً وَيَقْصُرُ أُخْرَى بِحَسَبِ مَا يَكْسِفُ مِنْهَا فَقَدْ تَكْسِفُ كُلُّهَا وَقَدْ يَكْسِفُ نِصْفُهَا أَوْ ثُلُثُهَا . فَإِذَا عَظُمَ الْكُسُوفُ طَوَّلَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَقْرَأَ بِالْبَقَرَةِ وَنَحْوِهَا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ وَبَعْدَ الرُّكُوعِ الثَّانِي يَقْرَأُ بِدُونِ ذَلِكَ . وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ مِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : { انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ بْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّاسُ : انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَإِلَى الصَّلَاةِ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِهِ
وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ { حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ } وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْهَا فَصَلُّوا وَادْعُوَا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ } . وَفِي رِوَايَةٍ لِعَائِشَةَ { فَصَلُّوا حَتَّى يُفَرِّجَ اللَّهُ مَا بِكُمْ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَسْجِدِ فَقَامَ وَكَبَّرَ وَصَفَّ النَّاسَ وَرَاءَهُ فَاقْتَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ . فَقَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ . ثُمَّ قَامَ فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً هِيَ أَدْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا هُوَ أَدْنَى مِنْ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى اسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَانْجَلَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ } . وَقَدْ جَاءَ إطَالَتُهُ لِلسُّجُودِ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ لَكِنْ رُوِيَ فِي الْقِرَاءَةِ الْمُخَافَتَةُ وَالْجَهْرُ أَصَحُّ . وَأَمَّا تَطْوِيلُ السُّجُودِ فَلَمْ
يَخْتَلِفُ
فِيهِ الْحَدِيثُ لَكِنْ فِي كُلِّ حَدِيثٍ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ وَالْأَحَادِيثُ
الصَّحِيحَةُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ لَا تَخْتَلِفُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَطَرِ وَالرَّعْدِ وَالزَّلَازِلِ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الشَّرْعِ وَعَلَى
قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا الْمَطَرُ : فَإِنَّ اللَّهَ
يَخْلُقُهُ فِي السَّمَاءِ مِنْ السَّحَابِ وَمِنْ السَّحَابِ يَنْزِلُ كَمَا
قَالَ تَعَالَى : { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ } { أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى :
{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا } وَقَالَ تَعَالَى : {
فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ } أَيْ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ .
وَقَوْلُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ السَّمَاءِ : أَيْ مِنْ الْعُلُوِّ وَالسَّمَاءُ
اسْمُ جِنْسٍ لِلْعَالِي قَدْ يَخْتَصُّ بِمَا فَوْقَ الْعَرْشِ تَارَةً
وَبِالْأَفْلَاكِ تَارَةً وَبِسَقْفِ الْبَيْتِ تَارَةً لِمَا يَقْتَرِنُ
بِاللَّفْظِ وَالْمَادَّةُ الَّتِي يُخْلَقُ مِنْهَا الْمَطَرُ هِيَ الْهَوَاءُ
الَّذِي فِي الْجَوِّ تَارَةً وَبِالْبُخَارِ الْمُتَصَاعِدِ مِنْ الْأَرْضِ
تَارَةً وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَالْفَلَاسِفَةُ
يُوَافِقُونَ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا " الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ " فَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي
التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّعْدِ قَالَ : مَلَكٌ مِنْ
الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ مَعَهُ مخاريق مِنْ نَارٍ يَسُوقُ بِهَا
السَّحَابَ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ } . وَفِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ للخرائطي :
عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّعْدِ فَقَالَ : " مَلَكٌ وَسُئِلَ
عَنْ الْبَرْقِ فَقَالَ : مخاريق بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ
عَنْهُ - مخاريق مِنْ حَدِيدٍ بِيَدِهِ " . وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ
كَذَلِكَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَقْوَالٌ لَا تُخَالِفُ ذَلِكَ .
كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ اصْطِكَاكُ أَجْرَامِ السَّحَابِ بِسَبَبِ
انْضِغَاطِ الْهَوَاءِ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَإِنَّ
الرَّعْدَ مَصْدَرُ رَعَدَ يَرْعَدُ رَعْدًا . وَكَذَلِكَ الرَّاعِدُ يُسَمَّى
رَعْدًا . كَمَا يُسَمَّى الْعَادِلُ عَدْلًا . وَالْحَرَكَةُ تُوجِبُ الصَّوْتَ
وَالْمَلَائِكَةُ هِيَ الَّتِي تُحَرِّكُ السَّحَابَ وَتَنْقُلُهُ مِنْ مَكَانٍ
إلَى مَكَانٍ وَكُلُّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ فَهِيَ
عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَصَوْتُ الْإِنْسَانِ هُوَ عَنْ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِهِ
الَّذِي هُوَ شَفَتَاهُ وَلِسَانُهُ وَأَسْنَانُهُ
وَلَهَاتُهُ
وَحَلْقُهُ . وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ مُسَبِّحًا لِلرَّبِّ . وَآمِرًا
بِمَعْرُوفِ وَنَاهِيًا عَنْ مُنْكَرٍ . فَالرَّعْدُ إذًا صَوْتٌ يَزْجُرُ
السَّحَابَ وَكَذَلِكَ الْبَرْقُ قَدْ قِيلَ : لَمَعَانُ الْمَاءِ أَوْ لَمَعَانُ
النَّارِ وَكَوْنُهُ لَمَعَانَ النَّارِ أَوْ الْمَاءِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ
اللَّامِعُ مِخْرَاقًا بِيَدِ الْمَلَكِ فَإِنَّ النَّارَ الَّتِي تَلْمَعُ بِيَدِ
الْمَلَكِ كَالْمِخْرَاقِ مِثْلَ مُزْجِي الْمَطَرِ . وَالْمَلَكُ يُزْجِي السَّحَابَ
كَمَا يُزْجِي السَّائِقُ لِلْمَطِيِّ .
وَالزَّلَازِلُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ كَمَا
يُخَوِّفُهُمْ بِالْكُسُوفِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْحَوَادِثُ لَهَا
أَسْبَابٌ وَحِكَمٌ فَكَوْنُهَا آيَةً يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ هِيَ
مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا أَسْبَابُهُ : فَمِنْ أَسْبَابِهِ انْضِغَاطُ الْبُخَارِ فِي جَوْفِ
الْأَرْضِ كَمَا يَنْضَغِطُ الرِّيحُ وَالْمَاءُ فِي الْمَكَانِ الضَّيِّقِ
فَإِذَا انْضَغَطَ طَلَبَ مَخْرَجًا فَيَشُقُّ وَيُزَلْزِلُ مَا قَرُبَ مِنْهُ
مِنْ الْأَرْضِ . وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ : إنَّ الثَّوْرَ يُحَرِّكُ
رَأْسَهُ فَيُحَرِّكُ الْأَرْضَ فَهَذَا جَهْلٌ وَإِنْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ
النَّاسِ وَبُطْلَانَهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ
الْأَرْضُ كُلُّهَا تُزَلْزَلُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ
الْجَنَائِزِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ قَوْمٍ مُسْلِمِينَ مُجَاوِرِي النَّصَارَى : فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ
إذَا مَرِضَ النَّصْرَانِيُّ أَنْ يَعُودَهُ ؟ وَإِذَا مَاتَ أَنْ يَتْبَعَ
جِنَازَتَهُ ؟ وَهَلْ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وِزْرٌ أَمْ
لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا يَتْبَعُ جِنَازَتَهُ وَأَمَّا
عِيَادَتُهُ فَلَا بَأْسَ بِهَا . فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ
لِتَأْلِيفِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَإِذَا مَاتَ كَافِرًا فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ
النَّارُ ؛ وَلِهَذَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ مَرَارَةِ مَا يُذْبَحُ وَغَيْرُهُ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ أَوْ يَحْرُمُ
هَلْ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِمَرَارَتِهِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ الْمَذْبُوحُ مِمَّا يُبَاحُ أَكْلُهُ جَازَ
التَّدَاوِي بِمَرَارَتِهِ وَإِلَّا فَلَا .
وَسُئِلَ :
هَلْ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ ؟ .
فَأَجَابَ :
التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ حَرَامٌ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَلَى ذَلِكَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ . ثَبَتَ عَنْهُ فِي
الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ تُصْنَعُ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ :
إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ } وَفِي السُّنَنِ { عَنْهُ : أَنَّهُ نَهَى
عَنْ الدَّوَاءِ بِالْخَبِيثِ } . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ
يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا } وَفِي
السُّنَنِ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ضُفْدَعٍ تُجْعَلُ فِي دَوَاءٍ فَنَهَى عَنْ
قَتْلِهَا وَقَالَ : إنَّ نَقِيقَهَا تَسْبِيحٌ } . وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ أَكْلِ
الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ قَطْعًا .
وَلَيْسَ لَهُ عَنْهُ عِوَضٌ وَالْأَكْلُ مِنْهَا وَاجِبٌ فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى
الْمَيْتَةِ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ . وَهُنَا لَا يُعْلَمُ
حُصُولُ
الشِّفَاءِ وَلَا يَتَعَيَّنُ هَذَا الدَّوَاءُ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى يُعَافِي
الْعَبْدَ بِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَالتَّدَاوِي لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَلَا يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمُدَاوَاةِ بِالْخَمْرِ : وَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا جَائِزَةٌ .
فَمَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهَا
دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ } فَاَلَّذِي يَقُولُ تَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ فَمَا
حُجَّتُهُ وَقَالُوا إنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي قَالَ فِيهِ { إنَّ اللَّهَ لَمْ
يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا } ضَعِيفٌ وَاَلَّذِي يَقُولُ
بِجَوَازِ الْمُدَاوَاةِ بِهِ فَهُوَ خِلَافُ الْحَدِيثِ وَاَلَّذِي يَقُولُ
ذَلِكَ مَا حُجَّتُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ
الْأَئِمَّةِ : كَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَحَدُ
الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { سُئِلَ عَنْ
الْخَمْرِ تُصْنَعُ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ : إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ }
وَفِي سُنَن أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
أَنَّهُ نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ } وَالْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ
اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا } وَرَوَاهُ
أَبُو حَاتِمٍ ابْنُ حِبَّانَ
فِي صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاَلَّذِينَ جَوَّزُوا التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ قَاسُوا ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ : كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ لِلْمُضْطَرِّ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ يَقِينًا بِتَنَاوُلِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهُ إذَا أَكَلَهَا سَدَّتْ رَمَقَهُ وَأَزَالَتْ ضَرُورَتَهُ وَأَمَّا الْخَبَائِثُ بَلْ وَغَيْرُهَا فَلَا يُتَيَقَّنُ حُصُولُ الشِّفَاءِ بِهَا فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَتَدَاوَى وَلَا يُشْفَى وَلِهَذَا أَبَاحُوا دَفْعَ الْغُصَّةِ بِالْخَمْرِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهَا وَتَعَيُّنِهَا لَهُ بِخِلَافِ شُرْبِهَا لِلْعَطَشِ فَقَدْ تَنَازَعُوا فِيهِ : فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إنَّهَا لَا تَرْوِي . الثَّانِي : أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى إزَالَةِ ضَرُورَتِهِ إلَّا الْأَكْلُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ وَأَمَّا التَّدَاوِي فَلَا يَتَعَيَّنُ تَنَاوُلُ هَذَا الْخَبِيثِ طَرِيقًا لِشِفَائِهِ فَإِنَّ الْأَدْوِيَةَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ وَقَدْ يَحْصُلُ الشِّفَاءُ بِغَيْرِ الْأَدْوِيَةِ كَالدُّعَاءِ وَالرُّقْيَةِ وَهُوَ أَعْظَمُ نَوْعَيْ الدَّوَاءِ . حَتَّى قَالَ بقراط : نِسْبَةُ طِبِّنَا إلَى طِبِّ أَرْبَابِ الْهَيَاكِلِ كَنِسْبَةِ طِبِّ الْعَجَائِزِ إلَى طِبِّنَا . وَقَدْ يَحْصُلُ الشِّفَاءُ بِغَيْرِ سَبَبٍ اخْتِيَارِيٍّ بَلْ بِمَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْجِسْمِ مِنْ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ مَسْرُوقٌ : مَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ . وَأَمَّا التَّدَاوِي فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ . وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بَلْ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : أَيُّمَا أَفْضَلُ : التَّدَاوِي ؟ أَمْ الصَّبْرُ ؟ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ { الْجَارِيَةِ الَّتِي كَانَتْ تُصْرَعُ وَسَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا فَقَالَ : إنْ أَحْبَبْت أَنْ تَصْبِرِي وَلَك الْجَنَّةُ وَإِنْ أَحْبَبْت دَعَوْت اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَك فَقَالَتْ : بَلْ أَصْبِرُ وَلَكِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَلَّا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا أَلَّا تَتَكَشَّفَ } وَلِأَنَّ خَلْقًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَكُونُوا يَتَدَاوَوْنَ بَلْ فِيهِمْ مَنْ اخْتَارَ الْمَرَضَ . كأبي بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ تَرْكُ التَّدَاوِي . وَإِذَا كَانَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَاجِبًا وَالتَّدَاوِي لَيْسَ بِوَاجِبِ لَمْ يَجُزْ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّ مَا كَانَ وَاجِبًا قَدْ يُبَاحُ فِيهِ مَا يُبَاحُ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ ؛ لِكَوْنِ مَصْلَحَةِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ تَغْمُرُ مَفْسَدَةَ الْمُحَرَّمِ وَالشَّارِعُ يَعْتَبِرُ الْمَفَاسِدَ وَالْمَصَالِحَ فَإِذَا اجْتَمَعَا قَدَّمَ الْمَصْلَحَةَ الرَّاجِحَةَ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ ؛ وَلِهَذَا أَبَاحَ فِي الْجِهَادِ الْوَاجِبِ مَا لَمْ يُبِحْهُ فِي غَيْرِهِ حَتَّى أَبَاحَ رَمْيَ الْعَدُوِّ بِالْمَنْجَنِيقِ وَإِنْ أَفْضَى ذَلِكَ إلَى قَتْلِ
النِّسَاءِ
وَالصِّبْيَانِ وَتَعَمُّدُ ذَلِكَ يَحْرُمُ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي
الشَّرِيعَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وُصِفَ لَهُ شَحْمُ الْخِنْزِيرِ لِمَرَضٍ بِهِ : هَلْ يَجُوزُ لَهُ
ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا التَّدَاوِي بِأَكْلِ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَا يَجُوزُ . وَأَمَّا
التَّدَاوِي بِالتَّلَطُّخِ بِهِ ثُمَّ يَغْسِلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَذَا
يَنْبَنِي عَلَى جَوَازِ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ،
وَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ . كَمَا
يَجُوزُ اسْتِنْجَاءُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِيَدِهِ .
وَمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ جَازَ التَّدَاوِي بِهِ . كَمَا يَجُوزُ التَّدَاوِي
بِلُبْسِ الْحَرِيرِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ
كَالْمَطَاعِمِ الْخَبِيثَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا . كَمَا لَا يَجُوزُ
التَّدَاوِي بِشُرْبِ الْخَمْرِ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ :
إنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ فِي طَلْيِ السُّفُنِ
وَدَهْنِ الْجُلُودِ
وَالِاسْتِصْبَاحِ
بِهِ وَأَقَرَّهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ .
وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ ثَمَنِهِ . وَلِهَذَا رَخَّصَ مَنْ لَمْ يَقُلْ
بِطَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي
الْيَابِسَاتِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَفِي الْمَائِعَاتِ الَّتِي لَا
تُنَجِّسُهَا .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَتَدَاوَى بِالْخَمْرِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
الْمُحَرَّمَاتِ : هَلْ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْآيَةُ
: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ
إلَيْهِ } فِي إبَاحَةِ مَا ذُكِرَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِذَلِكَ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ
يُتَدَاوَى بِهَا فَقَالَ : إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ } وَفِي السُّنَنِ
{ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ بِالْخَبِيثِ وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ
يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا } . وَلَيْسَ ذَلِكَ
بِضَرُورَةِ فَإِنَّهُ لَا يُتَيَقَّنُ الشِّفَاءُ بِهَا كَمَا يُتَيَقَّنُ
الشِّبَعُ بِاللَّحْمِ الْمُحَرَّمِ ؛ وَلِأَنَّ الشِّفَاءَ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ
طَرِيقٌ بَلْ يَحْصُلُ بِأَنْوَاعِ
مِنْ
الْأَدْوِيَةِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَخْمَصَةِ فَإِنَّهَا لَا تَزُولُ
إلَّا بِالْأَكْلِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْمَرِيضِ إذَا قَالَتْ لَهُ الْأَطِبَّاءُ : مَا لَك دَوَاءٌ غَيْرَ أَكْلِ
لَحْمِ الْكَلْبِ أَوْ الْخِنْزِيرِ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ مَعَ قَوْله
تَعَالَى { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ }
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ لَمْ
يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا } ؟ وَإِذَا وَصَفَ لَهُ
الْخَمْرَ أَوْ النَّبِيذَ : هَلْ يَجُوزُ شُرْبُهُ مَعَ هَذِهِ النُّصُوصِ ؟ أَمْ
لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْخَبَائِثِ لِمَا رَوَاهُ
وَائِلُ بْنُ حجر { أَنَّ طَارِقَ بْنَ سويد الجعفي . سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ عَنْهَا فَقَالَ : إنَّمَا
أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءِ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ }
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ
: قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ
اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ وَأَنْزَلَ الدَّاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً
فَتَدَاوَوْا وَلَا تَتَدَاوَوْا بِحَرَامِ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ الدَّوَاءِ بِالْخَبِيثِ } وَفِي لَفْظٍ يَعْنِي السُّمَّ رَوَاهُ
أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي . وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ : { ذَكَرَ طَبِيبٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَوَاءً وَذَكَرَ الضُّفْدَعَ تُجْعَلُ فِيهِ فَنَهَى رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ } رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي السُّكْرِ : " إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ " ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا صَرِيحَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّدَاوِي بِالْخَبَائِثِ مُصَرِّحَةٌ بِتَحْرِيمِ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ إذْ هِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ وَجِمَاعُ كُلِّ إثْمٍ . وَالْخَمْرُ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ كَمَا ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } وَفِي رِوَايَةٍ { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ : الْبِتْعِ وَهُوَ مِنْ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ وَالْمِزْرِ : وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِتْعِ . وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ - وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ فَقَالَ : كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِي وَغَيْرُهُمَا : عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ حُبْشَانَ مِنْ الْيَمَنِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ : الْمِزْرُ فَقَالَ : أَمُسْكِرٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ } الْحَدِيثَ . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ صَرِيحَةٌ بِأَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَأَنَّهُ خَمْرٌ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ وَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْلُ الْأَطِبَّاءِ : إنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ إلَّا بِهَذَا الدَّوَاءِ الْمُعَيَّنِ . فَهَذَا قَوْلُ جَاهِلٍ لَا يَقُولُهُ مَنْ يَعْلَمُ الطِّبَّ أَصْلًا فَضْلًا عَمَّنْ يَعْرِفُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الشِّفَاءَ لَيْسَ فِي سَبَبٍ مُعَيَّنٍ يُوجِبُهُ فِي الْعَادَةِ كَمَا لِلشِّبَعِ سَبَبٌ مُعَيَّنٌ يُوجِبُهُ فِي الْعَادَةِ إذْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْفِيهِ اللَّهُ بِلَا دَوَاءٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفِيهِ اللَّهُ بِالْأَدْوِيَةِ الْجُثْمَانِيَّةِ حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فَلَا يَحْصُلُ الشِّفَاءُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلشِّبَعِ ؛ وَلِهَذَا أَبَاحَ اللَّهُ لِلْمُضْطَرِّ الْخَبَائِثَ أَنْ يَأْكُلَهَا عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إلَيْهَا فِي الْمَخْمَصَةِ فَإِنَّ الْجُوعَ يَزُولُ بِهَا وَلَا يَزُولُ بِغَيْرِهَا بَلْ يَمُوتُ أَوْ يَمْرَضُ مِنْ الْجُوعِ فَلَمَّا تَعَيَّنَتْ طَرِيقًا
إلَى الْمَقْصُودِ أَبَاحَهَا اللَّهُ بِخِلَافِ الْأَدْوِيَةِ الْخَبِيثَةِ . بَلْ قَدْ قِيلَ : مَنْ اسْتَشْفَى بِالْأَدْوِيَةِ الْخَبِيثَةِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى مَرَضٍ فِي قَلْبِهِ وَذَلِكَ فِي إيمَانِهِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ الْمُؤْمِنِينَ لَمَا جَعَلَ اللَّهُ شِفَاءَهُ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا إذَا اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَمَّا التَّدَاوِي فَلَا يَجِبُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ بِالْحَلَالِ وَتَنَازَعُوا : هَلْ الْأَفْضَلُ فِعْلُهُ ؟ أَوْ تَرْكُهُ عَلَى طَرِيقِ التَّوَكُّلِ ؟ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرَهَا لَمْ يُبِحْ ذَلِكَ إلَّا لِمَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهَا غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ وَفِي آيَةٍ أُخْرَى : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُتَدَاوِيَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَيْهَا فَعُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ . وَأَمَّا مَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ لَا لِمُجَرَّدِ الضَّرُورَةِ : كَلِبَاسِ الْحَرِيرِ ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا } وَهَذَا جَائِزٌ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّ لُبْسَ الْحَرِيرِ إنَّمَا حُرِّمَ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ ، وَلِهَذَا أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ لِحَاجَتِهِنَّ إلَى التَّزَيُّنِ بِهِ وَأُبِيحَ لَهُنَّ التَّسَتُّرُ بِهِ مُطْلَقًا فَالْحَاجَةُ إلَى التَّدَاوِي بِهِ كَذَلِكَ بَلْ أَوْلَى وَهَذِهِ حُرِّمَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ
السَّرَفِ
وَالْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ
لُبْسُهَا لِلْبَرْدِ : أَوْ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَسْتَتِرُ بِهِ
غَيْرُهَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ يُنْكِرُ مَا تَفْعَلُهُ الشَّيَاطِينُ الجانة مِنْ
مَسِّهَا وتخبيطها وَجَوَلَانِ بَوَارِقِهَا عَلَى بَنِي آدَمَ وَاعْتِرَاضِهَا ؟
فَهَلْ لِذَلِكَ مُعَالَجَةٌ بِالْمُخَرَّقَاتِ وَالْأَحْرَازِ وَالْعَزَائِمِ
وَالْأَقْسَامِ وَالرُّقَى وَالتَّعَوُّذَاتِ وَالتَّمَائِمِ ؟ وَأَنَّ بَعْضَ
النَّاسِ قَالَ : لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْجِنَّ يَرْجِعُونَ إلَى
الْحَقَائِقِ عِنْدَ عَامِرَةِ الْأَجْسَادِ بِالْبَوَارِ وَأَنَّ هَذِهِ
الْخَوَاتِمَ الْمُتَّخَذَةَ مَعَ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْ سُرْيَانِيٍّ
وَعِبْرَانِيٍّ وَعَجَمِيٍّ وَعَرَبِيٍّ لَيْسَ لَهَا بُرْهَانٌ وَأَنَّهَا مِنْ
مُخْتَلَقِ الْأَقَاوِيلِ وَخُرَافَاتِ الْأَبَاطِيلِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ
مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ الْقُوَّةِ وَلَا مِنْ الْقَبْضِ بِحَيْثُ يَفْعَلُ مَا
ذَكَرْنَا مِنْ مُتَوَلِّي هَذَا الشَّأْنِ عَلَى مَمَرِّ الدُّهُورِ
وَالْأَوْقَاتِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وُجُودُ الْجِنِّ ثَابِتٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ
رَسُولِهِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . وَكَذَلِكَ دُخُولُ
الْجِنِّيِّ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ أَهْلِ
السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ
مِنَ الْمَسِّ } وَفِي
الصَّحِيحِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي
مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ } . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ
أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ قُلْت لِأَبِي : إنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ : إنَّ
الْجِنِّيَّ لَا يَدْخُلُ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ
يَكْذِبُونَ هَذَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَمْرٌ
مَشْهُورٌ فَإِنَّهُ يَصْرَعُ الرَّجُلَ فَيَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ لَا يَعْرِف
مَعْنَاهُ وَيُضْرَبُ عَلَى بَدَنِهِ ضَرْبًا عَظِيمًا لَوْ ضُرِبَ بِهِ جَمَلٌ
لَأَثَّرَ بِهِ أَثَرًا عَظِيمًا . وَالْمَصْرُوعُ مَعَ هَذَا لَا يُحِسُّ
بِالضَّرْبِ وَلَا بِالْكَلَامِ الَّذِي يَقُولُهُ وَقَدْ يَجُرُّ الْمَصْرُوعَ وَغَيْرَ
الْمَصْرُوعِ وَيَجُرُّ الْبِسَاطَ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَيُحَوِّلُ آلَاتٍ
وَيَنْقُلُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ وَيُجْرِي غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ
مَنْ شَاهَدَهَا أَفَادَتْهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأَنَّ النَّاطِقَ عَلَى
لِسَانِ الْإِنْسِيِّ وَالْمُحَرِّكَ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ
الْإِنْسَانِ . وَلَيْسَ فِي أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُنْكِرُ دُخُولَ
الْجِنِّيِّ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ وَغَيْرِهِ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَادَّعَى
أَنَّ الشَّرْعَ يُكَذِّبُ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَ فِي
الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ .
وَأَمَّا مُعَالَجَةُ الْمَصْرُوعِ بِالرُّقَى وَالتَّعَوُّذَاتِ فَهَذَا عَلَى
وَجْهَيْنِ : فَإِنْ كَانَتْ الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذُ مِمَّا يُعْرَفُ مَعْنَاهَا وَمِمَّا يَجُوزُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا الرَّجُلُ دَاعِيًا اللَّهَ ذَاكِرًا لَهُ وَمُخَاطِبًا لِخَلْقِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرْقَى بِهَا الْمَصْرُوعُ وَيُعَوَّذَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَذِنَ فِي الرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا } . { وَقَالَ : مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ } . وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ كَلِمَاتٌ مُحَرَّمَةٌ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا شِرْكٌ أَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الْمَعْنَى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا كُفْرٌ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْقِيَ بِهَا وَلَا يُعَزِّمَ وَلَا يُقْسِمَ وَإِنْ كَانَ الْجِنِّيُّ قَدْ يَنْصَرِفُ عَنْ الْمَصْرُوعِ بِهَا فَإِنَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ كَالسِّيمَيا وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ فَإِنَّ السَّاحِرَ السيماوي وَإِنْ كَانَ يَنَالُ بِذَلِكَ بَعْضَ أَغْرَاضِهِ كَمَا يَنَالُ السَّارِقُ بِالسَّرِقَةِ بَعْضَ أَغْرَاضِهِ وَكَمَا يَنَالُ الْكَاذِبُ بِكَذِبِهِ وَبِالْخِيَانَةِ بَعْضَ أَغْرَاضِهِ وَكَمَا يَنَالُ الْمُشْرِكُ بِشِرْكِهِ وَكُفْرِهِ بَعْضَ أَغْرَاضِهِ وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ نَالُوا بَعْضَ أَغْرَاضِهِمْ بِهَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهَا تَعْقُبُهُمْ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِمَّا حَصَّلُوهُ مِنْ أَغْرَاضِهِمْ . فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ الرُّسُلَ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَتِهِ وَمَنْفَعَتُهُ رَاجِحَةٌ عَلَى الْمَضَرَّةِ . وَإِنْ كَرِهَتْهُ النُّفُوسُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ } الْآيَةَ . فَأَمَرَ بِالْجِهَادِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلنُّفُوسِ لَكِنَّ مَصْلَحَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَا يَحْصُلُ لِلنُّفُوسِ مِنْ أَلَمِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَشْرَبُ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ لِتَحْصُلَ لَهُ الْعَافِيَةُ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ حُصُولِ الْعَافِيَةِ لَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى أَلَمِ شُرْبِ الدَّوَاءِ . وَكَذَلِكَ التَّاجِرُ الَّذِي يَتَغَرَّبُ عَنْ وَطَنِهِ وَيَسْهَرُ وَيَخَافُ وَيَتَحَمَّلُ هَذِهِ الْمَكْرُوهَاتِ مَصْلَحَةُ الرِّبْحِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى هَذِهِ الْمَكَارِهِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ السَّاحِرِ : { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ السَّاحِرَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ . وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ بَعْضَ أَغْرَاضِهِمْ فِي الدُّنْيَا { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } آمَنُوا وَاتَّقَوْا بِفِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ لَكَانَ مَا يَأْتِيهِمْ بِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُمْ بِالسِّحْرِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } . وَقَالَ : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } . وَقَالَ : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً }
الْآيَتَيْنِ . وَقَالَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } { أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا } . وَالْأَحَادِيثُ فِيمَا يُثِيبُ اللَّهُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَدْفَعَ كُلَّ ضَرَرٍ بِمَا شَاءَ وَلَا يَجْلِبُ كُلَّ نَفْعٍ بِمَا شَاءَ بَلْ لَا يَجْلِبُ النَّفْعَ إلَّا بِمَا فِيهِ تَقْوَى اللَّهِ وَلَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ إلَّا بِمَا فِيهِ تَقْوَى اللَّهِ فَإِنْ كَانَ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْعَزَائِمِ وَالْأَقْسَامِ وَالدُّعَاءِ وَالْخَلْوَةِ وَالسَّهَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَفْعَلْهُ . فَمَنْ كَذَّبَ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ مِنْ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالسِّحْرِ وَمَا يَأْتُونَ بِهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ - كَدُعَاءِ الْكَوَاكِبِ وَتَخْرِيجِ الْقُوَى الْفَعَّالَةِ السَّمَاوِيَّةِ بِالْقُوَى الْمُنْفَعِلَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَمَا يَنْزِلُ مِنْ الشَّيَاطِينِ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ فَالشَّيَاطِينُ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ وَيُسَمُّونَهَا رُوحَانِيَّةَ الْكَوَاكِبِ - وَأَنْكَرُوا دُخُولَ الْجِنِّ فِي أَبْدَانِ الْإِنْسِ وَحُضُورَهَا بِمَا يَسْتَحْضِرُونَ بِهِ مِنْ الْعَزَائِمِ وَالْأَقْسَامِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فَقَدْ كَذَّبَ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمًا . وَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ بِمَا رَآهُ مُؤَثِّرًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِنَ ذَلِكَ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ - فَيَفْعَلُ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَيَتْرُكُ
مَا حَرَّمَ اللَّهُ - وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إمَّا مِنْ الْكُفْرِ وَإِمَّا مِنْ الْفُسُوقِ وَإِمَّا الْعِصْيَانِ بَلْ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيَتْرُكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ . وَمِمَّا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّعَوُّذِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ . وَلَمْ يَقْرَبْهُ شَيْطَانٌ حَتَّى يُصْبِحَ } وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ : { أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ } . { وَلَمَّا جَاءَتْهُ الشَّيَاطِينُ بِلَهَبٍ مِنْ نَارٍ أَمَرَ بِهَذَا التَّعَوُّذِ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ } . فَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ الَّتِي يَقُولُهَا الْعَبْدُ إذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى وَإِذَا نَامَ وَإِذَا خَافَ شَيْئًا وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا فِيهِ بَلَاغٌ . فَمَنْ سَلَكَ مِثْلَ هَذِهِ السَّبِيلِ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَمَنْ دَخَلَ فِي سَبِيلِ أَهْلِ الْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ الدَّاخِلَةِ فِي الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ فَقَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَبِذَلِكَ ذَمَّ
اللَّهُ
مَنْ ذَمَّهُ مِنْ مُبَدِّلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ . حَيْثُ قَالَ : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ } { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى } - إلَى
قَوْلِهِ - { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
} وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا كَوْنُهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ كَيْفِيَّةُ الْجِنِّ وَمَقَالَتُهُمْ
بِعَدَمِ عِلْمِهِ لَمْ يُنْكَرْ وُجُودُهُمْ إذْ وُجُودُهُمْ ثَابِتٌ بِطُرُقٍ
كَثِيرَةٍ غَيْرِ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ
رَآهُمْ وَفِيهِمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَآهُمْ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِالْخَبَرِ
وَالْيَقِينِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَلَّمَهُمْ وَكَلَّمُوهُ . وَمِنْ النَّاسِ
مَنْ يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِمْ . وَهَذَا يَكُونُ
لِصَالِحِينَ وَغَيْرِ صَالِحِينَ . وَلَوْ ذَكَرْت مَا جَرَى لِي وَلِأَصْحَابِي
مَعَهُمْ لَطَالَ الْخِطَابُ وَكَذَلِكَ
مَا
جَرَى لِغَيْرِنَا لَكِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الْأَجْوِبَةِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى
مَا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي عِلْمِهِ لَا يَكُونُ بِمَا يَخْتَصُّ بِعِلْمِهِ
الْمُجِيبُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ لِمَنْ يُصَدِّقُهُ فِيمَا يُخْبِرُ
بِهِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَقُولُ : يَا أَزِرَّانِ : يَا كِيَان هَلْ صَحَّ أَنَّ هَذِهِ أَسْمَاءٌ
وَرَدَتْ بِهَا السُّنَّةُ لَمْ يَحْرُمْ قَوْلُهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَمْ يَنْقُلْ هَذِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ لَا
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا بِإِسْنَادِ ضَعِيفٍ وَلَا سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا
أَئِمَّتِهَا . وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا مَعْنَى لَهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ؛
فَكُلُّ اسْمٍ مَجْهُولٍ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْقِيَ بِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ
يَدْعُوَ بِهِ وَلَوْ عَرَفَ مَعْنَاهَا وَأَنَّهُ صَحِيحٌ لَكُرِهَ أَنْ يَدْعُوَ
اللَّهَ بِغَيْرِ الْأَسْمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ أُصِيبَ بِمَرَضِ فَإِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ اسْتَغَاثَ
بِاَللَّهِ تَعَالَى وَيَبْكِي . فَهَلْ تَكُونُ اسْتِغَاثَتُهُ مِمَّا يُنَافِي
الصَّبْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ ؟ أَوْ هُوَ
تَضَرُّعٌ
وَالْتِجَاءٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
دُعَاؤُهُ اللَّهَ وَاسْتِغَاثَتُهُ بِهِ وَاشْتِكَاؤُهُ إلَيْهِ لَا يُنَافِي
الصَّبْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ . وَإِنَّمَا يُنَافِيهِ فِي ذَلِكَ الِاشْتِكَاءُ
إلَى الْمَخْلُوقِ . وَلَقَدْ قَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ } وَقَالَ : { إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ . } وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ طَاوُوسٍ : أَنَّهُ كَرِهَ أَنِينَ الْمَرِيضِ . وَقَالَ : إنَّهُ
شَكْوَى وَقُرِئَ ذَلِكَ عَلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَمَا
أَنَّ حَتَّى مَاتَ . وَيُرْوَى عَنْ السُّرِّيِّ السقطي أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ
الْمَرِيضِ : آهْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَهَذَا إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ وَهَذَا كَمَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ : { إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي
وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ } ثُمَّ بَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ مِنْ آخِرِ
الصُّفُوفِ فَالْأَنِينُ وَالْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَالتَّضَرُّعُ
وَالشِّكَايَةُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَسَنٌ وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ
فَيُكْرَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مُبْتَلًى سَكَنَ فِي دَارٍ بَيْنَ قَوْمٍ أَصِحَّاءَ فَقَالَ
بَعْضُهُمْ : لَا يُمْكِنُنَا مُجَاوَرَتُك وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُجَاوِرَ
الْأَصِحَّاءَ فَهَلْ يَجُوزُ إخْرَاجُهُ ؟ .
فَأَجَابَ
: نَعَمْ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ السَّكَنِ بَيْنَ الْأَصِحَّاءِ فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يُورَدُ مُمَرَّضٌ
عَلَى مُصِحٍّ } فَنَهَى صَاحِبَ الْإِبِلِ الْمِرَاضِ أَنْ يُورِدَهَا عَلَى
صَاحِبِ الْإِبِلِ الصِّحَاحِ مَعَ قَوْلِهِ : { لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ } .
وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ مَجْذُومٌ لِيُبَايِعَهُ أَرْسَلَ
إلَيْهِ بِالْبَيْعَةِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي دُخُولِ الْمَدِينَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الَّذِي كَانَ لَا يُصَلِّي هَلْ لِأَحَدٍ
فِيهَا أَجْرٌ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ إذَا تَرَكَهَا مَعَ عِلْمِهِ
أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي ؟ وَكَذَلِكَ الَّذِي يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَمَا كَانَ
يُصَلِّي هَلْ يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ يَعْلَمُ حَالَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ
أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَنْ كَانَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ
الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ : مِنْ الْمُنَاكَحَةِ والموارثة وَتَغْسِيلِهِ
وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛
لَكِنْ مَنْ عُلِمَ مِنْهُ النِّفَاقُ وَالزَّنْدَقَةُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ
لِمَنْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مُظْهِرًا
لِلْإِسْلَامِ فَإِنَّ اللَّهَ نَهَى نَبِيَّهُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى
الْمُنَافِقِينَ . فَقَالَ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا
وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } وَقَالَ : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } . وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُظْهِرًا لِلْفِسْقِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ فَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى أَحَدِهِمْ زَجْرًا لِأَمْثَالِهِ عَنْ مِثْلِ مَا فَعَلَهُ كَمَا امْتَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَعَلَى الْغَالِّ وَعَلَى الْمَدِينِ الَّذِي لَا وَفَاءَ لَهُ وَكَمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ يَمْتَنِعُونَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ - كَانَ عَمَلُهُ بِهَذِهِ السُّنَّةِ حَسَنًا . ( وَقَدْ قَالَ لِجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البجلي ابْنُهُ : إنِّي لَمْ أَنَمْ الْبَارِحَةَ بَشَمًا فَقَالَ : أَمَا إنَّك لَوْ مُتّ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْك ) (*) . كَأَنَّهُ يَقُولُ : قَتَلْت نَفْسَك بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ . وَهَذَا مِنْ جِنْسِ هَجْرِ الْمُظْهِرِينَ لِلْكَبَائِرِ حَتَّى يَتُوبُوا فَإِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِثْلُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا وَمَنْ صَلَّى عَلَى أَحَدِهِمْ يَرْجُو لَهُ رَحْمَةَ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي امْتِنَاعِهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا وَلَوْ امْتَنَعَ فِي الظَّاهِرِ وَدَعَا لَهُ فِي الْبَاطِنِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ كَانَ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ تَفْوِيتِ إحْدَاهُمَا . وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ النِّفَاقُ وَهُوَ مُسْلِمٌ يَجُوزُ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ بَلْ يُشْرَعُ ذَلِكَ وَيُؤْمَرُ بِهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَكُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْكَبَائِرَ فَإِنَّهُ تَسُوغُ عُقُوبَتُهُ بِالْهَجْرِ
وَغَيْرِهِ
حَتَّى مِمَّنْ فِي هَجْرِهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ رَاجِحَةٌ فَتَحْصُلُ الْمَصَالِحُ
الشَّرْعِيَّةُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يُصَلِّي وَقْتًا وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ كَثِيرًا أَوْ لَا يُصَلِّي
هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
مِثْلُ هَذَا مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ بَلْ الْمُنَافِقُونَ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ النِّفَاقَ يُصَلِّي الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ
وَيُغَسَّلُونَ وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ . كَمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِنْ كَانَ
عَلِمَ نِفَاقَ شَخْصٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ كَمَا نَهَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عُلِمَ
نِفَاقُهُ . وَأَمَّا مَنْ شَكَّ فِي حَالِهِ فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ إذَا
كَانَ ظَاهِرَ الْإِسْلَامِ . كَمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ
نِفَاقُهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ
مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا
تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ النَّهْيُ
عَنْهُ
وَلَكِنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ
عَلَى الْمُنَافِقِ لَا تَنْفَعُهُ . كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَلْبَسَ ابْنَ أبي قَمِيصَهُ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ
قَمِيصِي مِنْ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ
لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } . وَتَارِكُ
الصَّلَاةِ أَحْيَانًا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْفِسْقِ فَأَهْلُ
الْعِلْمِ وَالدِّينِ إذَا كَانَ فِي هَجْرِ هَذَا وَتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ
مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ بَاعِثًا لَهُمْ عَلَى
الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ هَجَرُوهُ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ
كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ عَلَى
قَاتِلِ نَفْسِهِ وَالْغَالِّ وَالْمَدِينِ الَّذِي لَا وَفَاءَ لَهُ وَهَذَا
شَرٌّ مِنْهُمْ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ امْتَنَعَ
عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَتَّى يُخْلِفَ وَفَاءً قَبْلَ أَنْ
يَتَمَكَّنَ مِنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ فَلَمَّا تَمَكَّنَ صَارَ هُوَ
يُوَفِّيهِ مِنْ عِنْدِهِ فَصَارَ الْمَدِينُ يُخْلِفُ وَفَاءً .
هَذَا
مَعَ قَوْلِهِ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى عَنْهُ : { إنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ
عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَلْقَاهُ عَبْدٌ بِهَا بَعْدَ الْكَبَائِرِ الَّتِي نَهَى
عَنْهَا أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَدَعُ قَضَاءً } رَوَاهُ
أَحْمَد . فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ تَرْكَ الدَّيْنِ بَعْدَ الْكَبَائِرِ . فَإِذَا
كَانَ قَدْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَدِينِ الَّذِي لَا قَضَاءَ لَهُ فَعَلَى
فَاعِلِ الْكَبَائِرِ أَوْلَى وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ قَاتِلُ نَفْسِهِ وَالْغَالُّ
: لَمَّا لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمَا . وَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ
يَجُوزُ لِذَوِي الْفَضْلِ تَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى ذَوِي الْكَبَائِرِ الظَّاهِرَةِ
وَالدُّعَاةِ إلَى الْبِدَعِ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ جَائِزَةً فِي
الْجُمْلَةِ . فَأَمَّا قَوْلُهُ : { الشَّهِيدُ يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا
الدَّيْنُ } فَأَرَادَ بِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ يُوَفَّاهُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَمْلُوكٌ هَرَبَ ثُمَّ رَجَعَ . فَلَمَّا رَجَعَ أَخَذَ
سِكِّينَتَهُ وَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهَلْ يَأْثَمُ سَيِّدُهُ ؟ وَهَلْ تَجُوزُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ . وَإِنْ كَانَ
سَيِّدُهُ قَدْ ظَلَمَهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ بَلْ كَانَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ
يُمْكِنْهُ رَفْعُ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ
أَنْ
يَصْبِرَ إلَى أَنْ يُفَرِّجَ اللَّهُ . فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ ظَلَمَهُ حَتَّى
فَعَلَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُقَتِّرَ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ أَوْ يَعْتَدِيَ
عَلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَوْ يَضْرِبَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ يُرِيدَ بِهِ
فَاحِشَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَإِنَّ عَلَى سَيِّدِهِ مِنْ الْوِزْرِ بِقَدْرِ مَا
نُسِبَ إلَيْهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ . { وَلَمْ يُصَلِّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ . فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : صَلُّوا
عَلَيْهِ } فَيَجُوزُ لِعُمُومِ النَّاسِ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ . وَأَمَّا
أَئِمَّةُ الدِّينِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ ، فَإِذَا تَرَكُوا الصَّلَاةَ
عَلَيْهِ زَجْرًا لِغَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَهَذَا حَقٌّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يَدَّعِي الْمَشْيَخَةَ : فَرَأَى ثُعْبَانًا فَقَامَ بَعْضُ مَنْ
حَضَرَ لِيَقْتُلَهُ فَمَنَعَهُ عَنْهُ وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ
لَهُ فَلَدَغَهُ الثُّعْبَانُ فَمَاتَ ، فَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ؟
أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ
أَنْ يَتْرُكُوا الصَّلَاةَ عَلَى هَذَا وَنَحْوِهِ وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي
عَلَيْهِ عُمُومُ النَّاسِ كَمَا { امْتَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَعَلَى
الْغَالِّ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَقَالَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ } . وَقَالُوا لسمرة بْنِ جُنْدُبٍ : إنَّ ابْنَك الْبَارِحَةَ لَمْ يَبِتْ فَقَالَ : بَشَمًا ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ : أَمَا إنَّهُ لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ ، فَبَيَّنَ سَمُرَةُ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ بَشَمًا لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ . فَهَذَا الَّذِي مَنَعَ مِنْ قَتْلِ الْحَيَّةِ وَأَمْسَكَهَا بِيَدِهِ حَتَّى قَتَلَتْهُ أَوْلَى أَنْ يَتْرُكَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَاتِلُ نَفْسِهِ بَلْ لَوْ فَعَلَ هَذَا غَيْرُهُ بِهِ لَوَجَبَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا لَا تَقْتُلُ فَهَذَا شَبِيهُ عَمَلِهِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي أَكَلَ حَتَّى بَشَمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَ نَفْسِهِ فَمَنْ جَنَى جِنَايَةً لَا تَقْتُلُ غَالِبًا كَانَ شِبْهَ عَمْدٍ وَإِمْسَاكُ الْحَيَّاتِ مِنْ نَوْعِ الْجِنَايَاتِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مُبَاحٍ . وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَذَا الْفِعْلِ إلَّا إظْهَارَ خَارِقِ الْعَادَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَمْنَعُ انْخِرَاقَ الْعَادَةِ . كَيْفَ وَغَالِبُ هَؤُلَاءِ كَذَّابُونَ مُلْبِسُونَ خَارِجُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَهْيِهِ يُخْرِجُونَ النَّاسَ عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ إلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَيُفْسِدُونَ عَقْلَ النَّاسِ وَدِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ فَيَجْعَلُونَ الْعَاقِلَ مُولَهًا كَالْمَجْنُونِ أَوْ مُتَوَلِّهًا بِمَنْزِلَةِ الشَّيْطَانِ الْمَفْتُونِ وَيُخْرِجُونَ الْإِنْسَانَ عَنْ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بِدَعٍ مُضَادَّةٍ لَهَا فَيَفْتِلُونَ الشُّعُورَ
وَيَكْشِفُونَ الرُّؤُوسَ بَدَلًا عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَرْجِيلِ الشِّعْرِ وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ بَدَلًا عَنْ سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَيُصَلُّونَ صَلَاةً نَاقِصَةَ الْأَرْكَانِ وَالْوَاجِبَاتِ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى بِدَعِهِمْ الْمُنْكَرَةِ عَلَى أَتَمِّ الْحَالَاتِ وَيَصْنَعُونَ اللَّاذَنَ وَمَاءَ الْوَرْدِ وَالزَّعْفَرَانَ لِإِمْسَاكِ الْحَيَّاتِ وَدُخُولِ النَّارِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْحِيَلِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ بَدَلًا عَمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَيُفْسِدُونَ مَنْ يُفْسِدُونَهُ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ بَدَلًا عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعِفَّةِ وَغَضِّ الْبَصَرِ ، وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَكَفِّ اللِّسَانِ . وَمَنْ كَانَ مُبْتَدِعًا ظَاهِرَ الْبِدْعَةِ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَمِنْ الْإِنْكَارِ الْمَشْرُوعِ أَنْ يُهْجَرَ حَتَّى يَتُوبَ وَمِنْ الْهَجْرِ امْتِنَاعُ أَهْلِ الدِّينِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِيَنْزَجِرَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِطَرِيقَتِهِ وَيَدْعُو إلَيْهِ وَقَدْ أَمَرَ بِمِثْلِ هَذَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ رَكِبَ الْبَحْرَ لِلتِّجَارَةِ ، فَغَرِقَ فَهَلْ مَاتَ شَهِيدًا ؟ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ مَاتَ شَهِيدًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِرُكُوبِهِ فَإِنَّهُ قَدْ
صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
الْغَرِيقُ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْحَرِيقُ شَهِيدٌ وَالْمَيِّتُ
بِالطَّاعُونِ شَهِيدٌ وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ فِي نِفَاسِهَا شَهِيدَةٌ وَصَاحِبُ
الْهَدْمِ شَهِيدٌ } . وَجَاءَ ذِكْرُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ . وَرُكُوبُ الْبَحْرِ
لِلتِّجَارَةِ جَائِزٌ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ السَّلَامَةُ . وَأَمَّا
بِدُونِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ لِلتِّجَارَةِ فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ
أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ : إنَّهُ شَهِيدٌ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْجِنَازَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ مَعَ الْجِنَازَةِ لَا
بِقِرَاءَةِ
وَلَا ذِكْرٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ هَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ؛ بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُتْبَعَ بِصَوْتِ أَوْ نَارٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَسَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَجُلًا يَقُولُ فِي جِنَازَةٍ : اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا غَفَرَ اللَّهُ بَعْدُ . وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ - وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ خَفْضَ الصَّوْتِ عِنْدَ الْجَنَائِزِ وَعِنْدَ الذِّكْرِ وَعِنْدَ الْقِتَالِ . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالْآثَارِ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ . وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : إنَّ هَذَا قَدْ صَارَ إجْمَاعًا مِنْ النَّاسِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَا زَالَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَمَا زَالَتْ جَنَائِزُ كَثِيرَةٌ تَخْرُجُ بِغَيْرِ هَذَا فِي عِدَّةِ أَمْصَارٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا كَوْنُ أَهْلِ بَلَدٍ أَوْ بَلَدَيْنِ أَوْ عَشْرٍ تَعَوَّدُوا ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا بِإِجْمَاعِ ؛ بَلْ أَهْلُ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَهِيَ دَارُ الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ ؛ وَالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ؛ بَلْ لَوْ اتَّفَقُوا فِي مِثْلِ زَمَنِ مَالِكٍ وَشُيُوخِهِ عَلَى شَيْءٍ وَلَمْ يَنْقُلُوهُ عَنْ
النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ خُلَفَائِهِ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعُهُمْ
حُجَّةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْدَ زَمَنِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ
لَيْسَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ
مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ هَذَا يُشَبَّهُ
بِجَنَائِزِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ أَهْلُ الْكِتَابِ
عَادَتُهُمْ رَفْعُ الْأَصْوَاتِ مَعَ الْجَنَائِزِ وَقَدْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي
شُرُوطِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ لَا يَفْعَلُوا ذَلِكَ ثُمَّ إنَّمَا نُهِينَا
عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِيمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ طَرِيقِ سَلَفِنَا الْأَوَّلِ
وَأَمَّا إذَا اتَّبَعْنَا طَرِيقَ سَلَفِنَا الْأَوَّلِ كُنَّا مُصِيبِينَ وَإِنْ
شَارَكَنَا فِي بَعْضِ ذَلِكَ مَنْ شَارَكَنَا كَمَا أَنَّهُمْ يُشَارِكُونَنَا
فِي الدَّفْنِ فِي الْأَرْضِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ نَصْرَانِيَّةٍ بَعْلُهَا مُسْلِمٌ تُوُفِّيَتْ وَفِي بَطْنِهَا
جَنِينٌ لَهُ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ ، فَهَلْ تُدْفَنُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ؟ أَوْ
مَعَ النَّصَارَى ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مَقَابِرِ النَّصَارَى لِأَنَّهُ
اجْتَمَعَ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَلَا يُدْفَنُ الْكَافِرُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ
وَلَا الْمُسْلِمُ مَعَ الْكَافِرِينَ ؛ بَلْ تُدْفَنُ مُنْفَرِدَةً وَيُجْعَلُ
ظَهْرُهَا إلَى الْقِبْلَةِ ؛ لِأَنَّ
وَجْهَ
الطِّفْلِ إلَى ظَهْرِهَا فَإِذَا دُفِنَتْ كَذَلِكَ كَانَ وَجْهُ الصَّبِيِّ
الْمُسْلِمِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَالطِّفْلُ يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ
أَبِيهِ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ كَافِرَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
مُفْتِي الْأَنَامِ بَقِيَّةُ السَّلَفِ الْكِرَامِ تَقِيُّ الدِّينِ بَقِيَّةُ
الْمُجْتَهِدِينَ أَثَابَهُ اللَّهُ وَأَحْسَنَ إلَيْهِ عَنْ تَلْقِينِ الْمَيِّتِ
فِي قَبْرِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَفْنِهِ هَلْ صَحَّ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ صَحَابَتِهِ ؟ وَهَلْ
إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ يَجُوزُ فِعْلُهُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
هَذَا التَّلْقِينُ الْمَذْكُورِ قَدْ نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ :
أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِهِ كَأَبِي أمامة الْبَاهِلِيِّ وَغَيْرِهِ . وَرُوِيَ فِيهِ
حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ مِمَّا لَا
يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ
فَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ هَذَا
التَّلْقِينَ لَا بَأْسَ بِهِ فَرَخَّصُوا فِيهِ وَلَمْ يَأْمُرُوا بِهِ ،
وَاسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَكَرِهَهُ
طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ .
وَاَلَّذِي
فِي السُّنَن { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ
يَقُومُ عَلَى قَبْرِ الرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ إذَا دُفِنَ وَيَقُولُ : سَلُوا
لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَقِّنُوا
أَمْوَاتَكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } . فَتَلْقِينُ الْمُحْتَضِرِ سُنَّةٌ
مَأْمُورٌ بِهَا . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْبُورَ يُسْأَلُ وَيُمْتَحَنُ
وَأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالدُّعَاءِ لَهُ ؛ فَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ التَّلْقِينَ
يَنْفَعُهُ فَإِنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّهُ
لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ } وَأَنَّهُ قَالَ : { مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ
لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ } وَأَنَّهُ أَمَرَنَا بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَوْتَى .
فَقَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي
الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ
عَلَيْهِ السَّلَامَ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يَجِبُ تَلْقِينُ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ
الْقِرَاءَةُ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ ؟ .
فَأَجَابَ :
تَلْقِينُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَيْسَ وَاجِبًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا كَانَ مِنْ
عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِ بَيْنَهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ . بَلْ ذَلِكَ مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ كَأَبِي أمامة وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ . فَمِنْ الْأَئِمَّةِ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَقَدْ اسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَكْرَهُهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ . فَالْأَقْوَالُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ : الِاسْتِحْبَابُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ . فَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ . وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَلَمْ يَكُنْ يَكْرَهُهَا فِي الْأُخْرَى . وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِيهَا لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَوْصَى أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَ قَبْرِهِ بِفَوَاتِحِ الْبَقَرَةِ وَخَوَاتِيمِهَا ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، فَالْقِرَاءَةُ عِنْدَ الدَّفْنِ مَأْثُورَةٌ فِي الْجُمْلَةِ وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْقَلْ فِيهِ أَثَرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
هَلْ يُشْرَعُ تَلْقِينُ الْمَيِّتِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ ؟ أَوْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا تَلْقِينُ الْمَيِّتِ فَقَدْ ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّين
مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَاسْتَحْسَنُوهُ أَيْضًا ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي ،
وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ نَفْسُهُ فَلَمْ يُنْقَلْ
عَنْهُ فِيهِ شَيْءٌ . وَمِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ كَانَ يَفْعَلُهُ ، كَأَبِي أمامة
الْبَاهِلِيِّ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ .
وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مَنْ اسْتَحَبَّهُ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ جَائِزٌ
وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ رَاتِبَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْخَتْمَةِ الَّتِي تُعْمَلُ عَلَى الْمَيِّتِ وَالْمُقْرِئِينَ
بِالْأُجْرَةِ هَلْ قِرَاءَتُهُمْ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ ؟ وَطَعَامُ الْخَتْمَةِ
يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ كَانَ
وَلَدُ
الْمَيِّتِ يُدَايِنُ لِأَجْلِ الصَّدَقَةِ إلَى الْمَيْسُورِ تَصِلُ إلَى
الْمَيِّتِ ؟ .
فَأَجَابَ :
اسْتِئْجَارُ النَّاسِ لِيَقْرَءُوا وَيُهْدُوهُ إلَى الْمَيِّتِ لَيْسَ
بِمَشْرُوعِ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ
الَّذِي يَصِلُ مَا قُرِئَ لِلَّهِ ، فَإِذَا كَانَ قَدْ اُسْتُؤْجِرَ
لِلْقِرَاءَةِ لِلَّهِ وَالْمُسْتَأْجِرُ لَمْ يَتَصَدَّقْ عَنْ الْمَيِّتِ بَلْ
اسْتَأْجَرَ مَنْ يَقْرَأُ عِبَادَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ .
لَكِنْ إذَا تُصُدِّقَ عَنْ الْمَيِّتِ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَوْ
غَيْرِهِمْ ؛ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَلِكَ مَنْ
قَرَأَ الْقُرْآنَ مُحْتَسِبًا وَأَهْدَاهُ إلَى الْمَيِّتِ نَفَعَهُ ذَلِكَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ جَعْلِ الْمُصْحَفِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَإِيقَادِ قِنْدِيلٍ فِي مَوْضِعٍ
يَكُونُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ مَكْرُوهٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا جَعْلُ الْمُصْحَفِ عِنْدَ الْقُبُورِ وَإِيقَادُ الْقَنَادِيلِ هُنَاكَ
فَهَذَا مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ قَدْ جَعَلَ الْقِرَاءَةَ فِيهِ
هُنَالِكَ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَقْرَأْ فِيهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ
وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } فَإِيقَادُ السُّرُجِ
مِنْ قِنْدِيلٍ
وَغَيْرِهِ عَلَى الْقُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَفْعَلُهُمَا . كَمَا قَالَ : { لَا يَخْرُجُ الرَّجُلَانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عَنْ عَوْرَاتِهِمَا يَتَحَدَّثَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُنْهَى عَنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَحْدَهُ وَعَنْ التَّحَدُّثِ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا } فَتَوَعَّدَ عَلَى مَجْمُوعِ أَفْعَالٍ وَكُلُّ فِعْلٍ مِنْهَا مُحَرَّمٌ . وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْتِيبَ الذَّمِّ عَلَى الْمَجْمُوعِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الذَّمِّ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهَا مُبَاحًا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الذَّمِّ . وَالْحَرَامُ لَا يَتَوَكَّدُ بِانْضِمَامِ الْمُبَاحِ الْمُخَصَّصِ إلَيْهِ . وَالْأَئِمَّةُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ ، فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَد فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَرَخَّصَ فِيهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ : هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَأَمَّا جَعْلُ الْمَصَاحِفِ عِنْدَ الْقُبُورِ لِمَنْ يَقْصِدُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ هُنَاكَ
وَتِلَاوَتَهُ فَبِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ . بَلْ هِيَ تَدْخُلُ فِي مَعْنَى " اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ " وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا . قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ ؛ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } وَقَالَ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسَاجِدَ بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَإِذَا اُتُّخِذَ الْقَبْرُ لِبَعْضِ ذَلِكَ كَانَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعَ كَوْنِهِمْ يَقْرَءُونَ فِيهَا فَكَيْفَ إذَا جُعِلَتْ الْمَصَاحِفُ بِحَيْثُ لَا يُقْرَأُ فِيهَا ؟ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا لَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ ، فَإِنَّ هَذَا لَا نِزَاعَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ . وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ يَنْتَفِعُ بِمِثْلِ ذَلِكَ لَفَعَلَهُ السَّلَفُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَأَسْرَعَ إلَى فِعْلِ ذَلِكَ وَتَحَرِّيهِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ الْمَيِّتِ هَلْ يَجُوزُ نَقْلُهُ أَمْ لَا ؟ وَأَرْوَاحُ الْمَوْتَى هَلْ
تَجْتَمِعُ بَعْضُهَا بِبَعْضِ أَمْ لَا ؟ وَرُوحُ الْمَيِّتِ هَلْ تَنْزِلُ فِي
الْقَبْرِ أَمْ لَا ؟ وَيَعْرِفُ الْمَيِّتُ مَنْ يَزُورُهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يُنْبَشُ الْمَيِّتُ مِنْ قَبْرِهِ إلَّا لِحَاجَةِ .
مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفِنُ الْأَوَّلُ فِيهِ مَا يُؤْذِي الْمَيِّتَ
فَيُنْقَلُ إلَى غَيْرِهِ كَمَا نَقَلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ .
وَأَرْوَاحُ الْأَحْيَاءِ إذَا قُبِضَتْ تَجْتَمِعُ بِأَرْوَاحِ الْمَوْتَى
وَيَسْأَلُ الْمَوْتَى الْقَادِمَ عَلَيْهِمْ عَنْ حَالِ الْأَحْيَاءِ
فَيَقُولُونَ : مَا فَعَلَ فُلَانٌ ؟ فَيَقُولُونَ : فُلَانٌ تَزَوَّجَ ، فُلَانٌ
عَلَى حَالٍ حَسَنَةٍ . وَيَقُولُونَ : مَا فَعَلَ فُلَانٌ ؟ فَيَقُولُ : أَلَمْ
يَأْتِكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : لَا ذَهَبَ بِهِ إلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ .
وَأَمَّا أَرْوَاحُ الْمَوْتَى فَتَجْتَمِعُ الْأَعْلَى يَنْزِلُ إلَى الْأَدْنَى
وَالْأَدْنَى لَا يَصْعَدُ إلَى الْأَعْلَى . وَالرُّوحُ تُشْرِفُ عَلَى الْقَبْرِ
وَتُعَادُ إلَى اللَّحْدِ أَحْيَانًا . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ
كَانَ
يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ
رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . وَالْمَيِّتُ قَدْ يَعْرِفُ مَنْ
يَزُورُهُ وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّةُ أَنْ يُقَالَ : { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ
أَهْلَ دَارِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ،
وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ ، وَالْمُسْتَأْخِرِين }
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْمٍ لَهُمْ تُرْبَةٌ : وَهِيَ فِي مَكَانٍ مُنْقَطِعٍ وَقُتِلَ فِيهَا
قَتِيلٌ وَقَدْ بَنَوْا لَهُمْ تُرْبَةً أُخْرَى هَلْ يَجُوزُ نَقْلُ مَوْتَاهُمْ
إلَى التُّرْبَةِ الْمُسْتَجَدَّةِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يُنْبَشُ الْمَيِّتُ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَنْقُلُونَ مِنْ
مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَقَابِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَيَنْقُلُونَ
مِنْ مَقَابِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ ،
وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ مَنْ خُتِمَ لَهُ بِشَرٍّ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَقَدْ مَاتَ
فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمًا أَوْ كَانَ
كِتَابِيًّا
وَخُتِمَ لَهُ بِخَيْرِ فَمَاتَ مُسْلِمًا فِي عِلْمِ اللَّهِ وَفِي الظَّاهِرِ
مَاتَ كَافِرًا فَهَؤُلَاءِ يُنْقَلُونَ . فَهَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ أَمْ
لَا ؟ وَهَلْ لِذَلِكَ حُجَّةٌ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الْأَجْسَادُ فَإِنَّهَا لَا تُنْقَلُ مِنْ الْقُبُورِ
لَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَكُونُ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامَ وَيَكُونُ مُنَافِقًا
إمَّا يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا مُعَطِّلًا . فَمَنْ كَانَ
كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ نُظَرَائِهِ . كَمَا قَالَ
تَعَالَى : احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا
يَعْبُدُونَ أَيْ أَشْبَاهَهُمْ وَنُظَرَاءَهُمْ . وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ مَنْ
مَاتَ وَظَاهِرُهُ كَافِرٌ أَنْ يَكُونَ آمَنَ بِاَللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُغَرْغِرَ
وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ وَكَتَمَ أَهْلُهُ ذَلِكَ إمَّا لِأَجْلِ
مِيرَاثٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ
مَقْبُورًا مَعَ الْكُفَّارِ . وَأَمَّا الْأَثَرُ فِي نَقْلِ الْمَلَائِكَةِ
فَمَا سَمِعْت فِي ذَلِكَ أَثَرًا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وَقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ
إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ
صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } فَهَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ إذَا مَاتَ لَا يَصِلُ إلَيْهِ
شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَيْسَ فِي الْآيَةِ وَلَا فِي
الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَنْتَفِعُ بِدُعَاءِ الْخَلْقِ لَهُ وَبِمَا
يُعْمَلُ عَنْهُ مِنْ الْبِرِّ بَلْ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقُونَ عَلَى
انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ
دِينِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ
فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي
وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { وَقِهِمُ
السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ } . فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمَغْفِرَةِ وَوِقَايَةِ الْعَذَابِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَدُعَاءُ الْمَلَائِكَةِ لَيْسَ عَمَلًا لِلْعَبْدِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبِّ { اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فَقَدْ ذَكَرَ اسْتِغْفَارَ الرُّسُلِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمْرًا بِذَلِكَ وَإِخْبَارًا عَنْهُمْ بِذَلِكَ . وَمِنْ السُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي مَنْ جَحَدَهَا كَفَرَ : صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمَيِّتِ وَدُعَاؤُهُمْ لَهُ فِي الصَّلَاةِ . وَكَذَلِكَ شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ السُّنَنَ فِيهَا مُتَوَاتِرَةٌ بَلْ لَمْ يُنْكِرُ شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ إلَّا أَهْلُ الْبِدَعِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَشَفَاعَتُهُ دُعَاؤُهُ وَسُؤَالُهُ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَجَاحِدُ مِثْلِ ذَلِكَ كَافِرٌ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ . وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ مَا فِي الصِّحَاحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ
قَالَ : إنَّ لِي مَخْرَفًا - أَيْ بُسْتَانًا - أُشْهِدُكُمْ أَنِّي تَصَدَّقْت بِهِ عَنْهَا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أُمِّي افْتَلَتَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ تُوصِ وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إنْ تَصَدَّقْت عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يُوصِ أَيَنْفَعُهُ إنْ تَصَدَّقْت عَنْهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ } . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص : { أَنَّ العاص بْنَ وَائِلٍ نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَذْبَحَ مِائَةَ بَدَنَةٍ وَأَنَّ هِشَامَ بْنَ العاص نَحَرَ حِصَّتَهُ خَمْسِينَ وَأَنَّ عَمْرًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : أَمَّا أَبُوك فَلَوْ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ فَصُمْت عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْت عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ } وَفِي سُنَنِ الدارقطني : أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي أَبَوَيْنِ وَكُنْت أَبَرُّهُمَا حَالَ حَيَاتِهِمَا . فَكَيْفَ بِالْبِرِّ بَعْدَ مَوْتِهِمَا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ بَعْدِ الْبِرِّ أَنْ تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلَاتِك وَأَنْ تَصُومَ لَهُمَا مَعَ صِيَامِك وَأَنْ تَصَدَّقَ لَهُمَا مَعَ صَدَقَتِك } . وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الطالقاني قَالَ :
قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ { إنَّ الْبِرَّ بَعْدَ الْبِرِّ أَنْ تُصَلِّيَ لِأَبَوَيْك مَعَ صَلَاتِك وَتَصُومَ لَهُمَا مَعَ صِيَامِك ؟ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : يَا أَبَا إسْحَاقَ عَمَّنْ هَذَا ؟ قُلْت لَهُ : هَذَا مِنْ حَدِيثِ شِهَابِ بْنِ خِرَاشٍ قَالَ : ثِقَةٌ قُلْت : عَمَّنْ ؟ قَالَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ . فَقَالَ : ثِقَةٌ عَمَّنْ ؟ قُلْت : عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا أَبَا إسْحَاقَ إنَّ بَيْنَ الْحَجَّاجِ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفَاوِزَ تُقْطَعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الصَّدَقَةِ اخْتِلَافٌ ، وَالْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُرْسَلٌ . وَالْأَئِمَّةُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ : كَالْعِتْقِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ : كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَمَعَ هَذَا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - { أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صِيَامُ نَذْرٍ قَالَ : أَرَأَيْت إنْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ فقضيتيه أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا ؟ قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : فَصُومِي عَنْ أُمِّك } .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ : { أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إنَّ أُخْتِي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُخْتِك دَيْنٌ أَكُنْت تَقْضِيهِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ فَحَقُّ اللَّهِ أَحَقُّ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بريدة بْنِ حصيب عَنْ أَبِيهِ : { أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَيُجْزِي عَنْهَا أَنْ أَصُومَ عَنْهَا قَالَ : نَعَمْ } . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ يُصَامُ عَنْ الْمَيِّتِ مَا نَذَرَ وَأَنَّهُ شُبِّهَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ . وَالْأَئِمَّةُ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُخَالِفْ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ مَنْ بَلَغَتْهُ وَإِنَّمَا خَالَفَهَا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَمْرٍو بِأَنَّهُمْ إذَا صَامُوا عَنْ الْمُسْلِمِ نَفَعَهُ . وَأَمَّا الْحَجُّ فَيُجْزِي عِنْدَ عَامَّتِهِمْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا اخْتِلَافٌ شَاذٌّ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟ فَقَالَ : حُجِّي عَنْهَا أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ أَكُنْت قَاضِيَتُهُ عَنْهَا ؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاَللَّهُ أَحَقُّ
بِالْوَفَاءِ } وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ : { إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بريدة { أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَيُجْزِي - أَوْ يَقْضِي - أَنْ أَحُجَّ عَنْهَا قَالَ : نَعَمْ } . فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ : " أَنَّهُ أَمَرَ بِحَجِّ الْفَرْضِ عَنْ الْمَيِّتِ وَبِحَجِّ النَّذْرِ " . كَمَا أَمَرَ بِالصِّيَامِ . وَأَنَّ الْمَأْمُورَ تَارَةً يَكُونُ وَلَدًا وَتَارَةً يَكُونُ أَخًا وَشَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِالدَّيْنِ يَكُونُ عَلَى الْمَيِّتِ ، وَالدَّيْنُ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْوَلَدِ . كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْأَخِ . فَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عِلْمٌ مُفَصَّلٌ مُبَيَّنٌ ، فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ } بَلْ هَذَا حَقٌّ وَهَذَا حَقٌّ . أَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ قَالَ : { انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } فَذِكْرُ الْوَلَدِ وَدُعَاؤُهُ لَهُ خَاصَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا قَالَ : { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } قَالُوا : إنَّهُ وَلَدُهُ ، وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ
أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } . فَلَمَّا كَانَ هُوَ السَّاعِيَ فِي وُجُودِ الْوَلَدِ كَانَ عَمَلُهُ مِنْ كَسْبِهِ بِخِلَافِ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأَبِ وَنَحْوِهِمْ . فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ أَيْضًا بِدُعَائِهِمْ بَلْ بِدُعَاءِ الْأَجَانِبِ لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ . . } لَمْ يَقُلْ : إنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعَمَلِ غَيْرِهِ . فَإِذَا دَعَا لَهُ وَلَدُهُ كَانَ هَذَا مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي لَمْ يَنْقَطِعْ وَإِذَا دَعَا لَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِهِ لَكِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ . وَأَمَّا الْآيَةُ فَلِلنَّاسِ عَنْهَا أَجْوِبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ . كَمَا قِيلَ : إنَّهَا تَخْتَصُّ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَقِيلَ : إنَّهَا مَخْصُوصَةٌ وَقِيلَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَقِيلَ : إنَّهَا تَنَالُ السَّعْيَ مُبَاشَرَةً وَسَبَبًا ، وَالْإِيمَانُ مِنْ سَعْيِهِ الَّذِي تَسَبَّبَ فِيهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَلْ ظَاهِرُ الْآيَةِ حَقٌّ لَا يُخَالِفُ بَقِيَّةَ النُّصُوصِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ سَعْيَهُ فَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُهُ وَيَسْتَحِقُّهُ . كَمَا أَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ مِنْ الْمَكَاسِبِ مَا اكْتَسَبَهُ هُوَ . وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَمِلْكٌ لِذَلِكَ الْغَيْرِ لَا لَهُ لَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِسَعْيِ غَيْرِهِ كَمَا يَنْتَفِعُ الرَّجُلُ بِكَسْبِ غَيْرِهِ . فَمَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ فَيُثَابُ الْمُصَلِّي عَلَى سَعْيِهِ الَّذِي هُوَ صَلَاتُهُ وَالْمَيِّتُ أَيْضًا يُرْحَمُ بِصَلَاةِ الْحَيِّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ : { مَا مِنْ
مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ أَنْ يَكُونُوا مِائَةً وَيُرْوَى أَرْبَعِينَ وَيُرْوَى ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ وَيُشَفَّعُونَ فِيهِ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ - أَوْ قَالَ إلَّا غُفِرَ لَهُ - } فَاَللَّهُ تَعَالَى يُثِيبُ هَذَا السَّاعِيَ عَلَى سَعْيِهِ الَّذِي هُوَ لَهُ وَيَرْحَمُ ذَلِكَ الْمَيِّتَ بِسَعْيِ هَذَا الْحَيِّ لِدُعَائِهِ لَهُ وَصَدَقَتِهِ عَنْهُ وَصِيَامِهِ عَنْهُ وَحَجِّهِ عَنْهُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ دَعْوَةً إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ دَعْوَةً قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ : آمِينَ ، وَلَك بِمِثْلِهِ } . فَهَذَا مِنْ السَّعْيِ الَّذِي يَنْفَعُ بِهِ الْمُؤْمِنُ أَخَاهُ يُثِيبُ اللَّهُ هَذَا وَيَرْحَمُ هَذَا ، { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَيِّتُ أَوْ الْحَيُّ أَوْ يُرْحَمُ بِهِ يَكُونُ مِنْ سَعْيِهِ بَلْ أَطْفَالُ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَعَ آبَائِهِمْ بِلَا سَعْيٍ فَاَلَّذِي لَمْ يَجُزْ إلَّا بِهِ أَخَصُّ مِنْ كُلِّ انْتِفَاعٍ ؛ لِئَلَّا يَطْلُبَ الْإِنْسَانُ الثَّوَابَ عَلَى غَيْرِ عَمَلِهِ وَهُوَ كَالدَّيْنِ يُوَفِّيهِ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ مَا وَفَّى بِهِ الدَّيْنَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُوَفِّي لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ - وَفَّقَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى لِمَرْضَاتِهِ - فِي الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ هَلْ تَصِلُ إلَيْهِ ؟
أَمْ لَا ؟ وَالْأُجْرَةُ عَلَى ذَلِكَ وَطَعَامُ أَهْلِ الْمَيِّتِ لِمَنْ هُوَ
مُسْتَحِقٌّ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ وَالصَّدَقَةُ عَنْ
الْمَيِّتِ أَيُّهُمَا الْمَشْرُوعُ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ ؟ وَالْمَسْجِدُ
الَّذِي فِي وَسَطِ الْقُبُورِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ وَمَا يُعْلَمُ هَلْ بُنِيَ
قَبْلَ الْقُبُورِ ؟ أَوْ الْقُبُورُ قَبْلَهُ ؟ وَلَهُ ثَلَاثٌ : رِزْقٌ
وَأَرْبَعُمِائَةِ اصددمون قَدِيمَةٌ مِنْ زَمَانِ الرُّومِ مَا هُوَ لَهُ بَلْ
لِلْمَسْجِدِ وَفِيهِ الْخُطْبَةُ كُلَّ جُمُعَةٍ وَالصَّلَاةُ أَيْضًا فِي بَعْضِ
الْأَوْقَاتِ وَلَهُ كُلَّ سَنَةٍ مَوْسِمٌ يَأْتِي إلَيْهِ رِجَالٌ كَثِيرٌ
وَنِسَاءٌ وَيَأْتُونَ بِالنُّذُورِ مَعَهُمْ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ
يَتَنَاوَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ الَّذِي فِي الْبَلَدِ ؟
أَفْتُونَا يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا الصَّدَقَةُ عَنْ الْمَيِّتِ
فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ . مِثْلُ
قَوْلِ سَعْدٍ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ نَفْسُهَا
وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ فَهَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا
؟
فَقَالَ : نَعَمْ } وَكَذَلِكَ يَنْفَعُهُ الْحَجُّ عَنْهُ وَالْأُضْحِيَّةُ عَنْهُ وَالْعِتْقُ عَنْهُ وَالدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ . وَأَمَّا الصِّيَامُ عَنْهُ وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ عَنْهُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْهُ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهُمَا : يَنْتَفِعُ بِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَالثَّانِي : لَا تَصِلُ إلَيْهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ لِنَفْسِ الْقِرَاءَةِ وَالْإِهْدَاءِ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ إنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ وَالْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ ، فَقِيلَ : يَصِحُّ لِذَلِكَ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ يَخْتَصُّ فَاعِلُهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ فَلَا يَجُوزُ إيقَاعُهَا إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَإِذَا فُعِلَتْ بِعُرُوضٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَجْرٌ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ لَا مَا فُعِلَ لِأَجْلِ عُرُوضِ الدُّنْيَا .
وَقِيلَ
يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا لِلْفَقِيرِ دُونَ الْغَنِيِّ ، وَهُوَ
الْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد كَمَا أَذِنَ اللَّهُ لِوَلِيِّ
الْيَتِيمِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَ الْفَقْرِ وَيَسْتَغْنِيَ مَعَ الْغِنَى ، وَهَذَا
الْقَوْلُ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ عَلَى هَذَا فَإِذَا فَعَلَهَا الْفَقِيرُ
لِلَّهِ وَإِنَّمَا أَخَذَ الْأُجْرَةَ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ وَلِيَسْتَعِينَ
بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَاَللَّهُ يَأْجُرُهُ عَلَى نِيَّتِهِ فَيَكُونُ
قَدْ أَكَلَ طَيِّبًا وَعَمِلَ صَالِحًا . وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَقْرَأُ
الْقُرْآنَ إلَّا لِأَجْلِ الْعُرُوضِ فَلَا ثَوَابَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ،
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ثَوَابٌ ، فَلَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ شَيْءٌ ؛
لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ ثَوَابُ الْعَمَلِ لَا نَفْسُ الْعَمَلِ
؛ فَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَذَا الْمَالِ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ وَصَلَ ذَلِكَ
إلَى الْمَيِّتِ وَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ مَنْ يَسْتَعِينُ عَلَى قِرَاءَةِ
الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ كَانَ أَفْضَلَ وَأَحْسَنَ فَإِنَّ إعَانَةَ
الْمُسْلِمِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ
وَقِرَاءَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ .
وَأَمَّا صَنْعَةُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا يَدْعُونَ النَّاسَ إلَيْهِ فَهَذَا
غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِدْعَةٌ بَلْ قَدْ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ : كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَتَهُمْ
الطَّعَامَ لِلنَّاسِ مِنْ النِّيَاحَةِ . وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَبُّ إذَا مَاتَ
الْمَيِّتُ أَنْ يُصْنَعَ لِأَهْلِهِ طَعَامٌ ، كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ : { اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ
}. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الدَّائِمَةُ عَلَى الْقُبُورِ فَلَمْ تَكُنْ
مَعْرُوفَةً عِنْدَ السَّلَفِ .
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْقَبْرِ فَكَرِهَهَا أَبُو
حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَد فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَرَخَّصَ
فِيهَا فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُمَرَ أَوْصَى أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَ دَفْنِهِ بِفَوَاتِحِ الْبَقَرَةِ
وَخَوَاتِمِهَا . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ أَوْصَى عِنْدَ
قَبْرِهِ بِالْبَقَرَةِ وَهَذَا إنَّمَا كَانَ عِنْدَ الدَّفْنِ فَأَمَّا بَعْدَ
ذَلِكَ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا فُرِّقَ فِي
الْقَوْلِ الثَّالِثِ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ حِينَ الدَّفْنِ وَالْقِرَاءَةِ
الرَّاتِبَةِ بَعْدَ الدَّفْنِ فَإِنَّ هَذَا بِدْعَةٌ لَا يُعْرَفُ لَهَا أَصْلٌ
. وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَيُؤْجَرُ
عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ
ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ
يَدْعُو لَهُ } . فَالْمَيِّتُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُثَابُ عَلَى سَمَاعٍ وَلَا
غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ وَيَسْمَعُ
سَلَامَ الَّذِي يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَيَسْمَعُ غَيْرَ ذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَبْقَ
لَهُ عَمَلٌ غَيْرُ مَا اسْتَثْنَى .
وَأَمَّا بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَتُسَمَّى " مَشَاهِدَ " فَهَذَا غَيْرُ سَائِغٍ ؛ بَلْ جَمِيعُ الْأُمَّةِ يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا } . قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } . وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَشَاهِدِ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهَا لَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ . وَلَا فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَشَاهِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ وَنَحْوِهَا فَضِيلَةٌ عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ فَضْلًا عَنْ الْمَسَاجِدِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَهَا فِيهَا فَضْلٌ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهَا أَوْ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ فَقَدْ فَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَمَرَقَ مِنْ الدِّينِ بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ وَإِنْ كَانُوا مُتَنَازِعِينَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ : هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهَةٌ ؟ أَوْ مُبَاحَةٌ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَنْبُوشَةِ وَالْقَدِيمَةِ فَذَلِكَ لِأَجْلِ تَعْلِيلِ النَّهْيِ بِالنَّجَاسَةِ لِاخْتِلَاطِ التُّرَابِ بِصَدِيدِ الْمَوْتَى .
وَأَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ ذَلِكَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ . قَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ : { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَلِهَذَا لَا يُشْرَعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُنْذَرَ لِلْمَشَاهِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ لَا زَيْتٌ وَلَا شَمْعٌ وَلَا دَرَاهِمُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ وَلِلْمُجَاوِرِينَ عِنْدَهَا وَخُدَّامِ الْقُبُورِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لَعَنَ مَنْ يَتَّخِذُ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ ، وَمَنْ نَذَرَ ذَلِكَ فَقَدْ نَذَرَ مَعْصِيَةً ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَهِيَ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . لَكِنْ إنْ تَصَدَّقَ بِالنَّذْرِ
فِي
الْمَشَاهِدِ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ
الَّذِينَ يَسْتَعِينُونَ بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ
أَحْسَنَ فِي ذَلِكَ وَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْقُلَ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَخُطَبَهُمْ
مِنْ مَسْجِدٍ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ إلَى مَشْهَدٍ مِنْ مَشَاهِدِ الْقُبُورِ
وَنَحْوِهَا . بَلْ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الضَّلَالَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ حَيْثُ
تَرَكُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَفَعَلُوا مَا نَهَى اللَّهُ
عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَتَرَكُوا السُّنَّةَ وَفَعَلُوا الْبِدْعَةَ تَرَكُوا
طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَارْتَكَبُوا مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ
يَجِبُ إعَادَةُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ بَيْتٌ
مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ { أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ
تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ } .
وَأَمَّا الْقُبُورُ الَّتِي فِي الْمَشَاهِدِ وَغَيْرِهَا فَالسُّنَّةُ لِمَنْ
زَارَهَا أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمَيِّتِ وَيَدْعُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ
الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقُولُوا إذَا زَارُوا الْقُبُورَ : {
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ
وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ عَنْ قَرِيبٍ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ
الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين
نَسْأَلُ
اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا
تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } .
وَأَمَّا التَّمَسُّحُ بِالْقَبْرِ أَوْ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ أَوْ قَصْدُهُ
لِأَجْلِ الدُّعَاءِ عِنْدَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ الدُّعَاءَ هُنَاكَ أَفْضَلُ مِنْ
الدُّعَاءِ فِي غَيْرِهِ أَوْ النَّذْرُ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ
دِينِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ هُوَ مِمَّا أُحْدِثَ مِنْ الْبِدَعِ الْقَبِيحَةِ
الَّتِي هِيَ مِنْ شُعَبِ الشِّرْكِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ هَلْ الْأَفْضَلُ
أَنْ يَهْدِيَ ثَوَابَهُ لِوَالِدَيْهِ وَلِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ ؟ أَوْ يَجْعَلُ
ثَوَابَهُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً ؟ .
فَأَجَابَ :
أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ مَا وَافَقَ هَدْيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدْيَ الصَّحَابَةِ كَمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : { خَيْرُ
الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ
الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ
قَدْ
مَاتَ ؛ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ ، فَالْأَمْرُ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانُوا يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ لِأَحْيَائِهِمْ وَأَمْوَاتِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ عَلَى الْجِنَازَةِ وَعِنْدَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ عِنْدَ كُلِّ خَتْمَةٍ دَعْوَةٌ مُجَابَةٌ فَإِذَا دَعَا الرَّجُلُ عَقِيبَ الْخَتْمِ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِمَشَايِخِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كَانَ هَذَا مِنْ الْجِنْسِ الْمَشْرُوعِ . وَكَذَلِكَ دُعَاؤُهُ لَهُمْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاطِنِ الْإِجَابَةِ . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَأَمَرَ أَنْ يُصَامَ عَنْهُ الصَّوْمَ ، فَالصَّدَقَةُ عَنْ الْمَوْتَى مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَكَذَلِكَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي الصَّوْمِ عَنْهُمْ ، وَبِهَذَا وَغَيْرُهُ احْتَجَّ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ يَجُوزُ إهْدَاءُ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ إلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . فَإِذَا أَهْدَى لِمَيِّتِ ثَوَابَ صِيَامٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ جَازَ ذَلِكَ
وَأَكْثَرُ
أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ يَقُولُونَ : إنَّمَا يُشْرَعُ ذَلِكَ فِي
الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ
إذَا صَلَّوْا تَطَوُّعًا وَصَامُوا وَحَجُّوا أَوْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ يَهْدُونَ
ثَوَابَ ذَلِكَ لِمَوْتَاهُمْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا لِخُصُوصِهِمْ بَلْ كَانَ
عَادَتُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَعْدِلُوا عَنْ
طَرِيقِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ " هَلَّلَ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ وَأَهْدَاهُ لِلْمَيِّتِ يَكُونُ
بَرَاءَةً لِلْمَيِّتِ مِنْ النَّارِ " حَدِيثٌ صَحِيحٌ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا
هَلَّلَ الْإِنْسَانُ وَأَهْدَاهُ إلَى الْمَيِّتِ يَصِلُ إلَيْهِ ثَوَابُهُ أَمْ
لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا هَلَّلَ الْإِنْسَانُ هَكَذَا : سَبْعُونَ أَلْفًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ
أَكْثَرَ . وَأُهْدِيَتْ إلَيْهِ نَفَعَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا
حَدِيثًا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ قِرَاءَةِ أَهْلِ الْمَيِّتِ تَصِلُ إلَيْهِ ؟ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ
وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ إذَا أَهْدَاهُ إلَى الْمَيِّتِ يَصِلُ إلَيْهِ
ثَوَابُهَا أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ قِرَاءَةُ أَهْلِهِ وَتَسْبِيحُهُمْ وَتَكْبِيرُهُمْ
وَسَائِرُ ذِكْرِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى إذَا أَهْدَوْهُ إلَى الْمَيِّتِ وَصَلَ
إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ الْقِرَاءَةُ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ الْوَلَدِ أَوْ لَا ؟ عَلَى
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا وُصُولُ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ : كَالْقِرَاءَةِ
وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَمَذْهَبُ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ
أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهَا تَصِلُ وَذَهَبَ أَكْثَرُ
أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهَا لَا تَصِلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ تَرَكَ وَالِدَيْهِ كُفَّارًا : وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ أَسْلَمُوا ؟ هَلْ
يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَنْ كَانَ مِنْ أُمَّةٍ أَصْلُهَا كُفَّارٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ
يَسْتَغْفِرَ لِأَبَوَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَا قَدْ أَسْلَمَا . كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }.
بَابُ
زِيَارَةِ الْقُبُورِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَشْرُوعِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ : فَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ : شَرْعِيَّةٌ
وَبِدْعِيَّةٌ . فَالشَّرْعِيَّةُ : مِثْلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ
وَالْمَقْصُودُ بِهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ كَمَا يُقْصَدُ بِذَلِكَ الصَّلَاةُ
عَلَى جِنَازَتِهِ . كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَزُورُ أَهْلَ الْبَقِيعِ وَيَزُورُ شُهَدَاءَ أُحُدٍ وَيُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا
زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا : { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ
مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ يَرْحَمُ اللَّهُ
الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا
وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا
بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } . وَهَكَذَا كُلُّ مَا فِيهِ دُعَاءٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ : كَالصَّلَاةِ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّلَامِ . كَمَا فِي
الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :
{ إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَا مِنْ مُسْلِمٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . وَأَمَّا الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ : وَهِيَ زِيَارَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ جِنْسِ زِيَارَةِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقْصِدُونَ دُعَاءَ الْمَيِّتِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ وَطَلَبَ الْحَوَائِجِ عِنْدَهُ فَيُصَلُّونَ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيَدْعُونَ بِهِ فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ قَدْ سَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بَابَ الشِّرْكِ " . فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا } قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ . لَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا ، وَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . فَالزِّيَارَةُ الْأُولَى مِنْ جِنْسِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِحْسَانِ إلَى خَلْقِ اللَّهِ
وَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الزَّكَاةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا . وَالثَّانِي : مِنْ جِنْسِ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ وَالظُّلْمِ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ وَفِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ وَصَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ دِينِ النَّصَارَى وَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالتَّابِعُونَ يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ كَرِهَ الْأَئِمَّةُ وُقُوفَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلدُّعَاءِ وَقَالُوا هَذِهِ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ بَلْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ ثُمَّ يَذْهَبُونَ .
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتَاهُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَنَصَّ أَبُو يُوسُف وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ بِمَخْلُوقِ لَا النَّبِيِّ وَلَا الْمَلَائِكَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ . وَقَدْ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ جَدْبٌ وَشِدَّةٌ وَكَانُوا يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَسْقُونَ وَيَدْعُونَ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَيَسْتَنْصِرُونَ وَيَتَوَسَّلُونَ بِدُعَاءِ الصَّالِحِينَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ : بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ } . وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا صَالِحٍ وَلَا الصَّلَاةَ عِنْدَهُ وَلَا طَلَبَ الْحَوَائِجِ مِنْهُ وَلَا الْإِقْسَامَ عَلَى اللَّهِ بِهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : أَسْأَلُك بِحَقِّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ ؛ بَلْ كُلُّ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ طِبَاقِ الْأُمَّةِ .
وَسُئِلَ
الشَّيْخُ :
عَنْ الزِّيَارَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الِاخْتِلَافُ إلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ فَلَيْسَ بِمُسْتَحَبِّ
وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَبُّ عِنْدَ الدَّفْنِ أَنْ يُقَامَ عَلَى قَبْرِهِ
وَيُدْعَى لَهُ بِالتَّثْبِيتِ . كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ إذَا دَفَنَ
الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُومُ عَلَى قَبْرِهِ وَيَقُولُ : سَلُوا لَهُ
التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ } . وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ : {
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ }
فَإِنَّهُ لَمَّا نَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَعَنْ الْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ كَانَ
دَلِيلُ الْخِطَابِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُصَلَّى عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّفْنِ
وَيُقَامُ عَلَى قَبْرِهِ بَعْدَ الدَّفْنِ . فَزِيَارَةُ الْمَيِّتِ
الْمَشْرُوعَةُ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ هِيَ مِنْ هَذَا الْقِيَامِ
الْمَشْرُوعِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ الْأَحْيَاءِ إذَا زَارُوا الْأَمْوَاتَ هَلْ يَعْلَمُونَ بِزِيَارَتِهِمْ ؟
وَهَلْ يَعْلَمُونَ بِالْمَيِّتِ إذَا مَاتَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ أَوْ غَيْرِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ قَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِتَلَاقِيهِمْ
وَتَسَاؤُلِهِمْ وَعَرْضِ أَعْمَالِ الْأَحْيَاءِ عَلَى الْأَمْوَاتِ ، كَمَا
رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ : قَالَ : { إذَا
قُبِضَتْ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا الرَّحْمَةُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ كَمَا
يَتَلَقَّوْنَ الْبَشِيرَ فِي الدُّنْيَا فَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ
فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ : أَنْظِرُوا أَخَاكُمْ يَسْتَرِيحُ فَإِنَّهُ
كَانَ فِي كَرْبٍ شَدِيدٍ . قَالَ : فَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ مَا
فَعَلَ فُلَانٌ وَمَا فَعَلَتْ فُلَانَةُ هَلْ تَزَوَّجَتْ } الْحَدِيثَ .
وَأَمَّا عِلْمُ الْمَيِّتِ بِالْحَيِّ إذَا زَارَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَفِي
حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ
يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ
السَّلَامَ } . قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ صَاحِبُ الْأَحْكَامِ .
وَأَمَّا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الشَّهِيدِ وَرِزْقِهِ وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ دُخُولِ أَرْوَاحِهِمْ الْجَنَّةَ فَذَهَبَ طَوَائِفُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ دُونَ الصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ . وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ السُّنَّةِ : أَنَّ الْحَيَاةَ وَالرِّزْقَ وَدُخُولَ الْأَرْوَاحِ الْجَنَّةَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالشَّهِيدِ ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الثَّابِتَةُ وَيَخْتَصُّ الشَّهِيدُ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِ الظَّانِّ يَظُنُّ أَنَّهُ يَمُوتُ فَيَنْكُلُ عَنْ الْجِهَادِ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ لِيَزُولَ الْمَانِعُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ . كَمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ . وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُمْ لَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَمُفْتِي الْأَنَامِ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الزَّاهِدُ الْوَرِعُ
نَاصِرُ السُّنَّةِ وَقَامِعُ الْبِدْعَةِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ
أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة
الْحَرَّانِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ
الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } هَلْ هُوَ
مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ
زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } ؟ أَمْ
لَا ؟ وَهَلْ صَحَّ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى
النِّسَاءِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ ؟ أَمْ يُكْرَهُ ؟ أَمْ يُسْتَحَبُّ ؟ . وَإِذَا
قِيلَ : بِالْكَرَاهَةِ . هَلْ تَكُونُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ ؟ أَمْ تَنْزِيهٍ ؟
وَهَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
" مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي " . أَمْ لَا ؟ وَهَلْ
صَحَّ فِي فَضْلِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَيْءٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ فَقَدْ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
كَانَ قَدْ نَهَى عَنْهَا نَهْيًا عَامًّا ثُمَّ أَذِنَ
فِي ذَلِكَ . فَقَالَ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا . فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَأْذَنْت رَبِّي فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَ أُمِّي فَأَذِنَ لِي وَاسْتَأْذَنْت فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } . وَهُنَا مَسْأَلَتَانِ : إحْدَاهُمَا : مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا وَالْأُخْرَى مُتَنَازَعٌ فِيهَا . فَأَمَّا الْأُولَى : فَإِنَّ الزِّيَارَةَ تَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ : زِيَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَزِيَارَةٌ بِدْعِيَّةٌ . فَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ : السَّلَامُ عَلَى الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } وَهَذَا الدُّعَاءُ يُرْوَى بَعْضُهُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِعِدَّةِ أَلْفَاظٍ ، كَمَا رُوِيَتْ أَلْفَاظُ التَّشَهُّدِ وَغَيْرِهِ وَهَذِهِ الزِّيَارَةُ هِيَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهَا إذَا خَرَجَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ أَهْلِ الْبَقِيعِ . وَأَمَّا الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ : فَمِنْ جِنْسِ زِيَارَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَهْلِ
الْبِدَعِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُتُبِ الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا } قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . فَالزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ مِثْلُ قَصْدِ قَبْرِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلصَّلَاةِ عِنْدَهُ أَوْ الدُّعَاءِ عِنْدَهُ أَوْ بِهِ أَوْ طَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنْهُ أَوْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ قَبْرِهِ أَوْ الِاسْتِغَاثَةِ بِهِ أَوْ الْإِقْسَامِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا سَنَّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْكِبَارُ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ بَعْضُ النَّاسِ " إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي " هُوَ مِنْ الْمَكْذُوبَاتِ الَّتِي لَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَرْوُونَهُ مِنْ قَوْلِهِ : " لَوْ أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ ظَنَّهُ بِحَجَرٍ لَنَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ " فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ الْمَكْذُوبَاتِ .
وَقَدْ
نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ
بِمَخْلُوقٍ لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو
الْحُسَيْنِ القدوري فِي " كِتَابِ شَرْحِ الْكَرْخِي " عَنْ بِشْرِ
بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ : سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ :
لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إلَّا بِهِ وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ
: بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك وَبِحَقِّ خَلْقِك ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
يُوسُفَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِهِ : هُوَ
اللَّهُ تَعَالَى فَلَا أَكْرَهُ هَذَا . وَأَكْرَهُ بِحَقِّ فُلَانٍ وَبِحَقِّ
أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك وَبِحَقِّ الْبَيْتِ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ . قَالَ
القدوري شَارِحُ الْكِتَابِ : الْمَسْأَلَةُ بِخَلْقِهِ لَا تَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ
لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ فَلَا يَجُوزُ يَعْنِي : وِفَاقًا .
قُلْت : وَأَمَّا الِاسْتِشْفَاعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ وَهُوَ طَلَبُ
الشَّفَاعَةِ مِنْهُ وَالتَّوَسُّلُ إلَى اللَّهِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ
وَبِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَالتَّوَجُّهِ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى بِذَلِكَ فَهَذَا مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا جَاءَتْ
بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ
عَنْ أَبِي حميد الساعدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ : لَا
أَمْلِكُ
لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك } . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ } وَقَالَ ذَلِكَ لِعَشِيرَتِهِ الْأَقْرَبِينَ . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : { غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلَالِهَا } فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الْجَزَاءُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَهُوَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، كَمَا قَالَ تَعَالَى { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَلَّغَ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ قَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَشْهَدَ اللَّهَ عَلَى أُمَّتِهِ أَنَّهُ بَلَّغَهُمْ كَمَا جَعَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ : { أَلَا هَلْ بَلَّغْت ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ فَيَرْفَعُ إصْبَعَهُ إلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلَيْهِمْ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَأَمَّا إجَابَةُ الدَّاعِي وَتَفْرِيجُ الْكُرُبَاتِ وَقَضَاءُ الْحَاجَاتِ فَهَذَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَهُ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ أَحَدٌ . وَلِهَذَا فَرَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ مَا فِيهِ حَقٌّ لِلرَّسُولِ
وَبَيْنَ مَا هُوَ لِلَّهِ وَحْدَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّسُولُ مِنْ الطَّاعَةِ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ . وَأَمَّا الْخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى فَجَعَلَ ذَلِكَ لَهُ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ . كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } . وَأَمَّا التَّوَكُّلُ وَالرَّغْبَةُ فَلِلَّهِ وَحْدَهُ . كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } وَلَمْ يَقُلْ وَرَسُولُهُ . وَقَالَ : { إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } وَلَمْ يَقُلْ : وَإِلَى الرَّسُولِ وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } . فَالْعِبَادَةُ وَالْخَشْيَةُ وَالتَّوَكُّلُ وَالدُّعَاءُ وَالرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ أَحَدٌ وَأَمَّا الطَّاعَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْإِرْضَاءُ : فَعَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنُرْضِيَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَإِرْضَاءَهُ إرْضَاءٌ لِلَّهِ وَحُبَّهُ مِنْ حُبِّ اللَّهِ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنْ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ بَدَّلُوا الدِّينَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَسَائِطَ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ إلَّا مُتَابَعَةُ
الرَّسُولِ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ وَتَرْكِ مَا حَذَّرَ . وَمَنْ جَعَلَ إلَى اللَّهِ طَرِيقًا غَيْرَ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ : مِثْلَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ مِنْ خَوَاصِّ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْفَلَاسِفَةِ أَوْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَوْ الْمُلُوكِ مَنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَابَعَةِ رَسُولِهِ وَيَذْكُرُونَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُفْتَرَاةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ . كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : إنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذَنَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَقَالُوا : اذْهَبْ إلَى مَنْ أَنْتَ رَسُولٌ إلَيْهِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُمْ أَصْبَحُوا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَأَخْبَرُوهُ بِالسِّرِّ الَّذِي نَاجَاهُ اللَّهُ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ بِدُونِ إعْلَامِ الرَّسُولِ . وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ : إنَّهُمْ قَاتَلُوهُ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ مَعَ الْكُفَّارِ وَقَالُوا : مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ كُنَّا مَعَهُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ . وَمِثْلُ احْتِجَاجِ بَعْضِهِمْ بِقِصَّةِ الْخَضِرِ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَغْنَى الْخَضِرُ عَنْ مُوسَى وَمِثْلُ قَوْلِ بَعْضِهِمْ : إنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ لَهُ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي كَثُرَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الزُّهْدِ وَالْفَقْرِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَالتَّفَلْسُفِ . وَكُفْرُ هَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ يَكُونُ
أَعْظَمَ وَقَدْ يَكُونُ أَخَفَّ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَاسِطَةً فِي شَيْءٍ مِنْ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ مِثْلَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَإِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ ؛ بَلْ غَايَةُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ سَبَبًا : مِثْلُ أَنْ يَدْعُوَ أَوْ يَشْفَعَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَيَقُولُ : { وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } وَيَقُولُ : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ . فِي قَوْله تَعَالَى { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ اتِّخَاذَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا كُفْرٌ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي الشَّفَاعَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
فَالْمُشْرِكُونَ أَثْبَتُوا الشَّفَاعَةَ الَّتِي هِيَ شِرْكٌ ؛ كَشَفَاعَةِ الْمَخْلُوقِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِ كَمَا يَشْفَعُ عِنْدَ الْمُلُوكِ خَوَّاصُهُمْ لِحَاجَةِ الْمُلُوكِ إلَى ذَلِكَ فَيَسْأَلُونَهُمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ وَتُجِيبُ الْمُلُوكُ سُؤَالَهُمْ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِمْ فَاَلَّذِينَ أَثْبَتُوا مِثْلَ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُشْرِكُونَ كُفَّارٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ بَلْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إجَابَةُ دُعَاءِ الشَّافِعِينَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } وَقَالَ : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ } { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ صَاحِبِ " يس " : { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ } { إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } . وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ : فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ وَهَؤُلَاءِ مُبْتَدِعَةٌ ضُلَّالٌ مُخَالِفُونَ لِلسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِإِجْمَاعِ خَيْرِ الْقُرُونِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانِ أَثْبَتُوا مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفَوْا مَا نَفَاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، فَالشَّفَاعَةُ الَّتِي أَثْبَتُوهَا هِيَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْأَحَادِيثُ ، كَشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا جَاءَ النَّاسُ إلَى آدَمَ ثُمَّ نُوحٍ ثُمَّ إبْرَاهِيمَ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ عِيسَى ثُمَّ يَأْتُونَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : { فَأَذْهَبُ إلَى رَبِّي فَإِذَا رَأَيْت رَبِّي خَرَرْت لَهُ سَاجِدًا فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ فَيَقُولُ : أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ } فَهُوَ يَأْتِي رَبَّهُ سُبْحَانَهُ فَيَبْدَأُ بِالسُّجُودِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ شَفَعَ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الَّتِي نَفَاهَا الْقُرْآنُ كَمَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَالنَّصَارَى وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَيَنْفِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِثْلَ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الْغَائِبِينَ وَالْمَيِّتِينَ قَضَاءَ حَوَائِجِهِمْ وَيَقُولُونَ : إنَّهُمْ إذَا أَرَادُوا ذَلِكَ قَضَوْهَا وَيَقُولُونَ : إنَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَخَوَاصِّ الْمُلُوكِ عِنْدَ الْمُلُوكِ يَشْفَعُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُلُوكِ وَلَهُمْ عَلَى الْمُلُوكِ إدْلَالٌ يَقْضُونَ بِهِ حَوَائِجَهُمْ فَيَجْعَلُونَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ شُرَكَاءِ الْمَلِكِ وَبِمَنْزِلَةِ أَوْلَادِهِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ
مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا : عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } . وَهَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَ " الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ " هِيَ مِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ
بِاَللَّهِ تَعَالَى وَدُعَاءُ خَلْقِهِ وَإِحْدَاثُ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللَّهُ . وَ " الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ " هِيَ مِنْ جِنْسِ
الْإِحْسَانِ إلَى الْمَيِّتِ بِالدُّعَاءِ لَهُ كَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ .
بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَهِيَ مِنْ الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى الَّتِي
يَنْفَعُ اللَّهُ بِهَا الدَّاعِيَ وَالْمَدْعُوَّ لَهُ كَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَبِ الْوَسِيلَةِ
وَالدُّعَاءِ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ : أَحْيَائِهِمْ وَأَمْوَاتِهِمْ .
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا : فَالزِّيَارَةُ الْمَأْذُونُ
فِيهَا هَلْ فِيهَا إذْنٌ لِلنِّسَاءِ وَنَسْخٌ لِلنَّهْيِ فِي حَقِّهِنَّ ؟ أَوْ
لَمْ يَأْذَنْ فِيهَا بَلْ هُنَّ مَنْهِيَّاتٌ عَنْهَا ؟ وَهَلْ النَّهْيُ نَهْيُ
تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ ؟ فِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
مَعْرُوفَةٍ وَالثَّلَاثَةُ أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَيْضًا
وَغَيْرِهِمَا . وَقَدْ حُكِيَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد ،
وَهُوَ نَظِيرُ تَنَازُعِهِمْ فِي تَشْيِيعِ النِّسَاءِ لِلْجَنَائِزِ وَإِنْ
كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُرَخِّصُ فِي الزِّيَارَةِ دُونَ التَّشْيِيعِ كَمَا اخْتَارَ
ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ
اعْتَقَدَ أَنَّ النِّسَاءَ مَأْذُونٌ لَهُنَّ فِي الزِّيَارَةِ وَأَنَّهُ أَذِنَ
لَهُنَّ كَمَا أَذِنَ لِلرِّجَالِ وَاعْتَقَدَ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } خِطَابٌ عَامٌّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي الْإِذْنِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِعِدَّةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَزُورُوهَا " صِيغَةُ تَذْكِيرٍ وَصِيغَةُ التَّذْكِيرِ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ بِالْوَضْعِ وَقَدْ تَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ لَكِنَّ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ : قِيلَ : إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَحِينَئِذٍ فَيَحْتَاجُ تَنَاوُلُ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ إلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَقِيلَ : إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ دُخُولُ النِّسَاءِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ الضَّعِيفِ وَالْعَامِّ لَا يُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ الْخَاصَّةَ الْمُسْتَفِيضَةَ فِي نَهْيِ النِّسَاءِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ وَلَا يَنْسَخُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ . الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : لَوْ كَانَ النِّسَاءُ دَاخِلَاتٍ فِي الْخِطَابِ لَاسْتَحَبَّ لَهُنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ كَمَا اسْتَحَبَّ لِلرِّجَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ بِعِلَّةٍ تَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ وَهِيَ قَوْلُهُ : { فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } وَلِهَذَا تَجُوزُ زِيَارَةُ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ وَقَالَ : { اسْتَأْذَنْت رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْته فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } .
وَأَمَّا زِيَارَتُهُ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ فَذَلِكَ فِيهِ أَيْضًا الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ وَالدُّعَاءُ كَمَا عَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ إذَا زَارُوا قُبُورَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ وَيَدْعُوا لَهُمْ ، فَلَوْ كَانَتْ زِيَارَةُ الْقُبُورِ مَأْذُونًا فِيهَا لِلنِّسَاءِ لَاسْتَحَبَّ لَهُنَّ كَمَا اسْتَحَبَّ لِلرِّجَالِ لِمَا فِيهَا مِنْ الدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَذَكُّرِ الْمَوْتِ ، وَمَا عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ اسْتَحَبَّ لَهُنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ وَلَا كَانَ النِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ يَخْرُجْنَ إلَى زِيَارَةِ الْقُبُورِ كَمَا يَخْرُجُ الرِّجَالُ . وَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا فِي الزِّيَارَةِ اعْتَمَدُوا عَلَى مَا يُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا زَارَتْ قَبْرَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ قَدْ مَاتَ فِي غَيْبَتِهَا . وَقَالَتْ : لَوْ شَهِدْتُك لَمَا زُرْتُك ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزِّيَارَةَ لَيْسَتْ مُسْتَحَبَّةً لِلنِّسَاءِ كَمَا تُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاسْتَحَبَّ لَهَا زِيَارَتَهُ كَمَا تُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ زِيَارَتُهُ سَوَاءٌ شَهِدَتْهُ أَوْ لَمْ تَشْهَدْهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجَنَائِزِ أَوْكَدُ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَفِي ذَلِكَ تَفْوِيتُ صَلَاتِهِنَّ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ لَهُنَّ اتِّبَاعَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالثَّوَابِ فَكَيْفَ بِالزِّيَارَةِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ : غَايَةُ مَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَزُورُوا الْقُبُورَ } خِطَابٌ عَامٌّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ } هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ صِيغَةِ التَّذْكِيرِ فَإِنَّ لَفْظَ : " مَنْ " يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مَنْ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ . وَلَفْظُ " مَنْ " أَبْلَغُ صِيَغِ الْعُمُومِ ثُمَّ قَدْ عُلِمَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ لَمْ يَتَنَاوَلْ النِّسَاءَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُنَّ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ سَوَاءٌ كَانَ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ . فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْنَ فِي هَذَا الْعُمُومِ فَكَذَلِكَ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَكِلَاهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ تَشْيِيعَ الْجِنَازَةِ مِنْ جِنْسِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } فَنَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَعَنْ الْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ . وَكَانَ دَلِيلُ الْخِطَابِ وَمُوجِبُ التَّعْلِيلِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَيُقَامُ عَلَى قُبُورِهِمْ ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : هُوَ الْقِيَامُ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَهُوَ مَقْصُودُ زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا كَانَ النِّسَاءُ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي عُمُومِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فَلَأَنْ لَا يَدْخُلْنَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ الَّتِي غَايَتُهَا دُونَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ
الْأَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا أَمْكَنَ النِّسَاءَ أَنْ يُصَلِّينَ عَلَى الْمَيِّتِ بِلَا اتِّبَاعٍ كَمَا يُصَلِّينَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْتِ فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي الْبَيْتِ . وَإِذَا قِيلَ مَفْسَدَةُ الِاتِّبَاعِ لِلْجَنَائِزِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الزِّيَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُصِيبَةَ حَدِيثَةٌ وَفِي ذَلِكَ أَذًى لِلْمَيِّتِ وَفِتْنَةٌ لِلْحَيِّ بِأَصْوَاتِهِنَّ وَصُوَرِهِنَّ . قِيلَ : وَمُطْلَقُ الِاتِّبَاعِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ الزِّيَارَةِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الدُّعَاءِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالِاتِّبَاعِ الْحَمْلُ وَالدَّفْنُ وَالصَّلَاةُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الزِّيَارَةِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ - وَذَلِكَ الْفَرْضُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ بِحَيْثُ لَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا نِسَاءٌ لَكَانَ حَمْلُهُ وَدَفْنُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فَرْضًا عَلَيْهِنَّ وَفِي تَغْسِيلِهِنَّ لِلرِّجَالِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ . وَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ هَلْ يُيَمَّمُ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ - فَإِذَا كَانَ النِّسَاءُ مَنْهِيَّاتٍ عَمَّا جِنْسُهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَمَصْلَحَتُهُ أَعْظَمُ إذَا قَامَ بِهِ الرِّجَالُ فَمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى أَحَدٍ أَوْلَى . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : مَفْسَدَةُ التَّشْيِيعِ أَعْظَمُ : مَمْنُوعٌ ؛ بَلْ إذَا رُخِّصَ لِلْمَرْأَةِ فِي الزِّيَارَةِ كَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ تَكْرِيرِ ذَلِكَ فَتَعْظُمُ فِيهِ الْمَفْسَدَةُ وَيَتَجَدَّدُ الْجَزَعُ وَالْأَذَى لِلْمَيِّتِ فَكَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ قَصْدِ الرِّجَالِ لَهُنَّ وَالِافْتِتَانِ بِهِنَّ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِسَبَبِ
زِيَارَةِ النِّسَاءِ الْقُبُورَ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْفَسَادِ مَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْهُ عِنْدَ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ . وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ جِنْسَ زِيَارَةِ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ اتِّبَاعِهِنَّ وَأَنَّ نَهْيَ الِاتِّبَاعِ إذَا كَانَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ نَهْيُ الزِّيَارَةِ نَهْيَ تَحْرِيمٍ وَذَلِكَ أَنَّ نَهْيَ الْمَرْأَةِ عَنْ الِاتِّبَاعِ قَدْ يَتَعَذَّرُ لِفَرْطِ الْجَزَعِ كَمَا يَتَعَذَّرُ تَسْكِينُهُنَّ لِفَرْطِ الْجَزَعِ أَيْضًا فَإِذَا خَفَّفَ هَذِهِ الْقُوَّةَ الْمُقْتَضِي لَمْ يَلْزَمْ تَخْفِيفُ مَا لَا يَقْوَى الْمُقْتَضَى فِيهِ . وَإِذَا عَفَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَبْدِ عَمَّا لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْفُوَ لَهُ عَمَّا يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ بِدُونِ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ الْوَاجِبَةِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ : قَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَنَّهُ لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد ؛ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَحَسَّنَهُ وَفِي نُسَخٍ تَصْحِيحُهُ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه مِنْ ذِكْرِ الزِّيَارَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ قَالَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ تَرَكَهُ شُعْبَةُ وَلَيْسَ بِذَاكَ وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ كَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ . وَقَالَ السَّعْدِيُّ وَالنَّسَائِي لَيْسَ بِقَوِيِّ الْحَدِيثِ . وَالثَّانِي فِيهِ أَبُو صَالِحٍ باذام مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ وَقَدْ ضَعَّفُوهُ قَالَ أَحْمَد : كَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ تَرَكَ حَدِيثَ أَبِي صَالِحٍ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ . وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ تَفْسِيرٌ وَمَا أَقَلَّ مَا لَهُ فِي الْمُسْنَدِ وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ رَضِيَهُ . قُلْت : الْجَوَابُ عَلَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ كُلٌّ مِنْ الرَّجُلَيْنِ قَدْ عَدَّلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَمَا جَرَّحَهُ آخَرُونَ أَمَّا عُمَرُ فَقَدْ قَالَ فِيهِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ العجلي : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ ، وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ مِنْ أَصْعَبِ النَّاسِ تَزْكِيَةً . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : تَرَكَهُ شُعْبَةُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ . كَمَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ يَسْمَعْ شُعْبَةُ مِنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ شَيْئًا وَشُعْبَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَمَالِكٌ وَنَحْوُهُمْ قَدْ كَانُوا يَتْرُكُونَ الْحَدِيثَ عَنْ أُنَاسٍ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ بَلَغَتْهُمْ لَا تُوجِبُ رَدَّ
أَخْبَارِهِمْ فَهُمْ إذَا رَوَوْا عَنْ شَخْصٍ كَانَتْ رِوَايَتُهُمْ تَعْدِيلًا لَهُ . وَأَمَّا تَرْكُ الرِّوَايَةِ فَقَدْ يَكُونُ لِشُبْهَةٍ لَا تُوجِبُ الْجَرْحَ وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ قَدْ خُرِّجَ لَهُ فِي الصَّحِيحِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : لَيْسَ بِقَوِيٍّ فِي الْحَدِيثِ عِبَارَةٌ لَيِّنَةٌ تَقْتَضِي أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي حِفْظِهِ بَعْضُ التَّغَيُّرِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ لَا تَقْتَضِي عِنْدَهُمْ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ وَلَا مُبَالَغَةً فِي الْغَلَطِ . وَأَمَّا أَبُو صَالِحٍ : فَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا تَرَكَ أَبَا صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ وَمَا سَمِعْت أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَقُولُ فِيهِ شَيْئًا وَلَمْ يَتْرُكْهُ شُعْبَةُ وَلَا زَائِدَةُ فَهَذِهِ رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنْهُ تَعْدِيلٌ لَهُ كَمَا عُرِفَ مِنْ عَادَةِ شُعْبَةَ ، وَتَرْكُ ابْنُ مَهْدِيٍّ لَهُ لَا يُعَارِضُ ذَلِكَ فَإِنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ أَعْلَمُ بِالْعِلَلِ وَالرِّجَالِ مِنْ ابْنِ مَهْدِيٍّ فَإِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ شُعْبَةَ وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ أَعْلَمُ بِالرِّجَالِ مِنْ ابْنِ مَهْدِيٍّ وَأَمْثَالِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ : يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ ، فَأَبُو حَاتِمٍ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ شَرْطَهُ فِي التَّعْدِيلِ صَعْبٌ وَالْحُجَّةُ فِي اصْطِلَاحِهِ لَيْسَ هُوَ الْحُجَّةَ فِي جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَهَذَا كَقَوْلِ مَنْ قَالَ : لَا أَعْلَمُ أَنَّهُمْ رَضُوهُ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ الطَّبَقَةِ الْعَالِيَةِ وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ ، لَكِنَّ مُجَرَّدَ عَدَمِ تَخْرِيجِهِمَا لِلشَّخْصِ لَا يُوجِبُ رَدَّ حَدِيثِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُقَالُ : إذَا كَانَ الْجَارِحُ وَالْمُعَدِّلُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُقْبَلْ الْجَرْحُ إلَّا مُفَسَّرًا فَيَكُونُ التَّعْدِيلُ مُقَدَّمًا عَلَى الْجَرْحِ الْمُطْلَقِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ حَدِيثَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُ فِي الْحَسَنِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا صَحَّحَهُ مَنْ صَحَّحَهُ كَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْجَرْحِ إلَّا مَا ذُكِرَ كَانَ أَقَلَّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحَسَنِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْآخَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرِجَالُ هَذَا لَيْسَ رِجَالَ هَذَا فَلَمْ يَأْخُذْهُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَلَيْسَ فِي الْإِسْنَادَيْنِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ وَإِنَّمَا التَّضْعِيفُ مِنْ جِهَةِ سُوءِ الْحِفْظِ وَمِثْلُ هَذَا حُجَّةٌ بِلَا رَيْبٍ وَهَذَا مِنْ أَجْوَدِ الْحَسَنِ الَّذِي شَرَطَهُ التِّرْمِذِيُّ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْحَسَنَ مَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مُتَّهَمٌ وَلَمْ يَكُنْ شَاذًّا : أَيْ مُخَالِفًا لِمَا ثَبَتَ بِنَقْلِ الثقاة . وَهَذَا الْحَدِيثُ تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَلَيْسَ فِيهِ مُتَّهَمٌ وَلَا خَالَفَهُ أَحَدٌ مِنْ الثقاة وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا يُخَافُ فِيهِ مِنْ شَيْئَيْنِ : إمَّا تَعَمُّدُ الْكَذِبِ وَإِمَّا خَطَأُ الرَّاوِي فَإِذَا كَانَ مِنْ وَجْهَيْنِ لَمْ يَأْخُذْهُ أَحَدُهُمَا
عَنْ الْآخَرِ وَلَيْسَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يَتَّفِقَ تَسَاوِي الْكَذِبِ فِيهِ : عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبِ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الرُّوَاةُ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكَذِبِ . وَأَمَّا الْخَطَأُ فَإِنَّهُ مَعَ التَّعَدُّدِ يَضْعُفُ وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَطْلُبَانِ مَعَ الْمُحَدِّثِ الْوَاحِدِ مَنْ يُوَافِقُهُ خَشْيَةَ الْغَلَطِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمَرْأَتَيْنِ { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } هَذَا لَوْ كَانَا عَنْ صَاحِبٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ عَنْ صَاحِبٍ وَذَلِكَ عَنْ آخَرَ وَفِي لَفْظِ أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى لَفْظِ الْآخَرِ فَهَذَا كُلُّهُ وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي الْأَصْلِ مَعْرُوفٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَبْ أَنَّهُ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ مَنْسُوخٌ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَنْسَخُهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَد فِي رِوَايَتِهِ وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ { أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَقْبَلَتْ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ الْمَقَابِرِ فَقُلْت لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَلَيْسَ كَانَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ كَانَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ثُمَّ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا } . قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْخِطَابُ بِأَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَتَنَاوَلْ النِّسَاءَ فَلَا يَدْخُلْنَ فِي الْحُكْمِ النَّاسِخِ .
الثَّانِي : خَاصٌّ فِي النِّسَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ أَوْ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ } وَقَوْلُهُ : " فَزُورُوهَا " بِطَرِيقِ التَّبَعِ فَيَدْخُلْنَ بِعُمُومٍ ضَعِيفٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالرِّجَالِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لِلنِّسَاءِ وَالْعَامُّ إذَا عُرِفَ أَنَّهُ بَعْدَ الْخَاصِّ لَمْ يَكُنْ نَاسِخًا لَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْعَامَّ بَعْدَ الْخَاصِّ إذْ قَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ } بَعْدَ إذْنِهِ لِلرِّجَالِ فِي الزِّيَارَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَرَنَهُ بِالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ وَذَكَرَ هَذَا بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ الَّتِي تَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَلَعْنُ الزَّائِرَاتِ جَعَلَهُ مُخْتَصًّا بِالنِّسَاءِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّخَاذَ الْمَسَاجِدِ وَالسُّرُجِ بَاقٍ مُحْكَمٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ . وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَحْمَدُ احْتَجَّ بِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ لَمَّا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى ذَلِكَ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ تُنَاقِضُ ذَلِكَ وَهِيَ اخْتِيَارُ الخرقي وَغَيْرِهِ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ . وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ، فَإِنَّ الْمُحْتَجَّ عَلَيْهَا احْتَجَّ بِالنَّهْيِ الْعَامِّ فَدَفَعَتْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّهْيَ مَنْسُوخٌ ، وَهُوَ كَمَا قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا الْمُحْتَجُّ النَّهْيَ الْمُخْتَصَّ بِالنِّسَاءِ الَّذِي فِيهِ لَعْنُهُنَّ عَلَى الزِّيَارَةِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهَا : " قَدْ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا " فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا أَمْرًا
يَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ وَالِاسْتِحْبَابُ إنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً وَلَكِنَّ عَائِشَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ أَمْرَهُ الثَّانِيَ نَسَخَ نَهْيَهُ الْأَوَّلَ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ وَهُوَ النِّسَاءُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ عَائِشَةُ تَعْتَقِدُ أَنَّ النِّسَاءَ مَأْمُورَاتٍ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ لَكَانَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ الرِّجَالُ وَلَمْ تَقُلْ لِأَخِيهَا : لَمَا زُرْتُك . الْجَوَابُ الثَّالِثُ : جَوَابُ مَنْ يَقُولُ بِالْكَرَاهَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا : حَدِيثُ اللَّعْنِ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَحَدِيثُ الْإِذْنِ يَرْفَعُ التَّحْرِيمَ ، وَبَقِيَ أَصْلُ الْكَرَاهَةِ يُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُ { أُمِّ عَطِيَّةَ : نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْنَا } . وَالزِّيَارَةُ مِنْ جِنْسِ الِاتِّبَاعِ فَيَكُونُ كِلَاهُمَا مَكْرُوهًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ . الْجَوَابُ الرَّابِعُ : جَوَابُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ : كَإِسْحَاقِ بْنِ رَاهَوَيْه فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : اللَّعْنُ قَدْ جَاءَ بِلَفْظِ الزَّوَّارَاتِ وَهُنَّ الْمُكْثِرَاتُ لِلزِّيَارَةِ فَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ فِي الدَّهْرِ لَا تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ وَلَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ زَائِرَةً وَيَقُولُونَ : عَائِشَةُ زَارَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ تَكُنْ زَوَّارَةً . وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيمِ : فَيَقُولُونَ قَدْ جَاءَ بِلَفْظِ " الزَّوَّارَاتِ " وَلَفْظُ الزَّوَّارَاتِ قَدْ يَكُونُ لِتَعَدُّدِهِنَّ كَمَا يُقَالُ : فَتَّحْت الْأَبْوَابَ إذْ لِكُلِّ بَابٍ فَتْحٌ يَخُصُّهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى إذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا }
وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِكُلِّ بَابٍ فَتْحًا وَاحِدًا . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا يُحَرَّمُ وَمَا لَا يُحَرَّمُ وَاللَّعْنُ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : التَّشْيِيعُ كَذَلِكَ وَيُحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ فِي التَّشْيِيعِ مِنْ التَّغْلِيظِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ فَإِنَّكُنَّ تَفْتِنَّ الْحَيَّ وَتُؤْذِينَ الْمَيِّتَ } وَقَوْلِهِ لِفَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - { أَمَا إنَّك لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى لَمْ تَدْخُلِي الْجَنَّةَ حَتَّى يَكُونَ كَذَا وَكَذَا } وَهَذَانِ يُؤَيِّدُهُمَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ { نَهَى النِّسَاءَ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ } . وَأَمَّا قَوْلُ { أُمِّ عَطِيَّةَ : وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْنَا } فَقَدْ يَكُونُ مُرَادُهَا لَمْ يُؤَكِّدْ النَّهْيَ وَهَذَا لَا يَنْفِي التَّحْرِيمَ وَقَدْ تَكُونُ هِيَ ظَنَّتْ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَهْيِ تَحْرِيمٍ وَالْحُجَّةُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فِي ظَنِّ غَيْرِهِ . الْجَوَابُ الْخَامِسُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ الْإِذْنَ لِلرِّجَالِ بِأَنَّ ذَلِكَ يُذَكِّرُ بِالْمَوْتِ وَيُرَقِّقُ الْقَلْبَ وَيُدْمِعُ الْعَيْنَ هَكَذَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَد ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا فُتِحَ لَهَا هَذَا الْبَابُ أَخْرَجَهَا إلَى الْجَزَعِ وَالنَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الضَّعْفِ وَكَثْرَةِ الْجَزَعِ وَقِلَّةِ الصَّبْرِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِتَأَذِّي الْمَيِّتِ بِبُكَائِهَا وَلِافْتِتَانِ الرِّجَالِ
بِصَوْتِهَا
وَصُورَتِهَا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ : { فَإِنَّكُنَّ تَفْتِنَّ الْحَيَّ
وَتُؤْذِينَ الْمَيِّتَ } وَإِذَا كَانَتْ زِيَارَةُ النِّسَاءِ مَظِنَّةً
وَسَبَبًا لِلْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ فِي حَقِّهِنَّ وَحَقِّ الرِّجَالِ
وَالْحِكْمَةُ هُنَا غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُدَّ
الْمِقْدَارَ الَّذِي لَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ وَلَا التَّمْيِيزَ بَيْنَ نَوْعٍ
وَنَوْعٍ . وَمِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْحِكْمَةَ إذَا كَانَتْ خَفِيَّةً
أَوْ غَيْرَ مُنْتَشِرَةٍ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِمَظِنَّتِهَا فَيُحَرَّمُ هَذَا
الْبَابُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ كَمَا حَرَّمَ النَّظَرَ إلَى الزِّينَةِ
الْبَاطِنَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفِتْنَةِ وَكَمَا حَرَّمَ الْخَلْوَةَ
بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مِنْ
الْمَصْلَحَةِ مَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ
إلَّا دُعَاؤُهَا لِلْمَيِّتِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي بَيْتِهَا ؛ وَلِهَذَا قَالَ
الْفُقَهَاءُ : إذَا عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ نَفْسِهَا أَنَّهَا إذَا زَارَتْ
الْمَقْبَرَةَ بَدَا مِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَمْ تَجُزْ
لَهَا الزِّيَارَةُ بِلَا نِزَاعٍ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَيْسَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَا صَحِيحٌ وَلَا رَوَى
أَهْلُ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنِ
مَاجَه وَالتِّرْمِذِيِّ وَلَا أَهْلُ الْمَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ كَمُسْنَدِ
أَحْمَد
وَنَحْوِهِ وَلَا أَهْلُ الْمُصَنَّفَاتِ كَمُوَطَّأِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا بَلْ عَامَّةُ مَا يُرْوَى فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَكْذُوبَةٌ مَوْضُوعَةٌ ، كَمَا يُرْوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي إبْرَاهِيمَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَكَذَلِكَ مَا يُرْوَى أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي وَمَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى بَعْضَ ذَلِكَ الدارقطني وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ فَمَدَارُ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ ، أَوْ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِرِوَايَتِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ . وَإِنَّمَا اعْتَمَدَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } وَكَمَا فِي سُنَنِ النَّسَائِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً تُبَلِّغُنِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ } فَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَلِهَذَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَرِهَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ :
زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَالِكٌ قَدْ أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ عِنْدَهُمْ أَلْفَاظُ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ يَدْعُو : بَلْ وَكَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يَقُومَ لِلدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ هُنَاكَ وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَنَّهُ لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا . وَقَدْ ذَكَرُوا فِي أَسْبَابِ كَرَاهَتِهِ أَنْ يَقُولَ زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُرِيدُ بِهِ الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ وَهِيَ قَصْدُ الْمَيِّتِ لِسُؤَالِهِ وَدُعَائِهِ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَهُمْ يَعْنُونَ بِلَفْظِ الزِّيَارَةِ مِثْلَ هَذَا وَهَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فَاسِدٍ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ . أَمَّا لَفْظُ الزِّيَارَةِ فِي عُمُومِ الْقُبُورِ فَقَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ : { فَزُورُوا الْقُبُورَ . فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } مَعَ زِيَارَتِهِ لِقَبْرِ أُمِّهِ فَإِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ زِيَارَةَ قُبُورِ الْكُفَّارِ فَلَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ زِيَارَةُ الْمَيِّتِ لِدُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَزُورُ مُعَظَّمًا فِي الدِّينِ :
كَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ، فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَعْنِي بِزِيَارَةِ قُبُورِهِمْ هَذِهِ الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ وَالشَّرِكِيَّةَ فَلِهَذَا كَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ . فَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَرْوِيَ بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ الثَّابِتُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ يُنَاقِضُ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ الَّذِي تَرْوِيهِ الْجُهَّالُ بِهَذَا اللَّفْظِ . كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ } . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلُ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } . وَأَشْبَاهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ . فَكَيْفَ يَعْدِلُ مَنْ لَهُ عِلْمٌ وَإِيمَانٌ عَنْ مُوجِبِ هَذِهِ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ إلَى مَا يُنَاقِضُ مَعْنَاهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَمْ يُثْبِتْ مِنْهَا شَيْئًا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ زِيَارَةِ النِّسَاءِ الْقُبُورَ : هَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ } رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ
مَاجَه وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّارَاتِ
الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجِ } رَوَاهُ
أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ : أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي
وَابْنُ مَاجَه . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَأَخْرَجَهُ أَبُو
حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ أَهْلِ
الْعِلْمِ أَنَّهُ نَهَى زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ
الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ . } . فَإِنْ قِيلَ
فَالنَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ كَمَا قَالَ ذَلِكَ أَهْلُ الْقَوْلِ الْآخَرِ
. قِيلَ : هَذَا لَيْسَ بِجَيِّدِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ
زِيَارَةِ
الْقُبُورِ فَزُورُوهَا } هَذَا خِطَابٌ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَإِنَّ اللَّفْظَ لَفْظٌ مُذَكَّرٌ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالذُّكُورِ أَوْ مُتَنَاوِلٌ لِغَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ التَّبَعِ ، فَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِمْ فَلَا ذِكْرَ لِلنِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِهِمْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ عَامًّا وَقَوْلُهُ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ } خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } فَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا وَأَمَّا الَّذِينَ يَزُورُونَ فَإِنَّمَا لَعَنَ النِّسَاءَ الزَّوَّارَاتِ دُونَ الرِّجَالِ وَإِذَا كَانَ هَذَا خَاصًّا وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الرُّخْصَةِ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعَامِّ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ لَوْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَهَا . وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ } فَهَذَا عَامٌّ وَالنِّسَاءُ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ ، { عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي نُشَيِّعُ مَيِّتًا فَلَمَّا فَرَغْنَا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْصَرَفْنَا مَعَهُ فَلَمَّا تَوَسَّطْنَا الطَّرِيقَ إذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ مُقْبِلَةٍ فَلَمَّا دَنَتْ إذَا هِيَ فَاطِمَةُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرَجَك يَا فَاطِمَةُ مِنْ بَيْتِك قَالَتْ : أَتَيْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْلَ هَذَا
الْبَيْتِ
فَعَزَّيْنَاهُمْ بِمَيِّتِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَعَلَّك بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى أَمَا إنَّك لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ
الْكُدَى مَا رَأَيْت الْجَنَّةَ حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيك } رَوَاهُ أَهْلُ
السُّنَنِ وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَقَدْ فَسَّرَ " الْكُدَى
" بِالْقُبُورِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ كَلَامَ زَائِرِهِ وَيَرَى شَخْصَهُ ؟ وَهَلْ تُعَادُ
رُوحُهُ إلَى جَسَدِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَمْ تَكُونُ تُرَفْرِفُ عَلَى
قَبْرِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ ؟ وَهَلْ تَصِلُ إلَيْهِ الْقِرَاءَةُ
وَالصَّدَقَةُ مِنْ نَاحِلِيهِ وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْمَالِ
الْمَوْرُوثِ عَنْهُ وَغَيْرِهِ ؟ وَهَلْ تُجْمَعُ رُوحُهُ مَعَ أَرْوَاحِ
أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَدْفُونًا
قَرِيبًا مِنْهُمْ أَوْ بَعِيدًا ؟ وَهَلْ تُنْقَلُ رُوحُهُ إلَى جَسَدِهِ فِي
ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ يَكُونُ بَدَنُهُ إذَا مَاتَ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ وَدُفِنَ
بِهَا يُنْقَلُ إلَى الْأَرْضِ الَّتِي وُلِدَ بِهَا ؟ وَهَلْ يَتَأَذَّى
بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ ؟ وَالْمَسْئُولُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الْفُصُولِ - فَصْلًا فَصْلًا - جَوَابًا
وَاضِحًا مُسْتَوْعِبًا لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا
نُقِلَ فِيهِ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَشَرْحَ مَذَاهِبِ
الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ : أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَاخْتِلَافِهِمْ وَمَا
الرَّاجِحُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَعَمْ يَسْمَعُ الْمَيِّتُ فِي
الْجُمْلَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ
يُوَلُّونَ عَنْهُ } . وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَنَّهُ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ :
يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عتبة بْنَ رَبِيعَةَ
يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟
فَإِنِّي وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ ذَلِكَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُونَ وَأَنَّى
يُجِيبُونَ وَقَدْ جُيِّفُوا فَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتَ
بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا
} ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ وَكَذَلِكَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ : هَلْ وَجَدْتُمْ
مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ وَقَالَ : إنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْآنَ مَا
أَقُولُ } . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ
كَانَ يَأْمُرُ بِالسَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ . وَيَقُولُ : { قُولُوا
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ
وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ
الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا
وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا
بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } فَهَذَا خِطَابٌ لَهُمْ وَإِنَّمَا
يُخَاطَبُ مَنْ يَسْمَعُ ، وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ رَجُلٍ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ . } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { أَكْثِرُوا مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك ؟ وَقَدْ أَرَمْت - يَعْنِي صِرْت رَمِيمًا - فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ } وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ . } . فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ فِي الْجُمْلَةِ كَلَامَ الْحَيِّ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ لَهُ دَائِمًا بَلْ قَدْ يَسْمَعُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ كَمَا قَدْ يَعْرِضُ لِلْحَيِّ فَإِنَّهُ قَدْ يَسْمَعُ أَحْيَانًا خِطَابَ مَنْ يُخَاطِبُهُ وَقَدْ لَا يَسْمَعُ لِعَارِضٍ يَعْرِضُ لَهُ وَهَذَا السَّمْعُ سَمْعُ إدْرَاكٍ لَيْسَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَلَا هُوَ السَّمْعُ الْمَنْفِيُّ بِقَوْلِهِ : { إنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } فَإِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ سَمْعُ الْقَبُولِ وَالِامْتِثَالِ ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْكَافِرَ كَالْمَيِّتِ الَّذِي لَا يَسْتَجِيبُ لِمَنْ دَعَاهُ وَكَالْبَهَائِمِ الَّتِي تَسْمَعُ الصَّوْتَ وَلَا تَفْقَهُ الْمَعْنَى ، فَالْمَيِّتُ وَإِنْ سَمِعَ الْكَلَامَ وَفَقِهَ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إجَابَةُ الدَّاعِي وَلَا امْتِثَالُ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فَلَا يَنْتَفِعُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَإِنْ سَمِعَ الْخِطَابَ وَفَهِمَ الْمَعْنَى ، كَمَا
قَالَ
تَعَالَى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ . } .
وَأَمَّا رُؤْيَةُ الْمَيِّتِ : فَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ عَائِشَةَ
وَغَيْرِهَا .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : هَلْ تُعَادُ رُوحُهُ إلَى بَدَنِهِ ذَلِكَ
الْوَقْتَ أَمْ تَكُونُ تُرَفْرِفُ عَلَى قَبْرِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
وَغَيْرِهِ ؟ فَإِنَّ رُوحَهُ تُعَادُ إلَى الْبَدَنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ،
كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ، وَتُعَادُ أَيْضًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ ، وَأَرْوَاحُ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِي
وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ : { أَنَّ نَسَمَةَ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ
يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ
يَبْعَثُهُ } وَفِي لَفْظٍ { ثُمَّ تَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ
بِالْعَرْشِ } وَمَعَ ذَلِكَ فَتَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ مَتَى شَاءَ اللَّهُ
وَذَلِكَ فِي اللَّحْظَةِ بِمَنْزِلَةِ نُزُولِ الْمَلَكِ وَظُهُورِ الشُّعَاعِ فِي
الْأَرْضِ وَانْتِبَاهِ النَّائِمِ . هَذَا وَجَاءَ فِي عِدَّةِ آثَارٍ أَنَّ
الْأَرْوَاحَ تَكُونُ فِي أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ قَالَ مُجَاهِدٌ : الْأَرْوَاحُ
تَكُونُ عَلَى أَفْنِيَةُ الْقُبُورِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ دَفْنِ
الْمَيِّتِ لَا تُفَارِقُهُ فَهَذَا يَكُونُ أَحْيَانًا وَقَالَ مَالِكُ بْنُ
أَنَسٍ : بَلَغَنِي أَنَّ الْأَرْوَاحَ مُرْسَلَةٌ تَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَتْ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا " الْقِرَاءَةُ وَالصَّدَقَةُ " وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَعْمَالِ
الْبِرِّ فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي وُصُولِ
ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ كَمَا يَصِلُ
إلَيْهِ أَيْضًا الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ صَلَاةُ
الْجِنَازَةِ وَالدُّعَاءُ عِنْدَ قَبْرِهِ . وَتَنَازَعُوا فِي وُصُولِ
الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ : كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ .
وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجَمِيعَ يَصِلُ إلَيْهِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ مَاتَ
وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } وَثَبَتَ أَيْضًا : { أَنَّهُ أَمَرَ
امْرَأَةً مَاتَتْ أُمُّهَا وَعَلَيْهَا صَوْمٌ أَنْ تَصُومَ عَنْ أُمِّهَا } .
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ لِعَمْرِو بْنِ العاص : { لَوْ أَنَّ أَبَاك أَسْلَمَ فَتَصَدَّقْت عَنْهُ
أَوْ صُمْت أَوْ أَعْتَقْت عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ } وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَد
وَأَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا
احْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا
مَا سَعَى } فَيُقَالُ لَهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ
وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ : أَنَّهُ يُصَلَّى
عَلَيْهِ وَيُدْعَى لَهُ وَيُسْتَغْفَرُ لَهُ ، وَهَذَا مِنْ سَعْيِ غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ مَا سَلَفَ مِنْ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِالصَّدَقَةِ عَنْهُ وَالْعِتْقِ وَهُوَ مِنْ سَعْيِ غَيْرِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْ جَوَابِهِمْ فِي مَوَارِدِ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ جَوَابُ الْبَاقِينَ فِي مَوَاقِعِ النِّزَاعِ . وَلِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ . لَكِنَّ الْجَوَابَ الْمُحَقَّقَ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ : إنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْتَفِعُ إلَّا بِسَعْيِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا قَالَ : { لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } فَهُوَ لَا يَمْلِكُ إلَّا سَعْيَهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَ ذَلِكَ . وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَهُوَ لَهُ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ إلَّا مَالَ نَفْسِهِ وَنَفْعَ نَفْسِهِ ، فَمَالُ غَيْرِهِ وَنَفْعُ غَيْرِهِ هُوَ كَذَلِكَ لِلْغَيْرِ ؛ لَكِنْ إذَا تَبَرَّعَ لَهُ الْغَيْرُ بِذَلِكَ جَازَ . وَهَكَذَا هَذَا إذَا تَبَرَّعَ لَهُ الْغَيْرُ بِسَعْيِهِ نَفَعَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ كَمَا يَنْفَعُهُ بِدُعَائِهِ لَهُ وَالصَّدَقَةِ عَنْهُ وَهُوَ يَنْتَفِعُ بِكُلِّ مَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَقَارِبِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ كَمَا يَنْتَفِعُ بِصَلَاةِ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَدُعَائِهِمْ لَهُ عِنْدَ قَبْرِهِ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا قَوْلُهُ : هَلْ تَجْتَمِعُ رُوحُهُ مَعَ أَرْوَاحِ أَهْلِهِ
وَأَقَارِبِهِ ؟ فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أبي أيوب الأنصاري وغيره من السلف ورواه
أبو حاتم في الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ
الْمَيِّتَ إذَا عُرِجَ بِرُوحِهِ تَلَقَّتْهُ الْأَرْوَاحُ يَسْأَلُونَهُ عَنْ
الْأَحْيَاءِ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ : دَعُوهُ حَتَّى يَسْتَرِيحَ
فَيَقُولُونَ لَهُ : مَا فَعَلَ فُلَانٌ ؟ فَيَقُولُ : عَمِلَ عَمَلَ صَلَاحٍ
فَيَقُولُونَ : مَا فَعَلَ فُلَانٌ ؟ فَيَقُولُ : أَلَمْ يَقْدَمْ عَلَيْكُمْ
فَيَقُولُونَ : لَا فَيَقُولُونَ ذُهِبَ بِهِ إلَى الْهَاوِيَةِ } . وَلَمَّا
كَانَتْ أَعْمَالُ الْأَحْيَاءِ تُعْرَضُ عَلَى الْمَوْتَى كَانَ أَبُو
الدَّرْدَاءِ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَعْمَلَ
عَمَلًا أُخْزَى بِهِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ " . فَهَذَا
اجْتِمَاعُهُمْ عِنْدَ قُدُومِهِ يَسْأَلُونَهُ فَيُجِيبُهُمْ . وَمَا
اسْتِقْرَارُهُمْ فَبِحَسَبِ مَنَازِلِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ فَمَنْ كَانَ مِنْ
الْمُقَرَّبِينَ كَانَتْ مَنْزِلَتُهُ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ مِنْ
أَصْحَابِ الْيَمِينِ ؛ لَكِنَّ الْأَعْلَى يَنْزِلُ إلَى الْأَسْفَلِ
وَالْأَسْفَلَ لَا يَصْعَدُ إلَى الْأَعْلَى فَيَجْتَمِعُونَ إذَا شَاءَ اللَّهُ
كَمَا يَجْتَمِعُونَ فِي الدُّنْيَا مَعَ تَفَاوُتِ مَنَازِلِهِمْ وَيَتَزَاوَرُونَ
.
وَسَوَاءٌ
كَانَتْ الْمَدَافِنُ مُتَبَاعِدَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ مُتَقَارِبَةً ، قَدْ
تَجْتَمِعُ الْأَرْوَاحُ مَعَ تَبَاعُدِ الْمَدَافِنِ وَقَدْ تَفْتَرِقُ مَعَ
تَقَارُبِ الْمَدَافِنِ يُدْفَنُ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ الْكَافِرِ وَرُوحُ هَذَا فِي
الْجَنَّةِ وَرُوحُ هَذَا فِي النَّارِ وَالرَّجُلَانِ يَكُونَانِ جَالِسَيْنِ
أَوْ نَائِمَيْنِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَقَلْبُ هَذَا يُنَعَّمُ وَقَلْبُ هَذَا
يُعَذَّبُ وَلَيْسَ بَيْنَ الرُّوحَيْنِ اتِّصَالٌ ، فَالْأَرْوَاحُ كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ : فَمَا
تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ . } وَالْبَدَنُ
لَا يُنْقَلُ إلَى مَوْضِعِ الْوِلَادَةِ بَلْ قَدْ جَاءَ : { أَنَّ الْمَيِّتَ
يُذَرُّ عَلَيْهِ مِنْ تُرَابِ حُفْرَتِهِ } وَمِثْلُ هَذَا لَا يُجْزَمُ بِهِ
وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ ، بَلْ أَجْوَدُ مِنْهُ حَدِيثٌ آخَرُ فِيهِ : { أَنَّهُ مَا
مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ إلَّا قِيسَ لَهُ مِنْ مَسْقَطِ
رَأْسِهِ إلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ } . وَالْإِنْسَانُ يُبْعَثُ مِنْ
حَيْثُ مَاتَ وَبَدَنُهُ فِي قَبْرِهِ مُشَاهَدٌ فَلَا تُدْفَعُ الْمُشَاهَدَةُ
بِظُنُونٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا بَلْ هِيَ مُخَالِفَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : هَلْ يُؤْذِيهِ الْبُكَاءُ عَلَيْهِ ؟ . فَهَذِهِ
مَسْأَلَةٌ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْعُلَمَاءِ .
وَالصَّوَابُ
أَنَّهُ يَتَأَذَّى بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } - وَفِي لَفْظٍ - { مَنْ يُنَحْ عَلَيْهِ يُعَذَّبْ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ } " وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ لَمَّا أُغْمِيَ عَلَيْهِ جَعَلَتْ أُخْتُهُ تَنْدُبُ وَتَقُولُ : وَاعَضُدَاه وَانَاصِرَاه فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ : مَا قُلْت لِي شَيْئًا إلَّا قِيلَ لِي : أَكَذَلِكَ أَنْتَ ؟ . وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعْذِيبِ الْإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ثُمَّ تَنَوَّعَتْ طُرُقُهُمْ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ . فَمِنْهُمْ مَنْ غَلَّطَ الرُّوَاةَ لَهَا كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ عَائِشَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا . وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى بِهِ فَيُعَذَّبُ عَلَى إيصَائِهِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ : كالمزني وَغَيْرِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فَيُعَذَّبُ عَلَى تَرْكِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ : مِنْهُمْ جَدِّي أَبُو الْبَرَكَاتِ وَكُلُّ
هَذِهِ الْأَقْوَالِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا . وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ الَّتِي يَرْوِيهَا مِثْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ لَا تُرَدُّ بِمِثْلِ هَذَا . وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَهَا مِثْلُ هَذَا نَظَائِرُ تَرُدُّ الْحَدِيثَ بِنَوْعٍ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالِاجْتِهَادِ لِاعْتِقَادِهَا بُطْلَانَ مَعْنَاهُ وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا الْبَابَ وَجَدَ هَذَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الصَّرِيحَ الَّذِي يَرْوِيهِ الثِّقَةُ لَا يَرُدُّهُ أَحَدٌ بِمِثْلِ هَذَا إلَّا كَانَ مُخْطِئًا . وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظَيْنِ - وَهِيَ الصَّادِقَةُ فِيمَا نَقَلَتْهُ - فَرَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ : { إنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } وَهَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ عُمَرَ فَإِنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَزِيدَهُ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ جَازَ أَنْ يُعَذِّبَ غَيْرَهُ ابْتِدَاءً بِبُكَاءِ أَهْلِهِ ؛ وَلِهَذَا رَدَّ الشَّافِعِيُّ فِي مُخْتَلَفِ الْحَدِيثِ هَذَا الْحَدِيثَ نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى ، وَقَالَ : الْأَشْبَهُ رِوَايَتُهَا الْأُخْرَى : { أَنَّهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ . } وَاَلَّذِينَ أَقَرُّوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى مُقْتَضَاهُ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ عُقُوبَةِ الْإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ، وَاعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُ الْإِنْسَانَ بِذَنْبِ غَيْرِهِ فَجَوَّزُوا
أَنْ يُدْخِلُوا أَوْلَادَ الْكُفَّارِ النَّارَ بِذُنُوبِ آبَائِهِمْ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ طَوَائِفُ مُنْتَسِبَةٌ إلَى السُّنَّةِ فَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُدْخِلُ النَّارَ إلَّا مَنْ عَصَاهُ كَمَا قَالَ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْلَأَ جَهَنَّمَ مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ فَإِذَا امْتَلَأَتْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ فِيهَا مَوْضِعٌ فَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ إبْلِيسَ لَمْ يَدْخُلْ النَّارَ . وَأَطْفَالُ الْكُفَّارِ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِيهِمْ : أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ : اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ . كَمَا قَدْ أَجَابَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا : إنَّهُمْ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ وَاخْتَارَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ غَلَطٌ عَلَى أَحْمَد . وَطَائِفَةٌ جَزَمُوا أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَاخْتَارَ ذَلِكَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ فِيهِ رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا رَأَى إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ وَعِنْدَهُ أَطْفَالُ الْمُؤْمِنِينَ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ ؟ قَالَ : وَأَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ . } وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ : اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ وَلَا يُحْكَمُ لِمُعَيَّنٍ مِنْهُمْ بِجَنَّةِ وَلَا نَارٍ وَقَدْ جَاءَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ يُؤْمَرُونَ وَيُنْهَوْنَ فَمَنْ أَطَاعَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ
عَصَى دَخَلَ النَّارَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَالتَّكْلِيفُ إنَّمَا يَنْقَطِعُ بِدُخُولِ دَارِ الْجَزَاءِ وَهِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَأَمَّا عَرَصَاتُ الْقِيَامَةِ فَيُمْتَحَنُونَ فِيهَا كَمَا يُمْتَحَنُونَ فِي الْبَرْزَخِ فَيُقَالُ لِأَحَدِهِمْ : مَنْ رَبُّك ؟ وَمَا دِينُك ؟ وَمَنْ نَبِيُّك ؟ وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ } { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَتَجَلَّى اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِي الْمَوْقِفِ إذَا قِيلَ : لِيَتْبَعْ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فَيَتْبَعُ الْمُشْرِكُونَ آلِهَتَهُمْ وَيَبْقَى الْمُؤْمِنُونَ فَيَتَجَلَّى لَهُمْ الرَّبُّ الْحَقُّ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْرِفُونَ فَيُنْكِرُونَهُ ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَسْجُدُ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ وَتَبْقَى ظُهُورُ الْمُنَافِقِينَ كَقُرُونِ الْبَقَرِ فَيُرِيدُونَ أَنْ يَسْجُدُوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } الْآيَةَ } وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا فِي الْآخِرَةِ إلَّا بِذَنْبِهِ وَأَنَّهُ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَقَوْلُهُ : { إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّائِحَةَ لَا تُعَاقَبُ بَلْ النَّائِحَةُ تُعَاقَبُ عَلَى النِّيَاحَةِ كَمَا فِي
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّائِحَةَ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تَلْبَسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دِرْعًا مِنْ جَرَبٍ وَسِرْبَالًا مِنْ قَطِرَانٍ } فَلَا يَحْمِلُ عَمَّنْ يَنُوحُ وِزْرَهُ أَحَدٌ . وَأَمَّا تَعْذِيبُ الْمَيِّتِ : فَهُوَ لَمْ يَقُلْ : إنَّ الْمَيِّتَ يُعَاقَبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ ، بَلْ قَالَ : " يُعَذَّبُ " وَالْعَذَابُ أَعَمُّ مِنْ الْعِقَابِ فَإِنَّ الْعَذَابَ هُوَ الْأَلَمُ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ تَأَلَّمَ بِسَبَبٍ كَانَ ذَلِكَ عِقَابًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ } فَسَمَّى السَّفَرَ عَذَابًا وَلَيْسَ هُوَ عِقَابًا عَلَى ذَنْبٍ . وَالْإِنْسَانُ يُعَذَّبُ بِالْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ الَّتِي يَشْعُرُ بِهَا مِثْلَ الْأَصْوَاتِ الْهَائِلَةِ وَالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ وَالصُّوَرِ الْقَبِيحَةِ فَهُوَ يَتَعَذَّبُ بِسَمَاعِ هَذَا وَشَمِّ هَذَا وَرُؤْيَةِ هَذَا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَمَلًا لَهُ عُوقِبَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُنْكَرُ أَنْ يُعَذَّبَ الْمَيِّتُ بِالنِّيَاحَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ النِّيَاحَةُ عَمَلًا لَهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ ؟ . وَالْإِنْسَانُ فِي قَبْرِهِ يُعَذَّبُ بِكَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ وَيَتَأَلَّمُ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِمْ وَبِسَمَاعِ كَلَامِهِ وَلِهَذَا أَفْتَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : بِأَنَّ الْمَوْتَى إذَا عُمِلَ عِنْدَهُمْ الْمَعَاصِي فَإِنَّهُمْ يَتَأَلَّمُونَ بِهَا كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ ، فَتَعْذِيبُهُمْ
بِعَمَلِ الْمَعَاصِي عِنْدَ قُبُورِهِمْ كَتَعْذِيبِهِمْ بِنِيَاحَةِ مَنْ يَنُوحُ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ النِّيَاحَةُ سَبَبُ الْعَذَابِ . وَقَدْ يَنْدَفِعُ حُكْمُ السَّبَبِ بِمَا يُعَارِضُهُ فَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَيِّتِ مِنْ قُوَّةِ الْكَرَامَةِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ مِنْ الْعَذَابِ كَمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا يَدْفَعُ ضَرَرَ الْأَصْوَاتِ الْهَائِلَةِ وَالْأَرْوَاحِ وَالصُّوَرِ الْقَبِيحَةِ . وَأَحَادِيثُ الْوَعِيدِ يُذْكَرُ فِيهَا السَّبَبُ ، وَقَدْ يَتَخَلَّفُ مُوجِبُهُ لِمَوَانِعَ تَدْفَعُ ذَلِكَ : إمَّا بِتَوْبَةٍ مَقْبُولَةٍ وَإِمَّا بِحَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ وَإِمَّا بِمَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ وَإِمَّا بِشَفَاعَةِ شَفِيعٍ مُطَاعٍ وَإِمَّا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ فَإِنَّهُ { لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ . } وَمَا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ وَالْقِيَامَةِ مِنْ الْأَلَمِ الَّتِي هِيَ عَذَابٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةَ يَشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ . } . وَفِي الْمُسْنَدِ { لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا
فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْت تَحْزَنُ أَلَسْت يُصِيبُك الْأَذَى } فَإِنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا طَيِّبٌ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَنَّهُمْ إذَا عَبَرُوا عَلَى الصِّرَاطِ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ } . وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ . وَمَا ذَكَرْنَا فِي أَنَّ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ الْخِطَابَ وَيَصِلُ إلَيْهِمْ الثَّوَابُ وَيُعَذَّبُونَ بِالنِّيَاحَةِ بَلْ وَمَا لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ السَّائِلُ مِنْ عِقَابِهِمْ فِي قُبُورِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ يُكْشَفُ لِكَثِيرٍ مِنْ أَبْنَاءِ زَمَانِنَا يَقَظَةً وَمَنَامًا وَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيَتَحَقَّقُونَهُ وَعِنْدَنَا مِنْ ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ لَكِنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ يُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَمَا كُشِفَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ مَنْ هُوَ صَادِقٌ عِنْدَهُ فَهَذَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ عَلِمَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُ إيمَانًا وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ الْإِيمَانُ بِغَيْرِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْجَبَ التَّصْدِيقَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } الْآيَةَ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } . فَالْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ الْمُكَاشَفُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَزِنَ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ وَافَقَ ذَلِكَ صَدَّقَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ ، كَمَا كَانَ يَجِبُ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُحَدِّثِينَ إذَا أُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ وَكَانَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعْصُومًا وَإِنَّمَا الْعِصْمَةُ لِلنُّبُوَّةِ . وَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ مِنْ عُمَرَ فَإِنَّ الصِّدِّيقَ لَا يَتَلَقَّى مِنْ قَلْبِهِ بَلْ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ وَهِيَ مَعْصُومَةٌ وَالْمُحَدِّثُ يَتَلَقَّى تَارَةً عَنْ قَلْبِهِ وَتَارَةً عَنْ النُّبُوَّةِ فَمَا تَلَقَّاهُ عَنْ النُّبُوَّةِ فَهُوَ مَعْصُومٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَمَا أُلْهِمَ فِي قَلْبِهِ : فَإِنْ وَافَقَ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ فَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ . فَلِهَذَا لَا يَعْتَمِدُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فِي مِثْلِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ إلَّا عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ شَوَاهِدُ وَبَيِّنَاتٌ مِمَّا شَاهَدُوهُ وَوَجَدُوهُ وَمِمَّا عَقَلُوهُ وَعَمِلُوهُ وَذَلِكَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ هُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمَّا حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فَهُمْ رُسُلُهُ وَإِلَّا فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ فِيهَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَالِاعْتِبَارَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّوَاهِدِ
الْحِسِّيَّةِ الْكَشْفِيَّةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ وَجَدَ ذَلِكَ وَقِيَاسُ بَنِي آدَمَ وَكَشْفُهُمْ تَابِعٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا مُخَالِفٌ لَهُ وَمَعَ كَوْنِهِ حَقًّا فَلَا يُفَصَّلُ الْخِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ التَّصْدِيقُ بِهِ كَمَا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِمَا عُرِفَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ وَهُوَ كَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ . وَلَكِنْ مَنْ حَصَلَ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ بَصِيرَةٌ أَوْ قِيَاسٌ أَوْ بُرْهَانٌ كَانَ ذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : بَصِيرَةُ الْمُؤْمِنِ تَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ فِيهَا بِأَثَرِ ، فَإِذَا جَاءَ الْأَثَرُ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } قَالَ تَعَالَى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يَتَكَلَّمُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
يَتَكَلَّمُ وَقَدْ يَسْمَعُ أَيْضًا مَنْ كَلَّمَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّهُمْ
يَسْمَعُونَ قَرْعَ نِعَالِهِمْ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ
الْمَيِّتَ يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ : فَيُقَالُ لَهُ : مَنْ رَبُّك ؟ وَمَا دِينُك
؟ وَمَنْ نَبِيُّك ؟ فَيُثَبِّتُ اللَّهُ الْمُؤْمِنَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فَيَقُولُ
: اللَّهُ رَبِّي وَالْإِسْلَامُ دِينِي وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي وَيُقَالُ لَهُ :
مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ
: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَآمَنَّا
بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ } . وَهَذَا تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى { يُثَبِّتُ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الْآخِرَةِ } وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ . وَكَذَلِكَ يَتَكَلَّمُ الْمُنَافِقُ
فَيَقُولُ : آهْ آهْ لَا أَدْرِي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته
فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَّةِ مِنْ حَدِيدٍ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ
شَيْءٍ إلَّا الْإِنْسَانَ .
وَثَبَتَ
عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْلَا أَلَّا تدافنوا لَسَأَلْت
اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مِثْلَ الَّذِي أَسْمَعُ }
وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ نَادَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ
لَمَّا أَلْقَاهُمْ فِي الْقَلِيبِ وَقَالَ : { مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا
أَقُولُ مِنْهُمْ } وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ بُكَاءِ الْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ عَلَى الْمَيِّتِ : هَلْ فِيهِ بَأْسٌ عَلَى
الْمَيِّتِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا دَمْعُ الْعَيْنِ وَحُزْنُ الْقَلْبِ فَلَا إثْمَ فِيهِ ؛ لَكِنَّ
النَّدْبَ وَالنِّيَاحَةَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَأَيُّ صَدَقَةٍ تُصُدِّقَ بِهَا عَنْ
الْمَيِّتِ نَفَعَهُ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالتَّعْزِيَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
التَّعْزِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ
أَجْرِهِ } . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ :
مَا نَقَصَ مِنْ عُمُرِهِ زَادَ فِي عُمُرِك فَغَيْرُ مُسْتَحَبٍّ بَلْ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِمَا يَنْفَعُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَك وَأَحْسَنَ عَزَاك وَغَفَرَ لِمَيِّتِك . وَأَمَّا نَقْصُ الْعُمُرِ وَزِيَادَتُهُ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالِ وَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ عَلَى زِيَادَةِ الْبَرَكَةِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَحْصُلُ نَقْصٌ وَزِيَادَةٌ عَمَّا كُتِبَ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ . وَأَمَّا عِلْمُ اللَّهِ الْقَدِيمُ فَلَا يَتَغَيَّرُ . وَأَمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ : فَهَلْ يُغَيَّرُ مَا فِيهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا يَتَّفِقُ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ النُّصُوصِ . وَأَمَّا صَنْعَةُ الطَّعَامِ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فَمُسْتَحَبَّةٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ } لَكِنْ إنَّمَا يَطِيبُ إذَا كَانَ بِطِيبِ نَفْسِ الْمُهْدِي وَكَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مُكَافَأَةً عَنْ مَعْرُوفٍ مِثْلِهِ فَإِنْ عَلِمَ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَإِنْ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِتَنَاوُلِ الْيَسِيرِ مِنْهُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ مِثْلَ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَنُوحُ عَلَى الْقَبْرِ وَيَذْكُرُ شَيْئًا لَا
يَلِيقُ وَالنِّسَاءُ مُكْشِفَاتُ الْوُجُوهِ وَالرِّجَالُ حَوْلَهُمْ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، النِّيَاحَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْمَعْرُوفِينَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ النَّائِحَةَ إذَا لَمْ
تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا فَإِنَّهَا تَلْبَسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دِرْعًا مِنْ
جَرَبٍ وَسِرْبَالًا مِنْ قَطِرَانٍ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ : { أَنَّهُ لَعَنَ
النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ قَالَ : { لَيْسَ
مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى
الْجَاهِلِيَّةِ . } .
وَكَشْفُ النِّسَاءِ وُجُوهَهُنَّ بِحَيْثُ يَرَاهُنَّ الْأَجَانِبُ غَيْرُ
جَائِزٍ وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ
هَذَا الْمُنْكَرِ وَغَيْرِهِ وَمَنْ لَمْ يَرْتَدِعْ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى
ذَلِكَ بِمَا يَزْجُرُهُ لَا سِيَّمَا النَّوْحُ لِلنِّسَاءِ عِنْدَ الْقُبُورِ
فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي الَّتِي يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ - مِنْ
الْجَزَعِ
وَالنَّدْبِ
وَالنِّيَاحَةِ وَإِيذَاءِ الْمَيِّتِ وَفِتْنَةِ الْحَيِّ وَأَكْلِ أَمْوَالِ
النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَتَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ
الصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ وَفِعْلِ أَسْبَابِ الْفَوَاحِشِ وَفَتْحِ بَابِهَا -
مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْهَوْا عَنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْرَابِعِ وَالْعِشْرِينَ
الْجُزْءُ
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ
كِتَابُ الفِقْهِ
الْجُزْءُ الخَامِسُ : الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كِتَابُ الزَّكَاةِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللَّهُ الْحَمْدُ
لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ
أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ
لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بِمُحَمَّدِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ عَلَيْهِمْ وَمِنْ
قَبْلِهَا تَمَّتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ وَأَكْمَلَ لَهُ الدِّينَ وَجَعَلَهُ مِنْ
خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فَبَعَثَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَجَعَلَ كِتَابَهُ مُهَيْمِنًا
عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ وَأَمَرَ فِيهِ
بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَبِالْإِحْسَانِ إلَى خَلْقِ اللَّهِ . فَقَالَ تَعَالَى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } . وَجَعَلَ دِينَهُ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ : إسْلَامٌ ثُمَّ إيمَانٌ ثُمَّ إحْسَانٌ . وَجَعَلَ الْإِسْلَامَ مَبْنِيًّا عَلَى أَرْكَانٍ خَمْسَةٍ : وَمِنْ آكَدِهَا الصَّلَاةُ " وَهِيَ خَمْسَةُ فُرُوضٍ وَقَرَنَ مَعَهَا الزَّكَاةَ فَمِنْ آكَدِ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ وَتَلِيهَا الزَّكَاةُ فَفِي الصَّلَاةِ عِبَادَتُهُ وَفِي الزَّكَاةِ الْإِحْسَانُ إلَى خَلْقِهِ فَكَرَّرَ فَرْضَ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ آيَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْهَا إلَّا قَرَنَ مَعَهَا الزَّكَاةَ . مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَقَالَ : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } وَقَالَ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ " { أَنَّ جِبْرِيلَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِسْلَامِ
فَقَالَ
: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ
وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ الْبَيْتِ
} وَعَنْهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ
النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ
عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ
عَلَى اللَّهِ } . { ولما بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ : إنَّك
تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ
شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ
أَطَاعُوك لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ
صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ
فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ
أَغْنِيَائِهِمْ فَتَرُدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ
فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ
الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } .
فَصْلٌ :
وَجَاءَ ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي الْقُرْآنِ مُجْمَلًا فَبَيَّنَهُ
الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ بَيَانَهُ أَيْضًا مِنْ
الْوَحْيِ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ .
قَالَ حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ : كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّنَّةِ يُعَلِّمُهُ إيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ . وَقَدْ ذَكَرْت فِي الصَّلَاةِ فَصْلًا قَبْلَ هَذَا . وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ الزَّكَاةِ . فَنَذْكُرُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ أَحْكَامِهَا وَبَعْضَ الْأَحَادِيثِ وَشَيْئًا مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ . فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الزَّكَاةَ صَدَقَةً وَزَكَاةً . وَلَفْظُ الزَّكَاةِ فِي اللُّغَةِ يَدُلُّ عَلَى النُّمُوِّ وَالزَّرْعُ يُقَالُ فِيهِ : زَكَا إذَا نَمَا وَلَا يَنْمُو إلَّا إذَا خَلَصَ مِنْ الدَّغَلِ . فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الشَّرِيعَةِ تَدُلُّ عَلَى الطَّهَارَةِ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } نَفْسُ الْمُتَصَدِّقِ تَزْكُو وَمَالُهُ يَزْكُو يَطْهُرُ وَيَزِيدُ فِي الْمَعْنَى . وَقَدْ أَفْهَمَ الشَّرْعُ أَنَّهَا شُرِعَتْ لِلْمُوَاسَاةِ وَلَا تَكُونُ الْمُوَاسَاةُ إلَّا فِيمَا لَهُ مَالٌ مِنْ الْأَمْوَالِ فَحَدَّ لَهُ أَنْصِبَةً وَوَضَعَهَا فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَنْمُو بِنَفْسِهِ ؛ كَالْمَاشِيَةِ وَالْحَرْثِ . وَمَا يَنْمُو بِتَغَيُّرِ عَيْنِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ كَالْعَيْنِ وَجَعَلَ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ عَلَى حِسَابِ التَّعَبِ فَمَا وُجِدَ مِنْ أَمْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ هُوَ أَقَلُّهُ تَعَبًا فَفِيهِ الْخُمُسُ ثُمَّ مَا فِيهِ التَّعَبُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ فِيهِ نِصْفُ الْخُمُسِ وَهُوَ الْعُشْرُ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَمَا فِيهِ التَّعَبُ مِنْ طَرَفَيْنِ فِيهِ رُبُعُ الْخُمُسِ وَهُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ وَمَا فِيهِ التَّعَبُ فِي طُولِ السَّنَةِ كَالْعَيْنِ فَفِيهِ ثُمُنُ ذَلِكَ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ .
فَصْلٌ
:
وَافْتَتَحَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ( كِتَابَ الزَّكَاةِ ) فِي مُوَطَّئِهِ
بِذِكْرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الْبَابِ
وَكَذَلِكَ فَعَلَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَفِيهِ ذِكْرُ نِصَابِ الْوَرِقِ
وَنِصَابِ الْإِبِلِ وَنِصَابِ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ ثُمَّ الْمَاشِيَةُ
وَالْعَيْنُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُرُورِ الْحَوْلِ . فَثَنَّى بِمَا رَوَاهُ عَنْ
أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . فِي اعْتِبَارِ
الْحَوْلِ . وَلَوْ كَانَ قَدْ خَالَفَهُمْ مُعَاوِيَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا
رَوَاهُ أَوْ قَالَهُ الْخُلَفَاءُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ لَا سِيَّمَا
الصِّدِّيقُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ
بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي }
وَقَوْلِهِ : { إنْ يُطِعْ الْقَوْمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا } . ثُمَّ
ذَكَرَ " نِصَابَ الذَّهَبِ " وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَضْعَفُ مِنْ
الْوَرِقِ فَلِهَذَا أَخَّرَهُ . ثُمَّ ذَكَرَ مَا تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهُ
فَذَكَرَ الْأَحَادِيثَ وَالْآيَاتِ فِي ذَلِكَ وَأَجْوَدُهَا حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَكِتَابُهُ فِي الصَّدَقَةِ وَذَكَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ : أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْعَيْنِ وَالْحَرْثِ
وَالْمَاشِيَةِ
وَاخْتَارَهُ . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَهُوَ إجْمَاعٌ أَنَّ الزَّكَاةَ
فِيمَا ذُكِرَ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ
النَّيْسَابُورِيُّ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ
فِي تِسْعَةِ أَشْيَاءَ : فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ . إذَا بَلَغَ
مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ .
فَصْلٌ :
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ
وَلَا فِيمَا دُون خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ
صَدَقَةٌ . وَأَشَارَ بِخَمْسِ أَصَابِعِهِ } وَفِي لَفْظٍ - { لَيْسَ فِيمَا دُون
خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ - وَفِي لَفْظٍ : ثَمَرٍ
بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ . وَفِي لَفْظٍ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ
مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ
جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
فِيمَا سَقَتْ الْأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ
نِصْفُ الْعُشْرِ } وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ
{ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عثريا الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ
بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ } . وَفِي الْمُوَطَّأِ " الْعُيُونُ
وَالْبَعْلُ " وَالْبَعْلُ : مَا شَرِبَ بِعُرُوقِهِ وَيَمْتَدُّ فِي
الْأَرْضِ
وَلَا يَحْتَاجُ إلَى سَقْيٍ مِنْ الْكَرْمِ وَالنَّخْلُ . وَ " العثري " مَا تَسْقِيهِ السَّمَاءُ وَتُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ الْعِذْى وَقِيلَ يُجْمَعُ لَهُ مَاءُ الْمَطَرِ فَيَصِيرُ سواقيا يَتَّصِلُ الْمَاءُ بِهَا . قَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ " فَوَائِدُ " مِنْهَا : إيجَابُ الصَّدَقَةِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ وَنَفْيُهَا عَمَّا دُونَهُ وَ " الذَّوْدُ مِنْ الْإِبِلِ " مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ وَ " الْأُوقِيَّةُ " اسْمٌ لِوَزْنِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَ " النَّشُّ " نِصْفُ أُوقِيَّةٍ وَ " النَّوَاةُ " خَمْسَةُ دَرَاهِمَ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سلام وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ : وَهِيَ الْخَمْسُ الْأَوَاقِي فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ إيجَابُ الزَّكَاةِ فِيهِ لِعَدَمِ النَّصِّ بِالْعَفْوِ عَمَّا زَادَ وَنَصِّهِ عَلَى الْعَفْوِ فِيمَا دُونَهَا وَذَلِكَ إيجَابٌ لَهَا فِي الْخَمْسِ فَمَا فَوْقَهَا وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي ؛ وَاللَّيْثِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا . وَفِي الذَّهَبِ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ . يُرْوَى هَذَا عَنْ عُمَرَ وَبِهِ قَالَ سَعِيدٌ وَالْحَسَنُ وَطَاوُوسٌ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ
وَأَبُو
حَنِيفَةَ . وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ
عِنْدَ الْجَمِيعِ .
فَصْلٌ :
" فَنِصَابُ الْوَرِقِ " الَّتِي تَجِبُ زَكَاتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ
عَلَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { خَمْسُ أَوَاقٍ مِنْ
الْوَرِقِ } وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ . وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ
أَيْضًا : { وَفِي الرَّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ } . وَأَمَّا " نِصَابُ
الذَّهَبِ " فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ : السُّنَّةُ الَّتِي لَا
اخْتِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا : أَنَّ الزَّكَاةَ . تَجِبُ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا
كَمَا تَجِبُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ . فَقَدْ حَكَى مَالِكٌ إجْمَاعَ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَمَا حُكِيَ خِلَافٌ إلَّا عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : لَا
شَيْءَ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ مِثْقَالًا . نَقَلَهُ ابْنُ
الْمُنْذِرِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى فِيهِ فَضَعِيفٌ . وَمَا دُونَ
الْعِشْرِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَا زَكَاةَ
فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ وَقِيمَتُهُ مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ . وَدَلَّ
الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ عَلَى إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ كَمَا وَجَبَتْ
فِي الْفِضَّةِ . قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ
اللَّهِ } الْآيَةَ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا
مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا زَكَاتَهَا } الْحَدِيثَ
. وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمَضْرُوبُ مِنْهَا
دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَغَيْرُ الْمَضْرُوبِ .
فَصْلٌ :
وَهَلْ يَضُمُّ الذَّهَبَ إلَى الْفِضَّةِ فَيُكْمِلُ بِهِمَا النِّصَابَ
وَيُزَكِّي أَمْ لَا ؟ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ : قِيلَ : لَا يَضُمُّ أَحَدَهُمَا
إلَى الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ شَرِيكٍ وَالْحَسَنِ
بْنِ صَالِحٍ . وَقِيلَ : يَضُمُّ الذَّهَبَ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ وَلَا يَضُمُّ
الْوَرِقَ إلَى الذَّهَبِ ؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ . وَقِيلَ : يَضُمُّ بِشَرْطِ أَنَّ
الْأَقَلَّ يَتْبَعُ الْأَكْثَرَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالْأَوْزَاعِي .
وَقِيلَ : يَضُمُّ لَكِنْ بِالْقِيمَةِ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالثَّوْرِيِّ . وَقِيلَ : يَضُمُّ بِالْأَجْزَاءِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ
وقتادة والنَّخَعِي
وَهُوَ
مَذْهَبُ مَالِكٌ وَصَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَبِي يُوسُفَ . فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ
. مَنْ كَانَ مَعَهُ عَشْرُ دَنَانِيرَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ ؛ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ
فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْعَشَرَةِ مِائَةً وَخَمْسِينَ وَمَعَهُ خَمْسُونَ
دِرْهَمًا لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ فِي الزَّكَاةِ عَشَرَةُ
دَرَاهِمَ وَالضَّمُّ بِالْأَجْزَاءِ لَا بِالْقِيمَةِ .
فَصْلٌ :
وَالْحَوْلُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ كَمَا
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ عُمَّالَهُ عَلَى
الصَّدَقَةِ كُلَّ عَامٍ وَعَمِلَ بِذَلِكَ الْخُلَفَاءُ فِي الْمَاشِيَةِ
وَالْعَيْنِ لِمَا عَلِمُوهُ مِنْ سُنَّتِهِ فَرَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ أَنَّهُمْ قَالُوا : هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ . وَقَالُوا : لَا تَجِبُ
زَكَاةُ مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ . قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ : وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا . إلَّا مَا
رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ . فَمَنْ مَلَكَ
نِصَابًا مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ وَأَقَامَ فِي مِلْكِهِ حَوْلًا وَجَبَتْ
فِيهِ الزَّكَاةُ . وَإِنْ مَلَكَ دُونَ النِّصَابِ ثُمَّ مَلَكَ مَا يُتِمُّ
النِّصَابَ بَنَى الْأَوَّلَ عَلَى حَوْلِ الثَّانِي . فَالِاعْتِبَارُ مِنْ
يَوْمِ كَمُلَ النِّصَابُ . وَإِنْ مَلَكَ
نِصَابًا
ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ مَلَكَ نِصَابًا بَنَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى
حَوْلِهِ وَرِبْحُ الْمَالِ مَضْمُومٌ إلَى أَصْلِهِ يُزَكِّي الرِّبْحَ لِحَوْلِ
الْأَصْلِ وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَإِنْ كَانَ
الْأَصْلُ دُونَ النِّصَابِ فَتَمَّ عِنْدَ الْحَوْلِ نِصَابًا بِرِبْحِهِ فَفِيهِ
الزَّكَاةُ عِنْدَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ كَانَ مَعَهُ عَرَضٌ
لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ مَلَكَ مَا يُكْمِلُ النِّصَابَ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْعُرُوضُ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ وَقَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ فِي الْعُرُوضِ الَّتِي يُرَادُ
بِهَا التِّجَارَةُ الزَّكَاةَ إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ : رُوِيَ ذَلِكَ
عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ
وَالْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مهران وطاوس والنَّخَعِي
وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبُو
عُبَيْدٍ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٌ ودَاوُد : لَا زَكَاةَ فِيهَا . وَفِي سُنَنِ
أَبِي دَاوُد عَنْ { سَمُرَةَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِمَّا نُعِدُّهُ لِلْبَيْعِ } .
وَرُوِيَ عَنْ حَمَاسٍ قَالَ : مَرَّ بِي عُمَرَ فَقَالَ : أَدِّ زَكَاةَ مَالِك
فَقُلْت : مَالِي إلَّا جِعَابٌ وَأُدْمٌ فَقَالَ قَوِّمْهَا ثُمَّ أَدِّ
زَكَاتَهَا . وَاشْتَهَرَتْ الْقِصَّةُ بِلَا مُنْكِرٍ فَهِيَ إجْمَاعٌ .
وَأَمَّا
مَالِكٌ فَمَذْهَبُهُ أَنَّ التُّجَّارَ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُتَرَبِّصٍ وَمُدِيرٍ
. فَالْمُتَرَبِّصُ : وَهُوَ الَّذِي يَشْتَرِي السِّلَعَ وَيَنْتَظِرُ بِهَا
الْأَسْوَاقَ فَرُبَّمَا أَقَامَتْ السِّلَعُ عِنْدَهُ سِنِينَ فَهَذَا عِنْدَهُ
لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ فَيُزَكِّيَهَا لِعَامٍ
وَاحِدٍ وَحُجَّتُهُ أَنَّ الزَّكَاةَ شُرِعَتْ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ
فَإِذَا زَكَّى السِّلْعَةَ كُلَّ عَامٍ - وَقَدْ تَكُونُ كَاسِدَةً - نَقَصَتْ
عَنْ شِرَائِهَا فَيَتَضَرَّرُ فَإِذَا زُكِّيَتْ عِنْدَ الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَتْ
رَبِحَتْ فَالرِّبْحُ كَانَ كَامِنًا فِيهَا فَيُخْرِجُ زَكَاتَهُ وَلَا يُزَكِّي
حَتَّى يَبِيعَ بِنِصَابٍ ثُمَّ يُزَكِّي بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَبِيعُهُ مِنْ
كَثِيرٍ وَقَلِيلٍ . وَأَمَّا الْمُدِيرُ : وَهُوَ الَّذِي يَبِيعُ السِّلَعَ فِي
أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَلَا يَسْتَقِرُّ بِيَدِهِ . سِلْعَةٌ فَهَذَا يُزَكِّي فِي
السَّنَةِ الْجَمِيعَ يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ شَهْرًا مَعْلُومًا يَحْسِبُ مَا
بِيَدِهِ مِنْ السِّلَعِ وَالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَلِيءِ
الثِّقَةِ وَيُزَكِّي الْجَمِيعَ هَذَا إذَا كَانَ يَنِضُّ فِي يَدِهِ فِي
أَثْنَاءِ السَّنَةِ وَلَوْ دِرْهَمٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ بِعَيْنِ أَصْلًا
فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْحُلِيِّ " فَإِنْ كَانَ لِلنِّسَاءِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ
عِنْدَ مَالِكٌ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي عُبَيْدٍ وَرُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ
وَابْنِ
عُمَرَ وَأَنَسٍ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ
التَّابِعِينَ . وَقِيلَ : فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ
مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُوَ
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي . وَأَمَّا حِلْيَةُ
الرِّجَالِ : فَمَا أُبِيحُ مِنْهُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ كَحِلْيَةِ السَّيْفِ
وَالْخَاتَمِ الْفِضَّةِ وَأَمَّا مَا يَحْرُمُ اتِّخَاذُهُ كَالْأَوَانِي فَفِيهِ
الزَّكَاةُ . وَمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ تَحْلِيَةِ الْمِنْطَقَةِ وَالْخُوذَةِ
وَالْجَوْشَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَفِي زَكَاتِهِ خِلَافٌ فَعِنْدَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيِّ فِيهِ الزَّكَاةُ وَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ وَأَبَاحَهُ أَبُو
حَنِيفَةَ وَأَحْمَد إذَا كَانَ مِنْ فِضَّةٍ وَأَمَّا حِلْيَةُ الْفَرَسِ
كَالسَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَالْبِرْذَوْنِ فَهَذَا فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ مَنَعَ مِنْ اتِّخَاذِهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد . وَكَذَلِكَ الدَّوَاةُ وَالْمُكْحُلَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فِيهِ
الزَّكَاةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَوَاءٌ كَانَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا .
فَصْلٌ :
وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْيَتَامَى عِنْدَ مَالِكٌ وَاللَّيْثِ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي ثَوْرٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ
وَعَائِشَةَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ
عُمَرَ : اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى
لَا
تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ وَقَالَتْهُ عَائِشَةَ أَيْضًا . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٍ
وَابْنِ سِيرِين .
فَصْلٌ :
الْمَالُ الْمَغْصُوبُ وَالضَّائِعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . قَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ
فِيهِ زَكَاةُ حَتَّى يَقْبِضَهُ فَيُزَكِّيَهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ كَذَلِكَ
الدَّيْنُ عِنْدَهُ لَا يُزَكِّيهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ زَكَاةً وَاحِدَةً وَقَوْلُ
مَالِكٌ : يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٌ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَقِيلَ : يُزَكِّي كُلَّ عَامٍ إذَا قَبَضَهُ زَكَاةً عَمَّا مَضَى
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ .
فَصْلٌ :
وَالْمَعَادِنُ : إذَا أَخْرَجَ مِنْهَا نِصَابًا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ أَخْذِهِ : عِنْدَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
وَزَادَ أَحْمَد الْيَاقُوتَ وَالزَّبَرْجَدَ وَالْبِلَّوْرَ وَالْعَقِيقَ
وَالْكُحْلَ وَالسَّبَجَ وَالزَّرْنِيخَ . وَعِنْدَ إسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ
: يَسْتَقْبِلُ بِهِ حَوْلًا وَيُزَكِّيهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَجْعَلُ فِيهِ
الْخُمُسَ وَلَهُ قَوْلٌ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ إلَّا فِيمَا يَنْطَبِعُ :
كَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَأَمَّا
مَا يَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَقِيلَ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ
وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَرِوَايَةٌ لِأَحْمَدَ .
فَصْلٌ :
وَالدَّيْنُ يُسْقِطُ زَكَاةَ الْعَيْنِ : عِنْدَ مَالِكٌ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد
وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنُ وَسُلَيْمَانَ
بْنِ يَسَارٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مهران والنَّخَعِي وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي
وَاللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ " وَأَبِي ثَوْرٍ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ
مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : سَمِعْت عُثْمَانَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ : هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ
عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ حَتَّى تَخْلُصَ أَمْوَالُكُمْ تُؤَدُّونَ مِنْهَا
الزَّكَاةَ . وَعِنْدَ مَالِكٌ إنْ كَانَ عِنْدَهُ عُرُوضٌ تُوَفِّي الدَّيْنَ
تَرَكَ الْعَيْنَ وَجَعَلَهَا فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ وَهِيَ الَّتِي
يَبِيعُهَا الْحَاكِمُ فِي الدَّيْنِ مَا يَفْضُلُ عَنْ ضَرُورَتِهِ وَإِنْ كَانَ
لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَلِيءٍ ثِقَةٍ جَعَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ دَيْنِهِ أَيْضًا .
وَزَكَّى الْعَيْنَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَا بِيَدِهِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ .
فَصْلٌ :
وَاخْتُلِفَ : هَلْ فِي الْعَسَلِ زَكَاةٌ ؟ فَكَانَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
فَرَأَى
الزُّهْرِيِّ أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ وَهُوَ قَوْلُ الأوزاعي وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ الْعُشْرُ .
وَعِنْدَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَا زَكَاةَ فِيهِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ الْعُشْرُ } . الْحَدِيثُ .
فَفِيهِ مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمِقْدَارُ الْمَأْخُوذُ
مِنْ الْمُعَشَّرَاتِ . وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ شَيْءٍ يَجِبُ الْعُشْرُ
وَنِصْفُهُ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي كُلِّ مَا يَزْرَعُهُ
الْآدَمِيُّونَ مِنْ الْحُبُوبِ وَالْبُقُولِ وَمَا أَنْبَتَتْهُ تِجَارَاتُهُمْ
مِنْ الثِّمَارِ قَلِيلُ ذَلِكَ وَكَثِيرُهُ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ
أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ : لَا يَجِبُ إلَّا فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ فِيمَا يَبْلُغُ
خَمْسَةَ أَوْسُقٍ . وَقَالَ أَحْمَد : يَجِبُ الْعُشْرُ فِيمَا يَيْبَسُ
وَيَبْقَى مِمَّا يُكَالُ وَيَبْلُغُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا . وَسَوَاءٌ
عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ قُوتًا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْأُرْزِ وَالذُّرَةِ
أَوْ مِنْ الْقُطْنِيَّاتِ كَالْبَاقِلَاءِ وَالْعَدَسِ أَوْ مِنْ الْأَبَازِيرِ
كالكسفرة وَالْكَمُّونِ والكراويا وَالْبِزْرِ كَبِزْرِ الْكَتَّانِ
وَالسِّمْسِمِ وَسَائِرِ الْحُبُوبِ . وَتَجِبُ أَيْضًا عِنْدَهُ فِيمَا جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَاللَّوْزِ وَالْبُنْدُقِ وَالْفُسْتُقِ وَلَا تَجِبُ فِي الْفَوَاكِهِ وَلَا فِي الْخُضَرِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . وَيُشْبِهُهُ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ . قَالَ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٌ وَزَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ : تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ الثِّمَارِ ذَوَاتِ الْأُصُولِ كُلِّهَا مَا اُدُّخِرَ مِنْهَا وَمَا لَمْ يُدَّخَرْ وَقَالَ إذَا اجْتَمَعَ لِلرَّجُلِ مِنْ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ خَرْصُ ثَمَرَتِهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إنْ كَانَ مِمَّا يَيْبَسُ : كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ ؟ وَالْفُسْتُقِ أَخْرَجَ عُشْرَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَيْبَسُ : مِثْلَ الرُّمَّانِ وَالتُّفَّاحِ والفرسك وَالسَّفَرْجَلِ وَشِبْهِهِ فَبَلَغَ خَرْصُهَا وَهِيَ خَضْرَاءُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ إنْ بَاعَهُ عُشْرُ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَبِعْهَا فَبِعُشْرِ كَيْلِ خَرْصِهَا . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِهِمْ : تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالسَّلْتِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ وَالْأُرْزِ وَالْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ وَالْجُلُبَّانِ وَالرَّشِّ وَالْبِسِلَّةِ وَالسِّمْسِمِ وَالْمَاشّ وَحَبِّ الْفُجْلِ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْحُبُوبَ الْمَأْكُولَةَ الْمُدَّخَرَةَ . وَتَجِبُ فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الثِّمَارِ : وَهِيَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالزَّيْتُونُ
وَقَالَ الشَّافِعِيِّ : تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا يَيْبَسُ وَيُدَّخَرُ وَيُقْتَاتُ مَأْكُولًا أَوْ طَبِيخًا أَوْ سَوِيقًا وَلَهُ فِي الزَّيْتُونِ قَوْلَانِ وَتَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ . وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : كُلُّ مَا يُخْتَبَزُ فَفِيهِ الصَّدَقَةُ مَعَ أَنَّهُ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالزَّيْتُونِ . وَكَذَلِكَ الثَّوْرِيُّ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ وَالْأَوْزَاعِي وَالزُّهْرِيُّ وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا . وَقَالَ الأوزاعي : مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الْحِنْطَةِ وَفِي الشَّعِيرِ وَالسَّلْتِ وَالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَالزَّيْتُونِ . وَقَالَ إسْحَاقُ : كُلُّ مَا يُخْتَبَزُ فَفِيهِ الصَّدَقَةُ . وَعِنْدَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : تِسْعَةُ أَشْيَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ فَقَطْ : التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ . وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَعْتَبِرُ الْخَمْسَةَ الْأَوْسُقِ إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . أَنَّهُ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الْقَلِيلِ وَيُعْتَبَرُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ الْيُبْسُ وَالتَّصْفِيَةُ فِي الْحُبُوبِ وَالْجَفَافُ فِي الثِّمَارِ وَمَا لَا زَيْتَ فِيهِ مِنْ الزَّيْتُونِ وَمَا لَا يُزَبَّبُ مِنْ الْعِنَبِ وَلَا يُتْمِرُ مِنْ الرُّطَبِ تُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ ثَمَنِهِ أَوْ مِنْ حَبِّهِ . قَالَ مَالِكٌ إذَا بَلَغَ مِنْهُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَبِيعَ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ ثَمَنِهِ .
فَصْلٌ
:
وَيُضَمُّ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسَّلْتُ فِي الزَّكَاةِ وَتُضَمُّ القطافي
بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَيُضَمُّ زَرْعُ الْعَامِ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ وَلَوْ
كَانَ بَعْضُهُ صَيْفِيًّا وَبَعْضُهُ شَتْوِيًّا وَكَذَلِكَ الثَّمَرَةُ وَلَوْ
كَانَ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى إذَا كَانَ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ . وَأَمَّا الشُّرَكَاءُ
فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي حِصَّةِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ .
فَصْلٌ :
وَالْوَسْقُ : سِتُّونَ صَاعًا : وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَالْمُدُّ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ
وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ وَالرِّطْلُ الْبَغْدَادِيُّ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ
دِرْهَمًا ) (*) وَالدَّرَاهِمُ هِيَ هَذِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ زَمَانِ عَبْدِ
الْمَلِكِ : كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ . فَمَبْلَغُ
النِّصَابِ بِالرِّطْلِ الْبَغْدَادِيِّ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةِ رِطْلٍ .
وَتَقْدِيرُهُ بِالدِّمَشْقِيِّ : ثَلَاثُمِائَةِ رِطْلٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ
رِطْلًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ رِطْلٍ .
فَصْلٌ
:
وَمَنْ بَاعَ ثَمَرَةً أَوْ وَهَبَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا بَعْدَ بُدُوِّ
صَلَاحِهَا فَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا
فَالزَّكَاةُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْوَارِثِ إنْ كَانَ فِي
حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ نِصَابٌ . وَيُخْرَصُ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ عَلَى
أَرْبَابِهِ وَيُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَإِنْ شَاءُوا أَكَلُوا وَإِنْ
شَاءُوا بَاعُوا وَيُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَمَا أُكِلَ مِنْ الزَّرْعِ أَوْ
اُلْقُطَانِي . وَهُوَ أَخْضَرُ صَغِيرٌ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ
لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبْعَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَقَالَ : {
خَفِّفُوا عَلَى النَّاسِ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الوطية وَالْآكِلَةَ
وَالْعَرِيَّةَ } . رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ . وَقَالَ : " الوطية "
السَّابِلَةُ سُمُّوا بِذَلِكَ لِوَطْئِهِمْ بِلَادَ الثِّمَارِ مُجْتَازِينَ . وَ
" الْعَرِيَّةُ " هِيَ هِبَةُ ثَمَرَةِ نَخْلَةٍ أَوْ نَخَلَاتٍ لِمَنْ
يَأْكُلُهُ . وَ " الْآكِلَةُ " أَهْلُ الْمَالِ يَأْكُلُونَ مِنْهُ .
فَصْلٌ :
وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إلَّا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ .
وَالْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسَّلْتُ عِنْدَ مَالِكٌ صِنْفٌ وَاحِدٌ فَإِذَا
اجْتَمَعَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ
نِصَابٌ
وَجَبَتْ الزَّكَاةُ وَيُخْرَجُ كُلٌّ بِحِسَابِهِ . وَكَذَلِكَ اُلْقُطَافِي :
وَهِيَ الْحُمُّصُ وَالْبَاقِلَاءُ وَالْعَدَسُ وَنَحْوُ ذَلِكَ صِنْفٌ وَاحِدٌ
عِنْدَهُ وَالْقَدْرُ الْمَأْخُوذُ بِقَدْرِ التَّعَبِ وَالْمُؤْنَةِ . كَمَا فِي
الْحَدِيثِ : { مَا كَانَ يُسْقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ
فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا كَانَ يُسْقَى بِالنَّضْحِ أَوْ السَّانِيَةِ
وَالدَّوَالِيبِ - وَهِيَ أَسْمَاءُ شَيْءٍ وَاحِدٍ كَالسَّانِيَةِ وَالنَّاضِحُ
هِيَ الْإِبِلُ يُسْتَقَى بِهَا لِشُرْبِ الْمَاءِ - فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ
وَمِمَّا سُقِيَ نِصْفُهُ بِهَذَا وَنِصْفُهُ بِهَذَا أَوْ نِصْفَ السَّنَةِ
فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ } .
فَصْلٌ :
وَكُلُّ مَنْ نَبَتَ الزَّرْعُ عَلَى مِلْكِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } الْآيَةَ . وَسَوَاءٌ
كَانَتْ الْأَرْضُ مِلْكًا لَهُ أَوْ اسْتَأْجَرَهَا أَوْ أَقْطَعَهَا لَهُ
الْإِمَامُ يَسْتَغِلُّ مَنْفَعَتَهَا أَوْ اسْتَعَارَهَا أَوْ كَانَتْ
مَوْقُوفَةً عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ
عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا
عَلَيْهَا قَبْلَ قَهْرِهِمْ أَنَّهَا لَهُمْ وَأَنَّ عَلَيْهِمْ فِيمَا زَرَعُوا
فِيهَا الزَّكَاةَ . فَأَرْضُ الصُّلْحِ كَمَا قَالَ وَكَذَلِكَ أَرْضُ
الْعَنْوَةِ إذَا
كَانَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ أَدَّى الْخَرَاجَ وَزَكَّى مَا بَقِيَ . فَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزَّرْعِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . وَكَذَلِكَ الْمُقْطِعِينَ عَلَيْهِمْ الْعُشْرُ فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ كُلُّهُ لَهُ وَهُوَ يُعْطِي الْفَلَّاحَ أَجْرَهُ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ كُلُّهُ وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ مُقَاسَمَةٌ نِصْفُهُ أَوْ ثُلْثُهُ لِلْفَلَّاحِ وَنِصْفُهُ أَوْ ثُلْثُهُ لِلْمُقْطِعِ فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عُشْرُ نَصِيبِهِ فَإِنَّ الزَّرْعَ نَبَتَ عَلَى مِلْكِهِ وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ . وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَأْخُذُ مِنْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُشْرَ يُعْطِيهِ لِمُسْتَحِقِّيهِ وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا بِمَا يَبْقَى مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَإِذَا كَانَ الْجُنْدُ قَدْ أُعْطُوا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يُجَاهِدُونَ بِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُعْطُوا عُشْرَهُ فَمَنْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ أَرْضًا لِلِاسْتِغْلَالِ وَالْجِهَادِ إذَا اسْتَغَلَّهَا وَنَبَتَ الزَّرْعُ عَلَى مِلْكِهِ فِي أَرْضٍ عشرية فَمَا يَقُولُ عَالِمٌ إنَّهُ لَا عُشْرَ عَلَيْهِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ اسْتَحَقَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ بِعِوَضٍ كَالْمُسْتَأْجِرِ لَهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ بِخِدْمَةِ نَفْسِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُ : عَلَيْهِ الْعُشْرُ وَهُوَ قَوْلُ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ : الْعُشْرُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ . فَهَؤُلَاءِ الْمُقْطَعُونَ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمْ اُسْتُؤْجِرُوا بِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَبَذَلُوا
خِدْمَةَ
أَنْفُسِهِمْ كَانَ عَلَيْهِمْ الْعُشْرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعَلَى الْقَوْلِ
الْآخَرِ عَلَى الَّذِي اسْتَأْجَرَهُمْ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْعُشْرَ الَّذِي
أَوْجَبَهُ اللَّهُ لِمُسْتَحِقِّي الصَّدَقَاتِ يَسْقُطُ فَقَدْ خَالَفَ
الْإِجْمَاعَ . وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الْجُنْدُ لَيْسُوا كَالْأُجَرَاءِ
وَإِنَّمَا هُمْ جُنْدُ اللَّهِ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِبَادَهُ
وَيَأْخُذُونَ هَذِهِ الْأَرْزَاقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيَسْتَعِينُوا بِهَا
عَلَى الْجِهَادِ وَمَا يَأْخُذُونَهُ لَيْسَ مِلْكًا لِلسُّلْطَانِ وَإِنَّمَا
هُوَ مَالُ اللَّهِ يُقَسِّمُهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ
فَمَنْ جَعَلَهُمْ كَالْأُجَرَاءِ جَعَلَ جِهَادَهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ . وَقَدْ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي وَيَأْخُذُونَ
مَا يُعْطُونَهُ مَثَلُ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعُ ابْنَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا } .
فَصْلٌ :
فَإِنْ كَانَ عَلَى مَالِكِ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ دَيْنٌ فَهَلْ تَسْقُطُ
الزَّكَاةُ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . قِيلَ : لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ وَهُوَ
قَوْلُ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِي وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد .
وَقِيلَ : يُسْقِطُهَا وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنُ وَسُلَيْمَانَ بْنِ
يَسَارٍ
وَمَيْمُونُ
بْنُ مهران والنَّخَعِي وَاللَّيْثِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ . وَكَذَلِكَ فِي
الْمَاشِيَةِ : الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ . وَقِيلَ : يُسْقِطُهَا
الدَّيْنُ الَّذِي أَنْفَقَهُ عَلَى زَرْعِهِ وَثَمَرَتِهِ وَلَا يُسْقِطُهَا مَا
اسْتَدَانَهُ لِنَفَقَةِ أَهْلِهِ . وَقِيلَ : يُسْقِطُهَا هَذَا وَهَذَا .
الْأَوَّلُ : قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ
وَغَيْرُهُ . وَالثَّانِي قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ .
فَصْلٌ :
وَالرُّطَبُ الَّذِي لَا يُتْمِرُ وَالزَّيْتُونُ الَّذِي لَا يُعْصَرُ
وَالْعِنَبُ الَّذِي لَا يُزَبَّبُ : فَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : تُخْرَجُ
الزَّكَاةُ مِنْ ثَمَنِهِ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ
ثَمَنُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَإِنْ كَانَ يَتَنَاهَى فَبِيعَ قَبْلَ تَنَاهِيهِ .
فَقِيلَ : تُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ ثَمَنِهِ وَقِيلَ تُخْرَجُ مِنْ حَبِّهِ أَوْ
دُهْنِهِ .
فَصْلٌ
:
فَهَذِهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ وَالْحَرْثِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأَحَادِيثُ
الْمُتَقَدِّمَةُ مَعَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ . وَأَمَّا " زَكَاةُ
الْمَاشِيَةِ " الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ . فَقَدْ دَلَّتْ
عَلَيْهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَكَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وَكَذَلِكَ كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرُهُمَا
مِنْ الصَّحَابَةِ . فَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - هَذَا
لَفْظُ الْبُخَارِيِّ - { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا
وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ
فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاَلَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ
فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا وَمَنْ
سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِ : فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ فَمَا
دُونَهَا : مِنْ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا
وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى فَإِذَا
بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى
فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ
الْجَمَلِ فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ
فَفِيهَا جَذَعَةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا
بِنْتَا لَبُونٍ فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ .
فَفِيهَا حِقَّتَانِ
طَرُوقَتَا الْجَمَلِ . فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أَرْبَعٌ مِنْ الْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ : فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً عَنْ أَرْبَعِينَ وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا . وَفِي الرَّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا } . وَعَنْ أَنَسٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا : { مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إنْ تَيَسَّرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ وَعِنْدَهُ جَذَعَةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إلَّا بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ بِنْتِ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ
عِشْرِينَ
دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ
وَيُعْطَى مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ
مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وَمَا كَانَ
مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَلَا
يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ وَلَا تَيْسٌ إلَّا إنْ
شَاءَ الْمُصَدِّقُ } . وَعَنْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا { وَمَنْ بَلَغَتْ
صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ
فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ
شَاتَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا وَعِنْدَهُ
ابْنُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ } وَرَوَى
مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ كِتَابَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي
مُوَطَّئِهِ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ إلَّا ذِكْرَ الْبَدَلِ
مَعَ الْعِشْرِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ .
فَصْلٌ :
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ : وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إلَى
عِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَلَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ مَا رُوِيَ فِي خَمْسٍ
وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ .
وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : { فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ } مَوْضِعُ خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ السَّائِمَةَ هِيَ الَّتِي تَرْعَى . فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الْإِبِلَ الْعَوَامِلَ وَالْبَقَرَ الْعَوَامِلَ وَالْكِبَاشَ الْمَعْلُوفَةَ فِيهَا الزَّكَاةُ . قَالَ أَبُو عُمَرَ : وَهَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ غَيْرَهُمَا . وَأَمَّا الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَةَ وَكَذَلِكَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِي وَغَيْرُهُمْ : فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَهُمْ . وَرُوِيَ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ : عَلِيٍّ وَجَابِرٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ . وَكَتَبَ بِهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ . وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فِي كُلِّ سَائِمَةٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ } فَقَيَّدَهُ بِالسَّائِمَةِ " وَالْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ . وَقَوْلُهُ : { مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ } إلَى آخِرِهِ . لَمْ يَقُلْ بِهِ مَالِكٌ بَلْ قَالَ إنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ السِّنَّ : كَالْجَذَعَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ يَبْتَاعُهَا وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَهُ ثَمَنَهَا وَقَالَ : إذَا لَمْ يَجِدْ السِّنَّ الَّتِي تَجِبُ فِي الْمَالِ لَمْ يَأْخُذْ مَا فَوْقَهَا وَلَا مَا دُونَهَا وَلَا يَزْدَادُ دَرَاهِمَ وَيَبْتَاعُ لَهُ رَبُّ الْمَالِ مُسِنًّا . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بِمَثَلِ مَا فِي الْحَدِيثِ : إنَّهُ إذَا لَمْ
يَجِدْ السِّنَّ أَخَذَ مِمَّا وَجَدَ وَأَعْطَى شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ أَخَذَ مِثْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَفْضَلَ مِنْهَا وَأَعْطَى الزِّيَادَةَ . وَمَالِكٍ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَالِكًا إنَّمَا رَوَى كِتَابَ عُمَرَ وَلَيْسَ فِيهِ مَا فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الزِّيَادَةِ وَهَذَا شَأْنُ الْعُلَمَاءِ . وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : { فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ } قَالَ أَبُو عُمَرَ : هَذَا مَوْضِعُ خِلَافٍ يَعْنِي إذَا زَادَتْ وَاحِدَةً قَالَ مَالِكٌ : إذَا زَادَتْ وَاحِدَةً عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَالسَّاعِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ حِقَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَقَالَ الزُّهْرِيِّ : فِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إلَى ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ فَيَكُونُ فِيهَا حِقَّةٌ وَابْنَتَا لَبُونٍ . وَبِهِ قَالَ الأوزاعي وَالشَّافِعِيِّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْحِجَازِ وَهُوَ أَوْلَى عِنْدَ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ : فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْفَرِيضَةَ بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَيَكُونُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ .
فَصْلٌ
:
وَقَوْلُهُ : { وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ
وَلَا تَيْسٌ } عَلَيْهِ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ
فِي الصَّدَقَاتِ الْعَدْلُ . كَمَا قَالَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
عَدْلٌ مِنْ عَدْلِ الْمَالِ وَخِيَارِهِ . " الْهَرِمَةُ " الشَّاةُ
الشَّارِفُ وَ " ذَاتُ الْعَوَارِ " بِفَتْحِ الْعَيْنِ : الَّتِي بِهَا
عَيْبٌ وَبِالضَّمِّ الَّتِي ذَهَبَتْ عَيْنُهَا . وَلَا يَجْزِي ذَلِكَ فِي
الصَّدَقَةِ وَالشَّاةُ الْمَأْخُوذَةُ فِي الْإِبِلِ الْجَذَعَةُ مِنْ الضَّأْنِ
وَالثَّنِيَّةُ مِنْ الْمَعْزِ فَإِنْ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ فَقَوْلَانِ .
وَقَوْلُهُ : { وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ
مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ } يَعْنِي بِذَلِكَ تَفْرِقَةَ الْمَوَاشِي
وَجَمْعَهَا خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وَاخْتُلِفَ هَلْ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ
أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ أَوْ هُوَ السَّاعِي أَوْ هُمَا جَمِيعًا . وَهَذَا فِي
الْخُلْطَةِ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى الْخُلَطَاءِ عَدَدٌ مِنْ الْغَنَمِ فَإِذَا
فُرِّقَتْ قَلَّ الْعَدَدُ أَوْ فِي الْفُرْقَةِ عَدَدٌ فَإِذَا جَمَعُوهَا قَلَّ
الْعَدَدُ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ . وَلِهَذَا نَظَائِرُ : كَثَلَاثَةِ نَفَرٍ
لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ فَفِيهَا حِينَئِذٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ فَإِذَا
جُمِعَتْ صَارَ فِيهَا شَاةٌ أَوْ يَكُونُ لِرَجُلَيْنِ مِنْ الْغَنَمِ
مِائَتَيْنِ
وَشَاتَيْنِ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ وَشَاةٌ فَعَلَيْهِمَا فِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ
فَإِذَا تَفَرَّقَ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ " وَنَحْوَ
ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ : { وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا
يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ } يَعْنِي إذَا أُخِذَتْ شَاةٌ مِنْ
غَنَمِ أَحَدِ الْخَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْآخَرِ بِقِيمَةِ مَا
يَخُصُّهُ .
فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ : { فِي الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ
أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا
شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ
فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ
مِائَةٍ شَاةٌ } هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ أَيْضًا
وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ سَوَاءٌ . وَالسَّوْمُ : شَرْطٌ فِي الزَّكَاةِ "
إلَّا عِنْدَ مَالِكٌ وَاللَّيْثِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَإِنَّهُمَا يُوجِبَانِ
الزَّكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَة وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ
الضَّأْنَ وَالْمَعْزَ يُجْمَعَانِ فِي الزَّكَاةِ وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ عَلَى
اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ .
وَاخْتَلَفُوا
فِيمَا إذَا كَانَ بَعْضُ الْجِنْسِ أَرْفَعَ مِنْ بَعْضٍ . فَقِيلَ : يَأْخُذُ
مِنْ أَيِّهَا شَاءَ وَقِيلَ : مِنْ الْوَسَطِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " صَدَقَةُ الْبَقَرِ " : فَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ مُعَاذِ بْنِ
جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ صَدَقَةَ
الْبَقَرِ مَنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً وَمَنْ كُلِّ
أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً وَأَنْ يَأْخُذَ الْجِزْيَةَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا
} . رَوَاهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي
كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ طاوس عَنْ
مُعَاذٍ وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ
عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِينَ شَيْءٌ . وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدٌ
وَالزُّهْرِيُّ أَنَّ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ كَالْإِبِلِ . وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ
تَكُونَ سَائِمَة كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَيْسَ فِي
الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُعَاذٍ
وَجَابِرٍ أَنَّهُمْ قَالُوا : لَا صَدَقَةَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ .
وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ يَقُولَانِ : فِيهَا الصَّدَقَةُ .
وَيُخْرِجُ
فِي الثَّلَاثِينَ الذَّكَرَ وَفِي الْأَرْبَعِينَ الْأُنْثَى فَإِنْ أَخْرَجَ
ذَكَرًا هَلْ يُجْزِئُهُ ؟ قَوْلَانِ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يُجْزِئُهُ .
وَأَشْهَبُ قَالَ لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَجَمَاعَةٍ مِنْ
الْعُلَمَاءِ . فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا أَخْرَجَ مِنْهَا . وَإِذَا
بَلَغَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ خُيِّرَ رَبُّ الْمَالِ بَيْنَ ثَلَاثِ مُسِنَّاتٍ
أَوْ أَرْبَعَةِ أَتْبِعَةٍ . وَالتَّبِيعُ : الَّذِي لَهُ سَنَةٌ وَدَخَلَ فِي
الثَّانِيَةِ . وَالْبَقَرَةُ الْمُسِنَّةُ مَا لَهَا سَنَتَانِ .
فَصْلٌ :
وَ " الْجَوَامِيسُ " : بِمَنْزِلَةِ الْبَقَرِ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ
فِيهِ الْإِجْمَاعَ . وَأَمَّا " بَقَرُ الْوَحْشِ " فَلَا زَكَاةَ
فِيهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : فِيهَا الزَّكَاةُ . فَإِنْ
تَوَلَّدَ مِنْ الْوَحْشِيِّ وَالْأَهْلِيِّ فَقَالَ الشَّافِعِيِّ : لَا زَكَاةَ
وَقَالَ أَحْمَد تُزَكَّى وَمَالِكٍ : يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأُمَّهَاتِ وَالْآبَاءِ
فَإِنْ كَانَتْ الْأُمَّهَاتُ أَهْلِيَّةً أَخْرَجَ الزَّكَاةَ وَإِلَّا فَلَا . وَصِغَارُ
كُلِّ صِنْفٍ مِنْ جَمِيعِ الْمَاشِيَةِ تَبَعٌ يُعَدُّ مَعَ الْكِبَارِ وَلَكِنْ
لَا يُؤْخَذُ إلَّا مِنْ الْوَسَطِ فَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ صِغَارًا فَقِيلَ :
يَأْخُذُ مِنْهَا وَقِيلَ يَشْتَرِي كِبَارًا .
فَصْلٌ
:
وَالْخُلَطَاءُ فِي الْمَاشِيَةِ : وَهُوَ إذَا كَانَ مَالُ كُلٍّ مِنْهُمَا
مُتَمَيِّزًا عَنْ الْآخَرِ فَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ فَهُمَا شَرِيكَانِ وَإِذَا
كَانَا خَلِيطَيْنِ زَكَّيَا زَكَاةَ الْمَالِ الْوَاحِدِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ
لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَرْبَعُونَ فَعَلَيْهِمَا فِي الْخُلْطَةِ شَاةٌ وَاحِدَةٌ
وَيَتَرَادَّانِ قِيمَتَهَا . وَتُعْتَبَرُ الْخُلْطَةُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ
وَقِيلَ بِشَرْطَيْنِ وَقِيلَ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ : وَهُوَ الدَّلْوُ وَالْحَوْضُ
وَالْمُرَاحُ . وَالْمَبِيتُ وَالرَّاعِي وَالْفَحْلُ . وَقِيلَ : بِالرَّاعِي
وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يَجْتَمِعَانِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ .
وَهَلْ مِنْ شَرْطِ الْخُلْطَةِ : أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا نِصَابًا أَمْ
لَا ؟ بِالْأَوَّلِ قَالَ مَالِكٌ . وَقَالَ غَيْرُهُ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
إذَا مَلَكَ مَاشِيَةً فَتَوَالَدَتْ فَإِنْ كَانَتْ الْأُمَّهَاتُ نِصَابًا
زَكَّى الْأَوْلَادَ تَبَعًا وَبَنَى عَلَى حَوْلِ الْأُمَّهَاتِ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ . وَإِنْ كَانَتْ دُونَ النِّصَابِ
فَتَوَالَدَتْ
وَلَوْ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمِ وَتَمَّ النِّصَابُ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ عِنْدَ
مَالِكٌ وَبَنَى الْأَوْلَادَ عَلَى حَوْلِ الْأُمَّهَاتِ . وَإِنْ بَاعَ
النِّصَابَ بِجِنْسِهِ بَنَى الثَّانِيَ عَلَى حَوْلِ الْأَوَّلِ وَإِنْ اشْتَرَى
بِنِصَابٍ مِنْ الْعَيْنِ نِصَابًا مِنْ الْمَاشِيَةِ وَكَانَ الْأَوَّلُ لَمْ
يَتِمَّ لَهُ حَوْلٌ بَنَى الْمَاشِيَةَ عَلَى حَوْلِ الْعَيْنِ فِي أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ .
فَصْلٌ :
وَتَفْرِقَةُ زَكَاةِ كُلِّ بَلَدٍ فِي مَوْضِعِهِ . فَزَكَاةُ الشَّامِ فِي
الشَّامِ وَزَكَاةُ مِصْرَ فِي مِصْرَ وَهَلْ يَجُوزُ نَقْلُهَا لِمَصْلَحَةِ
فَتُنْقَلُ مِنْ الشَّامِ إلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِهَا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ . قَالَ مَالِكٌ :
لَا بَأْسَ بِنَقْلِهَا لِلْحَاجَةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْبَلَدِ
مُسْتَحِقِّينَ فَتُنْقَلُ بِلَا خِلَافٍ . وَلَمَّا نَقَلَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ
الصَّدَقَةَ مِنْ الْيَمَنِ إلَى الْمَدِينَةِ أَنْكَرَ عُمَرَ فَقَالَ : مَا
بَعَثْتُك جَابِيًا . فَقَالَ : مَا وَجَدْت آخِذًا . فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد : لَا تُنْقَلُ وَعِنْدَ مَالِكٌ يَجُوزُ نَقْلُهَا .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " قِسْمَةُ الصَّدَقَاتِ " : فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ
فِي الْقُرْآنِ . بِقَوْلِهِ { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ==
===========
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق