45. مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى :
728هـ)
بِهِ عَنْ الْعَيْنِ ؟ وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ الْمَسَائِلِ . وَأَمَّا إذَا قُلْنَا بِوَقْفِ الْعُقُودِ - لَا سِيَّمَا
مَعَ تَعَذُّرِ الِاسْتِئْذَانِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ - فَالْأَمْرُ
فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ . فَإِنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ أَنَّ النَّاسَ يَرْضَوْنَ
بِبَيْعِ مِثْلِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الَّتِي أَعَدُّوهَا لِلْبَيْعِ
بِالزِّيَادَةِ ؛ بِخِلَافِ مَا أَعَدُّوهُ لِلْقِنْيَةِ . وَأَيْضًا
فَالْمَظْلُومُ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ قَلِيلٌ بِسَبَبِ
الزِّيَادَةِ الَّتِي ظَلَمَهَا فَبَعْضُهُ لِصَاحِبِ الْحَانُوتِ الظَّالِمِ
وَلَا يَتَمَيَّزُ هَذَا عَنْ هَذَا وَمِثْلُ هَذَا إذَا طَلَبَ أَحَدُ
الشَّرِيكَيْنِ بَيْعَهُ أُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْبَيْعِ لِأَجْلِ
شَرِيكِهِ فَمَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَالٌ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ - كَحَيَوَانِ
- إذَا طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بَيْعَهَا وَقِسْمَةَ الثَّمَنِ أُجْبِرَ
الْآخَرُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد ؛ وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا
إجْمَاعٌ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ قِيمَةِ الْجَمِيعِ لَا فِي
قِيمَةِ النِّصْفِ . بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ
وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ
قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ . فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ
وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ : وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ }
فَجَعَلَ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ قِيمَةِ الْجَمِيعِ وَأَمَرَ بِتَقْوِيمِ
جَمِيعِ الْعَبْدِ لَا بِتَقْوِيمِ حِصَّةِ الشَّرِيكِ فَقَطْ .
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الزِّيَادَةَ الظلمية لَا تَتَمَيَّزُ عَنْ الْمَزِيدِ وَلَا يُمْكِنُ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا إلَّا بِقِسْمَةِ الْعَيْنِ أَوْ قِسْمَةِ بَدَلِهَا وَالْعَيْنُ قَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا فَتَعَيَّنَ قِيمَةُ بَدَلِهَا . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَاوِضَ صَاحِبَ الْحَانُوتِ عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الشُّرَكَاءَ الْمَظْلُومِينَ حُقُوقَهُمْ . وَأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقَالَ : أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِينَ فِي ذِمَّتِهِ فَقَطْ أَوْ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَعْيَانِ مَعَ جَوَازِ الْمُعَاوَضَةِ لِتَوْفِيَةِ حُقُوقِهِمْ ؛ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى تَوْفِيَةِ حُقُوقِهِمْ بِالْعَدْلِ إلَّا مَعَ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا فَالْمُشْتَرُونَ تَسَلَّمُوا مَا اشْتَرَوْهُ شِرَاءً حَلَالًا جَائِزًا . وَعَلَى هَذَا أَدِلَّةٌ أُخْرَى تُبَيِّنُ أَنَّ النَّاسَ الْمُشْتَرِينَ لَمْ يَظْلِمُوا أَحَدًا إذَا اشْتَرَوْا وَإِنَّ شِرَاءَهُمْ جَائِزٌ وَأَنَّ مَنْعَ النَّاسِ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ ظُلْمٌ مُضَاعَفٌ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ . وَعَلَى هَذَا فَمَعَ الْحَاجَةِ إلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ لَا يُكْرَهُ الشِّرَاءُ مِنْهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَحْرُمَ . وَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ الَّذِي بَاعَهُ عَيْنَ الْمَعْقُودِ فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى وَقْفِ الْعُقُودِ وَعَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمَالِكِ الْمَجْهُولِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِلْمَصْلَحَةِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِوَقْفِهَا ؛ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَلِكَ أَحْمَد عِنْدَ الْحَاجَةِ : مِثْلُ أَنْ يَتَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُ الْمَالِكِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ وَفِي ذَلِكَ بِدُونِ الْحَاجَةِ رِوَايَتَانِ . وَاخْتَارَ الخرقي الْقَوْلَ بِوَقْفِهَا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَيَكُونُ
تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ إذَا أَمْكَنَ اسْتِئْذَانُهُ . وَأَمَّا الْمَجْهُولُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ فَلَا يَفْتَقِرُ ذَلِكَ إلَى اسْتِئْذَانِهِ ؛ بَلْ يَنْفُذُ التَّصَرُّفُ لَهُ بِالْمَصْلَحَةِ . وَلَوْ عُرِفَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّ الْمُعَاوَضَاتِ وَإِنَّمَا لَهُ رَدُّ التَّبَرُّعَاتِ كَصَاحِبِ اللُّقَطَةِ . وَقَدْ عُرِفَ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ أَنَّ أَرْبَابَ مِثْلِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا لَيْسَ لَهُمْ غَرَضٌ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ . وَلَا يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ تُبَاعَ سِلْعَتُهُ بِزِيَادَةِ فَإِنَّهُمْ يَخْتَارُونَ بَيْعَ الْمُشْتَرِي ؛ وَلَكِنَّ الْبَائِعَ هُوَ الَّذِي ظَلَمَهُمْ وَهُوَ هُنَا لَمَّا لَمْ يُعْرَفْ الْمَالِكُ جَازَ التَّصَرُّفُ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا عُرِفَ الْمَالِكُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِئْذَانِهِ فِي الْقَبْضِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَهَذَا كَاللُّقَطَةِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ مَالِكُهَا . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَهُوَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } فَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَا الْمُلْتَقِطُ كَانَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ إذَا عُرِفَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَقَبْلَ أَنْ يُعْرَفَ يَكُونُ التَّصَدُّقُ نَافِذًا غَيْرَ مَوْقُوفٍ ؛ وَلَكِنَّ الْمُلْتَقِطَ الْبَائِعَ لَيْسَ بِظَالِمِ وَهُنَا الْبَائِعُ ظَالِمٌ ؛ لَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ بِظَالِمِ وَالْمَالُ لَا يُمْكِنُ إتْلَافُهُ وَهُوَ بِيَدِ الْبَائِعِ الظَّالِمِ فَأَخْذُ الشِّرَاءِ لَهُ بِالزِّيَادَةِ حَرَامٌ لِلْمَالِكِ الْمَجْهُولِ فَالشَّارِعُ يُنَفِّذُ الْمِلْكَ لِمَصْلَحَةِ الْمُشْتَرِي وَالْمَالِكِ الْمَجْهُولِ الْمَظْلُومِ ؛ إنْ كَانَ الْبَائِعُ ظَالِمًا . كَمَا لَوْ قُدِّرَ أَنَّ نَاظِرَ الْوَقْفِ وَوَصِيَّ الْيَتِيمِ وَالْمُضَارِبَ وَالشَّرِيكَ
خَانُوا ثُمَّ تَصَرَّفُوا مَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ تَصَرُّفِهِمْ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ وَحَقِّ رَبِّ الْمَالِ وَإِلَّا فَلَوْ أَبْطَلَ ذَلِكَ فَسَدَ عَامَّةُ أَمْوَالِ النَّاسِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ وَالْوِكَالَةِ ؛ لِغَلَبَةِ الْخِيَانَةِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَالْوُكَلَاءِ ؛ لَا سِيَّمَا وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ وُلَاةِ الْأُمُورِ مَا لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ - وَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا - فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ رِعَايَةُ حَقٍّ مَجْهُولٍ فِي عَيْنٍ حَصَلَ عَنْهَا بَدَلٌ خَيْرٌ لَهُ . مِنْهَا أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُشْتَرِينَ أَمْوَالُهُمْ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مِنْ يَهْدِمُ مِصْرًا وَيَبْنِي قَصْرًا . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَوَابِعِهَا لَهُ مَكَانٌ آخَرُ قَدْ ذُكِرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الشَّوَاهِدِ وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
:
هَلْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَطْعُومَاتُ الَّتِي يُؤْخَذُ عَلَيْهَا الْمَكْسُ
وَهِيَ مُضَمَّنَةٌ أَوْ مُحْتَكَرَةٌ هَلْ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ يَشْتَرِي مِنْهَا
شَيْئًا وَيَأْكُلُ مِنْهَا ؟ وَإِنْ عَامَلَ رَجُلٌ لِإِنْسَانِ كُلُّ مَالِهِ
حَرَامٌ مِثْلَ ضَامِنِ الْمَكْسِ أَوْ مَنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ سِوَى الْمَكْسِ
فَهَلْ يَفْسُقُ بِذَلِكَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ يَبِيعُ سِلْعَتَهُ مِنْ طَعَامٍ
أَوْ غَيْرِهِ وَعَلَيْهِمَا وَظِيفَةٌ تُؤْخَذُ مِنْ الْبَائِعِ أَوْ
الْمُشْتَرِي . فَهَذَا لَا يُحَرِّمُ السِّلْعَةَ وَلَا الشِّرَاءَ ؛ لَا عَلَى
بَائِعِهَا وَلَا عَلَى مُشْتَرِيهَا وَلَا شُبْهَةَ فِي ذَلِكَ أَصْلًا .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ بَعْضَ السِّلْعَةِ مِثْلُ أَنْ يَأْخُذُوا
مِنْ الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ سَوَاقِطَهَا أَوْ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ
بَعْضَهَا وَمَنْ ظَنَّ فِي ذَلِكَ شُبْهَةً فَهُوَ مُخْطِئٌ فَإِنَّ هَذَا
الْمَالَ الْمَأْخُوذَ ظُلْمًا سَوَاءٌ أُخِذَ مِنْ الْبَائِعِ أَوْ مِنْ الْمُشْتَرِي
لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الشُّبْهَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ وَكَمَا لَوْ ظَلَمَ
الرَّجُلُ وَأَخَذَ بَعْضَ مَالِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ
الشُّبْهَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ . وَهَذِهِ الْوَظَائِفُ الْمَوْضُوعَةُ
بِغَيْرِ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ : مِنْهَا مَا يَكُونُ مَوْضُوعًا
عَلَى الْبَائِعِ مِثْلُ سُوقِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِهِ . فَإِذَا بَاعَ سِلْعَتَهُ بِمَالٍ فَأُخِذَ مِنْهُ بَعْضُ ذَلِكَ الثَّمَنِ كَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا لَهُ وَبَاقِي مَالِهِ حَلَالٌ لَهُ وَالْمُشْتَرِي اشْتَرَى بِمَالِهِ وَرُبَّمَا يُزَادُ عَلَيْهِ فِي الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْوَظِيفَةِ فَيَكُونُ مِنْهُ زِيَادَةٌ . فَبِأَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ فِيمَا اشْتَرَاهُ شُبْهَةٌ ؟ وَإِنْ كَانَتْ الْوَظِيفَةُ تُؤْخَذُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ قَدْ أَدَّى الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ وَالزِّيَادَةُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْكُلْفَةِ السُّلْطَانِيَّةِ وَلَا شُبْهَةَ فِي ذَلِكَ ؛ لَا عَلَى الْبَائِعِ وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَمْ تُؤْخَذْ إلَّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَالْمُشْتَرِي قَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ وَزِيَادَةً . وَإِذَا قِيلَ : هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ ظُلْمٌ لِلْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ جَمِيعَ الثَّمَنِ . قِيلَ : هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ ؛ وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَظْلِمْهُ وَإِنَّمَا ظَلَمَهُ مَنْ أَخَذَ مَالَهُ كَمَا لَوْ قَبَضَ الْبَائِعُ جَمِيعَ الثَّمَنِ ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْهُ الْكُلْفَةُ السُّلْطَانِيَّةُ . وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْكُلْفَةُ تَقَعُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ كُلْفَةً زَادَ فِي الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ كُلْفَةً نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ فَكِلَاهُمَا مَظْلُومٌ بِأَخْذِ الْكُلْفَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا فَلَا يَكُونُ فِي مَالِهِمَا شُبْهَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَمَا يَبِيعُهُ الْمُسْلِمُونَ إذَا كَانَ مِلْكًا لَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شُبْهَةٌ بِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي الْوَظَائِفِ . وَأَمَّا إذَا ضَمِنَ الرَّجُلُ نَوْعًا مِنْ السِّلَعِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهَا إلَّا هُوَ
فَهَذَا ظَالِمٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنْ بَيْعِهَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَبِيعُهَا لِلنَّاسِ بِمَا يَخْتَارُ مِنْ الثَّمَنِ فَيُغَلِّيهَا وَهَؤُلَاءِ نَوْعَانِ . مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَأْجِرُ حَانُوتًا بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا إمَّا لِمُقْطِعٍ وَإِمَّا لِغَيْرِهِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ فِي الْمَكَانِ إلَّا هُوَ أَوْ يَجْعَلُ عَلَيْهِ مَالًا يُعْطِيهِ لِمُقْطِعٍ أَوْ غَيْرِهِ بِلَا اسْتِئْجَارِ حَانُوتٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَكِلَاهُمَا ظَالِمٌ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي يَزِيدُهَا فِي الْحَانُوتِ لِأَجْلِ مَنْعِ الثَّانِي مِنْ الْبَيْعِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الضَّامِنِ الْمُنْفَرِدِ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِمْ ضَمَانٌ ؛ لَكِنْ يَلْتَزِمُونَ بِالْبَيْعِ لِلنَّاسِ كَالطَّحَّانِينَ وَالْخَبَّازِينَ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ وَظِيفَةٌ ؛ لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ كُلَّ يَوْمٍ شَيْئًا مُقَدَّرًا وَيَمْنَعُونَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْبَيْعِ ؛ وَلِهَذَا جَازَ التَّسْعِيرُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ التَّسْعِيرُ فِي الْإِطْلَاقِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ أَوْجَبَتْ عَلَيْهِمْ الْمُبَايَعَةَ لِهَذَا الصِّنْفِ وَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ فَلَوْ مُكِّنُوا أَنْ يَبِيعُوا بِمَا أَرَادُوا كَانَ ظُلْمًا لِلْمَسَاكِينِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي مَالٍ } .
وَأَمَّا فِي الصُّورَةِ : فَإِذَا كَانُوا قَدْ أُلْزِمُوا بِالْمُبَايَعَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْزَمُوا بِأَنْ يَبِيعُوا بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ لَهُمْ وَإِذَا كَانَ غَيْرُهُمْ قَدْ مُنِعَ مِنْ الْمُبَايَعَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمَكَّنُوا أَنْ يَبِيعُوا بِمَا اخْتَارُوا ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ لِلنَّاسِ . يَبْقَى أَنْ يُقَالَ : فَهَلْ يَجُوزُ الْتِزَامُهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْبَائِعِينَ لِهَذَا الصِّنْفِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَأَنْ لَا يَبِيعُوهُ إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ مَكْسٍ يُوضَعُ عَلَيْهِمْ ؟ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتْرُكَ أَحَدًا يَفْعَلُ ذَلِكَ ؟ . قِيلَ : أَمَّا إذَا اخْتَارُوا أَنْ يَقُومُوا بِمَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْمَبِيعَاتِ وَأَنْ لَا يَبِيعُوهَا إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ عَلَى أَنْ يُمْنَعَ غَيْرُهُمْ مِنْ الْبَيْعِ وَمَنْ اخْتَارَ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ مُكِّنَ فَهَذَا لَا يَتَبَيَّنُ تَحْرِيمُهُ بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي هَذَا مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلنَّاسِ وَهَذَا يُشْبِهُ مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ فِي التَّسْعِيرِ وَأَنَّهُ قَالَ : إنْ كُنْت تَبِيعُ بِسِعْرِ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَإِلَّا فَلَا تَبِعْ . فَإِنَّ مَصْلَحَةَ النَّاسِ الْعَامَّةَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُبَاعُوا بِمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَأَنْ لَا يُبَاعُوا إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَهَذَانِ مَصْلَحَتَانِ جَلِيلَتَانِ . وَالْبَاعَةُ إذَا اخْتَارُوا ذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا قَدْ أُكْرِهُوا عَلَيْهِ فَلَا ظُلْمَ عَلَيْهِمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ النَّاسِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ الْبَيْعِ إلَّا إذَا دَخَلَ فِي هَذِهِ
الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ بِأَنْ
يُشَارِكَهُمْ فِيمَا يَقُومُونَ بِهِ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ فَيَكُونُ الْغَيْرُ
قَدْ مُنِعَ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَأَنْ لَا
يَبِيعَهَا إلَّا إذَا الْتَزَمَ أَنْ يَبِيعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ . وَقَدْ
يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ . وَقَدْ يُقَالُ : هَذَانِ نَوْعَانِ مِنْ
الظُّلْمِ : إلْزَامُ الشَّخْصِ أَنْ يَبِيعَ وَأَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بِثَمَنِ
الْمِثْلِ وَفِي هَذَا فَسَادٌ . وَحِينَئِذٍ فَإِنْ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ
صَالِحًا بِدُونِ هَذَا لَمْ يَجُزْ احْتِمَالُ هَذَا الْفَسَادِ بِلَا مَصْلَحَةٍ
رَاجِحَةٍ وَأَمَّا إنْ كَانَ بِدُونِ هَذَا لَا يَحْصُلُ لِلنَّاسِ مَا
يَكْفِيهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ أَوْ لَا يَلْقَوْنَ ذَلِكَ إلَّا
بِأَثْمَانٍ مُرْتَفِعَةٍ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ مَا يَكْفِيهِمْ بِثَمَنِ الْمِثْلِ
. فَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ يُغْتَفَرُ فِي جَانِبِهَا مَا ذُكِرَ مِنْ
الْمَنْعِ .
وَأَمَّا إذَا أُلْزِمَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ ؛ فَإِنَّ
النَّاسَ إذَا اُضْطُرُّوا إلَى مَا عِنْدَ الْإِنْسَانِ مِنْ السِّلْعَةِ وَالْمَنْفَعَةِ
وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبْذَلَ لَهُمْ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَمَنْعُهُ أَنْ لَا
يَبِيعَ سِلْعَةً حَتَّى يَبِيعَ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا . وَتَفْصِيلُ هَذِهِ
الْمَسَائِلِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ : فَاَلَّذِي
يَضْمَنُ كُلْفَةً مِنْ الْمُكَلِّفِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ السِّلْعَةَ إلَّا
هُوَ وَيَبِيعُهَا بِمَا يَخْتَارُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ ظُلْمِ
الْكُلَفِ السُّلْطَانِيَّةِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَا ؛
وَلِهَذَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مُعَامَلَةَ هَذَا لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ الَّتِي فِي
مَالِهِ . فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَبِيعُ إلَّا هُوَ بِمَا يَخْتَارُ صَارَ
كَأَنَّهُ يُكْرِهُ النَّاسَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ بِمَا يَخْتَارُهُ
فَيَأْخُذُ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ
وَتِلْكَ الشُّبْهَةُ قَدْ اخْتَلَطَتْ بِمَالِهِ فَيَصِيرُ فِي مَالِهِ شُبْهَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ؛ فَلِهَذَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مُعَامَلَتِهِمْ . وَهَذَا سَبِيلُ أَهْلِ الْوَرَعِ الَّذِينَ لَا يَأْكُلُونَ مِنْ الشِّوَاءِ الْمُضَمَّنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَإِنَّهُمْ إنَّمَا تَوَرَّعُوا عَمَّا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَشْوِي إلَّا هُوَ وَلَا يَبِيعُ الشِّوَاءَ إلَّا هُوَ بِمَا يَخْتَارُهُ وَلَا يَبِيعُ الْمِلْحَ إلَّا هُوَ بِمَا يَخْتَارُهُ وَالْمِلْحُ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا فَإِنَّ الْمِلْحَ فِي الْأَصْلِ هُوَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ كَالسَّمَكِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ إذَا لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ أَخْذِهَا إلَّا وَاحِدٌ بِضَمَانٍ عَلَيْهِ وَاَلَّذِي يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِمَالِهِ لَا يَحْرُمُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا ؛ بَلْ لَوْ أَخَذَهَا مِنْ الْأَصْلِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ هَذَا أَوْ غَيْرَهُ لِيَأْخُذَهَا لَهُ مِنْ مَوْضِعِهَا الْمُشْتَرَكِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا وَلَوْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَكَانَتْ تَكُونُ أَرْخَصَ وَكَانَ الْمُشْتَرِي يَأْخُذُهَا بِدُونِ مَا أَعْطَاهُ الضَّامِنُ فَهَذَا الضَّامِنُ يَظْلِمُ الْمُشْتَرِيَ وَغَيْرَهُ . وَأَمَّا الْمُشْتَرُونَ مِنْهُ فَهُمْ لَا يَظْلِمُونَ أَحَدًا وَلَمْ يَشْتَرُوا مِنْهُ شَيْئًا مَلَكَهُ بِمَالِهِ فَإِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْهِ مِنْ الظُّلْمِ مَنْ تَرَكَ مِلْكَهُ لَا يَفُوتُهُ وَلَمْ يَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا ؛ لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ مُبَاحَةٌ وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يَشْتَرُونَهَا هُمْ الْمَظْلُومُونَ فَإِنَّهُ لَوْلَا الظُّلْمُ لَتَمَكَّنُوا مِنْ أَخْذِهَا بِدُونِ الثَّمَنِ فَإِذَا ظَلَمُوا وَأُخِذَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِمَّا عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ لِمَا كَانَ
مُبَاحًا لَهُمْ . إذْ الظُّلْمُ إنَّمَا
يُوجِبُ التَّحْرِيمَ عَلَى الظَّالِمِ لَا عَلَى الْمَظْلُومِ . أَلَا تَرَى
أَنَّ الْمُدَلِّسَ وَالْغَاشَّ وَنَحْوَهُمَا إذَا بَاعُوا غَيْرَهُمْ شَيْئًا
مُدَلَّسًا لَمْ يَكُنْ مَا يَشْتَرِيهِ الْمُشْتَرِي حَرَامًا عَلَيْهِ ؛
لِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ
الزِّيَادَةُ الَّتِي أَخَذَهَا الْغَاشُّ حَرَامًا عَلَيْهِ .
وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ فِي حَقِّ
الْآدَمِيِّينَ إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ فِي
الْجَانِبِ الْآخَرِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى الرَّجُلُ مِلْكَهُ الْمَغْصُوبَ مِنْ
الْغَاصِبِ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي
لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ مِلْكِهِ وَلَا بَذْلُ مَا بَذَلَهُ مِنْ الثَّمَنِ
؛ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : يَجُوزُ رِشْوَةُ الْعَامِلِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ
لَا لِمَنْعِ الْحَقِّ وَإِرْشَاؤُهُ حَرَامٌ فِيهِمَا وَكَذَلِكَ الْأَسِيرُ
وَالْعَبْدُ الْمُعْتَقُ . إذَا أَنْكَرَ سَيِّدُهُ عِتْقَهُ لَهُ أَنْ يَفْتَدِيَ
نَفْسَهُ بِمَالٍ يَبْذُلُهُ يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ
لِلْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَخْذُهُ . وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ
الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا إذَا جَحَدَ الزَّوْجُ طَلَاقَهَا فَافْتَدَتْ مِنْهُ
بِطَرِيقِ الْخُلْعِ فِي الظَّاهِرِ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ مَا بَذَلَتْهُ
وَيُخَلِّصُهَا مِنْ رِقِّ اسْتِيلَائِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ
بِهَا يتلظاها نَارًا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ ؟ قَالَ :
يَأْبَوْنَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ } . وَمِنْ
ذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ } . فَلَو
أَعْطَى الرَّجُلُ شَاعِرًا أَوْ غَيْرَ
شَاعِرٍ ؛ لِئَلَّا يَكْذِبَ عَلَيْهِ بِهَجْوٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لِئَلَّا
يَقُولَ فِي عِرْضِهِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ كَانَ بَذْلُهُ لِذَلِكَ
جَائِزًا وَكَانَ مَا أَخَذَهُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَظْلِمَهُ حَرَامًا عَلَيْهِ ؛
لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ ظُلْمِهِ . وَالْكَذِبُ عَلَيْهِ بِالْهَجْوِ
مِنْ جِنْسِ تَسْمِيَةِ الْعَامَّةِ : " قَطَعَ مَصَانِعَهُ " وَهُوَ
الَّذِي يَتَعَرَّضُ لِلنَّاسِ وَإِنْ لَمْ يُعْطُوهُ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ بِأَنْ
يَكُونَ عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ أَوْ بِأَنْ يَكْذِبَ
عَلَيْهِمْ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَكُلُّ مَنْ أَخَذَ الْمَالَ لِئَلَّا يَكْذِبَ
عَلَى النَّاسِ أَوْ لِئَلَّا يَظْلِمَهُمْ كَانَ ذَلِكَ خَبِيثًا سُحْتًا ؛
لِأَنَّ الظُّلْمَ وَالْكَذِبَ حَرَامٌ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَهُ بِلَا
عِوَضٍ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَظْلُومِ فَإِذَا لَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا بِالْعِوَضِ
كَانَ سُحْتًا .
فَالْمُبَاحَاتُ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْأَصْلِ : كَالصَّيُودِ
الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ وَالْمُبَاحَاتِ النَّابِتَةِ فِي الْأَرْضِ
وَالْمُبَاحَةِ مِنْ الْجِبَالِ وَالْبَرَارِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالْمَعَادِنِ
وَكَالْمِلْحِ وكالأطرون وَغَيْرِهَا إذَا حَجَرَهَا السُّلْطَانُ وَأَمَرَ أَنْ
لَا يَأْخُذَهَا إلَّا نُوَّابُهُ وَأَنْ تُبَاعَ لِلنَّاسِ لَمْ يَحْرُمْ
عَلَيْهِمْ شِرَاؤُهَا ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَظْلِمُونَ فِيهَا أَحَدًا
وَلِأَنَّهُمْ هُمْ الْمَظْلُومُونَ بِحَجْرِهَا عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ يَحْرُمُ
عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْتَرُوا مَا لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِلَا عِوَضٍ ؛ فَإِنَّ
نُوَّابَ السُّلْطَانِ لَا يَسْتَخْرِجُونَهَا إلَّا بِأَثْمَانِهَا الَّتِي
أَخَذُوهَا ظُلْمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الظُّلْمِ . قِيلَ : تِلْكَ
الْأَمْوَالُ أُخِذَتْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ظُلْمًا وَالْمُسْلِمُونَ هُمْ
الْمَظْلُومُونَ فَقَدْ مُنِعُوا
حُقُوقَهُمْ مِنْ الْمُبَاحَاتِ إلَّا بِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ يُسْتَخْرَجُ
بِبَعْضِهِ تِلْكَ الْمُبَاحَاتُ وَالْبَاقِي يُؤْخَذُ وَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ
عَلَيْهِمْ مَا كَانَ حَلَالًا لَهُمْ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا كَانَ الظُّلْمُ
فِيهِ مُنَاسِبًا مِثْلَ أَنْ يُبَاعَ كُلُّ مِقْدَارٍ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ
وَيُؤْخَذُ مِنْ تِلْكَ الْأَثْمَانِ مَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ تِلْكَ الْمُبَاحَاتُ
وَهُنَا لَا شُبْهَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَصْلًا ؛ فَإِنَّ مَا اُسْتُخْرِجَتْ
بِهِ الْمُبَاحَاتُ هُوَ حَقُّهُمْ أَيْضًا . فَهُوَ كَمَا لَوْ غَصَبَ رَجُلٌ
بَيْتَ رَجُلٍ وَأَمَرَ غِلْمَانَ الْمَالِكِ أَنْ يَطْبُخُوا مِمَّا فِي بَيْتِهِ
طَعَامًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَغْصُوبِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ
الْأَعْيَانَ وَالْمَنَافِعَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ
وَقَعَ بِغَيْرِ وِكَالَةٍ مِنْهُ وَلَا وِلَايَةٍ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يَحْرُمُ
مَالُهُ ؛ بَلْ وَلَا بَذْلُ مَالِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ كَانَ
مَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ تِلْكَ الْمُبَاحَاتُ بِدُونِ الْمُعَامَلَةِ
بِالْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ .
وَأَمَّا إذَا اسْتَخْرَجَ نُوَّابُ السُّلْطَانِ بِغَيْرِ حَقٍّ مَنْ
يَسْتَخْرِجُ تِلْكَ الْمُبَاحَاتِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَغْصِبَ مَنْ
يَطْبُخُ لَهُ طَعَامًا أَوْ يَنْسِجُ لَهُ ثَوْبًا وَبِمَنْزِلَةِ أَنْ يَطْبُخَ
الطَّعَامَ بِحَطَبِ مَغْصُوبٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا تَكُونُ الْعَيْنُ فِيهِ
مُبَاحَةً ؛ لَكِنْ وَقَعَ الظُّلْمُ فِي تَحْوِيلِهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ .
فَهَذَا فِيهِ شُبْهَةٌ وَطَرِيقُ التَّخَلُّصِ مِنْهَا أَنْ يَنْظُرَ النَّفْعَ
الْحَاصِلَ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ بِعَمَلِ الْمَظْلُومِ فَيُعْطِي الْمَظْلُومَ
أَجْرَهُ وَإِنْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ الْمَظْلُومِ تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ ؛
فَإِنَّ هَذَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ اخْتَلَطَ حَلَالٌ وَحَرَامٌ ؛ وَلَوْ
اخْتَلَطَتْ الْأَعْيَانُ الَّتِي يَمْلِكُهَا بِالْأَثْمَانِ الَّتِي
غَصَبَهَا وَأَخَذَهَا حَرَامًا مِثْلَ أَنْ تَخْتَلِطَ دَرَاهِمُهُ وَدَنَانِيرُهُ بِمَا غَصَبَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَاخْتَلَطَ حَبُّهُ أَوْ ثَمَرُهُ أَوْ دَقِيقُهُ أَوْ خَلُّهُ أَوْ ذَهَبُهُ بِمَا غَصَبَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَإِنَّ هَذَا الِاخْتِلَاطَ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ مَالِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ . مُحَرَّمٌ لِوَصْفِهِ وَعَيْنِهِ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ . فَهَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَائِعِ وَظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخُبْثِ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ حَرُمَ . وَمُحَرَّمٌ لِكَسْبِهِ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ لَا تَحْرُمُ أَعْيَانُهَا تَحْرِيمًا مُطْلَقًا بِحَالِ وَلَكِنْ تَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَخَذَهَا ظُلْمًا أَوْ بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ فَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ مِنْهَا شَيْئًا وَخَلَطَهُ بِمَالِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُحَرَّمَ وَقَدْرُ مَالِهِ حَلَالٌ لَهُ . وَلَوْ أَخْرَجَ مِثْلَهُ مِنْ غَيْرِهِ ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الِاخْتِلَاطَ كَالتَّلَفِ فَإِذَا أَخْرَجَ مِثْلَهُ أَجْزَأَ . وَالثَّانِي : أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ مَعَ الْخَلْطِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُخْرِجَ قَدْرَ حَقِّ الْمَظْلُومِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ الْمُخْتَلَطِ . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَإِذَا كَانَ أَثَرُ عَمَلِ الْمَظْلُومِ قَائِمًا بِالْعَيْنِ ؛ مِثْلَ طَبْخِهِ أَوْ نَسْجِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ قِيمَةَ ذَلِكَ النَّفْعِ فَإِذَا أَعْطَى الْمَظْلُومَ
قِيمَةَ ذَلِكَ النَّفْعِ أَخَذَ حَقَّهُ فَلَا يَبْقَى لِصَاحِبِ الْعَيْنِ شَرِيكٌ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمَظْلُومَ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا لَوْ حَصَلَ بِيَدِهِ أَثْمَانٌ مِنْ غصوب وَعَوَارٍ وَوَدَائِعَ لَا يَعْرِفُ أَصْحَابَهَا فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْمَعْجُوزُ عَنْهُ كَالْمَعْدُومِ ؛ وَلِهَذَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللُّقَطَةِ : فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } . فَإِذَا كَانَ فِي اللُّقَطَةِ الَّتِي تَحْرُمُ بِأَنَّهَا سَقَطَتْ مِنْ مَالِكٍ لَمَّا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ صَاحِبِهَا جَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُلْتَقِطِ - وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَوَازِ صَدَقَتِهِ بِهَا وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ لَهَا مَعَ الْغِنَى وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ - فَكَيْفَ مَا يَجْهَلُ فِيهِ ذَلِكَ . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ آثَارٌ مَعْرُوفَةٌ مِثْلُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا اشْتَرَى جَارِيَةً ثُمَّ خَرَجَ لِيُوَفِّيَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ فَلَمْ يَجِدْهُ فَجَعَلَ يَطُوفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ هَذِهِ عَنْ صَاحِبِ الْجَارِيَةِ فَإِنْ رَضِيَ فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتِي وَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَهُوَ عَنِّي وَلَهُ عَلَيَّ مِثْلُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَحَدِيثُ الرَّجُلِ الَّذِي غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ فِي غَزْوَةِ قُبْرُصَ وَجَاءَ إلَى مُعَاوِيَةَ يَرُدُّ إلَيْهِ الْمَغْلُولَ فَلَمْ يَأْخُذْهُ فَاسْتَفْتَى بَعْضَ التَّابِعِينَ فَأَفْتَاهُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ عَنْ الْجَيْشِ وَرَجَعَ إلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَالْمَالُ
الَّذِي لَا نَعْرِفُ مَالِكَهُ يَسْقُطُ عَنَّا وُجُوبُ رَدِّهِ إلَيْهِ فَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّدَقَةُ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا أَصْلٌ عَامٌّ فِي كُلِّ مَالٍ جُهِلَ مَالِكُهُ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ رَدُّهُ إلَيْهِ . كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَوَارِيّ وَالْوَدَائِعُ تُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَإِذَا صُرِفَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَازَ لِلْفَقِيرِ أَخْذُهَا ؛ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ هُنَا إنَّمَا يُعْطِيهَا نِيَابَةً عَنْ صَاحِبِهَا ؛ بِخِلَافِ مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ غُلُولٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ } . فَهَذَا الَّذِي يَحُوزُ الْمَالَ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ . مَعَ إمْكَانِ رَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ صَدَقَةَ مُتَقَرِّبٍ كَمَا يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ فَاَللَّهُ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَمَّا ذَاكَ فَإِنَّمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ صَدَقَةَ مُتَحَرِّجٍ مُتَأَثِّمٍ فَكَانَتْ صَدَقَتُهُ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إلَى أَصْحَابِهَا وَبِمَنْزِلَةِ إعْطَاءِ الْمَالِ لِلْوَكِيلِ الْمُسْتَحِقِّ لَيْسَ هُوَ مِنْ الصَّدَقَةِ الدَّاخِلَةِ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ } .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ مَدِينَةٍ لَا يُذْبَحُ فِيهَا شَاةٌ إلَّا وَيَأْخُذُ الْمُكَّاسُ سِقْطَهَا
وَرَأْسَهَا وكوارعها مَكْسًا ثُمَّ يَضَعُ ذَلِكَ وَيَبِيعُهُ فِي الْأَسْوَاقِ
وَفِي الْمَدِينَةِ مَنْ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ شِرَاءِ ذَلِكَ وَأَكْلِهِ مِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ يُبَاعُ فِي الْمَدِينَةِ رُءُوسٌ
وكوارع وَأَسْقَاطٌ إلَّا عَلَى هَذَا الْحُكْمِ وَلَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ .
فَهَلْ يَحْرُمُ شِرَاءُ ذَلِكَ وَأَكْلُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟ أَمْ لَا ؟.
فَأَجَابَ :
هَذِهِ حُكْمُهَا حُكْمُ مَا يَأْخُذُهُ الْمُلُوكُ مِنْ الْكُلَفِ الَّتِي
يَضْرِبُونَهَا عَلَى النَّاسِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ تُؤْخَذُ مِنْ
أَمْوَالِ أَصْحَابِ الْغَنَمِ الَّذِينَ يَبِيعُونَهَا لِلْقَصَّابِينَ
وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْسِبُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ
السَّوَاقِطِ فَيُسْقِطُ مِنْ الثَّمَنِ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَهَكَذَا جَمِيعُ مَا
يُؤْخَذُ مِنْ الْكُلَفِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تُؤْخَذُ مِنْ الْمُشْتَرِي
فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ وَهَذِهِ الْكُلَفُ دَخَلَهَا
التَّأْوِيلُ وَالشُّبْهَةُ . وَمِنْهَا مَا هُوَ ظُلْمٌ مَحْضٌ وَلَكِنْ
تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهِ وَرَدُّهُ إلَيْهِمْ فَوَجَبَ صَرْفُهُ فِي
مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . وَوِلَايَةُ بَيْعِهَا وَصَرْفِهَا لَهُمْ .
فَالْمُشْتَرِي لِذَلِكَ مِنْهُمْ إذَا أَعْطَاهُمْ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ
بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاءِ الْمَغْصُوبِ
الْمَحْضِ الَّذِي لَا تَأْوِيلَ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ وِلَايَةُ بَيْعِهِ حَتَّى يُقَالَ : إنَّهُ فَعَلَ مُحَرَّمًا يَفْسُقُ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ . وَفِي الْمَنْعِ مِنْ شِرَائِهَا إضْرَارٌ بِالنَّاسِ وَإِفْسَادٌ لِلْأَمْوَالِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ تَعُودُ عَلَى الْمَظْلُومِ . وَالْمَظْلُومُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ ظَالِمَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ إنْ شَاءَ وَبِنَظِيرِ مَالِهِ وَالتَّوَرُّعُ عَنْ هَذَا مِنْ التَّوَرُّعِ عَنْ الشُّبُهَاتِ وَلَا نَحْكُمُ بِأَنَّهَا حَرَامٌ مَحْضٌ وَمَنْ اشْتَرَاهَا وَأَكَلَهَا لَمْ يَجِبْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ فَعَلَ مُحَرَّمًا لَا تَأْوِيلَ فِيهِ . فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ أَفْتَوْا طَائِفَةً مِنْ الْمُلُوكِ بِجَوَازِ وَضْعِ أَصْلِ هَذِهِ الْوَظَائِفِ . كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي فِي كِتَابِهِ " غِيَاثِ الْأُمَمِ " وَكَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ . وَمَا قُبِضَ بِتَأْوِيلٍ فَإِنَّهُ يَسُوغُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِمَّنْ قَبَضَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ مُحَرَّمٌ كَالذِّمِّيِّ إذَا بَاعَ خَمْرًا وَأَخَذَ ثَمَنَهُ جَازَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُعَامِلَهُ فِي ذَلِكَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْخَمْرِ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا . وَهَذَا كَانَ سَبَبُهُ أَنَّ بَعْضَ عُمَّالِهِ أَخَذَ خَمْرًا فِي الْجِزْيَةِ وَبَاعَ الْخَمْرَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ . وَقَالَ : وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا . وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ . وَهَكَذَا مَنْ عَامَلَ مُعَامَلَةً يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا فِي مَذْهَبِهِ وَقَبَضَ الْمَالَ
جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ الْمَالَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَرَى جَوَازَ تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْوَظَائِفَ قَدْ فَعَلَهَا مَنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا ؛ لِإِفْتَاءِ بَعْضِ النَّاسِ لَهُ بِذَلِكَ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ اعْتِقَادَ أَخْذِ هَذَا الْمَالِ وَصَرْفَهُ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ جَائِزٌ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ الْمَالَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ جَوَازَ أَصْلِ الْقَبْضِ . وَعَلَى هَذَا فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ فِيمَا فَعَلُوهُ تَأْوِيلًا سَائِغًا جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا قَبَضُوهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَجُوزُ مَا فَعَلُوهُ مِثْلَ أَنْ يَقْبِضَ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنْ الزَّكَاةِ قِيمَتَهَا فَيَشْتَرِي مِنْهَا وَمِثْلَ أَنْ يُصَادِرَ بَعْضَ الْعُمَّالِ مُصَادَرَةً يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا أَوْ مِثْلَ أَنْ يَرَى الْجِهَادَ وَجَبَ عَلَى النَّاسِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنَّ مَا أَخَذُوهُ مِنْ الْوَظَائِفِ هُوَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي يَجُوزُ أَخْذُهُ وَصَرْفُهُ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ خَطَأً وَلَكِنَّهَا مِمَّا قَدْ سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ . فَإِذَا كَانَ قَبَضَ وَلِيُّ الْأَمْرِ الْمَالَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَازَ شِرَاؤُهُ مِنْهُ وَجَازَ شِرَاؤُهُ مِنْ نَائِبِهِ الَّذِي أَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي لَا يُسَوِّغُ قَبْضَهُ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَظْلِمْ صَاحِبَهُ فَإِنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمَالِهِ مِمَّنْ قَبَضَهُ قَبْضًا يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ . وَإِنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَشِرَاؤُهُ حَلَالٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ؛ وَلَيْسَ مِنْ الشُّبُهَاتِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْكُفَّارِ مَا قَبَضُوا بِعُقُودٍ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهَا - وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ - فَلِأَنْ
يَجُوزَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُسْلِمِ مَا قَبَضَهُ بِعَقْدٍ يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ - وَإِنْ كُنَّا نَرَاهُ مُحَرَّمًا - بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ؛ فَإِنَّ الْكَافِرَ تَأْوِيلُهُ الْمُخَالِفُ لِدِينِ الْإِسْلَامِ بَاطِلٌ قَطْعًا بِخِلَافِ تَأْوِيلِ الْمُسْلِمِ . وَلِهَذَا إذَا أَسْلَمُوا وَتَحَاكَمُوا إلَيْنَا وَقَدْ قَبَضُوا أَمْوَالًا بِعُقُودٍ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهَا : كَالرِّبَا وَثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْأَمْوَالُ . كَمَا لَا تَحْرُمُ مُعَامَلَتُهُمْ فِيهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } . وَلَمْ يُحَرِّمْ مَا قَبَضُوهُ . وَهَكَذَا مَنْ كَانَ قَدْ عَامَلَ مُعَامَلَاتٍ رِبَوِيَّةً يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ وَكَانَتْ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا قَبَضَهُ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَا قَبَضَهُ الْمُلُوكُ ظُلْمًا مَحْضًا : إذَا اخْتَلَطَ بِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ فَمَا عُرِفَ أَنَّهُ قُبِضَ ظُلْمًا وَلَمْ يُعْرَفْ صَاحِبُهُ : صُرِفَ فِي الْمَصَالِحِ وَمَا قُبِضَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الْمُخْتَلَطِ حَلَالُهُ بِحَرَامِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّهُ حَرَامٌ ؛ فَإِنَّ الِاخْتِلَاطَ إذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ الْمَالُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ وَصَاحِبُهُ يَسْتَحِقُّ عِوَضَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ . فَمَنْ قَبَضَ ثَمَنَ مَبِيعٍ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ الْمُخْتَلَطِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - :
عَنْ هَذِهِ الْأَغْنَامِ الَّتِي تُبَاعُ فَيُؤْخَذُ مَكْسُهَا مِنْ
الْقَصَّابِينَ فَيَحْتَجِرُ عَلَيْهِمْ فِي الذَّبِيحَةِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ
وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ أُجْرَةُ الذَّبْحِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ
سَوَاقِطُهَا مَكْسًا ثَانِيًا مُضَمَّنًا ثُمَّ تُطْبَخُ وَتُبَاعُ . فَهَلْ هِيَ
حَرَامٌ عَلَى مَنْ اشْتَرَاهَا لِلْأَكْلِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هَذَا التَّكَسُّبُ
فِيهَا حَرَامٌ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ : فَمِنْ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ : هَذَا مَالٌ أُخِذَ مِنْ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَبِيعَ بِلَا
وِلَايَةٍ وَلَا وِكَالَةٍ فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ ؛ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى
مِلْكِ صَاحِبِهِ وَقَدْ طُبِخَ هَذَا وَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا يَجُوزُ
شِرَاؤُهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هَذَا مَالُ وُلَاةِ الْأُمُورِ ؛ إمَّا
مُتَأَوِّلِينَ أَوْ مُتَعَمِّدِينَ لِلظُّلْمِ وَإِذَا لَمْ يَرُدُّوهُ إلَى
أَصْحَابِهِ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ بَيْعَهُ ؛ لِأَنَّ حَبْسَهُ حَتَّى يَفْسُدَ
ضَرَرٌ لَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّارِعُ وَلَوْ بِيعَ الْمَالُ بِغَيْرِ إذْنِ
صَاحِبِهِ كَانَ بَيْعُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ عِنْدَ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ وَمَا بَاعَهُ
وُلَاةُ الْأَمْرِ فَلَهُمْ مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ الْمَجْهُولَةِ الَّتِي قَبَضَهَا نُوَّابُهُمْ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ وَقَدْ تَعَذَّرَ بَعْدَ الْقَبْضِ مَعْرِفَةُ مَالِكِ كُلِّ رَأْسٍ وَالْمَصْلَحَةُ بَيْعُهَا وَقِسْمَةُ الْأَثْمَانِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ فَإِنْ بَاعُوهَا وَلَمْ يَقْسِمُوا أَثْمَانَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُشْتَرِي إثْمٌ ؛ وَإِنَّمَا الْإِثْمُ عَلَى مَنْ يَمْنَعُ أَصْحَابَهَا أَثْمَانَهَا . كَمَا لَوْ بَاعَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرُ الْوَقْفِ وَوَلِيُّ بَيْتِ الْمَالِ وَلَمْ يَصْرِفْ الثَّمَنَ إلَى الْمُسْتَحِقِّينَ فَالْإِثْمُ عَلَيْهِ ؛ لَا عَلَى الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ . ثُمَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْهَا وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ فَاسِدًا أُخِذَتْ مِنْهُمْ أَثْمَانُهَا فَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ أَثْمَانَهَا الَّتِي أَدَّوْهَا وَقَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ وَلَمْ يَعْرِفْ مَالِكَهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ ؛ وَلَكِنْ يَتَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ . وَالطَّبَّاخُونَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الرُّءُوسَ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا : لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا وَيَأْخُذُوا نَظِيرَ أَثْمَانِهَا ؛ إنْ لَمْ يَكُنْ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ صَحِيحًا وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الشِّرَاءُ صَحِيحًا وَقَدْ أَجَازُوا الْبَيْعَ فَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . فَهَذِهِ عِدَّةُ مَآخِذَ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ يُجَوِّزُ الشِّرَاءَ . فَمَنْ اشْتَرَاهَا وَاتَّبَعَ هَؤُلَاءِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَمَنْ قَامَتْ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ أَوْ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ فَامْتَنَعَ مِنْ شِرَائِهَا لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ . وَلَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِتَحْرِيمِ مِثْلِ هَذَا ؛
فَإِنَّ كَثِيرًا لَا بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ يَحْتَجِرُ عَلَيْهِ وُلَاةُ الْأُمُورِ يَبِيعُونَهُ لِلنَّاسِ . وَلَا يُمْكِنُ لِلنَّاسِ أَخْذُهُ إلَّا مِنْ أُولَئِكَ . وَمِنْ هَذَا مَا يَكُونُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ : كَالْمِلْحِ والأطرون وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَمْلُوكَاتِ . كَالصُّوفِ وَالْجُلُودِ وَالشَّعْرِ كَمَا يَبِيعُونَهُ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ يُصَادِرُونَهُ وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ . وَمِنْ ذَلِكَ مَا يُقْبَضُ بِحَقِّ . وَمِنْهُ مَا يُقْبَضُ بِتَأْوِيلِ . وَمِنْهُ مَا يُقْبَضُ ظُلْمًا مَحْضًا ؛ لَكِنْ جَمِيعُ ذَلِكَ يُرَدُّ إلَى أَصْحَابِهِ ؛ بَلْ قَدْ يَتَعَذَّرُ رَدُّهُ إلَى أَصْحَابِهِ ؛ إمَّا لِجَهْلِهِمْ وَإِمَّا لِعَجْزِهِ عَنْ رَدِّهِ إلَيْهِمْ . وَالْمَجْهُولُ وَالْمَعْجُوزُ عَنْهُ سَقَطَ التَّكْلِيفُ بِهِ وَإِمَّا لِإِجْبَارِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الظُّلْمِ . وَعَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَيْنِ فَبَيْعُهُ خَيْرٌ لِصَاحِبِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يُتْرَكَ فَيَفْسُدُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الْأَصْلَحُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بَيْعَهُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَيَكُونُ حَلَالًا لَهُ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا ؛ فَإِنَّهُ أَدَّى الثَّمَنَ . وَالْمَظْلُومُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَسْتَحِقُّ الثَّمَنَ إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ لَهُ بَيْعَهُ كَمَا يُبَاعُ مَالُ الْغَائِبِ حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ بِمَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ وَلِيُّ أَمْرٍ : فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : لِرُفْقَتِهِ وِلَايَةُ قَبْضٍ ذَلِكَ وَبَيْعُهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ مَغْصُوبَةٌ وَعَوَارٍ وَوَدَائِعُ لَا يَعْرِفُ أَصْحَابَهَا : فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ . مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد أَنَّهَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَيَجُوزُ شِرَاؤُهَا .
وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ بَعَثَ الرُّسُلَ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَتَقْدِيمِ خَيْرِ الْأَمْرَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى عِبَادِهِ وَأَوْجَبَ الْعَدْلَ فَإِذَا قُدِّرَ ظُلْمٌ وَفَسَادٌ وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ كَانَ الْوَاجِبُ تَخْفِيفَهُ وَتَحَرِّي الْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَاَللَّهُ حَرَّمَ الظُّلْمَ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَفِي الْأَمْوَالِ الْمَمْلُوكَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ . فَلَوْ قِيلَ : إنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ لَا تُشْتَرَى وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمِلْحِ وَلَا جُلُودٍ وَلَا رُءُوسٍ وَلَا شُعُورٍ وَلَا أَصْوَافٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَاعُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ؛ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ ضَرَرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَفَسَادٍ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ أَنْ يُقَالَ : بَلْ حَقُّ الْمَظْلُومِ عِنْدَ الظَّالِمِ الَّذِي قَبَضَ ثَمَنَهَا وَالْمُشْتَرِي اشْتَرَاهَا بِحَقِّ فَتَحِلُّ لَهُ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ هَذَا كَانَ فِيهِ جَبْرُ حَقِّ الْمَظْلُومِ بِإِحَالَتِهِ عَلَى الظَّالِمِ وَجَبْرُ حَقِّ عُمُومِ الْخَلْقِ بِتَمْكِينِهِمْ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِالْأَثْمَانِ ؛ لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ أَصْحَابَ تِلْكَ الرُّءُوسِ وَنَحْوِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَكْرَهُونَ بَيْعَهَا إذْ لَا مَصْلَحَةَ لَهُمْ فِي إفْسَادِهَا فَإِذَا بِيعَتْ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَخْتَارُونَ فِعْلَهُ وَمَا يَرْضَوْنَهُ ؛ لَكِنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ تُؤْخَذَ أَثْمَانُهَا مِنْهُمْ ؛ بَلْ يَرْضَوْنَ أَنْ تُدْفَعَ إلَيْهِمْ الْأَثْمَانُ . وَحِينَئِذٍ فَهُمْ رَاضُونَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهَا وَانْتِفَاعِهِمْ بِهَا ؛ وَلَكِنْ لَا يَرْضَوْنَ عَمَّنْ بَاعَهَا إلَّا بِأَنْ يُعْطِيَهُمْ الثَّمَنَ فَيَكُونُ هُوَ وَحْدَهُ
ظَلَمَهُمْ لَمْ يَظْلِمْهُمْ
الْمُشْتَرِي فَتَكُونُ لَهُ حَلَالًا . وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَنُكْتَةُ الْمَنْعِ أَنَّ
الْمُحَرِّمَ لَهَا يَقُولُ : بِيعَتْ بِغَيْرِ إذْنٍ وَلَا وِكَالَةٍ وَلَا
وِلَايَةٍ . وَهَذَا مَمْنُوعٌ ؛ بَلْ يُقَالُ : هُمْ يَرْضَوْنَ بَيْعَهَا وَقَدْ
أَذِنُوا فِي ذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَرْضَوْا أَنْ تُؤْخَذَ الْأَثْمَانُ .
كَمَا لَوْ قُدِّرَ أَنَّ شَخْصًا أَذِنَ لِشَخْصٍ فَبَاعَ وَأَخَذَ الثَّمَنَ
لِنَفْسِهِ فَالْمَالِكُ رَاضٍ بِالْبَيْعِ ؛ دُونَ قَبْضِهِ الثَّمَنَ لَهُ .
وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَأْذَنْ فِي الْبَيْعِ فَمَصْلَحَتُهُ فِي
الشَّرْعِ تَقْتَضِي أَنْ يُبَاعَ فَهَذَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَفْسُدَ وَلَا
يُمْكِنَ أَنْ يُبَاعَ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَأَنْ يُبَاعَ وَيُقْبَضَ
الثَّمَنُ - كَائِنًا مَنْ كَانَ - خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَفْسُدَ ؛ فَإِنَّهُ
حِينَئِذٍ يُمْكِنُ مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ مَعَ انْتِفَاعِ النَّاسِ
بِهَا وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ مُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ بِالْقِيمَةِ مَعَ فَسَادِهَا .
وَالْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا يَطُولُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الَّذِينَ غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ حَرَامٌ مِثْلَ المكاسين وَأَكَلَةِ
الرِّبَا وَأَشْبَاهِهِمْ . وَمِثْلَ أَصْحَابِ الْحِرَفِ الْمُحَرَّمَةِ
كَمُصَوِّرِي الصُّوَرِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَمِثْلَ أَعْوَانِ الْوُلَاةِ . فَهَلْ
يَحِلُّ أَخْذُ طَعَامِهِمْ بِالْمُعَامَلَةِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ وَحَرَامٌ فَفِي
مُعَامَلَتِهِمْ شُبْهَةٌ ؛ لَا يُحْكَمُ بِالتَّحْرِيمِ إلَّا إذَا عُرِفَ
أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا يَحْرُمُ إعْطَاؤُهُ . وَلَا يُحْكَمُ بِالتَّحْلِيلِ إلَّا
إذَا عُرِفَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنْ الْحَلَالِ . فَإِنْ كَانَ الْحَلَالُ هُوَ
الْأَغْلَبَ لَمْ يُحْكَمْ بِتَحْرِيمِ الْمُعَامَلَةِ وَإِنْ كَانَ الْحَرَامُ
هُوَ الْأَغْلَبَ . قِيلَ بِحِلِّ الْمُعَامَلَةِ . وَقِيلَ : بَلْ هِيَ
مُحَرَّمَةٌ . فَأَمَّا الْمُعَامِلُ بِالرِّبَا فَالْغَالِبُ عَلَى مَالِهِ
الْحَلَالُ ؛ إلَّا أَنْ يُعْرَفُ الْكُرْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . وَذَلِكَ أَنَّهُ
إذَا بَاعَ أَلْفًا بِأَلْفِ وَمِائَتَيْنِ فَالزِّيَادَةُ هِيَ الْمُحَرَّمَةُ
فَقَطْ وَإِذَا كَانَ فِي مَالِهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ وَاخْتَلَطَ لَمْ يَحْرُمْ
الْحَلَالُ ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ الْحَلَالِ كَمَا لَوْ كَانَ
الْمَالُ لِشَرِيكَيْنِ فَاخْتَلَطَ مَالُ أَحَدِهِمَا بِمَالِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ
يُقَسَّمُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ . وَكَذَلِكَ مَنْ اخْتَلَطَ بِمَالِهِ :
الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ أَخْرَجَ قَدْرَ الْحَرَامِ وَالْبَاقِي حَلَالٌ لَهُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا يَأْكُلُهُ رُؤَسَاءُ الْقُرَى وَشُيُوخُ الْحَارَاتِ . هَلْ هُوَ حَلَالٌ
؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الرَّئِيسُ يَظْلِمُ النَّاسَ فَمَا يَأْخُذُهُ ظُلْمًا مِنْ النَّاسِ
فَهُوَ حَرَامٌ . وَمَا كَانَ مِلْكًا لَهُ أَوْ مُكْتَسَبًا بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ
فَهُوَ مُبَاحٌ . وَشَيْخُ الْحَارَةِ إذَا أَخَذَ أُجْرَتَهُ عَلَى الْحِرَاسَةِ
بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَتَعَدَّ عَلَى النَّاسِ ، فَأُجْرَتُهُ حَلَالٌ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ فامي يَأْخُذُ مِنْهُ رُؤَسَاءُ الْقُرَى شَيْئًا يُضِيفُونَ بِهِ
الْمُنْقَطِعِينَ وَغَيْرَهُمْ وَيَجْبُونَ مِنْ الْمَسَاكِينِ وَالْأَرَامِلِ
فَيُعْطُوهُ هَلْ يَكُونُ حَلَالًا ؟ أَمْ حَرَامًا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا اشْتَرَوْا مِنْهُمْ شَيْئًا وَأَعْطَوْهُمْ ثَمَنَهُ مِنْ مَالٍ يَعْلَمُونَ
أَنَّهُ مَغْصُوبٌ - أُخِذَ مِنْ أَصْحَابِهِ ظُلْمًا - لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ
يَنْتَفِعُوا بِهِ ؛ لَكِنَّ هَذَا الْمَالَ إذَا اشْتَرَى لَهُمْ بِهِ مَا
يَطْلُبُونَهُ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ إذَا كَانُوا الْمُكْرَهِينَ
عَلَى ذَلِكَ ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ يَتَّقِي أَنْ يَظْلِمَ وَأَنْ يُظْلَمَ : أَنْ
يَشْتَرِيَ لِلظَّلَمَةِ بِأَمْوَالِهِمْ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْهُ لَا لِيَظْلِمَ
غَيْرَهُ وَلَا يَكُونَ هُوَ مَظْلُومًا وَهُوَ مُكْرَهٌ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ .
وَمَعَ هَذَا فَالْمَالُ الَّذِي جَمَعُوهُ مِنْ النَّاسِ وَقَدْ تَعَذَّرَ
رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا أَعْطَوْهُ الفامي عِوَضًا عَمَّا أَخَذُوهُ مِنْهُ
بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِمَّنْ يُعْطَاهُ بِغَيْرِ
مُعَاوَضَةٍ وَالظَّالِمُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي أَخَذَ الْأَمْوَالَ
بِغَيْرِ حَقٍّ لَا مَنْ أَخَذَ عِوَضَ مَالِهِ مِنْ مَالٍ لَا يَعْلَمُ لَهُ
مُسْتَحِقًّا مُعَيَّنًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ :
عَنْ مُعَامَلَةِ التَّتَارِ : هَلْ هِيَ مُبَاحَةٌ لِمَنْ يُعَامِلُونَهُ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا مُعَامَلَةُ التَّتَارِ فَيَجُوزُ فِيهَا مَا يَجُوزُ فِي أَمْثَالِهِمْ
وَيَحْرُمُ فِيهَا مَا يَحْرُمُ مِنْ مُعَامَلَةِ أَمْثَالِهِمْ فَيَجُوزُ أَنْ
يَبْتَاعَ الرَّجُلُ مِنْ مَوَاشِيهِمْ وَخَيْلِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا
يَبْتَاعُ مِنْ مَوَاشِي التُّرْكُمَانِ وَالْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ
وَخَيْلِهِمْ . وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ مَا يَبِيعُهُ لِأَمْثَالِهِمْ . فَأَمَّا إنْ بَاعَهُمْ وَبَاعَ
غَيْرَهُمْ مَا يُعِينُهُمْ بِهِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ . كَالْخَيْلِ
وَالسِّلَاحِ لِمَنْ يُقَاتِلُ بِهِ قِتَالًا مُحَرَّمًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا
تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً :
لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ
إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا
} فَقَدْ لَعَنَ الْعَاصِرَ وَهُوَ إنَّمَا يَعْصِرُ عِنَبًا يَصِيرُ عَصِيرًا
وَالْعَصِيرُ حَلَالٌ يُمْكِنُ أَنْ يُتَّخَذَ خَلًّا وَدِبْسًا وَغَيْرَ ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ الَّذِي مَعَهُمْ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ أَمْوَالٌ يُعْرَفُ أَنَّهُمْ غَصَبُوهَا مِنْ مَعْصُومٍ فَتِلْكَ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاؤُهَا لِمَنْ يَتَمَلَّكُهَا ؛ لَكِنْ إذَا اُشْتُرِيَتْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِنْقَاذِ لِتُصْرَفَ فِي مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ فَتُعَادَ إلَى أَصْحَابِهَا إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا صُرِفَتْ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ هَذَا . وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ فِي أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا مُحَرَّمًا لَا تُعْلَمُ عَيْنُهُ فَهَذَا لَا يَحْرُمُ مُعَامَلَتُهُمْ كَمَا إذَا عُلِمَ أَنَّ فِي السُّوقِ مَا هُوَ مَغْصُوبٌ أَوْ مَسْرُوقٌ وَلَمْ يُعْلَمْ عَيْنُهُ وَالْحَرَامُ إذَا اخْتَلَطَ بِالْحَلَالِ فَهَذَا نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ . كَالْمَيْتَةِ وَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ . فَهَذَا إذَا اشْتَبَهَ بِمَا لَا يُحْصَرُ لَمْ يَحْرُمْ مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فِي الْبَلْدَةِ الْفُلَانِيَّةِ أُخْتًا لَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا أَوْ فِيهَا مَنْ يَبِيعُ مَيْتَةً لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا فَهَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّسَاءُ وَلَا اللَّحْمُ . وَأَمَّا إذَا اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّةِ أَوْ الْمُذَكَّى بِالْمَيِّتِ حُرِّمَا جَمِيعًا . وَالثَّانِي : مَا حَرُمَ لِكَوْنِهِ أُخِذَ غَصْبًا وَالْمَقْبُوضُ بِعُقُودٍ مُحَرَّمَةٍ كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ فَهَذَا إذَا اشْتَبَهَ وَاخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ لَمْ يَحْرُمْ الْجَمِيعُ ؛ بَلْ يُمَيِّزُ قَدْرَ هَذَا مِنْ قَدْرِ هَذَا فَيُصْرَفُ هَذَا إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَهَذَا إلَى مُسْتَحِقِّهِ ؛ مِثْلُ اللِّصِّ الَّذِي أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ فَخَلَطَهَا أَوْ أَخَذَ حِنْطَةَ النَّاسِ أَوْ دَقِيقَهُمْ فَخَلَطَهُ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْحُقُوقِ .
وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ فِي الْبَلَدِ
شَيْئًا مِنْ هَذَا لَا يُعْلَمُ عَيْنُهُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى النَّاسِ
الشِّرَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ أَكْثَرُ مَالِ الرَّجُلِ
حَرَامًا هَلْ تَحْرُمُ مُعَامَلَتُهُ ؟ أَوْ تُكْرَهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَإِنْ
كَانَ الْغَالِبُ عَلَى مَالِهِ الْحَلَالَ لَمْ تَحْرُمْ مُعَامَلَتُهُ ؛ لَكِنْ
قَدْ قِيلَ : إنَّهُ مِنْ الْمُشْتَبَهِ الَّذِي يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ :
فَصْلٌ :
قَدْ ذَكَرْت فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ
تَرْجِعُ إلَى الظُّلْمِ إمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِمَّا فِي حَقِّ
الْعَبْدِ وَإِمَّا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَكُلَّمَا كَانَ ظُلْمًا فِي حَقِّ
الْعِبَادِ فَهُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ ؛ وَلَا يَنْعَكِسُ فَجَمِيعُ
الذُّنُوبِ تَدْخُلُ فِي ظُلْمِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ . وَأَوَّلُ مَنْ اعْتَرَفَ
بِهَذَا أَبُو الْبَشَرِ لَمَّا تَلَقَّى مِنْ رَبِّهِ الْكَلِمَاتِ فَقَالَ : {
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فَكَانَ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ اعْتِرَافُهُ
بِذَنْبِهِ وَطَلَبُهُ رَبَّهُ عَلَى وَجْهِ الِافْتِقَارِ وَالْمَغْفِرَةِ
وَالرَّحْمَةِ . فَالْمَغْفِرَةُ إزَالَةُ السَّيِّئَاتِ وَالرَّحْمَةُ إنْزَالُ
الْخَيْرَاتِ فَهَذَا ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ لَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ لِغَيْرِهِ . وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ الَّذِي هُوَ مِنْ عَدُوِّهِ { فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ } { قَالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ } فَاعْتَرَفَ بِظُلْمِهِ نَفْسَهُ فِيمَا كَانَ مِنْ جِنَايَةٍ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا . وَقَالَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } وَفِي الصَّحِيحِ { الدُّعَاءُ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ فِي صَلَاتِهِ : اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } فَهَذَا الدُّعَاءُ مُطَابِقٌ لِدُعَاءِ آدَمَ فِي الِاعْتِرَافِ بِظُلْمِ النَّفْسِ وَمَسْأَلَةِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ . { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ : فَحَمِدَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ، ثُمَّ يَضْحَكُ } وَهُوَ مَحْفُوظٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالظُّلْمُ نَوْعَانِ : تَفْرِيطٌ فِي الْحَقِّ وَتَعَدٍّ لِلْحَدِّ كَمَا قَدْ قَرَّرْت ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ ظُلْمٌ كَمَا أَنَّ فِعْلَ الْمُحَرَّمِ ظُلْمٌ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَطْلَ - وَهُوَ تَأْخِيرُ الْوَفَاءِ - ظُلْمٌ فَكَيْفَ بِتَرْكِهِ
وَقَدْ قَرَّرْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ أَعْظَمُ مِنْ تَرْكِ الْمُحَرَّمِ وَأَنَّ الطَّاعَاتِ الْوُجُودِيَّةَ أَعْظَمُ مِنْ الطَّاعَاتِ الْعَدَمِيَّةِ فَيَكُونُ جِنْسُ الظُّلْمِ بِتَرْكِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ أَعْظَمَ مِنْ جِنْسِ الظُّلْمِ بِتَعَدِّي الْحُدُودِ . وَقَرَّرْت أَيْضًا أَنَّ الْوَرَعَ الْمَشْرُوعَ هُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ لَيْسَ هُوَ تَرْكَ الْمُحَرَّمِ فَقَطْ وَكَذَلِكَ التَّقْوَى اسْمٌ لِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ . كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ حَدَّهَا فِي قَوْلِهِ : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } - إلَى قَوْلِهِ - { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } . وَمِنْ هُنَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَيَنْظُرُونَ مَا فِي الْفِعْلِ أَوْ الْمَالِ مِنْ كَرَاهَةٍ تُوجِبُ تَرْكَهُ وَلَا يَنْظُرُونَ مَا فِيهِ مِنْ جِهَةِ أَمْرٍ يُوجِبُ فِعْلَهُ . مِثَالُ ذَلِكَ مَا سُئِلَ عَنْهُ أَحْمَد : عَنْ رَجُلٍ تَرَكَ مَالًا فِيهِ شُبْهَةٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَسَأَلَهُ الْوَارِثُ هَلْ يَتَوَرَّعُ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ الْمُشْتَبَهِ ؟ فَقَالَ لَهُ أَحْمَد : أَتَتْرُكُ ذِمَّةَ أَبِيك مُرْتَهِنَةً ذَكَرَهَا أَبُو طَالِبٍ [ وَابْنُ حَامِدٍ ] (*) . وَهَذَا عَيْنُ الْفِقْهِ ؛ فَإِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ وَالْغَرِيمُ حَقُّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّرِكَةِ فَإِنْ لَمْ يُوَفِّ الْوَارِثُ الدَّيْنَ وَإِلَّا فَلَهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ التَّرِكَةِ فَلَا يَجُوزُ إضَاعَةُ التَّرِكَةِ المشتبهة الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَرِيمِ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا إضْرَارُ الْمَيِّتِ بِتَرْكِ ذِمَّتِهِ مُرْتَهِنَةً . فَفِي الْإِعْرَاضِ عَنْ التَّرِكَةِ إضْرَارُ الْمَيِّتِ وَإِضْرَارُ الْمُسْتَحِقِّ وَهَذَانِ ظُلْمَانِ مُحَقَّقَانِ بِتَرْكِ وَاجِبَيْنِ . وَأَخْذُ الْمَالِ الْمُشْتَبَهِ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرُ الْمَظْلُومِ . فَقَالَ أَحْمَد لِلْوَارِثِ : أَبْرِئْ ذِمَّةَ أَبِيك . فَهَذَا الْمَالُ الْمُشْتَبَهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهَا مُرْتَهِنَةً بِالْأَعْرَاضِ . وَهَذَا الْفِعْلُ وَاجِبٌ عَلَى الْوَارِثِ وُجُوبَ عَيْنٍ إنْ لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ فِيهِ مَقَامَهُ أَوْ وُجُوبَ كِفَايَةٍ أَوْ مُسْتَحَبٌّ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ فِي تَرْكِ الشُّبْهَةِ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ . وَهَكَذَا جَمِيعُ الْخَلْقِ عَلَيْهِمْ وَاجِبَاتٌ : مِنْ نَفَقَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَأَقَارِبِهِمْ وَقَضَاءِ دُيُونِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَإِذَا تَرَكُوهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ظُلْمًا مُحَقَّقًا . وَإِذَا فَعَلُوهَا بِشُبْهَةٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ ظُلْمُهُمْ . فَكَيْفَ يَتَوَرَّعُ الْمُسْلِمُ عَنْ ظُلْمٍ مُحْتَمَلٍ بِارْتِكَابِ ظُلْمٍ مُحَقَّقٍ وَلِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُحِبُّ الْمَالَ : يَعْبُدُ بِهِ رَبَّهُ وَيُؤَدِّي بِهِ أَمَانَتَهُ وَيَصُونُ بِهِ نَفْسَهُ وَيَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ الْخَلْقِ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ : النَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالْغَارِمُ يُرِيدُ الْوَفَاءَ } فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُؤْمِنُ : عِفَّةَ فَرْجِهِ ؛ وَتَخْلِيصَ رَقَبَتِهِ وَبَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ . فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ ؛ وَصِيَانَةِ النَّفْسِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ النَّاسِ . لَا تُتَمَّمُ إلَّا بِالْمَالِ . وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . وَمَنْ لَا يُحِبُّ أَدَاءَ مِثْلِ هَذَا الْوَاجِبِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بِهِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ . فَهَذِهِ مِلَّةٌ وَلَهَا تَفَاصِيلُ كَثِيرَةٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ كَلَامٍ
سَبَقَ :
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ
عَنْهُ فَسَادُهُ رَاجِحٌ عَلَى صَلَاحِهِ وَلَا يُشْرَعُ الْتِزَامُ الْفَسَادِ
مِمَّنْ يُشْرَعُ لَهُ دَفْعُهُ . وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ
عَنْهُ وَحَرَّمَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَأَبَاحَهُ فِي حَالٍ أُخْرَى
فَإِنَّ الْحَرَامَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا نَافِذًا كَالْحَلَالِ يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهِ الْحُكْمُ كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَلَالِ وَيَحْصُلُ بِهِ
الْمَقْصُودُ كَمَا يَحْصُلُ بِهِ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ : النَّهْيُ
يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَهَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ
بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورِهِمْ . وَكَثِيرٌ مِنْ
الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ ؛ يُخَالِفُ فِي هَذَا
لَمَّا ظَنَّ أَنَّ بَعْضَ مَا نَهَى عَنْهُ لَيْسَ بِفَاسِدِ كَالطَّلَاقِ
الْمُحَرَّمِ وَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . قَالَ :
لَوْ كَانَ النَّهْيُ مُوجِبًا لِلْفَسَادِ لَزِمَ انْتِقَاضُ هَذِهِ الْعِلَّةِ
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ حَصَلَ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرَ مُطْلَقِ النَّهْيِ
. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ الْعَارِفِينَ بِتَفْصِيلِ
أَدِلَّةِ الشَّرْعِ . فَقِيلَ لَهُمْ : بِأَيِّ شَيْءٍ يُعْرَفَ أَنَّ
الْعِبَادَةَ فَاسِدَةٌ وَالْعَقْدَ فَاسِدٌ ؟ قَالُوا : بِأَنْ يَقُولَ
الشَّارِعُ : هَذَا صَحِيحٌ وَهَذَا فَاسِدٌ . وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَعْرِفُوا
أَدِلَّةَ
الشَّرْعِ الْوَاقِعَةَ ؛ بَلْ قَدَّرُوا أَشْيَاءَ قَدْ لَا تَقَعُ وَأَشْيَاءَ ظَنُّوا أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الشَّارِعِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَدُلَّ النَّاسَ قَطُّ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرُوهَا وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ : شُرُوطُ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ : كَذَا وَكَذَا . وَلَا هَذِهِ الْعِبَادَةُ وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ ؛ بَلْ هَذِهِ كُلُّهَا عِبَارَاتٌ أَحْدَثَهَا مَنْ أَحْدَثَهَا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ . وَإِنَّمَا الشَّارِعُ دَلَّ النَّاسَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَبِقَوْلِهِ فِي عُقُودٍ : " هَذَا لَا يَصْلُحُ " عُلِمَ أَنَّهُ فَسَادٌ كَمَا قَالَ فِي بَيْعِ مُدَّيْنِ بِمُدٍّ تَمْرًا : " لَا يَصْلُحُ " وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَحْتَجُّونَ عَلَى فَسَادِ الْعُقُودِ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ كَمَا احْتَجُّوا عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالنَّهْيِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ فَسَادُ عَقْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ . وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ التَّحْرِيمَ فِيهَا تَعَارَضَ فِيهِ نَصَّانِ فَتَوَقَّفَ . وَقِيلَ : إنَّ بَعْضَهُمْ أَبَاحَ الْجَمْعَ . وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا اسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } . وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ اسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ الشِّغَارِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ الْفَسَادِ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاحِ . فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَيُحِبُّ الصَّلَاحَ .
وَلَا يَنْهَى عَمَّا يُحِبُّهُ . وَإِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا لَا يُحِبُّهُ فَعَلِمُوا أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَاسِدٌ ؛ لَيْسَ بِصَالِحِ . وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فَمَصْلَحَتُهُ مَرْجُوحَةٌ بِمَفْسَدَتِهِ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَقْصُودَ الشَّرْعِ رَفْعُ الْفَسَادِ وَمَنْعُهُ ؛ لَا إيقَاعُهُ وَالْإِلْزَامُ بِهِ . فَلَوْ أُلْزِمُوا مُوجِبَ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ لَكَانُوا مُفْسِدِينَ غَيْرَ مُصْلِحِينَ وَاَللَّهُ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ . وَقَوْلُهُ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ } أَيْ : لَا تَعْمَلُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مُفْسِدٌ وَالْمُحَرَّمَاتُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ فَالشَّارِعُ يَنْهَى عَنْهُ لِيَمْنَعَ الْفَسَادَ وَيَدْفَعَهُ وَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ صُوَرِ النَّهْيِ صُورَةٌ ثَبَتَتْ فِيهَا الصِّحَّةُ بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ . فَالطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ وَالصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ : فِيهِمَا نِزَاعٌ وَلَيْسَ عَلَى الصِّحَّةِ نَصٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ فَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْمُحْتَجِّ بِهِمَا حُجَّةٌ . لَكِنْ مِنْ الْبُيُوعِ مَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهَا مِنْ ظُلْمِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَالْمَعِيبِ وَتَلَقِّي السِّلَعَ وَالنَّجْش وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْبُيُوعَ لَمْ يَجْعَلْهَا الشَّارِعُ لَازِمَةً كَالْبُيُوعِ الْحَلَالِ ؛ بَلْ جَعَلَهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ وَالْخِيَرَةُ فِيهَا إلَى الْمَظْلُومِ إنْ شَاءَ أَبْطَلَهَا وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهَا فَإِنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لَهُ وَالشَّارِعُ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا لِحَقٍّ مُخْتَصٍّ بِاَللَّهِ كَمَا نَهَى عَنْ الْفَوَاحِشِ ؛ بَلْ هَذِهِ إذَا عَلِمَ الْمَظْلُومُ بِالْحَالِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَيْبِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّصْرِيَةِ وَيَعْلَمَ السِّعْرَ إذَا كَانَ قَادِمًا بِالسِّلْعَةِ وَيَرْضَى بِأَنْ
يَغْبِنَهُ الْمُتَلَقِّي جَازَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ بَعْدَ الْعَقْدِ إنْ رَضِيَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ كَانَ لَهُ الْفَسْخُ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ غَيْرَ لَازِمٍ بَلْ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ إنْ شَاءَ أَجَازَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ بَيْعِ الْمَعِيبِ مِمَّا فِيهِ الرِّضَا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ مِنْ الْعَيْبِ فَإِذَا فَقَدَ الشَّرْطَ بَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ فَهُوَ لَازِمٌ إنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ وَغَيْرُ لَازِمٍ إنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ . وَأَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى رِضَى الْمُجِيزِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ بِوَقْفِ الْعُقُودِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَد وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ ، كالخرقي وَغَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ يَحْسِبُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا نُهِيَ عَنْهُ . ثُمَّ تَقُولُ طَائِفَةٌ أُخْرَى ؛ وَلَيْسَ بِفَاسِدِ . فَالنَّهْيُ يَجِبُ أَنْ يَقْتَضِيَ الْفَسَادَ . وَيَقُولُ طَائِفَةٌ أُخْرَى : بَلْ هَذَا فَسَادٌ . فَمِنْهُمْ مَنْ أَفْسَدَ بَيْعَ النَّجْشِ إذَا نَجَشَ الْبَائِعُ أَوْ وَاطَأَ . وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْسَدَ نِكَاحَ الْخَاطِبِ إذَا خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَبَيْعِهِ عَلَى بَيْعِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْسَدَ بَيْعَ الْمَعِيبِ الْمُدَلِّسِ . فَلَمَّا عُورِضَ بِالْمُصَرَّاةِ تَوَقَّفَ . وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ
نِكَاحَ الْخَاطِبِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ مُطْلَقًا وَبَيْعُ النَّجْشِ بِلَا خِيَارٍ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَمْ يَكُنْ النَّهْيُ فِيهِ لِحَقِّ اللَّهِ ، كَنِكَاحِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَبَيْعِ الرِّبَا ؛ بَلْ لِحَقِّ الْإِنْسَانِ ؛ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ صَاحِبَ السِّلْعَةِ يَنْجُشُ . وَرَضِيَ بِذَلِكَ جَازَ . وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَنْجُشُ . وَكَذَلِكَ الْمَخْطُوبَةُ مَتَى أَذِنَ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ فِيهَا جَازَ . وَلَمَّا كَانَ النَّهْيُ هُنَا لِحَقِّ الْآدَمِيِّ : لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّارِعُ صَحِيحًا لَازِمًا . كَالْحَلَالِ ؛ بَلْ أَثْبَتَ حَقَّ الْمَظْلُومِ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْخِيَارِ . فَإِنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ . فَالْمُشْتَرِي مَعَ النَّجْشِ إنْ شَاءَ رَدَّ الْمَبِيعَ فَحَصَلَ بِهَذَا مَقْصُودُهُ . وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ إذَا عَلِمَ بِالنَّجْشِ . فَأَمَّا كَوْنُهُ فَاسِدًا مَرْدُودًا وَإِنْ رَضِيَ بِهِ : فَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ . وَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْمُدَلَّسِ وَالْمُصَرَّاةِ . وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الْمَخْطُوبَةُ إنْ شَاءَ هَذَا الْخَاطِبُ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَ هَذَا الْمُعْتَدِي عَلَيْهِ وَيَتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهُ ؛ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَ نِكَاحَهَا فَلَهُ ذَلِكَ ، وَهُوَ إذَا اخْتَارَ فَسْخَ نِكَاحِهَا عَادَ الْأَمْرُ إلَى مَا كَانَ . إنْ شَاءَتْ نَكَحَتْهُ وَإِنْ شَاءَتْ لَمْ تَنْكِحْهُ ؛ إذْ مَقْصُودُهُ حَصَلَ بِفَسْخِ نِكَاحِ الْخَاطِبِ . وَإِذَا قِيلَ : هُوَ غَيْرُ قَلْبِ الْمَرْأَةِ عَلَيَّ . قِيلَ : إنْ شِئْت عَاقَبْنَاهُ عَلَى هَذَا ؛ بِأَنْ نَمْنَعَهُ مِنْ نِكَاحِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ ، فَيَكُونُ هَذَا قِصَاصًا لِظُلْمِهِ إيَّاكَ . وَإِنْ شِئْت عَفَوْت
عَنْهُ فأنفذنا نِكَاحَهُ . وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالذَّبْحِ بِآلَةٍ مَغْصُوبَةٍ . وَطَبْخِ الطَّعَامِ بِحَطَبِ مَغْصُوبٍ . وَتَسْخِينِ الْمَاءِ بِوَقُودٍ مَغْصُوبٍ ؛ كُلُّ هَذَا إنَّمَا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمِ الْإِنْسَانِ . وَذَلِكَ يَزُولُ بِإِعْطَاءِ الْمَظْلُومِ حَقَّهُ . فَإِذَا أَعْطَاهُ مَا أَخَذَهُ مِنْ مَنْفَعَةِ مَالِهِ أَوْ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ : فَأَعْطَاهُ كَرْيَ الدَّارِ وَثَمَنَ الْحَطَبِ وَتَابَ هُوَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فِعْلِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ وَصَارَتْ صَلَاتُهُ كَالصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ مُبَاحٍ . وَالطَّعَامُ كَالطَّعَامِ بِوَقُودٍ مُبَاحٍ ؛ وَالذَّبْحِ بِسِكِّينٍ مُبَاحَةٍ . وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ لِصَاحِبِ السِّكِّينِ أُجْرَةُ ذَبْحِهِ . وَلَا تَحْرُمُ الشَّاةُ كُلُّهَا ؛ لِأَجْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ . وَهَذَا إذَا كَانَ أَكَلَ الطَّعَامَ وَلَمْ يُوَفِّهِ ثَمَنَهُ ؛ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ طَعَامًا لِغَيْرِهِ فِيهِ شَرِكَةٌ : لَيْسَ فِعْلُهُ حَرَامًا وَلَا هُوَ حَلَالًا مَحْضًا فَإِنْ نَضِجَ الطَّعَامُ لِصَاحِبِ الْوَقُودِ فِيهِ شَرِكَةٌ . وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ يَبْقَى عَلَيْهِ إثْمُ الظُّلْمِ يَنْقُصُ مِنْ صَلَاتِهِ بِقَدْرِهِ وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ كَبَرَاءَةِ مَنْ صَلَّى صَلَاةً تَامَّةً وَلَا يُعَاقَبُ كَعُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ ؛ بَلْ يُعَاقَبُ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ . وَكَذَلِكَ آكِلُ الطَّعَامِ يُعَاقَبُ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } .
وَإِنَّمَا قِيلَ فِي الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ وَبِالْمَكَانِ : يُعِيدُ ؛ بِخِلَافِ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ إلَّا بِالْإِعَادَةِ وَهُنَا يُمْكِنُهُ ذَاكَ بِأَنْ يَرُدَّ أَرْضَ الْمَظْلُومِ ؛ لَكِنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ الْحَرِيرِ هِيَ مِنْ ذَلِكَ الْقِسْمِ : الْحَقُّ فِيهَا لِلَّهِ ؛ لَكِنْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ؛ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَطْ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي مِثْلِ هَذَا . فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : النَّهْيُ هُنَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ وَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ؛ فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الْبَيْعِ اشْتَمَلَ عَلَى تَعْطِيلِ الصَّلَاةِ وَنَفْسَ الصَّلَاةِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ كَمَا اشْتَمَلَتْ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ عَلَى مُلَابَسَةِ الرِّجْسِ الْخَبِيثِ : فَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ . وَإِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ ؛ بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا : فَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ وَقْتَ النِّدَاءِ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ إلَّا لِكَوْنِهِ شَاغِلًا عَنْ الصَّلَاةِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ لَا يَخْتَصُّ بِالْبَيْعِ . لَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَجِيءُ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَعْنًى مُشْتَرَكٌ وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِإِطَالَةِ الْعُدَّةِ وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ الطَّلَاقِ . فَيُقَالُ : وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ كَذَلِكَ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهَا لِإِفْضَائِهَا
إلَى فَسَادٍ خَارِجٍ عَنْهَا . فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نُهِيَ عَنْهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْقَطِيعَةُ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ النِّكَاحِ . وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ حُرِّمَا وَجُعِلَا رِجْسًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الصَّدِّ عَنْ الصَّلَاةِ وَإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَهُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ . وَالرِّبَا حَرَامٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ عَقْدِ الْمَيْسِرِ وَالرِّبَا . فَكُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَعْنًى فِيهِ يُوجِبُ النَّهْيَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ لَا لِمَعْنًى فِيهِ أَصْلًا بَلْ لِمَعْنًى أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ عُقُوبَةِ الْإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ ؛ لَكِنْ فِي الْأَشْيَاءِ مَا يُنْهَى عَنْهُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ فَهُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ الذَّرِيعَةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ . وَهَذَا مَعْنًى فِيهِ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ - الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ النَّهْيَ قَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ - مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِوَصْفٍ فِي الْفِعْلِ ؛ لَا فِي أَصْلِهِ . فَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ قَالُوا : هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِوَصْفِ الْعِيدَيْنِ ؛ لَا لِجِنْسِ الصَّوْمِ فَإِذَا صَامَ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ صَوْمًا .
فَيُقَالُ لَهُمْ : وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ بِلَا طَهَارَةٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ : جِنْسٌ مَشْرُوعٌ ؛ وَإِنَّمَا النَّهْيُ لِوَصْفٍ خَاصٍّ : وَهُوَ الْحَيْضُ وَالْحَدَثُ وَاسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ . وَلَا يُعْرَفُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَرْقٌ مَعْقُولٌ لَا تَأْثِيرَ فِي الشَّرْعِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ : الْحَيْضُ وَالْحَدَثُ صِفَةٌ فِي الْحَائِضِ وَالْمُحْدِثِ وَذَلِكَ صِفَةٌ فِي الزَّمَانِ . قِيلَ : وَالصِّفَةُ فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ - زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ - كَالصِّفَةِ فِي فَاعِلِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا أَوْ غَيْرِ عَرَفَةَ لَمْ يَصِحَّ وَهُوَ صِفَةٌ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ . وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى الْجِمَارَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ مِنًى أَوْ الْمَرْمِيِّ وَهُوَ صِفَةٌ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ . وَاسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ هُوَ لِصِفَةٍ فِي الْجِهَةِ لَا فِيهِ وَلَا يَجُوزُ وَلَوْ صَامَ بِاللَّيْلِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كَانَ هَذَا زَمَانًا . فَإِذَا قِيلَ : اللَّيْلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا . قِيلَ : وَيَوْمُ الْعِيدِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا كَمَا أَنَّ زَمَانَ الْحَيْضِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا فَالْفَرْقُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَرْقًا شَرْعِيًّا فَيَكُونُ مَعْقُولًا وَيَكُونُ الشَّارِعُ قَدْ جَعَلَهُ مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ بِحَيْثُ عَلَّقَ بِهِ الْحِلَّ أَوْ الْحُرْمَةَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ بِفُرُوقٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَوْ يَمْنَعُ تَأْثِيرَهُ فِي الْأَصْلِ . وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَذْكُرُ وَصْفًا يَجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْوَصْفُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ؛ بَلْ
قَدْ يَكُونُ مَنْفِيًّا عَنْهُمَا أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا . وَكَذَلِكَ الْمُفَرَّقُ قَدْ يُفَرِّقُ بِوَصْفٍ يَدَّعِي انْتِقَاضَهُ بِإِحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِهَا بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِمْ : النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَذَلِكَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ أَوْ ذَاكَ لِمَعْنًى فِي وَصْفِهِ دُونَ أَصْلِهِ . وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ النَّهْيُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِالْعِبَادَةِ وَالْعَقْدِ وَقَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا كَمَا يُنْهَى الْمُحْرِمُ عَمَّا يَخْتَصُّ بِالْإِحْرَامِ مِثْلَ حَلْقِ الرَّأْسِ وَلُبْسِ الْعِمَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الثِّيَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَيُنْهَى عَنْ نِكَاحِ امْرَأَتِهِ وَيُنْهَى عَنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَيُنْهَى مَعَ ذَلِكَ عَنْ الزِّنَا وَالظُّلْمِ لِلنَّاسِ فِيمَا مَلَكُوهُ مِنْ الصَّيْدِ . وَحِينَئِذٍ فَالنَّهْيُ لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ أَعْظَمُ ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مَمْلُوكًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِحَقِّ اللَّهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْبَدَلُ لِحَقِّ الْمَالِكِ . وَلَوْ زَنَى لَأَفْسَدَ إحْرَامَهُ كَمَا يَفْسُدُ بِنِكَاحِ امْرَأَتِهِ وَيَسْتَحِقُّ حَدَّ الزِّنَا مَعَ ذَلِكَ . وَعَلَى هَذَا فَمَنْ لَبِسَ فِي الصَّلَاةِ مَا يَحْرُمُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا كَالثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا خُيَلَاءُ وَفَخْرٌ ؛ كَالْمُسَبَّلَةِ وَالْحَرِيرِ كَانَ أَحَقَّ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ مِنْ الثَّوْبِ النَّجِسِ وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ مُسَبِّلٍ } . وَالثَّوْبُ النَّجِسُ فِيهِ نِزَاعٌ وَفِي قَدْرِ النَّجَاسَةِ نِزَاعٌ وَالصَّلَاةُ فِي الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بَعْدَ النِّدَاءِ إذَا كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ وَغَيْرُهُ يَشْغَلُ عَنْ
الْجُمُعَةِ ؛ كَانَ ذَلِكَ أَوْكَدَ فِي النَّهْيِ وَكُلُّ مَا شَغَلَ عَنْهَا فَهُوَ شَرٌّ وَفَسَادٌ لَا خَيْرَ فِيهِ . وَالْمِلْكُ الْحَاصِلُ بِذَلِكَ كَالْمِلْكِ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَمُخَالَفَتِهِ كَاَلَّذِي لَا يَحْصُلُ إلَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي ؛ مِثْلَ الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالْفَاحِشَةِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حُلْوَانُ الْكَاهِنِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ } فَإِذَا كَانَتْ السِّلْعَةُ لَا تُمْلَكُ إنْ لَمْ تُتْرَكْ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ كَانَ حُصُولُ الْمِلْكِ بِسَبَبِ تَرْكِ الصَّلَاةِ كَمَا أَنَّ حُصُولَ الْحُلْوَانِ وَالْمَهْرِ بِالْكِهَانَةِ وَالْبِغَاءِ ؛ وَكَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ : إنْ تَرَكْت الصَّلَاةَ الْيَوْمَ أَعْطَيْنَاك عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، فَإِنَّ مَا يَأْخُذُهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ خَبِيثٌ كَذَلِكَ مَا يُمْلَكُ بِالْمُعَاوَضَةِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ خَبِيثٌ . وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلًا وَكَانَ مَا يَأْخُذُهُ عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ بِمِقْدَارِ الصَّلَاةِ خَبِيثًا مَعَ أَنَّ جِنْسَ الْعَمَلِ بِالْأُجْرَةِ جَائِزٌ كَذَلِكَ جِنْسُ الْمُعَاوَضَةِ جَائِزٌ ؛ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَعَدَّى عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ . وَإِذَا حَصَلَ الْبَيْعُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَتَعَذَّرَ الرَّدُّ فَلَهُ نَظِيرُ ثَمَنِهِ الَّذِي أَدَّاهُ وَيَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ وَالْبَائِعُ لَهُ نَظِيرُ سِلْعَتِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ إنْ كَانَ قَدْ رَبِحَ وَلَوْ تَرَاضَيَا بِذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لَمْ يَنْفَعْ ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ هُنَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَمَا لَوْ تَرَاضَيَا بِمَهْرِ الْبَغِيِّ وَهُنَاكَ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى
أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ؛ لَا يُعْطَى لِلزَّانِي . وَكَذَلِكَ فِي الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَخَذَ صَاحِبُهُ مَنْفَعَةً مُحَرَّمَةً فَلَا يَجْمَعُ لَهُ الْعِوَضَ وَالْمُعَوَّضَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ بَيْعِهِ . وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ الْخَمْرُ بِالثَّمَنِ فَكَيْفَ إذَا أَعْطَى الْخَمْرَ وَأَعْطَى الثَّمَنَ وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ لِلزَّانِي أَنْ يَزْنِيَ وَإِنْ أَعْطَى فَكَيْفَ إذَا أَعْطَى الْمَالَ وَالزِّنَا جَمِيعًا بَلْ يَجِبُ إخْرَاجُ هَذَا الْمَالِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ الْمُشْتَرَكَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا كَانَ قَدْ بَاعَ السِّلْعَةَ وَقْتَ النِّدَاءِ بِرِبْحِ وَأَخَذَ سِلْعَتَهُ فَإِنْ فَاتَتْ تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ وَلَمْ يُعْطِهِ لِلْمُشْتَرِي فَيَكُونُ أَعَانَهُ عَلَى الشِّرَاءِ . وَالْمُشْتَرِي يَأْخُذُ ثَمَنَهُ وَيُعِيدُ السِّلْعَةَ فَإِنْ بَاعَهَا بِرِبْحٍ تَصَدَّقَ بِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ لِلْبَائِعِ فَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ لَهُ بَيْنَ رِبْحَيْنِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَقْبُوضِ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ هَلْ يَمْلِكُ ؟ أَوْ لَا يَمْلِكُ ؟ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَفُوتَ أَوْ لَا يَفُوتَ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي سِلْعَةً بِمَالٍ حَلَالٍ وَلَمْ يَعْلَمْ أَصْلَ
السِّلْعَةِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ ؟ أَوْ حَلَالٌ ؟ ثُمَّ كَانَتْ حَرَامًا فِي
الْبَاطِنِ هَلْ يَأْثَمُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
مَتَى اعْتَقَدَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الَّذِي مَعَ الْبَائِعِ مِلْكُهُ
فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ عَلَى الظَّاهِرِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ قَدْ سَرَقَهُ الْبَائِعُ لَمْ يَكُنْ عَلَى
الْمُشْتَرِي إثْمٌ وَلَا عُقُوبَةٌ ؛ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ .
وَالضَّمَانُ وَالدَّرْكُ عَلَى الَّذِي غَرَّهُ وَبَاعَهُ . وَإِذَا ظَهَرَ
صَاحِبُ السِّلْعَةِ فِيمَا بَعْدُ رُدَّتْ إلَيْهِ سِلْعَتُهُ وَرَدَّ عَلَى
الْمُشْتَرِي ثَمَنَهُ وَعُوقِبَ الْبَائِعُ الظَّالِمُ ؛ فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ
مَنْ يَعْلَمُ وَمَنْ لَا يَعْلَمُ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَا أَخْطَأَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ
فَصْلٌ :
حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا { أَمَرَهُمْ
بِشَقِّ ظُرُوفِ الْخَمْرِ وَكَسْرِ دِنَانِهَا } دَلِيلٌ عَلَى إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ فِي جَوَازِ إتْلَافِ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِنْكَارِ وَأَنَّ
الظَّرْفَ يَتْبَعُ الْمَظْرُوفَ . وَمِثْلُهُ مَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : أَنَّهُمَا أَمَرَا بِتَحْرِيقِ
الْمَكَانِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ .
وَمِثْلُهُ إتْلَافُ الْآلَةِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا صُورَةُ التَّأْلِيفِ
الْمُحَرَّمِ وَهِيَ آلَاتُ اللَّهْوِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ
الْمَالِيَّةَ ثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ . وَمَنْ قَالَ :
إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فَمَا مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ احْتَجَّ
بَعْضُهُمْ : { بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ
أَنَّهُمْ قَدْ طَبَخُوا لُحُومَ الْحُمُرِ . قَالَ لَهُمْ : أَرِيقُوهَا
وَاكْسِرُوا الْقُدُورَ . قَالُوا : أَفَلَا نُرِيقُهَا وَنَغْسِلُ الْقُدُورَ ؟
قَالَ : افْعَلُوا } قَالُوا : فَلَعَلَّهُمْ لَوْ اسْتَأْذَنُوهُ فِي أَوْعِيَةِ
الْخَمْرِ لَقَالَ ذَلِكَ . فَأُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ :
أَحَدُهُمَا " : أَنَّ دَفْعَ الشَّرِيعَةِ بِمِثْلِ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ لَا تَجُوزُ فَإِنَّا إذَا سَوَّغْنَا فِيمَا أَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ أَنَّهُ لَوْ رُوجِعَ لَنَسَخَ ذَلِكَ : لَجَازَ رَفْعُ كَثِيرٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخَيَالَاتِ . مِثْلَ أَنْ يُقَالَ : لَوْ رُوجِعَ الرَّبُّ فِي نَقْصِ الصَّلَاةِ عَنْ خَمْسٍ لَنَقَصَهَا وَلَوْ وَلَوْ . . . وَيُقَالُ : هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " : أَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ رُوجِعَ لَفَعَلَ وَثُبُوتُ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ لَا يُوجِبُ ثَبَاتَهُ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ ؛ إلَّا بِتَقْدِيرِ الْمُسَاوَاةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ وَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ . " الثَّانِي " : أَنَّهُ لَوْ فَرَضَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَكَانَ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَا كَانَ النَّسْخُ مُعَلَّقًا بِسُؤَالِهِمْ وَلَمْ يَسْأَلُوا لَمْ يَقَعْ النَّسْخُ . كَمَا أَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ قَدْ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِسُؤَالِهِمْ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ } وَقَالَ : { إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَحْرُمْ فَحَرُمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ } . { وَقَالَ فِي الْحَجِّ لَمَّا سَأَلُوهُ : أَفِي كُلِّ عَامٍ ؟ فَقَالَ : لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا قُمْتُمْ بِهِ } { وَقَالَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ : إنَّمَا مَنَعَنِي أَنْ أَخْرُجَ إلَيْكُمْ خَشْيَةَ أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَلَا تَقُومُوا } . فَقَدْ بَيَّنَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ السُّؤَالَ وَالْعَمَلَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِابْتِدَاءِ الْحُكْمِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ تَحْرِيمٍ . ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ فَلَمْ يَكُنْ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِرَفْعِ حُكْمٍ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ تَحْرِيمٍ ثُمَّ إذَا لَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ لَمْ يَرْتَفِعْ الْحُكْمُ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَلَيْسَ مِنْ هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ : لَوْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَنَعَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ . فَإِنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ أَتْقَى لِلَّهِ مِنْ أَنْ تُسَوِّغَ رَفْعَ الشَّرِيعَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ رَأَى مَا فِي خُرُوجِ بَعْضِ النِّسَاءِ مِنْ الْفَسَادِ لَمَنَعَهُنَّ الْخُرُوجَ تُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ } وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُ عَلَى الْعُمُومِ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْخُرُوجِ الَّذِي فِيهِ فَسَادٌ كَمَا قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ : إنَّ الشَّوَابَّ الَّتِي فِي خُرُوجِهِنَّ فَسَادٌ يَمْنَعُهُنَّ . فَقَصَدَ بِذَلِكَ تَخْصِيصَ اللَّفْظِ الَّذِي ظَاهِرُهُ أَنَّهَا عَلِمَتْ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَأْذَنُ فِي مِثْلِ هَذَا الْخُرُوجِ لَا أَنَّهَا قَصَدَتْ مَنْعَ النِّسَاءِ مُطْلَقًا . فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ النِّسَاءِ أَحْدَثْنَ وَإِنَّمَا قَصَدَتْ مَنْعَ الْمُحْدَثَاتِ . " الْجَوَابُ الثَّانِي " : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي أَوْعِيَةِ لُحُومِ الْحُمُرِ حُجَّةٌ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ أَوَّلًا بِتَكْسِيرِ الْأَوْعِيَةِ ثُمَّ لَمَّا اسْتَأْذَنُوهُ
فِي الْغَسْلِ أَذِنَ فِيهِ فَعُلِمَ
بِذَلِكَ أَنَّ الْكَسْرَ لَا يَجِبُ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ بَلْ
يُقَالُ : يَجُوزُ الْأَمْرَانِ . الْكَسْرُ وَالْغَسْلُ . وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي
أَوْعِيَةِ الْخَمْرِ : إنَّهُ يَجُوزُ إتْلَافُهَا وَيَجُوزُ تَطْهِيرُهَا
فَإِذَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْإِتْلَافَ أُتْلِفَتْ وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ
أَوْعِيَةِ الْخَمْرَةِ وَالْمَلَاهِي طَهَّرَ الْأَوْعِيَةَ وَغَسَلَ الْآلَاتِ
لَجَازَ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لَكِنْ إذَا أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ حَتَّى أُنْكِرَ
عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالْإِتْلَافِ . وَالصَّحَابَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلِمُوا التَّحْرِيمَ فَأُسْقِطَ
عَنْهُمْ الْإِتْلَافُ لِذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يَتَّجِرُ فِي الأقباع : هَلْ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْقَبْعِ المرعزي
وَشِرَاؤُهُ وَالِاكْتِسَابُ مِنْهُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ الْحَرِيرِ
الصَّامِتِ ؟ أَوْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ لِكَوْنِ الْقَبْعِ لُبْسَ الرِّجَالِ دُونَ
النِّسَاءِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْجُنْدِ وَالصِّبْيَانِ إذَا كَانُوا دُونَ
الْبُلُوغِ أَوْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ ؟ أَوْ
يَحْرُمُ جَمِيعُ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ يَتَّجِرُ فِي هَذَا الصِّنْفِ
وَغَيْرِهِ أَنْ يَبِيعَ لِأَهْلِ الْبَادِيَةَ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ
مِمَّنْ يَجْهَلُ الْقِيمَةَ مَا ثَمَنُهُ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ قَرِيبٌ
مِنْهَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الَّذِي يَشْتَرِيهِ لَوْ
احْتَاجَ إلَى ثَمَنِهِ فِي بَقِيَّةِ
يَوْمِهِ لَمْ يَصِلْ إلَى الدِّرْهَمِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ ثَمَنِهِ بَلْ أَقَلُّ
مِنْهُ أَوْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ؟ وَمَا الْقَدْرُ الَّذِي يَجُوزُ مِنْ
الْكَسْبِ فِيمَا يُبَاعُ مُسَاوَمَةً وَهَلْ هُوَ الثُّلُثُ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ
أَوْ أَكْثَرُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا أقباع الْحَرِيرِ : فَيَحْرُمُ
لُبْسُهَا عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَمَّا عَلَى الرِّجَالِ فَلِأَنَّهَا
حَرِيرٌ وَلُبْسُ الْحَرِيرِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَإِنْ كَانَ
مُبَطَّنًا بِقُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ . وَأَمَّا عَلَى النِّسَاءِ ؛ فَلِأَنَّ
الأقباع مِنْ لِبَاسِ الرِّجَالِ وَقَدْ { لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ والمتشبهين
مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ } . وَأَمَّا لِبَاسُ الْحَرِيرِ لِلصِّبْيَانِ الَّذِينَ
لَمْ يَبْلُغُوا . فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنْ
أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ فَإِنَّ مَا حَرُمَ عَلَى الرِّجَالِ
فِعْلُهُ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَ مِنْهُ الصَّغِيرَ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ
يَأْمُرَهُ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ وَيَضْرِبُهُ عَلَيْهَا إذَا
بَلَغَ عَشَرًا فَكَيْفَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُلْبِسَهُ الْمُحَرَّمَاتِ . وَقَدْ
رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى صَبِيٍّ لِلزُّبَيْرِ ثَوْبًا مِنْ حَرِيرٍ
فَمَزَّقَهُ وَقَالَ : لَا تُلْبِسُوهُمْ الْحَرِيرَ . وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ
مَزَّقَ ثَوْبَ حَرِيرٍ كَانَ عَلَى ابْنِهِ وَمَا حَرُمَ لُبْسُهُ لَمْ تَحِلَّ
صِنَاعَتُهُ وَلَا بَيْعُهُ لِمَنْ يَلْبَسُهُ مِنْ
أَهْلِ التَّحْرِيمِ . وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ . فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكْتَسِبَ بِأَنْ يَخِيطَ الْحَرِيرَ لِمَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَهَذِهِ مِثْلُ الْإِعَانَةِ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَنَحْوِهَا . وَكَذَلِكَ لَا يُبَاعُ الْحَرِيرُ لِرَجُلٍ يَلْبَسُهُ مِنْ أَهْلِ التَّحْرِيمِ . وَأَمَّا إذَا بِيعَ الْحَرِيرُ لِلنِّسَاءِ فَيَجُوزُ . وَكَذَلِكَ إذَا بِيعَ لِكَافِرِ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرْسَلَ بِحَرِيرٍ أَعْطَاهُ إيَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ مُشْرِكٍ . وَأَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ لِمُسْتَرْسِلٍ إلَّا بِالسِّعْرِ الَّذِي يُبَاعُ بِهِ غَيْرُهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ اسْتِرْسَالُهُ أَنْ يَغْبِنَ مِنْ الرِّبْحِ غَبْنًا يُخْرِجُ عَنْ الْعَادَةِ . وَقَدَّرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالثُّلُثِ وَآخَرُونَ بِالسُّدُسِ وَبَعْضُهُمْ قَالُوا : يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى عَادَةِ النَّاسِ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ الرِّبْحِ عَلَى المماكسين مَا يَرْبَحُونَهُ عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ . وَالْمُسْتَرْسِلُ قَدْ فُسِّرَ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا يُمَاكِسُ بَلْ يَقُولُ : خُذْ وَأَعْطِنِي . وَبِأَنَّهُ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ فَلَا يَغْبِنُ غَبْنًا فَاحِشًا لَا هَذَا وَلَا هَذَا . وَفِي الْحَدِيثِ { غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا } . وَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ يَغْبِنُهُمْ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ ؛ بَلْ يُمْنَعُ مِنْ الْجُلُوسَ فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُلْزَمَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِلْمَغْبُونِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ فَيَرُدَّ عَلَيْهِ السِّلْعَةَ وَيَأْخُذَ مِنْهُ الثَّمَنَ . وَإِذَا تَابَ هَذَا الْغَابِنُ
الظَّالِمُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ
يَرُدَّ إلَى الْمَظْلُومِينَ حُقُوقَهُمْ فَلْيَتَصَدَّقْ بِمِقْدَارِ مَا
ظَلَمَهُمْ عَنْهُمْ ؛ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ . وَبَيْعُ
الْمُسَاوَمَةِ إذَا كَانَ مَعَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِالْأَسْعَارِ الَّتِي
يَشْتَرُونَ بِهَا السِّلَعَ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّهُمْ يُبَاعُ
غَيْرُهُمْ كَمَا يُبَاعُونَ فَلَا يَرْبَحُ عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ أَكْثَرَ مِنْ
غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ الْمُضْطَرُّ الَّذِي لَا يَجِدُ حَاجَتَهُ إلَّا عِنْدَ
هَذَا الشَّخْصِ . يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْبَحَ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا يَرْبَحُ عَلَى
غَيْرِ الْمُضْطَرِّ ؛ فَإِنَّ فِي السُّنَنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ } وَلَوْ كَانَتْ الضَّرُورَةُ
إلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ : مِثْلَ أَنْ يَضْطَرَّ النَّاسُ إلَى مَا عِنْدَهُ
مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُمْ
إلَّا بِالْقِيمَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَا يُعْطُوهُ
زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ بَاعَ قَمْحًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ لَمْ
يَكُنْ عِنْدَ الْمَدِينِ إلَّا قَمْحًا . فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ
قَمْحًا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَمْحًا وَلَيْسَ ذَلِكَ رِبًا عِنْدَ
جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَإِذَا كَانَ
أَخْذُ الْقَمْحِ أَرْفَقَ بِالْمَدِينِ مِنْ أَنْ يُكَلِّفَهُ بَيْعَهُ
وَإِعْطَاءَ الدَّرَاهِمِ فَالْأَفْضَلُ لِلْغَرِيمِ أَخْذُ الْقَمْحِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى غَلَّةً بِدِرْهَمٍ مُعَيَّنٍ إلَى أَجَلٍ وَعِنْدَ
نِهَايَةِ الْأَجَلِ قَصَدَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَخْذَ مَالِهِ فَلَمْ يَجِدْ
شَيْئًا إلَّا غَلَّةً قِيمَتُهَا بِالسِّعْرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَتَعَيَّنَتْ
بِالدَّرَاهِمِ عَنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَهَلْ يَجُوزُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ
أَنْ يَأْخُذَ الْغَلَّةَ بِالسِّعْرِ الْوَاقِعِ ؟
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ : مِثْلَ أَنْ يَبِيعَ حِنْطَةً إلَى
أَجَلٍ ثُمَّ يَأْخُذَ عَنْ الثَّمَنِ حِنْطَةً فَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد لَا
يَصِحُّ هَذَا ؛ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ
قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ دَيْنٌ وَلِلْمَدْيُونِ وَلَدٌ فَقَالَ
وَلَدُ الْمَدْيُونِ لِرَبِّ الدَّيْنِ : بِعْنِي سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ وَأَنَا
أَبِيعُهَا بِالدَّرَاهِمِ الْحَاضِرَةِ
وَيُوَفِّي مَا عَلَى وَالِدِهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ وَغَرَضُهُ
أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ لِيَبِيعَهَا وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا فَهَذِهِ
تُسَمَّى " مَسْأَلَةُ التَّوَرُّقِ " لِأَنَّ غَرَضَهُ الْوَرِقُ لَا
السِّلْعَةُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهَتِهِ فَكَرِهَهُ عُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : مِنْ
الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد
وَرَخَّصَ فِيهِ آخَرُونَ وَالْأَقْوَى كَرَاهَتُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَيَحْتَاجُ إلَى بِضَاعَةٍ أَوْ حَيَوَانٍ
لِيَنْتَفِعَ بِهِ أَوْ يَتَّجِرَ فِيهِ فَيَطْلُبَهُ مِنْ إنْسَانٍ دَيْنًا
فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ . هَلْ لِلْمَطْلُوبِ مِنْهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ ثُمَّ
يُدِينَهُ مِنْهُ إلَى أَجَلٍ ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي شِرَائِهِ ثُمَّ
يَبِيعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِرِبْحٍ اتَّفَقَا عَلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ ؟ .
فَأَجَابَ :
مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ
يُوَفِّيَهُ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَجَبَ إنْظَارُهُ وَلَا يَجُوزُ قَلْبُهُ
عَلَيْهِ بِمُعَامَلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا . وَأَمَّا الْبَيْعُ إلَى أَجَلٍ
ابْتِدَاءً فَإِنْ كَانَ قَصْدُ الْمُشْتَرِي الِانْتِفَاعَ بِالسِّلْعَةِ
وَالتِّجَارَةَ فِيهَا جَازَ إذَا كَانَ
عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَاحِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الدَّرَاهِمَ
فَيَشْتَرِي بِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ وَيَبِيعُهَا فِي السُّوقِ بِسَبْعِينَ
حَالَّةٍ فَهَذَا مَذْمُومٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ
. وَهَذَا يُسَمَّى " التَّوَرُّقُ " قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا التَّوَرُّقُ أخية الرِّبَا .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ طَلَبَ مِنْ إنْسَانٍ سِلْعَةً تُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ قَالَ : إنَّهُ
مَا يُعْطَى إلَّا بِثَمَانِيَةِ وَعِشْرِينَ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْآخِذِ أَنْ
يَأْخُذَ مَعَ عِلْمِهِ بِالزِّيَادَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُحْتَاجًا إلَى الدَّرَاهِمِ فَاشْتَرَاهَا لِيَبِيعَهَا
وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا فَهَذَا يُسَمَّى " التَّوَرُّقُ " وَإِنْ كَانَ
الْمُشْتَرِي غَرَضُهُ أَخْذَ الْوَرِقِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : التَّوَرُّقُ أخية
الرِّبَا . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا قَوَّمْت بِنَقْدِ ثُمَّ بِعْت
بِنَسِيئَةِ : فَتِلْكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
عَنْ أَحْمَد .
وَسُئِلَ :
عَنْ تَاجِرَيْنِ عُرِضَتْ عَلَيْهِمَا سِلْعَةٌ لِلْبَيْعِ فَرَغِبَ فِي
شِرَائِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ أَشْتَرِيهَا
شَرِكَةً بَيْنِي وَبَيْنَك وَكَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَيْهِ فِي
ثَمَنِهَا وَيَنْفَرِدَ فِيهَا فَرَغِبَ فِي الشَّرِكَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ
فَاشْتَرَاهَا أَحَدُهُمَا وَدَفَعَ ثَمَنَهَا مِنْ مَالِهِمَا عَلَى السَّوِيَّةِ
. فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟ أَوْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ
دُلْسَةٌ عَلَى بَائِعِهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إذَا كَانَ فِي السُّوقِ مَنْ يُزَايِدُهُمَا
وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا تَرَكَ مُزَايَدَةَ صَاحِبِهِ خَاصَّةً لِأَجْلِ
مُشَارَكَتِهِ لَهُ : فَهَذَا لَا يَحْرُمُ ؛ فَإِنَّ بَابَ الْمُزَايَدَةِ
مَفْتُوحٌ وَإِنَّمَا تَرَكَ أَحَدُهُمَا مُزَايَدَةَ الْآخَرِ ؛ بِخِلَافِ مَا
إذَا اتَّفَقَ أَهْلُ السُّوقِ عَلَى أَنْ لَا يُزَايِدُوا فِي سِلَعٍ هُمْ
مُحْتَاجُونَ لَهَا لِيَبِيعَهَا صَاحِبُهَا بِدُونِ قِيمَتِهَا ويتقاسمونها
بَيْنَهُمْ فَإِنَّ هَذَا قَدْ يَضُرُّ صَاحِبَهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَضُرُّ
تَلَقِّي السِّلَعِ إذَا بَاعَهَا مُسَاوَمَةً ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ بَخْسِ
النَّاسِ مَا لَا يَخْفَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ سَمَاسِرَةٍ فِي فُنْدُقٍ مِنْ جُمْلَتِهِمْ ثَلَاثَةٌ يَشْتَرُونَ مِنْ يَدِ
بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ ثُمَّ إنَّهُمْ يَزِيدُونَ فِي الشِّرَاءِ وَيُقَسِّمُونَ
الْفَائِدَةَ ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَجُوزُ لِلدَّلَّالِ - الَّذِي هُوَ وَكِيلُ الْبَائِعِ
فِي الْمُنَادَاةِ - أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لِمَنْ يَزِيدُ بِغَيْرِ عِلْمِ
الْبَائِعِ ؛ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ هُوَ الَّذِي يَزِيدُ وَيَشْتَرِي فِي
الْمَعْنَى . وَهَذَا خِيَانَةٌ لِلْبَائِعِ وَمَنْ عَمِلَ مِثْلَ هَذَا لَمْ
يَجِبْ أَنْ يَزِيدَ أَحَدٌ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْصَحْ الْبَائِعُ فِي طَلَبِ
الزِّيَادَةِ وَإِنْهَاءِ الْمُنَادَاةِ . وَإِذَا تَوَاطَأَ جَمَاعَةٌ عَلَى
ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ الَّذِي يَرْدَعُهُمْ
وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْخِيَانَةِ وَمِنْ تَعْزِيرِهِمْ أَنْ
يُمْنَعُوا مِنْ الْمُنَادَاةِ ، حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مُعْسِرٍ تَدَايَنَ مِنْ رَجُلٍ قَمْحًا بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ وَلَمْ
يَتَغَيَّرْ سِعْرُهُ مِنْ مُدَّةِ مَا اسْتَدَانَهُ وَإِلَى أَجَلِ
اسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ أَدَانَهُ إيَّاهُ وَوَصَفَهُ لَهُ بِصِفَةِ . وَذَكَرَ
لَهُ أَنَّهُ يُسَاوِي سِتَّةَ عَشَرَ كُلُّ إرْدَبٍّ . وَكَتَبَ حُجَّةً .
وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّ كُلَّ إرْدَبٍّ بِاثْنَيْنِ
وَثَلَاثِينَ . بَاعَهُ الْمَدْيُونُ بِبَيِّنَةِ وَإِشْهَادٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ
دِرْهَمٍ الْإِرْدَبُّ ؛ بِخِلَافِ مَا وَصَفَهُ الْمُسْتَدِينُ . وَقَدْ
اُسْتُحِقَّ الْأَجَلُ . وَعُسِرَ الْمَدْيُونُ فِي طَلَبِ مَا عَلَيْهِ . فَهَلْ
يُطَالَبُ الْمَدْيُونُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ ؟ أَوْ بِمَا كُتِبَ عَلَيْهِ ؟ أَوْ
بِقَمْحٍ مِثْلَ قَمْحِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْمُعْسِرُ فَلَا يَجُوزُ مُطَالَبَتُهُ بِمَا أُعْسِرَ عَنْهُ وَإِنْ
كَانَ حَقًّا وَاجِبًا وَجَبَ إنْظَارُهُ بِهِ . وَإِنْ كَانَ مُعَامَلَةً
رِبَوِيَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالَبَ إلَّا بِرَأْسِ مَالِهِ . وَبَيْعُ
الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بِغَيْرِ صِفَةِ بَيْعٍ بَاطِلٌ يَجِبُ فِيهِ رَدُّ
الْمَبِيعِ أَوْ رَدُّ بَدَلِهِ . وَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الثَّمَنَ الْمُسَمَّى
. فَكَيْفَ إذَا قَالَ : هَذَا يُسَاوِي السَّاعَةَ كَذَا وَكَذَا وَأَنَا
أَبِيعُكَهُ بِكَذَا . أَكْثَرُ مِنْهُ إلَى أَجَلٍ ؟ فَهَذَا رِبًا . كَمَا قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا قَوَّمْت نَقْدًا وَبِعْت نَقْدًا
فَلَا بَأْسَ وَإِذَا قَوَّمْت نَقْدًا وَبِعْت إلَى أَجَلٍ
فَتِلْكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ .
وَهَذَا قَوَّمَ نَقْدًا وَبَاعَ إلَى أَجَلٍ . وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ
فَسَخَ الْبَيْعَ لِفَوَاتِ الصِّفَةِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ رَدُّ الْمَبِيعِ إلَى
الْبَائِعِ بِعَيْنِهِ وَلَا حِفْظُهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ أَحَدٍ فَبَاعَهُ وَحَفِظَ
لَهُ ثَمَنَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ الثَّمَنِ . إذَا كَانَ قَدْ
بَاعَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مُرَابٍ خَلَّفَ مَالًا وَوَلَدًا وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَالِهِ . فَهَلْ
يَكُونُ الْمَالُ حَلَالًا لِلْوَلَدِ بِالْمِيرَاثِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَعْلَمُ الْوَلَدُ أَنَّهُ رِبًا فَيُخْرِجُهُ إمَّا
أَنْ يَرُدَّهُ إلَى أَصْحَابِهِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهِ .
وَالْبَاقِي لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ؛ لَكِنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَبَهَ يُسْتَحَبُّ
لَهُ تَرْكُهُ . إذَا لَمْ يَجِبْ صَرْفُهُ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ نَفَقَةِ
عِيَالٍ . وَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَبَضَهُ بِالْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ
الَّتِي يُرَخِّصُ فِيهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ . جَازَ لِلْوَارِثِ الِانْتِفَاعُ
بِهِ . وَإِنْ اخْتَلَطَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ وَجَهِلَ قَدْرَ كُلٍّ مِنْهُمَا
جَعَلَ ذَلِكَ نِصْفَيْنِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الرَّجُلِ يَخْتَلِطُ مَالُهُ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ ؟ .
فَأَجَابَ :
يُخْرِجُ قَدْرَ الْحَرَامِ بِالْمِيزَانِ . فَيَدْفَعُهُ إلَى صَاحِبِهِ .
وَقَدْرُ الْحَلَالِ لَهُ . وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَتَعَذَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ :
تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ كَانَتْ مُغَنِّيَةً . وَاكْتَسَبَتْ فِي جَهْلِهَا مَالًا
كَثِيرًا . وَقَدْ تَابَتْ وَحَجَّتْ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى : وَهِيَ
مُحَافِظَةٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ . فَهَلْ الْمَالُ الَّذِي اكْتَسَبْته مِنْ
حِلٍّ وَغَيْرِهِ ؛ إذَا أَكَلَتْ وَتَصَدَّقَتْ مِنْهُ ؛ تُؤْجَرُ عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْمَالُ الْمَكْسُوبُ إنْ كانت عَيْنٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ فِي نَفْسِهَا .
وَإِنَّمَا حَرُمَتْ بِالْقَصْدِ . مِثْلَ مَنْ يَبِيعُ عِنَبًا لِمَنْ
يَتَّخِذُهُ خَمْرًا . أَوْ مَنْ يُسْتَأْجَرُ لِعَصْرِ الْخَمْرِ أَوْ حَمْلِهَا
. فَهَذَا يَفْعَلُهُ بِالْعِوَضِ ؛ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ أَكْلُهُ .
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْعَيْنُ أَوْ
الْمَنْفَعَةُ مُحَرَّمَةً : كَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَثَمَنِ الْخَمْرِ . فَهُنَا
لَا يُقْضَى لَهُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ . وَلَوْ أَعْطَاهُ إيَّاهُ لَمْ يُحْكَمْ
بِرَدِّهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مَعُونَةٌ لَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي : إذَا جَمَعَ
لَهُمْ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ . وَلَا يَحِلُّ هَذَا الْمَالُ
لِلْبَغِيِّ وَالْخَمَّارِ وَنَحْوِهِمَا ؛ لَكِنْ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ
الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ تَابَتْ هَذِهِ الْبَغِيُّ وَهَذَا الْخَمَّارُ وَكَانُوا
فُقَرَاءَ جَازَ أَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ مِقْدَارُ
حَاجَتِهِمْ فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ يَتَّجِرُ أَوْ يَعْمَلُ صَنْعَةً كَالنَّسْجِ
وَالْغَزْلِ أُعْطِيَ مَا يَكُونُ لَهُ رَأْسُ مَالٍ وَإِنْ اقْتَرَضُوا مِنْهُ
شَيْئًا لِيَكْتَسِبُوا بِهِ وَلَمْ يَرُدُّوا عِوَضَ الْقَرْضِ كَانَ أَحْسَنَ . وَأَمَّا
إذَا تَصَدَّقَ بِهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ عَلَيْهِ أَنْ
يَتَصَدَّقَ بِهِ فَهَذَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَّا إنْ تَصَدَّقَ بِهِ كَمَا
يَتَصَدَّقُ الْمَالِكُ بِمِلْكِهِ فَهَذَا لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ - إنَّ اللَّهَ
لَا يَقْبَلُ إلَّا الطَّيِّبَ - فَهَذَا خَبِيثٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ } .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْجِهَاتِ بِالزَّكَاةِ وَالضَّمَانِ بِالْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهَا إذَا
أَجْرَاهُمْ
السُّلْطَانُ فِي أَقْطَاعِ الْجُنْدِ :
حَلَالٌ ؟ أَمْ حَرَامٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُحْتَاجًا . وَالْجِهَةُ فِيهَا حَلَالٌ وَحَرَامٌ
أَوْ فِيهَا شُبْهَةٌ فَيَنْبَغِي لِصَاحِبِهَا إذَا أَخَذَهَا وَلَا بُدَّ أَنْ
يَصْرِفَهَا فِي الْأُمُورِ البرانية مِثْلَ عَلَفِ دَابَّتِهِ وَالْكُلَفِ
السُّلْطَانِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ
أَوْ نَوَى الصَّدَقَةَ بِهَا عَمَّنْ يَسْتَحِقُّهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ إقْطَاعٌ بالأطرون وَكَانَ عَادَةُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ
يَشْتَرِيَ الأطرون الصَّعَالِيكُ وَيَبِيعُوهُ كُلَّ رِطْلٍ بِثَلَاثَةِ فُلُوسٍ
وَلَمَّا كَانَ زَمَانُ بيبرس جَاءَ شَخْصٌ ضَمِنَ الأطرون أَنْ لَا يَبِيعَ
أَحَدٌ وَلَا يَشْتَرِيَ إلَّا مِنْ تَحْتِ يَدِ الضَّامِنِ بِثَلَاثَةِ
وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا الْقِنْطَارَ فَهَلْ هُوَ حَلَالٌ ؟ أَمْ حَرَامٌ ؟
فَأَجَابَ :
مَنْ كَانَ الأطرون قَدْ أَخَذَهُ بِحَقٍّ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُكْرِهُ
أَحَدًا عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ وَلَا يَمْنَعَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِهِ
؛ بَلْ إذَا أَخَذَهُ بِحَقٍّ وَبَاعَهُ كَمَا تُبَاعُ سِلَعُ الْمُسْلِمِينَ
بِذَلِكَ جَازَ .
وَسُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ
الْعَالِمُ الْعَامِلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَقُطْبُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ
وَمَنْ عَمَّتْ بَرَكَاتُهُ أَهْلَ الْعِرَاقَيْنِ وَالشَّامِ تَقِيُّ الدِّينِ
أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ
تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ مَتَّعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ
بِبَرَكَاتِهِ وَكَانَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ :
عَنْ رَجُلٍ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ قَالَ :
أَكْلُ الْحَلَالِ مُتَعَذَّرٌ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
فَقِيلَ لَهُ : لِمَ ذَلِكَ ؟ فَذَكَرَ : إنَّ وَقْعَةَ الْمَنْصُورَةِ لَمْ
تُقَسَّمْ الْغَنَائِمُ فِيهَا وَاخْتَلَطَتْ الْأَمْوَالُ بِالْمُعَامَلَاتِ
بِهَا . فَقِيلَ لَهُ : إنَّ الرَّجُلَ يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ مِنْ
الْأَعْمَالِ الْمُبَاحَةِ وَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ حَلَالٌ . فَذَكَرَ إنَّ
الدِّرْهَمَ فِي نَفْسِهِ حَرَامٌ . فَقِيلَ لَهُ : كَيْفَ قَبِلَ الدِّرْهَمُ
التَّغَيُّرَ أَوَّلًا فَصَارَ حَرَامًا بِالسَّبَبِ الْمَمْنُوعِ وَلَمْ يَقْبَلْ
التَّغَيُّرَ فَيَكُونُ حَلَالًا بِالسَّبَبِ الْمَشْرُوعِ فَمَا الْحُكْمُ فِي
ذَلِكَ ؟ ؟
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ اللَّه ، هَذَا الْقَائِلُ الَّذِي قَالَ : أَكْلُ الْحَلَالِ
مُتَعَذَّرٌ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ غالط مُخْطِئٌ فِي
قَوْلِهِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ
الْمَقَالَةِ كَانَ يَقُولُهَا بَعْضُ أَهْلِ
الْبِدَعِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْفِقْهِ الْفَاسِدِ وَبَعْضُ أَهْلِ النُّسُكِ الْفَاسِدِ فَأَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ ذَلِكَ حَتَّى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي وَرَعِهِ الْمَشْهُورِ كَانَ يُنْكِرُ مِثْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ . وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ النُّسَّاكِ فَذَكَرَ لَهُ شَيْئًا مِنْ هَذَا فَقَالَ : اُنْظُرْ إلَى هَذَا الْخَبِيثِ يُحَرِّمُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ . يَقُولُ : مَنْ سَرَقَ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمَعْصُومِ وَمِثْلُ هَذَا كَانَ يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الشُّبْهَةِ الْفَاسِدَةِ وَهُوَ أَنَّ الْحَرَامَ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْأَمْوَالِ لِكَثْرَةِ الغصوب وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ الْحَلَالُ مِنْ الْحَرَامِ . وَوَقَعَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ مُصَنِّفِي الْفُقَهَاءِ فَأَفْتَوْا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مِقْدَارَ الضَّرُورَةِ وَطَائِفَةٌ لَمَّا رَأَتْ مِثْلَ هَذَا الْحَرَجِ سَدَّتْ بَابَ الْوَرَعِ . فَصَارُوا نَوْعَيْنِ : المباحية لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ؛ بَلْ الْحَلَالُ مَا حَلَّ بِأَيْدِيهِمْ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمُوهُ ؛ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا مِثْلَ هَذَا الظَّنِّ الْفَاسِدِ وَهُوَ أَنَّ الْحَرَامَ قَدْ طَبَّقَ الْأَرْضَ وَرَأَوْا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ فَصَارُوا يَتَنَاوَلُونَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ أَمْكَنَ . فَلْيَنْظُرْ الْعَاقِلُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الْوَرَعِ الْفَاسِدِ كَيْفَ أَوْرَثَ الِانْحِلَالَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ
وَهَؤُلَاءِ يَحْكُونَ فِي الْوَرَعِ الْفَاسِدِ حِكَايَاتٍ بَعْضُهَا كَذِبٌ مِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ وَبَعْضُهَا غَلَطٌ . كَمَا يَحْكُونَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد : أَنَّ ابْنَهُ صَالِحًا لَمَّا تَوَلَّى الْقَضَاءَ لَمْ يَكُنْ يَخْبِزُ فِي دَارِهِ وَأَنَّ أَهْلَهُ خَبَزُوا فِي تَنُّورِهِ فَلَمْ يَأْكُلْ الْخُبْزَ فَأَلْقَوْهُ فِي دِجْلَةَ فَلَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ مِنْ صَيْدِ دِجْلَةَ . وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ وَالْفِرْيَةِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِمَامِ وَلَا يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا إلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ أَوْ أَعْظَمِهِمْ مَكْرًا بِالنَّاسِ وَاحْتِيَالًا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَقَدْ نَزَّهَهُ اللَّهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا . وَكُلُّ عَالِمٍ يَعْلَمُ أَنَّ ابْنَهُ لَمْ يَتَوَلَّ الْقَضَاءَ فِي حَيَاتِهِ وَإِنَّمَا تَوَلَّاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ وَلَكِنْ كَانَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ قَدْ أَجَازَ أَوْلَادَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ جَوَائِزَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَأَمَرَهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ لَا يَقْبَلُوا جَوَائِزَ السُّلْطَانِ فَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ بِالْحَاجَةِ فَقَبِلَهَا مَنْ قَبِلَهَا مِنْهُمْ فَتَرَكَ الْأَكْلَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَالِانْتِفَاعَ بِنِيرَانِهِمْ فِي خُبْزٍ أَوْ مَاءٍ ؛ لِكَوْنِهِمْ قَبِلُوا جَوَائِزَ السُّلْطَانِ . وَسَأَلُوهُ عَنْ هَذَا الْمَالِ : أَحَرَامٌ هُوَ ؟ فَقَالَ : لَا . فَقَالُوا أَنَحُجُّ مِنْهُ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ مِنْهُ لِئَلَّا يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى أَنْ يُدَاخِلَ الْخَلِيفَةَ فِيمَا يُرِيدُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذْ الْعَطَاءَ مَا كَانَ عَطَاءً فَإِذَا كَانَ عِوَضًا عَنْ دِينِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَأْخُذْهُ } وَلَوْ أُلْقِيَ فِي دِجْلَةَ الدَّمُ وَالْمَيْتَةُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَكُلُّ حَرَامٍ فِي الْوُجُودِ لَمْ يَحْرُمْ صَيْدُهَا وَلَمْ تَحْرُمْ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ آلَ بِهِ الْإِفْرَاطُ فِي الْوَرَعِ إلَى أَمْرٍ اجْتَهَدَ فِيهِ
فَيُثَابُ عَلَى حُسْنِ قَصْدِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوعُ خِلَافَ مَا فَعَلَهُ . مِثْلَ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ مَا فِي الْأَسْوَاقِ وَلَمْ يَأْكُلْ إلَّا مَا يَنْبُتُ فِي الْبَرَارِي وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْثِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فَاعِلُهُ حَسَنَ الْقَصْدِ وَلَا فِيمَا فَعَلَ تَأْوِيلٌ ؛ لَكِنَّ الصَّوَابَ الْمَشْرُوعَ خِلَافُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَأَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلُ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ . يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ } فَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ . كَمَا أَمَرَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِأَكْلِ وَشُرْبٍ وَلِبَاسٍ . وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ مَسْكَنٍ وَمَرْكَبٍ وَسِلَاحٍ يُقَاتِلُ بِهِ وَكُرَاعٍ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ وَكُتُبٍ يَتَعَلَّمُ مِنْهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقُومُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ إلَّا بِهِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . فَإِذَا كَانَ الْقِيَامُ بِالْوَاجِبَاتِ فَرْضًا عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ وَهِيَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِهَذِهِ الْأَمْوَالِ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ قَلِيلٌ ؛ بَلْ هُوَ كَثِيرٌ غَالِبٌ ؛ بَلْ هُوَ
الْغَالِبُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ .
وَلَوْ كَانَ الْحَرَامُ هُوَ الْأَغْلَبَ وَالدِّينُ لَا يَقُومُ فِي
الْجُمْهُورِ إلَّا بِهِ لَلَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ
مِنْ أَكْثَرِ الْخَلْقِ . وَإِمَّا إبَاحَةُ الْحَرَامِ لِأَكْثَرِ الْخَلْقِ
وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ . وَ " الْوَرَعُ " مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ فَفِي
الصَّحِيحِ عَنْ الْنُعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ
وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ
فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي
الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ
أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ
مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ
كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ
} . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } {
وَرَأَى تَمْرَةً سَاقِطَةً فَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ
الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتهَا } . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِذِكْرِ أُصُولٍ : " أَحَدُهَا " : أَنَّهُ لَيْسَ
كُلُّ مَا اعْتَقَدَ فَقِيهٌ مُعَيَّنٌ أَنَّهُ حَرَامٌ كَانَ حَرَامًا ؛ إنَّمَا
الْحَرَامُ مَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِالْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ
الْإِجْمَاعِ أَوْ قِيَاسٍ مُرَجِّحٍ لِذَلِكَ وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ
رُدَّ إلَى هَذِهِ الْأُصُولِ . وَمِنْ النَّاسِ
مَنْ يَكُونُ نَشَأَ عَلَى مَذْهَبِ
إمَامٍ مُعَيَّنٍ أَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا مُعَيَّنًا أَوْ سَمِعَ حِكَايَةً عَنْ
بَعْضِ الشُّيُوخِ فَيُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ
وَهَذَا غَلَطٌ وَلِهَذَا نَظَائِرُ .
مِنْهَا " مَسْأَلَةُ الْمَغَانِمِ " فَإِنَّ السُّنَّةَ أَنْ تُجْمَعَ
وَتُخَمَّسَ وَتُقَسَّمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بِالْعَدْلِ . وَهَلْ يَجُوزُ
لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .
فَمَذْهَبُ فُقَهَاءِ الثُّغُورِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَأَهْلِ الْحَدِيثِ
أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ لِمَا فِي السُّنَنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ فِي بَدْأَتِهِ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ وَنَفَلَ
فِي رَجْعَتِهِ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ } وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ بَلْ يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ
التَّنْفِيلُ مِنْ الْخُمُسِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إلَّا مِنْ
خُمُسِ الْخُمُسِ . كَانَ أَحْمَد يَعْجَبُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
وَمَالِكٍ كَيْفَ لَمْ تَبْلُغْهُمَا هَذِهِ السُّنَّةُ مَعَ وُفُورِ عِلْمِهِمَا
. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ :
بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ
قِبَلَ نَجْدٍ فَبَلَغَتْ سِهَامُنَا اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا وَنَفَلَنَا بَعِيرًا
بَعِيرًا } وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّهْمَ إذَا كَانَ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا لَمْ
يَحْتَمِلْ خُمُسَ الْخُمُسِ أَنْ يُخْرَجَ مِنْهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَعِيرٌ ؛
فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ السَّهْمُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ
بَعِيرًا . وَكَذَلِكَ إذَا فَضَّلَ الْإِمَامُ بَعْضَ الْغَانِمِينَ عَلَى بَعْضٍ
لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ كَمَا أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ فِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ سَهْمَ رَاجِلٍ وَفَارِسٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُجِيزُهُ كَمَا تَقَدَّمَ . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْإِمَامُ : مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَلَمْ تُقَسَّمْ الْغَنَائِمُ . فَهَذَا جَائِزٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَلَا يَجُوزُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَفِي كُلٍّ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ خِلَافٌ . وَعَلَى مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ تَنْبَنِي " الْغَنَائِمُ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ " مِثْلَ الْغَنَائِمِ الَّتِي كَانَ يَغْنَمُهَا السَّلَاجِقَةُ الْأَتْرَاكُ وَالْغَنَائِمُ الَّتِي غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ النَّصَارَى مِنْ ثُغُورِ الشَّامِ وَمِصْرَ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ أَفْتَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - كَأَبِي مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي والنواوي - أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهَا شَيْئًا وَلَا يَطَأَ مِنْهَا فَرْجًا وَلَا يَمْلِكَ مِنْهَا مَالًا وَلَزِمَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ الْفَسَادِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ . فَعَارَضَهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ سِبَاعٍ الشَّافِعِيُّ فَأَفْتَى : أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِسْمَةُ الْمَغَانِمِ بِحَالِ وَلَا تَخْمِيسُهَا وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ الرَّاجِلَ وَأَنْ يَحْرِمَ بَعْضَ الْغَانِمِينَ وَيَخُصَّ بَعْضَهُمْ وَزَعَمَ أَنَّ سِيرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْتَضِي ذَلِكَ . وَهَذَا الْقَوْلُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ بَاطِلٌ وَمُنْكَرٌ أَيْضًا فَكِلَاهُمَا انْحِرَافٌ . وَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذِهِ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَالَ : مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ ذَلِكَ فَمَنْ
أَخَذَ شَيْئًا مَلَكَهُ وَعَلَيْهِ تَخْمِيسُهُ ؛ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَمْ
يَقُلْ ذَلِكَ وَلَمْ يَهَبْهُمْ الْمَغَانِمَ ؛ بَلْ أَرَادَ مِنْهَا مَا لَا
يُسَوَّغُ بِالِاتِّفَاقِ . أَوْ قِيلَ : إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَسِّمَ
بِالْعَدْلِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْإِذْنُ بِالِانْتِهَابِ . فَهُنَا الْمَغَانِمُ
مَالٌ مُشْتَرَكٌ بَيْن الْغَانِمِينَ ؛ لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ فِيهَا حَقٌّ .
فَمَنْ أَخَذَ مِنْهَا مِقْدَارَ حَقِّهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ . وَإِذَا شَكَّ فِي
ذَلِكَ : فَإِمَّا أَنْ يَحْتَاطَ وَيَأْخُذَ بِالْوَرَعِ الْمُسْتَحَبِّ . أَوْ
يَبْنِيَ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ . وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا
وُسْعَهَا . كَذَلِكَ " الْمُزَارَعَةُ " عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ
مِنْ الْعَامِلِ الَّتِي يُسَمِّيهَا بَعْضُ النَّاسِ الْمُخَابَرَةَ . وَقَدْ
تَنَازَعَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ ؛ لَكِنْ ثَبَتَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحِيحَةِ جَوَازُهَا ؛ فَإِنَّهُ عَامَلَ أَهْلَ
خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ
يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ .
وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ الْمُخَابَرَةِ : فَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الصَّحِيحِ
؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يَشْتَرِطَ لِلْمَالِكِ زَرْعَ بُقْعَةٍ
بِعَيْنِهَا . وَكَذَلِكَ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ مِنْهَا .
فَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد : فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ
. وَنَهَى عَنْهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ
. فَهَذَا بَيِّنٌ .
الْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا عَامَلَ مُعَامَلَةً يَعْتَقِدُ
هُوَ جَوَازَهَا وَقَبَضَ الْمَالَ جَازَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ
يُعَامِلَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَالِ . وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ جَوَازَ تِلْكَ
الْمُعَامَلَةِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُفِعَ إلَيْهِ
أَنَّ بَعْضَ عُمَّالِهِ يَأْخُذُ خَمْرًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ
الْجِزْيَةِ فَقَالَ قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا أَمَا عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ
حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا
أَثْمَانَهَا } . ثُمَّ قَالَ عُمَرُ : وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا مِنْهُمْ
أَثْمَانَهَا . فَأَمَرَ عُمَرُ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ
الدَّرَاهِمَ الَّتِي بَاعُوا بِهَا الْخَمْرَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ
جَوَازَ ذَلِكَ فِي دِينِهِمْ . وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّ الْكُفَّارَ
إذَا تَعَامَلُوا بَيْنَهُمْ بِمُعَامَلَاتٍ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهَا
وَتَقَابَضُوا الْأَمْوَالَ ثُمَّ أَسْلَمُوا كَانَتْ تِلْكَ الْأَمْوَالُ لَهُمْ
حَلَالًا وَإِنْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا أَقْرَرْنَاهَا فِي أَيْدِيهِمْ سَوَاءٌ
تَحَاكَمُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ فِي الذِّمَمِ مِنْ
الرِّبَا وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ مَا قَبَضُوهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَسْتَحِلُّونَ ذَلِكَ .
وَالْمُسْلِمُ إذَا عَامَلَ مُعَامَلَاتٍ يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا كَالْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ
الَّتِي يُفْتِي بِهَا مَنْ يُفْتِي مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَخَذَ
ثَمَنَهُ أَوْ زَارَعَ عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ الْعَامِلِ أَوْ أَكْرَى
الْأَرْضَ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ مِنْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَبَضَ الْمَالَ
جَازَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَامِلَهُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ
وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ جَوَازَ تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى
وَالْأَحْرَى وَلَوْ أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ رُجْحَانُ التَّحْرِيمِ
لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الْمَالِ الَّذِي كَسَبَهُ
بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا
أَوْلَى بِالْعَفْوِ وَالْعُذْرِ مِنْ الْكَافِرِ الْمُتَأَوِّلِ وَلَمَّا ضَيَّقَ
بَعْضُ الْفُقَهَاءِ هَذَا عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْوَرَعِ أَلْجَأَهُ إلَى أَنْ
يُعَامِلَ الْكُفَّارَ وَيَتْرُكَ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَأْمُرُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أَمْوَالِ
الْكُفَّارِ وَيَدَعَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ الْمُسْلِمُونَ أَوْلَى
بِكُلِّ خَيْرٍ وَالْكُفَّارُ أَوْلَى بِكُلِّ شَرٍّ .
الْأَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْحَرَامَ نَوْعَانِ : حَرَامٌ لِوَصْفِهِ
كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ . فَهَذَا إذَا اخْتَلَطَ
بِالْمَاءِ وَالْمَائِعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَغَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ
لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ حَرَّمَهُ . وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْهُ فَفِيهِ نِزَاعٌ
لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَالثَّانِي الْحَرَامُ لِكَسْبِهِ : كَالْمَأْخُوذِ
غَصْبًا أَوْ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَهَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالْحَلَالِ لَمْ
يُحَرِّمْهُ فَلَوْ غَصَبَ الرَّجُلُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ دَقِيقًا
أَوْ حِنْطَةً أَوْ خُبْزًا وَخَلَطَ ذَلِكَ بِمَالِهِ لَمْ يُحَرِّمْ الْجَمِيعَ
لَا عَلَى هَذَا وَلَا عَلَى هَذَا ؛ بَلْ إنْ كَانَا مُتَمَاثِلَيْنِ أَمْكَنَ
أَنْ يُقَسِّمُوهُ وَيَأْخُذَ هَذَا قَدْرَ حَقِّهِ وَهَذَا قَدْرَ حَقِّهِ وَإِنْ
كَانَ قَدْ وَصَلَ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عَيْنُ مَالِ الْآخَرِ ؛ الَّذِي أَخَذَ
الْآخَرُ نَظِيرَهُ . وَهَلْ يَكُونُ الْخَلْطُ كَالْإِتْلَافِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ
فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ
كَالْإِتْلَافِ فَيُعْطِيهِ مِثْلَ حَقِّهِ مِنْ أَيْنَ أَحَبَّ .
وَالثَّانِي أَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ فِيهِ .
فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَطْلُبَ حَقَّهُ مِنْ الْمُخْتَلَطِ فَهَذَا أَصْلٌ نَافِعٌ ؛
فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ الْمُحَرَّمَةَ
إذَا اخْتَلَطَتْ بِالدَّرَاهِمِ الْحَلَالِ حَرُمَ الْجَمِيعُ فَهَذَا خَطَأٌ ؛
وَإِنَّمَا تَوَرَّعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا إذَا كَانَتْ قَلِيلَةً وَأَمَّا
مَعَ الْكَثْرَةِ فَمَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا .
الْأَصْلُ الرَّابِعُ : الْمَالُ إذَا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ مَالِكِهِ صُرِفَ فِي
مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَحْمَد
وَغَيْرِهِمَا فَإِذَا كَانَ بِيَدِ الْإِنْسَانِ غصوب أَوْ عَوَارٍ أَوْ
وَدَائِعُ أَوْ رُهُونٌ قَدْ يَئِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ أَصْحَابِهَا فَإِنَّهُ
يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُمْ أَوْ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ
يُسَلِّمُهَا إلَى قَاسِمٍ عَادِلٍ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ
الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ : تَوَقَّفَ
أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَصْحَابَهَا ؟ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ . فَإِنَّ
حَبْسَ الْمَالِ دَائِمًا لِمَنْ لَا يُرْجَى لَا فَائِدَةَ فِيهِ ؛ بَلْ هُوَ
تَعَرُّضٌ لِهَلَاكِ الْمَالِ وَاسْتِيلَاءِ الظَّلَمَةِ عَلَيْهِ . وَكَانَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَدْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَدَخَلَ بَيْتَهُ
لِيَأْتِيَ بِالثَّمَنِ فَخَرَجَ فَلَمْ يَجِدْ الْبَائِعَ فَجَعَلَ يَطُوفُ عَلَى
الْمَسَاكِينِ وَيَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ بِالثَّمَنِ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ عَنْ
رَبِّ الْجَارِيَةِ فَإِنْ قُبِلَ فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ فَهُوَ لِي
وَعَلَيَّ لَهُ مِثْلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَكَذَلِكَ أَفْتَى بَعْضُ التَّابِعِينَ
مَنْ غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَتَابَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ أَنْ يَتَصَدَّقَ
بِذَلِكَ عَنْهُمْ وَرَضِيَ بِهَذِهِ الْفُتْيَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ
الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ كمعاوية وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَهَذَا
يُبَيِّنُ :
الْأَصْلَ الْخَامِسَ : وَهُوَ الَّذِي يَكْشِفُ سِرَّ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمَجْهُولَ فِي الشَّرِيعَةِ كَالْمَعْدُومِ وَالْمَعْجُوزِ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَاَللَّهُ إذَا أَمَرَنَا بِأَمْرٍ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ . فَمَا عَجَزْنَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ أَوْ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ سَقَطَ عَنَّا ؛ وَلِهَذَا { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللُّقَطَةِ : فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدَّاهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } فَهَذِهِ اللُّقَطَةُ كَانَتْ مِلْكًا لِمَالِكٍ وَوَقَعَتْ مِنْهُ فَلَمَّا تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ مَالِكِهَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ شَاءَ أَنْ يُزِيلَ عَنْهَا مِلْكَ ذَلِكَ الْمَالِكِ وَيُعْطِيَهَا لِهَذَا الْمُلْتَقِطِ الَّذِي عَرَّفَهَا سَنَةً . وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ بَعْدَ تَعْرِيفِ السَّنَةِ يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا . وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا إنْ كَانَ فَقِيرًا . وَهَلْ لَهُ التَّمَلُّكُ مَعَ الْغِنَى ؟ . فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ . وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجَوِّزُهُ . وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ وَارِثٌ صُرِفَ مَالُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَ الْوَارِثُ يُسَلِّمُ إلَيْهِ مَالَهُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ تَبَيُّنِهِ يَكُونُ صَرْفُهُ إلَى مَنْ يَصْرِفُهُ جَائِزًا
وَأَخْذُهُ لَهُ غَيْرَ حَرَامٍ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ يَمُوتُ وَلَهُ عَصَبَةٌ بَعْدُ لَمْ تُعْرَفْ . وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَيُقَالُ : مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَقْبُوضَةِ بِعُقُودٍ لَا تُبَاحُ بِالْقَبْضِ إنْ عَرَفَهُ الْمُسْلِمُ اجْتَنَبَهُ . فَمَنْ عَلِمْت أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا أَوْ خَانَهُ فِي أَمَانَتِهِ أَوْ غَصَبَهُ فَأَخَذَهُ مِنْ الْمَغْصُوبِ قَهْرًا بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَجُزْ لِي أَنْ آخُذَهُ مِنْهُ ؛ لَا بِطَرِيقِ الْهِبَةِ وَلَا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ وَلَا وَفَاءً عَنْ أُجْرَةٍ وَلَا ثَمَنَ مَبِيعٍ وَلَا وَفَاءً عَنْ قَرْضٍ فَإِنَّ هَذَا عَيْنُ مَالِ ذَلِكَ الْمَظْلُومِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ قَبَضَهُ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ فِي مَذْهَبِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ جَازَ لِي أَنْ أَسْتَوْفِيَهُ مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْأُجْرَةِ وَالْقَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدُّيُونِ . وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ وَالْأَصْلُ فِيمَا بِيَدِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ مَلَكَهُ أَوْ يَكُونَ وَلِيًّا عَلَيْهِ ؛ كَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَوَلِيِّ بَيْتِ الْمَالِ . أَوْ يَكُونَ وَكِيلًا فِيهِ . وَمَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ أَوْ الْوِلَايَةِ جَازَ تَصَرُّفُهُ . فَإِذَا لَمْ أَعْلَمْ حَالَ ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهِ بَنَيْت الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَدْ غَصَبَهُ هُوَ وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَا كُنْت جَاهِلًا بِذَلِكَ وَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ فَلَيْسَ أَخْذِي لِثَمَنِ الْمَبِيعِ وَأُجْرَةِ الْعَمَلِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ بِدُونِ أَخْذِي اللُّقَطَةَ ؛ فَإِنَّ اللُّقَطَةَ أَخَذْتهَا بِغَيْرِ
عِوَضٍ ثُمَّ لَمْ أَعْلَمْ مَالِكِهَا وَهَذَا الْمَالُ لَا أَعْلَمُ لَهُ مَالِكًا غَيْرَ هَذَا وَقَدْ أَخَذْته عِوَضًا عَنْ حَقِّي فَكَيْفَ يَحْرُمُ هَذَا عَلَيَّ لَكِنْ إنْ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا - بِأَنَّ فِي مَالِهِ حَرَامًا - تُرِكَ مُعَامَلَتُهُ وَرَعًا . وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامًا فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا الْمُسْلِمُ الْمَسْتُورُ فَلَا شُبْهَةَ فِي مُعَامَلَتِهِ أَصْلًا وَمَنْ تَرَكَ مُعَامَلَتَهُ وَرَعًا كَانَ قَدْ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ بِدْعَةً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الغالط يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ اللُّحُومَ وَالْأَلْبَانَ الَّتِي تُؤْكَلُ قَدْ تَكُونُ فِي الْأَصْلِ قَدْ نُهِبَتْ أَوْ غُصِبَتْ . فَيُقَالُ : الْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ فَإِذَا لَمْ نَعْلَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّنَا كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا حَرَّمَ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ الظُّلْمِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } وَالْغَصْبُ وَأَنْوَاعُهُ وَالسَّرِقَةُ وَالْخِيَانَةُ دَاخِلٌ فِي الظُّلْمِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْمَظْلُومُ الَّذِي أُخِذَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ بِبَيْعٍ أَوْ أُجْرَةٍ وَأُخِذَ مِنْهُ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ ثُمَّ يُنْقَلُ مِنْ الْمُشْتَرِي
إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ إلَى غَيْرِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَظْلِمُوهُ وَإِنَّمَا ظَالِمُهُ مَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِ ؛ وَلَكِنْ لَوْ عَلِمَ بِهِمْ فَهَلْ لَهُ مُطَالَبَتُهُمْ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمُوا ضَمَانَهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ . مِثَالُ ذَلِكَ : أَنَّ الظَّالِمَ إذَا أَوْدَعَ مَالَهُ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ غَاصِبٌ فَتَلِفَتْ الْوَدِيعَةُ فَهَلْ لِلْمَالِكِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُودَعَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ أَطْعَمَ الْمَالَ لِضَيْفٍ لَمْ يَعْلَمْ بِالظُّلْمِ ثُمَّ عَلِمَ الْمَالِكُ فَهَلْ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّيْفِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ لَهُ مُطَالَبَتُهُ لَا يَقُولُ إنَّ أَكْلَهُ حَرَامٌ ؛ بَلْ يَقُولُ : لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهِ ؛ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَدَاءُ ثَمَنِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا اشْتَرَاهُ . وَصَاحِبُ الْقَوْلِ الصَّحِيحِ يَقُولُ : لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهِ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ بِحَالِ وَإِنَّمَا الْغُرْمُ عَلَى الْغَاصِبِ الظَّالِمِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ . فَإِذَا نَظَرْنَا إلَى مَالٍ مُعَيَّنٍ بِيَدِ إنْسَانٍ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ وَلَا مَقْبُوضٌ قَبْضًا لَا يُفِيدُ الْمَالِكَ وَاسْتَوْفَيْنَاهُ مِنْهُ أَوْ اتَّهَبْنَاهُ مِنْهُ أَوْ اسْتَوْفَيْنَاهُ عَنْ أُجْرَةٍ أَوْ بَدَلِ قَرْضٍ لَا إثْمَ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ . وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَدْ سَوَّقَهُ أَوْ غَصَبَهُ ثُمَّ إذَا عَلِمْنَا فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ مَسْرُوقٌ فَعَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا إلَّا مَا الْتَزَمْنَاهُ بِالْعَقْدِ أَيْ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْنَا إلَّا ضَمَانُ مَا الْتَزَمْنَاهُ بِالْعَقْدِ فَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْنَا ضَمَانُ مَا أَهْدَى أَوْ وَهَبَ ، وَلَا ضَمَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ ، وَكَذَلِكَ الْأُجْرَةُ
وَبَدَلُ الْقَرْضِ إذَا كُنَّا قَدْ تَصَرَّفْنَا فِيهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْنَا ضَمَانُ بَدَلِهِ . لَكِنْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ هُنَا فِي " مَسْأَلَةٍ " وَهِيَ أَنَّهُ : هَلْ لِلْمَالِكِ تَضْمِينُ هَذَا الْمَغْرُورِ الَّذِي تَلِفَ الْمَالُ تَحْتَ يَدِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْغَارِّ بِمَا غَرِمَهُ بِغُرُورِ ؟ أَمْ لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمَغْرُورِ إلَّا بِمَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَمِثْلُ هَذَا لَوْ غَصَبَ رَجُل جَارِيَةً فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ إنْسَانٌ وَاسْتَوْلَدَهَا أَوْ وَهَبَهُ إيَّاهَا فَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَهَا مِنْ الْمَغْرُورِ يَكُونُونَ أَحْرَارًا ؛ لِأَنَّ الْوَاطِئَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ ؛ بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَيَتْبَعُ أَبَاهُ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَمَعَ هَذَا فَجَعَلُوا ابْنَهُ حُرًّا لِكَوْنِ الْوَالِدِ لَمْ يَعْلَمْ وَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ . وَأَوْجَبُوا لِسَيِّدِ الْجَارِيَةِ بَدَلَ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ لَوْلَا الْغُرُورُ فَإِذَا خَرَجُوا عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَانَ لَهُ بَدَلُهُمْ وَأَوْجَبُوا لَهُ مَهْرَ أَمَةٍ . وَقَالُوا فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ : أَنَّ هَذَا يَلْزَمُ الْغَارَّ الظَّالِمَ الَّذِي غَصَبَ الْجَارِيَةَ وَبَاعَهَا ؛ لَا يَلْزَمُ الْمَغْرُورَ الْمُشْتَرِيَ إلَّا مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الثَّمَنُ فَقَطْ . ثُمَّ هَلْ لِصَاحِبِهَا أَنْ يُطَالِبَ الْمَغْرُورَ بِفِدَاءِ الْوَلَدِ وَالْمَهْرِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ الْمَغْرُورُ عَلَى الْغَارِّ الظَّالِمِ ؟ أَمْ لَيْسَ لَهُ إلَّا مُطَالَبَةُ الْغَارِّ الظَّالِمِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ وَطْأَهُ لَيْسَ بِحَرَامِ وَأَنَّ وَلَدَهُ وَلَدُ رِشْدَةٍ لَا وَلَدٌ عَنْهُ . فَهُوَ وَلَدُ حَلَالٍ لَا وَلَدُ
زِنًا وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ هَذِهِ
الصُّوَرِ لَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَى الْآكِلِ وَلَا عَلَى
اللَّابِسِ وَلَا عَلَى الْوَاطِئِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ . وَإِنَّمَا
تَنَازَعُوا فِي الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ
فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَهُوَ يَجِبُ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ : { وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ
يَصَّدَّقُوا } فَقَاتِلُ النَّفْسِ خَطَأً لَا يَأْثَمُ وَلَا يَفْسُقُ بِذَلِكَ
؛ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَذَلِكَ مَنْ أَتْلَفَ مَالًا مَغْصُوبًا خَطَأً
فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِثْمَ
مُنْتَفٍ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ .
وَحِينَئِذٍ فَجَمِيعُ الْأَمْوَالِ الَّتِي بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ
وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّتِي لَا يُعْلَمُ بِدَلَالَةٍ وَلَا أَمَارَةٍ
أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ أَوْ مَقْبُوضَةٌ قَبْضًا لَا يَجُوزُ مَعَهُ مُعَامَلَةُ
الْقَابِضِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مُعَامَلَتُهُمْ فِيهَا بِلَا رَيْبٍ وَلَا
تَنَازُعَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَعْلَمُهُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَالِبَ أَمْوَالِ النَّاسِ كَذَلِكَ وَالْقَبْضُ الَّذِي لَا
يُفِيدُ الْمِلْكَ هُوَ الظُّلْمُ الْمَحْضُ فَأَمَّا الْمَقْبُوضُ بِعَقْدٍ
فَاسِدٍ كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ ؛ وَنَحْوِهِمَا فَهَلْ يُفِيدُ الْمِلْكَ ؟
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ : " أَحَدُهَا " أَنَّهُ
يُفِيدُ الْمِلْكَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . " وَالثَّانِي "
لَا يُفِيدُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَعْرُوفِ
مِنْ مَذْهَبِهِ . " وَالثَّالِثُ " أَنَّهُ إنْ فَاتَ أَفَادَ الْمِلْكَ وَإِنْ أَمْكَنَ رَدَّهُ إلَى مَالِكِهِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ فِي وَصْفٍ وَلَا سِعْرٍ لَمْ يُفِدْ الْمِلْكَ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَالْقَوَاعِدُ قَدْ بَسَطْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ ؛ وَلَكِنْ نَبَّهْنَا عَلَى قَوَاعِدَ شَرِيفَةٍ تَفْتَحُ بَابَ الِاشْتِبَاهِ فِي هَذَا الْأَصْلِ ؛ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أُصُولِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ : إنَّ أُصُولَ الْإِسْلَامِ تَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ : قَوْلُهُ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } وَقَوْلُهُ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } . فَإِنَّ الْأَعْمَالَ إمَّا مَأْمُورَاتٌ وَإِمَّا مَحْظُورَاتٌ وَالْأَوَّلُ فِيهِ ذِكْرُ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمَأْمُورَاتِ أَمَّا قَصْدُ الْقَلْبِ وَهُوَ النِّيَّةُ وَأَمَّا الْعَمَلُ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ كَمَا قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصَهُ وَأَصْوَبَهُ ؟ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ . وَإِنْ كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا . وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ الَّذِي قَالَ : أَكْلُ الْحَلَالِ مُتَعَذَّرٌ وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ : قَوْلُهُ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ ؛ بَلْ
الْحَلَالُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى
أَمْوَالِ النَّاسِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الْحَرَامِ وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ
يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَأَعْرِفُ مَنْ
قَالَهُ مِنْ كِبَارِ الْمَشَايِخِ بِالْعِرَاقِ وَلَعَلَّهُ مِنْ أُولَئِكَ
انْتَقَلَ إلَى بَعْضِ شُيُوخِ مِصْرَ . ثُمَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ لَمْ يُرِدْ
أَنْ يَسُدَّ بَابَ الْأَكْلِ ؛ بَلْ قَالَ : الْوَرَعُ حِينَئِذٍ لَا سَبِيلَ
إلَيْهِ . ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَأْتِي فِيمَا يَفْعَلُ وَيَتْرُكُ . لَمْ
يَحْضُرْنِي الْآنَ . فَلْيَتَدَبَّرْ الْعَاقِلُ وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ
خَرَجَ عَنْ الْقَانُونِ النَّبَوِيِّ الشَّرْعِيِّ الْمُحَمَّدِيِّ الَّذِي دَلَّ
عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ
وَأَئِمَّتُهَا احْتَاجَ إلَى أَنْ يَضَعَ قَانُونًا آخَرَ مُتَنَاقِضًا يَرُدُّهُ
الْعَقْلُ وَالدِّينُ ؛ لَكِنْ مَنْ كَانَ مُجْتَهِدًا اُمْتُحِنَ بِطَاعَةِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَيَغْفِرُ
لَهُ خَطَأَهُ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
وَمَا ذَكَرَهُ : مِنْ أَنَّ وَقْعَةَ الْمَنْصُورَةِ لَمَّا لَمْ تُقَسَّمْ
فِيهَا الْمَغَانِمُ وَاخْتَلَطَتْ فِيهَا الْمَغَانِمُ دَخَلَتْ الشُّبْهَةُ .
الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ كَلَامَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ : الَّذِي
اخْتَلَطَ بِأَمْوَالِ النَّاسِ مِنْ الْحَرَامِ الْمَحْضِ كَالْغَصْبِ الَّذِي
يَغْصِبُهُ الْقَادِرُونَ مِنْ الْوُلَاةِ وَالْقُطَّاعِ . أَوْ أَهْلِ الْفِتَنِ
وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْخِيَانَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَكْثَرُ مِنْ
ذَلِكَ بِكَثِيرِ ؛
لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ ؛ فَإِنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ الشَّامِ وَالْمَغْرِبِ ظُلْمًا كَظُلْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي الْمُعَامَلَاتِ بِالْخِيَانَةِ وَالْغِشِّ وَجَحْدِ الْحَقِّ وَلِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنْ ظُلْمِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالْفَلَّاحِينَ وَالْأَعْرَابِ وَلِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنْ الظُّلْمِ الْمَوْضُوعِ مِنْ الْمُتَوَلِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِحَالَةُ التَّحْرِيمِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ أَوْلَى مِنْ إحَالَتِهِ عَلَى الْمَغَانِمِ . الثَّانِي أَنَّ تِلْكَ الْمَغَانِمِ قَدْ ذَكَرْنَا مَذْهَبَ الْفُقَهَاءِ فِيهَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَذِنَ فِي الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ قَسْمٍ جَازَ . وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ فَمَنْ أَخَذَ مِقْدَارَ حَقِّهِ جَازَ وَأَنَّ مَنْ أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَى أَصْحَابِهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِمْ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُمْ . وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهِ عَنْهُمْ وَتَصَرَّفَ فِيهِ فَمَتَى وَصَلَ إلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِ فِيهِ إثْمٌ . وَهَذَا الْحُكْمُ جَازَ فِي سَائِرِ الغصوب الْمَذْكُورَةِ . وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مَنْ آجَرَ نَفْسَهُ أَوْ دَوَابَّهُ أَوْ عَقَارَهُ أَوْ مَا يَتَعَلَّقُهُ وَأَخَذَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ . سَوَاءٌ عَلِمَ ذَلِكَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ حَلَالًا لِلْمَالِكِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ حَالَهُ بِأَنْ كَانَ مَسْتُورًا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَصَبَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ أَوْ سَرَقَهَا أَوْ قَبَضَهَا بِوَجْهٍ لَا يُبِيحُ أَخْذَهَا بِهِ لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا عَنْ ثَمَنِهِ وَأُجْرَتِهِ مَعَ أَنَّ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ تَضِيقُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ عَنْ بَسْطِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : الدِّرْهَمُ كَيْفَ قَبِلَ التَّغَيُّرَ وَصَارَ حَرَامًا بِالسَّبَبِ الْمَمْنُوعِ وَلَمْ يَقْبَلْ التَّغَيُّرَ فَيَصِيرُ حَلَالًا بِالسَّبَبِ الْمَشْرُوعِ . فَيُقَالُ لَهُ : بَلْ قَبِلَ التَّغَيُّرَ فِيمَا حُرِّمَ لِوَصْفِهِ ؛ لَا بِمَا حُرِّمَ لِكَسْبِهِ . فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الْخَمْرِ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ عَصِيرًا لَمْ تَصِرْ حَلَالًا طَاهِرًا فَلَمَّا تَخَمَّرَتْ كَانَتْ حَرَامًا نَجِسًا ؛ فَإِذَا تَخَلَّلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِتَخْلِيلِهَا كَانَتْ خَلَّ خَمْرٍ حَلَالًا طَاهِرًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا قَصَدَ تَخْلِيلَهَا . وَتَنَازَعُوا فِي سَائِرِ النَّجَاسَاتِ كَالْخِنْزِيرِ إذَا صَارَ مِلْحًا وَالنَّجَاسَةِ إذَا صَارَتْ رَمَادًا . فَقِيلَ : لَا يَطْهُرُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَ " الثَّانِي " مِثْلُ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ هُوَ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّهُ قُبِضَ بِالظُّلْمِ فَإِذَا قُبِضَ بِحَقٍّ أُبِيحَ : مِثْلَ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ الْمَالِكُ لِلْغَاصِبِ أَوْ يَهَبَهُ إيَّاهُ أَوْ يَبِيعَهُ مِنْهُ أَوْ يَقْبِضَهُ الْمَالِكُ أَوْ وَلِيُّهُ أَوْ وَكِيلُهُ . ثُمَّ الْغَاصِبُ إذَا أَعْطَاهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ كَانَ قَبْضُهُ بِحَقِّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ مَا لَا يَعْلَمُ كَذَلِكَ بَيَّنَ قَبْضَهُ مِنْ الْقَابِضِ بِحَقِّ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الضَّمَانِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ اشْتَرَى جَارِيَةً كِتَابِيَّةً وَشَرَطَ لَهُ الْبَائِعُ
أَنَّهَا طَبَّاخَةٌ جَيِّدَةٌ ، وَأَنَّهَا تَصْنَعُ الْخَمْرَ وَالنَّبِيذَ
فَهَلْ يَصِحُّ ؟.
فَأَجَابَ :
اشْتِرَاطُ كَوْنِهَا تَصْنَعُ الْخَمْرَ وَالنَّبِيذَ شَرْطٌ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ وَالْعَقْدُ مَعَ ذَلِكَ فَاسِدٌ . أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ
يَقُولُ : إنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ
مِنْ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ فَظَاهِرٌ . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ لَوْ
بَاعَهَا بِدُونِ شَرْطٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ الْجَارِيَةَ ؛ لِأَجْلِ
كَوْنِهَا تَصْنَعُ الْخَمْرَ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ عَيْنًا لِيَعْصِيَ
اللَّهَ بِهَا مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ عَصِيرًا لِيَعْمَلَهُ خَمْرًا وَيَشْتَرِيَ
سِلَاحًا لِيُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ : فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا
هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد
وَغَيْرِهِمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ } .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ تُسَاوِي
أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ أَجَّرَ الْبَائِعَ الدَّارَ مُدَّةً
مِنْ الشُّهُورِ بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ فِي تَارِيخِهِ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ
بَيْنَهُمَا بَيْعُ أَمَانَةٍ فِي الْبَاطِنِ . هَلْ يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ
عَلَى هَذَا الْحُكْمِ ؟ وَهَلْ يَلْزَمُ الْبَائِعَ الْأَصْلِيَّ مَبْلَغٌ
مُدَّةَ الْإِجَارَةِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رُوِيَ
عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
{ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَرْضٍ
جَرَّ مَنْفَعَةً } وَهَلْ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ جَاءَ فِي
الْحَدِيثِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَجَاءَتْهُ إبِلُ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ
أَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرًا فَقُلْت لَمْ أَجِدْ فِي الْإِبِلِ إلَّا جَمَلًا
خِيَارًا رباعيا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطِهِ
فَإِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً } وَهَلْ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ
الصِّحَاحِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ دَرَاهِمَ
وَيَنْتَفِعُ الْمُعْطِي بِعَقَارِ الْآخَرِ مُدَّةَ مَقَامِ الدَّرَاهِمِ فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا أَعَادَ الدَّرَاهِمَ إلَيْهِ أَعَادَ إلَيْهِ الْعَقَارَ فَهَذَا حَرَامٌ بِلَا رَيْبٍ وَهَذَا دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ مِثْلِهَا وَمَنْفَعَةُ الدَّارِ وَهُوَ الرِّبَا الْبَيِّنُ ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُقْرِضَ مَتَى اشْتَرَطَ زِيَادَةً عَلَى قَرْضِهِ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا وَكَذَلِكَ إذَا تَوَاطَأَ عَلَى ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ . وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك } حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَقْرَضَهُ وَبَاعَهُ : حَابَاهُ فِي الْبَيْعِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ وَكَذَلِكَ إذَا آجَرَهُ وَبَاعَهُ . وَمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ بَيْعِ الْأَمَانَةِ الَّذِي يَتَّفِقُونَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَهُ بِالثَّمَنِ أَعَادَ إلَيْهِ الْمَبِيعَ هُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ سَوَاءٌ شَرَطَهُ فِي الْعَقْدِ أَوْ تَوَاطَأَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُعَادَ الْعَقَارُ إلَى رَبِّهِ وَالْمَالُ إلَى رَبِّهِ وَيُعَزَّرُ كُلٌّ مِنْ الشَّخْصَيْنِ إنْ كَانَا عَلِمَا بِالتَّحْرِيمِ . وَالْقَرْضُ الَّذِي يَجُرُّ مَنْفَعَةً قَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ السَّائِلُ وَغَيْرُهُمْ : كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَنَسِ بْن مَالِكٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ : " إنَّك بِأَرْضِ الرِّبَا فِيهَا فَاشٍ فَإِذَا أَقْرَضْت رَجُلًا قَرْضًا فَأَهْدَى لَك حِمْلَ تِبْنٍ أَوْ حِمْلَ
قَتٍّ فَاحْسُبْهُ لَهُ مِنْ قَرْضِهِ " وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إنِّي أَقْرَضْت سَمَّاكًا عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَأَهْدَى لِي سَمَكَةً فَقَوَّمْتهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَقَالَ لَا تَأْخُذْ مِنْهُ إلَّا سَبْعَةَ دَرَاهِمَ . وَحَدِيثُ الْبَكْرِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . فَإِذَا وَفَّاهُ الْمُقْرِضُ خَيْرًا مِنْ قَرْضِهِ بِلَا مُوَاطَأَةٍ جَازَ ذَلِكَ وَإِنْ وَفَّاهُ أَكْثَرَ مِنْ قَرْضِهِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا زِيَادَةٌ بَعْدَ وَفَاءِ الْقَرْضِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا أَهْدَى إلَيْهِ قَبْلَ الْوَفَاءِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَحْسِبْهُ مِنْ الْقَرْضِ كَانَ الْقَرْضُ بَاقِيًا فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَ الْهَدِيَّةِ وَالْهَدِيَّةُ إنَّمَا كَانَتْ بِسَبَبِ الْقَرْضِ . وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَالُ الرَّجُلِ نَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانَا اللَّهُ فَيَقُولُ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْهِ ؟ أَمْ لَا ؟ } . فَبَيَّنَ أَنَّ الْهَدِيَّةَ إذَا كَانَتْ بِسَبَبٍ أُلْحِقَتْ بِهِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ : أَنَّ الْهَدِيَّةَ قَبْلَ الْوَفَاءِ تُحْسَبُ لِصَاحِبِهَا ؛ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الصِّفَةِ فِي الْوَفَاءِ . وَأَمَّا صُورَتُهُ : وَهُوَ أَنْ يَتَوَاطَآ عَلَى أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهُ الْعَقَارَ بِثَمَنِ ثُمَّ يُؤَجِّرَهُ إيَّاهُ إلَى مُدَّةٍ وَإِذَا جَاءَهُ بِالثَّمَنِ أَعَادَ إلَيْهِ الْعَقَارَ . فَهُنَا الْمَقْصُودُ إنَّ الْمُعْطِيَ شَيْئًا أَدَّى الْأُجْرَةَ مُدَّةَ بَقَاءِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَخْذِ الْمَنْفَعَةِ وَبَيْنَ عِوَضِ الْمَنْفَعَةِ الْجَمِيعُ حَرَامٌ .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ رَخَّصَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْعَقْدِ وَأَنَّ الْمُوَاطَأَةَ وَالنِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْعُقُودِ . فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ : تَحْرِيمُ مِثْلِ ذَلِكَ . وَأَنَّ النِّيَّاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } وَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ كَالْمُقَارِنِ لَهُ . وَقَدْ عَاتَبَ اللَّهُ مَنْ أَسْقَطَ الْوَاجِبَاتِ وَاسْتَحَلَّ الْمُحَرَّمَاتِ : بِالْحِيَلِ وَالْمُخَادَعَاتِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " ن " وَفِي قِصَّةِ أَهْلِ السَّبْتِ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ } . وَقَالَ أَيُّوبُ السختياني : يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ . وَدَلَائِلُ هَذَا مَبْسُوطَةٌ فِي كِتَابٍ كَبِيرٍ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ :
ابْتَاعِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ
أَعْتَقَ } . فَإِنَّ هَذَا أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى إنَّ
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : انْفَرَدَ بِهِ هِشَامٌ دُونَ الزُّهْرِيِّ وَظَنَّ ذَلِكَ
عِلَّةً فِيهِ . وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَا عِلَّةَ فِيهِ . وَمِنْهُمْ
مَنْ قَالَ : " اشْتَرِطِي لَهُمْ " : بِمَعْنَى عَلَيْهِمْ . قَالُوا :
وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى { وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ } أَيْ عَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ
. وَنَقَلَ هَذَا حَرْمَلَةُ عَنْ الشَّافِعِيِّ . وَنُقِلَ عَنْ المزني وَهُوَ
ضَعِيفٌ . أَمَّا أَوَّلًا : فَإِنَّ قَوْلَهُ : " اشْتَرِطِي لَهُمْ "
صَرِيحٌ فِي مَعْنَاهُ وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( وَلَهُمْ
اللَّعْنَةُ فَمِثْلُ قَوْلِهِ : ( لَهُمْ الْعَذَابُ وَ ( لَهُمْ خِزْيٌ وَهُوَ
مَعْنًى صَحِيحٌ ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ اللَّعْنَةَ ؛
بَلْ هُنَا إذَا قِيلَ : ( وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ ) وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُجْزَوْنَ بِهَا وَإِذَا قِيلَ : عَلَيْهِمْ فَالْمُرَادُ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ فَالْمَعْنَيَانِ مُفْتَرِقَانِ . وَقَدْ يُرَادُ بِقَوْلِهِ : " عَلَيْهِمْ " الْخَبَرُ : أَيْ وَقَعَتْ عَلَيْهِمْ فَحَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ غَيَّرَ مَا أَفَادَهُ حَرْفُ الِاخْتِصَاصِ وَإِنْ كَانَا يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ أُولَئِكَ مَلْعُونُونَ . وَقَوْلُهُ : " اشْتَرِطِي لَهُمْ " مُبَايِنٌ لِمَعْنَى اشْتَرِطِي عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ يُفَسَّرُ مَعْنَى اللَّفْظِ بِمَعْنَى ضِدِّهِ وَأَيْضًا فَعَائِشَةُ قَدْ كَانَتْ اشْتَرَطَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالَتْ : " إنْ شَاءُوا عَدَدْتهَا لَهُمْ عِدَّةً وَاحِدَةً وَيَكُونُ وَلَاؤُك لِي فَامْتَنَعُوا " . وَأَيْضًا فَإِنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ لَا يَحْتَاجُ إلَى اشْتِرَاطِهِ ؛ بَلْ هُوَ إذَا أَعْتَقَ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ . يَبْقَى حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْوَلَاءَ إنَّمَا يَصِيرُ لَهُمْ إذَا شَرَطَتْهُ وَهَذَا بَاطِلٌ . وَمَنْ تَدَبَّرَ الْحَدِيثَ تَبَيَّنَ لَهُ قَطْعًا أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُرِدْ هَذَا . وَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ : فَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَتَيْنِ . مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرَّسُولَ كَيْفَ يَأْمُرُ بِالشَّرْطِ الْبَاطِلِ . وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّرْطَ الْبَاطِلَ كَيْفَ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ . وَقَدْ أَجَابَ طَائِفَةٌ بِجَوَابٍ ثَالِثٍ ذَكَرَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ . وَهُوَ أَنَّ
الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَأَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ وُجُودُ اشْتِرَاطِهِمْ كَعَدَمِهِ وَبَيَّنَ لِعَائِشَةَ أَنَّ اشْتِرَاطَك لَهُمْ الْوَلَاءَ لَا يَضُرُّك فَلَيْسَ هُوَ أَمْرًا بِالشَّرْطِ ؛ لَكِنْ إذْنًا لِلْمُشْتَرِي فِي اشْتِرَاطِهِ إذَا أَبَى الْبَائِعُ أَنْ يَبِيعَ إلَّا بِهِ وَإِخْبَارًا لِلْمُشْتَرِي أَنَّ هَذَا لَا يَضُرُّهُ وَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ . فَهُوَ إذْنٌ فِي الشِّرَاءِ مَعَ اشْتِرَاطِ الْبَائِعِ ذَلِكَ وَإِذْنٌ فِي الدُّخُولِ مَعَهُمْ فِي اشْتِرَاطِهِ لِعَدَمِ الضَّرَرِ فِي ذَلِكَ وَنَفْسُ الْحَدِيثِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ الْفَاسِدِ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَإِنَّمَا اسْتَشْكَلَ الْحَدِيثَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِطُ يَعْلَمُ أَنَّهُ شَرْطٌ مُحَرَّمٌ لَا يَحِلُّ اشْتِرَاطُهُ فَوُجُودُ اشْتِرَاطِهِ كَعَدَمِهِ ؛ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ . فَيَصِحُّ اشْتِرَاءُ الْمُشْتَرِي وَيَمْلِكُ الْمُشْتَرِي وَبِلَغْوِ هَذَا الشَّرْطِ الَّذِي قَدْ عَلِمَ الْبَائِعُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ . وَأَمَّا أُولَئِكَ الْقَوْمُ فَإِنْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا بِالنَّهْيِ قَبْلَ اسْتِفْتَاءِ عَائِشَةَ فَلَا شُبْهَةَ . لَكِنْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ؛ بَلْ فِيهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَشِيَّةً فَقَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ } وَهَذَا كَانَ عَقِبَ اسْتِفْتَاءِ عَائِشَةَ وَقَدْ عَلِمَ أُولَئِكَ
بِهَذَا بِلَا رَيْبٍ وَكَانَ عَقْدُ عَائِشَةَ مَعَهُمْ بَعْدَ هَذَا الْإِعْلَامِ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا تَابُوا عَنْ هَذَا الشَّرْطِ أَوْ أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ . وَحِينَئِذٍ فَلَا يَضُرُّ اشْتِرَاطُهُ . هَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَسِيَاقُهُ . وَلَا إشْكَالَ فِيهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُشْتَرِطُ لِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ الْبَاطِلِ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ ظَانًّا أَنَّهُ شَرْطٌ لَازِمٌ ، فَهَذَا لَا يَكُونُ الْبَيْعُ فِي حَقِّهِ لَازِمًا وَلَا يَكُونُ أَيْضًا بَاطِلًا . وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ بَلْ لَهُ الْفَسْخُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ بِهَذَا الشَّرْطِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَمَلَكَهُ لَهُ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُنْفِذَ الْبَيْعَ أَنْفَذَهُ كَمَا لَوْ ظَهَرَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ وَكَالشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ إذَا لَمْ يُوَفِّ لَهُ بِهَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ رَهْنٍ أَوْ ضَمِينٍ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَلَهُ الْفَسْخُ وَلَهُ الْإِمْضَاءُ . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ فِي مِثْلِ هَذَا ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ ؛ بَلْ هُوَ غَيْرُ لَازِمٍ يَتَسَلَّطُ فِيهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْفَسْخِ كَالْمُشْتَرِي لِلْمَعِيبِ وَلِلْمُصَرَّاةِ وَنَحْوِهِمَا ؛ فَإِنَّ حَقَّهُ مُخَيَّرٌ بِتَمْكِينِهِ مِنْ الْفَسْخِ . وَقَدْ قِيلَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : إنَّ لَهُ أَرْشَ مَا نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ بِإِلْغَاءِ هَذَا الشَّرْطِ كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَعِيبِ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الْفَسْخَ ؛ وَإِنَّمَا لَهُ الْأَرْشُ بِالتَّرَاضِي أَوْ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ كَقَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَهَذَا أَصَحُّ ؛ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِطَ لَمْ يَرْضَ إلَّا
بِالشَّرْطِ فَلَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ
بِدُونِهِ ؛ بَلْ لَهُ الْخِيَارُ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ لَمْ يَرْضَ إلَّا
بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ رَضِيَ بِهِ مَعَ الشَّرْطِ فَإِذَا أَلْغَى
الشَّرْطَ وَصَارَ الْوَلَاءُ لَهُ فَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ
فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بَلْ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فَلَا يُلْزَمُ
بِالزِّيَادَةِ ؛ بَلْ إذَا أَعْطَى الثَّمَنَ فَإِنْ شَاءَ الْآخَرُ قَبِلَ وَأَمْضَى
وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَإِنْ تَرَاضَيَا بِالْأَرْشِ جَازَ لَكِنْ لَا
يُلْزَمُ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِرِضَاهُ فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ عَنْ
الْجُزْءِ الْفَائِتِ . وَهَكَذَا يُقَالُ فِي نَظَائِرِ هَذَا : مِثْلَ
الصَّفْقَةِ إذَا تَفَرَّقَتْ . وَقِيلَ : يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْحَلَالِ
بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد فَإِنَّ الَّذِي
تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ لَهُ الْفَسْخُ إذَا كَانَ لَمْ يَرْضَ بِبَيْعِ هَذَا
بِقِسْطِهِ إلَّا مَعَ ذَلِكَ .
وَأَصْلُ الْعُقُودِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا بِالْتِزَامِهِ
أَوْ بِإِلْزَامِ الشَّارِعِ لَهُ . فَمَا الْتَزَمَهُ فَهُوَ مَا عَاهَدَ
عَلَيْهِ فَلَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ وَلَا يَغْدِرُ . وَمَا أَمَرَهُ الشَّارِعُ
بِهِ فَهُوَ مِمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ وَإِنْ لَمْ
يَلْتَزِمْهُ كَمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَصِلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ
يُوصَلَ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَمِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ ؛
وَلِهَذَا يَذْكُرُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ هَذَا وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { الَّذِينَ
يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } { وَالَّذِينَ
يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } .
فَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
فَهُوَ إلْزَامٌ مِنْ اللَّهِ بِهِ وَمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فَقَدْ
الْتَزَمَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضَ الْمِيثَاقَ
. إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ . فَمَنْ اشْتَرَطَ
شَرْطًا مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ ؛ مِثْلَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنْ
يَسْتَحِلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ كَاَلَّذِي يَبِيعُ الْأَمَةَ أَوْ يُعْتِقَهَا
وَيَشْرُطُ وَطْأَهَا بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ مِلْكِهِ أَوْ يَبِيعُ غَيْرُهُ
مَمْلُوكًا وَيَشْرِطُ أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ لَهُ لَا لِلْمُعْتِقِ أَوْ
يُزَوِّجُ أَمَتَهُ أَوْ قَرَابَتَهُ وَيَشْرِطُ أَنْ يَكُونَ النَّسَبُ لِغَيْرِ
الْأَبِ أَوْ يَكُونَ النَّسَبُ لَهُ فَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ أَنْ يُدْعَى
الْوَلَدُ لِأَبِيهِ وَالْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ ، فَمَنْ
اُدُّعِيَ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ
لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ . وَثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى
عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ } . وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ لَا يُورَثُ أَيْضًا ؛ وَلَكِنْ يُورَثُ بِهِ كَالنَّسَبِ وَيَكُونُ
الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ حَقٌّ كَمَا جَاءَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ
بِهِ الْفُرُوجَ } وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالشُّرُوطِ فِي
النِّكَاحِ أَوْلَى مِنْهَا فِي الْبَيْعِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ
السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : إنَّهُ إذَا اشْتَرَطَ شَرْطًا مُخَالِفًا لِكِتَابِ
اللَّهِ : مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِلَا مَهْرٍ أَوْ بِمَهْرٍ
مُحَرَّمٍ فَهَذَا نِكَاحٌ بَاطِلٌ كَنِكَاحِ الشِّغَارِ وَغَيْرِهِ . وَهَذَا
مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ } وَأَبْطَلَهُ الصَّحَابَةُ ؛ فَإِنَّهُمْ أَشْغَرُوا النِّكَاحَ عَنْ مَهْرٍ . هَذَا هُوَ الْعِلَّةُ فِي نُصُوصِ أَحْمَد الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَعِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ : الْعِلَّةُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ التَّشْرِيكُ فِي الْبُضْعِ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ . وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ ؛ فَإِنَّ الْبُضْعَ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ اشْتِرَاكٌ ؛ بَلْ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ بِلَا شَرِكَةٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَعَلَ صَدَاقَهَا بُضْعَ الْأُخْرَى فَالْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ لَمْ تَمْلِكْ بُضْعَ الْمَرْأَةِ وَلَا يُمْكِنْ هَذَا ؛ فَإِنَّ امْرَأَةً لَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَةً ؛ وَلَكِنْ جَعَلَتْ لِوَلِيِّهَا مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْمَهْرِ فَوَلِيُّهَا هُوَ الَّذِي مَلَكَ الْبُضْعَ وَجَعَلَ صَدَاقَهَا مِلْكَ وَلِيِّهَا الْبُضْعَ وَهِيَ لَمْ تَمْلِكْ شَيْئًا ؛ فَلِهَذَا كَانَ شِغَارًا . وَالْمَكَانُ الشَّاغِرُ الْخَالِي . وَشَغَرَتْ هَذِهِ الْجِهَةُ أَيْ خَلَتْ . وَمَنْ أَصْدَقَتْ شَيْئًا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهَا مَا أَصْدَقَتْهُ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ لَازِمًا وَأُعْطِيَتْ بَدَلَهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَأَوْلَى : { فَإِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } . وَمَنْ الْتَزَمَتْ بِالنِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُحَصِّلَ مَا رَضِيَتْهُ فَقَدْ الْتَزَمَتْ بِالنِّكَاحِ الَّذِي لَمْ تَرْضَ بِهِ وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي النِّكَاحِ أَوْلَى . وَالشَّارِعُ لَمْ يُلْزِمْهَا النِّكَاحَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَا هِيَ الْتَزَمَتْهُ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مَا يَجِبُ بِإِلْزَامِ الشَّارِعِ أَوْ بِالْتِزَامِهِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فَلَا مَعْنَى
لِالْتِزَامِهَا بِنِكَاحٍ لَمْ تَرْضَ بِهِ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : الْمَهْرُ لَيْسَ بِمَقْصُودِ : كَلَامٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ؛ فَإِنَّهُ رُكْنٌ فِي النِّكَاحِ وَإِذَا شُرِطَ فِيهِ كَانَ أَوْكَدَ مِنْ شَرْطِ الثَّمَنِ ؛ لِقَوْلِهِ : { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } . وَالْأَمْوَالُ تُبَاحُ بِالْبَدَلِ وَالْفُرُوجُ لَا تُسْتَبَاحُ إلَّا بِالْمُهُورِ ؛ وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِدُونِ فَرْضِهِ وَتَقْرِيرِهِ ؛ لَا مَعَ نَفْيِهِ . وَالنِّكَاحُ الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ عَلَى الصَّحِيحِ - وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد - يَنْعَقِدُ بِالسِّعْرِ فَلَا فَرْقَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَاَلَّذِي يَثْبُتُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِدُونِ فَرْضِ الْمَهْرِ . أَيْ بِدُونِ تَقْدِيرِهِ ؛ لَا أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَعَ نَفْيِهِ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } لَمَّا جَوَّزَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِلَا مَهْرٍ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَتَزَوَّجُوا بِلَا مَهْرٍ . وَكَذَلِكَ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَلَا بُدَّ مِنْ مَهْرٍ مُسَمًّى مَفْرُوضٍ أَوْ مَسْكُوتٍ عَنْ فَرْضِهِ ثُمَّ إنْ فُرِضَ مَا تَرَاضَيَا بِهِ وَإِلَّا فَلَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا كَمَا قَضَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بروع بِنْتِ وَاشِقٍ . وَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا وَالنَّاسُ دَائِمًا يَتَنَاكَحُونَ مُطْلَقًا وَقَدْ تَرَاضَوْا بِالْمَهْرِ الْمُعْتَادِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا يَتَبَايَعُونَ دَائِمًا وَقَدْ تَرَاضَوْا بِالسِّعْرِ الَّذِي يَبِيعُ بِهِ الْبَائِعُ فِي
مِثْلِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ كَمَا
يَشْتَرُونَ الْخُبْزَ وَالْأُدْمَ وَالْفَاكِهَةَ وَاللَّحْمَ وَغَيْرَ ذَلِكَ
مِنْ الْخَبَّازِ وَاللَّحَّامِ وَالْفُومِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ رَضُوا أَنْ
يُعْطِيَهُمْ ثَمَنَ الْمِثْلِ وَهُوَ السِّعْرُ الَّذِي يَبِيعُ بِهِ لِلنَّاسِ
وَهُوَ مَا سَاغَ بِهِ مِثْلُ تِلْكَ السِّلْعَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ
وَالزَّمَانِ وَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَإِنْ كَانَ فِي
مَذْهَبِهِ نِزَاعٌ فِيهِ .
فَصْلٌ :
وَأَصْلُ الدِّينِ : أَنَّهُ لَا وَاجِبَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا
مَكْرُوهَ إلَّا مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا حَلَالَ إلَّا مَا
أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا مُسْتَحَبَّ إلَّا مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ . فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا
حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَلِهَذَا أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مَا حَلَّلُوهُ
أَوْ حَرَّمُوهُ أَوْ شَرَعُوهُ مِنْ الدِّينِ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ اللَّهِ .
وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ قَدْ يُوجِبُهُ ابْتِدَاءً ؛
كَإِيجَابِهِ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ . وَقَدْ يُوجِبُهُ ؛
لِأَنَّ الْعَبْدَ الْتَزَمَهُ وَأَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ
يُوجِبْهُ ؛ كَالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ لِلْمُسْتَحَبَّاتِ . وَبِمَا الْتَزَمَهُ
فِي الْعُقُودِ الْمُبَاحَةِ : كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ
وَاجِبًا . وَقَدْ يُوجِبُهُ لِلْأَمْرَيْنِ كَمُبَايَعَةِ الرَّسُولِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ وَكَذَلِكَ مُبَايَعَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَتَعَاقُدِ النَّاسِ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَنَفْسُ الْتِزَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذَا الْبَابِ . فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْتَزَمَهَا بِالْإِيمَانِ وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تُوجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ بِمُوجِبِهَا وَهُوَ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ فِيمَا أَتَى بِهِ عَنْ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَوْجَبَهُ وَأَمَرَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ عَنْ اللَّهِ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَتُهُ وَمَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَتُهُ . وَهَذِهِ الْأُصُولُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ إذَا كَانَ أَصْلُ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِإِلْزَامِ الشَّارِعِ لَهُ أَوْ بِالْتِزَامِهِ إيَّاهُ . فَإِذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ رُدَّ إلَيْهِ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُوَفِّي بِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوَفِّي بِهِ ؛ بَلْ يَنْقُضُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ بِهِ فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ وَمِنْ ذَلِكَ " مَسَائِلُ النِّكَاحِ وَالشُّرُوطِ فِيهِ " . فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ أَيْضًا : أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشُّرُوطِ الصِّحَّةُ وَاللُّزُومُ إلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ . وَقَدْ قِيلَ : بَلْ الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ الصِّحَّةِ إلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ . وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ دَلَّا عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ وَذَمِّ الْغَدْرِ
وَالنَّكْثِ ؛ وَلَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْرُوطُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَشَرْطِهِ فَإِذَا كَانَ الْمَشْرُوطُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَشَرْطِهِ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } . فَإِنَّ قَوْلَهُ : " مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا " أَيْ مَشْرُوطًا وَقَوْلَهُ : " لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ " أَيْ لَيْسَ الْمَشْرُوطُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ هُوَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ كَاشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ وَالنَّسَبِ لِغَيْرِ الْوَالِدِ وَكَالْوَطْءِ بِغَيْرِ مِلْكِ يَمِينٍ وَلَا نِكَاحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُبِحْهُ اللَّهُ بِحَالِ . وَمِنْ ذَلِكَ تَزَوُّجُ الْمَرْأَةِ بِلَا مَهْرٍ وَلِهَذَا قَالَ : { كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } . وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ : إذَا كَانَ الْمَشْرُوطُ يُنَاقِضُ كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ فَيَجِبُ تَقْدِيمُ كِتَابِ اللَّهِ وَشَرْطِهِ وَيُقَالُ : { كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } . وَأَمَّا إذَا كَانَ نَفْسُ الشَّرْطِ وَالْمَشْرُوطِ لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَلَى حِلِّهِ ؛ بَلْ سَكَتَ عَنْهُ ؛ فَلَيْسَ هُوَ مُنَاقِضًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَشَرْطِهِ حَتَّى يُقَالَ : { كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ } فَقَوْلُهُ : { مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ } أَيْ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ . وَسَوَاءٌ قِيلَ : الْمُرَادُ مِنْ الشَّرْطِ الْمَصْدَرُ أَوْ الْمَفْعُولُ . فَإِنَّهُ مَتَى خَالَفَ أَحَدُهُمَا كِتَابَ اللَّهِ خَالَفَهُ الْآخَرُ ؛ بِخِلَافِ مَا سَكَتَ عَنْهُ ، فَهَذَا أَصْلٌ .
وَالْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّرْطَ الْمُخَالِفَ لِكِتَابِ اللَّهِ إذَا لَمْ يَرْضَيَا إلَّا بِهِ فَقَدْ الْتَزَمَا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ . فَلَا يَلْزَمُ كَمَا لَوْ نَذَرَ الْمَعْصِيَةَ . وَسَوَاءٌ كَانَا عَالِمَيْنِ أَوْ جَاهِلَيْنِ وَإِنْ اشْتَرَطَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ فَلَمْ يَرْضَ إلَّا بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْعَقْدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْتَزَمَهُ لِلَّهِ فَيَلْزَمُهُ مَا كَانَ لِلَّهِ ؛ دُونَ مَا لَمْ يَكُنْ : كَالنَّذْرِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَتَفَرَّقُ فِيهِ الصَّفْقَةُ . وَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَشَرَطَهُ فَهُوَ كَشَرْطِ أَهْلِ بَرِيرَةَ : شَرْطُهُ بَاطِلٌ وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ . وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُودِ . فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَبْطَلَ شُرُوطًا كَثِيرَةً فِي النِّكَاحِ بِلَا حُجَّةٍ . ثُمَّ الشَّرْطُ الْبَاطِلُ فِي النِّكَاحِ قَالُوا : يَبْطُلُ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ بِدُونِهِ وَالْمُشْتَرِطُ لِلنِّكَاحِ لَمْ يَرْضَ إلَّا بِهِ وَالشُّرُوطُ فِي النِّكَاحِ أَوْكَدُ مِنْهَا فِي الْبَيْعِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } . فَلَزِمَهُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ النُّصُوصِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَإِلْزَامُ الْخَلْقِ بِشَيْءٍ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ وَلَا أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ بِهِ . فَأَوْجَبُوا عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . ثُمَّ قَدْ يَتَوَسَّعُونَ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي يُبْغِضُهُ اللَّهُ فَيُحَرِّمُونَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يُبِيحُونَ ذَلِكَ بِالْعُقُودِ الْمَشْرُوطَةِ فِيهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَيُحَلِّلُونَ مَا لَمْ يُحَلِّلْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . مِثَالُ ذَلِكَ : أَنَّ شَرْطَ التَّحْلِيلِ فِي الْعَقْدِ شَرْطٌ حَرَامٌ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ .
إذَا شَرَطَ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا إذَا أَحَلَّهَا وَكَذَلِكَ شَرْطُ الطَّلَاقِ بَعْدَ أَجَلٍ مُسَمًّى . فَشَرْطُ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ إذَا مَضَى الْأَجَلُ أَوْ بَعْدَ التَّحْلِيلِ شَرْطٌ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ النِّكَاحَ إلَى أَجَلٍ وَلَمْ يُبِحْ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ . فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَيَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا . ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَرَّقَ بَيْنَ التَّوْقِيتِ وَبَيْنَ الِاشْتِرَاطِ . فَقَالُوا : إذَا قَالَ : تَزَوَّجْتهَا إلَى شَهْرٍ ؛ فَهُوَ نِكَاحُ مُتْعَةٍ وَهُوَ بَاطِلٌ . وَطَرَدَ بَعْضُهُمْ الْقِيَاسَ . وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَخَرَّجَ وَجْهًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ ؛ وَيَلْغُو التَّوْقِيتُ كَمَا قَالُوا يَلْغُو الشَّرْطُ . وَلَوْ قَالَ فِي نِكَاحِ التَّحْلِيلِ : عَلَى أَنَّك إذَا أَحْلَلْتهَا طَلِّقْهَا فَهُوَ شَرْطٌ كَمَا لَوْ قَالَ فِي الْمُتْعَةِ : عَلَى أَنَّهُ إذَا انْقَضَى الْأَجَلُ طَلِّقْهَا . وَإِنْ قَالَ : فَلَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا . فَقِيلَ : فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ قِيلَ : يُلْحَقُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ . وَقِيلَ : بِالتَّوْقِيتِ فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ . وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي النِّكَاحِ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد . قِيلَ : يَصِحُّ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ . وَقِيلَ : يَبْطُلَانِ . وَقِيلَ : يَصِحُّ الْعَقْدُ دُونَ الشَّرْطِ . فَالْأَظْهَرُ فِي هَذَا الشَّرْطِ أَنَّهُ يَصِحُّ . وَإِذَا قِيلَ : بِبُطْلَانِهِ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ لَازِمًا بِدُونِهِ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْطِ الْوَفَاءُ وَشَرْطُ الْخِيَارِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ لَا سِيَّمَا فِي النِّكَاحِ . وَهَذَا يُبْنَى
عَلَى أَصْلٍ . وَهُوَ : أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ : هَلْ الْأَصْلُ صِحَّتُهُ أَوْ الْأَصْلُ بُطْلَانُهُ ؛ لَكِنْ جَوَّزَ ثَلَاثًا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ؟ فَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ : مَالِكٍ وَأَحْمَد وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَلِهَذَا أَبْطَلَا الْخِيَارَ فِي أَكْثَرِ الْعُقُودِ : النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ النِّكَاحِ عَلَى شَرْطٍ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد . وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد يُفَرِّقُونَ فِي النِّكَاحِ بَيْنَ شَرْطٍ يَرْفَعُ الْعَقْدَ كَالطَّلَاقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ : مِثْلَ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمَهْرِ أَوْ عَدَمِ الْوَطْءِ أَوْ عَدَمِ الْقَسْمِ وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد خِلَافٌ فِي شَرْطِ عَدَمِ الْمَهْرِ وَنَحْوِهِ . وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فَيَكُونُ لَازِمًا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ وَإِذَا لَمْ يُوَفِّ بِهِ ثَبَتَ الْفَسْخُ كَاشْتِرَاطِ نَوْعٍ أَوْ نَقْدٍ فِي الْمَهْرِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ النِّكَاحُ لَازِمًا مَعَ عَدَمِ الْوَفَاءِ ؛ بَلْ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِطُ بَيْنَ إمْضَائِهِ وَبَيْنَ الْفَسْخِ كَالشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ وَكَالْعَيْبِ . فَإِنَّهُ يَرُدُّ بِالْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ بِالِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَدَنِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ لَا تُرَدُّ الْحُرَّةُ بِعَيْبِ وَقَالُوا : النِّكَاحُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَلَمْ يُجَوِّزُوا فَسْخَهُ بِعَيْبِ وَلَا شَرْطٍ . ثُمَّ هُمْ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ يُوجِبُونَ فِي الْإِيلَاءِ عَلَى الْمُولِي إمَّا الفيأة وَإِمَّا الطَّلَاقَ . وَهُمْ يَقُولُونَ :
يَقَعُ الطَّلَاقُ عَقِبَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا لَمْ يَفِئْ وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا أَوْ مَجْبُوبًا فَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ : لَكِنْ قَالُوا : الْمَرْأَةُ لَا يُمْكِنُهَا الطَّلَاقُ . وَالْجُمْهُورُ عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ بِالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ كَمَا قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثُمَّ خَصَّ الْفَسْخَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِمَا يَمْنَعُ النِّكَاحَ كَمَا أَبْطَلُوا النِّكَاحَ بِالشَّرْطِ الَّذِي يَرْفَعُ الْعَقْدَ . وَتَفْصِيلُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مُقْتَضَى الْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ : أَنَّ الشَّرْطَ يَلْزَمُ ؛ إلَّا إذَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ . وَإِذَا كَانَ لَازِمًا لَمْ يَلْزَمْ الْعَقْدُ بِدُونِهِ . فَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْمَهْرِ شَيْئًا مُعَيَّنًا : مِثْلُ هَذَا الْعَبْدُ وَهَذِهِ الْفَرَسُ وَهَذِهِ الدَّارُ ؛ لَكِنْ يَقُولُونَ : إذَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمَهْرِ لَزِمَ بَدَلُهُ فَلَمْ يَمْلِكْ الْفَسْخَ وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ جِهَتِهِ . وَهَذَا ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ فَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِامْتِنَاعِ الْعَقْدِ فَقَدْ يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْعَقْدِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تُمَكَّنَ الْمَرْأَةُ مِنْ الْفَسْخِ ؛ فَإِنَّهَا لَمْ تَرْضَ وَتُبِحْ فَرْجَهَا إلَّا بِهَذَا فَإِذَا تَعَذَّرَ فَلَهَا الْفَسْخُ . وَهُمْ يَقُولُونَ : الْمَهْرُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ . فَيُقَالُ : كُلُّ شَرْطٍ فَهُوَ مَقْصُودٌ وَالْمَهْرُ أَوْكَدُ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لَكِنْ هُنَا الزَّوْجَانِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِمَا وَهُمَا عَاقِدَانِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُمَا عَاقِدَانِ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِمَا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا فَاتَ فَالْمَرْأَةُ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ كَالْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ لِكَوْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ - وَهُمَا الزَّوْجَانِ - بَاقِيَيْنِ فَالْفَائِتُ جُزْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالْعَيْبِ الْحَادِثِ
فِي السِّلْعَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ : يُوجِبُ الْفَسْخَ وَلَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ . هَذَا مُقْتَضَى الْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ . وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِطُ بِبُطْلَانِهِ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ لَازِمًا ؛ بَلْ إنْ رَضِيَ بِدُونِ الشَّرْطِ وَإِلَّا فَلَهُ الْفَسْخُ . هَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَأَمَّا إلْزَامُهُ بِعَقْدٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَلَا أَلْزَمَهُ الشَّارِعُ أَنْ يَعْقِدَهُ ، فَهَذَا مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ وَمُخَالِفٌ لِلْعَدْلِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ . وَهُمْ جَعَلُوا الْأَصْلَ أَنَّ الْحُرَّةَ لَا تُرَدُّ بِعَيْبِ . قَالُوا : فَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَقَالُوا : يَصِحُّ النِّكَاحُ بِلَا تَقْدِيرِ مَهْرٍ فَيَصِحُّ مَعَ نَفْيِ الْمَهْرِ فَيَصِحُّ مَعَ كُلِّ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ . وَأَمَّا صِحَّتُهُ بِدُونِ فَرْضِ الْمَهْرِ ؛ فَهَذَا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ لَكِنْ إذَا اعْتَقَدَ عَدَمَ وُجُوبِ الْمَهْرِ فَإِنَّ الْمَهْرَ الْمُطْلَقَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَأَمَّا مَعَ نَفْيِهِ : فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْقَوْلُ بِالْبُطْلَانِ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ كَمَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَهُوَ الصَّوَابُ لِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَيْهِ وَحَدِيثِ الشِّغَارِ . قَالُوا فَثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ : عَدَمِ الْفَسْخِ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ وَالصِّحَّةِ مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ . فَيُقَالُ :
أَمَّا عَدَمُ الْفَسْخِ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : لَا تُرَدُّ الْحُرَّةُ بِعَيْبِ ، فَهَذَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَلْبَتَّةَ ؛ بَلْ مَتَى كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا وَفَاتَ : فَلِمُشْتَرِطِهِ الْفَسْخُ ، ثُمَّ الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ هَلْ هُوَ كَالْمُقَارِنِ لَهُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَالْمُقَارِنِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَخْرُجُ مِنْ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَأَحْمَد يُوجِبُ مَا سَمَّى فِي الْعَلَانِيَةِ وَإِنْ كَانَ دُونَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ فِي السِّرِّ لَكِنْ يُوجِبُ ذَلِكَ ظَاهِرًا وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يُوفُوا بِمَا شَرَطُوا لَهُ فَعَلَى هَذَا لَمْ يُحْكَمْ بِالسِّرِّ لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ وَإِنْ ثَبَتَ حُكِمَ بِهِ . وَإِنْ قِيلَ : لَا يُحْكَمُ بِهِ مُطْلَقًا فَلِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا خِلَافَ مَا أَبْطَنُوهُ وَالنِّكَاحُ مَبْنَاهُ عَلَى الْإِعْلَانِ لَا عَلَى الْإِسْرَارِ وَهَذَا بِخِلَافِ شَرْطٍ لَمْ يُظْهِرُوا مَا يُنَاقِضُهُ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِمَا فَهَذَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ عِنْدَهُ وَهُوَ يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ . وَالشَّافِعِيُّ إذَا قَالَ فِي النِّكَاحِ : إنَّهُ يُؤْخَذُ بِالسِّرِّ فَفِي غَيْرِهِ أَوْلَى . وَأَمَّا صِحَّتُهُ مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ : فَالْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ وَلَيْسَ هَذَا شَرْطًا فَاسِدًا ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يَحِلُّ اشْتِرَاطُهُ وَهَذَا النِّكَاحُ حَلَالٌ فَلَوْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَفْرِضْ مَهْرًا ؛ لَكِنْ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَهْرٍ ؛ إمَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا ، فَهَذَا النِّكَاحُ حَلَالٌ لَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ . فَمِنْ ذَيْنِك الْقِيَاسَيْنِ
الْفَاسِدَيْنِ فَرَّقُوا بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَأَلْزَمُوا النَّاسَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَرْضَوْا بِهِ وَإِنْ شَرَطُوا فِيهِ شَرْطًا صَحِيحًا كَمَا أَلْزَمُوا الرَّجُلَ بِنِكَاحِ الْمَرْأَةِ الْمَعِيبَةِ وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِنِكَاحِ مَعِيبَةٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ فَرَّقَ بَيْنَ عُيُوبِ الْفَرْجِ وَغَيْرِهَا ؟ قِيلَ : قَدْ عُلِمَ أَنَّ عُيُوبَ الْفَرْجِ الْمَانِعَةَ مِنْ الْوَطْءِ لَا يَرْضَى بِهَا فِي الْعَادَةِ ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءُ ؛ بِخِلَافِ اللَّوْنِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تُرَدُّ بِهِ الْأَمَةُ ؛ فَإِنَّ الْحُرَّةَ لَا تُقْلَبُ كَمَا تُقْلَبُ الْأَمَةُ وَالزَّوْجُ قَدْ رَضِيَ رِضًا مُطْلَقًا وَهُوَ لَمْ يَشْرِطْ صِفَةً فَبَانَتْ بِدُونِهَا . فَإِنْ شَرَطَ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَهُ الْفَسْخُ وَكَذَا بِالْعَكْسِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّرْطُ إنَّمَا يَثْبُتُ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا وَفِي الْبَيْعِ دَلَّ الْعُرْفُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ إلَّا بِسَلِيمٍ مِنْ الْعُيُوبِ وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ لَمْ يَرْضَ بِمَنْ لَا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا وَالْعَيْبُ الَّذِي يَمْنَعُ كَمَالَ الْوَطْءِ - لَا أَصْلَهُ - فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْوَطْءُ وَكَمَالُ الْوَطْءِ فَلَا تَنْضَبِطُ فِيهِ أَغْرَاضُ النَّاسِ . وَالشَّارِعُ قَدْ أَبَاحَ بَلْ أَحَبَّ لَهُ النَّظَرَ إلَى الْمَخْطُوبَةِ وَقَالَ : { إذَا أَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِ أَحَدِكُمْ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلْيَنْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا } . { وَقَالَ لِمَنْ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ : اُنْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا } وَقَوْلُهُ : { أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا
عَرَفَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ دَامَ الْوُدُّ . وَأَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَرَهَا فَإِنَّهُ لَمْ يُعَلِّلْ الرُّؤْيَةَ بِأَنَّهُ يَصِحُّ مَعَهُ النِّكَاحُ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَجِبُ وَأَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ بِدُونِهَا وَلَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ أَنْ يَصِفُوا الْمَرْأَةَ الْمَنْكُوحَةَ بِذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ لَا يَصِحَّ وَإِمَّا أَنْ يَمْلِكَ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد رِوَايَةً ضَعِيفَةً أَنَّهُ يَصِحُّ بِلَا رُؤْيَةٍ وَلَا صِفَةٍ وَلَا يَثْبُتُ خِيَارٌ . وَهَذَا الْفَرْقُ إنَّمَا هُوَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالْأَمْوَالِ : أَنَّ النِّسَاءَ يُرْضَى بِهِنَّ فِي الْعَادَةِ عَلَى الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَمْوَالَ لَا يُرْضَى بِهَا عَلَى الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ ؛ إذْ الْمَقْصُودُ بِهَا التَّمَوُّلُ وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصِّفَاتِ وَالْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ الْمُصَاهَرَةُ وَالِاسْتِمْتَاعُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ مَعَ اخْتِلَافِ الصِّفَاتِ . فَهَذَا فَرْقٌ شَرْعِيٌّ مَعْقُولٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ . أَمَّا إذَا عُرِفَ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ لِاشْتِرَاطِهِ صِفَةً فَبَانَتْ بِخِلَافِهَا وَبِالْعَكْسِ فَإِلْزَامُهُ بِمَا لَمْ يَرْضَ بِهِ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ . وَلَوْ قَالَ : ظَنَنْتهَا أَحْسَنَ مِمَّا هِيَ أَوْ مَا ظَنَنْت فِيهَا هَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . كَانَ هُوَ الْمُفَرِّطَ حَيْثُ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَرَهَا وَلَا أَرْسَلَ مَنْ رَآهَا . وَلَيْسَ مِنْ الشَّرْعِ وَلَا الْعَادَةِ أَنْ تُوصَفَ لَهُ فِي الْعَقْدِ كَمَا تُوصَفَ الْإِمَاءُ فِي السَّلَمِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ صَانَ الْحَرَائِرَ عَنْ ذَلِكَ وَأَحَبَّ سَتْرَهُنَّ ؛ وَلِهَذَا نُهِيَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَعْقِدَ نِكَاحًا فَإِذَا كُنَّ لَا يُبَاشِرْنَ الْعَقْدَ فَكَيْفَ يُوصَفْنَ ؟ وَأَمَّا الرَّجُل فَأَمْرُهُ ظَاهِرٌ
يَرَاهُ مَنْ يَشَاءُ فَلَيْسَ فِيهِ
عَيْبٌ يُوجِبُ الرَّدَّ وَالْمَرْأَةُ إذَا فَرَّطَ الزَّوْجُ فَالطَّلَاقُ
بِيَدِهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ ابْتَاعَ عَبْدًا بِشَرْطِ الْإِبْرَاءِ مِنْ سَائِرِ الْعُيُوبِ
خَلَا الْإِبَاقِ فَلَمَّا ابْتَاعَهُ هَرَبَ عَنْهُ فَمَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ ؟
.
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْإِبَاقِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَهَذَا عَيْبٌ يَسْتَحِقُّ
الرَّدَّ . وَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ قَدْ كَتَمَ هَذَا الْعَيْبَ حَتَّى أَبَقَ
عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يُطَالِبُهُ
بِجَمِيعِ الثَّمَنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ؛ بَلْ هُوَ الْمَنْصُوصُ .
بَابُ الْخِيَارِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَبَايَعَا عَيْنًا وَشَرَطَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخَ
الْبَيْعِ وَإِمْضَاءَهُ فِي مُدَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا . فَهَلْ يُعْتَبَرُ
الْخِيَارُ فِي الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ ؟ أَوْ فِي الْفَسْخِ دُونَ الْإِمْضَاءِ
؟ وَيَكُونُ ذِكْرُ الْإِمْضَاءِ لَغْوًا أَوْ لَا يُعْتَبَرَانِ مَعًا ؟ فَإِنْ
قِيلَ : إنَّ ذِكْرَ الْإِمْضَاءِ لَغْوٌ فَلَا كَلَامَ . وَإِنْ قِيلَ :
إنَّهُمَا يُعْتَبَرَانِ وَلِكُلٍّ مِنْ اللَّفْظَيْنِ أَثَرٌ فِي الْحُكْمِ
فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْإِمْضَاءَ وَالْآخَرُ الْفَسْخَ فَهَلْ الْقَوْلُ
قَوْلُ مَنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ ؛ أَوْ السَّابِقَ مِنْهُمَا ؟ أَفْتُونَا
مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ
وَاخْتَارَ أَحَدُهُمَا فَسْخَ الْبَيْعِ فَلَهُ فَسْخُهُ بِدُونِ رِضَا الْآخَرِ
وَلَوْ سَبَقَ الْآخَرَ بِالْإِمْضَاءِ . وَالْإِمْضَاءُ الْمَقْرُونُ بِالْفَسْخِ
يُقْصَدُ بِهِ تَرْكُ الْفَسْخِ : أَيْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَهُ وَأَنْ
لَا يَفْسَخَهُ ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَفْسَخَاهُ إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَا
يَقْصِدُ بِهِ الْتِزَامَ الْآخَرِ بِالْعَقْدِ لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ بِذَلِكَ
يُنَافِي أَنْ
يَكُونَ لِلْآخَرِ الْفَسْخُ وَهُوَ قَدْ
جَعَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْفَسْخَ . وَإِنْ أَرَادَ بِإِمْضَائِهِ : إمْضَاءَهُ
هُوَ الْعَقْدُ بِمَعْنَى إسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ الْخِيَارِ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا
؛ وَلَكِنْ إذَا سَقَطَ خِيَارُهُ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُ الْآخَرِ ؛ وَلَكِنَّ
الْمَعْنَى الْمَعْرُوفَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ : أَنَّ لِكُلٍّ
مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَهُ وَأَنْ لَا يَفْسَخَهُ . وَإِذَا لَمْ يَفْسَخْهُ
فَقَدْ أَمْضَاهُ . وَنَظِيرُ هَذَا قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ } فَإِنَّ التَّسْرِيحَ هُوَ تَرْكُ الْإِمْسَاكِ ؛ بِحَيْثُ لَا
يَحْبِسُهَا . وَلَا يَحْتَاجُ التَّسْرِيحُ إلَى إحْدَاثِ طَلَاقٍ كَذَلِكَ
إمْضَاءُ الْعَقْدِ لَا يَحْتَاجُ إلَى إحْدَاثِ إمْضَاءٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ أَعْطَى نِطْعًا لِدَلَّالِ يَبِيعُهُ فَنَادَى عَلَيْهِ الدَّلَّالُ
فَزَادَ نِصْفَ دِرْهَمٍ فَرَاحَ الدَّلَّالُ إلَى نَائِبِ الْحِسْبَةِ فَقَالَ
لَهُ : هَذَا صَاحِبُ النِّطْعِ زَادَ فِيهِ نِصْفَ دِرْهَمٍ فَطَلَبَهُ وَقِيلَ
لَهُ ذَلِكَ فَأَنْكَرَ وَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ - خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ
وَإِزَالَةً مِمَّا فِي صُدُورِ مَنْ سَمِعَهُ - وَأَنَّهُ حَلَفَ أَنَّهُ مَا
فَعَلَهُ فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ؟
فَأَجَابَ :
الْمَالِكُ إذَا زَادَ فِي السِّلْعَةِ كَانَ ظَالِمًا نَاجِشًا وَهُوَ شَرٌّ
مِنْ التَّاجِرِ الَّذِي لَيْسَ
بِمَالِكٍ وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُ فِي السِّلْعَةِ وَلَا يَقْصِدُ شِرَاءَهَا ؛
وَلِهَذَا لَوْ نَجَشَ أَجْنَبِيٌّ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ وَأَمَّا الْبَائِعُ
إذَا ناجش أَوْ وَاطَأَ مَنْ يَنْجُشُ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي تَعْزِيرُهُ عَلَى
أَمْرَيْنِ : عَلَى نَجْشِهِ وَعَلَى حَلِفِهِ بِالطَّلَاقِ يَمِينًا فَاجِرَةً
وَلَيْسَ فِعْلُهُ الْمُحَرَّمُ عُذْرًا لَهُ فِي الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ يَسُومُ السِّلْعَةَ بِثَمَنِ كَثِيرٍ وَيَبِيعُهَا بِأَزْيَدَ مِنْ
الْقِيمَةِ الْمُعْتَادَةِ وَقَدْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي جَاهِلًا بِالْقِيمَةِ :
هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُسْتَرْسِلًا - وَهُوَ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ
الْمَبِيعِ - لَمْ يَجُزْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَغْبِنَهُ غَبْنًا يَخْرُجُ عَنْ
الْعَادَةِ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ بِالْقِيمَةِ الْمُعْتَادَةِ أَوْ
قَرِيبٍ مِنْهَا . فَإِنْ غَبَنَهُ غَبْنًا فَاحِشًا فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ
فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ . فَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ : { غَبْنُ
الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا } . وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ حَتَّى يَهْبِطَ بِهِ
السُّوقَ . وَأَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ إذَا هَبَطَ } وَذَلِكَ لِأَنَّ
الْبَائِعَ قَبِلَ أَنْ يَهْبِطَ السُّوقَ يَكُونُ جَاهِلًا بِقِيمَةِ السِّلَعِ
فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَخْرُجَ
الْمُشْتَرِي إلَيْهِ وَيَبْتَاعَ مِنْهُ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَغْرِيرِهِ
وَالتَّدْلِيسِ . وَأَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ إذَا عَلِمَ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ .
فَهَكَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ جَاهِلًا
بِالْقِيمَةِ لَا يَجُوزُ تَغْرِيرُهُ وَالتَّدْلِيسُ عَلَيْهِ : مِثْلَ أَنْ
يُسَامَ سَوْمًا كَثِيرًا خَارِجًا عَنْ الْعَادَةِ لِيَبْذُلَ مَا يُقَارِبُ
ذَلِكَ ؛ بَلْ يُبَاعُ الْبَيْعُ الْمَعْرُوفُ غَيْرُ الْمُنْكَرِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ بَيْعِ الْمُسْتَرْسِلِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْمُسْتَرْسِلُ إلَّا بِالسِّعْرِ
الَّذِي يُبَاعُ بِهِ غَيْرُهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ اسْتَرْسَلَ إلَيْهِ أَنْ
يَغْبِنَ فِي الرِّبْحِ غَبْنًا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ . وَقَدْ قَدَّرَ ذَلِكَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالثُّلُثِ . وَبَعْضُهُمْ بِالسُّدُسِ . وَآخَرُونَ قَالُوا
: يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى عَادَةِ النَّاسِ فَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ
الرِّبْحِ عَلَى المماكسين : يَرْبَحُونَهُ عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ .
وَالْمُسْتَرْسِلُ قَدْ فُسِّرَ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا يُمَاكِسُ بَلْ يَقُولُ :
خُذْ أَعْطِنِي وَبِأَنَّهُ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ فَلَا يَغْبِنُ
غَبْنًا فَاحِشًا لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ { غَبْنُ
الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا } . وَمَنْ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَغْبِنُهُمْ فَإِنَّهُ
يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ ؛ بَلْ يُمْنَعُ مِنْ الْجُلُوسِ فِي سُوقِ
الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَلْتَزِمَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِلْمَغْبُونِ
أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ فَيَرُدَّ السِّلْعَةَ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ وَإِذَا
تَابَ هَذَا الْغَابِنُ الظَّالِمُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَرُدَّ إلَى
الْمَظْلُومِينَ حُقُوقَهُمْ فَلْيَتَصَدَّقْ بِمِقْدَارِ مَا ظَلَمَهُمْ بِهِ وَغَبَنَهُمْ
؛
لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ بِذَلِكَ مِنْ
ذَلِكَ . وَ " بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ " إذَا كَانَ مَعَ أَهْلِ
الْخِبْرَة بِالْأَسْعَارِ الَّتِي يَشْتَرُونَ بِهَا السِّلَعَ فِي غَالِبِ
الْأَوْقَاتِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ غَيْرُهُمْ كَمَا يُبَاعُونَ فَلَا يَرْبَحُ عَلَى
الْمُسْتَرْسِلِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ الْمُضْطَرُّ الَّذِي لَا
يَجِدُ حَاجَتَهُ إلَّا عِنْدَ هَذَا الشَّخْصِ يَنْبَغِي أَنْ يَرْبَحَ عَلَيْهِ
مِثْلَ مَا يَرْبَحُ عَلَى غَيْرِ الْمُضْطَرِّ ؛ فَإِنَّ فِي السَّاقِ : { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ }
وَلَوْ كَانَتْ الضَّرُورَةُ إلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ ؛ مِثْلَ لَوْ يَضْطَرُّ
النَّاسُ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُمْ إلَّا الْقِيمَةَ الْمَعْرُوفَةَ وَلَهُمْ أَنْ
يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُ بِالْقِيمَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ
وَلَا يُعْطُوهُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ :
فَصْلٌ :
وَبَيْعُ الْمَغْشُوشِ الَّذِي يُعْرَفُ قَدْرُ غِشِّهِ إذَا عَرَفَ الْمُشْتَرِي
بِذَلِكَ وَلَمْ يُدَلِّسْهُ عَلَى غَيْرِهِ جَائِزٌ كَالْمُعَامَلَةِ
بِدَرَاهِمِنَا الْمَغْشُوشَةِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ قَدْرُهُ مَجْهُولًا
كَاللَّبَنِ الَّذِي يُخْلَطُ بِالْمَاءِ وَلَا يُقَدِّرُ قَدْرَ الْمَاءِ :
فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَغْشُوشٌ .
وَمَنْ بَاعَ مَغْشُوشًا لَمْ يَحْرُمْ
عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا مِقْدَارُ ثَمَنِ الْغِشِّ فَعَلَيْهِ أَنْ
يُعْطِيَهُ لِصَاحِبِهِ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ إنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ
مِثْلُ مَنْ يَبِيعُ مَعِيبًا مَغْشُوشًا بِعَشَرَةٍ وَقِيمَتُهُ لَوْ كَانَ
سَالِمًا عَشَرَةٌ وَبِالْعَيْبِ قِيمَتُهُ ثَمَانِيَةٌ . فَعَلَيْهِ إنْ عَرَفَ
الْمُشْتَرِيَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الدِّرْهَمَيْنِ إنْ اخْتَارَ وَإِلَّا رَدَّ
إلَيْهِ الْمَبِيعَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ تَصَدَّقَ عَنْهُ بِالدِّرْهَمَيْنِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْمٍ يَعْمَلُونَ عبيا يُدْخِلُونَ فِيهِ صُوفًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ
يُسَمُّونَهُ " السَّلَّاقَةَ " فَيَخْلِطُونَهُ بِمَشَاقِّ الْكَتَّانِ
تَدْلِيسًا مِنْهُمْ وَيَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ صُوفٌ جَيِّدٌ وَرُبَّمَا
عَرَفَهُ التَّاجِرُ ؛ لَكِنَّ التَّاجِرَ يَكْتُمُ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي
فَمَا يَجِبُ عَلَى صَانِعِهِ ؟ وَهَلْ يَتَّجِرُ فِيهِ وَيَكْتُمُهُ عَنْ
مُشْتَرِيهِ ؟ وَمَا حُكْمُهُ فِي نَفْسِ عَمَلِهِ ؟ وَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ
عَمِلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَمَا يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي
ذَلِكَ إذَا كَانُوا يَخْلِطُونَ الْمَشَاقَّ فِي الصُّوفِ الْأَبْيَضِ وَقَدْ
نُهُوا عَنْ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَيَعُودُوا إلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ اللَّه لَيْسَ لِلصَّانِعِ أَنْ يَصْنَعَ ذَلِكَ وَلَا لِلْبَائِعِ أَنْ
يَبِيعَهُ وَلَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ فِيهِ عَيْبًا فَإِنَّ مِقْدَارَ
الْغِشِّ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُشَابَ
اللَّبَنُ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ } بِخِلَافِ الشُّرْبِ فَإِذَا خُلِطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ لِلشُّرْبِ جَازَ وَأَمَّا لِلْبَيْعِ فَلَا وَلَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَخْلُوطٌ بِالْمَاءِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ الْخَلْطِ فَيَبْقَى الْبَيْعُ مَجْهُولًا وَهُوَ غَرَرٌ . وَهَكَذَا كُلَّمَا كَانَ مِنْ الْمَغْشُوشِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ قَدْرُ غِشِّهِ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ بَيْعِهِ وَعَنْ عَمَلِهِ لِمَنْ يَبِيعُهُ وَكَذَلِكَ خَلْطُ الْمُشَاقِّ بِالصُّوفِ الْأَبْيَضِ وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْغِشِّ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ الْغِشِّ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ . وَقَدْ أَفْتَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا : أَنَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ هَذَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ بِتَمْزِيقِ الثَّوْبِ الَّذِي غَشَّهُ وَالتَّصَدُّقُ بِالطَّعَامِ الَّذِي غَشَّهُ كَمَا شَقَّ النَّبِيُّ ظُرُوفَ الْخَمْرِ وَكَسَرَ دِنَانَهَا وَكَمَا أَمَرَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِتَحْرِيقِ الْمَكَانِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَكَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنْ يُحَرِّقَ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَكَمَا حَرَّقَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعِجْلَ وَلَمْ يُعِدْهُ إلَى أَهْلِهِ وَكَمَا تُكْسَرُ آلَاتُ الْمَلَاهِي ، وَنَظَائِرُ هَذِهِ مُتَعَدِّدَةٌ ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَاتِ فِي الْأَمْوَالِ تَتْبَعُ حَيْثُ جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ كَالْعُقُوبَاتِ بِالْأَبْدَانِ . وَادَّعَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَلَا حُجَّةَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ أَصْلًا فَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ إذَا قَامَ بِهِ الْفُجُورُ قَدْ يَتْلَفُ فَالْمَالُ الَّذِي قَامَ
بِهِ صَنَعَةُ الْفُجُورِ - مِثْلُ
الْأَصْنَامِ الْمَنْحُوتَةِ - يَجُوزُ تَكْسِيرُهَا وَتَحْرِيقُهَا كَمَا حَرَّقَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَصْنَامَ كَذَلِكَ مَنْ صَنَعَ
صَنْعَةً مُحَرَّمَةً مِنْ طَعَامٍ أَوْ لِبَاسٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ دَارٍ لِرَجُلٍ بَاعَ ثُلُثَهَا لِزَيْدِ ثُمَّ بَاعَ الْبَاقِيَ لِعَمْرِو -
مِنْ مِلْكِهِ : الثُّلُثَ وَالثُّلُثَيْنِ بِالْوِكَالَةِ عَنْ زَيْدٍ
وَتُوُفِّيَ زَيْدٌ - وَمِنْ حُقُوقِهَا قَنَاةٌ ظَهَرَتْ مُسْتَحَقَّةَ النَّقْلِ
وَالْإِزَالَةِ بِحُكْمِ تَعَدَّى ضَرَرُهَا لِلْغَيْرِ وَتَعَذَّرَ الرَّدُّ
لِإِحْدَاثِ زِيَادَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْبِنَاءِ . فَهَلْ يَجِبُ أَرْشُ
الْقَنَاةِ عَلَى الْبَائِعِ لِعَمْرِو ؟ وَإِذَا وَجَبَ : فَهَلْ يَطْلُبُ
بِأَرْشِ الْحِصَّةِ الَّتِي بَاعَهَا بِالْوِكَالَةِ عَنْ الْمُشْتَرِي مِنْهُ ؟
أَمْ يَخْتَصُّ الطَّلَبُ بِمَا بَاعَهُ عَنْ نَفْسِهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْأَرْشُ الْوَاجِبُ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فِي الثَّمَنِ - إنْ كَانَ الثَّمَنُ
لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي - سَقَطَ مِنْ الثَّمَنِ قَدْرُ الْأَرْشِ . وَإِنْ
كَانَ قَبَضَهُ لِلْبَائِعِ أَوْ وَكِيلِهِ فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْبَائِعَ
بِالْأَرْشِ . ثُمَّ الْوَكِيلُ إنْ ضَمِنَ عُهْدَةَ الْمَبِيعِ أَوْ لَمْ يُسَمِّ
مُوَكِّلَهُ فِي الْعَقْدِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْأَرْشِ فَيَجُوزُ مُطَالَبَتُهُ
بِهِ . وَإِنْ سَمَّاهُ فِي الْعَقْدِ وَلَمْ يَضْمَنْ الْعُهْدَةَ فَهَلْ يَكُونُ
ضَامِنًا لِذَلِكَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ
وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ - :
عَنْ دَارٍ بَيْنَ شَخْصَيْنِ بَاعَهَا أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ
شَرِيكِهِ بِالْوِكَالَةِ لِشَخْصٍ آخَرَ ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ بَنَى فَوْقَ
مَا اشْتَرَاهُ بِنَاءً كَبِيرًا وَمِنْ حُقُوقِهِ قَنَاةٌ مُلَاصِقَةٌ جِدَارَ
تُرْبَةٍ فَنَدَّتْ الْجِدَارَ وَسَرَتْ النَّدَاوَةُ إلَى الْقَبْرِ فَرَفَعَ
مُلَّاكُ التُّرْبَةِ الْمُشْتَرِيَ لِلْحِسْبَةِ فَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ
أَرْبَابُ الْخِبْرَةِ بِتَنْدِيَةِ الْجِدَارِ وَوُصُولِ ذَلِكَ إلَى الْقَبْرِ
وَأَنَّ الْقَنَاةَ مُحْدَثَةٌ عَلَى الْجِدَارِ وَأَنَّهُ ضَرَرٌ يَجِبُ
إزَالَتُهَا مِنْ مَكَانِهَا فَأُلْزِمَ الْمُشْتَرِي بِنَقْلِهَا . فَهَلْ مَا
أَحْدَثَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبِنَاءِ وَالْهَدْمِ يَمْنَعُ الرَّدَّ ؟ أَمْ
لَا ؟ وَإِذَا مَنَعَ فَهَلْ يَثْبُتُ الْأَرْشُ ؟ وَإِذَا ثَبَتَ : فَهَلْ هُوَ
عَلَى الْفَوْرِ يَسْقُطُ بِتَأْخِيرِهِ ؟ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَسْقُطُ
بِالتَّأْخِيرِ ؟ وَمَا أُلْزِمَ بِهَدْمِهِ وَهَدْمِهِ هَلْ يَسْقُطُ أَرْشُهُ
أَمْ لَا ؟ وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ
بِطَلَبِ الْأَرْشِ ثُمَّ تَصَرَّفَ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَشْهَادُ فَهَلْ يَسْقُطُ
أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ . فَتَكُونُ الْمُطَالَبَةُ لِلْوَكِيلِ
بِمَا بَاعَهُ مِنْ مِلْكِهِ وَمِلْكِ مُوَكِّلِهِ أَمْ مِلْكِهِ فَقَطْ ؟ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْقَنَاةُ إذَا كَانَتْ مُحْدَثَةً حَيْثُ لَا يَجُوزُ إحْدَاثُهَا
فَإِنَّهُ يُلْزَمُ مُحْدِثُهَا بِإِزَالَةِ مَا لَا يَجُوزُ إحْدَاثُهُ .
وَالْمُشْتَرِي إنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ بَلْ
اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا حَقٌّ لِلْمِلْكِ لَا يَجُوزُ إزَالَتُهُ فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ : كَانَ هَذَا عَيْبًا . فَإِذَا بَنَى فِي الْعَقَارِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ عَيْبٌ فَلَيْسَ إلَّا الْأَرْشُ دُونَ الرَّدِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَفِي الْأُخْرَى - وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ - لَا الرَّدُّ أَيْضًا . وَيَكُونُ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ بِمَا أَحْدَثَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِيهِ . وَلَا يُلْزَمُ بِالْهَدْمِ مَجَّانًا ؛ لِأَنَّهُ بَنَى بِحَقِّ . وَخِيَارُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمَا وَلَهُمَا قَوْلٌ - كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ . فَإِذَا ظَهَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ سَقَطَ خِيَارُهُ بِالِاتِّفَاقِ . فَإِذَا بَنَى بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ سَقَطَ خِيَارُهُ . وَأَمَّا إذَا أَشْهَدَ بِطَلَبِ الْأَرْشِ اسْتَحَقَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَسْقُطُ الْأَرْشُ بِتَصَرُّفِهِ . وَالْبَائِعُ يُطَالَبُ بِالدَّرْكِ مِنْ أَرْشٍ أَوْ رَدٍّ فِيمَا بَاعَهُ مِنْ مِلْكِهِ . وَأَمَّا إذَا بَاعَهُ مِنْ مِلْكِ مُوَكِّلِهِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُسَمِّهِ فِي الْبَيْعِ طُولِبَ أَيْضًا بِدَرْكِ الْمَبِيعِ وَإِنْ كَانَ سَمَّاهُ فَهَلْ يَجُوزُ مُطَالَبَتُهُ ؟ وَيَكُونُ ضَامِنًا لِعُهْدَةِ الْمَبِيعِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد .
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي
أُلْزِمَ بِالْأَرْشِ ؛ لِأَجْلِ الْقَنَاةِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ
إحْدَاثُهَا . فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْبَائِعَ الْغَارَّ لَهُ بِأَرْشِ مَا
لَزِمَهُ بِغَرَرِهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أُنَاسٍ يتعانون خُرُوجَ الْمِيَاهِ مِثْلُ مَاءِ الْوَرْدِ وَغَيْرِهِ ؛
ثُمَّ إنَّهُمْ يَأْخُذُونَ حَرْقَانِ الْوَرْدِ وَيَنْقَعُونَهُ
وَيَسْتَخْرِجُوهُ عَنْ الْعَادَةِ وَكَذَلِكَ النينوفر يَنْقَعُونَهُ يَابِسًا
فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَيَبِيعُوهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ خَلْطُ الْمَاءِ الْأَوَّلِ بِالْمَاءِ الثَّانِي لِمَنْ يُرِيدُ
بَيْعَهُ وَلَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ الْمُشْتَرُونَ كَمَا رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنَّ يُشَابَ اللَّبَنُ
بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ وَلَا بَأْسَ بِهِ لِلشُّرْبِ } فَإِنَّ هَذِهِ
الْمَائِعَاتِ إذَا شِيبَتْ لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُ مَا يَدْخُلُهَا مِنْ
الْغِشِّ . وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ عُقُوبَةُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَسُلُوكُ
طَرِيقٍ يَمْتَنِعُونَ بِهَا عَنْ الْغِشِّ.
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ عَمَلِ " الْكِيمْيَاءِ " هَلْ تَصِحُّ بِالْعَقْلِ أَوْ تَجُوزُ
بِالشَّرْعِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَا يَصْنَعُهُ بَنُو آدَمَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ وَالطِّيبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا
يُشَبِّهُونَ بِهِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ مِثْلَ مَا يَصْنَعُونَهُ
مِنْ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَمَاءِ الْوَرْدِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ : فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ مِثْلَ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ مِنْ
ذَلِكَ ؛ بَلْ هُوَ مُشَابِهٌ لَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَيْسَ هُوَ مُسَاوِيًا
لَهُ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ . وَذَلِكَ كُلُّهُ مُحَرَّمٌ فِي الشَّرْعِ
بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ
ذَلِكَ . وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الذَّهَبَ الْمَصْنُوعَ مِثْلُ الْمَخْلُوقِ
فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ . وَحَقِيقَةُ " الْكِيمْيَاءِ
" إنَّمَا هِيَ تَشْبِيهُ الْمَخْلُوقِ وَهُوَ بَاطِلٌ فِي الْعَقْلِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي
صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ . فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا
يَقْدِرُ الْعِبَادُ أَنْ يَصْنَعُوا مِثْلَ مَا خَلَقَ وَمَا
يَصْنَعُونَهُ فَهُوَ لَمْ يَخْلُقْ لَهُمْ مِثْلَهُ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقْدَرَهُمْ عَلَى أَنْ يَصْنَعُوا طَعَامًا مَطْبُوخًا وَلِبَاسًا مَنْسُوجًا وَبُيُوتًا مَبْنِيَّةً وَهُوَ لَمْ يَخْلُقْ لَهُمْ مِثْلَ مَا يَصْنَعُونَهُ مِنْ الْمَطْبُوخَاتِ وَالْمَنْسُوجَاتِ وَالْبُيُوتِ الْمَبْنِيَّةِ . وَمَا خَلَقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ وَالْأَنْعَامِ وَالطَّيْرِ وَالْحِيتَانِ فَإِنَّ بَنِي آدَمَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَصْنَعُوا مِثْلَ هَذِهِ الدَّوَابِّ . وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ والباقلا وَاللُّوبِيَا وَالْعَدَسُ وَالْعِنَبُ وَالرُّطَبُ وَأَنْوَاعُ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ لَا يَسْتَطِيعُ الْآدَمِيُّونَ أَنْ يَصْنَعُوا مِثْلَ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَإِنَّمَا يُشَبِّهُونَهُ بِبَعْضِ هَذِهِ الثِّمَارِ كَمَا قَدْ يَصْنَعُونَ مَا يُشْبِهُ الْحَيَوَانَ حَتَّى يُصَوِّرُوا الصُّورَةَ كَأَنَّهَا صُورَةُ حَيَوَانٍ . وَكَذَلِكَ الْمَعَادِنُ . كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ : لَا يَسْتَطِيعُ بَنُو آدَمَ أَنْ يَصْنَعُوا مِثْلَ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ ؛ وَإِنَّمَا غَايَتُهُمْ أَنْ يُشَبِّهُوا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَيُصَفِّرُونَ وَيَنْقُلُونَ . مَعَ اخْتِلَافِ الْحَقَائِقِ ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : تَعْمَلُ تصفيرة ؟ وَيَقُولُونَ نَحْنُ صَبَّاغُونَ . وَهَذِهِ " الْقَاعِدَةُ " الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا اسْتِقْرَاءُ الْوُجُودِ : مِنْ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ مَصْنُوعًا وَالْمَصْنُوعُ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا : هِيَ ثَابِتَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ أَوَائِلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الطَّبَائِعِ وَتَكَلَّمُوا فِي الْكِيمْيَاءِ وَغَيْرِهَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ : { أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ
فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً فَلْيَخْلُقُوا بَعُوضَةً } . وَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ } وَقَالَ : { مَنْ صَوَّرَ صُورَةً كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخِ } وَقَالَ : { إنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ } . وَهَذَا التَّصْوِيرُ لَيْسَ فِيهِ تَلْبِيسٌ وَغِشٌّ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ صُورَةَ الْحَيَوَانِ الْمُصَوَّرَةَ لَيْسَتْ حَيَوَانًا . وَلِهَذَا يُفَرَّقُ فِي هَذَا التَّصْوِيرِ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِ الْحَيَوَانِ فَيَجُوزُ تَصْوِيرُ صُورَةِ الشَّجَرِ وَالْمَعَادِنِ فِي الثِّيَابِ وَالْحِيطَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ صَوَّرَ صُورَةً كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخِ } وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِلْمُسْتَفْتِي الَّذِي اسْتَفْتَاهُ : صَوِّرْ الشَّجَرَ وَمَا لَا رُوحَ فِيهِ . وَفِي السُّنَنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لَهُ فِي الصُّورَةِ : مُرْ بِالرَّأْسِ فَلْيُقْطَعْ } وَلِهَذَا نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالُوا : الصُّورَةُ هِيَ الرَّأْسُ لَا يَبْقَى فِيهَا رُوحٌ فَيَبْقَى مِثْلُ الْجَمَادَاتِ . وَهَذَا التَّصْوِيرُ لَيْسَ فِيهِ غِشٌّ وَلَا تَلْبِيسٌ ؛ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُصَوَّرِ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِ . وَأَمَّا الْكِيمْيَاءُ : فَإِنَّهُ يُشَبِّهُ فِيهَا الْمَصْنُوعَ بِالْمَخْلُوقِ وَقَصَدَ أَهْلُهَا إمَّا
إنْ تُجْعَلَ هَذَا كَهَذَا فَيُنْفِقُونَهُ وَيُعَامِلُونَ بِهِ النَّاسَ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْغِشِّ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَوَجَدَهُ مَبْلُولًا . فَقَالَ : مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ - يَعْنِي الْمَطَرَ - فَقَالَ هَلَّا وَضَعْت هَذَا عَلَى وَجْهِهِ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } وَقَوْلُهُ : { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ فِي كُلِّ غَاشٍّ . وَأَهْلُ الْكِيمْيَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ غِشًّا ؛ وَلِهَذَا لَا يُظْهِرُونَ النَّاسَ إذَا عَامَلُوهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْكِيمْيَاءِ وَلَوْ أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ ذَلِكَ لَمْ يَشْتَرُوهُ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ يُرِيدُ غِشَّهُمْ . وَقَدْ قَالَ الْأَئِمَّةُ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَغْشُوشِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ غِشِّهِ وَإِنْ بَيَّنَ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَغْشُوشٌ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَنْ يُشَابَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ وَأَرْخَصَ فِي ذَلِكَ لِلشُّرْبِ } وَبَيْعُ الْمَغْشُوشِ لِمَنْ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ مَغْشُوشٌ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْكِيمْيَاءُ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ الْغِشِّ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ عَمَلُهَا وَلَا بَيْعُهَا بِحَالِ . مَعَ أَنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا أَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنْ الْكِيمْيَاءِ لَمْ يَشْتَرُوهُ . وَلَوْ قِيلَ لَهُمْ : إنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى الروباص أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بَلْ الْقُلُوبُ مَفْطُورَةٌ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ . وَالْوُلَاةُ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَجِدُونَهُ يَعْمَلُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ مِمَّنْ يَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُنْكِرَهُ فِي الظَّاهِرِ ؛
لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ فِي فِطْرِ الْآدَمِيِّينَ وَلَا تَجِدُ مَنْ يُعَانِي ذَلِكَ إلَّا مُسْتَخْفِيًا بِذَلِكَ أَوْ مُسْتَعِينًا بِذِي جَاهٍ وَعَلَى أَصْحَابِهِ مِنْ الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ وَسَوَادِ الْوُجُوهِ : مَا عَلَى أَهْلِ الْفِرْيَةِ وَالْكَذِبِ وَالتَّدْلِيسِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } . قَالَ أَبُو قلابة : هِيَ لِكُلِّ مُفْتَرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ فِرْيَةٍ وَغِشٍّ وَتَدْلِيسٍ فِي الدِّينِ وَكِلَاهُمَا مِنْ الْمُفْتَرِينَ . وَأَمَّا الْقُدَمَاءُ فَقَدْ قَالُوا : إنَّ الصِّنَاعَةَ لَا تَعْمَلُ عَمَلَ الطَّبِيعَةِ وَأَخْبَرُوا أَنَّ الْمَصْنُوعَ لَا يَكُونُ كَالْمَطْبُوعِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَنِّفُونَ مِنْهُمْ فِي الْكِيمْيَاءِ إذَا حَقَّقُوا قَالُوا : لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا إنَّمَا هُوَ التَّشْبِيهُ فَالطَّرِيقُ فِي التَّشْبِيهِ كَذَا وَكَذَا . فَيَسْلُكُونَ الطُّرُقَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا التَّشْبِيهُ وَهِيَ مَعَ تَنَوُّعِهَا وَكَثْرَتِهَا وَوُصُولِ جَمَاعَاتٍ إلَيْهَا وَاتِّفَاقِهِمْ فِيهَا : عُسْرَةٌ عَلَى أَكْثَرِ الْخَلْقِ كَثِيرَةُ الْآفَاتِ وَالْمُنْقَطِعُ عَنْ الْوُصُولِ أَضْعَافُ الْوَاصِلِينَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ فَجَمَاهِيرُ مَنْ يَطْلُبُ الْكِيمْيَاءَ لَا يَصِلُ إلَى الْمَصْنُوعِ الَّذِي هُوَ مَغْشُوشٌ بَاطِلٌ طَبْعًا مُحَرَّمٌ شَرْعًا ؛ بَلْ هُمْ يَطْلُبُونَ الْبَاطِلَ الْحَرَامَ وَيَتَمَنَّوْهُ وَيَتَحَاكَوْنَ فِيهِ الْحِكَايَاتِ وَيُطَالِعُونَ فِيهِ الْمُصَنَّفَاتِ وَيُنْشِدُونَ فِيهِ الْأَشْعَارَ وَلَا يَصِلُونَ إلَى حَقِيقَةِ الْكِيمْيَاءِ - وَهُوَ الْمَغْشُوشُ - بِمَنْزِلَةِ اتِّبَاعِ الْمُنْتَظَرِ الَّذِي فِي السِّرْدَابِ وَاتِّبَاعِ رِجَالِ الْغَيْبِ الَّذِينَ لَا يَرَاهُمْ
أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ مُعْتَقِدِينَ وُجُودَهُ وَيَمُوتُونَ وَهُمْ لَمْ يَصِلُوا إلَيْهِ وَإِنْ وَصَلُوا إلَى مَنْ يَدَّعِي لِقَاءَهُ مِنْ الْكَذَّابِينَ . وَكَذَلِكَ طُلَّابُ الْكِيمْيَاءِ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ : " الحدبان " لِكَثْرَةِ انْحِنَائِهِمْ عَلَى النَّفْخِ فِي الْكِيرِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى الْحَرَامِ وَلَا يَنَالُونَ الْمَغْشُوشَ وَأَمَّا خَوَاصُّهُمْ فَيَصِلُونَ إلَى الْكِيمْيَاءِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بَاطِلَةٌ لَكِنَّهَا عَلَى مَرَاتِبَ . مِنْهَا مَا يَسْتَحِيلُ بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ وَمِنْهَا مَا يَسْتَحِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ الْمَصْنُوعَ يَسْتَحِيلُ وَيَفْسُدُ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ؛ بِخِلَافِ الذَّهَبِ الْمَعْدِنِيِّ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ وَلَا يَسْتَحِيلُ ؛ وَلِهَذَا ذَكَرُوا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ زَكَرِيَّا الرَّازِيَّ الْمُتَطَبِّبَ - كَانَ مِنْ الْمُصَحِّحِينَ لِلْكِيمْيَاءِ - عَمِلَ ذَهَبًا وَبَاعَهُ لِلنَّصَارَى فَلَمَّا وَصَلُوا إلَى بِلَادِهِمْ اسْتَحَالَ فَرَدُّوهُ عَلَيْهِ وَلَا أَعْلَمُ فِي الْأَطِبَّاءِ مَنْ كَانَ أَبْلَغَ فِي صِنَاعَةِ الْكِيمْيَاءِ مِنْهُ . وَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ هُمْ أَحْذَقُ فِي الْفَلْسَفَةِ مِنْهُ مِثْلَ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ الْكِنْدِيِّ وَغَيْرِهِ . فَإِنَّهُمْ أَبْطَلُوا الْكِيمْيَاءَ وَبَيَّنُوا فَسَادَهَا وَبَيَّنُوا الْحِيَلَ الْكِيمَاوِيَّةَ . وَلَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْكِيمْيَاءِ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ وَلَا مِنْ مَشَايِخِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ
بِإِحْسَانِ . وَأَقْدَمُ مَنْ رَأَيْنَا وَيَحْكِي عَنْهُ شَيْئًا فِي الْكِيمْيَاءِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَقْتَدِي بِهِ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ وَلَا يَرْجِعُونَ إلَى رَأْيِهِ فَإِنْ ثَبَتَ النَّقْلُ عَنْهُ فَقَدْ دَلَّسَ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّسَ عَلَى غَيْرِهِ . وَأَمَّا جَابِرُ بْنُ حَيَّانَ صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْكِيمَاوِيَّةِ فَمَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ وَهَؤُلَاءِ لَا يَعُدُّونَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الذَّهَبَ الْمَصْنُوعَ كَالْمَعْدِنِيِّ - جَهْلًا وَضَلَالًا - كَمَا ظَنَّهُ غَيْرُهُمْ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ وَلَكِنَّهُ لُبِّسَ وَدُلِّسَ فَمَا أَكْثَرُ مَنْ يَتَحَلَّى بِصِنَاعَةِ الْكِيمْيَاءِ . لِمَا فِي النُّفُوسِ مِنْ مَحَبَّةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَتَّى يَقُولَ قَائِلُهُمْ : لَوْ غَنَّى بِهَا مُغَنٍّ لَرَقَصَ الْكَوْنُ . وَعَامَّتُهُمْ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيُظْهِرُونَ لِلطَّمَّاعِ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ الْكِيمْيَاءَ حَتَّى يَأْكُلُوا مَالَهُ وَيُفْسِدُوا حَالَهُ وَحِكَايَاتُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ النَّاسِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى نَقْلٍ مُسْتَقِرٍّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِيمْيَاءِ يُعَاقَبُونَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ فَتَذْهَبُ أَمْوَالُهُمْ - حَيْثُ طَلَبُوا زِيَادَةَ الْمَالِ بِمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ - بِنَقْصِ الْأَمْوَالِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } . وَالْكِيمْيَاءُ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْ الرِّبَا . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ . مَنْ طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ وَمَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ وَمَنْ طَلَبَ غَرَائِبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ . وَيُرْوَى هَذَا الْكَلَامُ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . وَقَدْ قَالَ لِي رَأْسٌ مِنْ رُؤُوسِهِمْ لَمَّا نَهَيْته عَنْهَا وَبَيَّنْت لَهُ فَسَادَهَا وَتَحْرِيمَهَا - وَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ : أَخَذَ يَسْتَعْفِي عَنْ الْمُنَاظَرَةِ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بِالْجِدَالِ وَقَالَ فِيمَا قَالَ - : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِفُ الْكِيمْيَاءَ فَقُلْت لَهُ : كَذِبٌ ؛ بَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْكُفْرِ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ { وَلَا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْإِجْمَاعِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَضَّ فِيهَا النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ حَتَّى { جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ مَزْمُومَةٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَك بِهَا سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ مَزْمُومَةٍ } وَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ بِصَاعٍ فَطَعَنَ فِيهِ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ فِيهَا : كَانَ اللَّهُ غَنِيًّا عَنْ صَاعِ هَذَا وَجَاءَ آخَرُ بِصُرَّةٍ كَادَتْ يَدُهُ تَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهَا فَقَالُوا : هَذَا مِرَاءٌ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { وَجَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عفان بِأَلْفِ نَاقَةٍ فَأَعْوَزَتْ خَمْسِينَ فَكَمَّلَهَا بِخَمْسِينَ فَرَسٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ الْيَوْمِ } وَصَارَتْ هَذِهِ مِنْ مَنَاقِبِهِ الْمَشْهُورَةِ فَيُقَالُ مُجَهِّزُ جَيْشِ الْعُسْرَةِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُمْ طَلَبُوا أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى النِّعَالِ . وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِالنِّعَالِ النِّعَالُ الَّتِي تُلْبَسُ أَوْ الدَّوَابُّ الَّتِي تُرْكَبُ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ : { لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } وَقَدْ كَانَ هُوَ يَحُضُّ النَّاسَ عَلَى الْإِنْفَاقِ غَايَةَ الْحَضِّ . فَلَوْ كَانَتْ الْكِيمْيَاءُ حَقًّا مُبَاحًا وَهُوَ يَعْلَمُهَا لَكَانَ مِنْ الْوَاجِبِ أَنْ يَعْمَلَ مِنْهَا مَا يُجَهِّزُ بِهِ الْجَيْشَ فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَمَنْ نَسَبَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فَقَدْ نَسَبَهُ إلَى مَا نَزَّهَهُ اللَّهُ عَنْهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ لَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْكِيمْيَاءِ حَقًّا ؛ لَا خَمْسًا وَلَا زَكَاةً وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالرِّكَازُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ ؛ هُوَ دَفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ . وَهِيَ الْكُنُوزُ الْمَدْفُونَةُ فِي الْأَرْضِ كَالْمَعَادِنِ . فَأَهْلُ الْحِجَازِ لَا يَجْعَلُونَهَا مِنْ الرِّكَازِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَأَهْلُ الْعِرَاقُ يَجْعَلُونَهَا مِنْ الرِّكَازِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يُوجَدَ الْمَالُ جُمْلَةً وَبَيْنَ أَنْ لَا يُوجَدَ . وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهَا أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يُوجِبُونَ فِي الْمَعْدِنِ حَقًّا ؛ إمَّا الزَّكَاةُ وَإِمَّا الْخُمُسُ .
وَلَوْ كَانَتْ الْكِيمْيَاءُ حَقًّا حَلَالًا لَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا أَعْظَمَ مِنْ الْخُمُسِ وَأَعْظَمَ مِنْ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا ذَهَبٌ عَظِيمٌ بِسَعْيٍ يَسِيرٍ أَيْسَرُ مِنْ اسْتِخْرَاجِ الْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ ؛ لَكِنْ هِيَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الدِّينِ مِنْ الْغِشِّ الْبَاطِلِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَا يَحِلُّ عَمَلُهُ وَلَا اتِّخَاذُهُ مَالًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجِبُوا فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْمَالِ الْحَلَالِ . وَقَالَ لِي الْمُخَاطَبُ فِيهَا : فَإِنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْمَلُ الْكِيمْيَاءَ . قُلْت لَهُ : هَذَا كَذِبٌ لَمْ يَنْقُلْ هَذَا عَنْ مُوسَى أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ بَلْ قَدْ ذَكَرُوا عَنْهُمْ أَنَّ مُوسَى كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ حَقٌّ يَأْكُلُ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ يَعْمَلُ الْكِيمْيَاءَ لَكَانَ يَأْكُلُ مِنْهَا . قَالَ : فَإِنَّ قَارُونَ كَانَ يَعْمَلُ الْكِيمْيَاءَ قُلْت : وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ مَعْرُوفٌ وَإِنَّمَا يَذْكُرُهُ مِثْلُ الثَّعْلَبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ عَمَّنْ لَا يُسَمِّي . وَفِي تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ الْغَثُّ وَالسَّمِينُ فَإِنَّهُ حَاطِبُ لَيْلٍ وَلَوْ كَانَ مَالُ قَارُونَ مِنْ الْكِيمْيَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ عَمِلُوا الْكِيمْيَاءَ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : ( { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ آتَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ وَالْكُنُوزُ إمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ كَنْزُهَا كَمَا قَالَ : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } الْآيَةَ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اطَّلَعَ عَلَى كنائز مَدْفُونَةٍ وَهُوَ الرِّكَازُ وَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ . ثُمَّ إنَّهُ مَاتَ هَذَا الرَّجُلُ وَكَانَ خَطِيبًا بِجَامِعِ فَلَمْ يَشْهَدْ جِنَازَتَهُ مِنْ جِيرَانِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ وَكَانَ يُعَانِي السِّحْرَ وَالسِّيمَيَا وَكَانَ يَشْتَرِي كُتُبًا كَثِيرَةً مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ فَشَهِدْت بَيْعَ كُتُبِهِ لِذَلِكَ فَقَامَ الْمُنَادِي يُنَادِي عَلَى " كُتُبِ الصَّنْعَةِ " وَكَانَتْ كَثِيرَةً يَعْنِي كُتُبَ الْكِيمْيَاءِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : هِيَ عِلْمُ الْحَجَرِ الْمُكَرَّمِ وَهِيَ عِلْمُ الْحِكْمَةِ وَيُعَرِّفُونَهَا بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْعِبَارَاتِ وَكَانَ الْمُتَوَلِّي لِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ السَّيْفِ وَالدِّيوَانِ شُهُودًا فَقُلْت لِوَلِيِّ الْأَمْرِ لَا يَحِلُّ بَيْعُ هَذِهِ الْكُتُبِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَشْتَرُونَهَا فَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهَا فَيَقُولُونَ : هَؤُلَاءِ " زغلية " فَيَقْطَعُونَ أَيْدِيَهُمْ . وَإِذَا بِعْتُمْ هَذِهِ الْكُتُبَ تَكُونُونَ قَدْ مَكَّنْتُمُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَرْت الْمُنَادِيَ فَأَلْقَاهَا بِبَرَكَةِ كانت هُنَاكَ فَأُلْقِيَتْ حَتَّى أَفْسَدَهَا الْمَاءُ وَلَمْ يَبْقَ يُعْرَفُ مَا فِيهَا . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ الْكِيمْيَاءَ لَمْ يَعْمَلْهَا رَجُلٌ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ لَا عَالِمٌ مُتَّبِعٌ وَلَا شَيْخٌ يُقْتَدَى بِهِ وَلَا مَلِكٌ عَادِلٌ وَلَا وَزِيرٌ نَاصِحٌ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهَا شَيْخٌ ضَالٌّ مُبْطِلٌ مِثْلُ ابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِ أَوْ مِثْلُ بَنِي عُبَيْدٍ . أَوْ مَلِكٌ ظَالِمٌ أَوْ رَجُلٌ فَاجِرٌ . وَإِنْ الْتَبَسَ أَمْرُهَا عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَغَالِبُهُمْ يَنْكَشِفُ لَهُمْ أَمْرُهَا فِي الْآخَرِ وَلَا
يَسْتَطِيعُونَ عَمَلَهَا صِيَانَةً مِنْ اللَّهِ لَهُمْ لِحُسْنِ قَصْدِهِمْ وَمَا أَعْلَمُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ أَنْفَقَ مِنْهَا أَوْ أَكَلَ مِنْهَا . وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَعْمَلُونَ بِهَا . فَهَذَا لَا يَعْدُو مَا يَقُولُهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَنَّ مَنْ يَعْمَلُهَا أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمَخْصُوصِينَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْكَرَامَةِ فَهَذَا جَهْلٌ ؛ فَإِنَّ الْكِيمْيَاءَ يَعْمَلُهَا الْمُشْرِكُ وَالْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالْفَاجِرُ وَالْمُبْتَدِعُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ ؛ بَلْ لَا يُعْرَفُ وَلِيٌّ ثَابِتُ الْوِلَايَةِ يَعْمَلُهَا وَمَنْ ذَكَرَهَا مِمَّنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مِثْلُ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ فَهَؤُلَاءِ فِي كَلَامِهِمْ فِي الدِّينِ مِنْ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي كَلَامِهِمْ فِي الْكِيمْيَاءِ فَإِذَا كَانَ كَلَامُهُمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فِيهِ مِنْ الضَّلَالِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ مَا لَمْ يَقُلْهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامُهُمْ فِي الْكِيمْيَاءِ ؟ . ثُمَّ مَنْ اغْتَرَّ بِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ " كِتَابِ السَّعَادَةِ " فِيهِ " وَفِي " كِتَابِ جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ " وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ : فَفِي هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ الْكَلَامِ الْمَرْدُودِ وَالْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مَا لَا يَخْفَى عَلَى عَالِمٍ بِذَلِكَ . وَقَدْ رَدَّ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَأَشْبَاهِهَا مِنْ الضَّلَالِ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَطْعَنُ فِي نَقْلِ هَذِهِ الْكُتُبِ عَمَّنْ أُضِيفَتْ إلَيْهِ وَيَقُولُ : إنَّهُ كَذِبٌ
عَلَيْهِ فِي نِسْبَةِ هَذِهِ الْكُتُبِ إلَيْهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ قَدْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ نَقِيضُ مَا يَقُولُهُ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ وَمَاتَ عَلَى مُطَالَعَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ . نَعَمْ خَرْقُ الْعَادَاتِ لِلْأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ مِثْلُ أَنْ يَصِيرَ النَّبَاتُ ذَهَبًا . وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ طَرِيقُهُ طَرِيقَ الْكِيمْيَاءِ الْمَعْمُولَةِ بِالْمُعَالَجَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ وَبَيْنَ هَذَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ مَا بَيْنَ عَصَا مُوسَى وَعِصِيِّ السَّحَرَةِ فَإِنَّ تِلْكَ كَانَتْ حَيَّةً تَسْعَى وَتِلْكَ يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى . وَبِالْجُمْلَةِ : فَإِذَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ اعْتَقَدُوا أَنَّ عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ حَقٌّ وَحَلَالٌ : فَهَذَا لَا يُفِيدُ شَيْئًا ؛ فَإِنَّ قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ خَالَفَهُمْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمْ وَأَجَلُّ عِنْدَ الْأُمَّةِ لَا يَحْتَجُّ بِهِ إلَّا أَحْمَقُ ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ التَّقْلِيدُ حُجَّةً فَتَقْلِيدُ الْأَكْبَرِ الْأَعْلَمِ الأعبد أَوْلَى . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَمْ يَنْفَعْهُ ذِكْرُهُ لِهَؤُلَاءِ . وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يُفِيدُ هَذَا شَيْئًا . وَيَكْفِيهِ أَنَّ خِيَارَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الْقُرُونِ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا إذْ لَوْ كَانَتْ حَلَالًا لَدَخَلُوا فِيهَا كَمَا دَخَلُوا فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَكْتَسِبُونَ الْأَمْوَالَ بِالْوُجُوهِ وَاكْتِسَابُ الْمَالِ مَعَ إنْفَاقِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَمَلٌ صَالِحٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ . قَالُوا : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ :
يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ . قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَالَ : يُعِينُ صَانِعًا أَوْ يَصْنَعُ لِأَخْرَقَ . قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَالَ : يَكُفُّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ } . وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْأَشْيَاءَ أَجْنَاسًا وَأَصْنَافًا وَأَنْوَاعًا تَشْتَرِكُ فِي شَيْءٍ وَيَمْتَازُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِشَيْءِ كَمَا أَنَّ الدَّوَابَّ تَشْتَرِكُ فِي أَنَّهَا تَحُسُّ وَتَتَحَرَّكُ بِالْإِرَادَةِ فَهَذَا لَازِمٌ لَهَا كُلِّهَا ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ } . إذْ كُلُّ إنْسَانٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَرْثٍ وَهُوَ كَسْبُهُ وَعَمَلُهُ . وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ هَمٍّ هُوَ مَبْدَأُ إرَادَتِهِ وَيَمْتَازُ بَعْضُ الدَّوَابِّ عَنْ بَعْضٍ بِمَا يَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ . فَهَذِهِ الْخَوَاصُّ الْفَاصِلَةُ مُخْتَصَّةٌ كَمَا أَنَّ الصِّفَاتِ الْمُشْتَرِكَةَ عَامَّةٌ وَهَذَا كَالنُّطْقِ لِلْإِنْسَانِ وَالصَّهِيلِ لِلْفَرَسِ وَالرُّغَاءِ لِلْبَعِيرِ وَالنَّهِيقِ لِلْحِمَارِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . كَذَلِكَ النَّبَاتَاتُ تَشْتَرِكُ مَعَ الدَّوَابِّ فِي أَنَّهَا تُنْمَى وَتُغَذَّى ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ لِلنَّبَاتِ حِسٌّ وَلَا إرَادَةٌ تَتَحَرَّكُ بِهَا وَالْمَعْدِنُ مُشَارِكٌ فِي بَعْضِ ذَلِكَ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَافَ - الَّتِي تُسَمَّى الْأَنْوَاعَ الَّتِي يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ الْفَاضِلَةِ - إذَا تَقَوَّمَتْ بِهَذِهِ الْفُضُولِ الْخَوَاصِّ لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ أَنْ يَجْعَلَهَا مِنْ أَنْوَاعٍ أُخَرَ وَلَا أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ الْفَضْلَ وَيُلْبِسَهَا فَضْلًا آخَرَ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْحِنْطَةَ شَعِيرًا وَلَا
الْفَرَسَ حِمَارًا وَلَا الْحِمَارَ ثَوْرًا . وَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْفِضَّةَ ذَهَبًا وَلَا النُّحَاسَ فِضَّةً وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا غَايَتُهُ يُشْبِهُ وُجُودَهُ وَيُدَلِّسُ . وَمَنْ زَعَمَ مِنْ الْكِيمَاوِيَّةِ أَنَّ الْفِضَّةَ ذَهَبٌ لَمْ يَسْتَكْمِلْ نُضْجُهُ فَقَدْ كَذَبَ ؛ بَلْ لِهَذَا مَعْدِنٌ وَلِهَذَا مَعْدِنٌ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ ؟ فَقَالَ : أَتْقَاهُمْ . فَقَالُوا : لَسْنَا نَسْأَلُك عَنْ هَذِهِ ؛ فَقَالَ : يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ . ابْنُ يَعْقُوبَ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ إسْحَاقَ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ . فَقَالُوا : لَسْنَا نَسْأَلُك عَنْ هَذَا . فَقَالَ : أَفَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي ؟ النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } فَكَمَا أَنَّ قُرَيْشًا لَيْسَ أَصْلُهَا أَصْلَ تَمِيمٍ وَعَدْنَانُ لَيْسَ أَصْلُهَا أَصْلَ قَحْطَانَ وَالْعَرَبُ لَيْسَ أَصْلُهَا أَصْلَ الْعَجَمِ فَكَذَلِكَ لَيْسَ أَصْلُ الذَّهَبِ أَصْلَ الْفِضَّةِ وَلَا أَصْلُ الْفِضَّةِ أَصْلَ الذَّهَبِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ مَعْدِنَ الذَّهَبِ يَكُونُ فِيهِ فِضَّةٌ كَمَا يَكُونُ فِي مَعْدِنِ الْفِضَّةِ نُحَاسٌ فَكَذَلِكَ خَبَثُ الْمَعَادِنِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَخْرَجَ مِنْ الْمَعْدِنِ لَا بُدَّ مِنْ تَصْفِيَتِهِ مِنْ خُبْثِهِ وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ مَعَادِنِ الْفِضَّةِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا ذَهَبٌ . وَلَوْ كَانَتْ الْفِضَّةُ إذَا أُكْمِلَ طَبْخُهَا صَارَتْ ذَهَبًا لَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَعَادِنِ الْفِضَّةِ ذَهَبٌ ؛ إلَّا أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ مِنْ طَبِيعَةِ ذَلِكَ الْمَعْدِنِ حَرَارَةُ طَبْخِهَا . فَيُقَالُ : هَذَا أَيْضًا مِمَّا يُبْطِلُ قَوْلَ الْكِيمَاوِيَّةِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ
الذَّهَبَ فِي مَعَادِنَ بِحَرَارَةِ وَرُطُوبَةٍ وَيَخْلُقُهَا فِي الْمَعْدِنِ كَمَا يَخْلُقُ الْأَجِنَّةَ فِي بُطُونِ الْأَرْحَامِ وَكَمَا يَخْلُقُ فِي الْحَرْثِ مِنْ الْأَشْجَارِ وَالزَّرْعِ بِحَرَارَةٍ يَخْلُقُهَا وَمَا يَخْلُقُ بِهِ مِنْ الْحَرَارَةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا فِي تِلْكَ الْأَجْسَامِ لَا تَقُومُ مَقَامَهُ حَرَارَةُ النَّارِ الَّتِي نَصْنَعُهَا نَحْنُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَاسْتِقْرَاءُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ - أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ مَصْنُوعًا وَالْمَصْنُوعُ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا وَأَنَّ الْأَنْوَاعَ الْمُفَضَّلَةَ بِخَوَاصِّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَلَ مِنْهَا نَوْعٌ إلَى نَوْعٍ آخَرَ - يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ وَالدَّلَالَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ ثُمَّ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ - وَسَوَّى بَيْنَ بِلَادِهِ - مِنْ إنْكَارِ ذَلِكَ وَعُقُوبَةُ فَاعِلِيهِ فِي الْجُمْلَةِ ظَاهِرَةٌ وَإِنْ فَعَلَهُ بَعْضُهُمْ بَاطِنًا . ثُمَّ إنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الْكِيمْيَاءَ وَيَدَّعُونَ أَنَّهَا حَقٌّ حَلَالٌ لَوْ بِيعَ لِأَحَدِهِمْ ذَهَبٌ وَقِيلَ لَهُ : هُوَ مِنْ عَمَلِ الْكِيمْيَاءِ لَمْ يَشْتَرِهِ كَمَا يَشْتَرِي الْمَعْدِنِيَّ وَإِنْ صُنِعَ بِهِ كَمَا يُصْنَعُ بِذَهَبِهِ الَّذِي يَعْلَمُهُ مِنْ الِاعْتِبَارِ ؛ بَلْ قَدْ جُبِلَتْ قُلُوبُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا نَسَبُوهُ إلَى الْغِشِّ وَالزَّغَلِ وَالتَّمْوِيهِ وَالنَّاسُ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ فُضَلَاءَ أَهْلِ " الْكِيمْيَاءِ " يَضُمُّونَ إلَيْهَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ السِّيمَيَا كَمَا كَانَ يَصْنَعُ ابْنُ سَبْعِينَ وَالسُّهْرَوَرْدِي الْمَقْتُولُ وَالْحَلَّاجُ
وَأَمْثَالُهُمْ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ؛ بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ يَجِبُ قَتْلُهُ . وَقَدْ ثَبَتَ قَتْلُ السَّاحِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عفان وَحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ طُلَّابَ السِّحْرِ يَعْلَمُونَ أَنَّ صَاحِبَهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ : أَيْ مِنْ نَصِيبٍ وَلَكِنْ يَطْلُبُونَ بِهِ الدُّنْيَا : مِنْ الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ . { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا } لَحَصَلَ لَهُمْ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَطْلُبُونَهُ . وَلِهَذَا تَجِدُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي السِّحْرِ وَدَعْوَةِ الْكَوَاكِبِ
وَتَسْبِيحَاتِهَا فَيُخَاطِبُونَهَا يَسْجُدُونَ لَهَا إنَّمَا مَطْلُوبُ أَحَدِهِمْ الْمَالُ وَالرِّئَاسَةُ فَيَكْفُرُ وَيُشْرِكُ بِاَللَّهِ ؛ لِأَجْلِ مَا يَتَوَهَّمُهُ مِنْ حُصُولِ رِئَاسَةٍ وَمَالٍ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا مَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْتِقْرَاءُ أَحْوَالِ الْعَالَمِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَدَّ مِنْ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ وَالسِّحْرَ وَقَتْلَ النَّفْسِ وَالرِّبَا وَالْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ . وَأَصْنَافُهُ مُتَنَوِّعَةٌ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّك تَجِدُ " السِّيمَيَا " الَّتِي هِيَ مِنْ السِّحْرِ كَثِيرًا مَا تَقْتَرِنُ بِالْكِيمْيَاءِ . وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ السِّحْرَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِذَا كَانَتْ الْكِيمْيَاءُ تُقْرَنُ بِهِ كَثِيرًا وَلَا تَقْتَرِنُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ : عُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ؛ بَلْ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ . وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ وَصَلَ إلَى الْكِيمْيَاءِ وَعَمِلَهَا وَقَدَرَ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ مِنْهَا وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ الطَّالِبِينَ لَهَا لَمْ يَتَوَصَّلُوا إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَمَنْ وَصَلَ مِنْهُمْ إلَى ذَلِكَ مَرَّةً تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ مَعَ حُصُولِ الْمُفْسِدَاتِ . وَمَنْ اسْتَقْرَأَ أَحْوَالَ طَالِبِيهَا وَجَدَ تَحْقِيقَ مَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ حَيْثُ قَالُوا :
مَنْ طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ وَمَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ وَمَنْ طَلَبَ غَرَائِبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ . وَكَمْ أَنْفَقُوا فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ وَكَمْ صَحِبُوا بِهَا مِنْ الرِّجَالِ وَكَمْ أَكْثَرُوا فِيهَا مِنْ الْقِيلِ وَالْقَالِ وَكَمْ عَلَّقُوا بِهَا الْأَطْمَاعَ وَالْآمَالَ وَكَمْ سَهِرُوا فِيهَا مِنْ اللَّيَالِي وَلَمْ يَظْفَرُوا إلَّا بِخَسَارَةِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَنَقْصِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَنَصْبِ الْعَرَضِ وَالذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَالْحَاجَةِ وَالْإِقْتَارِ وَكَثْرَةِ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَصُحْبَةِ شِرَارِ الْأَقْرَانِ وَالِاشْتِغَالِ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الزَّادِ . لَا سِيَّمَا وَهِيَ كَثِيرًا مَا تَقُودُ أَصْحَابَهَا إلَى أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَالْفُسُوقِ ؛ إذْ طَالِبُهَا يَبْغِيهَا بُغْيَةَ الْعَاشِقِ لِلْمَعْشُوقِ ؛ بَلْ قَدْ تُؤَوَّلُ إلَى الْكُفْرِ بِالرَّحْمَنِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ وَالدُّخُولِ فِي أَضَالِيلِ الْمُشْرِكِينَ وَعُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَهُوَ خَسَارَةُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا عَلَى طَمَعٍ كَاذِبٍ كَالْبَرْقِ الْخَالِبِ وَالسَّرَابِ الَّذِي { يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } فَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَظُنُّ فِي أَهْلِ الْكُفْرِ مِنْ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ أَنَّهُمْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَوْ مَنْ يَظُنُّ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْكَذِبِ وَالتَّلْبِيسِ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ { لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } . بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يُظَنُّ فِي الْمُتَنَبِّئِ الْكَذَّابِ : كَمُسَيْلَمَةَ وَالْعَنْسِيَّ وَنَحْوِهِمَا أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ ؛ كَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ . صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ . وَاشْتِبَاهُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَاشْتِبَاهُ النَّبِيِّ بِالْمُتَنَبِّئِ وَالْمُتَكَلِّمِ بِعِلْمٍ بِالْمُتَكَلِّمِ بِجَهْلِ وَالْوَلِيِّ الصَّادِقِ بِالْمُرَائِي الْكَاذِبِ : هُوَ كَاشْتِبَاهِ الذَّهَبِ الْمَعْدِنِيِّ بِالذَّهَبِ الْمَصْنُوعِ وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَإِنَّمَا اهْتَدَى لِلْفَرْقِ التَّامِّ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَهِيَ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ الَّذِينَ هُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ عَلَى خَلْقِهِ فِي الْحَقِّ وَهُمْ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ . جَعَلَنَا اللَّهُ وَسَائِرَ إخْوَانِنَا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ وَالْمُقْتَدِينَ بِهِمْ وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ . وَمِنْ أَعْظَمِ حُجَجِ " الْكِيمَاوِيَّةِ " : اسْتِدْلَالُهُمْ بِالزُّجَاجِ قَالُوا :
فَإِنَّ الزُّجَاجَ مَعْمُولٌ مِنْ
الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَاسُوا عَلَى ذَلِكَ مَا يَعْمَلُونَهُ
مِنْ الْكِيمْيَاءِ وَهَذِهِ حُجَّةٌ فَاسِدَةٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى يَخْلُقُ لِلنَّاسِ زُجَاجًا ؛ لَا فِي مَعْدِنٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ ؛
وَإِنَّمَا الزُّجَاجُ مِنْ قِسْمِ الْمَصْنُوعَاتِ كَالْآجُرِّ وَالْفَخَّارِ
وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُطْبَخُ فِي النَّارِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ لِبَنِي آدَمَ قُدْرَةً عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا
أَنْوَاعًا مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَكَذَلِكَ جَعَلَ
لَهُمْ قُدْرَةً عَلَى مَا يَصْنَعُونَهُ مِنْ الْآنِيَةِ مِنْ الْفَخَّارِ
وَالزُّجَاجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ وَلَمْ يَخْلُقْ لَهُمْ سَبِيلًا عَلَى أَنْ
يَصْنَعُوا مِثْلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ . وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الزُّجَاجَ مِنْ
قِسْمِ الْمَصْنُوعَاتِ دُونَ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ فِيهِ مَا يَشْتَبِهُ
الْمَصْنُوعُ بِالْمَخْلُوقِ بَطَلَتْ حُجَّةُ الْكِيمْيَاءِ . فَإِنَّ أَصْلَ الْمَخْلُوقَاتِ
الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لَا يُمْكِنُ الْبَشَرُ أَنْ يَصْنَعُوا مِثْلَهَا
وَلَا يُمْكِنُهُمْ نَقْلُ نَوْعٍ مَخْلُوقٍ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ
وَالْمَعْدِنِ إلَى نَوْعٍ آخَرَ مَخْلُوقٍ . وَهَذَا مُطَّرِدٌ لَا يُنْقَضُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ بَاعَ مِلْكًا وَعَقَارًا ثُمَّ خَرَجَ مُسْتَحِقًّا . فَهَلْ
يُحَاسِبُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ مِنْ أُجْرَةِ الْمَبِيعِ إذَا كَانَ لَهُ
أُجْرَةٌ ؟ وَهَلْ يَتَوَقَّفُ اسْتِحْقَاقُ
الْأُجْرَةِ عَلَى انْتِفَاعِ
الْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى
الْبَائِعِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ مِنْ الْأُجْرَةِ لِلْمَبِيعِ
مُدَّةَ مَقَامِهِ فِي يَدِهِ أَوْ بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْغَصْبِ فَهُوَ ظَالِمٌ ضَامِنٌ
لِلْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا أَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ وَإِنْ لَمْ
يَعْلَمْ فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْبَائِعِ الظَّالِمِ وَإِذَا انْتَزَعَ
الْمَبِيعَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ الَّذِي
قَبَضَهُ . وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ الْأُجْرَةَ وَهُوَ مَغْرُورٌ رَجَعَ بِهَا عَلَى
الْبَائِعِ الْغَارِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَقُولُ : أَنَّ " السِّيمَيَا " وَ " الْكِيمْيَاءَ
" عِلْمَانِ مِنْ عُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ . وَيَرْوِي
بَعْضُهُمْ فِي الْكِيمْيَاءِ - وَهُوَ الْفِضَّةُ الخدماء أَوْ الْخِدْمَة - مَنْ
أَسْفَاهَا أَكَلَ الْحَلَالَ " وَنَحْوَ ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا مَنْ قَالَ . إنَّ " السِّيمَيَا وَالْكِيمْيَاءَ " مِنْ
عُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَكَاذِبٌ مُفْتَرٍ ؛ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ
نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ تَكَلَّمَ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا
وَلَا عَنْ وَلِيٍّ مَقْبُولٍ عِنْدَ الْأُمَّةِ . أَمَّا " السِّيمَيَا
" فَإِنَّهَا مِنْ السِّحْرِ { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى }
وَلَا رَيْبَ أَنَّ السَّحَرَةَ قَدْ يَشْتَبِهُونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَيَأْتُونَ مَا يَظُنُّ أَنْ يُضَاهِيَ مَا تَأْتِي بِهِ الْأَنْبِيَاءُ كَمَا أَتَى سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ بِمَا يُضَاهُونَ بِهِ مُعْجِزَةَ مُوسَى { فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { سَاجِدِينَ } . وَأَمَّا " الْكِيمْيَاءُ " فَهُوَ الْمُشَبَّهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْمَخْلُوقَيْنِ . وَالْكِيمْيَاءُ لَا تَخْتَصُّ بِهَذَيْنِ ؛ بَلْ تَصْنَعُ كِيمْيَاءَ الْجَوَاهِرِ : كَاللُّؤْلُؤِ وَالزَّبَرْجَدِ . وَكِيمْيَاءَ الْمَشْمُومَاتِ : كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْوَرْدِ وَكِيمْيَاءَ الْمَطْعُومَاتِ . وَهِيَ بَاطِلَةٌ طَبْعًا مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } . " وَالْكِيمْيَاءُ " مِنْ الْغِشِّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إلَّا بِقَدَرٍ وَالْخَلْقُ لَا يَصْنَعُونَ مِثْلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ } . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي ؛ فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا شُعَيْرَةً } . وَالْفَلَاسِفَةُ يَقُولُونَ : إنَّ الصِّنَاعَةَ لَا تَعْمَلُ عَمَلَ الطَّبِيعَةِ : يَعْنِي أَنَّ الْمَصْنُوعَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا لَا يَكُونُ مِثْلَ الْمَطْبُوعِ الَّذِي خُلِقَ بِالْقُوَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ السَّارِيَةِ فِي الْأَجْسَامِ وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَا صَنَعَ الْخَلْقُ مِثْلَهُ وَمَا يَصْنَعُهُ الْخَلْقُ لَمْ يَخْلُقْ لَهُمْ مِثْلَهُ فَهُمْ يَطْحَنُونَ
الطَّعَامَ وَيَنْسِجُونَ الثِّيَابَ
وَيَبْنُونَ الْبُيُوتَ وَلَمْ يَخْلُقْ لَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ
الزُّجَاجُ يَصْنَعُونَهُ مِنْ الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَلَمْ يَخْلُقْ مِثْلَهُ .
وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْكِيمَاوِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ الْكِيمْيَاءِ
وَهِيَ حُجَّةٌ بَاطِلَةٌ لِمَا ذُكِرَ فَإِنَّهُ لَوْ خُلِقَ زُجَاجٌ وَصُنِعَ
زُجَاجٌ مِثْلُهُ : لَكَانَ فِي هَذَا حُجَّةٌ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ .
وَجَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين الَّذِينَ تَكَلَّمُوا
بِعِلْمٍ فِي هَذَا الْبَابِ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكِيمْيَاءَ مُشَبَّهٌ وَأَنَّ
الذَّهَبَ الْمَخْلُوقَ مِنْ الْمَعَادِنِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُصْنَعَ مِثْلُهُ ؛
بَلْ وَلَا يُصْنَعُ وَكُلٌّ يَنْكَشِفُ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا وَلَكِنْ مِنْهُ
مَا هُوَ شَدِيدُ الشَّبَهِ وَمِنْهُ مَا هُوَ أَبْعَدُ شَبَهًا مِنْهُ . وَقَدْ
بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا سَلِيمًا مِنْ الْعَيْبِ ثُمَّ بَاعَهُ كَذَلِكَ
فَسَرَقَ الْعَبْدُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي مَبْلَغًا وَأَبَقَ . فَهَلْ
يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ ؟ أَوْ الثَّانِي ؟ أَوْ
بِالْأَرْشِ . أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ بِالْأَرْشِ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ
وَمَعْنَى
ذَلِكَ : أَنْ يَقُومَ الْعَبْدُ وَلَا
عَيْبَ فِيهِ وَيَقُومُ وَبِهِ هَذَانِ الْعَيْبَانِ فَمَا نَقَصَ مِنْ الْقِيمَةِ
نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ بِحِسَابِهِ فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ سَلِيمًا
أَرْبَعَمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ مَعِيبًا مِائَتَانِ : حُطَّ عَنْهُ نِصْفُ الثَّمَنِ
. وَهَلْ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ عَلَى السَّيِّدِ الَّذِي دَلَّسَ
الْعَيْبَ ؟ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . فَمَذْهَبُ
مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَنَصِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ
بِالثَّمَنِ كُلِّهِ . وَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد
فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ - بِذَلِكَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً فَبَانَتْ عَاشِقَةً فِي سَيِّدِهَا الَّذِي
بَاعَهَا . وَبَاعَهَا الثَّانِي لِثَالِثِ . فَهَلْ لِلثَّالِثِ أَنْ يَرُدَّهَا
عَلَى الثَّانِي ؟ وَهَلْ يَرُدُّهَا الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ هَذَا عَيْبٌ يُنْقِصُ الْقِيمَةَ فِي الْعَادَةِ نَقْصًا بَيِّنًا فَإِذَا
ثَبَتَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى
بَائِعِهِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي لَمْ
يَعْلَمْ الْعَيْبَ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً صَحِيحَةً سَالِمَةً فَهَرَبَتْ مِنْ يَوْمِ
ابْتَاعَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ وَلَا إجْحَافٍ . فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ
يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ قَبْلَ حُضُورِ الْجَارِيَةِ وَوُجُودِهَا
أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مَعْرُوفَةً بِالْإِبَاقِ قَبْلَ
ذَلِكَ وَكَتَمَ الْبَائِعُ هَذَا الْعَيْبَ وَأَبَقَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي
فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ مِنْ
الْقَوْلَيْنِ . وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يُطَالَبُ بِالْأَرْشِ . وَإِنْ لَمْ
تَكُنْ أَبَقَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَكِنْ أَبَقَتْ بِسَبَبِ مَا فَعَلَ بِهَا
الْمُشْتَرِي فَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ . وَإِذَا حَدَثَ بِهِ عَيْبُ إبَاقٍ أَوْ
غَيْرِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا رَدَّ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَمَّا مَالِكٌ فَيَقُولُ : لَهُ الرَّدُّ بِذَلِكَ
إلَى تَمَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى سَنَةٍ وَلَهُ الرَّدُّ
بِالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ دَابَّةٍ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِهَا عَيْبًا فَمَكَثَتْ
عِنْدَهُ مِقْدَارَ شَهْرٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا ظَهَرَ بِهَا عَيْبٌ قَدِيمٌ قَبْلَ الْبَيْعِ وَلَمْ
يَكُنْ عَلِمَ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِذَلِكَ الْعَيْبِ ؛ مَا لَمْ
يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ بَاعَ قَمْحًا فَبَذَرَهُ فَتَلِفَ فَطَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنْ
الْبَائِعِ خَرَاجَ الْأَرْضِ . فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ
لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَهُ بِذَلِكَ ؟ وَإِذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ
الْعَيْبَ كَانَ مِنْ الْبَائِعِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا بَاعَهُ وَسَلَّمَ إلَيْهِ الْمَبِيعَ ثُمَّ تَلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ
الْمُشْتَرِي أَوْ بَذَرَهُ الْمُشْتَرِي فَتَلِفَ : فَلَا ضَمَانَ عَلَى
الْبَائِعِ بَلْ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الثَّمَنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ عَيْبٌ
أَوْ تَدْلِيسٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وَإِنْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ
تَلَفَهُ بِسَبَبِ عَيْبٍ كَانَ فِيهِ وَكَانَ ذَلِكَ الْقَمْحُ قَدْ اشْتَرَى
مِنْهُ غَيْرُ هَذَا الْمُشْتَرِي وَشَهِدُوا أَنَّهُ سَلِيمٌ مِنْ الْعَيْبِ لَمْ
يُقْبَلْ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ بَيِّنَةٌ
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إذَا لَمْ يُقِمْ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً . وَأَيْضًا
فَإِذَا قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ : إنَّ الْمَعِيبَ لَا يُنْبِتُ النَّبَاتَ
الْمُعْتَادَ . وَهَذَا قَدْ نَبَتَ النَّبَاتُ الْمُعْتَادُ ثُمَّ هَافَ : كَانَ
حُجَّةً لِلْبَائِعِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ بَاعَ زَوْجَتَهُ دَارًا بَيْعَ أَمَانَةٍ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ
وَقَدْ اسْتَوْفَتْ الدَّرَاهِمَ مِنْ الْأُجْرَةِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا أَخْذُ
شَيْءٍ آخَرَ وَقَدْ أَخَذَتْ الْأَرْبَعَمِائَةِ ؟ فَهَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، الْمَقْصُودُ بِهَذَا وَأَمْثَالُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ
الْمَالَ وَيَسْتَغِلَّ الْعَقَارَ عَنْ مَنْفَعَةِ الْمَالِ فَمَا دَامَ الْمَالُ
فِي ذِمَّةِ الْآخِذِ فَإِنَّهُ يَسْتَغِلُّ الْعَقَارَ وَإِذَا رَدَّ عَلَيْهِ
الْمَالَ أَخَذَ الْعَقَارَ وَهَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَجُوزُ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ قَصَدَا ذَلِكَ وَأَظْهَرَا صُورَةَ بَيْعٍ
لَمْ يَجُزْ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا . وَمَنْ صَحَّحَ ذَلِكَ
فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ شَرْعِيًّا فَإِذَا شَرَطَ أَنَّهُ
إذَا جَاءَ بِالثَّمَنِ أَعَادَ إلَيْهِ
الْعَقَارَ : كَانَ هَذَا بَيْعًا بَاطِلًا . وَالشَّرْطُ الْمُقَدَّمُ عَلَى
الْعَقْدِ كَالْمُقَارِنِ لَهُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَحِينَئِذٍ
فَمَا حَصَلَ لِلْمَرْأَةِ مِنْ الْأُجْرَةِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَتْ التَّحْرِيمَ
تَحْسَبُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَمَا قَبَضَتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ : فَهُوَ عَلَى
الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ وَإِنْ اصْطَلَحَا عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ أَحْسَنُ . وَمَا
قَبَضَتْهُ بِعَقْدٍ مُخْتَلِفٍ تَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا
رَدُّهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ طَلَبَ مِنْ إنْسَانٍ أَنْ يُقْرِضَهُ دَرَاهِمَ وَلِلرَّجُلِ كَرْمٌ
فَامْتَنَعَ إلَّا أَنْ يَبِيعَهُ الْكَرْمَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَنَّهُ إذَا
جَاءَ بِالدَّرَاهِمِ أَعَادَ إلَيْهِ الْكَرْمَ فَبَاعَهُ الْكَرْمَ بِهَذَا
الشَّرْطِ وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّرْطَ فِي الْعَقْدِ ثُمَّ بَعْدَ الْعَقْدِ قَالَ
الْمُشْتَرِي لِجَمَاعَةِ شُهُودٍ : اشْهَدُوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى جَاءَ هَذَا
بِدَرَاهِمِي أَعَدْت إلَيْهِ كَرْمَهُ . فَهَلْ يَكُونُ هَذَا الْبَيْعُ صَحِيحًا
أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْقِيَامُ بِمَا شَرَطَهُ عَلَى
نَفْسِهِ فِي إعَادَةِ الْكَرْمِ ؟ وَإِذَا مَكَرَ الْمُشْتَرِي بِالْبَائِعِ .
هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ هَذَا بَيْعًا لَازِمًا ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ كَرْمَهُ
إذَا أَعْطَاهُ دَرَاهِمَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمْكُرَ بِهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ اشْتَرَتْ خِرْقَةً تَخِيطُهَا ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ وَجَدْتهَا
خامية وَفِيهَا فَزُور فَهَلْ تَلْزَمُ التَّاجِرَ إنْ رِدَّتَهَا إلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ وَإِذَا كَانَ قَدْ نَقَصَ
بِمَا أَحْدَثَتْهُ فِيهِ مِنْ الْعَيْبِ كَانَ لَهَا الرَّدُّ مَعَ أَرْشِ
الْعَيْبِ الْحَادِثِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ بَاعَ مِلْكًا لِابْنَةٍ تَحْتَ حِجْرِهِ بِأَلْفِ وَثَمَانِينَ - بَيْعَ
أَمَانَةٍ - وَهُوَ يُسَاوِي أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَتْ الشُّهُودُ
وَذَكَرُوا فِي الْمَكْتُوبِ أَنَّ ابْنَةَ الْبَائِعِ أَذِنَتْ فِي الْبَيْعِ
وَلَمْ يَكُنْ الشُّهُودُ حَضَرُوهَا وَلَا لَهَا جَلِيَّةٌ عِنْدَهُمْ . فَهَلْ
يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَيْعُ الْأَمَانَةِ بَيْعٌ بَاطِلٌ وَالْوَاجِبُ رَدُّ
الْعِوَضِ وَبَيْعُ الْأَبِ مِثْلُهُ هَذَا الْغَبْنُ الْعَظِيمُ لَا يَجُوزُ
وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهَا لَا يَصِحُّ
إذْنُهَا وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهَا
بِالْإِذْنِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بَلْ إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فُسِخَ الْبَيْعُ بِكُلِّ
حَالٍ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ ذَكَرَ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ إذَا لَمْ
يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَتَلِفَتْ يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا
؟ أَوْ أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ وَالضَّمَانِ مُتَلَازِمَانِ طَرْدًا وَعَكْسًا
؟ فَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ ؟
فَأَجَابَ :
الْقَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : وَهُوَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ .
والمتأخرون مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةِ
يَقُولُونَ بِتَلَازُمِ التَّصَرُّفِ وَالضَّمَانِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَا دَخَلَ
فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي
ضَمَانِهِ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُهُ فِيهِ ؛ وَلِهَذَا طَرَدَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ
فِي بَيْعِ الثِّمَارِ عَلَى الشَّجَرِ فَلَمْ يَقُلْ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ .
بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَبَضَهَا وَجَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهَا
صَارَ ضَمَانُهَا عَلَيْهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي مَذْهَبِ أَحْمَد
الَّذِي ذَكَرَهُ الخرقي وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ
أُصُولُ أَحْمَد : أَنَّ الضَّمَانَ وَالتَّصَرُّفَ لَا يَتَلَازَمَانِ ؛
وَلِهَذَا كَانَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ الثِّمَارَ إذَا تَلِفَتْ قَبْلَ
تَمَكُّنِ الْمُشْتَرِي
مِنْ جُذَاذِهَا . كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ فَجَوَّزَ تَصَرُّفَهُ فِيهَا مَعَ كَوْنِ ضَمَانِهَا عَلَى الْبَائِعِ . وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَنَّ الثِّمَارَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ } . وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ فِي مَنْعِ التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الثِّمَارِ يُرَافِقُ الطَّرِيقَةَ الْأُولَى . وَمِنْ الْحُجَّةِ لِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ : أَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُؤَجِّرِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهَا إنْ تَلِفَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كَمَوْتِ الدَّابَّةِ وَتَعَطَّلَتْ الْمَنَافِعُ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَائِهَا مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ التَّصَرُّفُ فِيهَا حَتَّى بِالْبَيْعِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى لَا يُؤَجِّرُهَا بِأَكْثَرَ مِنْ الْأُجْرَةِ إذَا لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا زِيَادَةٌ ؛ لِئَلَّا يَرْبَحَ فِيمَا لَمْ يَضْمَنْ وَهِيَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَأَبُو حَنِيفَةَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُمَلَّكُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا تُمَلَّكُ بِالِاسْتِيفَاءِ شَيْئًا فَشَيْئًا . وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ هُوَ وَغَيْرُهُ يُجَوِّزُونَ إجَارَتَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ الْأُجْرَةِ وَيَقُولُونَ : هَذَا لَيْسَ رِبْحًا لَمْ يُضْمَنْ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَنَافِعَ مَضْمُونَةٌ عَلَى
الْمُشْتَرِي بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِيفَائِهَا فَلَمْ يَسْتَوْفِهَا كَانَتْ مِنْ ضَمَانِهِ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ إذَا تَلِفَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَائِهَا وَلِهَذَا كَانَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد فِي ( بَابِ الضَّمَانِ ضَمَانَ الْعَقْدِ - الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ وَمَا لَمْ يَتَمَكَّنْ لَيْسَ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ وَغَيْرِهِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الخرقي وَغَيْرَهُ يَقُولُونَ : إنَّ الصُّبْرَةَ الْمُتَعَيِّنَةَ الْمُبِيعَةَ جُزَافًا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ وَلَا يُجَوِّزُونَ لِلْمُشْتَرِي بَيْعَهَا حَتَّى يَنْقُلَهَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنُ عُمَرَ رَوَى الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا . قَالَ مِنْ السُّنَّةِ : أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ مِلْكِ الْمُبْتَاعِ وَقَالَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ : { كُنَّا نَبْتَاعُ الطَّعَامَ جُزَافًا فَنُهِينَا أَنْ نَبِيعَهُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى نَنْقُلَهُ إلَى رِحَالِنَا } فَقَدْ جَازَ التَّصَرُّفُ حَيْثُ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا فِي الثِّمَارِ وَمَنْعُ التَّصَرُّفِ حَيْثُ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي كَالصُّبْرَةِ مِنْ الطَّعَامِ فَثَبَتَ عَدَمُ التَّلَازُمِ بَيْنَهُمَا . وَمِنْ حُجَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِدَلِيلِ الْمَقْبُوضِ قَبْضًا فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضِ فِي قَبْضٍ فَاسِدٍ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَوْ اشْتَرَى قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ أَوْ رِطْلًا مِنْ زُبْرَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُشْتَرَطُ فِي إقْبَاضِهِ الْكَيْلُ أَوْ الْوَزْنُ : فَقَبَضَ الصُّبْرَةَ كُلَّهَا أَوْ الزُّبْرَةَ كُلَّهَا فَإِنَّ هَذَا قَبْضٌ فَاسِدٌ لَا يُبِيحُ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا بِتَمَيُّزِ مِلْكِهِ
عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ ؛ وَمَعَ هَذَا فَلَوْ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ كَانَتْ مَضْمُونَةً . وَأَيْضًا فَلَيْسَ الْمُشْتَرِي مَمْنُوعًا مِنْ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ ؛ بَلْ السُّنَّةُ إنَّمَا جَاءَتْ فِي الْبَيْعِ خَاصَّةً وَلَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدُ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَقَدْ صَحَّ إجْمَاعًا . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْهِبَةِ وَغَيْرِهَا . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي غَلَّةِ الطَّعَامِ الْمَبِيعِ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ قَبْضِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ فِي النُّصُوصِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ . وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي تَفْرِيعِ هَذَا الْأَصْلِ . وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ تُوَافِقُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى شَخْصٍ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ : كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَارِيَةِ . وَلَيْسَ كُلُّ مَا جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُتَصَرِّفِ ؛ كَالْمَالِكِ : لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُعَارِ فَيَبِيعُ الْمَغْصُوبَ مِنْ غَاصِبِهِ وَمِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى تَخْلِيصِهِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ كَمَا أَنَّ الضَّمَانَ بِالْخَرَاجِ فَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا اُتُّفِقَ مِلْكًا وَيَدًا . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمِلْكُ لِشَخْصٍ وَالْيَدُ لِآخَرَ ؛ فَقَدْ يَكُونُ الْخَرَاجُ لِلْمَالِكِ وَالضَّمَانُ عَلَى الْقَابِضِ . وَأَيْضًا فَبَيْعُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَعِنْدَ مَالِكٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ عَلَيْهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد ؛ مَعَ أَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ مَضْمُونًا عَلَى الْمَالِكِ . وَأَيْضًا فَالْبَائِعُ إذَا مَكَّنَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْقَبْضِ : فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ ؛
وَإِنَّمَا الْمُشْتَرِي هُوَ الْمُفَرِّطُ بِتَرْكِ الْقَبْضِ فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ الْقَبْضِ : بِأَنْ لَا يُوَفِّيَهُ التَّوْفِيَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ ؛ فَلَا يَكِيلُهُ وَلَا يَزِنُهُ وَلَا يَعُدُّهُ فَإِنَّهُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يُوَفِّهِ إيَّاهُ مِنْ الدَّيْنِ . وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ الْبَائِعُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّوْفِيَةِ ؛ كَانَ هُوَ الْمُفْرِطَ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ؛ إذْ التَّفْرِيطُ يُنَاسِبُ الضَّمَانَ . وَأَمَّا حِلُّ التَّصَرُّفِ وَحُرْمَتِهِ فَلَهُ أَسْبَابٌ أُخَرُ : فَقَدْ يَكُونُ السَّبَبُ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّسْلِيمِ حَتَّى لَا يُشَابِهَ بَيْعَ الْغَرَرِ . وَإِذَا لَمْ يَنْقُلْهُ مِنْ مَكَانِهِ : فَقَدْ يُنْكِرُ الْبَائِعُ الْبَيْعَ وَيُفْضِي إلَى النِّزَاعِ . وَقَدْ لَا يُمَكِّنُهُ الْبَائِعُ مِنْ التَّسْلِيمِ كَمَا اشْتَرَطَ فِي الرَّهْنِ الْقَبْضَ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ الْمَرْهُونِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْ الرَّاهِنِ . وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ بِأَنْ يَكُونَ قَابِضًا لِلرَّهْنِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِيَدِ الرَّاهِنِ فَإِنَّهُ يَحُولُ بَيْنَهُمَا . وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعُقُودِ هُوَ التَّقَابُضُ وَبِالْقَبْضِ يَتِمُّ الْعَقْدُ وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ ؛ وَلِهَذَا إذَا أَسْلَمَ الْكُفَّارُ وَتَحَاكَمُوا إلَيْنَا وَقَدْ تَعَاقَدُوا عُقُودًا يُجَوِّزُونَهَا وتقابضوها : لَمْ نَفْسَخْهَا ؛ وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّقَابُضِ نَقَضْنَاهَا ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى الْإِذْنِ بَعْدَ الِاسْمِ فِي قَبْضٍ مُحَرَّمٍ . فَالْبَيْعُ قَبْلَ قَبْضِهِ لَمْ يَتِمَّ مِلْكُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ ؛
بَلْ هُوَ يَتَعَرَّضُ لِلْآفَاتِ شَرْعًا وَكَوْنًا فَكَانَ بَيْعُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ جِنْسِ بَيْعِ الْغَرَرِ ؛ وَلِهَذَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَغَانِمِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ؛ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْقَبْضِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ الْحَدِيثَ مُتَنَاوِلًا لِلدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَيَجْعَلُ التَّسْلِيمَ مُسْتَثْنًى مِنْهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّهُ بِالْعَيْنِ وَيُفَسِّرُهُ بِبَيْعِ عَيْنٍ لَمْ يَمْلِكْهَا وَيَجْعَلُ مَعْنَى " مَا لَيْسَ عِنْدَك " : مَا لَيْسَ فِي مِلْكِك . وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْمِلْكِ وَالْيَدِ جَمِيعًا أَوْ يَشْتَرِطُ فِي الْمَبِيعِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا مَقْبُوضًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَمْلُوكِ الَّذِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَسْلِيمِهِ وَهُوَ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ : كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْفَرَسِ الشَّارِدِ . وَهَذَا حُجَّةُ مَنْ مَنَعَ بَيْعَ الدَّيْنِ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ . قَالَ : لِأَنَّهُ غَرَرٌ لَيْسَ بِمَقْبُوضِ . وَمَنْ جَوَّزَهُ قَالَ : بَيْعُهُ كَالْحَوَالَةِ عَلَيْهِ وَكَبَيْعِ الْمُودَعِ وَالْمُعَارِ فَإِنَّهُ مَقْبُوضٌ حُكْمًا ؛ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا بَيْعَ الثِّمَارِ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى ثَمَرَةً بَادِيَةَ الصَّلَاحِ وَقَبَضَ ثَمَنَهَا فَإِنَّهَا تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْقَبْضَ إلَى كَمَالِ الْجُذَاذِ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ جُذَاذِهَا وَلَكِنْ جَازَ تَمَكُّنُهُ مِنْهَا إذَا خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا : بِجَعْلِ التَّصَرُّفِ . وَقَبْضِهَا التَّخْلِيَةَ وَجَعَلَ فِي الضَّمَانِ قَبْضَهَا التَّمَكُّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ . وَلِغُمُوضِ مَأْخَذِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَثُرَ تَنَازُعُ الْفُقَهَاءِ فِيهَا وَلَمْ يَطَّرِدْ إلَى التَّوَهُّمِ فِيهَا قِيَاسٌ كَمَا تَرَاهُ .
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَلْحَظُ فِيهَا
مَعْنًى ؛ بَلْ يَتَمَسَّكُ فِيهَا بِظَاهِرِ النُّصُوصِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ
يَتَنَاقَضُ فِيهَا ؛ لَكِنْ قَدْ جُعِلَ عَلَى حَمْلِ الْمَذَاهِبِ فِيهَا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى صُبْرَةً مُجَازَفَةً ثُمَّ تَلِفَتْ عَلَى مِلْكِ
الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِهَا ثُمَّ بَاعَهَا قَبْلَ قَبْضِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَعْلَمَ تَلَفَهَا . فَإِذَا قُلْنَا : إنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ لَمْ
يَجُزْ لَهُ بَيْعُهَا قَبْلَ قَبْضِهَا . فَتَلِفَتْ . فَهَلْ هِيَ مِنْ مَالِهِ
؟ أَوْ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ ؟ وَهَلْ ذَكَرَ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ
: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ إذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا
قَبْلَ الْقَبْضِ فَتَلِفَتْ يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا أَوْ أَنَّ جَوَازَ
التَّصَرُّفِ وَالضَّمَانِ مُتَلَازِمَانِ طَرْدًا وَعَكْسًا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ اللَّه ، أَمَّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ
بِالِاتِّفَاقِ إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ وَقْتَ الْعَقْدِ سَوَاءٌ بَاعَهَا
بِالصِّفَةِ أَوْ بِغَيْرِ الصِّفَةِ أَوْ بَاعَهَا بِرُؤْيَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى
الْعَقْدِ ؛ بَلْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ لَوْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ
وَقَبْلَ وُجُودِهَا عَلَى الصِّفَةِ أَوْ الرُّؤْيَةِ الْأُولَى لَا يُفْسَخُ
الْبَيْعُ . فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ تَالِفَةً حِينَ الْعَقْدِ
فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ . وَأَمَّا ضَمَانُهَا فَظَاهِرُ مَذْهَبِ
مَالِكٍ وَأَحْمَد أَنَّ التَّلَفَ مِنْ ضَمَانِ
الْمُشْتَرِي ؛ لِمَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ حَدِيثِ الأوزاعي عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : " مَضَتْ السُّنَّةُ إنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي " إذْ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ مَا كَانَ مُتَعَيَّنًا بِالْعَقْدِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَوْفِيَةٍ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ وَنَحْوِهِمَا ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُشْتَرِي قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ قَبْضِهِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ : قَبَضَهُ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ . وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ : فَإِنَّهَا مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد وَاخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ ؛ لَكِنَّ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ مُتَنَوِّعٌ . فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَدْخُلُ الْمَبِيعُ كُلُّهُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي إلَّا بِالْقَبْضِ ؛ إلَّا الْعَقَارَ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْعَقَارُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَةٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَغَيْرِهِمَا . وَرِوَايَةٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ . وَرِوَايَةٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَطْعُومِ : الْمَكِيلِ الْمَوْزُونِ وَغَيْرِهِ . وَهَذَا فِي الْقَبْضِ عَنْهُ كَالرِّوَايَاتِ فِي الرِّبَا .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ : فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ
أَصْلُهُ أَنَّ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ
مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ مِثْلُ مَا يُوجِبُ التَّقَابُضَ : فِي الْبَيْعِ
وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ اللَّازِمَةِ
فَإِنَّ لُزُومَهَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِهَا وَتَحْرِيمَ نَقْضِهَا .
وَأَمَّا " الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ " مِنْ الْوِكَالَاتِ
بِأَنْوَاعِهَا وَالْمُشَارَكَاتِ بِأَصْنَافِهَا فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ
الْوَفَاءَ مُطْلَقًا ؛ إذْ الْعَقْدُ لَيْسَ بِلَازِمٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ ؛
بَلْ هُوَ جَائِزٌ مُبَاحٌ وَصَاحِبُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إمْضَائِهِ وَفَسْخِهِ
وَإِذَا فَسَخَهُ كَانَ نَقْضًا لَهُ ؛ لَكِنْ مَا دَامَ الْعَقْدُ مَوْجُودًا
فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمُوجِبِهِ مِنْ حِفْظِ الْمَالِ ؛ فَإِنَّهُ عَقْدُ
أَمَانَةٍ . وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْعُدْوَانِ كَالْخِيَانَةِ فَذَاكَ وَاجِبٌ
بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ إذْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْعُدْوَانُ فِي مَالِ مَنْ
ائْتَمَنَهُ وَغَيْرِهِ ؛ لَكِنَّ الْعَقْدَ أَوْجَبَ ذَلِكَ أَيْضًا وَزَادَهُ
تَوْكِيدًا .
وَأَمَّا وُجُوبُ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْعَامِلُ : فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ إذَا تَرَكَ التَّصَرُّفَ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ : مُفَرِّطًا فَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَمَا دَامَ مَوْجُودًا فَلَهُ مُوجِبَانِ : الْحِفْظُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ وَالتَّصَرُّفُ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ . وَهَذَا قِيَاسُ مَذْهَبِنَا ؛ لِأَنَّا نُوجِبُ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ بِالْبَيْعِ وَالْعِمَارَةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْآخَرُ فِي الْعُرْفِ : مِثْلُ عِمَارَةِ مَا استهدم . هَذَا فِي شَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ فَكَذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعُقُودِ ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا هُوَ التَّصَرُّفُ . فَتَرْكُ التَّصَرُّفِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ تَرْكِ عِمَارَةِ الْمَكَانِ المستهدم فِي شَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ . وَمَنْ تَرَكَ بَيْعَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ يُمْكِنُ الشَّرِيكَ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ وَهُنَا غَرَّهُ وَضَيَّعَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ مَالِهِ فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا لَمْ يَثْبُتْ جَمِيعُ مُقْتَضَاهُ مِنْ وُجُوبِ التَّقَابُضِ وَالتَّصَرُّفِ وَحِلِّ التَّصَرُّفِ وَالِانْتِفَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ فَهُوَ قَبْضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ بِعَقْدِ فَلَيْسَ مِثْلُ قَبْضِ الْغَاصِبِ الَّذِي هُوَ بِغَيْرِ إذْنٍ ؟ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : مَا ضُمِنَ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ ضُمِنَ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَالْمَبِيعِ وَالْمُؤَجَّرِ . وَمَا لَمْ يُضْمَنْ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا يُضْمَنُ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَالْأَمَانَاتِ : مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا ؛ لِوُجُودِ الْإِذْنِ . وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي حُصُولِ الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ فِيهِ وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ
مِنْ الْعِوَضِ هَلْ هُوَ الْمُسَمَّى . أَوْ عِوَضُ الْمِثْلِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . وَذَلِكَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ قَبْضٌ بِغَيْرِ إذْن الْمَالِكِ وَهَذَا قَبْضٌ بِإِذْنِ الْمَالِكِ . الثَّانِي : أَنَّ هَذَا قَبْضٌ اقْتَضَاهُ عَقْدٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَسَادٌ وَذَاكَ قَبْضٌ لَمْ يَقْتَضِهِ عَقْدٌ بِحَالِ ؛ وَلِهَذَا نُوجِبُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَفِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ وَنَحْوِهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . فَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ بِهِ مَوْجُودًا وَأَرَادَ الرَّدَّ رَدَّهُ وَإِنْ كَانَ فَائِتًا رَدَّ مِثْلَهُ إذَا أَمْكَنَ . فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ أَوْ الْمِثْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ عِوَضٍ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ؛ بَلْ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ وَمِثْلُ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ بِالْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ وَمِثْلُ عَمَلِ الْعَامِلِ فِي الْمُشَارَكَةِ الْفَاسِدَةِ : مِنْ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا . فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يُوجِبُ رَدَّ الْقِيمَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ رَدَّ الْعَيْنَ أَوْ الْمَنْفَعَةَ وَقَدْ تَعَذَّرَ عَيْنُهُ وَمِثْلُهُ فَيُنْقَلُ إلَى الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ ضُمِّنَتْ بِالْإِتْلَافِ أَوْ الْغَصْبِ . وَطَرَدَ الشَّافِعِيُّ هَذَا فِي الْمُسَمَّى الْفَاسِدِ فِي النِّكَاحِ وَالْمَغْصُوبِ : فَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ رَدُّ الْبُضْعِ لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُ رَدَّ بَدَلَهُ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَخَالَفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ .
وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ أَوْجَبُوا بَدَلَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى مِثْلُهُ أَوْ قِيمَتُهُ ؛ لَا بَدَلَ الْبُضْعِ وَهُوَ الصَّوَابُ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ هُنَا لَمْ يَفْسُدْ فَلَمْ يَجِبْ رَدُّ الْمُسْتَحِقِّ بِهِ وَهُوَ الْبُضْعُ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ رَدُّ الْبُضْعِ لَمْ يَجِبْ رَدُّ بَدَلِهِ ؛ بَلْ الْوَاجِبُ هُوَ إعْطَاءُ الْمُسَمَّى إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَبَدَلُهُ فَكَانَ بَدَلُ الْمُسَمَّى هُوَ الْوَاجِبُ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى مَا تَرَاضَوْا بِهِ مِنْ بَدَلِ الْبُضْعِ وَفِي سَائِرِ الْعُقُودِ إذَا فَسَدَتْ تُوجِبُ رَدَّ الْعَيْنِ أَوْ بَدَلَهَا . وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَد أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمُشَارَكَةِ - مِثْلُ الْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا - الْمُسَمَّى أَيْضًا : كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى . بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْفَاسِدِ قِيمَةُ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَوْ أَمْكَنَ رَدُّهَا أَوْ رَدُّ مِثْلِهَا لَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ ؛ لَأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا انْتَفَى وَجَبَ إعَادَةُ كُلِّ حَقٍّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَالْمِثْلُ يَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ . أَمَّا إذَا كَانَ الْحَقُّ قَدْ فَاتَ مِثْلُ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالْعَمَلِ فِي الْمُؤَاجَرَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالْغَبْنِ فِي الْمَبِيعِ : فَالْقِيمَةُ لَيْسَتْ مِثْلًا لَهُ . وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ : كَالْمُتْلَفِ وَالْمَغْصُوبِ الَّذِي تَعَذَّرَ مِثْلُهُ ؛ لِلضَّرُورَةِ ؛ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يُوجَدُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِنْ الْقِيمَةِ فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْعَدْلُ الْمُمْكِنُ كَمَا قُلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ
وَدِيَةِ الْخَطَأِ وَأَرْشِ الْجِرَاحِ . وَاعْتَبَرْنَا الْقِيمَةَ بِتَقْوِيمِ النَّاسِ ؛ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ مُتَعَاقِدَانِ تَرَاضَيَا بِشَيْءِ . وَأَمَّا هُنَا فَقَدْ تَرَاضَيَا بِأَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ وَالنَّاسُ يَرْضَوْنَ لَهَا بِبَدَلٍ آخَرَ فَكَانَ اعْتِبَارُ تَرَاضِيهِمَا أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ رِضَا النَّاسِ . فَإِنْ قِيلَ : هُمَا إنَّمَا تَرَاضَيَا بِهَذَا الْبَدَلِ فِي ضِمْنِ صِحَّةِ الْعَقْدِ ؛ وَوُجُوبِ مُوجِبَاتِهِ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ هُنَا ؟ قِيلَ : وَالنَّاسُ إنَّمَا يَجْعَلُونَ هَذَا قِيمَةً فِي ضِمْنِ عَقْدٍ صَحِيحٍ لَهُ مُوجِبَاتُهُ فَلَمَّا تَعَذَّرَ الْعَقْدُ هُنَا قَدَّرْنَا وُجُودَ عَقْدٍ يُعْرَفُ بِهِ الْبَدَلُ الْوَاجِبُ فِيهِ فَتَقْدِيرُ عَقْدِهِمَا الَّذِي عَقَدَاهُ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِ مَا لَمْ يُوجَدْ بِحَالِ وَلَا رَضِيَا بِهِ وَلَمْ يَعْقِدْهُ غَيْرُهُمَا . فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ وَالتَّقْرِيبِ فَمَا كَانَ أَشْبَهَ بِالْوَاقِعِ كَانَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيرِ وَأَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ . فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ إيجَابَ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إنَّمَا هُوَ شَبِيهٌ لَهَا بِمَنْ يَتَزَوَّجُ مِنْ أَمْثَالِهَا نِكَاحًا صَحِيحًا لَازِمًا فَتَحْتَاجُ فِيهِ إلَى شَيْئَيْنِ : إلَى تَقْدِيرِ مِثْلِهَا وَتَقْدِيرِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فِيهِ مُسَمًّى . فَقِسْنَاهَا عَلَى أَمْثَالِهَا وَقِسْنَا فَاسِدَهَا عَلَى صَحِيحِ أُولَئِكَ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْمُسَمَّى فِي الْفَاسِدِ قِسْنَا فَاسِدَهَا بِصَحِيحِهَا وَهِيَ إلَى نَفْسِهَا أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهَا إلَيْهَا . ثُمَّ عَقْدُهُمَا الْفَاسِدُ وَعَقْدُهُمَا الصَّحِيحُ أَقْرَبُ مِنْ عَقْدِهِمَا الْفَاسِدِ إلَى عَقْدِ غَيْرِهِمَا الصَّحِيحِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ بِلَا نِكَاحٍ فَهُنَا يُوجِبُ مَهْرَ مِثْلِهَا .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ
اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ : قَاعِدَةٌ فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ .
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ يَعْتَقِدُ
الْفَسَادَ وَيَعْلَمُهُ أَوْ لَا يَعْتَقِدُ الْفَسَادَ . فَالْأَوَّلُ يَكُونُ
بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ ؛ حَيْثُ قَبَضَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ ؛
لَكِنَّهُ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ وَكَوْنِ الْقَبْضَ عَنْ التَّرَاضِي هَلْ
يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ أَوْ لَا يَمْلِكُهُ ؟ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ
يَتَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ لَا يَتَصَرَّفُ ؟ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي
الْمِلْكِ . هَلْ يَحْصُلُ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ ؟ . وَأَمَّا إنْ
كَانَ الْعَاقِدُ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ الْعَقْدِ : مِثْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا
يَتَعَاقَدُونَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ
؛ مِثْلُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالرِّبَا وَالْخِنْزِيرِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ
إذَا اتَّصَلَ بِهَا الْقَبْضُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالتَّحَاكُمِ إلَيْنَا
أُمْضِيَتْ لَهُمْ وَيَمْلِكُونَ مَا قَبَضُوهُ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ ؛ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ
مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ } فَأَمَرَ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ . وَإِنْ أَسْلَمُوا أَوْ تَحَاكَمُوا قَبْلَ الْقَبْضِ فُسِخَ الْعَقْدُ وَوَجَبَ رَدُّ الْمَالِ إنْ كَانَ بَاقِيًا أَوْ بَدَلُهُ إنْ كَانَ فَائِتًا . وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَدِّ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا فِي الذِّمَمِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّ مَا قَبَضُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَجَعَلَ لَهُمْ مَعَ مَا قَبَضُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ رُءُوسَ الْأَمْوَالِ . فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِهَذَا الْعَقْدِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ يَمْلِكُهُ صَاحِبُهُ أَمَّا إذَا طَرَأَ الْإِسْلَامُ وَبَيْنَهُمَا عَقْدُ رِبًا فَيَنْفَسِخُ وَإِذَا انْفَسَخَ مِنْ حِينِ الْإِسْلَامِ اسْتَحَقَّ صَاحِبُهُ مَا أَعْطَاهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ الرِّبَوِيَّةَ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَا قَبَضَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ وَذَلِكَ الْعَقْدُ أَوْجَبَ ذَلِكَ الْقَبْضَ فَلَوْ أَوْجَبْنَاهُ عَلَيْهِ لَكُنَّا قَدْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ رَدَّهُ وَحَاسَبْنَاهُ بِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي اسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ وَذَلِكَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ . وَهَكَذَا كُلُّ عَقْدٍ اعْتَقَدَ الْمُسْلِمُ صِحَّتَهُ بِتَأْوِيلٍ مِنْ اجْتِهَادٍ أَوْ تَقْرِيرٍ : مِثْلُ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يُبِيحُهَا مُجَوِّزُو الْحِيَلِ . وَمِثْلُ بَيْعِ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ . وَمِثْلُ بُيُوعِ الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ بَعْضَهَا ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ إذَا حَصَلَ فِيهَا التَّقَابُضُ مَعَ اعْتِقَادِ الصِّحَّةِ
لَمْ تُنْقَضْ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لَا
بِحُكْمِ وَلَا بِرُجُوعٍ عَنْ ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ . وَأَمَّا إذَا تَحَاكَمَ
الْمُتَعَاقِدَانِ إلَى مَنْ يَعْلَمُ بُطْلَانَهَا قَبْلَ التَّقَابُضِ أَوْ
اسْتَفْتَيَاهُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُمَا الْخَطَأُ فَرَجَعَ عَنْ الرَّأْيِ
الْأَوَّلِ فَمَا كَانَ قَدْ قُبِضَ بِالِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ أُمْضِيَ .
وَإِذَا كَانَ قَدْ بَقِيَ فِي الذِّمَّةِ رَأْسُ الْمَالِ وَزِيَادَةٌ
رِبَوِيَّةٌ : أُسْقِطَتْ الزِّيَادَةُ وَرَجَعَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ . وَلَمْ
يَجِبْ عَلَى الْقَابِضِ رَدُّ مَا قَبَضَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِالِاعْتِقَادِ
الْأَوَّلِ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَوْلَى لِأَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ بَاطِلٌ
قَطْعًا .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
إذَا كَانَ إيجَابُ الْمُسَمَّى أَوْ مِثْلُهُ أَقْرَبَ إلَى التَّسْوِيَةِ فِي
الْفَاسِدِ الَّذِي يَتَعَذَّرُ رَدُّهُ : رَدَّ الْمَقْبُوضَ أَوْ مِثْلَهُ مِنْ
إيجَابِ مِثْلِ الْعِوَضِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ عَلَى مِثَالِ هَذَا
الْمَضْمُونِ . فَنَقُولُ : الْمِثْلُ مِنْ فَاسِدٍ فَسَدَ مِثْلُهُ فَلَيْسَ
الْمُؤَجَّلُ مِثْلَ الْحَالِّ وَلَا أَحَدُ النَّوْعَيْنِ مِثْلَ الْآخَرِ فَلَوْ
أَسْلَمَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ فِي شَيْءٍ سَلَمًا وَلَمْ
يَتَغَيَّرْ سِعْرُهُ وَقُلْنَا : هُوَ سَلَمٌ . فَإِنْ رَدَّ إلَيْهِ رَأْسَ مَالِهِ فِي الْحَالِ أَوْ مِثْلَهُ فَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ . وَأَمَّا إذَا أَخَّرَهُ إلَى حِينِ حُلُولِ السَّلَمِ ثُمَّ أَرَادَ رَدَّ مِثْلِ رَأْسِ مَالِهِ : فَلَيْسَ هَذَا مِثْلًا لَهُ . فَإِذَا أَوْجَبْنَا الْمُسْلَمَ فِيهِ بِقِيمَتِهِ وَقْتَ الْإِسْلَافِ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْعَدْلِ فَإِنَّهُمَا تَرَاضَيَا أَنْ يَأْخُذَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَا مِنْ غَيْرِهِ ؛ لَكِنْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى الْقَدْرِ فَرَدُّهُمَا إلَى الْقِيمَةِ الْعَادِلَةِ هُوَ الْوَاجِبُ بِالْقِيَاسِ ؛ فَإِنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُثَمَّنِ . وَلَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً لَمْ يَقْطَعْ فِيهَا وَقُلْنَا هُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ وَمِثْلِهَا : رُدَّتْ الْقِيمَةُ بِالسِّعْرِ وَقْتَ الْقَبْضِ فَكَمَا أَوْجَبْنَا هُنَا قِيمَةَ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْعِوَضِ نُوجِبُ هُنَاكَ قِيمَةَ الْمَقْبُوضِ مِنْ الدَّرَاهِمِ . وَنَظِيرُهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ : أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا لَمْ يُقْطَعْ ثَمَنُهُ ؛ لَكِنَّهُ مُؤَجَّلٌ إلَى حَوْلٍ فَحِينَ يَحِلُّ الْأَجَلُ إنْ رَدَّ حِنْطَةً مِثْلًا لَمْ يَكُنْ مِثْلًا لِتِلْكَ الْمَقْبُوضَةِ ؛ لِاخْتِلَافِ الْقِيمَةِ فَإِعْطَاءُ قِيمَةِ الْمَقْبُوضِ وَقْتَ قَبْضِ السِّلْعَةِ مُؤَجَّلًا إلَى حِينِ قَبْضِ الثَّمَنِ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ . فَهَذَا فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ سَوَاءٌ . وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ وَتَرَاضَيَا بِهِ ؛ كَانَ أَوْلَى بِالِاسْتِحْقَاقِ مِمَّا لَمْ يَتَعَاقَدَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَرَاضَيَا بِهِ وَأَنَّ
الْمَضْمُونَ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ
إذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ بِالْقِيمَةِ لَا بِالْعُقُودِ
فَتَقْدِيرُ الْمَضْمُونِ بِذَلِكَ الْعَقْدِ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِهِ
بِالْمَضْمُونِ بِعَقْدٍ آخَرَ ؛ لَكِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ " مَسْأَلَةُ
الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ " مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ
اخْتِلَافَ الْأَسْعَارِ يُؤَثِّرُ فِي التَّمَاثُلِ وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي
مَوْضِعِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَاقَدَ رَجُلًا بِثَغْرِ الإسكندرية عَلَى غَلَّةٍ ذَكَرَ أَنَّهَا
مُودَعَةٌ فِي نَاحِيَةٍ بِبَيْرُوتَ وَأَعْطَاهُ الثَّمَنَ وَأَرْسَلَ وَكِيلَهُ
لِيُسَلِّمَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجِدْ الْغَلَّةَ ؛ بَلْ وَجَدَهَا
تَحْتَ الْحَوْطَةِ كُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَشْهَدَ الْمُشْتَرِي عَلَى
نَفْسِهِ أَنَّهُ تَسَلَّمَ الْغَلَّةَ الْمَذْكُورَةَ . فَهَلْ يَجُوزُ لِهَذَا
الْبَائِعِ تَأْخِيرُ مَا قَبَضَهُ مِنْ الثَّمَنِ ؟ وَهَلْ لَهُ فِي ذَلِكَ
شُبْهَةٌ وَيُعْطِي الْبَائِعَ بِتَأْخِيرِ الثَّمَنِ عَمَّنْ سَلَّمَهُ بَعْدَ
الْمُطَالَبَةِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَبِيعَ الْغَائِبَ
أَوْ وَجَدَهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَبْضِهِ فَلَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ إنْ
كَانَتْ الْعَيْنُ مَغْصُوبَةً . وَإِنْ تَلِفَتْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَوَجَبَ
عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الثَّمَنَ إذَا طَلَبَهُ الْمُشْتَرِي وَلَا
يَنْفَعُهُ إشْهَادُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ إذَا كَانَ قَدْ أَشْهَدَ
قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنْ قَامَتْ
عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْإِقْرَارِ وَكَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا : فَلَهُ
تَحْلِيفُ الْبَائِعِ أَنَّ بَاطِنَ الْإِقْرَارِ كَظَاهِرِهِ فِي أَصَحِّ
قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا إذَا عَلِمَ كَذِبَ الْإِقْرَارِ بِأَنْ يَكُونَ
قَدْ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ هَذَا
الْإِقْرَارُ كُلُّهُ - إذَا صَحَّ بَيْعُ الْغَائِبِ بِأَنْ يَبِيعَهُ
بِالصِّفَةِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ . وَأَمَّا مَنْ
أَبْطَلَ بَيْعَهُ مُطْلَقًا كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ فَالْبَيْعُ
بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُصَحِّحُهُ مُطْلَقًا وَأَحْمَد فِي
رِوَايَةٍ ؛ لَكِنْ لَهُ الْخِيَارُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ بِكُلِّ حَالٍ وَبِكُلِّ
حَالٍ فَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَلَى الْبَائِعِ دَفْعَ الثَّمَنِ
إذَا طَلَبَهُ الْمُشْتَرِي وَالْحَالَةُ هَذِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ بَاعَ بَيْعًا وَجَحَدَ الْبَيْعَ وَأَشْهَدَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى
نَفْسِهِ بِالْفَسْخِ فَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا جَحَدَ الْبَيْعَ وَفَسَخَهُ الْمُشْتَرِي كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ
إلْزَامُ الْمُشْتَرِي ثَانِيًا بِالْقَبْضِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى مِلْكًا بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ . وَدَفَعَ الثَّمَنَ بِمَحْضَرِ
شُهُودِ كِتَابِ التَّبَايُعِ وَثَبَتَ الْكِتَابُ وَحَكَمَ بِهِ حُكَّامُ
الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمِلْكَ الْمُشْتَرَى
مُسْتَحِقٌّ غَيْرُ الْبَائِعِ وَأَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَهُ بِذَلِكَ الشَّرْعِ
وَرَفَعَ يَدَ الْمُشْتَرِي عَمَّا اشْتَرَاهُ مِنْهُ وَالرَّجُلُ يَوْمَئِذٍ
غَائِبٌ فَوْقَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَلَهُ أَمْلَاكٌ حَاضِرَةٌ وَأَمْوَالٌ .
فَهَلْ إذَا طَلَبَ الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ مِنْ الْحَاكِمِ الَّذِي بِبَلَدِ الْمُشْتَرِي
الَّذِي حَكَمَ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ بِنَظِيرِ مَا قَبَضَ الْغَائِبُ مِنْ
الرَّجُلِ الْمُشْتَرِي مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ يُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ
وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ إذَا ظَهَرَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا فَلِلْمُشْتَرِي
أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى مَنْ قَبَضَهُ مِنْهُ أَوْ بِبَدَلِهِ . فَإِذَا
كَانَ الْقَابِضُ مِنْهُ غَائِبًا حُكِمَ عَلَيْهِ إذَا قَامَتْ الْحُجَّةُ
وَسَلَّمَ إلَى الْمَحْكُومِ لَهُ حَقَّهُ مِنْ مَالِ الْغَائِبِ مَعَ بَقَائِهِ
عَلَى حُجَّتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الرِّبَا
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا وَمَا يُفْعَلُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ
الْيَوْمَ ؛ لِيَتَوَصَّلُوا بِهَا إلَى الرِّبَا وَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ يَكُونُ
الْمَدْيُونُ مُعْسِرًا فَيَقْلِبُ الدَّيْنَ فِي مُعَامَلَةٍ أُخْرَى بِزِيَادَةِ
مَالٍ وَمَا يَلْزَمُ وُلَاةُ الْأُمُورِ فِي هَذَا وَهَلْ يُرَدُّ عَلَى صَاحِبِ
الْمَالِ رَأْسُ مَالِهِ دُونَ مَا زَادَ فِي مُعَامَلَةِ الرِّبَا ؟
فَأَجَابَ :
الْمُرَابَاةُ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَقَدْ {
لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا
وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ . وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ
لَهُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . فَالِاثْنَانِ مَلْعُونَانِ .
وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الرِّبَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ : أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ
عَلَى الرَّجُلِ الْمَالُ الْمُؤَجَّلُ فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ قَالَ لَهُ :
أَتَقْضِي ؟ أَمْ تُرْبِي ؟ . فَإِنْ وَفَّاهُ وَإِلَّا زَادَ هَذَا فِي الْأَجَلِ
وَزَادَ هَذَا فِي الْمَالِ فَيَتَضَاعَفُ الْمَالُ .
وَالْأَصْلُ وَاحِدٌ . وَهَذَا الرِّبَا حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا إذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ وَلَكِنْ تَوَسَّلُوا بِمُعَامَلَةٍ أُخْرَى ؛ فَهَذَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ أَنَّ هَذَا مَحْرَمٌ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَالْآثَارُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ . وَاَللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ الرِّبَا لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْمُحْتَاجِينَ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ . وَأَمَّا إذَا حَلَّ الدَّيْنُ وَكَانَ الْغَرِيمُ مُعْسِرًا : لَمْ يَجُزْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْلِبَ بِالْقَلْبِ لَا بِمُعَامَلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ؛ بَلْ يَجِبُ إنْظَارُهُ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا كَانَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَلْبِ لَا مَعَ يَسَارِهِ وَلَا مَعَ إعْسَارِهِ . وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ بَعْدَ تَعْزِيرِ الْمُتَعَامِلِينَ بِالْمُعَامَلَةِ الرِّبَوِيَّةِ : بِأَنْ يَأْمُرُوا الْمَدِينَ أَنْ يُؤَدِّيَ رَأْسَ الْمَالِ . وَيُسْقِطُوا الزِّيَادَةَ الرِّبَوِيَّةَ فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَلَهُ مُغَلَّاتٌ يُوَفَّى مِنْهَا وَفِي دِينِهِ مِنْهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ
اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ : فِيمَنْ أَوْقَعَ الْعُقُودَ الْمُحَرَّمَةَ ثُمَّ تَابَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الرِّبَا : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ
أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ
عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعِهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْخُلْعَ
وَالطَّلَاقَ فَقَالَ فِي الْخُلْعِ : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا
مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } - إلَى
قَوْلِهِ - { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا
تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا
تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } . فَالطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ : كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَفِي طُهْرٍ قَدْ أَصَابَهَا فِيهِ . حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَكَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ وَفَاعِلُهُ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } . وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ إذَا تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ لِقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } فَهُوَ إذَا اسْتَغْفَرَهُ غَفَرَ لَهُ وَرَحِمَهُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ الْمُتَّقِينَ . فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } . وَاَلَّذِينَ أَلْزَمَهُمْ عُمَرُ وَمَنْ وَافَقَهُ بِالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ كَانُوا عَالِمِينَ بِالتَّحْرِيمِ وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُتَّقِينَ فَهُمْ ظَالِمُونَ لِتَعَدِّيهِمْ الْحُدُودَ مُسْتَحِقُّونَ لِلْعُقُوبَةِ . وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِبَعْضِ الْمُسْتَفْتِينَ : إنَّ عَمَّك لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فَرَجًا وَلَا مَخْرَجًا . وَلَوْ اتَّقَى اللَّهَ
لَجَعَلَ لَهُ فَرَجًا وَمُخْرَجًا . وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَفَعَلَهُ . فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ بِالتَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فَإِنَّهُ إذَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ تَابَ مِنْ عَوْدِهِ إلَيْهِ وَالْتَزَمَ أَلَّا يَفْعَلَهُ . وَاَلَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْعَلُ ثَلَاثَتَهُمْ وَاحِدَةً فِي حَيَاتِهِ كَانُوا يَتُوبُونَ وَكَذَلِكَ مَنْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ كَمَا طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ فَكَانُوا يَتُوبُونَ فَيَصِيرُونَ مُتَّقِينَ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ : { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } . فَحَصَرَ الظُّلْمَ فِيمَنْ لَمْ يَتُبْ فَمَنْ تَابَ فَلَيْسَ بِظَالِمِ فَلَا يُجْعَلُ مُتَعَدِّيًا لِحُدُودِ اللَّهِ بَلْ وُجُودُ قَوْلِهِ كَعَدَمِهِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ . فَعُمَرُ عَاقَبَهُمْ بِالْإِلْزَامِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَحْلِيلٌ فَكَانُوا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ النِّسَاءَ يَحْرُمْنَ عَلَيْهِمْ لَا يَقَعُونَ فِي الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ فَانْكَفُّوا بِذَلِكَ عَنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ . فَإِذَا صَارُوا يُوقِعُونَ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ ثُمَّ يَرُدُّونَ النِّسَاءَ بِالتَّحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ : صَارُوا يَفْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ مَرَّتَيْنِ وَيَتَعَدَّوْنَ حُدُودَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ ؛ بَلْ ثَلَاثًا ؛ بَلْ أَرْبَعًا ؛ لِأَنَّ طَلَاقَ الْأَوَّلِ كَانَ تَعَدِّيًا لِحُدُودِ اللَّهِ وَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُحَلَّلِ لَهَا وَوَطْؤُهُ لَهَا قَدْ صَارَ بِذَلِكَ مَلْعُونًا هُوَ
وَالزَّوْجُ الْأَوَّلُ . فَقَدْ تَعَدَّيَا حَدَّ اللَّهِ هَذَا مَرَّةً أُخْرَى وَذَاكَ مَرَّةً . وَالْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا لَمَّا عَلِمُوا بِذَلِكَ وَفَعَلُوهُ كَانُوا مُتَعَدِّينَ لِحُدُودِ اللَّهِ فَلَمْ يَحْصُلْ بِالِالْتِزَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ انْكِفَافٌ عَنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ ؛ بَلْ زَادَ التَّعَدِّي لِحُدُودِ اللَّهِ فَتَرَكَ الْتِزَامَهُمْ بِذَلِكَ - وَإِنْ كَانُوا ظَالِمِينَ غَيْرَ تَائِبِينَ - خَيْرٌ مِنْ إلْزَامِهِمْ بِهِ . فَذَلِكَ الزِّنَا يَعُودُ إلَى تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ . وَإِذَا قِيلَ : فَاَلَّذِي اسْتَفْتَى ابْنَ عَبَّاسٍ وَنَحْوَهُ لَوْ قِيلَ لَهُ : تُبْ . لَتَابَ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُفْتِي أَحْيَانًا بِتَرْكِ اللُّزُومِ كَمَا نَقَلَ عَنْهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ . وَعُمَرُ مَا كَانَ يَجْعَلُ الْخَلِيَّةَ وَالْبَرِيَّةَ إلَّا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً . وَلَمَّا قَالَ . قَالَ عُمَرُ (1) : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } . وَإِذَا كَانَ الْإِلْزَامُ عَامًّا ظَاهِرًا كَانَ تَخْصِيصُ الْبَعْضِ بِالْإِعَانَةِ نَقْضًا لِذَلِكَ وَلَمْ يُوثَقْ بِتَوْبَتِهِ . فَالْمَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ . أَمَّا إذَا كَانُوا يَتَّقُونَ اللَّهَ وَيَتُوبُونَ فَلَا رَيْبَ أَنَّ تَرْكَ الْإِلْزَامِ - كَمَا كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ - خَيْرٌ . وَإِنْ كَانُوا لَا يَنْتَهُونَ إلَّا بِإِلْزَامٍ فَيَنْتَهُونَ حِينَئِذٍ وَلَا يُوقِعُونَ الْمُحَرَّمَ
وَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى تَحْلِيلٍ .
فَهَذَا هُوَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي فَعَلَهَا فِيهِمْ عُمَرُ .
وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَحْتَاجُوا إلَى التَّحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ فَهُنَا تَرْكُ
الْإِلْزَامِ خَيْرٌ . وَالرَّابِعَةُ : أَنَّهُمْ لَا يَنْتَهُونَ بَلْ
يُوقِعُونَ الْمُحَرَّمَ وَيُلْزِمُونَ بِهِ بِلَا تَحْلِيلٍ . فَهُنَا لَيْسَ فِي
إلْزَامِهِمْ بِهِ فَائِدَةٌ إلَّا آصَارٌ وَأَغْلَالٌ لَمْ تُوجِبْ لَهُمْ
تَقْوَى اللَّهِ وَحِفْظَ حُدُودِهِ ؛ بَلْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ نِسَاؤُهُمْ
وَخَرِبَتْ دِيَارُهُمْ فَقَطْ . وَالشَّارِعُ لَمْ يُشَرِّعْ مَا يُوجِبُ حُرْمَةَ
النِّسَاءِ وَتَخْرِيبَ الدِّيَارِ ؛ بَلْ تَرَكَ إلْزَامَهُمْ بِذَلِكَ أَقَلَّ
فَسَادًا وَإِنْ كَانُوا أَذْنَبُوا فَهُمْ مُذْنِبُونَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ ؛
لَكِنَّ تَخْرِيبَ الدِّيَارِ أَكْثَرُ فَسَادًا وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ
الْفَسَادَ . وَأَمَّا تَرْكُ الْإِلْزَامِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ أَذْنَبَ
ذَنْبًا بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ . وَهَذَا أَقَلُّ فَسَادًا مِنْ
الْفَسَادِ الَّذِي قَصَدَ الشَّارِعُ دَفْعَهُ وَمَنْعَهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا إذَا أَبْدَلَ قَمْحًا بِقَمْحِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا أَبْدَلَ قَمْحًا بِقَمْحِ كَيْلًا بِكَيْلِ مِثْلًا بِمِثْلِ : جَازَ .
وَإِنْ كَانَ بِزِيَادَةٍ لَمْ يَجُزْ .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ بَاعَتْ أَسْوِرَةَ ذَهَبٍ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ إلَى أَجَلٍ
مُعَيَّنٍ هَلْ يَجُوزُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا بِيعَتْ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ يَجِبُ رَدُّ الْأَسْوِرَةِ إنْ كَانَتْ بَاقِيَةً أَوْ رَدُّ
بَدَلِهَا إنْ كَانَتْ فَائِتَةً . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْحِيَاصَةِ بِنَسِيئَةِ بِزَائِدٍ عَنْ ثَمَنِهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْحِيَاصَةُ الَّتِي فِيهَا ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ فَلَا تُبَاعُ إلَى
أَجَلٍ بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ ؛ لَكِنْ تُبَاعُ بِعَرَضٍ إلَى أَجَلٍ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ :
عَنْ حَدِيثِ : { رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا } فَمَا
خَرْصُهَا ؟ وَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَالْمُحَفَّلَةِ } ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا " الْمُصَرَّاةُ وَالْمُحَفَّلَةُ " فَهِيَ
الْبَهِيمَةُ - مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَغَيْرِهِمَا - تُتْرَكُ حَتَّى
يَجْتَمِعَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهَا أَيَّامًا ثُمَّ تُبَاعُ يَظُنُّ الْمُشْتَرِي
أَنَّهَا تَحْلِبُ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ ذَلِكَ . فَهَذَا مِنْ التَّدْلِيسِ
وَالْغِشِّ وَقَدْ حَرَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عُمُومًا وَخُصُوصًا وَجَعَلَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ ثَلَاثًا إذَا حَلَبَهَا ؛
إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَرَدَّ عِوَضَ اللَّبَنِ
الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِوَضَهُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ . وَأَمَّا بَيْعُ الْغَرَرِ الَّذِي لَا
يُمْكِنُ الْبَائِعُ تَسْلِيمَهُ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ الْآبِقَ
وَبَعِيرَهُ أَوْ فَرَسَهُ الشَّارِدَ أَوْ طَيْرَهُ الَّذِي خَرَجَ مِنْ قَفَصِهِ
أَوْ مِنْ حَبْلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ بَيْعَ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ
مِنْ " بَابِ الْمُخَاطَرَةِ وَالْقِمَارِ " فَإِنَّ الْمَبِيعَ إنْ
قَدَرَ عَلَيْهِ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَمَرَ الْبَائِعَ حَيْثُ أَخَذَ مَالَهُ
بِدُونِ قِيمَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَمَرَ
الْمُشْتَرِيَ
وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَكْلُ مَالِ الْآخَرِ بِالْبَاطِلِ . وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَهُ مَا فِي بَطْنِ الدَّابَّةِ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَهَذِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ . وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا . وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمَيْسِرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحَصَاةِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ إلَى حَيْثُ تَبْلُغُ هَذِهِ الْحَصَاةُ أَوْ بِعْتُك - مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ ؟ أَوْ الشِّيَاهِ أَوْ الْغِلْمَانِ أَوْ غَيْرِهِ - مَا تَقَعُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحَصَاةُ فَيَكُونُ الْمَبِيعُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ أَوْ الْعَيْنِ أَوْ الْوَصْفِ . وَأَمَّا " الْعَرَايَا " فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْنَاهَا مِمَّا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْمُزَابَنَةِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ . " وَالْمُزَابَنَةُ " أَنْ يَشْتَرِيَ الرُّطَبَ فِي الشَّجَرِ بِخَرْصِهِ مِنْ التَّمْرِ . وَ " الْمُحَاقَلَةُ " أَنْ يَشْتَرِيَ الْحِنْطَةَ فِي سُنْبُلِهَا بِخَرْصِهَا مِنْ الْحِنْطَةِ . وَالْخَرْصُ هُوَ الْحَزْرُ وَالتَّقْدِيرُ . فَيُقَالُ : كَمْ فِي هَذِهِ النَّخْلَةِ ؟ فَيُقَالُ : خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَيُقَالُ : اشْتَرَيْته بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ . أَوْ كَمْ فِي هَذَا الْحَقْلِ مِنْ الْبُرِّ فَيُقَالُ : خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَيُقَالُ : اشْتَرَيْته بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ . وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُبَاعُ إلَّا بِقَدْرِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا
الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَلَا تَبِيعُوا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ } . وَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ الطَّعَامِ لَا يُعْلَمُ كَيْلُهَا بِالطَّعَامِ الْمُسَمَّى . فَإِذَا بِيعَتْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ بِمِثْلِهَا جُزَافًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِهَا إلَّا مُتَمَاثِلَةً فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ التَّمَاثُلُ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ وَلِهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : الْجَهْلُ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ . وَالتَّمَاثُلُ يُعْلَمُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ . وَأَمَّا الْخَرْصُ : فَهُوَ ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ يُقَدَّرُ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ فَأَمَّا مَعَ إمْكَانِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَلَا . فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْزِرُونَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَأَبَاحَ ذَلِكَ فِي الْعَرَايَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ خَرْصًا ؛ لِأَجْلِ حَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ . وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ فِي الْقَلِيلِ الَّذِي تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ وَهُوَ مَا دُونُ النِّصَابِ وَهُوَ مَا دُونُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِحَاجَةِ الْبَائِعِ إلَى الْبَيْعِ . كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ . وَلَفْظُ " الْعَرَايَا " مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ هِيَ النَّخَلَاتُ الَّتِي يُعِيرُهَا الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ : أَيْ يُعْطِيهِ إيَّاهَا لِيَأْكُلَ ثَمَرَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ يَمْدَحُ فِيهِ بِالْكَرَمِ :
فَلَيْسَتْ بِسَنْهَاء وَلَا رَجَبِيَّةٍ
* * * وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ
وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لِلْمَاشِيَةِ " الْمَنِيحَةِ " : مِثْلُ أَنْ
يُعْطِيَهُ النَّاقَةَ أَوْ الشَّاةَ لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا
إلَيْهِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْعَارِيَةِ . وَهُوَ أَنْ يُعِيرَهُ دَارَهُ
لِيَسْكُنَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ . وَمِنْهُ أَفَقَارُ الظَّهْرِ : وَهُوَ
أَنْ يُعْطِيَهُ دَابَّتَهُ لِيَرْكَبَ فَقَارَهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ .
فَهَذَا أَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ ؛ لَكِنْ حُكْمُ الْعَرَايَا هَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ
بِمَا كَانَ مَوْهُوبًا لِلْمُشْتَرِي ؟ أَوْ عَامٌّ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ ؟
فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَالِكٍ . وَالثَّانِي
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد الْقَوْلَانِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى قَمْحًا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ
إنَّهُ مَا حَصَلَ لِصَاحِبِ الْقَمْحِ شَيْءٌ ثُمَّ دَارَهُ عَقْدًا وَارْتَهَنَ
عَلَيْهِ مِلْكًا وَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ بَيْعًا وَشِرَاءً بِذَلِكَ الْعَقْدِ
فَهَلْ الْبَيْعُ جَائِزٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا اشْتَرَى قَمْحًا بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ عَوَّضَ الْبَائِعُ عَنْ ذَلِكَ
الثَّمَنِ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ ؛ فَإِنَّ هَذَا بَيْعُ دَيْنٍ
بِدِينِ . وَكَذَلِكَ
إنْ احْتَالَ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ فِي
الثَّمَنِ وَيَزِيدَهُ ذَلِكَ فِي الْأَجَلِ بِصُورَةٍ يَظْهَرُ رِبَاهَا لَمْ
يَجُزْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَهُ إلَّا الدَّيْنُ الْأَوَّلُ . فَإِنَّ
هَذَا هُوَ الرِّبَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ الْقُرْآنَ ؛ فَإِنَّ
الرَّجُلَ يَقُولُ لِغَرِيمِهِ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ تَقْضِي أَوْ تُرْبِي
فَإِنْ قَضَاهُ وَإِلَّا زَادَهُ هَذَا فِي الدَّيْنِ وَزَادَهُ هَذَا فِي
الْأَجَلِ فَحَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِقِتَالِ مَنْ لَمْ
يَنْتَهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اُضْطُرَّ إلَى قَرْضِهِ دَرَاهِمَ فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُقْرِضُهُ
إلَّا رَجُلٌ يَأْخُذُ الْفَائِدَةَ فَيَأْتِي السُّوقَ يَشْتَرِي لَهُ بِضَاعَةً
بِخَمْسِينَ وَيَبِيعُهَا لَهُ بِرِبْحٍ مُعَيَّنٍ إلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ
فَهَلْ هِيَ قَنْطَرَةُ الرِّبَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا اشْتَرَى لَهُ بِضَاعَةً وَبَاعَهَا لَهُ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ أَوْ بَاعَهَا
لِلثَّالِثِ صَاحِبُهَا الَّذِي اشْتَرَاهَا الْمُقْرِضُ مِنْهُ فَهَذَا رِبًا .
وَالْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ : مِثْلُ حَدِيثِ
عَائِشَةَ لِأُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَتْ لَهَا : يَا أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ إنِّي ابْتَعْت مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ غُلَامًا إلَى
الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً ثُمَّ ابْتَعْته مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ
نَقْدًا . فَقَالَتْ عَائِشَةُ : بِئْسَ
مَا شَرَيْت وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْت
أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَتُوبَ . فَقَالَتْ : يَا أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ أَجِدْ إلَّا رَأْسَ مَالِي ؟ فَقَالَتْ
عَائِشَةُ : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا
سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ } . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مِثْلِ
ذَلِكَ . فَقَالَ : هَذَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ . وَأَمَّا الَّذِي لَمْ يَعُدْ
إلَى الْبَائِعِ بِحَالِ بَلْ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ مَكَانٍ آخَرَ لِجَارِهِ
فَهَذَا يُسَمَّى " التَّوَرُّقُ " وَقَدْ تُنُوزِعَ فِي كَرَاهَتِهِ .
فَكَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ . التَّوَرُّقُ آخِيَةُ الرِّبَا : أَيْ أَصْلُ الرِّبَا .
وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ طَلَبَ مِنْ إنْسَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ بِأَلْفِ
وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ فَرَسًا أَوْ قُمَاشًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ
وَاشْتَرَاهُ مِنْهُ بِأَلْفِ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَهَلْ
يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ ؛ بَلْ هُوَ رِبًا بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَجُلٍ بَاعَ حَرِيرَةً ثُمَّ ابْتَاعَهَا لِأَجْلِ زِيَادَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ : دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ : هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ لِأُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي نَحْوِ ذَلِكَ بِئْسَ مَا شَرَيْت وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْت أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَتُوبَ . فَمَتَى كَانَ مَقْصُودُ الْمُتَعَامِلِ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ - فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى - فَسَوَاءٌ بَاعَ الْمُعْطِي الْأَجَلَ أَوْ بَاعَ الْأَجَلَ الْمُعْطَى ثُمَّ اسْتَعَادَ السِّلْعَةَ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا } وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ ؛ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَرْفَعُهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ } وَهَذَا كُلُّهُ فِي بَيْعِ الْعِينَةِ وَهُوَ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . فَحَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ
شَيْئًا وَيُقْرِضُهُ مَعَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ
يُحَابِيهِ فِي الْبَيْعِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ حَتَّى يَنْفَعَهُ فَهُوَ رِبًا .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ مَا تَوَاطَأَ عَلَيْهِ
الرَّجُلَانِ بِمَا يَقْصِدَانِ بِهِ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا إلَى
أَجَلٍ فَإِنَّهُ رِبًا سَوَاءٌ كَانَ يَبِيعُ ثُمَّ يَبْتَاعُ أَوْ يَبِيعُ
وَيُقْرِضُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَدَايَنَ دَيْنًا فَدَخَلَ بِهِ السُّوقَ فَاشْتَرَى شَيْئًا
بِحَضْرَةِ الرَّجُلِ ثُمَّ بَاعَهُ عَلَيْهِ بِفَائِدَةِ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
أَمْ لَا ؟.
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ
بَيْنَهُمْ مُوَاطَأَةٌ لَفْظِيَّةٌ أَوْ عُرْفِيَّةٌ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ
السِّلْعَةَ مِنْ رَبِّ الْحَانُوتِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ . وَالثَّانِي : أَنْ
يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ عَلَى أَنْ يُعِيدَهَا إلَيْهِ . فَهَذَا أَيْضًا لَا
يَجُوزُ فَقَدْ دَخَلَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَلَى عَائِشَةَ
فَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي ابْتَعْت مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ
غُلَامًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً ثُمَّ ابْتَعْته
مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ نَقْدًا فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ : بِئْسَ مَا شَرَيْت
وَبِئْسَ
مَا اشْتَرَيْت أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَتُوبَ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا } وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ . وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ سِرًّا ثُمَّ يَبِيعُهَا لِلْمُسْتَدِينِ بَيَانًا فَيَبِيعُهَا أَحَدُهُمَا فَهَذِهِ تُسَمَّى " التَّوَرُّقُ " ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ غَرَضُهُ فِي التِّجَارَةِ وَلَا فِي الْبَيْعِ وَلَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى دَرَاهِمَ فَيَأْخُذُ مِائَةً وَيَبْقَى عَلَيْهِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مَثَلًا . فَهَذَا قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْعُلَمَاءُ . وَالْأَقْوَى أَيْضًا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا مَعْنَاهُ : أَنَّ التَّوَرُّقَ أَصْلُ الرِّبَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ أَخْذَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا إلَى أَجَلٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ضَرَرِ الْمُحْتَاجِ وَأَكْلِ مَالِهِ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى . وَإِنَّمَا الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ الْبَيْعَ وَالتِّجَارَةَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَرَضَهُ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهَا . فَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ مُجَرَّدَ الدَّرَاهِمِ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا : فَهَذَا لَا خَيْرَ فِيهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يُدَايِنُ النَّاسَ كُلَّ مِائَةٍ بِمِائَةِ وَأَرْبَعِينَ وَيَجْعَلُ
سَلَفًا عَلَى حَرِيرٍ فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ وَأُعْسِرَ الْمَدْيُونُ عَنْ
وَفَائِهِ قَالَ لَهُ : عَامِلْنِي فَيَأْخُذُ رَبُّ الْحَرِيرِ مِنْ عِنْدِهِ
وَيَقُولُ لِلْمَدْيُونِ : اشْتَرَيْت مِنْ هَذَا الْحَرِيرِ بِمِائَةِ
وَتِسْعِينَ إلَّا أَنَّهُ يَأْتِيهِ عَلَى حِسَابِ كُلِّ مِائَةٍ بِمِائَةِ
وَأَرْبَعِينَ . وَإِذَا قَبَضَهُ الْمَدْيُونُ مِنْهُ قَالَ : أَوْفِنِي هَذَا
الْحَرِيرَ عَنْ السَّلَفِ الَّذِي لِي عِنْدَك . وَإِذَا جَاءَتْ السَّنَةُ
الثَّانِيَةُ طَالَبَهُ بِالدَّرَاهِمِ الْمَذْكُورَةِ فَأُعْسِرَتْ عَلَيْهِ أَوْ
بَعْضُهَا . قَالَ : عَامِلْنِي فَيَحْسِبُ الْمُتَبَقِّيَ وَالْأَصْلَ وَيَجْعَلُ
ذَلِكَ سَلَفًا عَلَى حَرِيرٍ . فَمَا يَجِبُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا هُوَ عَيْنُ الرِّبَا الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ . فَإِنَّهُ كَانَ
يَكُونُ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ الدَّيْنُ فَيَأْتِي إلَيْهِ عِنْدَ مَحَلِّ
الْأَجَلِ فَيَقُولُ : إمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ فَإِنْ
وَفَّاهُ وَإِلَّا زَادَهُ الْمَدِينُ فِي الدَّيْنِ وَزَادَهُ الْغَرِيمُ فِي
الْأَجَلِ حَتَّى يَتَضَاعَفَ الْمَالُ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ
رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } . وَهَذِهِ الْمُعَامَلَةُ الَّتِي يَفْعَلُهَا مِثْلُ هَذَا الْمُرْبِي : مَقْصُودُهَا مَقْصُودُ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْمُرْبِينَ ؛ لَكِنْ هَذَا أَظْهَرَ صُورَةَ الْمُعَامَلَةِ وَهَذَا لَا يَنْفَعُهُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ هَذَا الْمُرْبِي يَبِيعُهُ ذَلِكَ الْحَرِيرَ إلَى أَجَلٍ ؛ لِيُوَفِّيَهُ إيَّاهُ عَنْ دَيْنِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهُ إلَى أَجَلٍ لِيَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ مِثْلِ هَذَا فَقَالَ : هَذَا حَرَامٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَسَأَلَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مِثْلِ هَذَا فَقَالَتْ : إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلَامًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ ابْتَعْته بِسِتِّمِائَةِ فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ : بِئْسَ مَا اشْتَرَيْت وَبِئْسَ مَا بِعْت . أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَتُوبَ . قَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ أَجِدْ إلَّا رَأْسَ مَالِي . فَقَالَتْ عَائِشَةُ : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا } . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ } فَنَهَى أَنْ يَبِيعَ وَيُقْرِضَ لِيُحَابِيَهُ فِي الْبَيْعِ ؛ لِأَجْلِ الْقَرْضِ . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } فَهَذَانِ الْمُتَعَامِلَانِ إنْ كَانَ قَصْدُهُمَا أَخْذَ
دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ
فَبِأَيِّ طَرِيقٍ تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
حَرَامٌ لَا يَحِلُّ قَصْدُهُ ؛ بَلْ قَدْ نَهَى السَّلَفُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ
ذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرَائِعِ : لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ .
وَهَذَا الْمُرْبِي لَا يَسْتَحِقُّ فِي ذِمَمِ النَّاسِ إلَّا مَا أَعْطَاهُمْ
أَوْ نَظِيرَهُ . فَأَمَّا الزِّيَادَاتُ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْهَا ؛
لَكِنْ مَا قَبَضَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلِ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ .
وَأَمَّا مَا بَقِيَ لَهُ فِي الذِّمَمِ فَهُوَ سَاقِطٌ ؛ لِقَوْلِهِ : { وَذَرُوا
مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ أَرَادَ الِاسْتِدَانَةَ مِنْ رَجُلٍ فَقَالَ أُعْطِيك كُلَّ مِائَةٍ
بِكَسْبِ كَذَا وَتَبَايَعَا بَيْنَهُمَا شَيْئًا مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ
فَلَمَّا اسْتَحَقَّ الدَّيْنَ طَلَبَهُ بِالدَّيْنِ فَعَجَزَ عَنْهُ . فَقَالَ :
اقْلِبْ عَلَيَّ الدَّيْنَ بِكَسْبِ كَذَا وَكَذَا فِي الْمِائَةِ وَتَبَايَعَا
بَيْنَهُمَا عَقَارًا وَفِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ يَفْعَلُ مَعَهُ مِثْلَ ذَلِكَ
وَفِي جَمِيعِ الْمُبَايَعَاتِ غَرَضُهُمْ الْحَلَالُ فَصَارَ الْمَالُ عَشَرَةَ
آلَافِ دِرْهَمٍ . فَهَلْ يَحِلُّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مُطَالَبَةُ الرَّجُلِ
بِمَا زَادَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ ؟ وَهَلْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ
إنْكَارُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
قَوْلُ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ : أُدِينُك كُلَّ مِائَةٍ بِكَسْبِ كَذَا وَكَذَا
حَرَام وَكَذَا إذَا حَلَّ الدَّيْنُ
عَلَيْهِ وَكَانَ مُعْسِرًا فَإِنَّهُ يَجِبُ إنْظَارُهُ وَلَا يَجُوزُ إلْزَامُهُ
بِالْقَلْبِ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَذِهِ
الْمُعَامَلَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا
بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِأَكْثَرَ مِنْهَا إلَى أَجَلٍ هِيَ مُعَامَلَةٌ فَاسِدَةٌ
رِبَوِيَّةٌ . وَالْوَاجِبُ رَدُّ الْمَالِ الْمَقْبُوضِ فِيهَا إنْ كَانَ
بَاقِيًا وَإِنْ كَانَ فَانِيًا رَدَّ مِثْلَهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الدَّافِعُ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ الْمَنْعُ مِنْ هَذِهِ
الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَعُقُوبَةُ مَنْ يَفْعَلُهَا وَرَدُّ النَّاسِ
فِيهَا إلَى رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ ؛ دُونَ الزِّيَادَاتِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ
الرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {
اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } {
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ
تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } {
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ
لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَعَ رَجُلٍ مُعَامَلَةٌ فَتَأَخَّرَ لَهُ مَعَهُ دَرَاهِمُ
فَطَالَبَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَاشْتَرَى لَهُ بِضَاعَةً مِنْ صَاحِبِ دُكَّانٍ
وَبَاعَهَا لَهُ بِزِيَادَةِ مِائَةِ دِرْهَمٍ حَتَّى صَبَرَ عَلَيْهِ . فَهَلْ
تَصِحُّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ ؟
فَأَجَابَ : لَا تَجُوزُ هَذِهِ
الْمُعَامَلَةُ ؛ بَلْ إنْ كَانَ الْغَرِيمُ مُعْسِرًا فَلَهُ أَنْ يَنْتَظِرَهُ .
وَأَمَّا الْمُعَامَلَةُ الَّتِي يُزَادُ فِيهَا الدَّيْنُ وَالْأَجَلُ فَهِيَ
مُعَامَلَةٌ رِبَوِيَّةٌ وَإِنْ أَدْخَلَا بَيْنَهُمَا صَاحِبَ الْحَانُوتِ .
وَالْوَاجِبُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ لَا يُطَالِبُ إلَّا بِرَأْسِ مَالِهِ لَا
يُطَالِبُ بِالزِّيَادَةِ الَّتِي لَمْ يَقْبِضْهَا .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ " الْعِينَةِ " : هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ ؟
أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهَا بَعْضَ مَنْ رَأَى
جَوَازَهَا مِنْ الْفُقَهَاءِ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَاطَ لِدِينِهِ
وَيَتَّبِعَ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ وَمَنْ تَابَ مِنْ "
مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ " الْمَذْكُورَةِ : هَلْ يَحِلُّ لَهُ مَا رَبِحَهُ
بِطَرِيقِهَا ؟ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الرِّبْحِ وَرَدِّهِ إلَى أَرْبَابِهِ
إنْ قَدَرَ أَوْ التَّصَدُّقُ بِذَلِكَ ؟ فَإِنْ عَادَ إلَيْهَا مُقَلِّدًا بَعْدَ
الْعِلْمِ بِبُطْلَانِهَا : هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِكَ مَا
تَقُولُونَ فِي " مَسْأَلَةِ الثُّلَاثِيَّةِ " ؟ وَ " مَسْأَلَةِ
التَّوَرُّقِ " ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُ الطَّالِبِ أَخْذَ دَرَاهِمَ
بِأَكْثَرَ مِنْهَا إلَى أَجَلٍ وَالْمُعْطِي يَقْصِدُ إعْطَاءَهُ ذَلِكَ .
فَهَذَا رِبًا لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ وَإِنْ تَحَيَّلَا عَلَى ذَلِكَ بِأَيِّ
طَرِيقٍ كَانَ ؛ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ قَدْ قَصَدَا الرِّبَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِي تَحْرِيمِهِ الْقُرْآنَ وَهُوَ الرِّبَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ قَوْلَهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } . وَكَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ دَيْنٌ فَيَأْتِيه عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ فَيَقُولُ لَهُ : إمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ فَإِنْ قَضَاهُ وَإِلَّا زَادَهُ الْمَدِينُ فِي الْمَالِ وَزَادَهُ الْغَرِيمُ فِي الْأَجَلِ فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ الْمَالَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ إلَى أَجَلٍ فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ إذَا تَابُوا أَنْ لَا يُطَالِبُوا إلَّا بِرَأْسِ الْمَالِ وَأَهْلُ الْحِيَلِ يَقْصِدُونَ مَا تَقْصِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ ؛ لَكِنَّهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَلَهُمْ طُرُقٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَبِيعَهُ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبْتَاعُهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ نَقْدًا كَمَا قَالَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ لِعَائِشَةَ : إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلَامًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ وَابْتَعْته بِسِتِّمِائَةِ نَقْدًا . فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ : بِئْسَ مَا شَرَيْت وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْت أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَتُوبَ قَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي فَقَرَأَتْ عَائِشَةُ : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ } .
وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : رَجُلٌ بَاعَ حَرِيرَةً إلَى أَجَلٍ ثُمَّ ابْتَاعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ . وَسُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ : هَذَا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا } وَهَؤُلَاءِ قَدْ بَاعُوا بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ . وَكَذَلِكَ إذَا اتَّفَقَا عَلَى الْمُعَامَلَةِ الرِّبَوِيَّةِ ثُمَّ أَتَيَا إلَى صَاحِبِ حَانُوتٍ يَطْلُبَانِ مِنْهُ مَتَاعًا بِقَدْرِ الْمَالِ فَاشْتَرَاهُ الْمُعْطِي ثُمَّ بَاعَهُ الْآخِذُ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ أَعَادَهُ إلَى صَاحِبِ الْحَانُوتِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ . فَيَكُونُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا بِجُعْلِ فَهَذَا أَيْضًا مِنْ الرِّبَا الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ . وَكَذَلِكَ إذَا ضَمَّا إلَى الْقَرْضِ مُحَابَاةً فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُقْرِضَهُ مِائَةً وَيَبِيعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ أَوْ يُؤَجِّرُهُ حَانُوتًا يُسَاوِي كُرَاهُ مِائَةً بِخَمْسِينَ فَهَذَا أَيْضًا مِنْ الرِّبَا وَمِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . فَقَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَفَ - وَهُوَ الْقَرْضُ - مَعَ الْبَيْعِ . وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الشِّرَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ مَنْ يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِهَا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالرُّكُوبِ وَالسُّكْنَى وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِيَهَا مَنْ يَقْصِدُ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهَا إمَّا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ فَهَذِهِ هِيَ التِّجَارَةُ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَكُونَ مَقْصُودُهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا ؛ بَلْ مَقْصُودُهُ دَرَاهِمَ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا . وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَسْلِفَ قَرْضًا أَوْ سَلَمًا فَيَشْتَرِي سِلْعَةً لِيَبِيعَهَا وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا فَهَذَا هُوَ " التَّوَرُّقُ " وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد ؛ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : التَّوَرُّقُ أخية الرِّبَا . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدِ ثُمَّ بِعْت بِنَقْدِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدِ ثُمَّ بِعْت بِنَسِيئَةِ فَتِلْكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ . وَمَعْنَى كَلَامِهِ إذَا اسْتَقَمْت ؛ إذَا قُوِّمَتْ . يَعْنِي : إذَا قُوِّمَتْ السِّلْعَةُ بِنَقْدِ وَابْتَعْتهَا إلَى أَجَلٍ فَإِنَّمَا مَقْصُودُك دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ هَكَذَا " التَّوَرُّقُ " يُقَوِّمُ السِّلْعَةَ فِي الْحَالِ ثُمَّ يَشْتَرِيهَا إلَى أَجَلٍ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ : أُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَكَمْ تَرْبَحُ ؟ فَيَقُولُ : مِائَتَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . أَوْ يَقُولُ : عِنْدِي هَذَا الْمَالُ يُسَاوِي أَلْفُ
دِرْهَمٍ أَوْ يُحْضِرَانِ مَنْ يُقَوِّمُهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ يَبِيعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ إلَى أَجَلٍ فَهَذَا مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ . وَمَا اكْتَسَبَهُ الرَّجُلُ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ كَهَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا وَغَيْرِهَا وَكَانَ مُتَأَوِّلًا فِي ذَلِكَ وَمُعْتَقِدًا جَوَازَهُ لِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ تَشَبُّهٍ بِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ لِأَنَّهُ أَفْتَاهُ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ الَّتِي كَسَبُوهَا وَقَبَضُوهَا لَيْسَ عَلَيْهِمْ إخْرَاجُهَا وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الَّذِي أَفْتَاهُمْ أَخْطَأَ . فَإِنَّهُمْ قَبَضُوهَا بِتَأْوِيلِ فَلَيْسُوا أَسْوَأَ حَالًا مِمَّا اكْتَسَبَهُ الْكُفَّارُ بِتَأْوِيلٍ بَاطِلٍ . فَإِنَّ الْكُفَّارَ إذَا تَبَايَعُوا بَيْنَهُمْ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَ ذَلِكَ وَتَقَابَضُوا مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ تَعَامَلُوا بِرِبًا صَرِيحٍ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهُ وَتَقَابَضُوا مِنْ الطَّرَفَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمُوا ثُمَّ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا : أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ وَجَازَ لَهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ لَهُمْ فِي الذِّمَمِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ مَا قَبَضُوهُ . وَكَانَ بَعْضُ نُوَّابِ عُمَرَ بِالْعِرَاقِ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْجِزْيَةَ خَمْرًا ثُمَّ يَبِيعُهَا لَهُمْ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ . وَقَالَ : إنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا } وَلَكِنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا . فَنَهَاهُمْ عُمَرُ عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَقَالَ وَلَوْ أَبِيعُهَا الْكُفَّارَ . فَإِذَا بَاعُوهَا هُمْ لِأَهْلِ دِينِهِمْ وَقَبَضُوا أَثْمَانَهَا جَازَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ الثَّمَنَ مِنْهُمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا قَسْمٍ قُسِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمَ وَأَيُّمَا قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَهُوَ عَلَى قَسْمِ الْإِسْلَامِ } . بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُونَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَهُوَ : أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُحَارِبِينَ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُحَارَبَةِ ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ عَاهَدُوا فَإِنَّهَا تُقَرُّ بِأَيْدِيهِمْ كَمَا أَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا أَخَذُوهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَالَ الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَ ذَلِكَ وَقَدْ أَسْلَمُوا وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّمَا غَفَرَ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْأَعْمَالِ صَارُوا مُكْتَسِبِينَ لَهَا بِمَا لَا يَأْثَمُونَ بِهِ . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ : فَالْمُسْلِمُ الْمُتَأَوِّلُ الَّذِي يَعْتَقِدُ جَوَازَ مَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُؤَاجَرَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يُفْتِي فِيهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إذَا أُقْبِضَ بِهَا أَمْوَالٌ وَتَبَيَّنَ لِأَصْحَابِهَا فِيمَا بَعْدُ أَنْ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ : لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ مَا قَبَضُوهُ بِالتَّأْوِيلِ كَمَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْكُفَّارِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ
مَا اكْتَسَبُوهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ بِالتَّأْوِيلِ وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ أَنْ يُعَامِلُوهُمْ فِيهِ ؛ كَمَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُعَامِلَ الذِّمِّيَّ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهِ ؛ لَكِنْ عَلَيْهِمْ إذَا سَمِعُوا الْعِلْمَ أَنْ يَتُوبُوا مِنْ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَلَا يَصْلُحَ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ يُفْتِي بِالْجَوَازِ تَقْلِيدًا لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ ثَابِتٌ بِالنُّصُوصِ وَالْآثَارِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ الصَّحَابَةُ فِي تَحْرِيمِهَا وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ شَاهِدَةٌ بِتَحْرِيمِهَا . وَالْمَفَاسِدُ الَّتِي لِأَجْلِهَا حَرَّمَ اللَّهُ الرِّبَا مَوْجُودَةٌ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ مَعَ زِيَادَةِ مَكْرٍ وَخِدَاعٍ وَتَعَبٍ وَعَذَابٍ . فَإِنَّهُمْ يُكَلِّفُونَ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَالصِّفَةِ وَالْقَبْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورٍ يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْبَيْعِ الْمَقْصُودِ وَهَذَا الْبَيْعُ لَيْسَ مَقْصُودًا لَهُمْ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَخْذُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ فَيَطُولُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ الَّتِي يُؤْمَرُونَ بِهَا فَيَحْصُلُ لَهُمْ الرِّبَا فَهُمْ مِنْ أَهْلِ الرِّبَا الْمُعَذَّبِينَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ وَقُلُوبُهُمْ تَشْهَدُ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي يَفْعَلُونَهُ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَتَلْبِيسٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَيُّوبُ السختياني : يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ فَلَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ صَنَّفْت كِتَابًا كَبِيرًا فِي هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الرَّجُلِ يَبِيعُ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْ
ذَلِكَ الرَّجُلِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ حَالًّا . هَلْ يَجُوزُ ؟ أَمْ
لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا بَاعَ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ وَاشْتَرَاهَا مِنْ الْمُشْتَرِي
بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ حَالًّا فَهَذِهِ تُسَمَّى " مَسْأَلَةُ الْعِينَةِ
" وَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ
وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ
كَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ . فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
سُئِلَ عَنْ حَرِيرَةٍ بِيعَتْ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ اُشْتُرِيَتْ بِأَقَلَّ .
فَقَالَ : دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ . وَأَبْلَغُ
مِنْ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدِ ثُمَّ بِعْت
بِنَسِيئَةِ فَتِلْكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ . فَبَيَّنَ أَنَّهُ إذَا قَوَّمَ
السِّلْعَةَ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ بَاعَهَا إلَى أَجَلٍ فَيَكُونُ مَقْصُودُهُ
دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . وَهَذِهِ تُسَمَّى "
التَّوَرُّقُ " . فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ تَارَةً يَشْتَرِي السِّلْعَةَ
لِيَنْتَفِعَ بِهَا . وَتَارَةً يَشْتَرِيهَا
لِيَتَّجِرَ بِهَا فَهَذَانِ جَائِزَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَتَارَةً لَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ إلَّا أَخْذَ دَرَاهِمَ فَيَنْظُرُ كَمْ تُسَاوِي نَقْدًا فَيَشْتَرِي بِهَا إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبِيعُهَا فِي السُّوقِ بِنَقْدِ فَمَقْصُودُهُ الْوَرِقُ فَهَذَا مَكْرُوهٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَأَمَّا عَائِشَةُ فَإِنَّهَا قَالَتْ لِأُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ لَمَّا قَالَتْ لَهَا : إنِّي ابْتَعْت مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ غُلَامًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ وَبِعْته مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ . فَقَالَتْ عَائِشَةُ : بِئْسَ مَا بِعْت وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْت . أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَطَلَ إلَّا أَنْ يَتُوبَ . قَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لِمَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا } وَهَذَا إنْ تَوَاطَآ عَلَى أَنْ يَبِيعَ ثُمَّ يَبْتَاعُ فَمَا لَهُ إلَّا الْأَوْكَسُ وَهُوَ الثَّمَنُ الْأَقَلُّ أَوْ الرِّبَا . وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ : أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى . فَإِنْ كَانَ قَدْ نَوَى مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فَلَا بَأْسَ وَإِنْ نَوَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَوَصَّلَ إلَيْهِ بِحِيلَةِ فَإِنَّ لَهُ مَا نَوَى . وَالشَّرْطُ بَيْنَ النَّاسِ
مَا عَدُّوهُ شَرْطًا كَمَا أَنَّ
الْبَيْعَ بَيْنَهُمْ مَا عَدُّوهُ بَيْعًا وَالْإِجَارَةُ بَيْنَهُمْ مَا
عَدُّوهُ إجَارَةً وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمْ مَا عَدُّوهُ نِكَاحًا ؛
فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ وَغَيْرَهُمَا فِي كِتَابِهِ
وَلَمْ يَرِدْ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلَا لَهُ حَدٌّ فِي الْفِقْهِ .
وَالْأَسْمَاءُ تُعْرَفُ حُدُودُهَا تَارَةً بِالشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَتَارَةً بِاللُّغَةِ كَالشَّمْسِ
وَالْقَمَرِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَتَارَةً بِالْعُرْفِ كَالْقَبْضِ
وَالتَّفْرِيقِ . وَكَذَلِكَ الْعُقُودُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ
وَالْهِبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَا تَوَاطَأَ النَّاسُ عَلَى شَرْطٍ وَتَعَاقَدُوا
فَهَذَا شَرْطٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعُرْفِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ دَيَّنَ رَجُلًا شَعِيرًا بِسِتِّينَ دِرْهَمٍ - الْغِرَارَةُ - إلَى
وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَلَمَّا جَاءَ وَقْتُ الْأَجَلِ طَالَبَهُ فَقَالَ الْمَدْيُونُ
: مَا أُعْطِيك غَيْرَ شَعِيرٍ وَكَانَ الشَّعِيرُ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا
- الْغِرَارَةُ - فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَعِيرًا ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَمَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ
السَّبْعَةِ
وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ
عَنْهُ ؛ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ . فَمَنْ بَاعَ مَالًا رِبَوِيًّا كَالْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ ثَمَنِهِ
بِحِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً ؛
لِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يُقْبَضْ فَكَأَنَّهُ قَدْ بَاعَ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا
بِحِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ إلَى أَجَلٍ مُتَفَاضِلًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : هَذَا
يَجُوزُ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ؛
لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الثَّمَنَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي
وَبِهِ اشْتَرَى فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَبَضَهُ ثُمَّ اشْتَرَى مِنْ غَيْرِهِ
وَأَمَّا إنْ بَاعَ مَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ
وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْ الثَّمَنِ فَذَلِكَ جَائِزٌ بِلَا رَيْبٍ وَإِذَا كَانَ
الْبَائِعُ قَدْ أَخَذَ الْحِنْطَةَ أَوْ الشَّعِيرَ بِدُونِ قِيمَتِهِ فَذَلِكَ
أَخَفُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى أَرْبَعَ أَرَادِبَ قَمْحٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ
مَعْلُومٍ فَعِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمِائَةِ وَجَدَهُ يَبِيعُ الْقَمْحَ
بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلَّ إرْدَبٍّ . فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْمِائَةِ
عَشَرَةَ أَرَادِبَ قَمْحٍ ؟ أَوْ فُولٍ ؟ أَوْ شَعِيرٍ ؟ مِنْ الْحُبُوبِ ؟ .
فَأَجَابَ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا
نِزَاعٌ مَشْهُورٌ ؛ إذَا بَاعَهُ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا أَوْ نَحْوَهُمَا مِنْ
الرِّبَوِيَّاتِ إلَى أَجَلٍ وَاعْتَاضَ عَنْ ثَمَنِ ذَلِكَ حِنْطَةً أَوْ
شَعِيرًا أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يُبَاعُ بِالْأَوَّلِ نَسْئًا . فَعِنْدَ
مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَعِنْد أَبِي
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ
أَحْمَد .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَبِيعُ فِضَّةً خَالِصَةً بِفِضَّةٍ مَغْشُوشَةٍ : الدِّرْهَمَ
بِدِرْهَمِ وَنِصْفٍ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ . وَإِذَا
كَانَ الْغِشُّ الَّذِي فِي الْفِضَّةِ لَا يُقْصَدُ بِالْفِضَّةِ جَازَ .
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ أَكْثَرَ مِنْ الْفِضَّةِ لَمْ يَجُزْ لَا
سِيَّمَا إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ الَّتِي فِي الْمَغْشُوشِ أَكْثَرَ مِنْ
الْخَالِصَةِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْجَهْلُ
بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ الْمَغْشُوشَةِ مُتَفَاضِلًا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ فِي أَحَدِهِمَا بِقِدْرِ الْفِضَّةِ
الْخَالِصَةِ فِي الْأُخْرَى وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ وَالنُّحَاسُ يَذْهَبُ .
وَقَدْ عُلِمَ قَدْرُ ذَلِكَ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ . فَهَذَا يَجُوزُ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ
أَكْثَرَ مِنْ الْفِضَّةِ الْمَغْشُوشَةِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ بِقِدْرِ النُّحَاسِ :
فَهَذَا يَجُوزُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا إذَا كَانَتْ
الْفِضَّةُ الْمَغْشُوشَةُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُفْرَدَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ بَيْعِ الأكاديس الْإِفْرِنْجِيَّةِ بِالدَّرَاهِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَعَ
الْعِلْمِ بِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا يَسِيرٌ لَا يَقُومُ بِمُؤْنَةِ
الضَّرْبِ ؛ بَلْ فِضَّةُ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ أَكْثَرُ . هَلْ تَجُوزُ الْمُقَابَضَةُ
بَيْنَهُمَا أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ : هَذِهِ الْمُقَابَضَةُ تَجُوزُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَالْجَوَازُ فِيهِ لَهُ مَأْخَذَانِ ؛ بَلْ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذِهِ الْفِضَّةَ مَعَهَا نُحَاسٌ وَتِلْكَ فِضَّةٌ خَالِصَةٌ وَالْفِضَّةُ الْمَقْرُونَةُ بِالنُّحَاسِ أَقَلُّ . فَإِذَا بِيعَ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ هَذِهِ بِسَبْعِينَ مَثَلًا مِنْ الدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ فَالْفِضَّةُ الَّتِي فِي الْمِائَةِ أَقَلُّ مِنْ سَبْعِينَ . فَإِذَا جَعَلَ زِيَادَةَ الْفِضَّةِ بِإِزَاءِ النُّحَاسِ جَازَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ مَسْأَلَةَ " مُدِّ عَجْوَةٍ " كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ إذَا كَانَ الرِّبَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ كَمَا إذَا بَاعَ شَاةً ذَاتَ لَبَنٍ بِلَبَنِ وَدَارًا مُمَوَّهَةً بِالذَّهَبِ بِذَهَبٍ وَالسَّيْفَ الْمُحَلَّى بِفِضَّةٍ بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا مِنْ مَسْأَلَةِ " مُدِّ عَجْوَةٍ " - وَهُوَ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ إذَا كَانَ مَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ - قَدْ عَلَّلَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - بِأَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى عِوَضَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالْقِيمَةِ وَهَذِهِ عِلَّةٌ ضَعِيفَةٌ ؛ فَإِنَّ الِانْقِسَامَ : إذَا بَاعَ شِقْصًا مَشْفُوعًا وَمَا لَيْسَ بِمَشْفُوعِ - كَالْعَبْدِ وَالسَّيْفِ وَالثَّوْبِ - إذَا كَانَ لَا يَحِلُّ : عَادَ الشَّرِيكُ إلَى الْآخِذِ بِالشُّفْعَةِ . فَأَمَّا انْقِسَامُ الثَّمَنِ بِالْقِيمَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ كَوْنُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا بِأَنْ يَبِيعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي كِيسٍ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَيَجْعَلُ الْأَلْفَ الزَّائِدَةَ فِي مُقَابَلَةِ الْكِيسِ كَمَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ مَنْ يُجَوِّزُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيْعُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ مُتَفَاضِلَةٍ فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ ذَلِكَ حَرُمَ التَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ الرِّبَوِيِّ ؛ بَلْ يُخْرَصُ خَرْصًا ؛ مِثْلُ { الْقِلَادَةِ الَّتِي بِيعَتْ يَوْمَ حنين وَفِيهَا خَرَزٌ مُعَلَّقٌ بِذَهَبِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُبَاعُ حَتَّى تَفْصِلَ } فَإِنَّ تِلْكَ الْقِلَادَةَ لَمَّا فُصِلَتْ كَانَ ذَهَبُ الْخَرَزِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ هَذَا بِهَذَا حَتَّى تُفْصَلَ ؛ لِأَنَّ الذَّهَبَ الْمُفْرَدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ مِنْ الذَّهَبِ الْمَقْرُونِ فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ ذَهَبًا بِذَهَبٍ مِثْلِهِ وَزِيَادَةَ خَرَزٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ . وَإِذَا عُلِمَ الْأَخْذُ . فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ دَرَاهِمِ بِدَرَاهِمَ مِثْلِهَا وَكَانَ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ مِنْ الْمَخْلُوطِ كَمَا فِي الدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ ؛ بِحَيْثُ تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْخَلْطِ ؛ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا مِنْ مَفْسَدَةِ الرِّبَا شَيْءٌ إذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا وَلَا هُوَ بِمَا يَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ فِيهِ ذَلِكَ فَيَجُوزُ التَّفَاوُتُ . الْمَأْخَذُ الثَّانِي : مَأْخَذُ مَنْ يَقُولُ : يَجُوزُ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِالرِّبَوِيِّ عَلَى سَبِيلِ التَّحَرِّي وَالْخَرْصِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ الْكَيْلُ أَوْ الْوَزْنُ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا كَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ خَرْصًا ؛ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ . وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي كُلِّ الثِّمَارِ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَفِي الثَّانِي لَا يَجُوزُ وَفِي الثَّالِثِ يَجُوزُ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ خَاصَّةً كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَكَمَا يَقُولُ نَظِيرَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فِي بَيْعِ الْمَوْزُونِ عَلَى سَبِيلِ التَّحَرِّي عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخُبْزِ بِالْخُبْزِ عَلَى وَجْهِ التَّحَرِّي وَجَوَّزُوا بَيْعَ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ عَلَى وَجْهِ التَّحَرِّي فِي السَّفَرِ . قَالُوا : لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ وَلَا مِيزَانَ عِنْدَهُمْ فَيَجُوزُ كَمَا جَازَتْ الْعَرَايَا . وَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْكَيْلِ ؛ فَإِنَّ الْكَيْلَ مُمْكِنٌ وَلَوْ بِالْكَفِّ . وَإِذَا كَانَتْ السُّنَّةُ قَدْ مَضَتْ بِإِقَامَةِ التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ مَقَامَ الْعِلْمِ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ عِنْدَ الْحَاجَةِ . فَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَى بَيْعِ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ بِهَذِهِ الْخَالِصَةِ وَقَدْ عَرَفُوا مِقْدَارَ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ
بِأَخْبَارِ أَهْلِ الضَّرْبِ وَأَخْبَارِ الصَّيَارِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَبَكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ وَعَرَفَ قَدْرَ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ فَلَمْ يَبْقَ فِي ذَلِكَ جَهْلٌ مُؤْثَرٌ ؛ بَلْ الْعِلْمُ بِذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ الْعِلْمِ بِالْخَرْصِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَهُمْ إنَّمَا مَقْصُودُهُمْ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ بِقَدْرِ نَصِيبِهِمْ ؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ أَخْذَ فِضَّةٍ زَائِدَةٍ . وَلَوْ وَجَدُوا مَنْ يَضْرِبُ لَهُمْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ فِضَّةً خَالِصَةً مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ بِحَيْثُ تَبْقَى فِي بِلَادِهِمْ لَفَعَلُوا ذَلِكَ وَأَعْطَوْهُ أُجْرَتَهُ . فَهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِمَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ وَلَا يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ . وَكَذَلِكَ أَرْبَابُ الْخَالِصَةِ إذَا أَخَذُوا هَذِهِ الدَّرَاهِمَ : فَهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ لَا يَتَضَرَّرُونَ . وَهَذَا " مَأْخَذٌ ثَالِثٌ " يُبَيِّنُ الْجَوَازَ وَهُوَ : أَنَّ الرِّبَا إنَّمَا حَرُمَ لِمَا فِيهِ مِنْ أَخْذِ الْفَضْلِ وَذَلِكَ ظُلْمٌ يَضُرُّ الْمُعْطِيَ فَحَرُمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ . وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْ الْمُتَقَابِضَيْنِ مُقَابَضَةً أَنْفَعَ لَهُ مِنْ كَسْرِ دَرَاهِمِهِ وَهُوَ إلَى مَا يَأْخُذُهُ مُحْتَاجٌ ؛ كَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهُمَا هُمَا يَحْتَاجَانِ إلَيْهَا وَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمَا . وَالشَّارِعُ لَا يَنْهَى عَنْ الْمَصَالِحِ الرَّاجِحَةِ وَيُوجِبُ الْمَضَرَّةَ الْمَرْجُوحَةَ كَمَا قَدْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنْ أَخَذَ " السَّفْتَجَةَ " مِنْ الْمُقْرِضِ وَهُوَ أَنْ يُقْرِضَهُ دَرَاهِمَ يَسْتَوْفِيهَا مِنْهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ غَرَضُهُ حَمْلُ دَرَاهِمَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ . وَالْمُقْتَرِضُ لَهُ دَرَاهِمُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى دَرَاهِمَ فِي بَلَدِ الْمُقْرِضِ فَيَقْتَرِضُ مِنْهُ فِي بَلَدٍ دَرَاهِمَ الْمُقْرِضِ وَيَكْتُبُ
لَهُ سَفْتَجَةً - أَيْ وَرَقَةً - إلَى
بَلَدِ دَرَاهِمِ الْمُقْتَرِضِ فَهَذَا يَجُوزُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ . وَقِيلَ : يُنْهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً
وَالْقَرْضُ إذَا جَرَّ مَنْفَعَةً كَانَ رِبًا وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ لِأَنَّ
الْمُقْتَرِضَ رَأَى النَّفْعَ بِأَمْنِ خَطَرِ الطَّرِيقِ إلَى نَقْلِ
دَرَاهِمِهِ إلَى بَلَدِ دَرَاهِمِ الْمُقْتَرِضِ فَكِلَاهُمَا مُنْتَفِعٌ بِهَذَا
الِاقْتِرَاضِ . وَالشَّارِعُ لَا يَنْهَى عَمَّا يَنْفَعُ النَّاسَ
وَيُصْلِحُهُمْ وَيَحْتَاجُونَ إلَيْهِ ؛ وَإِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا يَضُرُّهُمْ
وَيُفْسِدُهُمْ وَقَدْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ اشْتَرَى الْفُلُوسَ : أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِرْطَاسًا بِدِرْهَمِ
وَيَصْرِفُهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ بِدِرْهَمِ هَلْ يَجُوزُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ يَصْرِفُهَا لِلنَّاسِ بِالسِّعْرِ الْعَامِّ جَازَ ذَلِكَ وَإِنْ
اشْتَرَاهَا رَخِيصَةً . وَأَمَّا مَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِدَرَاهِمَ فَإِنَّهُ لَا
يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَضِيَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا فَلَوْسًا إلَّا
بِاخْتِيَارِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَاهَا بِدَرَاهِمَ فَعَلَيْهِ أَنْ
يُوَفِّيَهَا دَرَاهِمَ فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى التَّعْوِيضِ عَنْ الثَّمَنِ ؛
أَوْ بَعْضِهِ بِفُلُوسٍ بِالسِّعْرِ الْوَاقِعِ جَازَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْفُلُوسِ وَبَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ مُتَفَاضِلًا وَصَرْفِهَا بِالدَّرَاهِمِ
مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ فِي الْحَالِ وَدَافِعُ الدِّرْهَمِ يَأْخُذُ بِبَعْضِهِ
فَلَوْسًا وَبِبَعْضِهِ قِطْعَةً مِنْ فِضَّةٍ .
فَأَجَابَ :
إذَا دَفَعَ الدِّرْهَمَ فَقَالَ : أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ فِضَّةً وَبِنِصْفِهِ
فُلُوسًا . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَعْطِنِي بِوَزْنِ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ
الثَّقِيلَةِ أَنْصَافًا أَوْ دَرَاهِمَ خِفَافًا ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ سَوَاءٌ
كَانَتْ مَغْشُوشَةً أَوْ خَالِصَةً . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَكْرَهُ ذَلِكَ
وَيَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ " مُدِّ عَجْوَةٍ " لِكَوْنِهِ بَاعَ فِضَّةً
وَنُحَاسًا بِفِضَّةِ وَنُحَاسٍ . وَأَصْلُ مَسْأَلَةِ " مُدِّ عَجْوَةٍ
" أَنْ يَبِيعَ مَالًا رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ وَمَعَهُمَا أَوْ مَعَ
أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمَا فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ
أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : الْمَنْعُ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَالثَّانِي : الْجَوَازُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَيُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد .
وَالثَّالِثُ : الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ الرِّبَوِيّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا أَوْ لَا يَكُونُ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . فَإِذَا بَاعَ تَمْرًا فِي نَوَاهٍ بِنَوَى أَوْ تَمْرًا مَنْزُوعَ النَّوَى . أَوْ شَاةً فِيهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ لَيْسَ فِيهَا لَبَنٌ أَوْ بِلَبَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمَا ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي مِنْدِيلٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ . فَمَنْ كَانَ قَصْدُهُ بَيْعَ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ تَبَعًا غَيْرَ مَقْصُودٍ جَازَ . وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقَدِّرُ ذَلِكَ بِالثُّلُثِ . وَهَكَذَا إذَا بَاعَ حِنْطَةً فِيهَا شَعِيرٌ يَسِيرٌ بِحِنْطَةٍ فِيهَا شَعِيرٌ يَسِيرٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ الدَّرَاهِمَ الَّتِي فِيهَا غِشٌّ بِجِنْسِهَا . فَإِنَّ الْغِشَّ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَالْمَقْصُودُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ . وَكَذَلِكَ صَرْفُ الْفُلُوسِ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ يَقُولُ مَنْ يَكْرَهُهُ : إنَّهُ بَيْعُ فِضَّةٍ وَنُحَاسٍ بِنُحَاسِ . وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ جَائِزٌ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ
اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ : هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا
الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ كَصَرْفِ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ ؟ فِيهِ
قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : إحْدَاهُمَا لَا بُدَّ مِنْ
الْحُلُولِ وَالتَّقَابُضِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الصَّرْفِ ؛ فَإِنَّ
الْفُلُوسَ النَّافِقَةَ تُشْبِهُ الْأَثْمَانَ فَيَكُونُ بَيْعُهَا بِجِنْسِ
الْأَثْمَانِ صَرْفًا . وَالثَّانِيَةُ لَا يُشْتَرَطُ الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ
فَإِنَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ فِي جِنْسِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ كَانَ
ثَمَنًا أَوْ كَانَ صَرْفًا أَوْ كَانَ مَكْسُورًا ؛ بِخِلَافِ الْفُلُوسِ .
وَلِأَنَّ الْفُلُوسَ هِيَ فِي الْأَصْلِ مِنْ " بَابِ الْعُرُوضِ "
والثمنية عَارِضَةٌ لَهَا . وَأَيْضًا هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ
وَهُوَ أَنَّ بَيْعَ النُّحَاسِ مُتَفَاضَلًا هَلْ يَجُوزُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ
مَعْرُوفَيْنِ فِيهِ وَفِي سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ : كَالْحَدِيدِ بِالْحَدِيدِ
وَالرَّصَاصِ بِالرَّصَاصِ وَالْقُطْنِ بِالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ بِالْكَتَّانِ
وَالْحَرِيرِ بِالْحَرِيرِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجِنْسِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَمَنْ قَالَ بِالتَّحْرِيمِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْمُولِ مِنْ ذَلِكَ : كَثِيَابِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالْأَسْطَالِ وَقُدُورِ النُّحَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . هَلْ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَصَحُّهَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُقْصَدُ وَزْنُهُ بَعْد الصَّنْعَةِ - كَثِيَابِ الْحَرِيرِ وَالْأَسْطَالِ وَنَحْوِهِمَا - وَبَيْنَ مَا لَا يُقْصَدُ وَزْنُهُ : كَثِيَابِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالْإِبَرِ وَغَيْرِهَا . وَعَلَى هَذَا فَالْفُلُوسُ يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ مَعْمُولَ النُّحَاسِ يَجْرِي فِيهِ وَمَنْ اعْتَبَرَ قَصْدَ الْوَزْنِ لَمْ يَجْرِ الرِّبَا فِيهَا عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ وَزْنَهَا فِي الْعَادَةِ وَإِنَّمَا تُنْفَقُ عَدَدًا . لَكِنْ مَنْ قَالَ هِيَ أَثْمَانٌ . فَهَلْ يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لَهُمْ . وَكَذَلِكَ فِيهَا وَجْهَانِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا وَفِي إخْرَاجِهَا عَنْ الزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَالْوَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِإِنْسَانِ : أَعْطِنِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ أَنْصَافًا
قَالَ لَهُ : مَا يَجُوزُ . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنْ
الْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ ؛ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي
ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ . فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي نَقَلَتْهَا الْفُقَهَاءُ
مَسْأَلَةُ " مُدِّ عَجْوَةٍ " عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : يَجْمَعُهَا
أَنَّهُ بَيْعٌ رِبَوِيٌّ بِجِنْسِهِ وَمَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا مِنْ
غَيْرِ جِنْسِهِمَا . الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ
رِبَوِيٍّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَيَضُمُّ إلَى الْأَقَلِّ غَيْرَ الْجِنْسِ
حِيلَةً مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ أَلْفَيْ دِينَارٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي مِنْدِيلٍ
أَوْ قَفِيزِ حِنْطَةٍ بِقَفِيزِ وَغِرَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ
الصَّوَابَ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَإِلَّا فَلَا يَعْجِزُ أَحَدٌ فِي رِبَا الْفَضْلِ
أَنْ يَضُمَّ إلَى الْقَلِيلِ شَيْئًا مِنْ هَذَا . الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ
يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ غَيْرِ رِبَوِيٍّ مَعَ رِبَوِيٍّ وَإِنَّمَا دَخَلَ
الرِّبَوِيُّ ضِمْنًا وَتَبَعًا كَبَيْعِ شَاةٍ ذَاتِ صُوفٍ وَلَبَنٍ بِشَاةِ
ذَاتِ
صُوفٍ وَلَبَنٍ أَوْ سَيْفٍ فِيهِ فِضَّةٌ يَسِيرَةٌ بِسَيْفٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ دَارٍ مُمَوَّهَةٍ بِذَهَبٍ بِدَارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهُنَا الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد جَوَازُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ الرِّبَوِيِّ بِغَيْرِ الرِّبَوِيِّ مِثْلُ بَيْعِ الدَّارِ وَالسَّيْفِ وَنَحْوِهِمَا بِذَهَبِ أَوْ بَيْعِهِ بِجِنْسِهِ وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ . وَمَسْأَلَةُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ فِي زَمَانِنَا مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّ الْفِضَّةَ الَّتِي فِي أَحَدِ الدِّرْهَمَيْنِ كَالْفِضَّةِ الَّتِي فِي الدِّرْهَمِ الْآخَرِ . وَأَمَّا النُّحَاسُ فَهُوَ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ جَوَازَ ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مَقْصُودًا : مِثْلُ بَيْعِ مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ أَوْ مُدَّيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ أَوْ بَيْعِ دِينَارٍ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ بَيْعِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَرِطْلِ نُحَاسٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَرِطْلِ نُحَاسٍ فَمِثْلُ هَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . فَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَالشَّافِعِيُّ يُحَرِّمُهُ . وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَلِمَالِكٍ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الثُّلُثِ وَغَيْرِهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الذَّهَبِ الْمُخَيَّشِ إذَا عُلِمَ مِقْدَارُ مَا فِيهِ مِنْ الْفِضَّةِ
وَالذَّهَبِ فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِأَحَدِهِمَا إذَا كَانَ الْمُفْرَدُ
أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي مَعَهُ غَيْرُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ
الْمَقْصُودُ بَيْعَ فِضَّةٍ بِفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا أَوْ بَيْعُ ذَهَبٍ بِذَهَبِ
مُتَفَاضِلًا وَيَضُمُّ إلَى الْأَنْقَصِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ حِيلَةً فَهَذَا
لَا يَجُوزُ أَصْلًا . وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ أَحَدِهِمَا
وَبَيْعَ عَرَضٍ بِأَحَدِهِمَا وَفِي الْعَرَضِ مَا لَيْسَ مَقْصُودًا : مِثْلُ
بَيْعِ السِّلَاحِ بِأَحَدِهِمَا وَفِيهِ حِلْيَةٌ يَسِيرَةٌ أَوْ بَيْعُ عَقَارٍ
بِأَحَدِهِمَا وَفِي سَقْفِهِ وَحِيطَانِهِ كَذَلِكَ مِثْلُ بَيْعِ غَنَمٍ ذَاتِ
صُوفٍ بِصُوفٍ وَذَاتِ لَبَنٍ بِلَبَنِ فَهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الصَّوَابُ . وَبَيْعُ الْفِضَّةِ الْمُخَيَّشَةِ بِذَهَبٍ
يَذْهَبُ عِنْدَ السَّبْكِ بِفِضَّةِ مِثْلِهِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِذَا
بِيعَتْ الْفِضَّةُ الْمَصْنُوعَةُ الْمُخَيَّشَةُ بِذَهَبِ أَوْ بِيعَتْ
بِذَهَبِ مَقْبُوضٍ جَازَ ذَلِكَ وَإِذَا
بِيعَتْ الْفِضَّةُ الْمَصْنُوعَةُ بِفِضَّةٍ أَكْثَرَ مِنْهَا لِأَجْلِ
الصِّنَاعَةِ لَمْ يَجُزْ . وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ
مَقْصُودًا : مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السِّلَاحِ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ كَثِيرٌ ؛
فَهَذَا إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ وَبِيعَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ :
فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ جَائِزٌ . وَإِذَا بِيعَتْ
الْفِضَّةُ الْمَصْنُوعَةُ الْمُخَيَّشَةُ بِذَهَبِ أَوْ بِيعَتْ بِذَهَبٍ
مَغْشُوشٍ جَازَ ذَلِكَ وَإِذَا بِيعَتْ الْفِضَّةُ الْمَصْنُوعَةُ بِفِضَّةٍ
أَكْثَرَ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا بَيْعُ الدَّرَاهِمِ النُّقْرَةِ الَّتِي تَكُونُ فِضَّتُهَا نَحْوَ
الثُّلُثَيْنِ بِالدَّرَاهِمِ السُّودِ الَّتِي يَكُونُ فِضَّتُهَا نَحْوَ
الرُّبُعِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَهَذِهِ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ
" مُدِّ عَجْوَةٍ " . وَجِمَاعُهَا أَنْ يَبِيعَ رِبَوِيًّا مَعَهُ
غَيْرُهُ بِجِنْسِ ذَلِكَ الرِّبَوِيِّ وَالنَّاسُ فِيهَا بَيْنَ طَرَفَيْ التَّحْرِيمِ
وَالتَّحْلِيلِ وَبَيْنَ مُتَوَسِّطٍ .
فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَقَدْ أَدْخَلَ الْغَيْرَ حِيلَةً كَمَنَ يَبِيعُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فِي مِنْدِيلٍ أَوْ قَفِيزَيْ حِنْطَةٍ بِقَفِيزٍ فِي زِنْبِيلٍ : فَهَذَا لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ . كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْبَيْعُ الْجَائِزُ وَمَا فِيهِ مِنْ مُقَابَلَةِ رِبَوِيٍّ بِرِبَوِيٍّ هُوَ دَاخِلٌ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ كَبَيْعِ الْغَنَمِ بِالْغَنَمِ وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا لَبَنٌ وَصُوفٌ أَوْ بَيْعِ غَنَمٍ ذَاتِ لَبَنٍ بِلَبَنِ وَبَيْعِ دَارٍ مُمَوَّهَةٍ بِذَهَبِ وَبَيْعِ الْحِلْيَةِ الْفِضِّيَّةِ بِذَهَبِ وَعَلَيْهِمَا ذَهَبٌ يَسِيرٌ مُوِّهَتْ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا الصَّوَابُ فِيهِ أَنَّهُ جَائِزٌ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ كَمَا جَازَ دُخُولُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فِي الْبَيْعِ تَبَعًا وَقَدْ جَاءَ مَعَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ مَرْفُوعًا كَمَا رَوَاهُ سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ وَرَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا : { مَنْ بَاعَ عَبْدًا لَهُ وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ } . وَأَمَّا إنْ كَانَ كِلَا الصِّنْفَيْنِ مَقْصُودًا فَفِيهِمَا النِّزَاعُ الْمَشْهُورُ . وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا وَإِمَّا لِكَوْنِ الصَّفْقَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى عِوَضَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالْقِيمَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد : إذَا كَانَ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي مَعَهُ غَيْرُهُ . إذَا عُرِفَ ذَلِكَ : فَبَيْعُ النُّقْرَةِ الْمَغْشُوشَةِ بِالنُّقْرَةِ الْمَغْشُوشَةِ جَائِزٌ عَلَى الصَّحِيحِ كَبَيْعِ الشَّاةِ اللَّبُونِ بِاللَّبُونِ إذَا تَمَاثَلَا فِي الصِّفَةِ أَوْ النُّحَاسِ . وَأَمَّا بَيْعُ النُّقْرَةِ بِالسَّوْدَاءِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ فِضَّةً بِفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا فَإِنَّ النُّحَاسَ الَّذِي فِي السَّوْدَاءِ مَقْصُودٌ وَهِيَ قَرِينَةٌ بَيْنَ النُّقْرَةِ وَالْفُلُوسِ فَهَذِهِ تَخْرُجُ عَلَى النِّزَاعِ الْمَشْهُورِ فِي مَسْأَلَةِ " مُدِّ عَجْوَةٍ " إذْ قَدْ بَاعَ فِضَّةً وَنُحَاسًا بِفِضَّةِ وَنُحَاسٍ مَقْصُودَيْنِ وَالْأَشْبَهُ الْجَوَازُ فِي ذَلِكَ وَفِي سَائِرِ هَذَا الْبَابِ إذَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى الرِّبَا الْمُحَرَّمِ . وَالْأَصْلُ حَمْلُ الْعُقُودِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ وَحَدِيثُ الْخَرَزِ الْمُعَلَّقَةِ بِالذَّهَبِ لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُ الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي مَعَ الْخَرَزِ وَالتَّقْوِيمُ فِي الْعِوَضَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ كَانَ لِلْحَاجَةِ . هَذَا إنْ كَانَ النُّحَاسُ يُنْتَفَعُ بِهِ إذَا تَخَلَّصَ مِنْ الْفِضَّةِ ؛ فَإِنْ كَانَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ ؛ فَذَلِكَ كَبَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّمَاثُلُ وَيُلْغَى فِيهِ مَا لَا خِبْرَةَ لِلنَّاسِ بِمِقْدَارِ الْفِضَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ جَمَاعَةٍ تَبِيعُ بِدَرَاهِمَ وَتُوفِي عَنْ بَعْضِهَا فُلُوسًا مُحَابَاةً
ثُمَّ تُخْبِرُ عَنْ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُوَفُّوا فُلُوسًا إلَّا بِرِضَا الْبَائِعِ وَإِذَا
أَوْفَوْا فُلُوسًا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُوَفُّوهَا إلَّا بِالسِّعْرِ
الْوَاقِعِ كَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَمَّا قَالَ لَهُ : إنَّا نَبِيعُ بِالذَّهَبِ وَنَقْتَضِي
الْوَرِقَ وَنَبِيعُ بِالْوَرِقِ وَنَقْتَضِي الذَّهَبَ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ
بِسِعْرِ يَوْمِهِ إذَا افْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ } .
وَحِينَئِذٍ فَتَخْيِيرُ الثَّمَنِ عَلَى التَّقْدِيرِ سَوَاءٌ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ
هَذَا رِبْحٌ فِيمَا لَمْ يُضْمَنْ . وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَجَمِيعُ
الدُّيُونِ وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَيْنِ
يَجْرِيَانِ مَجْرًى وَاحِدًا ، فَاسْتِيفَاءُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ
كَاسْتِيفَاءِ أَحَدِهِمَا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ
الْمُعَاوَضَةِ فَلَا تَجُوزُ فِيهِ الزِّيَادَةُ بِالشَّرْطِ كَمَا لَا يَجُوزُ
فِي الْقَرْضِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُوجِبُ الْمُمَاثَلَةَ . فَإِذَا اتَّفَقَا
عَلَى أَنْ يُوَفِّيَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ : كَانَ كَالِاتِّفَاقِ
عَلَى أَنْ يُوَفِّيَ عَنْهُ أَكْثَرَ
مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ ؛ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ . وَعَلَى
هَذَا فَالْفُلُوسُ النَّافِقَةُ قَدْ يَكُونُ فِيهَا شَوْبٌ أَقْوَى مِنْ
الْأَثْمَانِ فَتَوْفِيَتُهَا عَنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ كَتَوْفِيَةِ أَحَدِهِمَا
عَنْ صَاحِبِهِ : فِيهِ الْعِلَّتَانِ ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ . يَحْسَبُهَا
بِنَقْدَيْنِ فِي الْحُكْمِ وَيَقْتَصِرُ بِهِ عَنْ الْأَثْمَانِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْفُلُوسِ تُشْتَرَى نَقْدًا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ وَتُبَاعُ إلَى أَجَلٍ
بِزِيَادَةِ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ وَهُوَ صَرْفُ الْفُلُوسِ النَّافِقَةِ بِالدَّرَاهِمِ هَلْ
يُشْتَرَطُ فِيهَا الْحُلُولُ ؟ أَمْ يَجُوزُ فِيهَا النسأ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ
مَشْهُورَيْنِ هُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ
حَنْبَلٍ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَد وَقَوْلُ مَالِكٍ وَإِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ . وَقَالَ مَالِكٌ :
وَلَيْسَ بِالْحَرَامِ الْبَيِّنِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى
وَابْنِ عَقِيلٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : أَنَّهُ يَجُوزُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ نَهْيَ أَحْمَد لِلْكَرَاهَةِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : هُوَ يُشْبِهُ الصَّرْفَ . وَالْأَظْهَرُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْفُلُوسَ النَّافِقَةَ يَغْلِبُ عَلَيْهَا حُكْمُ الْأَثْمَانِ وَتُجْعَلُ مِعْيَارُ أَمْوَالِ النَّاسِ . وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَضْرِبَ لَهُمْ فُلُوسًا تَكُونُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ ؛ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ لَهُمْ . وَلَا يَتَّجِرُ ذُو السُّلْطَانِ فِي الْفُلُوسِ أَصْلًا ؛ بِأَنْ يَشْتَرِيَ نُحَاسًا فَيَضْرِبَهُ فَيَتَّجِرَ فِيهِ وَلَا بِأَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ الْفُلُوسَ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ وَيَضْرِبَ لَهُمْ غَيْرَهَا ؛ بَلْ يَضْرِبُ مَا يَضْرِبُ بِقِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ رِبْحٍ فِيهِ ؛ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَيُعْطِي أُجْرَةَ الصُّنَّاعِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ . فَإِنَّ التِّجَارَةَ فِيهَا بَابٌ عَظِيمٌ مِنْ أَبْوَابِ ظُلْمِ النَّاسِ وَأَكْلِ أَمْوَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا حَرَّمَ الْمُعَامَلَةَ بِهَا حَتَّى صَارَتْ عَرَضًا وَضَرَبَ لَهُمْ فُلُوسًا أُخْرَى : أَفْسَدَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ بِنَقْصِ أَسْعَارِهَا فَيَظْلِمُهُمْ فِيهَا وَظُلْمُهُمْ فِيهَا بِصَرْفِهَا بِأَغْلَى سِعْرِهَا . وَأَيْضًا فَإِذَا اخْتَلَفَتْ مَقَادِيرُ الْفُلُوسِ : صَارَتْ ذَرِيعَةً إلَى أَنَّ الظَّلَمَةَ يَأْخُذُونَ صِغَارًا فَيَصْرِفُونَهَا وَيَنْقُلُونَهَا إلَى بَلَدٍ آخَرَ وَيُخْرِجُونَ صِغَارَهَا فَتَفْسُدُ أَمْوَالُ النَّاسِ وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةِ بَيْنَهُمْ إلَّا مِنْ بَأْسٍ } فَإِذَا كَانَتْ مُسْتَوِيَةَ الْمِقْدَارِ بِسِعْرِ النُّحَاسِ وَلَمْ يَشْتَرِ وَلِيُّ الْأَمْرِ النُّحَاسَ وَالْفُلُوسَ الْكَاسِدَةَ لِيَضْرِبَهَا فُلُوسًا وَيَتَّجِرَ بِذَلِكَ : حَصَلَ بِهَا الْمَقْصُودُ
مِنْ الثمنية . وَكَذَلِكَ الدَّرَاهِمُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَالدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ } { وَ نَهَى عَنْ صَرْفِ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ ، إلَّا يَدًا بِيَدِ } وَتَحْرِيمُ النسأ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ . وَتَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ يَدًا بِيَدِ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَقَالَ بِهِ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ وَلَكِنْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالنِّعْمَةِ التَّامَّةِ وَالرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ ؛ مَا قَدْ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ " مَسَائِلِ الرِّبَا " قَدِيمًا وَحَدِيثًا . وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ : هَلْ هُوَ التَّمَاثُلُ ؟ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ . أَوْ هُوَ الثمنية وَالطَّعْمُ أَوْ هُوَ الثمنية وَالتَّمَاثُلُ مَعَ الطَّعْمِ وَالْقُوتِ وَمَا يُصْلِحُهُ ؟ أَوْ النَّهْيُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ وَالْحُكْمُ مَقْصُورٌ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ ؟ عَلَى أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ . وَ " الْأَوَّلُ " مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ . وَ " الثَّانِي " قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ . وَ " الثَّالِثُ " قَوْلُ أَحْمَد فِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ وَقَوْلُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ . وَ " الرَّابِعُ " قَوْلُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ وَيُرْوَى عَنْ قتادة . وَرَجَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا الْقَوْلَ فِي مُفْرَدَاتِهِ وَضَعَّفَ
الْأَقْوَالَ الْمُتَقَدِّمَةَ . وَفِيهَا قَوْلٌ شَاذٌّ : أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَالِيَّةَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ وَلِإِجْمَاعِ السَّلَفِ . وَالِاتِّحَادُ فِي الْجِنْسِ شَرْطٌ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : الْكَلَامُ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ هُوَ الثمنية ؛ لَا الْوَزْنُ كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَلَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ كَالرَّصَاصِ وَالْحَدِيدِ وَالْحَرِيرِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ إسْلَامِ النَّقْدَيْنِ فِي الْمَوْزُونَاتِ وَهَذَا بَيْعُ مَوْزُونٍ بِمَوْزُونٍ إلَى أَجَلٍ فَلَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ الْوَزْنَ لَمْ يَجُزْ هَذَا . وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ : جَوَازُ هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَهُوَ نَقِيضٌ لِلْعِلَّةِ . وَيَقُولُ : إنَّهُ جَوَّزَ هَذَا لِلْحَاجَةِ ؛ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ تَحْرِيمُهُ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْعِلَّةَ الرِّبَا بِمَا ذَكَرَهُ . وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِهِ ، وَتَخْصِيصُ الْعِلَّةِ الَّذِي قَدْ سُمِّيَ اسْتِحْسَانًا إنْ لَمْ يُبَيَّنْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يُوجِبُ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَاخْتِصَاصَ صُورَةِ التَّخْصِيصِ بِمَعْنَى يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَالْأَحَادِيثِ وَإِلَّا كَانَتْ الْعِلَّةُ فَاسِدَةً . وَالتَّعْلِيلُ بالثمنية تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَثْمَانِ أَنْ تَكُونَ مِعْيَارًا لِلْأَمْوَالِ يَتَوَسَّلُ بِهَا إلَى مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ الْأَمْوَالِ وَلَا
يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِعَيْنِهَا . فَمَتَى بِيعَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ إلَى أَجَلٍ قُصِدَ بِهَا التِّجَارَةُ الَّتِي تُنَاقِضُ مَقْصُودَ الثمنية وَاشْتِرَاطُ الْحُلُولِ وَالتَّقَابُضِ فِيهَا هُوَ تَكْمِيلٌ لِمَقْصُودِهَا مِنْ التَّوَسُّلِ بِهَا إلَى تَحْصِيلِ الْمَطَالِبِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَبْضِهَا . لَا بِثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ ؛ مَعَ أَنَّهَا ثَمَنٌ مِنْ طَرَفَيْنِ فَنَهَى الشَّارِعُ أَنْ يُبَاعَ ثَمَنٌ بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ . فَإِذَا صَارَتْ الْفُلُوسُ أَثْمَانًا صَارَ فِيهَا الْمَعْنَى فَلَا يُبَاعُ ثَمَنٌ بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ . كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ } وَهُوَ الْمُؤَخَّرُ بِالْمُؤَخَّرِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ بَيْعِ دَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ يَسْقُطُ إذَا بِيعَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ يَسْقُطُ ؛ فَإِنَّ هَذَا الثَّانِيَ يَقْتَضِي تَفْرِيغَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الذِّمَّتَيْنِ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَغَيْرِهِمَا ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ دَيْنًا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَيَشْغَلُهَا بِدَيْنِ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ كَالْمُسْلِمِ إذَا أَسْلَمَ فِي سِلْعَةٍ وَلَمْ يُقْبِضْهُ رَأْسَ الْمَالِ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَسْلِفِ دَيْنَ السَّلَمِ وَفِي ذِمَّةِ الْمُسْلِفِ رَأْسَ الْمَالِ وَلَمْ يَنْتَفِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءِ . فَفِيهِ شَغْلُ ذِمَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعُقُودِ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ إلَى الْقَبْضِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ . كَمَا أَنَّ السِّلَعَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْأَثْمَانِ فَلَا يُبَاعُ ثَمَنٌ بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ كَمَا لَا يُبَاعُ كَالِئٌ بِكَالِئِ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ الْمُنَافِي لِمَقْصُودِ الثمنية وَمَقْصُودِ الْعُقُودِ ؛ بِخِلَافِ كَوْنِ الْمَالِ مَوْزُونًا وَمَكِيلًا ؛ فَإِنَّ هَذَا صِفَةٌ لِمَا
بِهِ يُقَدَّرُ وَيُعْلَمُ قَدْرُهُ . وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَعْنًى يُنَاسِبُ تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ فِيهِ . فَإِذَا قِيلَ : الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ مُتَمَاثِلَةٌ وَعِلَّةُ التَّحْرِيمِ نَفْيُ التَّمَاثُلِ . قِيلَ : الْعَاقِلُ لَا يَبِيعُ شَيْئًا بِمِثْلِهِ إلَى أَجَلٍ وَلَكِنْ قَدْ يَقْرِضُ الشَّيْءَ . لِيَأْخُذَ مِثْلَهُ بَعْدَ حِينٍ . وَالْقَرْضُ هُوَ تَبَرُّعٌ مِنْ جِنْسِ الْعَارِيَةِ كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنِيحَةُ وَرِقٍ أَوْ مَنِيحَةُ ذَهَبٍ } . فَالْمَالُ إذَا دُفِعَ إلَى مَنْ يَسْتَوْفِي مَنْفَعَتَهُ مُدَّةً ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَى صَاحِبِهِ كَانَ هَذَا تَبَرُّعًا مِنْ صَاحِبِهِ بِنَفْعِهِ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ نَوْعٍ اسْمٌ خَاصٌّ . فَيُقَالُ فِي النَّخْلَةِ : عَارِيَةٌ وَيُقَالُ فِيمَا يُشْرَبُ لَبَنُهُ مَنِيحَةً . ثُمَّ قَدْ يُعِيدُ إلَيْهِ عَيْنَ الْمَالِ إنْ كَانَ مَقْصُودًا وَإِلَّا أَعَادَ مِثْلَهُ . وَالدَّرَاهِمُ لَا تُقْصَدُ عَيْنُهَا فَإِعَادَةُ الْمُقْتَرِضِ نَظِيرَهَا كَمَا يُعِيدُ الْمُضَارِبُ نَظِيرَهَا . وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ . وَلِهَذَا سُمِّيَ قَرْضًا وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُقْرِضُ إلَّا نَظِيرَ مَالِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَالْمُقْرِضُ يَسْتَحِقُّ مِثْلَ قَرْضِهِ فِي صِفَتِهِ كَمَا يَسْتَحِقُّ مِثْلَهُ فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَبِيعُهُ عَاقِلٌ وَإِنَّمَا يُبَاعُ الشَّيْءُ بِمِثْلِهِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَتْ الصِّفَةُ . وَالشَّارِعُ طَلَبَ إلْغَاءَ الصِّفَةِ فِي الْأَثْمَانِ فَأَرَادَ أَنْ تُبَاعَ الدَّرَاهِمُ بِمِثْلِ وَزْنِهَا وَلَا يُنْظَرُ إلَى اخْتِلَافِ الصِّفَاتِ مَعَ خِفَّةِ وَزْنِ كُلِّ دِرْهَمٍ . كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَطْلُبُ دَرَاهِمَ خِفَافًا إمَّا لِيُعْطِيَهَا لِلظُّلْمَةِ وَإِمَّا لِيَقْضِيَ بِهَا
وَأَمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَيُبَدِّلُ
أَقَلَّ مِنْهَا عَدَدًا وَهُوَ مِثْلُهَا وَزْنًا فَيُرِيدُ الْمُرْبِي أَنْ لَا
يُعْطِيَهُ ذَلِكَ إلَّا بِزِيَادَةٍ فِي الْوَزْنِ فَهَذَا إخْرَاجُ الْأَثْمَانِ
عَنْ مَقْصُودِهَا وَهَذَا مِمَّا حَرَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِلَا رَيْبٍ بِخِلَافِ مَوَاضِعِ تَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا لَيْسَ
هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَبْخَسُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا بَخْسُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ فَهُوَ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي
أَهْلَكَ اللَّهُ بِهَا قَوْمَ شُعَيْبٍ وَقَصَّ عَلَيْنَا قِصَّتَهُمْ فِي غَيْرِ
مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ ؛ لِنَعْتَبِرَ بِذَلِكَ . وَالْإِصْرَارُ عَلَى ذَلِكَ
مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ وَصَاحِبُهُ مُسْتَوْجِبٌ تَغْلِيظَ الْعُقُوبَةِ
وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ مَا بَخَسَهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى طُولِ الزَّمَانِ وَيُصْرَفَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ
يُمْكِنْ إعَادَتُهُ إلَى أَصْحَابِهِ . وَالْكَيَّالُ وَالْوَزَّانُ الَّذِي
يَبْخَسُ الْغَيْرَ : هُوَ ضَامِنٌ مَحْرُومٌ مَأْثُومٌ ، وَهُوَ مِنْ أَخْسَرِ
النَّاسِ صَفْقَةً إذْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ . وَلَا يَحِلُّ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَ النَّاسِ كَيَّالًا أَوْ وَزَّانًا يَبْخَسُ أَوْ يُحَابِي كَمَا
لَا يَحِلُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ مُقَوِّمٌ يُحَابِي بِحَيْثُ يَكِيلُ أَوْ
يَزِنُ أَوْ يُقَوِّمُ لِمَنْ يَرْجُوهُ أَوْ يَخَافُ مِنْ شَرِّهِ أَوْ يَكُونُ لَهُ
جَاهٌ وَنَحْوُهُ بِخِلَافِ مَا يَكِيلُ أَوْ يَزِنُ
أَوْ يُقَوِّمُ لِغَيْرِهِمْ أَوْ يَظْلِمُ مَنْ يُبْغِضُهُ وَيَزِيدُ مَنْ يُحِبُّهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى دَارًا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا بُرُوزٌ ثُمَّ إنَّهُ هَدَمَهَا
وَعَمَّرَهَا وَأَحْدَثَ بُرُوزًا وَسُلَّمًا وَبَابًا فِي زُقَاقٍ غَيْرِ نَافِذٍ
فَخَافَ مِنْ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالْأَيْمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى : أَنَّهُ
مَا أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الدَّارِ شَيْئًا ، فَمَلَّكَهَا لِلْغَيْرِ وَذَكَرَ
أَنَّهُ بَاعَهَا بِالْمُهْلَةِ وَعَمِلَ هَذَا الْبَيْعَ أُحْبُولَةً
وَمُوَاطَأَةً حَتَّى يَضِيعَ الْحَقُّ ، فَهَلْ تَلْزَمُ الْيَمِينُ لِمَنْ
أَحْدَثَ وَبَاعَ ؟ أَمْ تَلْزَمُ الَّذِي اشْتَرَى وَهُوَ لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا
؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَيْعُهَا لَا يُسْقِطُ الدَّعْوَى وَلَا الْيَمِينَ
الْوَاجِبَةَ بِالدَّعْوَى وَصَاحِبُ الْحَقِّ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى
الْمُشْتَرِي الْمُسْتَوْلِي عَلَى مَا أَحْدَثَ لِيُزَالَ الْإِحْدَاثُ ، وَلَهُ
أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الْبَائِعِ الْمُحْدِثِ لَهُ الْمُمَكِّنِ لَهُ الْمُشْتَرِي
مِنْ الِاسْتِيلَاءِ فَعَلَى أَيِّهِمَا ادَّعَى صَحَّتْ دَعْوَاهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ بَنَى دَارًا عَالِيَةً وَسَافِلَةً وَأَجْرَى الْعَالِيَةَ عَلَى
السَّافِلَةِ ثُمَّ بَاعَهَا فِي صَفْقَتَيْنِ لِاثْنَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ
لِمُشْتَرِي السُّفْلَى أَنَّ عَلَيْهِ حَقَّ مَاءٍ وَقَدْ تَضَرَّرَ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْبَيْعُ فَيَقَعُ عَلَى الصُّورَةِ الْوَاقِعَةِ ؛ لَكِنْ إذَا لَمْ
يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي أَنَّ عَلَى سَطْحِهِ حَقًّا لِغَيْرِهِ ، فَلَهُ الْفَسْخُ
أَوْ الْأَرْشُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ بَاعَ زَرْعًا أَخْضَرَ قَبْلَ أَنْ يُدْرَكَ . هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
بَيْعُ الزَّرْعِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ بَاعَهُ
مُطْلَقًا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّ { النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ
وَالْعِنَبَ حَتَّى يَسْوَدَّ } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مِلْك بُسْتَانِ شَجَرِهِ مُخْتَلِفٌ مِنْهُ مَا يَبْدُو صَلَاحُهُ
كَالْمِشْمِشِ ، وَمِنْهُ مَا يَتَأَخَّرُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ : كَالرُّمَّانِ ،
وَمِنْهُ مَا يَبْدُو صَلَاحُهُ بَيْنَهُمَا كَالْعِنَبِ وَالتِّينِ وَالرُّطَبِ
وَأَنْتُمْ لَا تُصَحِّحُونَ الْبَيْعَ إلَّا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ .
فَكَيْفَ يُمْكِنُ الِاحْتِيَاطُ الشَّرْعِيُّ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي
بُدُوِّ الصَّلَاحِ بِتَقَدُّمِهِ وَتَأَخُّرِهِ وَتَوَسُّطِهِ ، فَإِنْ بَاعَ
مَثَلًا الْمِشْمِشَ عِنْدَ صَلَاحِهِ وَلَمْ تُجَوِّزُوا بَيْعَ الْعِنَبِ حَيْثُ
هُوَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حِصْرِمٌ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ . أَفْتُونَا ؟
.
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا صُورَتَانِ :
إحْدَاهُمَا : أَنْ يَضْمَنَ الْبُسْتَانَ ضَمَانًا بِحَيْثُ يَكُونُ الضَّامِنُ
هُوَ الَّذِي يَزْرَعُ أَرْضَهُ وَيَسْقِي شَجَرَهُ كَاَلَّذِي يَسْتَأْجِرُ
الْأَرْضَ . وَالْأُخْرَى إنَّمَا يَكُونُ اشْتَرَى مُجَرَّدَ الثَّمَرَةِ ؛
بِحَيْثُ يَكُونُ مُؤْنَةُ السَّقْيِ وَالْإِصْلَاحِ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ
الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي لَيْسَ لَهُ إلَّا الثَّمَرَةُ وَلَا مُؤْنَةَ
عَلَيْهِ .
فَأَمَّا " الصُّورَةُ الْأَوْلَى " فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا . وَعَلَى هَذَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَالُ عَلَى ذَلِكَ بِإِجَارَةِ الْأَرْضِ وَالْمُسَاقَاةِ عَلَى الشَّجَرِ كَمَا يَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد : مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي " كِتَابِ إبْطَالِ الْحِيَلِ " وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد بُطْلَانُ هَذِهِ الْحِيَلِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ الصُّوَرِ تَكُونُ بَاطِلَةً بِالْإِجْمَاعِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ كَثِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ وَالشَّجَرُ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ : جَازَ إجَارَةُ الْأَرْضِ وَدَخَلَ فِيهَا بَيْعُ الثَّمَرِ ضِمْنًا وَتَبَعًا وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ . وَفِي وَقْفِ الثُّلُثِ قَوْلَانِ . الثَّالِثُ جَوَازُ ذَلِكَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَرْضُ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى حَرْبٌ الكرماني وَأَبُو زُرْعَةِ الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَبِلَ حَدِيقَةَ أسيد بْنَ حضير - لَمَّا مَاتَ - ثَلَاثَ سِنِينَ وَتَسَلَّفَ الْقَبَالَةَ وَوَفَّى بِهَا دَيْنًا كَانَ عَلَى أسيد . وَمِثْلُ
هَذِهِ الْقِصَّةِ لَا بُدَّ أَنْ تَنْتَشِرَ وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِ الْخَرَاجِ - وَالْأَعْيَانُ وَالْخَرَاجُ أُجْرَةٌ : فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ - وَالْأَرْضُ ذَاتُ شَجَرٍ فَأَجَّرَ الْجَمِيعَ وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَبِهِ تُرِكَ الْخَرَاجُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَلَهُ مَأْخَذَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إلَّا مَعَ الشَّجَرِ فَجَازَ لِلْحَاجَةِ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّبْعِيضِ كَمَا أَنَّهُ إذَا بَدَا بَعْضُ ثَمَرِ الشَّجَرِ جَازَ بَيْعُ جَمِيعِهَا اتِّفَاقًا ؛ بَلْ إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي شَجَرَةٍ كَانَ صَلَاحًا لِذَلِكَ النَّوْعِ فِي تِلْكَ الْحَدِيقَةِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَفِي سَائِرِ الْبَسَاتِينِ نِزَاعٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْفَرْدِ وَالْعُقُودِ تَبَعًا مَا لَا يَدْخُلُ اسْتِقْلَالًا كَمَا يَدْخُلُ أَسَاس الْحِيطَانِ وَدَوَاخِلُهَا وَعَمَلُ الْحَيَوَانَاتِ وَمَا يَدْخُلُ مِنْ الزِّيَادَةِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَكَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ } . وَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُبْتَاعُ الثَّمَرَ الْمُؤَبَّرَ جَازَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَهُوَ ثَمَرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ جَازَ بَيْعُهُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَيَجُوزُ لِلْحَاجَةِ مَا لَا يَجُوزُ بِدُونِهَا كَمَا جَازَ بَيْعُ الْعَرَايَا بِالتَّمْرِ وَكَمَا جَوَّزَ مَنْ جَوَّزَ الْمُضَارَبَةَ وَالْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ تَبَعًا ، وَمِنْ الْقِيَاسِ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ إجَارَةٌ كَمَا
هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مُشَارَكَةً وَجَعَلَهَا أَصْلًا آخَرَ يَجُوزُ ذَلِكَ نَصًّا ؛ لَا قِيَاسًا وَلَيْسَ هُوَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَطَوَائِفَ مِنْ الْخَلَفِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ كَصَاحِبَيْهِ وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كالخطابي وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَهُنَا أَتَمُّ نَظَرًا . وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا كَمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ قَبْلَ اشْتِدَادِهِ وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ ثُمَّ إنَّهُ يَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إجَارَةُ الْأَرْضِ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى يَنْبُتَ الزَّرْعُ وَلَيْسَ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْحَبِّ وَكَذَلِكَ تَقْبِيلُ الشَّجَرِ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى تُثْمِرَ لَيْسَ هُوَ تَبَعًا لِلثَّمَرَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَلَى الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الْأَرْضِ كَالْمُسَاقَاةِ عَلَى الشَّجَرِ بِجُزْءٍ مِنْ الثَّمَرِ وَأَنَّ إعَارَةَ الْأَرْضِ كَإِعَارَةِ الشَّجَرِ وَأَنَّ انْتِفَاعَ أَهْلِ الْوَقْفِ بِزَرْعِ الْأَرْضِ كَانْتِفَاعِهِمْ بِثَمَرِ الشَّجَرِ ، فَالثَّمَرَةُ - وَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا - فَإِنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْفَوَائِدِ وَالنَّفْعِ فِي الْوَقْفِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْلِفُ بَدَلَهَا كَمَا أَنَّ اسْتِرْضَاعَ الظِّئْرِ لَمَّا كَانَ مُسْتَخْلَفًا بَدَلُهُ جَرَى مَجْرَى النَّفْعِ ؛ وَلِهَذَا فِي بَابِ بَيْعِ الثَّمَرِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ إنَّمَا تَكُونُ مُؤْنَةُ كَمَالِ الصَّلَاحِ عَلَى الْبَائِعِ . وَأَمَّا الْقُبَالَةُ الَّتِي فَعَلَهَا عُمَرُ : فَإِنَّمَا يَقُومُ فِيهَا بِسَقْيِ الشَّجَرِ وَمُؤْنَةِ حُصُولِ الثَّمَرِ الْمُتَقَبَّلِ فَلَا
يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا . وَيُعْلَمُ أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ هَذِهِ الْقُبَالَةَ بِلَا رَيْبٍ . ثُمَّ إنْ قُدِّرَ أَنَّ الشَّجَرَ لَمْ يَطْلُعْ أَوْ تَلِفَ بَعْدَ إطْلَاعِهِ بِدُونِ تَفْرِيطِ الْمُتَقَبِّلِ ؛ كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَعَطُّلِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْإِجَارَةِ وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً إلَّا إذَا تَمَكَّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الِانْتِفَاعِ . الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي مُجَرَّدَ الثَّمَرَةِ فَقَطْ وَمُؤْنَةُ السَّقْيِ عَلَى الْبَائِعِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إذَا كَانَ الْبُسْتَانُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَنْوَاعٍ فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ - أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِ الْبُسْتَانِ إذَا صَلَحَ نَوْعٌ مِنْهُ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّوْعِ جَمِيعِهِ إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ فِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلنَّوْعِ قَدْ يَتَّفِقُ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ مَنْ يَشْتَرِي نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى مِنْ الْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَالْجَوَازُ هُنَا بِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ وَذَلِكَ أَنَّ بَيْعَ الْمُزَابَنَةِ أَعْظَمُ مِنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ فَإِنَّهُ بَيْعٌ رِبَوِيٌّ بِجِنْسِهِ خَرْصًا . وَالرِّبَا أَعْظَمُ مِنْ الْغَرَرِ لَا سِيَّمَا وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا قَدْ خَصَّ مِنْهُ مَوَاضِعَ كَمَا خَصَّ بَيْعَهُ مَعَ الشَّجَرِ . فَعُلِمَ أَنَّ النَّهْيَ لَمْ يَتَنَاوَلْ بَيْعَهُ مَعَ غَيْرِهِ مُطْلَقًا ؛ بَلْ قَدْ يُقَالُ : إنَّمَا
نُهِيَ عَنْهُ مُفْرَدًا كَمَا نُهِيَ عَنْ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ مُفْرَدًا وَيُبَاحُ مَعَ غَيْرِهِ مَا لَا يُبَاحُ مُفْرَدًا ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعُ رَطْبٍ بِجِنْسِهِ الرِّبَوِيِّ يَابِسًا وَهَذَا مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَقَدْ جَازَ مِنْ دُخُولِ الْمَعْدُومِ فِي بَيْعِ الثَّمَرَةِ مَا لَمْ يَثْبُتْ نَظِيرُهُ فِي الْمُزَابَنَةِ . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا اسْتِثْنَاءً مِنْ الْمُزَابَنَةِ لِلْحَاجَةِ فَلِأَنْ يَجُوزَ بَيْعُ النَّوْعِ تَبَعًا لِلنَّوْعِ مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَوْلَى وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِهِ مُفْرَدًا مَنْعُهُ مَضْمُومًا . أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ وَبَيْعُ الْحَيَوَانِ الْحَامِلِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ اُشْتُرِطَ كَوْنُهُ حَامِلًا ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ . وَسِرُّ الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ : أَنَّ الْفِعْلَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ مُنِعَ مِنْهُ إلَّا إذَا عَارَضَهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ كَمَا فِي إبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ . وَبَيْعِ الْغَرَرِ نَهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الْمَيْسِرِ الَّذِي يُفْضِي إلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فَإِذَا عَارَضَ ذَلِكَ ضَرَرٌ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَبَاحَهُ دَفْعًا لِأَعْظَمِ الفسادين بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
:
فَصْلٌ :
وَأَمَّا بَيْعُ المقاثي كَالْبِطِّيخِ وَالْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ : فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد مَنْ قَالَ : لَا يُبَاعُ إلَّا لُقَطَةً لُقَطَةً
جَعَلَا ذَلِكَ مِنْ بَابِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِعُرُوقِهَا جُمْلَةً كَمَا يَقُولُ
ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ
مَالِكٍ وَغَيْرِهِ ؛ لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَهُ مَأْخَذَانِ . أَحَدُهُمَا :
أَنَّ الْعُرُوقَ كَأُصُولِ الشَّجَرِ . فَبَيْعُ الْخَضْرَاوَات بِعُرُوقِهَا
قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا كَبَيْعِ الشَّجَرِ بِثَمَرِهِ قَبْلَ بُدُوِّ
صَلَاحِهِ يَجُوزُ تَبَعًا . وَهَذَا مَأْخَذُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِنْ كَانَ هَذَا عَلَى خِلَافِ أُصُولِهِ .
وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي : - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّ هَذِهِ لَمْ تَدْخُلْ فِي
نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ تَصِحُّ مَعَ
الْعُقُودِ الَّذِي هُوَ اللُّقَطَةُ
الْمَوْجُودَةُ وَاللُّقَطَةُ
الْمَعْدُومَةُ إلَى أَنْ تَيْبَسَ المقثاة وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ مَعْدُومَةً
لَمْ تُوجَدْ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ
بَيْعُهَا إلَّا كَذَلِكَ وَبَيْعُهَا لُقَطَةً لُقْطَةً مُتَعَذَّرٌ أَوْ
مُتَعَسِّرٌ لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ شَرْعًا وَالشَّرِيعَةُ
اسْتَقَرَّتْ عَلَى أَنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ
كَانَ مَعْدُومًا كَالْمَنَافِعِ وَأَجْرِ الثَّمَرِ الَّذِي لَمْ يَبْدُ
صَلَاحُهُ مَعَ الْأَصْلِ وَاَلَّذِي بَدَا صَلَاحُهُ مُطْلَقًا . وَأَيْضًا
فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : هَذِهِ مَعْلُومَةٌ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ
كَالْعِلْمِ بِالثِّمَارِ وَتَلَفِهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَتَلَفِ الثِّمَارِ
بِالْجَائِحَةِ وَتَلَفِ مَنَافِعِ الْإِجَارَةِ مِنْ جِنْسِهِ . وَثَبَتَ
بِالنَّصِّ أَنَّ الْجَوَائِحَ تُوضَعُ بِلَا مَحْذُورٍ فِي ذَلِكَ أَصْلًا بَلْ
الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ
، وَإِنْ كَانَ بَيْعُ ذَلِكَ قَدْ يُفْضِي إلَى نَوْعٍ مِنْ الْفَسَادِ
فَالْفَسَادُ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ أَعْظَمُ فَيَجِبُ دَفْعُ أَعْظَمِ الفسادين
بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا إذْ ذَلِكَ قَاعِدَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الشَّرِيعَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ سَوَاقِي يَزْرَعُ فِيهَا : اللِّفْتَ وَالْجَزَرَ وَالْفُجْلَ
وَالْقَصَبَ وَالْقُلْقَاسَ فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْأَرْضِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا بَيْعُ الْقَصَبِ وَنَحْوِهِ سَوَاءٌ بِيعَ عَلَى أَنْ يُقْلَعَ أَوْ
يُقْطَعَ مِنْ مَكَانٍ مَعْرُوفٍ فِي الْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ مُغَطَّى بِوَرَقِهِ
فَإِنَّ هَذَا الْغِطَاءَ
لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ كَبَيْعِ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ وَكَبَيْعِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قشريه ؛ فَإِنَّ بَيْعَ جَمِيعِ هَذَا جَائِزٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ والآخرين كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنِ نَبِيِّهِمْ إلَى هَذَا الزَّمَانِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ } فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ كَمَا دَلَّ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ فِي الْعَادَةِ . وَأَمَّا بَيْعُ الْجَزَرِ وَاللِّفْتِ وَالْفُجْلِ وَالْقُلْقَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ حَتَّى يُقْلَعَ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُغَيَّبٌ لَمْ يُرَ وَلَمْ يُوصَفْ ؛ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ الَّتِي لَمْ تُرَ وَلَمْ تُوصَفْ . وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ إذَا رَأَى مَا ظَهَرَ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِهَذَا ؛ فَإِنَّ تَأْخِيرَ بَيْعِهِ إلَى حِينِ قَلْعِهِ يَتَعَذَّرُ تَارَةً وَيَتَعَسَّرُ أُخْرَى وَيُفْضِي إلَى
فَسَادِ الْأَمْوَالِ . وَأَمَّا كَوْنُ
ذَلِكَ مُغَيَّبًا فَيَكُونُ غَرَرًا : فَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ إذَا رُئِيَ مِنْ
الْمَبِيعِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا لَمْ يُرَ جَازَ الْبَيْعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ
: فِي مِثْلِ بَيْعِ الْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ . وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ
الْحَرَجُ بِمَعْرِفَةِ جَمِيعِهِ يُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ مَا يُمْكِنُ مِنْهُ كَمَا
فِي بَيْعِ الْحِيطَانِ . وَمَا مَأْكُولِهِ فِي جَوْفِهِ وَالْحَيَوَانِ
الْحَامِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَالصَّوَابُ جَوَازُ بَيْعِ مِثْلِ هَذَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ بَيْعِ مَا فِي بَطْنِ الْأَرْضِ مِنْ اللِّفْتِ وَالْجَزَرِ وَالْقُلْقَاسِ
وَنَحْوِهِ : هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا .
فَأَجَابَ :
أَمَّا بَيْعُ الْمَغْرُوسِ فِي الْأَرْضِ الَّذِي يَظْهَرُ وَرَقُهُ كَاللِّفْتِ
وَالْجَزَرِ وَالْقُلْقَاسِ وَالْفُجْلِ وَالثُّومِ وَالْبَصَلِ وَشِبْهِ ذَلِكَ
فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا هُوَ
الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . قَالُوا :
لِأَنَّ هَذِهِ أَعْيَانٌ غَائِبَةٌ لَمْ تُرَ وَلَمْ تُوصَفْ فَلَا يَجُوزُ
بَيْعُهَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ ؛ وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي
نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ . وَالثَّانِي : أَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ جَائِزٌ ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ لِوُجُوهِ . مِنْهَا : أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْغَرَرِ ؛ بَلْ أَهْلُ الْخِبْرَةِ يَسْتَدِلُّونَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْوَرِقِ عَلَى الْمُغَيَّبِ فِي الْأَرْضِ كَمَا يَسْتَدِلُّونَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْعَقَارِ مِنْ ظَوَاهِرِهِ عَلَى بَوَاطِنِهِ وَكَمَا يَسْتَدِلُّونَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْحَيَوَانِ عَلَى بَوَاطِنِهِ . وَمَنْ سَأَلَ أَهْلَ الْخِبْرَةِ أَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَيْهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِلْمَ فِي جَمِيعِ الْمَبِيعِ يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ فَمَا ظَهَرَ بَعْضُهُ وَخَفِيَ بَعْضُهُ وَكَانَ فِي إظْهَارِ بَاطِنِهِ مَشَقَّةٌ وَحَرَجٌ : اُكْتُفِيَ بِظَاهِرِهِ ؛ كَالْعَقَارِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ أَسَاسِهِ وَدَوَاخِلُ الْحِيطَانِ وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ وَكَذَلِكَ أَمْثَالُ ذَلِكَ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَا اُحْتِيجَ إلَى بَيْعِهِ فَإِنَّهُ يُوَسَّعُ فِيهِ مَا لَا يُوَسَّعُ فِي غَيْرِهِ ؛ فَيُبِيحُهُ الشَّارِعُ لِلْحَاجَةِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْخَاصِّ كَمَا أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا وَأَقَامَ الْخَرْصَ مَقَامَ الْكَيْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ مِنْ الْمُزَابَنَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا : فَإِنَّ الْمُزَابَنَةَ بَيْعُ الْمَالِ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً إذَا كَانَ
رِبَوِيًّا بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رِبَوِيٍّ فَعَلَى قَوْلَيْنِ وَكَذَلِكَ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْتِيَاعِ الثَّمَرِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ مَعَ أَنَّ إتْمَامَ الثَّمَرِ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ وَلَمْ يُرَ . فَجَعَلَ مَا لَمْ يُوجَدْ وَلَمْ يُخْلَقْ وَلَمْ يُعْلَمْ تَابِعًا لِذَلِكَ وَالنَّاسُ مُحْتَاجُونَ إلَى بَيْعِ هَذِهِ النَّبَاتَاتِ فِي الْأَرْضِ . وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ بَيْعُ المقاثي كمقاثي الْبِطِّيخِ وَالْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مَنْ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إلَّا لُقَطَةً لُقَطَةً . وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا قَالُوا : إنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا مُطْلَقًا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ بَيْعَهَا لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَبَيْعُهَا لُقَطَةً لُقَطَةً إمَّا مُتَعَذِّرٌ وَإِمَّا مُتَعَسِّرٌ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ لُقَطَةٌ عَنْ لُقَطَةٍ ؛ إذْ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الْتِقَاطُهُ وَيُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ . فَبَيْعُ المقثاة بَعْدَ ظُهُورِ صَلَاحِهَا كَبَيْعِ ثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمَبِيعِ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ وَلَمْ يُرَ ؛ وَلِهَذَا إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِ الشَّجَرَةِ كَانَ صَلَاحًا لِبَاقِيهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَيَكُونُ صَلَاحُهَا صَلَاحًا لِسَائِرِ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَقَوْلِ جُمْهُورِهِمْ : بَلْ يَكُونُ صَلَاحًا لِجَمِيعِ ثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يُبَاعَ جُمْلَةً فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ وَغَيْرُهَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْجَوَابِ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ بَيْعِ قَصَبِ السُّكَّرِ وَالْقُلْقَاسِ وَاللِّفْتِ وَالْجَزَرِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ وَهُوَ قَائِمٌ فِي الْأَرْضِ وَفِي بَيْعِ الْبِطِّيخِ وَنَحْوِهِ مِنْ
المقاثي ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا بَيْعُ قَصَبِ السُّكَّرِ فَلَا
شُبْهَةَ فِيهِ إلَّا مَا يُذْكَرُ مِنْ كَوْنِهِ فِي قِشْرِهِ الَّذِي يَكُونُ
صَوْنًا لَهُ فَبَيْعُهُ كَبَيْعِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ والباقلا فِي قشريه
وَبَيْعُ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ
قَوْلُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَعَمَلُهَا الْمُتَّصِلُ مِنْ لَدُنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى هَذَا الزَّمَانِ وَلَا تَتِمُّ
مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ
وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا
مَرِضَ أَمَرَ أَنْ يُشْتَرَى لَهُ باقلا أَخْضَرَ وَذَلِكَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ
فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ نَهْيِهِ الَّذِي فِي كُتُبِهِ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى
ذَلِكَ أَنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ
حَتَّى يَسْوَدَّ وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ } وَذَلِكَ يَدُلُّ
عَلَى جَوَازِ بَيْعِ ذَلِكَ بَعْدَ اسْوِدَادِهِ وَاشْتِدَادِهِ فَيَدُلُّ عَلَى
جَوَازِ بَيْعِ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ
وَهُوَ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ كالباقلا فِي قشريه . وَاَلَّذِي كَرِهَ بَيْعَ ذَلِكَ يَظُنُّهُ مِنْ الْغَرَرِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُشْتَرِينَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ كَمَا يَعْلَمُونَ كَثِيرًا مِنْ الْمَبِيعَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا ؛ بَلْ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ أَقْوَى مِنْ عِلْمِهِمْ بِكَثِيرٍ مِنْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ فِي ذَلِكَ جَهْلًا فَالشَّرِيعَةُ اسْتَقَرَّتْ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ مَعَ الْغَرَرِ ؛ وَلِهَذَا أَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُبْقَاةً إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ . ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ إذَا أَصَابَتْهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَذِنَ فِي بَيْعِ الْعَقَارِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ لَهُ شِرْكٌ فِي أَرْضٍ أَوْ رِبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ } . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْعَقَارِ مَعَ أَنَّ أَسَاسَ الْحِيطَانِ وَدَاخِلَهَا مُغَيَّبٌ . وَكَذَلِكَ أَذِنَ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا تَبَعًا لِلْأَصْلِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { مَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرًا فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ } وَذَلِكَ أَنَّ بَيْعَ الْغَرَرِ نَهَى عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَيْسِرِ وَالْقِمَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ . فَإِذَا
كَانَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مِنْ فَوَاتِ
الْأَمْوَالِ وَفَسَادِهَا وَنَقْصِهَا عَلَى أَصْحَابِهَا بِتَحْرِيمِ الْبَيْعِ
أَعْظَمُ مِمَّا فِيهَا مَعَ حِلِّهِ لَمْ يَجُزْ دَفْعُ الْفَسَادِ الْقَلِيلِ
بِالْتِزَامِ الْفَسَادِ الْكَثِيرِ ؛ بَلْ الْوَاجِبُ مَا جَاءَتْ بِهِ
الشَّرِيعَةُ وَهُوَ تَحْصِيلُ أَعْظَمِ الصلاحين بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا
وَدَفْعِ أَعْظَمِ الفسادين بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا وَالْفُتْيَا لَا
تَحْتَمِلُ الْبَسْطَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا بَيْعُ الْقُلْقَاسِ وَالْجَزَرِ وَاللِّفْتِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ
جَائِزٌ عِنْدَ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَقَوْلٌ
فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ - كَمَذْهَبِ
أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ
هُوَ الصَّوَابُ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ
فِي ذَلِكَ كَوْنُ الْمَبِيعِ مَعْلُومًا الْعِلْمَ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمَبِيعِ
فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ
يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ . وَأَهْلُ الْخِبْرَةِ
يَقُولُونَ : إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي الْأَرْضِ
بِحَيْثُ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ غَرَرًا ؛ وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا
يَقْلَعُونَهُ مِنْهُ كَمَا يُعْلَمُ
الْمَبِيعُ الْمُنْفَصِلُ عَنْ الْأَرْضِ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِ إذَا كَانَ مُتَشَابِهَ الْأَجْزَاءِ . ثُمَّ إنْ ظَهَرَ الْخَفِيُّ دُونَ الظَّاهِرِ بِمَا لَمْ تُجَرِّبْهُ الْعَادَةُ : كَانَ ذَلِكَ إمَّا غَبْنًا وَإِمَّا تَدْلِيسًا . بَلْ أَهْلُ الْخِبْرَةِ يَقُولُونَ : إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْلَمُونَ كَثِيرًا مِنْ الْمُنْفَصِلِ . وَكَوْنُ الْمَبِيعِ مَعْلُومًا أَوْ غَيْرَ مَعْلُومٍ لَا يُؤْخَذُ عَنْ الْفُقَهَاءِ بِخُصُوصِهِمْ ؛ بَلْ يُؤْخَذُ عَنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ ؛ وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذُ عَنْهُمْ مَا انْفَرَدُوا بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ بِأَدِلَّتِهَا . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } وَالْإِيمَانُ بِالشَّيْءِ مَشْرُوطٌ بِقِيَامِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْأُمُورَ الْغَائِبَةَ عَنْ الْمُشَاهَدَةِ قَدْ تُعْلَمُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فَإِذَا قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَة : إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ كَانَ الْمَرْجِعُ إلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ دُونَ مَنْ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ بِالدِّينِ مِنْهُمْ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ فِي تَأْبِيرِ النَّخْلِ : { أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِدُنْيَاكُمْ . فَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ } . ثُمَّ يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ عَلَى مَا تَعْلَمُهُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّقْوِيمِ وَالْقِيَامَةِ وَالْخَرْصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ إنْسَانٍ عَاقَدَ إنْسَانًا عَلَى قَصَبٍ وَقُلْقَاسٍ وَهُوَ تَحْتَ
الْأَرْضِ قَبْلَ إدْرَاكِهِ فَعِنْدَ إدْرَاكِهِ غَرِقَ وَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ
ثَمَنَهُ بِلَا مُكَاتَبَةٍ وَلَا تَسْلِيمٍ فَمَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : مَا تَلِفَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ سَوَاءٌ كَانَ
الْبَيْعُ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنْ بِعْت مِنْ
أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك مِنْ ثَمَنِهَا
شَيْءٌ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ ؟ } .
بَابُ السَّلَمِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ السَّلَمِ فِي الزَّيْتُونِ هَلْ يَجُوزُ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا السَّلَمُ فِي الزَّيْتُونِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ
وَالْمَوْزُونَاتِ فَيَجُوزُ وَمَا عَلِمْت بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ
نِزَاعًا وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ فِي غَيْرِ الْمَكِيل
وَالْمَوْزُونِ كَالْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ . وَفِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ
أَشْهَرُهُمَا جَوَازُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِيَةُ
لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ قَمْحٌ قِيمَتُهُ وَزْنُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا .
بَاعَهُ إلَى أَجَلٍ بِخَمْسَةِ وَعِشْرِينَ هَلْ يَجُوزُ ؟ وَالسَّلَمُ فِي
الْغَلَّةِ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا السَّلَفُ فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ
مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ
إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ } . وَأَمَّا إذَا
قَوَّمَ السِّلْعَةَ بِقِيمَةِ حَالَّةٍ وَبَاعَهَا إلَى أَجَلٍ بِأَكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدِ ثُمَّ بِعْت بِنَقْدِ فَلَا بَأْسَ
وَإِذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدِ ثُمَّ بِعْت بِنَسِيئَةِ فَتِلْكَ دَرَاهِمُ
بِدَرَاهِمَ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ : اسْتَقَمْت . أَيْ قَوَّمْت وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ تَشْتَرِي قُمَاشًا بِثَمَنِ حَالٍّ وَتَبِيعُهُ بِزَائِدِ
الثُّلُثِ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ ، فَهَلْ هَذَا رِبًا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي يَشْتَرِيهَا
لِيَنْتَفِعَ بِهَا أَوْ يَتَّجِرَ بِهَا - لَا يَشْتَرِيهَا لِيَبِيعَهَا
وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ - فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لَكِنْ
يَنْبَغِي إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُحْتَاجًا أَنْ يَرْبَحَ عَلَيْهِ الرِّبْحَ
الَّذِي جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ بِشَاةٍ إلَى أَجَلٍ ؟
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ بِشَاةٍ إلَى أَجَلٍ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يَشْتَرِي عُشَّ الْحَمَّامَاتِ وَيُقَدِّمُ الْفِضَّةَ عَلَى عُشِّ
السَّنَةِ كُلِّهَا وَنَصَّ عِنْدَ الشُّهُودِ عَلَى أَرَادِبَ مَعْلُومَةٍ
وَلَيْسَ ثَمَّ كَيْلًا أَصْلًا ؛ بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَصِحَّ السَّلَمُ
وَكَانَ الْعَادَةُ إذَا تَحَصَّلَ مِنْهُ شَيْءٌ جُعِلَ فِي وِعَائِهِ وَخُتِمَ عَلَيْهِ
كُلُّهُ وَبِيعَ فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ : " أَحَدُهُمَا "
أَنَّ هَذَا الْمُنْعَقِدَ مِنْ الدُّخَانِ هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ ؟ فِي
ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَنِزَاعٌ ، وَإِنْ كَانَ الْوَقُودُ طَاهِرًا كَوَقُودِ
الْأَفْرَانِ وَكَالْوَقُودِ الطَّاهِرِ لِلْحَمَّامِ فَذَلِكَ الْمُنْعَقِدُ
طَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ الْوَقُودُ بِنَجَاسَةٍ فَهَلْ يَكُونُ هَذَا الْمُنْعَقِدُ
طَاهِرًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ نَجَاسَةٍ
اسْتَحَالَتْ كَالرَّمَادِ والقصرمل والجرسيف وَنَحْوُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ
مُسْتَحِيلًا عَنْ نَجَاسَةٍ فَهَذَا نَجِسٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ
الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي مَذْهَبِ أَبِي
حَنِيفَةَ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد أَنَّهُ طَاهِرٌ
وَهَذَا الْقَوْلُ
أَقْوَى فِي دَلَالَةِ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ . فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إذَا
انْقَلَبَتْ خَلًّا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ طَاهِرَةً وَهَذَا لَمْ
يَتَنَاوَلْهُ لَفْظُ التَّحْرِيمِ وَلَا مَعْنَاهُ فَلَا يَكُونُ مُحَرَّمًا
نَجِسًا . فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ طَاهِرٌ جَوَّزَ بَيْعَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يُجَوِّزُ بَيْعَهُ مَعَ نَجَاسَتِهِ وَالْخِلَافُ فِيهِ مَشْهُورٌ فِي "
مَسْأَلَةِ السِّرْجِينِ النَّجِسِ " . وَ " الْأَصْلُ الثَّانِي "
: أَنَّهُ إذَا جَازَ بَيْعُهُ فَلَا يُقَالُ يُبَاعُ عَلَى الْوَجْهِ
الْمَشْرُوعِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَفُ فِيهِ وَلَيْسَ السُّؤَالُ
عَنْ بَيْعِهِ مُعَيَّنًا حَتَّى يَشْتَرِطَ الرُّؤْيَةَ وَنَحْوَهَا ؛ لَكِنْ
إذَا أَسْلَفَ فِيهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُسْلِفَ فِي قَدْرٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ
مَعْلُومٍ وَأَنْ يَقْبِضَ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
شُرُوطِ السَّلَمِ . فَإِذَا كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوا صُورَةَ السَّلَمِ وَكَانَ
الْمُسْلِمُ يَقْبِضُ مَا تَحَصَّلَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْبَاطِنِ سَوَاءٌ
كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْمِقْدَارِ أَوْ أَقَلَّ : فَهَذَا عَقْدٌ بَاطِلٌ يَجِبُ
النَّهْيُ عَنْهُ وَمَنْعُ فَاعِلِهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مُحْتَاجٍ إلَى تَاجِرٍ عِنْدَهُ قُمَاشٌ فَقَالَ : أَعْطِنِي هَذِهِ
الْقِطْعَةَ
فَقَالَ التَّاجِرُ مُشْتَرَاهَا
بِثَلَاثِينَ وَمَا أَبِيعُهَا إلَّا بِخَمْسِينَ إلَى أَجَلٍ فَهَلْ يَجُوزُ
ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْمُشْتَرِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ
السِّلْعَةَ يَنْتَفِعُ بِهَا لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ التِّجَارَةَ فِيهَا
فَهَذَانِ نَوْعَانِ جَائِزَانِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . كَمَا
قَالَ تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إلَّا
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ
الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُضْطَرًّا لَمْ يَجُزْ
أَنْ يُبَاعَ إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ مِثْلَ أَنْ يُضْطَرَّ الْإِنْسَانُ إلَى
مُشْتَرَى طَعَامٍ لَا يَجِدُهُ إلَّا عِنْدَ شَخْصٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ
إيَّاهُ بِالْقِيمَةِ قِيمَةِ الْمِثْلِ . وَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ إلَّا بِأَكْثَرَ
فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ
وَإِذَا أَعْطَاهُ إيَّاهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةُ الْمِثْلِ وَإِذَا
بَاعَهُ إيَّاهُ بِالْقِيمَةِ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ فَإِنَّ الْأَجَلَ يَأْخُذُ
قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ . النَّوْعُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا
يُرِيدُ بِهِ دَرَاهِمَ مَثَلًا لِيُوَفِّيَ بِهَا دَيْنًا وَاشْتَرَى بِهَا
شَيْئًا فَيَتَّفِقَانِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ مَثَلًا الْمِائَةَ بِمِائَةِ
وَعِشْرِينَ إلَى أَجَلٍ فَهَذَا كُلُّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى
أَنْ يُعِيدَ
السِّلْعَةَ إلَيْهِ ؛ فَهُوَ "
بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ " . وَإِنْ أَدْخَلَا ثَالِثًا يَشْتَرِي مِنْهُ
السِّلْعَةَ ثُمَّ تُعَادُ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ بَاعَهُ وَأَقْرَضَهُ
فَكَذَلِكَ وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يَأْخُذُ السِّلْعَةَ فَيَبِيعُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ
: يَشْتَرِيهَا بِمِائَةِ وَيَبِيعُهَا بِسَبْعِينَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ إلَى
دَرَاهِمَ . فَهَذِهِ تُسَمَّى : " مَسْأَلَةُ التَّوَرُّقِ " وَفِيهَا
نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَقْوَى أَيْضًا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا
وَأَنَّهَا أَصْلُ الرِّبَا كَمَا قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَغَيْرُهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يُخْرِجُ عَلَى الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَالْفُولِ وَالْحِمَّصِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِذَا جَاءَ أَوَانُ أَخْذِهِ بَاعَهُ لِلَّذِي هُوَ عِنْدَهُ
بِسِعْرِ مَا يَسْوَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ . فَهَلْ هَذَا حَلَالٌ
أَمْ حَرَامٌ ؟ وَمَا عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى مِنْ السِّنِينَ ؟ وَمَا كَانَ
يَفْعَلُهُ ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا يُسَمَّى " السَّلَمُ " وَ " السَّلَفُ " وَلَا يَجُوزُ
بَيْعُ هَذَا الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ دَيْنُ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا مِنْ
الْمُسْتَلِفِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛
بَلْ هَذَا يَدْخُلُ فِيمَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ . وَقَدْ يَدْخُلُ فِي رِبْحِ مَا لَمْ
يَضْمَنْ
أَيْضًا وَإِذَا وَقَعَ هَذَا الْبَيْعُ
فَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْبَائِعُ السَّلَفَ إلَّا دَيْنَ
السَّلَمِ ؛ دُونَ مَا جَعَلَهُ عِوَضًا عَنْهُ . وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ هَذَا
الْعِوَضَ إنْ كَانَ قَبَضَهُ وَيُطَالِبَ بِدَيْنِ السَّلَمِ . فَإِنْ تَعَذَّرَ
ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ أَوْ لَا يَعْرِفَ ذَلِكَ وَنَحْوَ ذَلِكَ
فَلْيَأْخُذْ بِقَدْرِ دَيْنِ السَّلَمِ مِنْ تِلْكَ الْأَعْوَاضِ وَلْيَتَصَدَّقْ
بِالرِّبْحِ فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ مِثْلَ دَيْنِ السَّلَمِ فَقَدْ أَخَذَ قَدْرَ
حَقِّهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ وَالزِّيَادَةُ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَهِيَ لَا
تَحِلُّ لَهُ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهَا عَنْ أَصْحَابِهَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْبَحْ
شَيْئًا وَإِنَّمَا بَاعَهُ الْمُسْتَلِفُ بِسِعْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ
إخْرَاجُ مَالِهِ
وَسُئِلَ
عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ فَرَسٌ شَرَاهُ بِمِائَةِ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا فَطَلَبَهُ
مِنْهُ إنْسَانٌ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى مُدَّةِ ثَلَاثَةِ شُهُورٍ فَهَلْ
يَحِلُّ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ الَّذِي يَشْتَرِيهِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ أَوْ
يَتَّجِرَ بِهِ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ إلَى أَجَلٍ ؛ لَكِنَّ الْمُحْتَاجَ لَا
يَرْبَحُ عَلَيْهِ إلَّا الرِّبْحَ الْمُعْتَادَ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ
ضَرُورَتِهِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى دَرَاهِمَ فَاشْتَرَاهُ
لِيَبِيعَهُ فِي الْحَالِ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ فَهَذَا مَكْرُوهٌ فِي أَظْهَرِ
قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ شَخْصٍ عِنْدَهُ صِنْفٌ . دَفَعَ لَهُ فِيهِ رَجُلٌ أَلْفَيْنِ وَمِائَةً
بِالْوَزْنِ وَدَفَعَ لَهُ آخَرُ أَلْفَيْنِ وَسَبْعَمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ
مَعْلُومٍ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ الَّذِي يَشْتَرِيهَا إلَى أَجَلٍ يَشْتَرِيهَا لِيَتَّجِرَ فِيهَا أَوْ
يَنْتَفِعَ بِهَا : جَازَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَبِيعَهَا إنْ شَاءَ بِالنَّقْدِ
وَإِنْ شَاءَ إلَى أَجَلٍ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مَقْصُودُهُ الدَّرَاهِمَ
وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهَا إذَا اشْتَرَاهَا وَيَأْخُذَ الدَّرَاهِمَ فَهَذَا
يُسَمَّى : " التَّوَرُّقَ " وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ أَسْلَفَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فِي رِطْلِ حَرِيرٍ إلَى أَجَلٍ
مَعْلُومٍ ثُمَّ جَاءَ الْأَجَلُ فَتَعَذَّرَ الْحَرِيرُ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ
يَأْخُذَ قِيمَةَ الْحَرِيرِ ؟ أَوْ يَأْخُذَ عِوَضَهُ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ
أَحْمَد . إحْدَاهُمَا : لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ دَيْنِ السَّلَمِ
بِغَيْرِهِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا
يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ } وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ
مُتَأَخَّرِي أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الخرقي
وَغَيْرُهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ
دَيْنِ السَّلَمِ وَفِي الْمَبِيعِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ .
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَجَعَلَ دَيْنَ السَّلَمِ
كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَبِيعَاتِ . فَإِذَا أَخَذَ عِوَضًا غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا
مَوْزُونٍ بِقَدْرِ دَيْنِ السَّلَمِ حِينَ الِاعْتِيَاضِ لَا بِزِيَادَةٍ عَلَى
ذَلِكَ أَوْ أَخَذَ مِنْ نَوْعِهِ بِقَدْرِهِ : مِثْلَ أَنْ يُسْلِمَ فِي حِنْطَةٍ
فَيَأْخُذَ
شَعِيرًا بِقَدْرِ الْحِنْطَةِ أَوْ يُسْلِمَ فِي حَرِيرٍ فَيَأْخُذَ عَنْهُ عِوَضًا مِنْ خَيْلٍ ، أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ - كَابْنِ أَبِي مُوسَى والسامري صَاحِبِ الْمُسْتَوْعِب - لَكِنْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا قَالَ فِي " الْمُسْتَوْعِبِ " : وَمَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ بِحَالِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي الْأُخْرَى يَجُوزُ وَأَنْ يَأْخُذَ مَا دُونَ الْحِنْطَةِ مِنْ الْحُبُوبِ كَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِ بِمِقْدَارِ كَيْلِ الْحِنْطَةِ لَا أَكْثَرَ مِنْهَا وَلَا بِقِيمَتِهَا نَصَّ عَلَيْهِ . قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ : إذَا أَسْلَفْت فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَأَخَذْت شَعِيرًا فَلَا بَأْسَ وَهُوَ دُونَ حَقِّك وَلَا تَأْخُذْ مَكَانَ الشَّعِيرِ حِنْطَةً . وَأَمَّا الْمُطَّلِعُونَ عَلَى نُصُوصِ أَحْمَد فَذَكَرُوا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ دَيْنِ السَّلَمِ بِغَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مُطْلَقًا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَفْصٍ العكبري فِي مَجْمُوعِهِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بِخَطِّهِ فَإِنْ كَانَ مَا أَسْلَمَ فِيهِ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَأَخَذَ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ مِثْلَ كَيْلِهِ مِمَّا هُوَ دُونَهُ فِي الْجَوْدَةِ جَازَ . وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ قِيمَتَهُ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ كَيْفَ شَاءَ . نَقَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَحْمَد : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إذَا لَمْ يَجِدْ مَا أَسْلَمَ فِيهِ وَوَجَدَ غَيْرَهُ مِنْ جِنْسِهِ يَأْخُذُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ إذَا كَانَ دُونَ الشَّيْءِ الَّذِي لَهُ قُلْت فَإِنَّمَا أَسْلَمَ فِي قَفِيزِ حِنْطَةٍ موصلي فَقَالَ : فَيَأْخُذُ مَكَانَهُ سُلْتَيْ أَوْ قَفِيزَ شَعِيرٍ بِكَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ
لَا يَزْدَادُ وَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ فَلَا يَأْخُذُ وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ طاوس عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : إذَا أَسْلَمْت فِي شَيْءٍ فَجَاءَ الْأَجَلُ فَلَمْ تَجِدْ الَّذِي أَسْلَمْت فَخُذْ عِوَضًا بِأَنْقَصَ مِنْهُ وَلَا تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ . وَنَقَلَ أَيْضًا أَحْمَد بْنُ أَصْرَمَ سُئِلَ أَحْمَد عَنْ رَجُلٍ أَسْلَمَ فِي طَعَامٍ إلَى أَجَلٍ ؟ فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ يَشْتَرِي مِنْهُ عَقَارًا أَوْ دَارًا . فَقَالَ : نَعَمْ يَشْتَرِي مِنْهُ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ . وَقَالَ حَرْبٌ الكرماني : سَأَلْت أَحْمَد قُلْت : رَجُلٌ أَسْلَفَ رَجُلًا دَرَاهِمَ فِي بُرٍّ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَقَالَ قَوْمٌ : الشَّعِيرُ بِالدَّرَاهِمِ فَخُذْ مِنْ الشَّعِيرِ . قَالَ : لَا يَأْخُذُ مِنْهُ الشَّعِيرَ إلَّا مِثْلَ كَيْلِ الْبُرِّ ، أَوْ أَنْقَصَ . قُلْت : إذَا كَانَ الْبُرُّ عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ أَيَأْخُذُ الشَّعِيرَ عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . وَكَذَلِكَ نَقَلَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ عَنْ أَحْمَد وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَكْثَرُ فِي نُصُوصِ أَحْمَد وَهِيَ أَشْبَهُ بِأُصُولِهِ فَإِنَّ عِلَّتَهُ فِي مَنْعِ بَيْعِ دَيْنِ السَّلَمِ كَوْنُهُ مَبِيعًا فَلَا يُبَاعُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُطْلَقًا ؛ بَلْ لَهُ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَأَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ ، وَلِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَ الْبَيْعِ مِنْ الْبَائِعِ وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ إذَا كَانَ عِوَضًا مِنْ بَائِعِهِ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ وَأَقَلَّ . وَلَا يَجُوزُ بِأَكْثَرَ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الطَّعَامِ . وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا أَسْلَفْت فِي شَيْءٍ
فَحَلَّ الْأَجَلُ فَإِنْ وَجَدْت مَا أَسْلَفْت فِيهِ وَإِلَّا فَخُذْ عِوَضًا بِأَنْقَصَ مِنْهُ . وَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ } قَالَ : وَلَا أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي " مُغْنِيهِ " . لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ الخرقي : وَبَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ بَائِعِهِ أَوْ غَيْرِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَاسِدٌ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : بَيْعُ الْمُسْلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يُعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ خِلَافٌ . فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ ؛ وَإِلَّا فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَسْلِفِ كَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ سَائِرِ الدُّيُونِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَهَذَا أَيْضًا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَد نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ بَيْعِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ كَمَا نَصَّ عَلَى بَيْعِ دَيْنِ السَّلَمِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ وَكِلَاهُمَا مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَد فِي أَجْوِبَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَجْوِبَتِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ فِي كُتُبِ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ وَهُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ دَيْنَ السَّلَمِ مَبِيعٌ وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ وَفِي ضَمَانِ ذَلِكَ فَالشَّافِعِيُّ يَمْنَعُهُ مُطْلَقًا وَيَقُولُ : هُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُهُ إلَّا فِي الْعَقَارِ وَيَقُولُ : هُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ . وَهَؤُلَاءِ يُعَلِّلُونَ الْمَنْعَ
بِتَوَالِي الضَمَانَيْنِ . وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرُهُمَا فَيَقُولُونَ : مَا تَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِهِ وَهُوَ الْمُتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ - كَالْعَبْدِ وَالْفَرَسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي . عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ وَنِزَاعِ فِي بَعْضِ الْمُتَعَيِّنَاتِ ؛ لِمَا رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي " فَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد : أَنَّ النَّاقِلَ لِلضَّمَانِ إلَى الْمُشْتَرِي هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْقَبْضِ ؛ لَا نَفْسُ الْقَبْضِ . فَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فِيهِ لَيْسَ مُلَازِمًا لِلضَّمَانِ وَلَا مَبْنِيًّا عَلَيْهِ ؛ بَلْ قَدْ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ حَيْثُ يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ كَمَا ذَكَرَ فِي الثَّمَرَةِ وَمَنَافِعِ الْإِجَارَةِ وَبِالْعَكْسِ كَمَا فِي الصُّبْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ . وَقَدْ ذَكَرَ الخرقي فِي " مُخْتَصَرِهِ " هَذَا وَهَذَا فَقَالَ : إذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ دُونَ الْأَصْلِ فَتَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ مِنْ السَّمَاءِ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ . وَقَالَ الْأَصْحَابُ : لَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ التَّصَرُّفِ تَمَامُ الْقَبْضِ بِدَلِيلِ الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ ثُمَّ قَالَ الخرقي : وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ فَتَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَهُوَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ مَا بِيعَ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْعَدَدِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ . ثُمَّ قَالَ الخرقي : وَمَنْ اشْتَرَى مَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ
حَتَّى يَقْبِضَهُ . فَفَرَّقَ بَيْنَ مَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبْضِ وَمَا لَا يَحْتَاجُ فَمَا لَا يَحْتَاجُ يَكْفِي فِيهِ التَّمَكُّنُ كَالْمُودَعِ . ثُمَّ قَالَ : وَمَنْ اشْتَرَى صُبْرَةَ طَعَامٍ لَمْ يَبِعْهَا حَتَّى يَنْقُلَهَا فَالصُّبْرَةُ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالتَّمَكُّنِ وَالتَّخْلِيَةِ فَلَا يَبِيعُهَا حَتَّى يَنْقُلَهَا ؟ وَهَذَا كُلُّهُ مَنْصُوصُ أَحْمَد لَكِنْ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ بَيْنَ الْأَصْحَابِ وَرِوَايَاتٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد قَدْ يَكُونُ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ كَالثَّمَرِ إذَا بِيعَ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ فَإِنَّهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَهُوَ قَوْلٌ مُعَلَّقٌ لِلشَّافِعِيِّ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ } . وَمَعَ هَذَا فَيَجُوزُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَ هَذَا الثَّمَرَ مَعَ أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَهَذَا كَمَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَ مَا اسْتَأْجَرَهُ بِمِثْلِ الْأُجْرَةِ بِلَا نِزَاعٍ . وَإِنْ كَانَتْ الْمَنَافِعُ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ . وَلَكِنْ إذَا أَجَّرَهَا بِزِيَادَةٍ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ زِيَادَةٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : " إحْدَاهُمَا " يَجُوزُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . " وَالثَّانِيَةُ " لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَطَّلَ الْمَكَانَ الَّذِي اكْتَرَاهُ . وَقَبَضَهُ لَتَلِفَتْ مَنَافِعُهُ مِنْ ضَمَانِهِ وَلَكِنْ لَوْ انْهَدَمَتْ الدَّارُ لَتَلِفَتْ مِنْ مَالِ الْمُؤَجِّرِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعِهَا . وَالْمَقْصُودُ هُنَا . أَنَّ أَصْلَ أَحْمَد وَمَالِكٍ جَوَازُ التَّصَرُّفِ وَأَنَّهُ يُوَسَّعُ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ انْتِقَالِ الضَّمَانِ إلَى الْمُشْتَرِي ؛ بِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِهِمَا إلَّا إذَا انْتَقَلَ الضَّمَانُ إلَى الْمُشْتَرِي وَصَارَ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ قَالُوا : لِئَلَّا يَتَوَالَى الضمانان ؛ فَإِنَّ الْمَبِيعَ يَكُونُ مَضْمُونًا قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ ؛ فَإِذَا بِيعَ قَبْلَ أَنْ يَضْمَنَهُ الْمُشْتَرِي صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَيَتَوَالَى عَلَيْهِ الضمانان . وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد الْمَشْهُورِ عَنْهُ : هَذَا مَأْخَذٌ ضَعِيفٌ لَا مَحْذُورَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ الْمَبِيعَ إذَا تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ . كَانَ عَلَى الْبَائِعِ أَدَاءُ الثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي ، فَالْوَاجِبُ بِضَمَانِ هَذَا غَيْرُ الْوَاجِبِ بِضَمَانِ هَذَا . وَإِذَا عُرِفَ هَذَا : فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِ دَيْنِ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُسْلِفُ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَلَا يَبِيعُ مَا لَمْ يُضْمَنْ . وَعَلَى
قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ : يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ بِرِبْحِ ؛ بَلْ لَا يُبَاعُ إلَّا بِالْقِيمَةِ ؛ لِئَلَّا يَرْبَحَ الْمُسْلِفُ فِيمَا لَا يُضْمَنُ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ } . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الثَّمَنَ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ ابْنُ عُمَرَ : كُنَّا نَبِيعُ الْإِبِلَ بِالنَّقِيعِ - وَالنَّقِيعُ بِالنُّونِ : هُوَ سُوقُ الْمَدِينَةِ . وَالْبَقِيعُ بِالْبَاءِ هُوَ مَقْبَرَتُهَا . قَالَ : - كُنَّا نَبِيعُ بِالذَّهَبِ وَنَقْضِي الْوَرِقَ وَنَبِيعُ بِالْوَرِقِ وَنَقْضِي الذَّهَبَ . فَسَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا بَأْسَ إذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ إذَا تَفَرَّقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ } . فَقَدْ جَوَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يعتاضوا عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ بِغَيْرِهِ مَعَ أَنَّ الثَّمَنَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى ضَمَانِ الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ الْمَبِيعُ الَّذِي هُوَ دَيْنُ السَّلَمِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى ضَمَانِ الْمُشْتَرِي . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا جَوَّزَ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ إذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ ؛ لِئَلَّا يَرْبَحَ فِيمَا لَمْ يُضْمَنْ . وَهَكَذَا قَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ فِي بَدَلِ الْقَرْضِ وَغَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ إنَّمَا يَعْتَاضُ عَنْهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ رِبْحًا فِيمَا لَا يُضْمَنُ وَهَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَجَابَ فِي السَّلَمِ أَنْ قَالَ إذَا أَسْلَمْت
فِي شَيْءٍ فَجَاءَ الْأَجَلُ وَلَمْ تَجِدْ الَّذِي أَسْلَمْت فِيهِ فَخُذْ عِوَضًا بِأَنْقَصَ مِنْهُ وَلَا تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ . وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يُجَوِّزُ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كَمَا أَجَابَ بِهِ أَحْمَد وَنَقَلَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَمَالِكٌ اسْتَثْنَى الطَّعَامَ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ بَيْعَ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَجُوزُ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد وَأَحْمَد فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ بِمَكِيلِ وَمَوْزُونٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ : مِثْلَ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ بِخَيْلٍ أَوْ بَقَرٍ فَإِنَّهُ جَوَّزَ هَذَا كَمَا جَوَّزَهُ مَالِكٌ وَقَبْلَهُمَا ابْنُ عَبَّاسٍ . إذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ . وَأَمَّا إذَا اعْتَاضَ عَنْهُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مِثْلَ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ الْحِنْطَةِ بِشَعِيرٍ كَرِهَهُ ؛ إلَّا إذَا كَانَ بِقَدْرِهِ ؛ فَإِنَّ بَيْعَ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ ؛ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ . وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ إلَّا يَدًا بِيَدِ وَلَا بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ إلَّا يَدًا بِيَدِ . وَالْمُسْلِمُ لَمْ يَقْبِضْ دَيْنَ الْمُسْلَمِ فَكَرِهَ هَذَا كَمَا يَكْرَهُ هُوَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : بَيْعَ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا عَلَى أَنَّهُ بَاعَ مَا لَمْ يَضْمَنْهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ . وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد : أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مَقْبُوضٌ لِلْمَدِينِ ؛ لَكِنْ إنْ بَاعَهُ بِمَا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً اشْتَرَطَ فِيهِ الْحُلُولَ وَالْقَبْضَ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ رِبًا . وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ بِمَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ . وَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِهِمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يُشْتَرَطُ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِي غَيْرِهِمَا . وَالثَّانِي يُشْتَرَطُ ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ نَسِيئَةٌ كَبَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَمَالِكٌ لَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ إذَا كَانَ طَعَامًا ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ . وَأَحْمَد جَوَّزَ بَيْعَهُ وَإِنْ كَانَ طَعَامًا أَوْ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مِنْ بَائِعِهِ إذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ هُوَ فِي الطَّعَامِ الْمُعَيَّنِ وَأَمَّا مَا فِي الذِّمَّةِ فَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِيفَاءِ . وَفَائِدَتُهُ سُقُوطُ مَا فِي ذِمَّتِهِ عَنْهُ لَا حُدُوثُ مِلْكٍ لَهُ فَلَا يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا . فَإِنَّ الْبَيْعَ الْمَعْرُوفَ هُوَ أَنْ يَمْلِكَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ وَهُنَا لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا : بَلْ سَقَطَ الدَّيْنُ مِنْ ذِمَّتِهِ . وَهَذَا لَوْ وَفَّاهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ بَاعَهُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ بَلْ يُقَالُ : وَفَّاهُ حَقَّهُ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهُ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةً بِدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ ؛ فَإِنَّهُ بَيْعٌ فَلَمَّا كَانَ فِي الْأَعْيَانِ إذَا بَاعَهَا بِجِنْسِهَا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا فَكَذَلِكَ إذَا أَوْفَاهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا . بَلْ هُوَ إيفَاءٌ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ .
وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ فِي غَد فَأَعْطَاهُ عِوَضًا بَرَّ فِي يَمِينِهِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ فَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ يُرِيدُ بِهِ بَيْعَهُ مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ فِيهِ نِزَاعٌ . وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَلَّلَهُ بِتَوَالِي الضَّمَانِ يَطْرُدُ النَّهْيَ وَأَمَّا مَنْ عَلَّلَ النَّهْيَ بِتَمَامِ الِاسْتِيفَاءِ وَانْقِطَاعٍ عَلَّقَ الْبَائِعَ حَتَّى لَا يَطْمَعَ فِي الْفَسْخِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِقْبَاضِ إذَا رَأَى الْمُشْتَرِيَ قَدْ رَبِحَ فِيهِ فَهُوَ يُعَلِّلُ بِذَلِكَ فِي الصُّبْرَةِ قَبْلَ نَقْلِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَقْبُوضَةً وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي بَيْعِهِ مِنْ الْبَائِعِ . وَأَيْضًا فَبَيْعُهُ مِنْ الْبَائِعِ يُشْبِهُ الْإِقَالَةَ وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ تَجُوزُ الْإِقَالَةُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ . وَالْإِقَالَةُ هَلْ هِيَ فَسْخٌ أَوْ بَيْعٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد فَإِذَا قُلْنَا : هِيَ فَسْخٌ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِمِثْلِ الثَّمَنِ . وَإِذَا قُلْنَا هِيَ بَيْعٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ وَدَيْنُ السَّلَمِ تَجُوزُ الْإِقَالَةُ فِيهِ بِلَا نِزَاعٍ . فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي دَيْنِ السَّلَمِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ : حَيْثُ كَانَ الْأَكْثَرُونَ لَا يُجَوِّزُونَ بَيْعَ الْمَبِيعِ لِبَائِعِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ وَيُجَوِّزُونَ الْإِقَالَةَ فِي دَيْنِ السَّلَمِ . وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ يَجُوزُ كَمَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ ؛ لَكِنْ إنَّمَا يَكُونُ إقَالَةً إذَا أَخَذَ رَأْسَ مَالِهِ أَوْ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ مَعَ زِيَادَةٍ أَمَّا إذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ إقَالَةً بَلْ هُوَ اسْتِيفَاءٌ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ لِمَا لَمْ يُقْبَضْ . وَأَحْمَد جَوَّزَ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ مِنْ الْمُسْتَسْلِفِ ؛ اتِّبَاعًا لِابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنُ
عَبَّاسٍ يَقُولُ : { نَهَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ
قَبْضِهِ } وَلَا أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ ، فَابْنُ
عَبَّاسٍ لَا يُجَوِّزُ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَجَوَّزَ بَيْعَ دَيْنِ
السَّلَمِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَرْبَحْ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ ابْنُ
عَبَّاسٍ بَيْنَ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ وَلَا بَيْنَ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ
وَغَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هُنَا مِنْ الْبَائِعِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ
وَهُوَ الَّذِي يَقْبِضُهُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ ؛ بَلْ لَيْسَ هُنَا قَبْضٌ ؛
لَكِنْ يَسْقُطُ عَنْهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي أَخْذِهِ مِنْهُ
ثُمَّ إعَادَتُهُ إلَيْهِ وَهَذَا مِنْ فِقْهِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَمَالِكٌ جَعَلَ
هَذَا بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَمَنَعَ بَيْعَ
الطَّعَامِ الْمُسْلَفِ فِيهِ مِنْ الْمُسْتَلِفِ وَأَحْمَد لَمْ يَجْعَلْهُ
كَبَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا قَالَ مَالِكٌ ؛
بَلْ جَوَّزَهُ بِغَيْرِ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ كَمَا أَجَازَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
. وَأَمَّا بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَكَرِهَهُ لِئَلَّا يُشْبِهَ بَيْعَ
الْمَكِيل بِالْمَكِيلِ مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ إذَا كَانَ لَمْ تُوجَدْ حَقِيقَةُ
التَّقَابُضِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ . وَأَمَّا إذَا أَخَذَ عَنْهُ مِنْ جِنْسِهِ
بِقَدْرِ مَكِيلِهِ مَا هُوَ دُونَهُ فَجَوَّزَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الِاسْتِيفَاءِ
مِنْ الْجِنْسِ ؛ لَا مِنْ بَابِ الْبَيْعِ كَمَا يَسْتَوْفِي عَنْ الْجَيِّدِ
بِالرَّدِيءِ . وَالْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ قَدْ يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْجِنْسِ
الْوَاحِدِ ؛ وَلِهَذَا فِي جَوَازِ بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا
رِوَايَتَانِ :
إحْدَاهُمَا : الْمَنْعُ كَقَوْلِ مَالِكٍ .
وَالثَّانِيَةُ : الْجَوَازُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ، وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ مِنْ أَحْمَد فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ ؛ قَدْ يُقَالُ هِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْزِيهِ . أَوْ يَكُونُ إذَا أَخَّرَ الْقَبْضَ . وَهَذَا الثَّانِي أَشْبَهُ بِأُصُولِ أَحْمَد وَنُصُوصِهِ وَهُوَ مُوجِبُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا بَاعَ الْمَكِيل بِمَكِيلٍ أَوْ الْمَوْزُونَ بِمَوْزُونٍ اشْتَرَطَ فِيهِ الْحُلُولَ وَالتَّقَابُضَ ، فَإِنْ بَاعَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ . وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ هِيَ التَّمَاثُلُ وَهُوَ مَكِيلُ جِنْسٍ أَوْ مَوْزُونُ جِنْسٍ . فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْبُرِّ وَالتَّمْرِ . وَالشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ بَعْضُهُ بِبَعْضِ نَسَاءً لَا يَجُوزُ . فَمَنْ جَعَلَ الْعِلَّةَ التَّمَاثُلَ - وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ أَوْ الطَّعْمُ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا - حَرَّمَ النَّسَاءَ فِيمَا جَمَعَهُمَا عِلَّةً وَاحِدَةً . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ رِوَايَاتٌ عَنْ أَحْمَد . فَالتَّمَاثُلُ وَهُوَ مَكِيلُ جِنْسٍ أَوْ مَوْزُونُ جِنْسٍ : هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالطَّعْمُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَمَجْمُوعُهُمَا قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ . وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَهُوَ الْقُوتُ وَمَا يُصْلِحُهُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَدَيْنُ السَّلَمِ وَغَيْرُهُ مِنْ الدُّيُونِ إذَا عُوِّضَ عَنْهُ بِمَكِيلٍ وَجَبَ قَبْضُهُ فِي مَجْلِسِ التَّعْوِيضِ . وَكَذَلِكَ الْمَوْزُونُ إذَا عُوِّضَ
عَنْهُ بِمَوْزُونِ : مِثْلَ أَنْ يُعَوَّضَ عَنْ الْحَرِيرِ بِقُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ . فَإِذَا بِيعَ الْمَكِيلُ بِالْمَكِيلِ بَيْعًا مُطْلَقًا بِحَيْثُ لَا يُقْبَضُ الْعِوَضُ فِي الْمَجْلِسِ لَمْ يَجُزْ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا بِيعَ بِحَيَوَانٍ أَوْ عَقَارٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ ، فَكَلَامُ أَحْمَد يَخْرُجُ عَلَى هَذَا . وَنَهْيُهُ عَنْ الْبَيْعِ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا . وَلِهَذَا قَالَ : إذَا حَلَّ الْأَجَلُ يَشْتَرِي مِنْهُ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ . فَأَطْلَقَ الْإِذْنَ فِي ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنَّهُ لَا يَشْتَرِي مُطْلَقًا ؛ بَلْ يَقْبِضُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا إذَا بِيعَ بِعَيْنِ . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَحْمَد اتَّبَعَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ . وَابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا أَسْلَمْت فِي شَيْءٍ فَجَاءَ الْأَجَلُ وَلَمْ تَجِدْ الَّذِي أَسْلَمْت فِيهِ فَخُذْ عِوَضًا بِأَنْقَصَ وَلَا تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ . فَإِنَّمَا نَهَاهُ عَنْ الرِّبْحِ فِيهِ : بِأَنْ يَبِيعَهُ دَيْنَ السَّلَمِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُسَاوِي وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ ؛ وَلِهَذَا أَحْمَد مَنَعَ إذَا اسْتَوْفَى عَنْهُ مَكِيلًا - كَالشَّعِيرِ - أَنْ يَكُونَ بِزِيَادَةِ . وَلَمْ يُفَرِّقْ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ بِغَيْرِهِمَا . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ رِبَا الْفَضْلِ فَيُقَالُ : إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُجِيزُ رِبَا الْفَضْلِ ؛ بَلْ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ إلَى أَجَلٍ حَرَامٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ إلَى أَجَلٍ . وَهَذَا قِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مَقْبُوضٌ فَإِذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا وَبَاعَهُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ وَلَمْ يَقْبِضْهُ فَقَدْ بَاعَ مَكِيلًا بِمَكِيلٍ وَلَمْ يَقْبِضْهُ وَأَمَّا إذَا قَبَضَهُ فَهَذَا جَائِزٌ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهُ إذَا بَاعَ بِذَهَبِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ وَرِقًا وَإِذَا بَاعَ بِوَرِقٍ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ ذَهَبًا فِي الْمَجْلِسِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَهَذَا أَخَذَ عَنْ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ . فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي الثَّمَنِ جَازَ فِي الْمُثَمَّنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : هَذَا مَبِيعٌ لَمْ يُقْبَضْ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ . وَقَدْ ظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْمَأْخَذِ فِي السَّلَمِ . وَابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِي مَنَعَ هَذَا جَوَّزَ هَذَا وَأَنَّ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ مِنْ بَائِعِهِ لَيْسَ فِيهِ مَحْذُورٌ أَصْلًا كَمَا فِي بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ ؛ لَا بِتَوَالِي الضَّمَانِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَنْ مَنَعَ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ } فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ . وَالثَّانِي : الْمُرَادُ بِهِ أَنْ لَا يَجْعَلَ السَّلَفَ سَلَمًا فِي شَيْءٍ آخَرَ . فَيَكُونُ مَعْنَاهُ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِهِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ إلَى أَجَلٍ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ . وَلِهَذَا قَالَ : { لَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ } أَيْ لَا يَصْرِفُ الْمُسْلَمَ فِيهِ إلَى مُسْلَمٍ فِيهِ آخَرَ . وَمَنْ اعْتَاضَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ قَابِضًا لِلْعِوَضِ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَعَلَهُ سَلَمًا فِي غَيْرِهِ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْجَوَابُ . لَكِنَّ الرُّخْصَةَ فِي هَذَا الْبَابِ ثَابِتَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهِيَ مَذْهَبُ
مَالِكٍ . وَأَحْمَد رَخَّصَ فِيهِ
أَكْثَرُ مِنْ مَالِكٍ . وَمَا ذَكَرَهُ الخرقي وَغَيْرُهُ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ
رِوَايَةٌ أُخْرَى كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ رِوَايَةً عَنْ
أَحْمَد . وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ لَا دَلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الرَّجُلِ يُسْلِمُ فِي شَيْءٍ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُسْلَمِ
إلَيْهِ غَيْرَهُ . كَمَنْ أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ ؟ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ
بَدَلَهَا شَعِيرًا سَوَاءٌ تَعَذَّرَ الْمُسْلَمُ فِيهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ فَاعْتَاضَ عَنْهَا شَعِيرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ :
فَهَذِهِ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
الِاعْتِيَاضُ عَنْ السَّلَمِ بِغَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَالثَّانِي :
يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ بِسِعْرِ الْوَقْتِ أَوْ
أَقَلَّ . وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَيْثُ جَوَّزَ إذَا
أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضًا بِقِيمَتِهِ وَلَا يَرْبَحَ
مَرَّتَيْنِ . وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد حَيْثُ يُجَوِّزُ
أَخْذَ الشَّعِيرِ عَنْ الْحِنْطَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَغْلَى مِنْ
قِيمَةِ الْحِنْطَةِ . وَقَالَ : بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ يُجَوِّزُ الِاعْتِيَاضَ عَنْ الطَّعَامِ وَالْعَرَضَ بِعَرَضِ . وَالْأَوَّلُونَ احْتَجُّوا بِمَا فِي السُّنَنِ . عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ } قَالُوا : وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَبِيعَ دَيْنَ السَّلَمِ لَا مِنْ صَاحِبِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ دَيْنَ السَّلَمِ دَيْنٌ ثَابِتٌ فَجَازَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ كَبَدَلِ الْقَرْضِ وَكَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي الْبَيْعِ فَجَازَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ ، كَالْعِوَضِ الْآخَرِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَفِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ وَإِنْ صَحَّ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ دَيْنَ السَّلَمِ سَلَفًا فِي شَيْءٍ آخَرَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ } أَيْ لَا يَصْرِفْهُ إلَى سَلَفٍ آخَرَ . وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الرِّبْحَ فِيمَا لَمْ يُضْمَنُ وَكَذَلِكَ إذَا اعْتَاضَ عَنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْقَرْضِ فَإِنَّمَا يَعْتَاضُ عَنْهُ بِسِعْرِهِ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ { ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : إنَّا نَبِيعُ الْإِبِلَ بِالنَّقِيعِ بِالذَّهَبِ وَنَقْبِضُ الْوَرِقَ وَنَبِيعُ بِالْوَرِقِ وَنَقْبِضُ الذَّهَبَ . فَقَالَ : لَا بَأْسَ إذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ إذَا افْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ } فَيَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ بِالسِّعْرِ لِئَلَّا يَرْبَحَ فِيمَا لَمْ يُضْمَنْ . فَإِنْ قِيلَ فَدَيْنُ السَّلَمِ يَتْبَعُ ذَلِكَ فَنُهِيَ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ . قِيلَ : النَّهْيُ إنَّمَا كَانَ فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي الدُّيُونِ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
عِوَضُ الْمِثْلِ كَثِيرُ الدَّوَرَانِ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ - وَهُوَ أَمْرٌ
لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْعَدْلِ الَّذِي بِهِ تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ فَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الشَّرِيعَةِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ :
قِيمَةُ الْمِثْلِ ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ وَنَحْوُ ذَلِكَ .
كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَعْتَقَ
شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ
الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ فَأَعْطَى
شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ } . وَفِي حَدِيثٍ أَنَّهُ
قَضَى فِي بروع بِنْتِ وَاشِقٍ بِمَهْرِ مِثْلِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ -
يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِيمَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ
وَالْأَبْضَاعِ وَالْمَنَافِعِ وَمَا يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ مِنْ الْأَمْوَالِ
وَالْمَنَافِعِ وَبَعْضِ النُّفُوسِ . وَمَا يُضْمَنُ بِالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ
وَالصَّحِيحَةِ أَيْضًا ؛ لِأَجْلِ الْأَرْشِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ .
وَيُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمُعَاوَضَةِ لِلْغَيْرِ مِثْلَ مُعَاوَضَةِ الْوَلِيِّ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِلْيَتِيمِ وَلِلْوَقْفِ وَغَيْرِهِمْ . وَمُعَاوَضَةِ الْوَكِيلِ كَالْوَكِيلِ فِي الْمُعَاوَضَةِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ وَمُعَاوَضَةِ مَنْ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ حَقُّ الْغَيْرِ كَالْمَرِيضِ . وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ فِيمَا يَجِبُ شِرَاؤُهُ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَاءِ الطَّهَارَةِ وَسُتْرَةِ الصَّلَاةِ وَآلَاتِ الْحَجِّ أَوْ لِلْآدَمِيِّينَ : كَالْمُعَاوَضَةِ الْوَاجِبَةِ مِثْلَ . وَمَدَارُهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ لِلشَّيْءِ بِمِثْلِهِ . وَهُوَ نَفْسُ الْعَدْلِ وَنَفْسُ الْعُرْفِ الدَّاخِلِ فِي قَوْلِهِ : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَوْلُهُ : { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ ؛ فَإِنَّهُ اعْتِبَارٌ فِي أَعْيَانِ الْأَحْكَامِ لَا فِي أَنْوَاعِهَا . وَهُوَ مِنْ مَعْنَى الْقِسْطِ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ لَهُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ لَهُ الْكُتُبَ . وَهُوَ مُقَابَلَةُ الْحَسَنَةِ بِمِثْلِهَا ؛ وَالسَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ } وَقَالَ : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } وَقَالَ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَقَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } وَقَالَ : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَقَالَ : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } . لَكِنَّ مُقَابَلَةَ الْحَسَنَةِ بِمِثْلِهَا عَدْلٌ وَاجِبٌ وَالزِّيَادَةُ إحْسَانٌ مُسْتَحَبٌّ
وَالنَّقْصُ ظُلْمٌ مُحَرَّمٌ وَمُقَابَلَةُ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا عَدْلٌ جَائِزٌ وَالزِّيَادَةُ مُحَرَّمٌ وَالنَّقْصُ إحْسَانٌ مُسْتَحَبٌّ فَالظُّلْمُ لِلظَّالِمِ وَالْعَدْلُ لِلْمُقْتَصِدِ وَالْإِحْسَانُ الْمُسْتَحَبِّ لِلسَّابِقِ بِالْخَيْرَاتِ . وَالْأُمَّةُ ثَلَاثَةٌ : ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ . وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَيَتَنَازَعُونَ فِي حَقِيقَةِ عِوَضِ الْمِثْلِ فِي جِنْسِهِ وَمِقْدَارِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ لِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَعْوَاضِ وَالْمُعَوَّضَاتِ والمتعاوضين . فَنَقُولُ : " عِوَضُ الْمِثْلِ " هُوَ مِثْلُ الْمُسَمَّى فِي الْعُرْفِ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : السِّعْرُ وَالْعَادَةُ فَإِنَّ الْمُسَمَّى فِي الْعُقُودِ نَوْعَانِ : نَوْعٌ اعْتَادَهُ النَّاسُ وَعَرَفُوهُ فَهُوَ الْعِوَضُ الْمَعْرُوفُ الْمُعْتَادُ . وَنَوْعٌ نَادِرٌ ؛ لِفَرْطِ رَغْبَةٍ أَوْ مُضَارَّةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا . وَيُقَالُ فِيهِ ثَمَنُ الْمِثْلِ وَيُقَالُ فِيهِ الْمِثْلُ ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ مِثْلِ الْعَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ بِثَمَنِ مِثْلِهَا . فَالْأَصْلُ فِيهِ اخْتِيَارُ الْآدَمِيِّينَ وَإِرَادَتُهُمْ وَرَغْبَتُهُمْ . وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : قِيمَةُ الْمِثْلِ مَا يُسَاوِي الشَّيْءَ فِي نُفُوسِ ذَوِي الرَّغَبَاتِ . وَلَا بُدَّ أَنْ يُقَالَ : فِي الْأَمْرِ الْمُعْتَادِ . فَالْأَصْلُ فِيهِ إرَادَةُ النَّاسِ وَرَغْبَتُهُمْ . وَقَدْ عُلِمَ بِالْعُقُولِ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ وَهَذَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ وَضَرْبُ الْمَثَلِ الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَيْهِ
فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ إرَادَتَهُمْ الْمَعْرُوفَةَ لِلشَّيْءِ بِمِقْدَارِ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ ثَمَنُ مِثْلِهِ وَهُوَ قِيمَتُهُ وَقِيمَةُ مِثْلِهِ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَتْ تِلْكَ الرَّغْبَةُ وَالْإِرَادَةُ لِغَرَضٍ مُحَرَّمٍ ، كَصَنْعَةِ الْأَصْنَامِ وَالصُّلْبَانِ . وَنَحْوِ ذَلِكَ . كَانَ ذَلِكَ الْعِوَضُ مُحَرَّمًا فِي الشَّرْعِ . فَعِوَضُ الْمِثْلِ فِي الشَّرِيعَةِ يُعْتَبَرُ بِالْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ وَهُوَ : أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ شَرْعِيَّةً وَهِيَ الْمُبَاحَةُ . فَأَمَّا التَّسْمِيَةُ الْمَحْظُورَةُ إمَّا لِجِنْسِهَا : كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ . وَإِمَّا لِمَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ فِي الْعَيْنِ : كَالْعِنَبِ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا أَوْ الْغُلَامِ لِمَنْ يَفْجُرُ بِهِ . وَإِمَّا لِكَوْنِهِ تَسْمِيَةَ مُبَاهَاةٍ وَرِيَاءٍ لَا يُقْصَدُ أَدَاؤُهَا . أَوْ فِيهَا ضَرَرٌ بِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَالْمُهُورِ الَّتِي لَا يُقْصَدُ أَدَاؤُهَا وَهِيَ تَضُرُّ الزَّوْجَ إلَى أَجَلٍ كَمَا يَفْعَلُهُ جُفَاةُ الْأَعْرَابِ وَالْحَاضِرَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَسْمِيَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَلَيْسَ هُوَ مِيزَانًا شَرْعِيًّا يُعْتَبَرُ بِهِ الْمَثَلُ حَيْثُ لَا مُسَمَّى . فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ نَافِعٌ خُصُوصًا فِي هَذِهِ الصَّدَقَاتِ الثَّقِيلَةِ الْمُؤَخَّرَةِ الَّتِي قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهَا وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَعْتَبِرُهَا فِي مِثْلِ كَوْنِ الْأَيِّمِ لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِمَهْرِ مِثْلِهَا فَيَرَى تَرْكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ خِلَافًا لِلشَّرِيعَةِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَهْرُ الْمِثْلِ حَتَّى فِي مِثْلِ تَزْوِيجِ الْأَبِ وَنَحْوِهِ فَهَذَا أَصْلٌ . . . (1) إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَرَغْبَةُ النَّاسِ كَثِيرَةُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَوُّعِ فَإِنَّهَا
تَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ الْمَطْلُوبِ وَقِلَّتِهِ . فَعِنْدَ قِلَّتِهِ يَرْغَبُ فِيهِ مَا لَا يَرْغَبُ فِيهِ عِنْدَ الْكَثْرَةِ . وَبِكَثْرَةِ الطُّلَّابِ وَقِلَّتِهِمْ ؛ فَإِنَّمَا كَثُرَ طَالِبُوهُ يَرْتَفِعُ ثَمَنُهُ ؛ بِخِلَافِ مَا قَلَّ طَالِبُوهُ . وَبِحَسَبِ قِلَّةِ الْحَاجَةِ وَكَثْرَتِهَا وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا فَعِنْدَ كَثْرَةِ الْحَاجَةِ وَقُوَّتِهَا تَرْتَفِعُ الْقِيمَةُ مَا لَا تَرْتَفِعُ عِنْدَ قِلَّتِهَا وَضَعْفِهَا . وَبِحَسَبِ الْمُعَاوِضِ . فَإِنْ كَانَ مَلِيًّا دَيْنًا : يَرْغَبُ فِي مُعَاوَضَتِهِ بِالثَّمَنِ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُبْذَلُ بِمِثْلِهِ لِمَنْ يَظُنُّ عَجْزَهُ أَوْ مَطْلَهُ أَوْ جَحْدَهُ . وَالْمَلِيُّ الْمُطْلَقُ عِنْدَنَا : هُوَ الْمَلِيُّ بِمَالِهِ وَقَوْلِهِ وَبَدَنِهِ . هَكَذَا نَصَّ أَحْمَد . وَهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ اعْتَبَرُوهُ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ فَهُوَ يُعْتَبَرُ أَيْضًا فِي ثَمَنِ الْمِثْلِ وَأُجْرَةِ الْمِثْلِ . وَبِحَسَبِ الْعِوَضِ فَقَدْ يُرَخَّصُ فِيهِ إذَا كَانَ بِنَقْدٍ رَائِجٍ مَا لَا يُرَخَّصُ فِيهِ إذَا كَانَ بِنَقْدٍ آخَرَ دُونَهُ فِي الرَّوَاجِ : كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِدِمَشْقَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ؛ فَإِنَّ الْمُعَاوَضَةَ بِالدَّرَاهِمِ هُوَ الْمُعْتَادُ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْعُقُودِ هُوَ التَّقَابُضُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَإِذَا كَانَ الْبَاذِلُ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ مُوفِيًا بِالْعَهْدِ كَانَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ مَعَهُ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ تَامَّ الْقُدْرَةِ أَوْ تَامَّ الْوَفَاءِ . وَمَرَاتِبُ الْقُدْرَةِ وَالْوَفَاءِ تَخْتَلِفُ وَهُوَ الْخَيْرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } قَالُوا : قُوَّةٌ عَلَى الْكَسْبِ وَوَفَاءٌ لِلْعَهْدِ .
وَهَذَا يَكُونُ فِي الْبَائِعِ وَفِي الْمُشْتَرِي وَفِي الْمُؤَجَّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالنَّاكِحِ وَالْمَنْكُوحَةِ فَإِنَّ الْمَبِيعَ قَدْ يَكُونُ حَاضِرًا وَقَدْ يَكُونُ غَائِبًا فَسِعْرُ الْحَاضِرِ أَقَلُّ مِنْ سِعْرِ الْغَائِبِ وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي قَدْ يَكُونُ قَادِرًا فِي الْحَالِ عَلَى الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّ مَعَهُ مَالًا وَقَدْ لَا يَكُونُ مَعَهُ لَكِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقْتَرِضَ أَوْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ فَالثَّمَنُ مَعَ الْأَوَّلِ أَخَفُّ . وَكَذَلِكَ الْمُؤَجَّرُ قَدْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْعَقْدِ بِحَيْثُ يَسْتَوْفِيهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِلَا كُلْفَةٍ وَقَدْ لَا يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إلَّا بِكُلْفَةِ ؛ كَالْقُرَى الَّتِي يَنْتَابُهَا الظَّلَمَةُ مِنْ ذِي سُلْطَانٍ أَوْ لُصُوصٍ أَوْ تَنْتَابُهَا السِّبَاعُ فَلَيْسَتْ قِيمَتُهَا كَقِيمَةِ الْأَرْضِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ : بَلْ مِنْ الْعَقَارِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَنْفَعَتَهُ إلَّا ذُو قُدْرَةٍ يَدْفَعُ الضَّرَرَ مِنْ مَنْفَعَتِهِ لِأَعْوَانِهِ وَأَنْصَارِهِ أَوْ يَسْتَوْفِي غَيْرُهُ مِنْهُ مَنْفَعَةً يَسِيرَةً وَذُو الْقُدْرَةِ يَسْتَوْفِي كَمَالَ مَنْفَعَتِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ . وَعَلَى هَذَا يَخْتَلِفُ الِانْتِفَاعُ بِالْمُسْتَأْجِرِ بَلْ وَالْمُشْتَرِي وَالْمَنْكُوحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَيَنْتَفِعُ بِهِ ذُو الْقُدْرَةِ أَضْعَافَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ ؛ لِقُدْرَتِهِ عَلَى جَلْبِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَكْثُرُ الِانْتِفَاعُ وَعَلَى دَفْعِ الْمَوَانِعِ الْمَانِعَةِ مِنْ الِانْتِفَاعِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كَثْرَةُ الِانْتِفَاعِ بِمَا أَقَامَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَدَفْعُهُ مِنْ الْمَوَانِعِ مُوجِبًا لِأَنْ يَدْخُلَ ذَلِكَ التَّقْوِيمُ إلَّا إذَا فَرَضَ مِثْلَهُ فَقَدْ تَكُونُ الْأَرْضُ تُسَاوِي أُجْرَةً قَلِيلَةً لِوُجُودِ الْمَوَانِعِ مِنْ الْمُعْتَدِينَ أَوْ السِّبَاعِ أَوْ لِاحْتِيَاجِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إلَّا قُوَّةٍ وَمَالٍ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ :
تَبِيعُهَا بِمِائَةِ وَخَمْسِينَ ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . إنْ كَانَتْ مُؤَجَّلَةً فَبَاعَهَا بِأَقَلَّ
مِنْهَا حَالَّةٍ فَهَذَا رِبًا وَإِنْ كَانَتْ حَالَّةً فَأَخَذَ الْبَعْضَ
وَأَبْرَأَهُ مِنْ الْبَعْضِ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ أَحْسَنَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ دَيْنِ سَلَمٍ حَلَّ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُسْتَسْلِفِ وَفَاءٌ فَقَالَ :
بِعْنِيهِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ بَيْعُ دَيْنِ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَا بَيْعُ الدَّيْنِ
بِالدَّيْنِ : فَهَذَا حَرَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ . وَمِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ : أَنَّهُ
إنْ كَانَ بَاعَهُ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ مِثْلَ مَنْ بَاعَ رِبًا نَسِيئَةً
لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ ثَمَنِهِ
بِمَا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً
كَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَى دَيْنًا بِنَسِيئَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ
بِمَا لَا يُبَاعُ بِثَمَنِهِ نَسِيئَةً . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَسُئِلَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ يَتَدَيَّنُ ثُمَّ يُعْسِرُ وَيَمُوتُ هَلْ يُطَالَبُ بِهِ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَسْتَوْفِيهِ صَاحِبُهُ فَإِنَّ الدَّيْنَ لَا بُدَّ مِنْ وَفَائِهِ
وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ الشَّهِيدَ يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ
إلَّا الدَّيْنَ } .
بَابُ الْقَرْضِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ رَجُلٍ أَقْرَضَ لِرَجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَطَالَبَهُ فَقَالَ : أَنَا
مُعْسِرٌ أَنَا أَشْتَرِي مِنْك صِنْفًا بِزَائِدٍ إلَى أَنْ تَصْبِرَ سِتَّةَ
شُهُورٍ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ } فَإِذَا بَاعَهُ وَأَقْرَضَهُ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا
حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَكِلَاهُمَا يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ إذَا
كَانَ قَدْ بَلَغَهُ النَّهْيُ وَيَجِبُ رَدُّ الْقَرْضِ وَالسِّلْعَةِ إلَى
صَاحِبِهَا فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا بَدَلُ الْقَرْضِ
وَإِلَّا بَدَلُ السِّلْعَةِ قِيمَةُ الْمِثْلِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ
عَلَى ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ إنْسَانٍ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ إنْسَانٍ دَرَاهِمَ قَرْضًا يَعْمُرُ
بِهَا مِلْكَهُ يَشْتَرِي بِهَا أَرْضًا إلَى مُدَّةِ سَنَةٍ وَبِلَا كَسْبٍ مَا
يُعْطَى أَحَدٌ مَالَهُ فَكَيْفَ الْعَمَلُ فِي مَكْسَبِهِ حَتَّى يَكُونَ
بِطَرِيقِ الْحِلِّ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَهُ طَرِيقٌ بِأَنْ يُكْرِيَ الْمِلْكَ أَوْ بَعْضَهُ
يَتَسَلَّفُهَا وَيَعْمُرَ بِالْأُجْرَةِ . وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْمِلْكِ
خَرَابًا وَاشْتَرَطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عِمَارَةً مَوْصُوفَةً جَازَ ذَلِكَ
فَهَذَا طَرِيقٌ شَرْعِيٌّ يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ هَذَا وَهَذَا . وَأَمَّا إذَا
تَوَاطَآ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ وَتَحَيَّلَا
عَلَى ذَلِكَ بِبَعْضِ الطُّرُقِ لَمْ يُبَارِكْ اللَّهُ لَا لِهَذَا وَلَا
لِهَذَا : مِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ بَعْضَ الْمِلْكِ بَيْعَ أَمَانَةٍ عَلَى أَنَّهُ
يَشْتَرِي مِنْهُ الْمِلْكَ فِيمَا بَعْدُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ فَهَذَا مِنْ
الرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْمُعْطِي
سِلْعَةً يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْآخِذُ كَرُضَاضٍ يَعْمُرُ بِهِ الْحَمَّامَ جَازَ
أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ بِمَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ
الرِّبْحِ ؛ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْبَحَ عَلَى الْمُشْتَرِي
إلَّا مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ؟ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ أَقْرَضَ رَجُلًا قَرْضًا وَامْتَنَعَ أَنْ يُوَفِّيَهُ إيَّاهُ إلَّا فِي
بَلَدٍ آخَرَ مُحْتَاجٌ فِيهِ الْمُقْرِضُ إلَى سَفَرٍ وَحَمْلٍ ، فَهَلْ عَلَيْهِ
كُلْفَةُ سَفَرٍ ؟ .
فَأَجَابَ :
يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ أَنْ يُوَفِّيَ الْمُقْرِضَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي
اقْتَرَضَ فِيهِ وَلَا يُكَلِّفُهُ شَيْئًا مِنْ مُؤْنَةِ السَّفَرِ وَالْحَمْلِ .
فَإِنْ قَالَ : مَا أُوَفِّيك إلَّا فِي بَلَدٍ آخَرَ غَيْرَ هَذَا : كَانَ
عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا يُنْفِقُهُ بِالْمَعْرُوفِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا إذَا أَقْرَضَ رَجُلٌ رَجُلًا دَرَاهِمَ لِيَسْتَوْفِيَهَا مِنْهُ فِي
بَلَدٍ آخَرَ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أَقْرَضَهُ دَرَاهِمَ لِيَسْتَوْفِيَهَا مِنْهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ : مِثْلَ
أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ غَرَضُهُ حَمْلُ الدَّرَاهِمِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ
وَالْمُقْتَرِضُ لَهُ دَرَاهِمُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى
دَرَاهِمَ فِي بَلَدِ الْمُقْرِضِ فَيَقْتَرِضُ مِنْهُ وَيَكْتُبُ لَهُ "
سَفْتَجَةً " أَيْ : وَرَقَةً إلَى بَلَدِ الْمُقْتَرِضِ فَهَذَا يَصِحُّ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَقِيلَ
: نُهِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَالْقَرْضُ إذَا جَرَّ
مَنْفَعَةً كَانَ رِبًا وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ رَأَى
النَّفْعَ بِأَمْنِ خَطَرِ الطَّرِيقِ فِي نَقْلِ دَرَاهِمِهِ إلَى ذَلِكَ
الْبَلَدِ وَقَدْ انْتَفَعَ الْمُقْتَرِضُ أَيْضًا بِالْوَفَاءِ فِي ذَلِكَ
الْبَلَدِ وَأَمِنَ خَطَرَ الطَّرِيقِ ، فَكِلَاهُمَا مُنْتَفِعٌ بِهَذَا
الِاقْتِرَاضِ وَالشَّارِعُ لَا يَنْهَى عَمَّا يَنْفَعُهُمْ وَيُصْلِحُهُمْ
وَإِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا يَضُرُّهُمْ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يَجُوزُ قَرْضُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ ، وَيَأْخُذُهَا عَدَدًا ؟
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ قَرْضُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ إذَا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةَ الْغِشِّ
: مِثْلَ دَرَاهِمِ النَّاسِ الَّتِي يَتَعَامَلُونَ بِهَا . وَكَذَلِكَ إذَا
كَانَ الْغِشُّ مُتَفَاوِتًا يَسِيرًا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ قَرْضُهَا
بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي يُقَالُ عِيَارُهَا سَبْعُونَ وَعِيَارُ غَيْرِهَا
تِسْعَةٌ وَسِتُّونَ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ قَرْضُ الْحِنْطَةِ
وَغَيْرِهَا مِنْ الْحُبُوبِ وَإِنْ كَانَتْ مَغْشُوشَةً بِالتُّرَابِ
وَالشَّعِيرِ فَإِنَّ " بَابَ الْقَرْضِ " أَسْهَلُ مِنْ " بَابِ
الْبَيْعِ " . وَلِهَذَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ قَرْضُ الْخُبْزِ عَدَدًا
وَقَرْضُ الْخَمِيرِ
وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ عَدَدًا .
وَيَجُوزُ فِي الْقَرْضِ أَنْ يَرُدَّ خَيْرًا مِمَّا اقْتَرَضَ بِغَيْرِ شَرْطٍ
كَمَا { اسْتَلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا وَرَدَّ
خَيْرًا مِنْهُ . وَقَالَ : خَيْرُ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً } . وَكَذَلِكَ
يَجُوزُ قَرْضُ الْبَيْضِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمَعْدُودَاتِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَرَضَ
حَيَوَانًا وَالْحَيَوَانُ أَكْثَرُ اخْتِلَافًا مِنْ الْبَيْضِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ جُنْدِيٍّ لَهُ إقْطَاعٌ وَيَجِيءُ إلَيَّ عِنْدَ فَلَّاحِيهِ فَيُطْعِمُوهُ
هَلْ يَأْكُلُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أَكَلَ وَأَعْطَاهُمْ عِوَضَ مَا أَكَلَ فَلَا بَأْسَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ :
عَنْ مُعَلِّمٍ لَهُ دَيْنٌ عِنْدَ صَانِعٍ يَسْتَعْمِلُهُ لِأَجْلِهِ يَأْكُلُ
مِنْ أُجْرَتِهِ ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ لِلْأُسْتَاذِ أَنْ يُنْقِصَ الصَّانِعَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ ؛
لِأَجْلِ مَالِهِ عِنْدَهُ مِنْ الْقَرْضِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِرِضَاهُ كَانَ
مُرَابِيًا ظَالِمًا عَاصِيًا مُسْتَحِقًّا لِلتَّعْزِيرِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَعْسِفَهُ فِي اقْتِضَاءِ دَيْنِهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ إقْطَاعُ أَرْضٍ يَعْمَلُ لَهُ أَرْبَعَمِائَةِ إرْدَبٍّ
فَأَعْطَى الْفَلَّاحِينَ قُوَّةً تُقَارِبُ مِائَتَيْ إرْدَبٍّ فَيُسَجِّلُوهُ
بسبعمائة دِرْهَمٍ فَهَلْ ذَلِكَ رِبًا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا ؛ مِثْلَ أَنْ
يُبَايِعَهُ أَوْ يُؤَاجِرَهُ وَيُحَابِيَهُ فِي الْمُبَايَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ
لِأَجْلِ قَرْضِهِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا
يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ } . فَإِنَّهُ إذَا أَقْرَضَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ
وَبَاعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي مِائَةً بِمِائَةِ وَخَمْسِينَ كَانَتْ تِلْكَ
الزِّيَادَةُ رِبًا . وَكَذَلِكَ إذَا أَقْرَضَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ
وَاسْتَأْجَرَهُ بِدِرْهَمَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ أُجْرَتُهُ تُسَاوِي ثَلَاثَةً ؛
بَلْ مَا يَصْنَعُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعَلِّمِينَ بِصَنَائِعِهِمْ يُقْرِضُونَهُمْ لِيُحَابُوهُمْ
فِي الْأُجْرَةِ فَهُوَ رِبًا . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ أَوْ الدَّارُ
أَوْ الْحَانُوتُ تُسَاوِي أُجْرَتَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَأَكْرَاهَا بِمِائَةِ
وَخَمْسِينَ ؛ لِأَجْلِ الْمِائَةِ الَّتِي أَقْرَضَهَا إيَّاهُ فَهُوَ رِبًا .
وَأَمَّا " الْقُوَّةُ " فَلَيْسَتْ قَرْضًا مَحْضًا ؛ فَإِنَّهُ
يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ فِيهَا أَنْ
يَبْذُرَهَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ عَامِلًا وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْجِرًا . فَكَأَنَّهُ أَجَّرَهُ أَرْضًا يُقَوِّيهَا بِالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ فَإِذَا انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ اسْتَرْجَعَ الْأَرْضَ وَنَظِيرُهُ الْقُوَّةُ . وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْمَنْفَعَةُ هُنَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمُقْرِضِ وَالْمُقْرَضِ : فَإِنَّ الْمُقْرِضَ لَهُ غَرَضٌ فِي عِمَارَةِ أَرْضِهِ مِثْلَ " السَّفْتَجَةِ " وَهُوَ أَنْ يُقْرِضَهُ بِبَلَدٍ لِيَسْتَوْفِيَ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَيَرْبَحُ الْمُقْرِضُ خَطَرَ الطَّرِيقِ وَمَئُونَةَ الْحَمْلِ وَيَرْبَحُ الْمُقْرَضُ مَنْفَعَةَ الِاقْتِرَاضِ . وَكَذَلِكَ " الْقُوَّةُ " لَيْسَ مَقْصُودُ الْمُقَوِّي يَأْخُذُ زِيَادَةً عَلَى قُوَّتِهِ ؛ بَلْ مُحْتَاجٌ إلَى إجَارَةِ أَرْضِهِ وَذَلِكَ مُحْتَاجٌ إلَى اسْتِئْجَارِهَا فَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهَا إلَّا بِقُوَّةٍ مِنْ الْمُؤَجِّرِ لِحَاجَةِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَفِي التَّحْقِيقِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْقُوَّةِ الْقَرْضَ بَلْ تَقْوِيَتُهُ بِالْبَذْرِ كَمَا لَوْ قَوَّاهُ بِالْبَقَرِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الْقَرْضِ الَّذِي يَجُرُّ مَنْفَعَةً إنَّمَا الْقُوَّةُ مِنْ تَمَامِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَ الْأَرْضِ بَقَرٌ لِيَحْرُثَ عَلَيْهَا فَيَكُونُ قَدْ أَجَّرَ أَرْضًا وَبَقَرًا : فَهَذَا جَائِزٌ بِلَا رَيْبٍ وَلَكِنَّ الْقُوَّةَ نَفْسَهَا لَا تَبْقَى وَلَكِنْ يَرْجِعُ فِي نَظِيرِهَا كَمَا يَرْجِعُ فِي الْمُضَارَبَةِ فِي نَظِيرِ رَأْسِ الْمَالِ . فَلِهَذَا مَنَعَ مَنْ مَنَعَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُرْجِعُ نَفْسَ الْعَيْنِ فِيهَا إلَى الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرُ قَدْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي
الْقَرْضِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا رَدُّ الْمِثْلِ بِلَا زِيَادَةٍ . وَلَوْ أَجَّرَهُ حِنْطَةً أَوْ نَحْوَهَا لِيَنْتَفِعَ بِهَا ثُمَّ يَرُدَّ إلَيْهِ مِثْلَهَا مَعَ الْأُجْرَةِ : فَهَذَا هُوَ الْقَرْضُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى الْمِثْلِ . وَهَذَا النِّزَاعُ إذَا أَكْرَاهُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَأَقْرَضَهُ الْقُوَّةَ وَنَحْوَهَا مِمَّا يَسْتَعِينُ بِهِ الْمُكْتَرِي كَمَا لَوْ أَكْرَاهُ حَانُوتًا لِيَعْمَلَ فِيهِ صِنَاعَةً أَوْ تِجَارَةً وَأَقْرَضَهُ مَا يُقِيمُ بِهِ صِنَاعَتَهُ أَوْ تِجَارَتَهُ . فَأَمَّا إنْ أَكْرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمِثْلِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ فَهَذَا لَا خَيْرَ فِيهِ ؛ بَلْ هُوَ الْقَرْضُ الَّذِي يَجُرُّ الرِّبَا .
بَابُ الرَّهْنِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَرْهَنَ دَارَهُ عِنْدَ رَجُلٍ عَلَى مَالٍ إلَى أَجَلٍ ، فَحَلَّ
الْأَجَلُ وَهُوَ عَاجِزٌ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : بِعْنِي الدَّارَ بِشَرْطِ إنْ
وَفَّيْتِنِي أَخَذْتهَا بِالثَّمَنِ وَإِنْ سَكَنْتهَا لَمْ آخُذْ مِنْك أُجْرَةً
فَهَلْ الْبَيْعُ صَحِيحٌ ؟ وَقَدْ عَمَّرَ الْمُشْتَرِي فَوْقَهَا بِنَاءً ،
فَمَا حُكْمُهُ ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ هَذَا بَيْعًا صَحِيحًا ؛ بَلْ تُعَادُ الدَّارُ إلَى صَاحِبِهَا
وَيُوَفِّي الدَّيْنَ الْمُسْتَحَقَّ ، وَالْعِمَارَةُ الَّتِي عَمَّرَهَا
الْمُشْتَرِي تُحْسَبُ لَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ نِصْفُ بُسْتَانٍ وَالْبَاقِي لِرَجُلٍ آخَرَ وَاسْتَعَارَ مِنْ
شَرِيكِهِ نِصْفَهُ لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنِ إلَى أَجَلٍ وَعَرَّفَهُ مِقْدَارَ
الدَّيْنِ وَالْأَجْلِ فَأَعَارَهُ وَرَهَنَ الْبُسْتَانَ عِنْدَ صَاحِبِ
الدَّيْنِ ثُمَّ إنَّهُ فَكَّ نَصِيبَهُ وَبَاعَهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ بِثَمَنٍ
مَعْلُومٍ وَتَقَاصَّا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَبْقَى نَصِيبُ
الْمُعِيرِ مَرْهُونًا عَلَى بَاقِي
الدَّيْنِ ؟ أَمْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ يَجُوزُ لِلْمَدِينِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ لِوَفَاءِ
دَيْنِهِ كَمَا ذَكَرُوا وَإِذَا بَاعَهُ وَكَانَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ
فَلِلشَّرِيكِ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ . وَأَمَّا نَصِيبُ الْمُعِيرِ فَيَبْقَى
مَرْهُونًا عَلَى بَاقِي الدَّيْنِ كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَيْسَ
لِلْمُعِيرِ الرُّجُوعُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعَارِيَةِ ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ
الْمُرْتَهِنِ بِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ رَهْنٌ عَلَى مَبْلَغٍ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فَلَمَّا
انْقَضَى الْأَجَلُ دَفَعَ إلَى رَبِّ الدَّيْنِ حَقَّهُ إلَّا مِائَةً ثُمَّ
قُطِعَتْ الْقُبَالَةَ الْأُولَى وَكَتَبَ بِالْمِائَةِ دِرْهَمٍ حُجَّةً وَلَمْ
يُعِدْ فِيهِ ذِكْرَ الرَّهْنِ ، فَهَلْ لِهَذِهِ الْمِائَةِ الْبَاقِيَةِ
بِالرَّهْنِ الْمَذْكُورِ تَعَلُّقٌ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أَوْفَى الْغَرِيمُ بَعْضَ الدَّيْنِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ فَالرَّهْنُ بَاقٍ
بِمَا بَقِيَ مِنْ الْحَقِّ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مَا يُوجِبُ فِكَاكَهُ : مِثْلَ
فَكِّ الْمُرْتَهِنِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ أَرْهَنَ دَارَهُ ثُمَّ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ عِوَضُ
امْرَأَتِهِ بِالدَّارِ عَنْ حَقِّهَا مِنْ مُدَّةِ عَشْرِ سِنِينَ فَهَلْ
يَبْطُلُ الرَّهْنُ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُؤَجِّرَ الدَّارَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا يُقْبَلُ إقْرَارُ الرَّاهِنِ بِمَا
يُبْطِلُ الرَّهْنَ وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالرَّهْنِ فَلِلْمُقِرِّ
لَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ بِمُوجِبِ إقْرَارِهِ بِلَا رَيْبٍ لِأَنَّهُ إذَا أَقَرَّ
أَنَّ الرَّهْنَ كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ وَأَنَّهُ رَهَنَهُ بِدُونِ إذْنِهِ
لَمْ يَبْطُلْ الرَّهْنُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ لَهُ عَلَى شَخْصٍ دَيْنٌ وَأَرْهَنَ عَلَيْهِ رَهْنًا وَالدَّيْنُ حَالٌّ
وَرَبُّ الدَّيْنِ مُحْتَاجٌ إلَى دَرَاهِمِهِ ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ
الرَّهْنِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ جَازَ وَإِلَّا بَاعَ الْحَاكِمُ إنْ
أَمْكَنَ وَوَفَّاهُ حَقَّهُ مِنْهُ ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : إذَا
تَعَذَّرَ ذَلِكَ دَفَعَهُ إلَى ثِقَةٍ يَبِيعُهُ وَيَحْتَاطُ بِالْإِشْهَادِ
عَلَى ذَلِكَ وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ أَمَرَ أَجِيرَهُ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا عِنْدَ شَخْصٍ فَرَهَنَهُ
عِنْدَ غَيْرِهِ فَعَدِمَ الرَّهْنَ فَحَلَفَ صَاحِبُ الرَّهْنِ إنْ لَمْ يَأْتِهِ
بِهِ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَمْ يَعْدَمْ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ
عَدَمُهُ ، فَهَلْ يَحْنَثُ إذَا اسْتَعْمَلَهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ حِينَ حَلَفَ مُعْتَقِدًا أَنَّ الرَّهْنَ بَاقٍ
بِعَيْنِهِ لَمْ يُعْدَمْ فَحَلَفَ لِيُحْضِرَهُ لَمْ يَحْنَثْ وَالْحَالَةُ
هَذِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَهْنٍ عِنْدَ رَجُلٍ عَلَى مَبْلَغٍ إلَى مُدَّةٍ وَقَدْ انْقَضَتْ
الْمُدَّةُ ثُمَّ إنَّهُ أَرْهَنَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ عَلَى الْمَبْلَغِ عِنْدَ
إنْسَانٍ آخَرَ وَقَدْ طَلَبَ الرَّاهِنُ الثَّانِي مَا عَلَى الرَّهْنِ وَحَبَسَ
لِأَجْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يستفكه ، فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَجُوزُ بَيْعُ الرَّهْنِ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ وَالْحَالَةُ
هَذِهِ ؛ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَذِنَ الرَّاهِنُ الْأَوَّلُ فِي الرَّهْنِ عَلَى
الدَّيْنِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ
حِينَئِذٍ لِاسْتِيفَاءِ هَذَا الْحَقِّ
مِنْهُ فَإِذَا أَمْكَنَ بَيْعُهُ وَاسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ
حَبْسُ الْغَرِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ أُسِرَتْ وَلَهَا مِلْكٌ وَزَوْجٌ وَأَخٌ فأرهنوا مِلْكَهَا عَلَى
دَرَاهِمَ لِأَجْلِ فِكَاكِهَا وَرَاحَ أَخُوهَا بِالدَّرَاهِمِ فِي طَلَبِهَا
فَوَجَدَهَا حَصَلَتْ بِلَا ثَمَنٍ فَرَجَعَتْ إلَى بَلَدِهَا وَتَخَلَّفَ
أَخُوهَا فِي حَوَائِجِهِ فَلَمَّا وَصَلَتْ وَوَجَدَتْ مِلْكَهَا مَرْهُونًا
عَلَى الدَّرَاهِمِ فَقَالَتْ : يَرْهَنُ مَالِي بِغَيْرِ أَمْرِي ؟ وَأَنْكَرَتْ
أَنَّ أَخَاهَا سَلَّمَ إلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الدَّرَاهِمِ ، فَهَلْ يَلْزَمُهَا
الرَّهْنُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بَلْ يُعَادُ إلَيْهَا مَا قَبَضَهُ
أَخُوهَا وَيُفَكُّ الرَّهْنُ عَلَى مِلْكِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَقْرَضَ عَمَّهُ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ثُمَّ إنَّ ابْنَ عَمِّهِ
تَدَيَّنَ دَرَاهِمَ مِنْ نَاسٍ آخَرِينَ وَاشْتَرَى خَمْسَةَ غِلْمَانٍ
وَجَارِيَةً وَكَتَبَ مَكْتُوبًا أَنَّ الْخَمْسَةَ الْغِلْمَانَ دُونَ
الْجَارِيَةِ رَهْنٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الدَّيْنِ ثُمَّ إنَّهُ بَاعَ الْغِلْمَانَ
وَأَوْصَلَهُمَا لِمَنْ كَانُوا رَهْنًا عِنْدَهُ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْخَمْسَةِ
آلَافٍ اشْتَرَى الْجَارِيَةَ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ فَمَسَكُوهُ
أَصْحَابُ الدَّيْنِ الَّذِينَ أَخَذُوا ثَمَنَ الْغِلْمَانِ ؛ لِيَأْخُذُوهَا
مِنْ دَيْنِهِمْ أَيْضًا . فَهَلْ لَهُمْ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ
ضَامِنًا وَلَا كَفِيلًا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ تَكُنْ الْجَارِيَةُ مَرْهُونَةً عِنْدَ أَهْلِ
الدَّيْنِ الثَّانِي : لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ هَذَا الدَّيْنِ اخْتِصَاصٌ بِهَا
دُونَ بَقِيَّةِ الْغُرَمَاءِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَيْفَ يَكُونُ إذَا
كَانَ قَدْ وَفَّاهَا مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي لِغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ الْعَدْلَ
فِي الْوَفَاءِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ وَاجِبٌ
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ، وَأَمَّا قَبْلَ الْحَجْرِ فَفِيهِ نِزَاعٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ فَوَجَدَ وَلَدَهُ رَاكِبًا عَلَى فَرَسٍ
فَأَخَذَ الْفَرَسَ مِنْهُ فَحَضَرَ الْمَدْيُونُ إلَى صَاحِبِ الْفَرَسِ
فَطَالَبَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِدَيْنِهِ فَقَالَ لَهُ : خُذْ هَذِهِ الْفَرَسَ
عِنْدَك حَتَّى أُوَفِّيَك دَيْنَك فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ : لِي عِنْدَك
فِضَّةٌ مَالِي عِنْدَك فَرَسٌ وَهَذَا حَيَوَانٌ وَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ بِيَدِ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَالَ لَهُ الْمَدْيُونُ : أَبْرَأَك اللَّهُ
مِنْ هَذِهِ الْفِضَّةِ فَمَهْمَا حَدَثَ كَانَ فِي دَرْكِي فَقَعَدَتْ عِنْدَ
صَاحِبِ الدَّيْنِ أَيَّامًا يَعْلِفُهَا وَيَسْقِيهَا وَلَا يَرْكَبُهَا
فَأُسْقِطَتْ الْفَرَسُ مَيِّتَةً لَمْ تَسْتَهِلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ
فَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ غَيْرُ الْمَدْيُونِ ادَّعَى أَنَّ الْفَرَسَ لَهُ وَطَالَبَ
بِسِقْطِ الْفَرَسِ . فَقَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ : أَنَا لَا أَعْرِفُك وَلَا لَك
مَعِي كَلَامٌ وَأَحْلِفُ لَك أَنِّي مَا رَكِبْت الْفَرَسَ وَلَا رَكِبَهَا
أَحَدٌ عِنْدِي وَلَا ضَرَبْتهَا . فَهَلْ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ ؟ أَوْ
عَلَى الَّذِي أَرْهَنَ الْفَرَسَ قِيمَةَ السِّقْطِ أَمْ لَا ؟ وَكَمْ يَكُونُ
قِيمَةُ السِّقْطِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا قَبَضْت الْفَرَسَ مِنْ مَالِكِهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُ ضَمَانُ مَا
نَقَصَتْ وَهُوَ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ الْقِيمَاتِ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَوْلِي
عَلَيْهَا غَاصِبًا مُتَعَدِّيًا
فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَإِنْ
كَانَ مَغْرُورًا وَلَمْ يُتْلَفْ بِسَبَبٍ مِنْهُ فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى
الْأَوَّلِ الَّذِي غَرَّهُ وَضَمِنَ لَهُ الدَّرْكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ يَدِهِ رَهْنٌ عَلَى دَيْنٍ ثُمَّ بَاعَهُ مَالِكُهُ فَأَرَادَ
الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُثْبِتَ عَقْدَ الرَّهْنِ وَيَفْسَخَ الْبَيْعَ فَعَلَى مَنْ
يَدَّعِي ؟
فَأَجَابَ :
بَيْعُ الرَّهْنِ اللَّازِمِ بِدُونِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ لَا يَجُوزُ
وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَطْلُبَ دَيْنَهُ مِنْ الرَّاهِنِ الْمَدِينِ إنْ كَانَ
قَدْ حَلَّ وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ عَوْدَ الرَّهْنِ أَوْ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ
مِنْهُ ، وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ الْبَائِعَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ
الْمُشْتَرِيَ لَهُ لَكِنَّ ؛ الْمُشْتَرِيَ إنْ كَانَ مَغْرُورًا فَقَرَارُ
الضَّمَانِ عَلَى الْبَائِعِ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ أُجْرَةِ الْمَبِيعِ ،
وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِصُورَةِ الْحَالِ فَهُوَ ظَالِمٌ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ
.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
:
عَنْ رَجُلٍ أَرْهَنَ حِيَاصَةً فَاسْتَعْمَلَهَا الْمُرْتَهِنُ فَقَطَعَ
سَيْرَهَا وَعَدِمَ طَلْيَهَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ نَقَصَتْ بِاسْتِعْمَالِ الْمُرْتَهِنِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ
بِالِاسْتِعْمَالِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الضَّمَانِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ ضَامِنٍ مُعَيَّنًا وَقَدْ طَلَبَهُ غَرِيمُهُ بِالْمَالِ وَلَمْ
يَكُنْ لِلضَّامِنِ مَقْدِرَةٌ وَقَدْ ادَّعَى غَرِيمُهُ عَلَيْهِ وَادَّعَى
الْإِعْسَارَ ، فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ ؟ أَوْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ
يَمِينِهِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الضَّامِنُ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَادَّعَى
الْإِعْسَارَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاجُ
إلَى إقَامَةِ بَيِّنَةٍ ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا
ذَكَرُوهُ عَنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَحَكَى مَنْعَ ذَلِكَ أَيْضًا بَلْ
هُوَ حَقِيقَةُ مَذْهَبِهِ فَإِنَّهُ لَا يحوجه إلَى بَيِّنَةٍ إذَا تَبَيَّنَ
أَنَّ الْحَالَ عَلَى مَا ذَكَرُوا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ ضَمِنَ آخَرَ بِدَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهَلْ
يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَصِحُّ ضَمَانُ مَا فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ
وَيُطَالَبُ الْمُسْتَحِقُّ لِلضَّامِنِ . لَكِنْ إذَا قَضَاهُ بِغَيْرِ إذْنِ
الْغَرِيمِ . فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَدِينِ ؟ فِيهِ
قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . قِيلَ : يَرْجِعُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي
الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَقِيلَ : لَا يَرْجِعُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؟
وَالشَّافِعِيِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ حِجْرِ وَالِدِهِ وَضَمِنَ بِغَيْرِ رِضَا وَالِدِهِ ضَمِنَ
أَقْوَامًا مُسْتَأْجِرِينَ بُسْتَانًا أَرْبَعَ سِنِينَ وَتَفَاصَلُوا مِنْ
الْإِجَارَةِ الَّتِي ضَمِنَهُمْ وَقَدْ فَضَّلَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا كَتَبَ
عَلَيْهِمْ بِهِ حُجَّةً بِغَيْرِ الْإِجَارَةِ وَقَدْ طَلَبَ الضَّامِنُ لَهُمْ ،
فَهَلْ يَجُوزُ طَلَبُهُ بَعْدَ فَسْخِ الْإِجَارَةِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ ضَمِنَهُمْ ضَمَانًا شَرْعِيًّا بِمَا عَلَيْهِمْ
مِنْ
الدَّيْنِ فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ
يُطَالِبَ الضَّامِنَ بِذَلِكَ الْحَقِّ أَوْ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يُطَالِبَ بِغَيْرِ مَا ضَمِنَهُ . وَإِنْ كَانَ تَحْتَ حِجْرِ أَبِيهِ لَمْ
يَصِحَّ ضَمَانُهُ ، وَلِلضَّامِنِ أَنْ يَطْلُبَ الْغُرَمَاءَ إذَا طَلَبَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ ضَمِنَ أَمْلَاكًا فِي ذِمَّتِهِ وَقَدْ اُسْتُحِقَّتْ وَلَمْ يَكُنْ
مَعَهُ دَرَاهِمُ وَلَهُ مَوْجُودٌ مِلْكٌ يُحْرِزُ الْقِيمَةَ وَزِيَادَةً فَهَلْ
لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَعْتَقِلَ الضَّامِنَ قَبْلَ بَيْعِ الْمَوْجُودِ ؟
أَمْ لَا ؟ وَإِذَا اعْتَقَلَ الضَّامِنَ وَسَأَلَ خُرُوجَهُ مَعَ تَرْسِيمٍ أَوْ
تَسْلِيمِ الْمِلْكِ لِمَنْ يَبِيعُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْغَرِيمُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا بَذَلَ بَيْعَ مَالِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ لَمْ يَجُزْ عُقُوبَتُهُ
بِحَبْسٍ وَلَا غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى تَرْكِ
وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ وَهُوَ إذَا بَذَلَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْوَفَاءِ
لَمْ يَكُنْ قَدْ تَرَكَ وَاجِبًا ؛ لَكِنْ إنْ خَافَ الْغَرِيمُ أَنْ يَغِيبَ
أَوْ لَا يَفِي بِمَا عَلَيْهِ ؛ فَلَهُ أَنْ يَحْتَاطَ عَلَيْهِ ؛ إمَّا
بِمُلَازَمَتِهِ وَإِمَّا بِعَائِنٍ فِي وَجْهِهِ . وَالتَّرْسِيمُ عَلَيْهِ
مُلَازَمَةٌ . وَمَتَى اعْتَقَلَهُ الْحَاكِمُ ثُمَّ بَذَلَ بَيْعَ مَالِهِ
وَسَأَلَ التَّمْكِينَ مِنْ ذَلِكَ يُمْكِنُهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ إمَّا أَنْ يَخْرُجَ
مَعَ تَرْسِيمٍ وَإِمَّا أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَبِيعُ
الْمِلْكَ وَيُسَلِّمُهُ إذَا لَمْ
يُمْكِنْ ذَلِكَ إلَّا بِخُرُوجِهِ . فَفِي الْجُمْلَةِ لَا تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ
بِحَبْسٍ مَعَ عَدَمِ تَرْكِهِ الْوَاجِبَ ؛ لَكِنْ يَحْتَاطُ بِالْمُلَازَمَةِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ ضَامِنٍ عَلَى أَنَّ دَوَابَّ قَوْمٍ تَنْزِلُ فِي خَانِ البراة وَلَهُ عَلَى
النَّاسِ وَظِيفَةٌ عَلَى نُزُولِهِمْ وَعَلَفِهِمْ ، فَزَادَ فِي الْوَظِيفَةِ ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِلضَّامِنِ ؛ لَا فِي الشَّرِيعَةِ النَّبَوِيَّةِ وَلَا فِي السِّيَاسَةِ
السُّلْطَانِيَّةِ تَغْيِيرُ الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَا أَنْ يُحْدِثَ
عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مَوْضُوعًا بِأَمْرِ وُلَاةِ الْأُمُورِ
؛ بَلْ الْوَاجِبُ مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ وَعُقُوبَتُهُ عَلَيْهِ وَاسْتِرْجَاعُ مَا
قَبَضَهُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ إذْنٍ . وَأَمَّا حُكْمُ الشَّرِيعَةِ
، فَإِنَّهُ يَنْزِلُ صَاحِبُ الدَّابَّةِ حَيْثُ أَحَبَّ مَا لَمْ تَكُنْ
مَفْسَدَةً شَرْعِيَّةً وَيَعْلِفُهَا هُوَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَكْتَرِيَ
لَهَا أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْ أَحَدٍ وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ
أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ زِيَادَةٌ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ ؛ بَلْ أَخْذُ
الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ الْمَيِّتِ حَرَامٌ مِنْ
وَجْهَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَكْتُبُ ضَمَانَ الْأَسْوَاقِ وَغَيْرَهَا مِنْ الْكِتَابَةِ الَّتِي لَا
تَجُوزُ فِي الشَّرْعِ هَلْ عَلَى الْكَاتِبِ إثْمٌ ؟ فَإِنَّهُ يَكْتُبُ
وَيَشْهَدُ عَلَى مَنْ حَضَرَ بِمَا يَرْضَى فَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ فَإِنَّ
الْكِتَابَ لَا يَخْلُوَنَّ مِنْ ذَلِكَ ، فَهَلْ يَأْثَمُونَ بِذَلِكَ ؟ أَمْ لَا
؟
فَأَجَابَ :
ضَمَانُ السُّوقِ وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ الضَّامِنُ مَا يَجِبُ عَلَى التَّاجِرِ
مِنْ الدُّيُونِ وَمَا يَقْبِضُهُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ ضَمَانٌ
صَحِيحٌ وَهُوَ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ وَضَمَانُ الْمَجْهُولِ وَذَلِكَ جَائِزٌ
عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ
حَنْبَلٍ . وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ كَقَوْلِهِ : { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ
حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } . وَالشَّافِعِيُّ يُبْطِلُهُ فَيَجُوزُ
لِلْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ أَنْ يَكْتُبَهُ وَيَشْهَدَ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَرَ
جَوَازَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَوَلِيُّ الْأَمْرِ يَحْكُمُ
بِمَا يَرَاهُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ ضَمِنَ رَجُلًا ضَمَانَ السُّوقِ بِإِذْنِهِ فَطَلَبَ مِنْهُ فَهَرَبَ
حَتَّى عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ وَغَرِمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَمْوَالًا فَهَلْ لَهُ
أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا خَسِرَهُ فِي ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
لَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا أَنْفَقَهُ بِسَبَبِ ضَمَانِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ
بِالْمَعْرُوفِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ ضَمِنَ رَجُلًا فِي الذِّمَّةِ عَلَى مَبْلَغٍ وَعِنْدَ اسْتِحْقَاقِ
الْمَبْلَغِ مَسَكَ الْغَرِيمُ الضَّامِنَ وَاعْتَقَلَهُ فِي السِّجْنِ فَطَلَبَ
الْغَرِيمُ صَاحِبَ الدَّيْنِ فَأَخَذَهُ وَاعْتَقَلَهُ وَبَقِيَ الضَّامِنُ
وَالْمَضْمُونُ فِي الْحَبْسِ ، فَهَلْ يَجُوزُ اعْتِقَالُ الضَّامِنِ ؟
فَأَجَابَ :
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّ
لِلْغَرِيمِ أَنْ يَطْلُبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا فَإِذَا اسْتَوْفَى لَمْ يَكُنْ
لَهُ مُطَالَبَةٌ ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا جَمِيعًا .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ طَلَبَ بِمَالٍ عَلَى وَلَدِهِ فَتَغَيَّبَ الْوَلَدُ فَطَلَبَ مِنْ
جِهَةِ وَالِدِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا وَلَدَهُ وَلَا لَهُ عِنْدَهُ مَالٌ لَمْ تَجُزْ
مُطَالَبَتُهُ بِمَا عَلَيْهِ . لَكِنْ إنْ أَمْكَنَ الْوَالِدُ مُعَاوَنَةَ
صَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى إحْضَارِ وَلَدِهِ بِالتَّعْرِيفِ بِمَكَانِهِ وَنَحْوِهِ
لَزِمَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَلَا تَحِلُّ مُطَالَبَتُهُ
بِشَيْءٍ مِنْ جِهَتِهِ ، وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ كَفُّ الْعُدْوَانِ عَنْهُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ كَاتِبٍ عِنْدَ أَمِيرٍ وَاقْتَرَضَ الْأَمِيرُ مِنْ إنْسَانٍ فَأَلْزَمَهُ
الْأَمِيرُ بِالْغَصْبِ أَنْ يَضْمَنَ فِي ذِمَّتِهِ وَضَمِنَهُ وَالْكَاتِبُ
تَحْتَ الْحَجْرِ مِنْ وَالِدِهِ ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ مَا ضَمِنَهُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ضَامِنٌ بِإِقْرَارٍ وَبَيِّنَةٍ أَوْ خَطِّهِ : لَزِمَهُ مَا
ضَمِنَهُ ؛ فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ
الزَّعِيمَ غَارِمٌ } . فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ غَيْرَ
مُسْتَقِلٍّ بِالتَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ : لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ ؛
وَلَكِنْ لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ
بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ الْحَجْرَ . وَإِنْ قَالَ : إنَّ الْمَضْمُونَ لَهُ
يَعْلَمُ أَنِّي كُنْت مَحْجُورًا عَلَيَّ فَلَهُ تَحْلِيفُهُ وَكَذَلِكَ إذَا
ادَّعَى الْإِكْرَاهَ فَلَهُ تَحْلِيفُ الْمَضْمُونِ لَهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ ضَامِنٍ يَطْلُبُ مِنْهُ السُّلْطَانُ عَلَى الْأَفْرَاحِ الَّتِي يَحْصُلُ
فِيهَا بَعْضُ الْمُنْكَرَاتِ : مِنْ غِنَاءِ النِّسَاءِ الْحَرَائِرِ لِلرِّجَالِ
الْأَجَانِبِ وَنَحْوِهِ ، فَإِنْ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِإِبْطَالِ ذَلِكَ
الْفِعْلِ أَبْطَلَهُ وَطَالَبَ الضَّامِنَ بِالْمَالِ الَّذِي لَمْ يَلْتَزِمْهُ
إلَّا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الضَّمَانِ وَجَبَ لِذَلِكَ
الْفِعْلِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي
الضَّمَانِ وَالضَّامِنُ يَعْتَقِدُ دُخُولَهُ ؛ لِجَرَيَانِ عَادَةِ مَنْ
تَقَدَّمَهُ مِنْ الضَّمَانِ بِهِ وَأَنَّ الضَّمَانَ وَقَعَ عَلَى الْحَالَةِ
وَالْعَادَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
فَأَجَابَ :
ظُلْمُ الضَّامِنِ بِمُطَالَبَتِهِ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ الَّذِي
دَخَلَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا أَبْلَغُ تَحْرِيمًا مِنْ غِنَاءِ
الْأَجْنَبِيَّةِ لِلرِّجَالِ ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ
الْعَقْلِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَمَّا هَذَا الْغَنَاءُ فَإِنَّمَا نُهِيَ
عَنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَدْعُو إلَى الزِّنَا كَمَا حَرَّمَ النَّظَرَ إلَى
الْأَجْنَبِيَّةِ ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ خِلَافًا شَاذًّا ؛ وَلِأَنَّ غِنَاءَ الْإِمَاءِ
الَّذِي يَسْمَعُهُ الرَّجُلُ قَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَسْمَعُونَهُ فِي
الْعُرْسَاتِ كَمَا كَانُوا يَنْظُرُونَ
إلَى الْإِمَاءِ لِعَدَمِ الْفِتْنَةِ فِي رُؤْيَتِهِنَّ وَسَمَاعِ أَصْوَاتِهِنَّ
فَتَحْرِيمُ هَذَا أَخَفُّ مِنْ تَحَرِّي الظُّلْمِ فَلَا يُدْفَعُ أَخَفُّ
الْمُحَرَّمَيْنِ بِالْتِزَامِ أَشَدِّهِمَا . وَأَمَّا غِنَاءُ الرِّجَالِ
لِلرِّجَالِ فَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ كَانَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ . يَبْقَى
غِنَاءُ النِّسَاءِ لِلنِّسَاءِ فِي الْعُرْسِ وَأَمَّا غِنَاءُ الْحَرَائِرِ
لِلرِّجَالِ بِالدُّفِّ فَمَشْرُوعٌ فِي الْأَفْرَاحِ كَحَدِيثِ النَّاذِرَةِ
وَغِنَاهَا مَعَ ذَلِكَ . وَلَكِنْ نَصْبُ مُغَنِّيَةٍ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ :
هَذَا مُنْكَرٌ بِكُلِّ حَالٍ ؛ بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَتْ صَنْعَتُهَا وَكَذَلِكَ
أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ ضَمِنَ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ مِنْ الْمَضْمُونِ وَالضَّامِنُ
مُتَزَوِّجٌ ابْنَةَ الْمَضْمُونِ فَأَقَامَ الضَّامِنُ فِي السِّجْنِ خَمْسَةَ
أَشْهُرٍ وَأَنْفَقَ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَهَلْ يَلْزَمُ الْمَضْمُونَ
النَّفَقَةُ الَّتِي أَنْفَقَهَا فِي مُدَّةِ الِاعْتِقَالِ ؟ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ مَا أُلْزِمَ الضَّامِنُ بِسَبَبِ عُدْوَانِ الْمَضْمُونِ ؛ مِثْلَ أَنْ
يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ فَيَغِيبُ حَتَّى أَمْسَكَ الْغَرِيمُ
لِلضَّامِنِ وَغَرَّمَهُ مَا غَرَّمَهُ ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى
الْمَضْمُونِ الَّذِي ظَلَمَهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ جَمَاعَةٍ ضَمَّنُوا شَخْصًا لِرَجُلِ وَكَانَ الضَّامِنُ ضَامِنًا وَجْهَ
الْمَضْمُونِ فِي حَبْسِ الشَّرْعِ ، فَهَلْ يُلْزِمُهُمْ بِإِحْضَارِهِ إلَى بَيْتِهِ
؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ فِي حَبْسِ الشَّرْعِ بَرِئَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَلْزَمْهُ
إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَبْسِ لَهُ ؛ لَكِنَّ الْمَضْمُونَ لَهُ يَطْلُبُ حَقَّهُ
مِنْهُ وَيَسْتَوْفِيهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ حِينَئِذٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَبْسِ
وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْحَبْسِ حَتَّى يُحَاكِمَ غَرِيمَهُ ثُمَّ
يُعِيدَهُ إلَيْهِ . وَلَا يَلْزَمُهُ إحْضَارُهُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي حَبْسِ
الشَّرْعِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَجَابَ أَيْضًا :
إذَا سَلَّمَهُ ضَامِنُ الْوَجْهِ الَّذِي ضَمَّنُوهُ ضَمَانَ إحْضَارٍ فِي حَبْسِ
الشَّرْعِ ؛ فَقَدْ بَرِئُوا مِنْ الضَّمَانِ وَكَانَ لِأَهْلِ الْحَقِّ الَّذِي
عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفُوا حَقَّهُمْ مِنْهُ حِينَئِذٍ وَإِنْ احْتَاجُوا إلَى
الدَّعْوَى عَلَيْهِ مُكِّنُوا مِنْ إخْرَاجِهِ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ
وَالدَّعْوَى عَلَيْهِ . هَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَالِكٍ
وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا .
وَسُئِلَ :
عَنْ جَمَّالٍ رَبَطَ جِمَالَهُ فِي الرَّبِيعِ وَلِكُلِّ مَكَانٍ خُفَرَاءُ ثُمَّ
سُرِقَ مِنْ الْجَمَّالِ جَمَلٌ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الْخُفَرَاءِ حَاضِرًا
بَائِنًا ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانُوا مُسْتَأْجِرِينَ عَلَى حِفْظِهِمْ فَعَلَيْهِمْ
الضَّمَانُ بِمَا تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِمْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ اسْتَدَانَ دَيْنًا وَكَفَلَهُ أَبُوهُ وَثَلَاثَةٌ أُخَرُ
بِإِذْنِهِ ثُمَّ غَابَ أَبُوهُ فَطَلَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مِنْ أَحَدِ
الْكُفَلَاءِ الْمَالَ وَأَلْزَمَهُ بِوَزْنِهِ ، فَهَلْ لِهَذَا الَّذِي وَزَنَ
الْمَالَ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا وَزَنَهُ عَلَى الصَّبِيِّ أَوْ عَلَى مَالِ أَبِيهِ
الْغَائِبِ وَعَلَى رِفَاقِهِ فِي الْكَفَالَةِ أَمْ يَرُوحُ مَا وَزَنَهُ
مَجَّانًا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى مَنْ كَفَلَهُ ؛ فَإِنَّ كَفَالَةَ أَبِيهِ لَهُ
تَقْتَضِي
أَنَّهُ تَصَرَّفَ بِإِذْنِ أَبِيهِ
فَيَلْزَمُهُ الدَّيْنُ وَتَصِحُّ كَفَالَتُهُ . وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ قَدْ
اسْتَدَانَ لِأَبِيهِ وَلَكِنْ أَبُوهُ أَمَرَهُ فَالِاسْتِدَانَةُ لِلْأَبِ
وَإِلَّا فَلَهُ تَحْلِيفُ الْأَبِ أَنَّ الِاسْتِدَانَةَ لَمْ تَكُنْ لَهُ .
وَسُئِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ :
عَمَّنْ سَلَّمَ غَرِيمَهُ إلَى السَّجَّانِ فَفَرَّطَ فِيهِ حَتَّى هَرَبَ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنَّ السَّجَّانَ وَنَحْوَهُ مِمَّنْ هُوَ وَكِيلٌ عَلَى بَدَنِ الْغَرِيمِ ؛
بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ لِلْوَجْهِ عَلَيْهِ إحْضَارُ الْخَصْمِ فَإِنْ تَعَذَّرَ
إحْضَارُهُ - كَمَا لَوْ لَمْ يَحْضُرْ الْمَكْفُولُ - يَضْمَنُ مَا عَلَيْهِ
عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ .
بَابُ الْحَوَالَةِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ أَحَالَ بِدَيْنٍ عَلَى صَدَاقٍ حَالٍّ ثُمَّ إنَّ الْمُحِيلَ قَبَضَ الدَّيْنَ
مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ . فَهَلْ تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِذَلِكَ ؟ وَهَلْ
يَكُونُ هَذَا الْقَبْضُ صَحِيحًا مُبْرِئًا لِذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ؟
وَهَلْ لِلْمُحَالِ مُطَالَبَةُ الْمُحِيلِ الْقَابِضِ لِمَا قَبَضَهُ وَيَرْجِعُ
؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِشُرُوطِهَا وَلَيْسَ
لِلْمُحِيلِ لَهُ قَبْضُ الْمُحَالِ بِهِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ وَلَا تَبْرَأُ
ذِمَّةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِالْإِقْبَاضِ لَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ
الْمُحَالِ . وَلِلْمُحْتَالِ أَنْ يَطْلُبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَالِ
عَلَيْهِ لِيُعَادَ مِنْهُ فِي ذِمَّتِهِ وَمِنْ الْقَابِضِ دَيْنَهُ بِغَيْرِ
إذْنِهِ . وَإِنْ كَانَ قَبْضُ الْغَاصِبِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ بِمَنْزِلَةِ غَصْبِ
الْمُشَاعِ فَإِنَّ التَّعْيِينَ بِالْغَصْبِ كَالْقِسْمَةِ فَمَا لَهُ أَنْ
يُطَالِبَ الْغَاصِبَ بِالْقِسْمَةِ . وَلِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ
عَلَى الْمُحِيلِ بِمَا قَبَضَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ لَكِنْ لِلْخَصْمِ
تَحْلِيفُ الْمُقِرِّ لَهُ ؛ أَنَّ بَاطِنَ هَذَا الْإِقْرَارِ كَظَاهِرِهِ ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخِرُ المُجَلَّدِ التَاسِعِ وَالعِشْرِينَ
الْجُزْءُ الثَّلَاثُونَ
كِتَابُ الصُلْحِ إِلَى الوَقْفِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا بَابَانِ . كُلُّ بَابٍ فِي زُقَاقٍ غَيْرِ
نَافِذٍ وَأَحَدُهُمَا مَسْدُودٌ وَالْكُتُبُ تَشْهَدُ بِالْبَابَيْنِ
وَالْمَسْدُودُ هُوَ الْبَابُ الْأَصْلِيُّ فِي صَدْرِ الزُّقَاقِ ؛ فَأَرَادَ
أَنْ يَفْتَحَ الْبَابَ . فَهَلْ لَهُ أَنْ يَفْتَحَهُ ؟ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا اشْتَرَى دَارًا بِحُقُوقِهَا وَكَانَ ذَلِكَ الْبَابُ الَّذِي سُدَّ مِنْ
حُقُوقِهَا فَلَهُ أَنْ يَفْتَحَهُ كَمَا كَانَ أَوَّلًا . إلَّا أَنْ يَكُونَ
هَذَا الْحَقُّ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمَبِيعِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ دَارَيْنِ بَيْنَهُمَا شَارِعٌ فَأَرَادَ صَاحِبُ أَحَدِ الدَّارَيْنِ أَنْ
يُعَمِّرَ عَلَى دَارِهِ غُرْفَةً تُفْضِي إلَى سَدِّ الْفَضَاءِ عَنْ الدَّارِ
الْأُخْرَى . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ : إنْ كَانَ فِي ذَلِكَ
إضْرَارٌ بِالْجَارِ مِثْلَ أَنْ يُشْرِفَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مَا
يَمْنَعُ مُشَارَفَتَهُ الْأَسْفَلَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى
الْجَارِ بِأَنْ يَبْنِيَ مَا يَمْنَعُ الْإِشْرَافَ عَلَيْهِ أَوْ لَا يَكُونُ
فِيهِ إشْرَافٌ عَلَيْهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ الْبِنَاءِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى دَارًا وَهِيَ تُشْرِفُ إلَى طَرِيقِ الْمَارَّةِ ثُمَّ
إنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا . فَاشْتَرَى مِنْ وَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ
مِنْ جَانِبِ الطَّرِيقِ أَذْرُعًا مَعْلُومَةً وَأَقَامَ حَائِطًا فِيمَا
اشْتَرَاهُ وَأَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ سَابَاطًا
لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ دَارًا . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَصِحُّ
بَيْعُ الْأَرْضِ الْمُبْتَاعَةِ مِنْ وَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ الَّتِي فِي
طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَفْسُقُ الشَّاهِدُ الَّذِي يَشْهَدُ
بِهَا لِبَيْتِ الْمَالِ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا ادَّعَى الثَّانِي أَنَّ بِنَاءَهُ
لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ هَلْ يُسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُ ؟ وَمَا الضَّرَرُ
الَّذِي لِأَجْلِهِ يُمْنَعُ الْبِنَاءُ عَلَى الطَّرِيقِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِحَاكِمِ
الْمُسْلِمِينَ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَشْرُوحَةِ .
أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ
النَّافِذِ وَلَيْسَ لِوَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ بَيْعُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَتْ
الطَّرِيقُ وَاسِعَةً أَوْ
ضَيِّقَةً وَلَيْسَ مَعَ الشَّاهِدِ
عِلْمٌ لَيْسَ مَعَ سَائِرِ النَّاسِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ هَذِهِ
لِبَيْتِ الْمَالِ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لِرَجُلِ فَانْتَقَلَتْ عَنْهُ
إلَى بَيْتِ الْمَالِ وَأُدْخِلَتْ فِي الطَّرِيقِ بِطَرِيقِ الْغَصْبِ . وَأَمَّا
شَهَادَتُهُ أَنَّهَا لِبَيْتِ الْمَالِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا طَرِيقًا فَهَذَا
إنْ أَرَادَ أَنَّ الطَّرِيقَ الْمُشْتَرَكَةَ حَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ
يُسَوِّغْ ذَلِكَ بَيْعَهَا وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا مِلْكٌ لِبَيْتِ الْمَالِ
يَجُوزُ بَيْعُهَا كَمَا يُبَاعُ بَيْتُ الْمَالِ فَهَذِهِ شَهَادَةُ زُورٍ
يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالُهُ . وَلَيْسَ
لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِصِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ بَيْتَيْنِ : أَحَدُهُمَا شرقي الْآخَرِ وَالدُّخُولُ إلَى أَحَدِهِمَا مِنْ
تَحْتِ مِيزَابِ الْآخَرِ مِنْ سُلَّمٍ وَذَلِكَ مِنْ قَدِيمٍ . فَهَلْ لِصَاحِبِ
الْبَيْتِ الَّذِي سُلَّمُهُ وَمَجْرَاهُ تَحْتَ الْمِيزَابِ الْآخَرِ أَنْ
يَمْنَعَ هَذَا الْمِيزَابَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى هَذَا السُّلَّمِ لِأَجْلِ
الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَ الْحَقِّ الْقَدِيمِ مِنْ حَقِّهِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَحْدَثَ بُنْيَانًا ورواشنا عَلَى بَابِ الطَّبَقَاتِ عَلَيْهِ مِنْ
حَيْثُ يَكْشِفُ حَرِيمَ جَارِهِ وَطَبَقَ عَلَيْهِ بَابٌ مَطْلَعُهُ مِنْ حَيْثُ
لَا يَقْدِرُ يُنْزِلُ طَبَقَ الْعَجِينِ وَلَا يُطَلِّعُ قِرْبَةَ سَقَّاءٍ ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِلْجَارِ أَنْ يُحْدِثَ فِي الطَّرِيقِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي لَا
يُنْفِذُ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِ رَفِيقِهِ وَلَا شُرَكَائِهِ وَلَا أَنْ يُحْدِثَ
فِي مِلْكِهِ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ . وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلِلشَّرِيكِ
إزَالَةُ ضَرَرِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَبَعْدَهُ ؛ لَكِنْ إذَا أُزِيلَ قَبْلَ
الْبَيْعِ لَمْ يَعُدْ وَبَعْدَ الْبَيْعِ فَلِلْمُشْتَرِي فَسْخُ الْبَيْعِ
لِأَجْلِ هَذَا النَّقْصِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى حَوَانِيتَ أَرْضًا وَبَنَى مِنْ مُدَّةِ عِشْرِينَ سَنَةً
وَفَوْقَهُمْ عُلْوٌ فَحَضَرَ مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْعُلْوَ مِلْكُهُ وَلَمْ
يُصَدِّقْهُ مَالِكُ الْحَوَانِيتِ عَلَى صِحَّةِ مِلْكِهِ وَأَنْشَأَ عَلَى
الْعُلْوِ عِمَارَةً جَدِيدَةً فَهَلْ يَلْزَمُهُ
هَدْمُ مَا أَنْشَأَ مُسْتَجَدًّا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ يَدُهُ عَلَى الْعُلْوِ وَصَاحِبُ السُّفْلِ لَا يَدَّعِي أَنَّهُ
لَهُ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْيَدِ حَتَّى يُقِيمَ غَيْرُهُ حُجَّةَ أَنَّهُ لَهُ .
وَأَمَّا مَا أَنْشَأَهُ مِنْ الْعِمَارَةِ الْجَدِيدَةِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛
إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ مِلْكِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى طَبَقَةً وَلَمْ يَكُنْ يَرُوزُ ثُمَّ عَمَّرَهَا وَأَحْدَثَ
رَوْشَنًا عَلَى جِيرَانِهِ فِي زُقَاقٍ لَيْسَ نَافِذًا وَادَّعَى أَنَّ فِيهِ
بَابًا شَرْقِيَّ الظَّاهِرِيَّةِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ الرَّوْشَنَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ فِي الدَّرْبِ
الَّذِي لَا يَنْفُذُ رَوْشَنًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ
يَتَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ ؛ لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ إحْدَاثِهِ فِي
الدَّرْبِ النَّافِذِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ .
وَأَمَّا الدَّرْبُ الَّذِي لَا يَنْفُذُ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ
بَابٌ إلَى مَدْرَسَةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَافِذِ . وَإِذَا
ادَّعَى أَنَّ لَهُ فِيهِ حَقَّ رَوْشَنٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ
لَكِنْ لَهُ تَحْلِيفُ الْجِيرَانِ الَّذِينَ تَنَازَعُوا فِيهِ عَلَى نَفْيِ
اسْتِحْقَاقِهِ لِذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ لَهُ دَارٌ وَبَيْنَهُمْ طَرِيقٌ وَنَزَلَ عَلَى أَحَدِهِمْ بِأَنْ كَانَ
سَابَاطًا وَلَمْ يَتَضَرَّرْ الْجَارُ وَالْمَارُّ وَقَصَدَ أَحَدُ الْجِيرَانِ
أَنْ يُسَاوِيَهُ بِالْبُرُوزِ وَيَخْرُجَ عَنْ جِيرَانِهِ [ فِي ] (1) الطَّرِيقِ
وَيَضُرَّ بِالْجَارِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا السَّابَاطُ وَنَحْوُهُ إذَا كَانَ مُضِرًّا فَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُخْرِجَ فِي طَرِيقِ
الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا مِنْ أَجْزَاءِ الْبِنَاءِ حَتَّى إنَّهُ يُنْهَى عَنْ
تَجْصِيصِ الْحَائِطِ مِنْ خَارِجٍ إلَّا أَنْ يَدْخُلَ حَدُّهُ بِمِقْدَارِ
غِلَظِ الْجَصِّ . وَأَمَّا إذَا كَانَ السَّابَاطُ وَنَحْوُهُ لَا يَضُرُّ
بِالطَّرِيقِ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . قِيلَ : يَجُوزُ
كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ . وَقِيلَ : يَجُوزُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ كَالْقَوْلِ
الْأَخِيرِ . وَقِيلَ : إنْ مَنَعَهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ امْتَنَعَ كَمَا هُوَ
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ زُقَاقٍ غَيْرِ نَافِذٍ وَفِيهِ جَمَاعَةُ سُكَّانٍ وَفِيهِمْ شَخْصٌ لَهُ
دَارٌ . فَهَلْ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا غَيْرَ بَابِهِ الْأَصْلِيِّ ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ فِي الدَّرْبِ الَّذِي لَا يَنْفُذُ بَابًا يَكُونُ
أَقْرَبَ إلَى آخِرِ الدَّرْبِ مِنْ بَابِهِ الْأَصْلِيِّ ؛ إلَّا بِإِذْنِ
الْمُشَارِكِينَ لَهُ فِي الِاسْتِطْرَاقِ فِي ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ عَمَّرَ حَوَانِيتَ وَبِجَنْبِهَا خَرِبَةٌ لِإِنْسَانِ فَهَلْ
لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَفْتَحَ مُشْرَعًا مِنْ الْخَرِبَةِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ مُشْرَعًا - يَعْنِي بَابًا فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ
- إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ حَقُّ الِاسْتِطْرَاقِ
. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ فَهَدَمَاهُ إلَى آخِرِهِ .
فَهَلْ يَجُوزُ تَعْلِيَتُهُ عَلَى مِلْكِ جَارِهِمَا الْمُسْلِمِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ لَهُمَا تَعْلِيَتُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُسْلِمِ
فَإِنَّ تَعْلِيَةَ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ مَحْظُورَةٌ وَمَا لَا يَتِمُّ
اجْتِنَابُ الْمَحْظُورِ إلَّا بِاجْتِنَابِهِ فَهُوَ مَحْظُورٌ . كَمَا فِي مَسَائِلِ
اخْتِلَاطِ الْحَرَامِ بِالْحَلَالِ كَمَا لَوْ اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ
وَالْمَائِعَاتِ نَجَاسَةٌ ظَاهِرَةٌ وَكَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ مَأْكُولٍ
وَغَيْرِ مَأْكُولٍ كَالسِّمْعِ وَالْعِسْبَارِ وَالْبَغْلِ وَكَمَا فِي "
مَسَائِلِ الِاشْتِبَاهِ " أَيْضًا : مِثْلَ أَنْ تَشْتَبِهَ أُخْتُهُ
بِأَجْنَبِيَّةِ وَالْمُذَكَّى بِالْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ
اجْتِنَابُ الْمَحْظُورَاتِ إلَّا بِاجْتِنَابِ الْمُبَاحِ فِي الْأَصْلِ ؛ وَجَبَ
اجْتِنَابُهُمَا جَمِيعًا كَمَا أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِفِعْلِهِ
فَفِعْلُهُ وَاجِبٌ . وَإِنَّمَا ذَاكَ إذَا كَانَ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ
وَهُوَ مَقْدُورٌ لِلْمُكَلَّفِ وَهُنَا لَا يُمْكِنُ مَنْعُ الذِّمِّيِّ مِنْ
تَعْلِيَةِ بِنَائِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ شَرِيكُهُ فَيَجِبُ
مَنْعُهُمَا وَلَيْسَ فِي مَنْعِ الْمُسْلِمِ مِنْ تَعْلِيَةِ بِنَائِهِ عَلَى
مُسْلِمٍ تَعْلِيَةُ كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ بِخِلَافِ مَا إذَا أَمْكَنَ
الشَّرِيكَ مِنْ التَّعْلِيَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ
فِي ذَلِكَ عُلُوٌّ لِلْكَافِرِ عَلَى
الْمُسْلِمِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَإِذَا عَلَّيَا الْبِنَاءَ وَجَبَ هَدْمُهُ .
وَلَا يَجُوزُ لِمُسْلِمِ أَنْ يَجْعَلَ جَاهَ الْمُسْلِمِ ذَرِيعَةً لِرَفْعِ
كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ . وَمَنْ شَارَكَ الْكَافِرَ أَوْ اسْتَخْدَمَهُ وَأَرَادَ
بِجَاهِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَرْفَعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ بَخَسَ
الْإِسْلَامَ وَاسْتَحَقَّ أَنْ يُهَانَ الْإِهَانَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ بُسْتَانٍ مُشْتَرَكٍ حَصَلَتْ فِيهِ الْقِسْمَةُ فَأَرَادَ أَحَدُ
الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَبْنِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ جِدَارًا فَامْتَنَعَ
أَنْ يَدَعَهُ يَبْنِي أَوْ يَقُومَ مَعَهُ عَلَى الْبِنَاءِ .
فَأَجَابَ :
إنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ وَيُؤْخَذُ الْجِدَارُ مِنْ أَرْضِ كُلٍّ مِنْهُمَا
بِقَدْرِ حَقِّهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ بُسْتَانٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ ثُمَّ قَسَمَاهُ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ
يَبْنِيَ حَائِطَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ فَامْتَنَعَ الشَّرِيكُ أَنْ
يُخَلِّيَهُ يَبْنِي فِي أَرْضِهِ ، وَعَلَى مَنْ غَرَامَةُ الْبِنَاءِ ؟
فَأَجَابَ :
يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ أَنْ يَبْنِيَ الْجِدَارَ فِي الْحَقَّيْنِ مِنْ
الشَّرِيكَيْنِ جَمِيعًا إذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ إلَى السُّتْرَةِ .
وَسُئِلَ أَيْضًا :
فَلَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنْ امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا أَنْ
يَبْنِيَ مَعَ شَرِيكِهِ وَبَنَاهُ أَحَدُهُمَا بِمَالِهِ لَكِنَّهُ وَضَعَ بَعْضَ
أَسَاسِهِ مِنْ سَهْمِ هَذَا وَبَعْضَهُ مِنْ سَهْمِ هَذَا فَهَلْ لَهُ أَنْ
يَمْنَعَ الَّذِي لَمْ يَبْنِ مَعَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْجِدَارِ ؟ مِثْلَ أَنْ
يَضَعَ جَارُهُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَوْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَوْ كَانَ الْجِدَارُ مُخْتَصًّا بِأَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ
جَارَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْجَارُ وَلَا يَضُرَّ
بِصَاحِبِ الْجِدَارِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِمِصْرِ شِرَاءً صَحِيحًا شَرْعِيًّا
وَبَنَى فَتَعَرَّضَ لَهُ إنْسَانٌ وَمَنَعَهُ مِنْ الْبِنَاءِ فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ
؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا بَنَى فِي مِلْكِهِ بِنَاءً لَمْ يَتَعَدَّ بِهِ عَلَى
الْجَارِ ؛ لَكِنْ يَخَافُ أَنْ يَسْكُنَ فِي الْبِنَاءِ الْجَدِيدِ نَاسٌ
آخَرُونَ فَيَنْقُصُ كِرَاءُ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ لِأَجْلِ
ذَلِكَ . بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ مِلْكٌ وَهُوَ وَاقِعٌ فَأَعْلَمُوهُ بِوُقُوعِهِ فَأَبَى أَنْ
يَنْقُضَهُ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى صَغِيرٍ فَهَشَّمَهُ هَلْ يَضْمَنُ ؟ أَوْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ
مُفَرِّطٌ فِي عَدَمِ إزَالَةِ هَذَا الضَّرَرِ وَالضَّمَانُ عَلَى الْمَالِكِ
الرَّشِيدِ الْحَاضِرِ أَوْ وَكِيلِهِ إنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ وَلِيِّهِ إنْ
كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ .
وَوُجُوبُ الضَّمَانِ فِي مِثْلِ هَذَا
هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَالْوَاجِبُ نِصْفُ
الدِّيَةِ وَالْأَرْشُ فِي مَا لَا تَقْدِيرَ فِيهِ وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى
عَاقِلَةِ هَؤُلَاءِ إنْ أَمْكَنَ ؛ وَإِلَّا فَعَلَيْهِمْ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
إذَا احْتَاجَ إلَى إجْرَاءِ مَائِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ وَلَا ضَرَرَ فَلَهُ
ذَلِكَ وَعَنْهُ لِرَبِّهَا (1) مَنْعُهُ كَمَا لَوْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَوْ عَنْ
إجْرَائِهِ فِيهَا . قَالَ : وَلَوْ كَانَ لِرَجُلِ نَهْرٌ يَجْرِي فِي أَرْضٍ
مُبَاحَةٍ فَأَرَادَ جَارُ النَّهْرِ أَنْ يُعَرِّضَهُ إلَى أَرْضِهِ أَوْ
بَعْضِهِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ إلَّا انْتِفَاعُهُ بِالْمَاءِ كَمَا لَوْ كَانَ
يَنْتَفِعُ بِهِ فِي مَجْرَاهُ . وَلَكِنَّهُ يُسَهِّلُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعَ
بِهِ . فَأَفْتَيْت بِجَوَازِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ ؛ فَإِنَّ
الْمُرُورَ فِي الْأَرْضِ . كَمَا أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُ الْمَاءِ
فَيَكُونُ حَقًّا لَهُ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَيْضًا .
كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ . فَهُوَ هُنَا انْتَفَعَ بِإِجْرَاءِ مَائِهِ كَمَا
أَنَّهُ هُنَاكَ انْتَفَعَ بِأَرْضِهِ .
وَنَظِيرُهَا لَوْ كَانَ لِرَبِّ الْجِدَارِ مَصْلَحَةٌ فِي وَضْعِ الْجُذُوعِ
عَلَيْهِ مِنْ
غَيْرِ ضَرَرِ الْجُذُوعِ . وَعَكْسُ
مَسْأَلَةِ إمْرَارِ الْمَاءِ : لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْرِيَ فِي أَرْضِهِ مِنْ
بُقْعَةٍ إلَى بُقْعَةٍ وَيُخْرِجَهُ إلَى أَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ إلَى أَرْضِ
جَارٍ رَاضٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَلَى رَبِّ الْمَاءِ ضَرَرٌ ؛ لَكِنْ
يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ شَغْلَ الْمَكَانِ
الْفَارِغِ . فَكَذَلِكَ تَفْرِيغَ الْمَشْغُولِ . وَالضَّابِطُ أَنَّ الْجَارَ .
إمَّا أَنْ يُرِيدَ إحْدَاثَ الِانْتِفَاعِ بِمَكَانِ جَارِهِ أَوْ إزَالَةَ
انْتِفَاعِ الْجَارِ الَّذِي يَنْفَعُهُ زَوَالُهُ وَلَا يَضُرُّ الْآخَرَ .
وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْمُجَاوَرَةَ تُوجِبُ لِكُلِّ مِنْ الْحَقِّ مَا لَا
يَجِبُ لِلْأَجْنَبِيِّ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا لَا يَحْرُمُ لِلْأَجْنَبِيِّ .
فَيُبِيحُ الِانْتِفَاعَ بِمِلْكِ الْجَارِ الْخَالِي عَنْ ضَرَرِ الْجَارِ
وَيَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْمُنْتَفِعِ إذَا كَانَ فِيهِ إضْرَارٌ .
فَصْلٌ :
وَإِذَا قُلْنَا : بِإِجْرَاءِ مَائِهِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
فَاحْتَاجَ أَنْ يُجْرِيَ مَاءَهُ فِي طَرِيقِ مِيَاهٍ مِثْلَ أَنْ يُجْرِيَ مِيَاهَ
سُطُوحِهِ وَغَيْرَهَا فِي قَنَاةٍ لِجَارِهِ أَوْ يَسُوقَ فِي قَنَاةٍ غَدِيرَ
مَاءٍ ثُمَّ يُقَاسِمُهُ جَازَ .
بَابُ الْحَجْرِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَسَفَهُ إنْسَانٌ عَلَى دَيْنٍ يُرِيدُ حَبْسَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ .
فَهَلْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ مُعْسِرٌ ؟ أَوْ يُلْزَمُ بِإِقَامَةِ
الْبَيِّنَةِ فِي ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الدَّيْنُ لَزِمَهُ بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ كَالضَّمَانِ وَلَمْ يُعْرَفْ
لَهُ مَالٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي الْإِعْسَارِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ اشْتَرَى مِنْ ذِمِّيٍّ عَقَارًا ثُمَّ رَمَى نَفْسَهُ
عَلَيْهِ وَاشْتَرَى مِنْهُ قِسْطَيْنِ وَالْتَزَمَ يَمِينًا شَرْعِيَّةً
الْوَفَاءَ إلَى شَهْرٍ . فَهَلْ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُعَلِّمَهُ حِيلَةً وَهُوَ
قَادِرٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ الْغَرِيمُ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ لَمْ يَكُنْ
لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَ رَبَّ الدَّيْنِ بِتَرْكِ مُطَالَبَتِهِ وَلَا يَطْلُبَ
مِنْهُ حِيلَةً لَا حَقِيقَةَ لَهَا
لِأَجْلِ ذَلِكَ . مِثْلَ أَنْ يَقْبِضَ
مِنْهُ ثُمَّ يُعِيدَ إلَيْهِ غَيْرَ حَقِيقَةِ اسْتِيفَاءٍ . وَإِنْ كَانَ
مُعْسِرًا وَجَبَ إنْظَارُهُ . وَالْيَمِينُ الْمُطْلَقَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى
حَالِ الْقُدْرَةِ ؛ لَا عَلَى حَالِ الْعَجْزِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ تَرَكَ بَعْدَ مَوْتِهِ كَرْمًا وَدَارًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَوْعِبُ
ذَلِكَ كُلَّهُ وَلَهُ مِنْ الْوَرَثَةِ : زَوْجَةٌ وَبِنْتٌ وَالسُّلْطَانُ . . .
(1) فَطَلَبَ أَرْبَابُ الدَّيْنِ مِنْ الْوَرَثَةِ بَيْعَ الْمِلْكِ فَهَلْ
يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ الْبَيْعُ ؟ أَوْ الْحَاكِمُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ بَاعَ الْوَرَثَةُ وَوَفَّوْا مِنْ الثَّمَنِ جَازَ . وَإِنْ سَلَّمُوهُ
لِلْغُرَمَاءِ فَبَاعَهُ الْغُرَمَاءُ وَاسْتَوْفَوْا دُيُونَهُمْ جَازَ . وَإِنْ
طَلَبُوا مِنْ الْحَاكِمِ أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ أَمِينًا يَتَوَلَّى ذَلِكَ جَازَ .
وَإِنْ أَقَامُوا هُمْ أَمِينًا يَتَوَلَّى ذَلِكَ جَازَ . وَإِذَا سَلَّمَ
الْوَرَثَةُ ذَلِكَ إلَى الْغُرَمَاءِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَرَثَةِ أَنْ
يَتَوَلَّوْا الْبَيْعَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ بَاعَ قُمَاشًا لِإِنْسَانِ تَاجَرَ وَكَسَبَ فِيهِ شَيْئًا
مُعَيَّنًا وَقَسَّطَ عَلَيْهِ الثَّمَنَ وَالْمَدْيُونُ يَطْلُبُ السَّفَرَ
وَلَمْ يُقِمْ لَهُ كَافِلًا . فَهَلْ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ
السَّفَرِ . أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى وَفَائِهِ فَلَهُ أَنْ
يَمْنَعَهُ مِنْ السَّفَرِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ . وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ
مُؤَجَّلًا وَمَحَلُّهُ قَبْلَ قُدُومِ الْمَدِينِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ
السَّفَرِ حَتَّى يُوَثِّقَ بِرَهْنِ يَحْفَظُ الْمَالَ أَوْ كَفِيلٍ . وَإِنْ
كَانَ الدَّيْنُ لَا يَحِلُّ إلَّا بَعْدَ قُدُومِ الْمَدِينِ ؛ فَفِيهِ نِزَاعٌ
بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَهُوَ مُحْتَاجٌ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ وَمَالُهُ جِدَةٌ .
فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُوَفِّيَ بِهِ دَيْنَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ حِينَ أَعْتَقَهُ مُوسِرًا لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ
لَهُ وَفَاءٌ غَيْرُ الْعَبْدِ : فَقَدْ عَتَقَ وَلَا رُجُوعَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ
حِينَ أَعْتَقَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ : فَفِي صِحَّتِهِ نِزَاعٌ
بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ ادَّعَى عَلَى غَرِيمٍ لَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَاعْتَرَفَ لَهُ
بِدَيْنِهِ وَبِالْقُدْرَةِ وَالْمَلَاءَة فَاعْتَقَلَهُ الْحَاكِمُ وَحَجَرَ
عَلَيْهِ عَقِيبَ ذَلِكَ . ثُمَّ إنْ الْمُعْتَقَلُ أَرَادَ إثْبَاتَ إعْسَارِهِ
عِنْدَ حَاكِمٍ آخَرَ ؛ فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا تُقْبَلُ دَعْوَى إعْسَارِهِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِالْقُدْرَةِ وَبَعْدَ
الْحَجْرِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ السَّبَبَ الَّذِي أَزَالَ الْمَلَاءَةَ
وَيَكُونُ ذَلِكَ مُمْكِنًا فِي الْعَادَةِ كَحَرْقِ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا
مَتَاعُهُ وَنَحْوُهُ ؛ وَلَيْسَ لَهُ طَلَبُ إتْمَامِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ .
وَأَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ وَيُثْبِتَهُ
عِنْد غَيْرِ الْحَاكِمِ الَّذِي حَبَسَهُ وَحَجَرَ عَلَيْهِ بِدُونِ إذْنِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اسْتَدَانَ مِنْ التُّجَّارِ أَمْوَالًا وَطُولِبَ بِهَا وَامْتَنَعَ
مِنْ الْوَفَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ وَاعْتَقَلُوهُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ
. فَهَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ عُقُوبَتُهُ حَتَّى يُوَفِّيَ مَا عَلَيْهِ ؟
وَمَاذَا حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا امْتَنَعَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ إظْهَارِ مَالِهِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ
تَوْفِيَةِ النَّاسِ جَمِيعَ حُقُوقِهِمْ وَكَانَ مَالُهُ ظَاهِرًا وَاحْتِيجَ
إلَى التَّوْفِيَةِ إلَى فِعْلٍ مِنْهُ وَامْتَنَعَ مِنْهُ وَأَصَرَّ عَلَى
الْحَبْسِ : فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ حَتَّى يَقُومَ بِالْوَاجِبِ
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فِي مَذْهَبِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ . وَقَدْ صَرَّحَ
بِذَلِكَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ والخراسانيين
وَأَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ
نِزَاعًا بَلْ كَرَّرُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ
كُتُبِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ مَعَ ذِكْرِهِمْ لَهَا فِي مَوْضِعِهَا الْمَشْهُورِ
ذَكَرُوهَا فِي غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرُوهَا فِي ( بَابِ نِكَاحِ الْكُفَّارِ )
وَجَعَلُوهَا أَصْلًا قَاسُوا عَلَيْهِ إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَتَحْتَهُ
أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَامْتَنَعَ مِنْ الِاخْتِيَارِ
قَالُوا : يُضْرَبُ حَتَّى يَخْتَارَ ؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ فِعْلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ وَيُضْرَبُ حَتَّى يَقُومَ بِهِ كَمَا لَوْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ : { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } . وَالظَّالِمُ مُسْتَوْجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } " اللَّيُّ : الْمَطْلُ وَالْوَاجِدُ : الْقَادِرُ . فَقَدْ أَبَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقَادِرِ الْمَاطِلِ عِرْضَهُ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ . وَالْمَعَاصِي تَنْقَسِمُ إلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ وَفِعْلِ مَحْظُورٍ . فَإِذَا كَانَتْ الْعُقُوبَةُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ - كَعُقُوبَةِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ مِنْ تَارِكِي الْوَاجِبِ - عُوقِبَ حَتَّى يَفْعَلَهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ ذَكَرُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهُ يُضْرَبُ مَرَّةً بَعْد أُخْرَى . حَتَّى يُؤَدِّيَ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ ضَرْبَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِتِسْعَةِ وَثَلَاثِينَ سَوْطًا . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ ؟ أَمْ لَيْسَ بِمُقَدَّرِ ؟ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُعَزِّرَهُ عَلَى امْتِنَاعِهِ عُقُوبَةً لِمَا مَضَى وَلَهُ أَيْضًا أَنْ يُعَاقِبَهُ حَتَّى يَتَوَلَّى الْوَفَاءَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَتَوَلَّى هُوَ بَيْعَ مَالِهِ وَوَفَاءَ الدَّيْنِ .
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا
لِلْحَاكِمِ ؛ لَكِنْ مَتَى رَأَى أَنْ يُلْزِمَهُ هُوَ بِالْبَيْعِ وَالْوَفَاءِ
زَجْرًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ عَنْ الْمَطْلِ أَوْ لِكَوْنِ الْحَاكِمِ مَشْغُولًا
عَنْ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ أَوْ لِمَفْسَدَةِ تُخَافُ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ
عُقُوبَتُهُ بِالضَّرْبِ حَتَّى يَتَوَلَّى ذَلِكَ . فَإِنْ قَالَ : إنَّ فِي
بَيْعِهِ بِالنَّقْدِ فِي هَذَا الْوَقْتِ عَلَيَّ خَسَارَةً ؛ وَلَكِنْ أَبِيعُهُ
إلَى أَجَلٍ وَأُحِيلُكُمْ بِهِ . وَقَالَ الْغُرَمَاءُ : لَا نَحْتَالُ ؛ لَكِنْ
نَحْنُ نَرْضَى أَنْ يُبَاعَ إلَى هَذَا الْأَجَلِ وَأَنْ يَسْتَوْفِيَ
وَيُوَفِّيَ . وَمَا ذَهَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي كَانَ مِنْ مَالِهِ . فَإِنَّهُ
يُجَابُ الْغُرَمَاءُ إلَى ذَلِكَ . وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُقِيمَ مَنْ
يَسْتَوْفِي وَيُوَفِّي مَعَ عُقُوبَتِهِ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ .
وَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَطْلُبُوا تَعْجِيلَ بَيْعِ مَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ نَقْدًا
إذَا بِيعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ . وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إلَى ذَلِكَ . وَلِلْحَاكِمِ
أَنْ يَفْعَلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَمْ يُوَفِّهِ حَتَّى طُولِبَ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ
وَغَيْرِهِ وَغَرِمَ أُجْرَةَ الرِّحْلَةِ . هَلْ الْغُرْمُ عَلَى الْمَدِينِ ؟
أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ قَادِرًا عَلَى
الْوَفَاءِ
وَمَطَلَهُ حَتَّى أَحْوَجَهُ إلَى
الشِّكَايَةِ فَمَا غَرِمَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الظَّالِمِ
الْمُمَاطِلِ ؛ إذَا غَرَّمَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ.
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ حُبِسَ بِدَيْنِ وَلَيْسَ لَهُ وَفَاءٌ إلَّا رَهْنٌ عِنْدَ الْغَرِيمِ
فَهَلْ يُمْهَلُ وَيُخْرَجُ إلَى أَنْ يَبِيعَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَفَاءٌ غَيْرُ الرَّهْنِ وَجَبَ عَلَى الْغَرِيمِ
إمْهَالُهُ حَتَّى يَبِيعَهُ فَمَتَى لَمْ يُمْكِنْ بَيْعُهُ إلَّا بِخُرُوجِهِ
أَوْ كَانَ فِي بَيْعِهِ فِي الْحَبْسِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَجَبَ إخْرَاجُهُ
لِيَبِيعَهُ وَيُضْمَنَ عَلَيْهِ أَوْ يَمْشِيَ الْغَرِيمُ أَوْ وَكِيلُهُ إلَيْهِ
.
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ وَلَهُ مِلْكٌ لَا تَفْضُلُ فَضْلَةٌ عَنْ
نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ وَإِذَا أَرَادَ بَيْعَهُ لَمْ يَتَهَيَّأْ إلَّا
بِدُونِ ثَمَنِ مِثْلِهِ . فَهَلْ يُلْزِمُهُ بَيْعَهُ بِدُونِ ثَمَنِ مِثْلِهِ ؟
وَإِذَا لَمْ يُلْزِمْهُ بَيْعَهُ فَهَلْ يُقَسِّطُ الدَّيْنَ عَلَيْهِ عَلَى
قَدْرِ حَالِهِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يُبَاعُ إلَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ الْمُعْتَادِ غَالِبًا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ
؛ إلَّا أَنْ
تَكُونَ الْعَادَةُ تَغَيَّرَتْ
تَغَيُّرًا مُسْتَقِرًّا فَيَكُونُ حِينَئِذٍ ثَمَنُ الْمِثْلِ قَدْ نَقَصَ
فَيُبَاعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ الْمُسْتَقِرِّ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ بَيْعُهُ
فَعَلَى الْغَرِيمِ الْإِنْظَارُ إلَى وَقْتِ السَّعَةِ أَوْ الْمَيْسَرَةِ وَلَهُ
أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ كُلَّ وَقْتٍ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ التَّقْسِيطُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَزَّازٍ أَسْلَمَتْ لَهُ امْرَأَةٌ شَقَّتَيْ غَزْلٍ فَهَرَبَ وَخُتِمَ
عَلَى دُكَّانِهِ فَاشْتَكَتْ صَاحِبَةُ الشَّقَّتَيْنِ عَلَى غَزْلِهَا فَرَسَمَ
الْوَالِي أَنْ يَفْتَحَ الدُّكَّانَ وَكُلُّ مَنْ لَقِيَ شَيْئًا مِنْ رَحْلِهِ
يَأْخُذُهُ وَبَقِيَتْ الشَّقَّةُ الْوَاحِدَةُ عَلَى النَّوْلِ فَجَاءَ إنْسَانٌ
مَوْقِعٌ فَذَكَرَ أَنَّ لَهُ عِنْدَ الْقَزَّازِ قَلِيلَ غَزْلٍ فَاشْتَكَى إلَى
الْقَاضِي فَرَسَمَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَقَّةُ الْمَرْأَةَ وَيَقْسِمَ عَلَى
أَصْحَابِ الْأَمَانَاتِ وَأَنْظَرَ حَالَ الْمَرْأَةِ .
فَأَجَابَ :
مَا كَانَ فِي حَانُوتِ الْمُفْلِسِ مِنْ الْأَمَانَاتِ مِثْلَ الثِّيَابِ الَّذِي
يَنْسِجُهَا لِلنَّاسِ وَالْغَزْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا لِأَصْحَابِهَا
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَا تُعْطَى لِغَيْرِ صَاحِبِهَا . وَإِذَا كَانَ قَدْ
أَخَذَ لِلنَّاسِ غَزْلًا وَلَمْ يُوجَدْ عَيْنُ الْغَزْلِ لَمْ يَجُزْ لِصَاحِبِ
الْغَزْلِ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ غَيْرِهِ بَدَلًا عَنْ مَالِهِ بَلْ إذَا أَقْرَضَ
فِيهَا كَانَتْ فِي ذِمَّتِهِ وَكَذَلِكَ مَا أَعْطَاهُ مِنْ الْأُجْرَةِ وَلَمْ
يُوَفِّ الْعَمَلَ ؛ فَإِنَّهَا
دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ . وَالدُّيُونُ
الَّتِي فِي ذِمَّتِهِ لَا تُوَفَّى مِنْ أَعْيَانِ أَمْوَالِ النَّاسِ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَمَنْ أَقَامَ مِنْ النَّاسِ بَيِّنَةً بِأَنَّ هَذَا
عَيْنُ مَالِهِ أَخَذَهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ أَحَدٌ بَيِّنَةً وَكَانَ الرَّجُلُ
خَائِفًا قَدْ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي يَنْسِجُهُ لَيْسَ هُوَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ
لِلنَّاسِ لَمْ يُوَفِّ دُيُونَهُ مِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ
يُعْطَى بَعْضَ الْغَزْلِ بِدَعْوَاهُ دُونَ بَعْضٍ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَعْدِلَ فِي
ذَلِكَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ . وَإِنْ أَقَامَ وَاحِدٌ شَاهِدًا وَحَلَفَ مَعَ
شَاهِدِهِ حُكِمَ لَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ تَعَذَّرَ مَا يُعْرَفُ بِهِ مَالُ هَذَا
وَمَالُ هَذَا إلَّا عَلَامَاتٌ مُمَيِّزَةٌ ؛ مِثْلَ اسْمِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى
مَتَاعِهِ : عُمِلَ بِذَلِكَ . وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ كُلُّهُ أُقْرِعَ بَيْنَ
الْمُدَّعِينَ فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ عَلَى عَيْنٍ أَخَذَهَا مَعَ يَمِينِهِ
. فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْقَرْعَةُ فِي مِثْلِ هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى وَفَاءِ دَيْنِهِ وَثَبَتَ
أَنَّهُ مَا حَصَلَ مَعَهُ شَيْءٌ أَوْفَاهُ وَلَهُ وَالِدٌ لَهُ مَالٌ وَلَمْ
يُوَفِّ عَنْهُ شَيْئًا . وَيُرِيدُ وَالِدُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَهُ إلَى
الْحَجِّ . فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ الَّذِي عَلَيْهِ بِحُكْمِ
الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ وَأَنَّ مَا
مَعَهُ شَيْءٌ يَحُجُّ بِهِ إلَّا وَالِدُهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ مَتَى حَجَّ بِهِ أَبُوهُ مِنْ مَالِهِ جَازَ ذَلِكَ
وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَتَنَازَعُوا : هَلْ
يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إذَا بَذَلَ لَهُ أَبُوهُ الْمَالَ ؟ وَالْخِلَافُ فِي
ذَلِكَ مَشْهُورٌ . وَالْفَرْضُ يَسْقُطُ عَنْهُ سَوَاءٌ مَلَّكَهُ أَبُوهُ مَالًا
أَوْ أَنَفَقَ عَلَيْهِ وَأَرْكَبَهُ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ . فَإِنْ كَانَ
عَلَيْهِ دَيْنٌ فَمَتَى أَذِنَ لَهُ الْغُرَمَاءُ فِي السَّفَرِ لِلْحَجِّ فَلَا
رَيْبَ فِي جَوَازِ السَّفَرِ - وَإِنْ مَنَعُوهُ مِنْ السَّفَرِ لِيُقِيمَ
وَيَعْمَلَ وَيُوَفِّيَهُمْ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ وَكَانَ مُقَامَهُ لِيَكْتَسِبَ
وَيُوَفِّيَ الْغُرَمَاءَ أَوْلَى بِهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَجِّ -
وَكَانَ لَهُمْ مَنْعُهُ مِنْ الْحَجِّ وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ
إذَا عَلِمُوا إعْسَارَهُ . وَلَا يَمْنَعُوهُ الْحَجَّ . لَكِنْ إنْ قَالَ
الْغُرَمَاءُ : نَخَافُ أَنْ يَحُجَّ فَلَا يَرْجِعَ فَنُرِيدُ أَنْ يُقِيمَ
كَفِيلًا بِبَدَنِهِ تَوَجَّهَ مُطَالَبَتُهُمْ بِهَذَا فَإِنَّ حُقُوقَهُمْ
بَاقِيَةٌ وَلَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهَا . وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ
وَالدَّيْنُ حَالٌّ كَانَ لَهُمْ مَنْعُهُ بِلَا رَيْبٍ . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ
مُؤَجَّلًا يَحِلُّ قَبْلَ رُجُوعِهِ فَلَهُمْ مَنْعُهُ حَتَّى يُوَثِّقَ بِرَهْنِ
أَوْ كَفِيلٍ وَهُنَاكَ حَتَّى يُوَفِّيَ أَوْ يُوَثِّقَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ لَا
يَحِلُّ إلَّا بَعْدَ رُجُوعِهِ وَالسَّفَرُ آمِنٌ فَفِي مَنْعِهِمْ
لَهُ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ هُمَا
رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ مَخُوفًا كَالْجِهَادِ
فَلَهُمْ مَنْعُهُ إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَإِذَا تَمَكَّنَ الْغُرَمَاءُ مِنْ
اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِمْ فَلَهُمْ تَخْلِيَتُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ
كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : لَهُمْ
مُلَازَمَتُهُ وَهَذَا فِي الْمَقَامِ فَإِذَا أَرَادَ الْمُعْسِرُ أَنْ . . . (1)
كَانَ فِيهِ نِزَاعٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَتَلِفَ مَالُهُ وَلَهُ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ
تَشْهَدُ لَهُ بِتَلَفِ مَالِهِ ؛ لَكِنَّهَا لَا تَدْرِي : هَلْ تَجَدَّدَ لَهُ
مَالٌ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ فَهَلْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي
الْإِعْسَارِ ؟ أَمْ يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا قَالَ : لَمْ يَحْدُثْ لِي بَعْدَ تَلَفِ مَالِي شَيْءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ
مَعَ يَمِينِهِ فِي ذَلِكَ : فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا
، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَنْ رَجُلٍ طَحَّانٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَسْطُورٌ مِنْ مُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى
عَشْرِ سِنِينَ وَاسْتَوْفَى أَكْثَرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنْ تَأَخَّرَ لَهُ
مِنْهُ إلَّا دُونَ الْمِائَةِ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْمَسْطُورِ أَتَى
بِمَمَالِيكَ مِنْ جِهَةِ أَمِيرٍ وَأَخَذُوا لَهُ رَأْسَيْ خَيْلٍ مِنْ غَيْرِ
رَهْنٍ شَرْعِيٍّ وَلَا دَعْوَى عِنْدَ حَاكِمٍ وَلَا أَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ
وَاسْتَعْمَلَهُمَا مِنْ مُدَّةِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ ادَّعَى عَدَمَهُمْ .
فَهَلْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِأُجْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمْ عَنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ
الْمَذْكُورَةِ وَقِيمَةِ أَثْمَانِهَا ؟ وَهَلْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي
الْقِيمَةِ أَوْ قَوْلُ مَالِكِهِمَا فِي الْأُجْرَةِ وَالثَّمَنِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا لَمْ يَكُنْ بَقِيَ لَهُ مِنْ
الدَّيْنِ إلَّا مِائَةٌ وَكَانَتْ قِيمَةُ الرَّأْسَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ
دِرْهَمٍ : كَانَ هَذَا الْمُتَوَلِّي ضَامِنًا لِمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ
. وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ ذَلِكَ لِاسْتِيلَائِهِ . وَالْقَوْلُ فِي قِيمَتِهِمَا
قَوْلُ الضَّامِنِ وَهُوَ الْغَاصِبُ إلَّا أَنْ يُعَرِّفَ صِفَتَهُمَا وَأَنَّ
قِيمَتَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ تَقُومُ بَيِّنَةٌ - وَلَوْ شَاهِدٌ
وَيَمِينُ الْمُدَّعِي - بِالْقِيمَةِ . وَأَمَّا مِقْدَارُ حَقِّهِ فَيُقَاصُّ
بِهِ مَا لَهُ عَلَى الْمَدِينِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مَدْيُونٍ وَلِرَجُلِ مَعَهُ مُعَامَلَةٌ فِي بِضَاعَةٍ سَبْعَ
سِنِينَ وَصَارَ لَهُ عِنْدَهُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ . أَوْفَى مِنْهَا
ثَلَاثَمِائَةٍ وَتَحْتَ يَدِهِ دَارٌ رَهْنًا وَقَدْ رَفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ .
فَقَالَ الْمَدِينُ : يَصْبِرُ عَلَيَّ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ أُوَفِّيهِ فَمَا
فَعَلَ يُمْهِلُهُ . فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَحْبِسَهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ سِلْعَةٌ فَطَلَبَ أَنْ يُمْهَلَ حَتَّى يَبِيعَهَا
وَيُوَفِّيَهُ مِنْ ثَمَنِهَا : أُمْهِلَ بِقَدْرِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ إنْ
أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْتَالَ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ بِاقْتِرَاضِ أَوْ نَحْوِهِ
وَطَلَبَ أَلَّا يُرْسَمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ ؛ وَجَبَتْ إجَابَتُهُ
إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ بِحَبْسِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِجَمَاعَةِ وَأَعْسَرَ عَنْ الْمَبْلَغِ وَاتَّفَقُوا
جَمِيعُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يُمْهِلُوهُ وَيُخْرِجُوهُ وَكَانَ قَدْ بَقِيَ لَهُ
بَقِيَّةُ مَالٍ عَلَى أَنَّهُ يَعْمَلُ فِيهِ وَيُوَفِّيهِمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ ؛
إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ
ذَلِكَ بَعْدَ اتِّفَاقِ الْجَمَاعَةِ
مَعَهُ . فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ دُونَ الْجَمَاعَةِ الَّذِي لَهُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُ بَعْدَ رِضَاهُ مَعَهُمْ بِإِنْظَارِهِمْ أَنْ يَخْتَصَّ
بِاسْتِيفَاءِ مَالِهِ حَالًّا دُونَهُمْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ
الْحَالَّ يَتَأَجَّلُ كَمَالِكِ وَأَحْمَد فِي قَوْلٍ . وَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ
يَقُولُ : لَا يَتَأَجَّلُ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي قَوْلٍ . أَوْ مَنْ
يَقُولُ يَتَأَجَّلُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ دُونَ التَّبَرُّعَاتِ كَأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ . وَلَا فَرْقَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ
وَغَيْرِهِمَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اتَّفَقَ مَعَهُمْ عَلَى التَّأْجِيلِ
إلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ أَوْ يُقَسِّطَهُ أَقْسَاطًا . أَوْ اتَّفَقَ مَعَهُمْ
عَلَى أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِمْ وَيَمْكُرَ
بِهِمْ ؛ بَلْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ التَّأْجِيلَ لَمْ يَلْزَمْ فَإِنَّهُمْ
مُشْتَرِكُونَ جَمِيعُهُمْ فِي الِاسْتِيفَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْمُتَبَقِّي مَعَ
الْغَرِيمِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ مُدَّةٌ فِي الِاعْتِقَالِ وَلَا مَوْجُودَ
لَهُ غَيْرُ عَمَلِ يَدِهِ . فَهَلْ يَحِلُّ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ ضَرْبُهُ أَوْ
اعْتِقَالُهُ أَوْ الصَّبْرُ عَلَيْهِ . وَيَأْخُذُوا قَلِيلًا قَلِيلًا عَلَى
قَدْرِ عَمَلِهِ ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَحِلُّ اعْتِقَالُهُ وَلَا ضَرْبُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؛ بَلْ الْوَاجِبُ
تَمْكِينُهُ حَتَّى يَعْمَلَ مَا يُوَفِّي دَيْنَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ ضَمَانٍ وَلَيْسَ لَهُ وَفَاءٌ إلَّا مِنْ
شُغْلِهِ وَيُرِيدُ يَذْهَبُ مُعَلَّمًا فَيُحَصِّلَ شَيْئًا وَيُقِيمُ لَهُ
ضَامِنُ وَجْهٍ بِحُضُورِهِ . فَهَلْ يَجُوزُ حَبْسُهُ ؟ أَمْ يُمَكَّنُ مِنْ
ذَلِكَ ؟ وَإِنْ ادَّعَى الْغَرِيمُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى وَفَاءِ الضَّمَانِ
وَادَّعَى هُوَ الْعَجْزَ فَهَلْ الْقَوْلُ قَوْلُ الْغَرِيمِ . وَهَلْ يَحْتَاجُ
إلَى أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً ؟
فَأَجَابَ :
بَلْ يَجِبُ تَمْكِينُهُ مِنْ إيفَاءِ الدَّيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي
يُمْكِنُهُ وَلَا يَجُوزُ حَبْسُهُ إنْ قَامَ بِذَلِكَ وَإِذَا ادَّعَى
الْإِعْسَارَ وَعُرِفَ لَهُ مَالٌ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْإِعْسَارِ إلَّا
بِبَيِّنَةِ . وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ
يَمِينِهِ دُونَ قَوْلِ غَرِيمِهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ نَحْوٌ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ حَكَاهُ طَائِفَةٌ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَادَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَرَسَمَ
عَلَيْهِ فَقَالَ : أَقْعُدُ فِي التَّرْسِيمِ حَتَّى أَبِيعَ مَالِي وَأُوَفِّيَ
الدَّيْنَ فَقَالَ الْغَرِيمُ : لَا بُدَّ مِنْ حَبْسِك . فَهَلْ يَجُوزُ حَبْسُهُ
؟ أَمْ يَلْزَمُهُ حَتَّى يَبِيعَ وَيُوَفِّيَ دَيْنَهُ ؟
فَأَجَابَ :
بَلْ إذَا طَلَبَ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ بَيْعِ مَا يُوَفِّي دَيْنَهُ وَجَبَ
تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَجِبْ حَبْسُهُ الْعَائِقُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ .
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مُعْسِرٍ - وَلَهُ عَائِلَةٌ وَخَشِيَ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ
يَعْتَقِلَهُ وَيَضِيعَ هُوَ وَعَائِلَتُهُ وَنَوَى أَنَّهُ إذَا وَسَّعَ اللَّهُ
عَلَيْهِ أَعْطَاهُ دَيْنَهُ - إذَا أَنْكَرَهُ فِي سَاعَةٍ وَحَلَفَ : هَلْ
عَلَيْهِ إثْمٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَجْحَدَ حَقَّهُ وَلَا يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ
عَلَيْهِ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّ بِحَقِّهِ وَيَذْكُرَ عُسْرَتَهُ
وَيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ تَعَالَى . { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَمْلُوكٌ وَطَلَبَ بَعْضُ الظَّلَمَةِ شِرَاءَهُ فَخَافَ
أَنَّهُ لَا يُعْطِيهِ ثَمَنَهُ فَقَالَ : هَذَا مَتَى بِعْته ثَمَنُهُ عَلَيَّ
حَرَامٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ . فَهَلْ يَبِيعُهُ وَيُوَفِّي ثَمَنَهُ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ وَيُوَفِّي النَّاسَ حُقُوقَهُمْ . فَإِنْ قَصَدَ
بِقَوْلِهِ : ثَمَنُهُ عَلَيَّ حَرَامٌ أَنَّ ثَمَنَهُ لَا يَبْقَى عِنْدَهُ بَلْ
أُوَفِّيهِ الْغُرَمَاءَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَإِنْ قَصَدَ تَحْرِيمَ
الثَّمَنِ . فَقِيلَ : عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . كَمَذْهَبِ أَحْمَد وَأَبِي
حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مَدْيُونٍ وَلَهُ بِالْقَرَافَةِ مَالِكٌ وَبَاعَ مِنْهُ نِصْفَهُ
بَيْعَ أَمَانَةٍ وَلَهُ بِهَذَا بَيِّنَةٌ وَأَشْهَرَهُ الْمُشْتَرِي كُلُّ
شَهْرٍ بِسَعْيِهِ وَنِصْفٍ مِنْ تَارِيخِ الْمَبِيع وَأَنَّ مُدَايِنًا آخَرَ
اشْتَكَاهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ بِالْيَدِ الْقَوِيَّةِ حَتَّى أَخَذَ بَقِيَّةَ
الَّذِي بَاعَ بِهَا فِي الْأَوَّلِ وَبَقِيَ الْمِلْكُ فِي قَبْضَةِ الثَّانِي ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا بَيْعُ الْأَمَانَةِ الَّذِي مَضْمُونُهُ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى أَنَّ
الْبَائِعَ إذَا جَاءَهُ بِالثَّمَنِ أَعَادَ عَلَيْهِ مِلْكَهُ ذَلِكَ يَنْتَفِعُ
بِهِ الْمُشْتَرِي بِالْإِجَارَةِ وَالسَّكَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : هُوَ بَيْعٌ
بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ إذَا كَانَ الشَّرْطُ مُقْتَرِنًا بِالْعَقْدِ .
وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي الشَّرْطِ الْمُقَدَّمِ عَلَى الْعَقْدِ : فَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ وَمَقْصُودُهُمَا إنَّمَا هُوَ الرِّبَا
بِإِعْطَاءِ دَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ وَمَنْفَعَةُ الدَّرَاهِمِ هِيَ الرِّبْحُ .
وَالْوَاجِبُ هُوَ رَدُّ الْمَبِيع إلَى صَاحِبِهِ الْبَائِعِ وَأَنْ يَرُدَّ
الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي مَا قَبَضَهُ مِنْهُ ؛ لَكِنْ يُحْسَبُ لَهُ مِنْهُ
مَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَالِ الَّذِي سَمَّوْهُ أُجْرَةً ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ فِي الرِّقِّ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي لِأُسْتَاذِهِ وَأُسْتَاذُهُ
يَبِيعُ وَيَشْتَرِي بِاسْمِ الْمَمْلُوكِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَى أُسْتَاذِهِ دَيْنٌ
. فَهَلْ يَطْلُبُ بِهِ الْمَمْلُوكَ ؟ أَوْ الْمَالِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الدَّيْنُ عَلَى السَّيِّدِ يُوَفَّى مِنْ مَالِهِ وَمَا
كَانَ بِيَدِ الْعَبْدِ هُوَ مِنْ مَالِهِ يُوَفَّى بِهِ دَيْنُهُ وَيُبَاعُ
أَيْضًا فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ . وَإِنْ كَتَمَ الْعَبْدُ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ
الَّذِي لِلسَّيِّدِ بِيَدِهِ عُوقِبَ حَتَّى يُظْهِرَهُ فَيُوَفَّى مِنْهُ
دَيْنُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ اعْتَقَلَهُ وَإِنَّ
الْمَدْيُونَ فَقِيرٌ لَا مَالَ لَهُ وَانْتَقَلَتْ إلَيْهِ مَنَافِعُ بُسْتَانٍ
مِنْ جِهَةِ وَقْفٍ شَرْعِيٍّ لَا يَتَحَصَّلُ مِنْ رِيعِهِ مِقْدَارُ وَفَاءِ
الدَّيْنِ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ إلَى حِينِ وَفَاءِ الدِّينِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَجُزْ حَبْسُهُ وَلَا مُطَالَبَتُهُ ؛ بَلْ يَجِبُ
إنْظَارُهُ إلَى الْمَيْسَرَةِ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوَفِّي الدَّيْنَ
إلَّا مَنَافِعُ الْوَقْفِ عَلَيْهِ : اسْتَوْفَى الدَّيْنَ مِنْ أُجْرَةِ
مَنَافِعِ الْوَقْفِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ سِوَى ذَلِكَ
اسْتَوْفَى مِنْهُ مَا أَمْكَنَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ عَلَيْهِ حَقٌّ وَامْتَنَعَ هَلْ يَجِبُ إقْرَارُهُ بِالْعُقُوبَةِ ؟
فَأَجَابَ :
حُكْمُ الشَّرِيعَةِ : أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى
أَدَائِهِ وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ
وَالْحَبْسِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى
يُؤَدِّيَ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ دَيْنًا عَلَيْهِ أَوْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ أَوْ مَالَ غَصْبٍ أَوْ عَارِيَةً أَوْ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ كَانَ الْحَقُّ عَمَلًا : كَتَمْكِينِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَعَمِلَ الْأَجِيرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ . وَهَذَا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } . فَأَبَاحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَضْرِبَ الْمَرْأَةَ إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا مِنْ الْمُبَاشَرَةِ وَفِرَاشِ زَوْجِهَا . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَالَ : { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } " رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ . وَاللَّيُّ : هُوَ الْمَطْلُ وَالْوَاجِدُ : هُوَ الْقَادِرُ . فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَطْلَ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَأَنَّ ذَلِكَ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ فَثَبَتَ أَنَّ عُقُوبَةَ الْمُمَاطِلِ مُبَاحَةٌ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالسِّلَاحِ وَسَأَلَ عَمَّ حيي بْنِ أَخْطَبَ عَنْ كَنْزِهِ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ فَقَالَ لِلزُّبَيْرِ : دُونَك هَذَا فَأَخَذَهُ الزُّبَيْرُ فَمَسَّهُ بِشَيْءِ مِنْ الْعَذَابِ . فَقَالَ : رَأَيْته يَأْتِي إلَى هَذِهِ الْخَرِبَةِ وَكَانَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ } . لَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي يَعْلَمُ مَكَانَ الْمَالِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
وَقَدْ أَخْفَاهُ أَمَرَ الزُّبَيْرَ
بِعُقُوبَتِهِ حَتَّى دَلَّهُمْ عَلَى الْمَالِ وَمَنْ كَتَمَ مَالَهُ أَوْلَى
بِالْعُقُوبَةِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَقَدْ ذَكَرُوا بِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنْ الدَّيْنِ
وَغَيْرِهِ إذَا أَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ وَيُضْرَبُ
مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ وَلَا يُقْتَصَرُ عَلَى ضَرْبِهِ
مَرَّةً ؛ بَلْ يُفَرَّقُ عَلَيْهِ الضَّرْبُ فِي أَيَّامٍ مُتَعَدِّدَةٍ حَتَّى
يُؤَدِّيَ . وَقَدْ أَجَمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ مَشْرُوعٌ فِي
كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ وَالْمَعَاصِي فَرْعَانِ :
تَرْكُ وَاجِبٍ وَفِعْلُ مُحَرَّمٍ . فَمَنْ تَرَكَ أَدَاءَ الْوَاجِبِ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَهُوَ عَاصٍ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ وَالتَّعْزِيرِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ أَحْضَرَ إلَى مَنْزِلِهِ شُهُودًا فَقَالَ : اشْهَدُوا عَلَى أَنَّ
ابْنَتِي فُلَانَةَ رَشِيدَةٌ جَائِزَةُ التَّصَرُّفِ لَا حَجْرَ عَلَيْهَا وَهِيَ
ذَاتُ زَوْجٍ وَأَوْلَادٍ بِحُضُورِ زَوْجِهَا وَأَحَدِ إخْوَتِهَا وَوَالِدَتِهَا
وَكَرَّرَ ذَلِكَ مَرَّاتٍ . فَلَمَّا انْصَرَفَ شُهُودُهُ قَالَ أَخُوهَا
لِلشُّهُودِ : الرُّشْدُ لَا تَشْهَدُوا بِهِ ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ حَضَرَ
وَالِدُهَا وَأَخُوهَا وَقَالَ : وَالِدُهَا أَنَا قَدْ رَجَعْت عَنْ تَرْشِيدِهَا
فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
وَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِلشُّهُودِ أَنْ يَلْتَفِتُوا إلَى كَلَامِ أَخِيهَا وَلَا غَيْرِهِ
وَالِامْتِنَاعُ مِنْ الشَّهَادَةِ ؛ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقِيمُوا الشَّهَادَةَ
لِلَّهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَيْسَ لِأَبِيهَا أَنْ يَرْجِعَ
عَمَّا أَمَرَ بِهِ مِنْ رُشْدِهَا ؛ بَلْ إنْ ثَبَتَ أَنَّهُ حَدَثَ عَلَيْهَا
سَفَهٌ يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ الْحَجْرُ عَلَيْهَا لِأَبِيهَا ؛
بَلْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْأَبُ بِرُشْدِهَا فَمَتَى
صَارَتْ رَشِيدَةً زَالَ الْحَجْرُ عَنْهَا سَوَاءٌ رَشَّدَهَا أَوْ لَمْ
يُرَشِّدْهَا وَسَوَاءٌ حَكَمَ بِذَلِكَ حَاكِمٌ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ وَإِنْ
نُوزِعَتْ فِي الرُّشْدِ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهَا رَشِيدَةٌ قُبِلَتْ
شَهَادَتُهُمَا وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى الْأَبِ وَلَا غَيْرِهِ . وَإِذَا
تَصَرَّفَتْ مُدَّةً وَشَهِدَ الشَّاهِدُ أَنَّهَا كَانَتْ رَشِيدَةً فِي مُدَّةِ
التَّصَرُّفِ : كَانَ تَصَرُّفُهَا صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ الْأَبُ يَدَّعِي
أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ حِجْرِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ تَحْتَ الْحَجْرِ وَقَدْ شَهِدَ لَهَا بِالرُّشْدِ بَيِّنَةٌ
عَادِلَةٌ لَيْسُوا مَحَارِمَهَا . هَلْ يُقْبَلُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ إذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ بِرُشْدِهَا حُكِمَ لَهَا بِذَلِكَ
وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَقَارِبَ ؛ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ وَالرُّشْدَ وَنَحْوَ
ذَلِكَ قَدْ تُعْلَمُ بِالِاسْتِفَاضَةِ كَمَا يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ رُشْدَ
أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالنِّسْوَةِ الْمَشْهُورَاتِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ بِنْتٌ أَرْمَلَةٌ وَعَقَدَ عَقْدَهَا وَتَلَفَّظَ لِلشُّهُودِ
بِرُشْدِهَا فَلَمَّا تَيَقَّنَتْ الْبِنْتُ بِذَلِكَ اخْتَارَتْ أَنْ تَكُونَ
تَحْتَ حَجْرِ أَبِيهَا وَمَا اخْتَارَتْ الرُّشْدَ . فَهَلْ لِأَبِيهَا أَنْ
يَفْسَخَ الرُّشْدَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَعْدَ أَنْ تَصِيرَ رَشِيدَةً لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ
تَحْتَ الْحَجْرِ ؛ لَكِنْ لَهَا أَلَّا تَتَصَرَّفَ فِي مَالِهَا إلَّا بِإِذْنِ
أَبِيهَا فَإِنْ قَالَتْ : أَنَا لَا أَتَصَرَّفُ إلَّا بِإِذْنِ أَبِي كَانَ
لَهَا ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ التَّصَرُّفُ وَاجِبًا عَلَيْهَا .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ خَلَّفَ وَلَدًا ذَكَرًا وَابْنَتَيْنِ غَيْرَ مُرْشِدَتَيْنِ وَأَنَّ
الْبِنْتَ الْوَاحِدَةَ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجِ وَوَكَّلَتْ زَوْجَهَا فِي قَبْضِ
مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ إرْثِ وَالِدِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ . فَهَلْ لِلْأَخِ
الْمَذْكُورِ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا ؟ وَهَلْ يَطْلُبُ الزَّوْجُ بِمَا قَبَضَهُ
وَمَا صَرَفَهُ لِمَصْلَحَةِ الْيَتِيمَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لِلْأَخِ الْوِلَايَةُ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ
الْمُنْكَرِ فَإِذَا فَعَلَتْ مَا لَا يَحِلُّ لَهَا نَهَاهَا عَنْ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْحَجْرُ عَلَيْهَا إنْ كَانَتْ سَفِيهَةً فَلِوَصِيِّهَا إنْ كَانَ
لَهَا وَصِيٌّ الْحَجْرُ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَالْحَاكِمُ يَحْجُرُ عَلَيْهَا
وَلِأَخِيهَا أَنْ يَرْفَعَ أَمْرَهَا إلَى الْحَاكِمِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ عُمْرُهُ سَبْعُ سِنِينَ وَأَنَّ رَجُلًا أَرْكَبَهُ دَابَّةً
بِغَيْرِ إذْنِ الْوَالِدِ وَلَا أَعْلَمَهُ فَرَفَسَتْ الدَّابَّةُ الصَّغِيرَ
وَرَمَتْهُ وَهَرَبَتْ مِنْهُ فَاشْتَكَى الرَّجُلُ أَبَا الصَّغِيرِ وَكَتَبَ
عَلَيْهِ حُجَّةَ غَصْبِ نَحْوِ الدَّابَّةِ . فَهَلْ يَضْمَنُ الْوَالِدُ شَيْئًا
؟ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَالِدُ لَهُ سَبَبٌ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ لَمْ يَكُنْ
عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ الْحُجَّةِ الَّتِي كُتِبَتْ
عَلَيْهِ كُرْهًا ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ هُوَ الَّذِي أَمَرَ الصَّغِيرَ
بِرُكُوبِهَا مِنْ غَيْرِ سَعْيِ الْوَالِدِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ اشْتَرَى لِلْيَتِيمِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِغِبْطَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ
وَلَمْ يَظْهَرْ غِبْطَةٌ لِلْيَتِيمِ فَهَلْ يَصِحُّ الشِّرَاءُ ؟ وَهَلْ
يَضْمَنُ الْوَصِيُّ الزِّيَادَةَ .
فَأَجَابَ :
إنْ اشْتَرَى لِلْيَتِيمِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِزِيَادَةِ لِلْمَصْلَحَةِ
جَازَ وَإِنْ اشْتَرَى بِزِيَادَةِ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ لِمِثْلِهَا كَانَ
عَلَيْهِ ضَامِنٌ مَا أَدَّاهُ مِنْ الزِّيَادَةِ الْفَاحِشَةِ . وَغِبْطَةُ
بَيْتِ الْمَالِ لَا تُؤَثِّرُ فَإِنَّ هَذَا فِي صُورَةٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مُعْتَقَلٍ فِي سِجْنِ السُّلْطَانِ وَهُوَ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ
وَطُولِبَ بِدَيْنِ شَرْعِيٍّ عَلَيْهِ ثُمَّ أَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي حَالِ
اعْتِقَالِهِ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ الْعَقَارِ مِلْكٌ لِزَوْجَتِهِ
وَصَدَّقَتْهُ عَلَى ذَلِكَ . فَهَلْ يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ وَيَنْفُذُ فِي
جَمِيعِ مَالِهِ أَوْ يَخْتَصُّ هَذَا الْإِقْرَارُ بِالثُّلُثِ ؟ وَيَبْقَى
الثُّلْثَانِ مَوْقُوفَانِ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَتْ
لَهُ ابْنَةٌ صَغِيرَةٌ
فَقِيرَةٌ هَلْ يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ
رِيعِ هَذَا الْعَقَارِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ عَلَيْهِ حُقُوقٌ شَرْعِيَّةٌ فَتَبَرَّعَ بِمِلْكِهِ بِحَيْثُ لَا
يَبْقَى لِأَهْلِ الْحُقُوقِ مَا يَسْتَوْفُونَهُ بِهَذَا التَّمْلِيكِ : فَهُوَ
بَاطِلٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ : مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَضَاءَ
الدَّيْنِ وَاجِبٌ وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ وَاجِبَةٌ . فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ
يَدَعَ الْوَاجِبَ وَيَصْرِفَهُ فِيمَا لَا يَجِبُ فَيَرُدَّ هَذَا التَّمْلِيكَ
وَيَصْرِفَهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ وَنَفَقَةِ وَلَدِهِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمِلْكُ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ أَوْ فِيهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ
غَيْرُهُ لَمْ يَصِحَّ صَرْفُهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ إلَّا بِوِلَايَةِ أَوْ
وَكَالَةٍ وَإِذَا كَانَ الْإِشْهَادُ فِيمَا يَمْلِكُهُ مَلَّكَهُ لِزَوْجَتِهِ
لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَمْلِكُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ وُلِّيَ عَلَى مَالِ يَتَامَى . وَهُوَ قَاصِرٌ فَمَا الْحُكْمُ فِي
وِلَايَتِهِ ؟ وَأُجْرَتِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى عَلَى مَالِ الْيَتَامَى إلَّا مَنْ كَانَ قَوِيًّا
خَبِيرًا بِمَا وُلِّيَ عَلَيْهِ أَمِينًا عَلَيْهِ .
وَالْوَاجِبُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَلِيُّ
بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَنْ يُسْتَبْدَلَ بِهِ مَنْ يَصْلُحُ وَلَا يَسْتَحِقُّ
الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ لَكِنْ إذَا عَمِلَ الْيَتَامَى عَمَلًا يَسْتَحِقُّ
أُجْرَةَ مِثْلِهِ كَانَ كَالْعَمَلِ فِي سَائِر الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ لِرَجُلِ وَلَهَا فِي صُحْبَتِهِ سِنِينَ فَجَاءَ
وَالِدُهَا يَطْلُبُ شَيْئًا لِمَصَالِحِهَا فَقَالَ الزَّوْجُ أَنَا مَحْجُورٌ
عَلَيَّ وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ تَحْتَ الْحَجْرِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يُقْبَلُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ فِي أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بَلْ الْأَصْلُ
صِحَّةُ التَّصَرُّفِ وَعَدَمُ الْحَجْرِ حَتَّى يُثْبِتَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَرُزِقَ مِنْهَا وَلَدًا وَأَرَادَ وَالِدُ
الزَّوْجَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَالِ ابْنَتِهِ يَتَصَرَّفُ
فِيهِ لِنَفْسِهِ فَمَنَعَتْهُ مِنْ ذَلِكَ فَادَّعَى أَنَّهَا تَحْتَ الْحَجْرِ
فَهَلْ تُقْبَلُ مِنْهُ هَذِهِ الدَّعْوَى . وَهِيَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهَا سَفَهٌ
يَحْجُرُ عَلَيْهَا ؟ وَهَلْ لَهَا مَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا ؟ .
فَأَجَابَ : لَيْسَ لِأَبِيهَا أَنْ
يَتَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ بَلْ إذَا كَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مَالِهَا لِنَفْسِهِ
كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي أَهْلِيَّتِهِ وَمُنِعَ مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا
كَالْحَجْرِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ
لَهَا بِمَا فِيهِ الْحَظُّ لَهَا لَا لَهُ وَلَيْسَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا
إلَّا بِشَرْطِ دَوَامِ السَّفَهِ فَإِنَّهَا إذَا رَشَدَتْ زَالَ حَجْرُهَا
بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ . وَإِذَا أَقَامَتْ بَيِّنَةً بِرُشْدِهَا حُكِمَ بِرَفْعِ
وِلَايَتِهِ عَنْهَا وَلَهَا عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ رُشْدَهَا
إذَا طَلَبَ ذَلِكَ وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ زَوْجَةٍ لِرَجُلِ ادَّعَتْ أَنَّهَا تَحْتَ الْحَجْرِ وَلَمْ يَكُنْ
الزَّوْجُ يَعْلَمُ بِذَلِكَ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَأَبْرَأَتْهُ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ
بِرَجُلِ آخَرَ ثُمَّ ادَّعَى عَلَى الْأَوَّلِ بِالصَّدَاقِ لِكَوْنِهَا تَحْتَ
الْحَجْرِ . فَهَلْ يُقْبَلُ ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
لَا يُقْبَلُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا أَنَّهَا تَحْتَ الْحَجْرِ بَلْ إذَا كَانَتْ
تَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الرَّشِيدِ فَهِيَ رَشِيدَةٌ نَافِذَةُ الْبُيُوعِ وَلَوْ
كَانَتْ تَحْتَ الْحَجْرِ فَإِذَا أَقَامَتْ بَيِّنَةً أَنَّهَا رَشِيدَةٌ فَقَدْ
تَمَّ تَبَرُّعُهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ اعْتَرَفَ بِمَالِ لِأَيْتَامِ وَأَعْطَى خَطَّهُ ثُمَّ إنَّ الْيَتِيمَ
الْوَاحِدَ طَالَبَهُ فَأَنْكَرَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَحَلَفَ أَنَّهُ لَا
يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ طَلَبَ مِنْ الْيَتِيمِ
الْإِبْرَاءَ وَهُوَ مَرِيضٌ . فَهَلْ يَصِحُّ إبْرَاؤُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَصِحُّ هَذَا الْإِبْرَاءُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَا دَامَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ جَاحِدًا لِلْحَقِّ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ دَفَعَ مَالَ يَتِيمٍ إلَى عَامِلٍ يَشْتَرِي بِهِ ثَمَرَةً مُضَارَبَةً
وَمَعَهُ آخَرُ أَمِينًا عَلَيْهِ وَلَهُ النِّصْفُ وَلِكُلِّ مِنْهُمَا الرُّبْعُ
فَخَسِرَ الْمَالَ وَانْفَرَدَ الْعَامِلُ بِالْعَمَلِ لِتَعَذُّرِ الْآخَرِ
وَكَانَتْ لِلشَّرِكَةِ بَعْدَ تَأْبِيرِ الثَّمَرَةِ وَأَفْتَى بَعْضُهُمْ
بِفَسَادِهَا وَأَنَّ عَلَى الْعَامِلِ وَوَلِيِّ الْيَتِيمِ ضَمَانَ مَا صُرِفَ
مِنْ مَالِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الشَّرِكَةُ فِي صِحَّتِهَا خِلَافٌ وَالْأَظْهَرُ صِحَّتُهَا . وَسَوَاءٌ
كَانَتْ صَحِيحَةً أَوْ فَاسِدَةً . فَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ فَرَّطَ
فِيمَا
فَعَلَهُ ضَمِنَ وَأَمَّا إذَا فَعَلَ
مَا ظَاهِرُهُ الْمَصْلَحَةُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِجِنَايَةِ مِنْ عَامِلِهِ .
وَأَمَّا الْعَامِلُ فَإِنْ خَانَ أَوْ فَرَّطَ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَإِلَّا
فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا كَانَ مَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ
الصَّحِيحِ يُضْمَنُ بِالْفَاسِدِ وَمَا لَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا
يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ . وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا الْيَمِينُ فِي نَفْيِ
الْجِنَايَةِ وَالتَّفْرِيطِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَيْتَامٍ تَحْتَ الْحَجْرِ الشَّرِيفِ : ثُمَّ إنَّ التَّتَارَ أَسَرُوهُمْ
سَنَةَ شقحب وَهُمْ صِغَارٌ فَوَشَى بَعْضُ النَّاسِ إلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ فِي
أَخْذِ مَالِهِمْ وَلَهُمْ وَارِثٌ ذُو رَحِمٍ وَعَصَبَاتٍ فَلَمَّا بَلَغَ
الْوَرَثَةَ ذَلِكَ أَثْبَتُوا مَحْضَرًا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهِمْ وَأَنَّهُمْ
وُرَّاثُهُمْ . فَهَلْ يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِأَخْذِهِ مَعَ
عِلْمِهِ ذَلِكَ وَأَنْ يَنْتَظِرَ لِغَيْبَتِهِمْ ؟ وَهَلْ يَأْثَمُ الْمُتَّخِذُ
ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِأَحَدِ غَيْرِ الْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذَ هَذَا الْمِلْكَ ؛ لَكِنْ
يُنْفِقُ مِنْهُ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى رَبِّهِ مِثْلَ نَفَقَةِ وَلَدِهِ
وَيَقْضِي مِنْهُ دُيُونَهُ . وَإِذَا حُكِمَ بِمَوْتِهِ فَهُوَ لِلْوَارِثِ وَفِي
الْمُدَّةِ الَّتِي يَنْتَظِرُونَ إلَيْهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ : مِنْ
الْعُلَمَاءِ مَنْ يُقَدِّرُهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَرْجِعُونَ فِي
ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَدِّثُ فِي ذَلِكَ
لِيَصْرِفَ الْمَالَ إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ فَإِنَّهُ آثِمٌ فِي ذَلِكَ
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَاَللَّهِ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ عِنْدَهُ يَتِيمٌ وَلَهُ مَالٌ تَحْتَ يَدِهِ وَقَدْ رَفَعَ كُلْفَةَ
الْيَتِيمِ عَنْ مَالِهِ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِهِ . فَهَلْ لَهُ أَنْ
يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ بِتِجَارَةِ أَوْ شِرَاءِ عَقَارٍ مِمَّا يَزِيدُ
الْمَالَ وَيُنَمِّيهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَنْبَغِي لَهُ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ
الْحَاكِمِ إنْ كَانَ وَصِيًّا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَصِيٍّ وَكَانَ النَّاظِرُ
فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى الْحَاكِمَ الْعَالِمَ الْعَادِلَ يَحْفَظُهُ
وَيَأْمُرُ فِيهِ بِالْمَصْلَحَةِ وَجَبَ اسْتِئْذَانُهُ فِي ذَلِكَ . وَإِنْ
كَانَ فِي اسْتِئْذَانِهِ إضَاعَةُ الْمَالِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ أَوْ
نَائِبُهُ فَاسِقًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ عَاجِزًا أَوْ لَا يَحْفَظُ أَمْوَالَ
الْيَتَامَى حَفِظَهُ الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ وَعَمِلَ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ مِنْ
غَيْرِ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ - إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى - وَخَلَّفَ ثَلَاثَةَ
أَوْلَادٍ وَمِلْكًا وَكَانَ فِيهِمْ وَلَدٌ كَبِيرٌ وَقَدْ هَدَمَ بَعْضَ
الْمِلْكِ وَأَنْشَأَ وَتَزَوَّجَ فِيهِ وَرُزِقَ فِيهِ أَوْلَادًا وَالْوَرَثَةُ
بَطَّالُونَ فَلَمَّا طَلَبُوا الْقِسْمَةَ قَصَدَ هَدْمَ الْبِنَاءِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْعَرْصَةُ فَحَقُّهُمْ فِيهَا بَاقٍ . وَأَمَّا الْبِنَاءُ فَإِنْ كَانَ
بَنَاهُ كُلَّهُ مِنْ مَالِهِ دُونَ الْأَوَّلِ فَلَهُ أَخْذُهُ ؛ وَلَكِنْ
عَلَيْهِ ضَمَانُ الْبِنَاءِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ . وَإِنْ كَانَ
أَعَادَهُ بِالْإِرْثِ الْأَوَّلِ فَهِيَ لَهُمْ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ كِسْوَةِ الصِّبْيَانِ فِي الْأَعْيَادِ وَغَيْرِهَا الْحَرِيرَ . هَلْ
يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يُلْبِسَهُ الْحَرِيرَ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا
فَعَلَ ذَلِكَ هَلْ يَأْثَمُ . أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِكَ تَمْوِيهُ أقباعهم
بِالذَّهَبِ هَلْ يَجُوزُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . لَيْسَ
لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ إلْبَاسُهُ الْحَرِيرَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
كَمَا لَيْسَ لَهُ إسْقَاؤُهُ الْخَمْرَ وَإِطْعَامُهُ الْمَيْتَةَ . فَمَا حَرُمَ
عَلَى الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ فَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُجَنِّبَهُ الصِّبْيَانَ
. وَقَدْ مَزَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَرِيرًا رَآهُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ
وَقَالَ : لَا تُلْبِسُوهُمْ الْحَرِيرَ . وَكَذَلِكَ مَا يَحْرُمُ عَلَى
الرِّجَالِ مِنْ الذَّهَبِ . وَأَمَّا نِسْبَةُ الْوَلِيِّ إلَى الْبُخْلِ
فَيُدْفَعُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكْسُوَهُ مِنْ الْمُبَاحِ مَا يَحْصُلُ بِهِ
التَّجَمُّلُ فِي الْأَعْيَادِ وَغَيْرِهَا كَالْمَقَاطِعِ الإسكندرانية
وَغَيْرِهَا مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ التَّجَمُّلُ وَالزِّينَةُ وَدَفْعُ الْبُخْلِ
مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ . وَمَنْ وَضَحَ لَهُ الْحَقُّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ
عَنْهُ إلَى سِوَاهُ وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَتَّبِعَ غَيْرَ الرَّسُولِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ
وَيُحَلِّلُهُ وَيُحَرِّمُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ وَصِيٍّ لَهُ أَمْلَاكٌ . وَوَلِيُّهُ فِي بِلَادِ التَّتَارِ وَقَدْ بَاعَ
أَمْلَاكَهُ بِرَأْيِ مِنْهُ إلَى الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ بِغَيْرِ نِدَاءٍ وَلَا
إشْهَادٍ وَلَا حُكْمِ أَحَدٍ . فَهَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا بَاعَ قَبْلَ أَنْ يَرْشُدَ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ
قَدْ بَاعَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ .
فَإِنْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ كَانَ رَشِيدًا وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ
بِسَفَهِهِ حُكِمَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ أَمِيرٍ يُعَامِلُ النَّاسَ وَيَتَّكِلُ عَلَى حِسَابِهِ . فَهَلْ إذَا
أَهْمَلَ وَلَمْ يَكْتُبْهُ يَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ ؟ وَأَنَّ الْأَمِيرَ لَمْ
يَتَحَقَّقْ أَنَّ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا ؛ لَكِنْ يَتَّكِلُ عَلَى
دَفْتَرِ الْعَامِلِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ قَدْ اجْتَهَدَ فِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ وَلَهُ
كَاتِبٌ وَهُوَ ثِقَةٌ خَبِيرٌ يَجْتَهِدُ فِي حِفْظِ أَمْوَالِ النَّاسِ : لَمْ
يَكُنْ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ . فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا
وُسْعَهَا . وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّطَ فِي اسْتِعْمَالِ الْكَاتِبِ ؛ بِأَنْ
يَكُونَ خَائِنًا أَوْ عَاجِزًا : كَانَ عَلَيْهِ دَرْكٌ بِمَا ذَهَبَ مِنْ
حُقُوقِ النَّاسِ بِتَفْرِيطِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْوُكَلَاءِ عَلَى قُرَى الزَّرْعِ قَدْ قُدِّرَ لَهُمْ عَلَى كُلِّ
فَدَّانٍ شَيْءٌ مِنْ الْقَمْحِ وَغَيْرِهِ وَمَئُونَتُهُمْ عَلَى الْفَلَّاحِينَ
وَلَهُ عَلَى الْجُنْدِ دَرَاهِمُ مَعْلُومَةٌ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ الْوَكِيلُ لَا يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ إلَّا أُجْرَةَ عَمَلِهِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالزِّيَادَةُ يَأْخُذُهَا الْمُقْطِعُ فَالْمُقْطِعُ هُوَ
الَّذِي ظَلَمَ الْفَلَّاحِينَ . وَأَمَّا الَّذِي أَخَذَ أُجْرَةَ عَمَلِهِ
فَقَدْ أَخَذَ مَا يَسْتَحِقُّ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ . فَإِنْ كَانَ
الْوَكِيلُ قَدْ أَعْطَى الْمُقْطِعَ مِنْ الضَّرِيبَةِ مَا يَزِيدُ عَلَى
أُجْرَةِ مِثْلِهِ وَلَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ إلَّا أُجْرَةَ عَمَلِهِ جَازَ
ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْوَكَالَةِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَكَّلَ رَجُلًا فِي قَبْضِ دُيُونٍ لَهُ ثُمَّ صَرَفَهُ وَطَالَبَهُ
بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ إنْ الْوَكِيلُ الْمُتَصَرِّفُ كَتَبَ مُبَارَأَةً
بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ . فَهَلْ
يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ لَمْ يَكُنْ فِي وَكَالَتِهِ إثْبَاتُ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ
فِي الْإِبْرَاءِ لَمْ يَصِحَّ إبْرَاؤُهُ مِنْ دَيْنٍ هُوَ ثَابِتٌ لِلْمُوَكِّلِ
وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِالْإِبْرَاءِ قَبْلَ إقْرَارِهِ فِيمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ
: كَالتَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ إذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يُوَكِّلُ الدَّلَّالَ فِي أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ سِلْعَةً
فَيَشْتَرِيَهَا لَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ الْبَائِعِ جُعْلًا عَلَى أَنْ بَاعَهَا
لَهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ ؟
فَأَجَابَ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ؛
لِأَنَّهُ يَشْتَرِيهَا لِمُوَكِّلِهِ بِأَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهَا فَيَزِيدُ
الْبَائِعُ عَلَى الرِّبْحِ الْمُعْتَادِ إذَا اشْتَرَاهَا بِتَخْبِيرِ الثَّمَنِ
فَيَكُونُ ذَلِكَ غِشًّا لِمُوَكِّلِهِ . هَذَا إذَا حَصَلَ مُوَاطَأَةً مِنْ
الْبَائِعِ أَوْ عُرِفَ بِذَلِكَ . وَأَمَّا لَوْ وَهَبَهُ الْبَائِعُ ذَلِكَ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ شُعُورُهُ . فَهَذِهِ مَذْكُورَةٌ فِي غَيْرِ
هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ وَكِيلٍ آجَرَ أَرْضَ مُوَكِّلِهِ بِنَاقِصِ عَنْ شَرِكَتِهِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أَجَّرَهَا بِنِصْفِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ كَانَ الْوَكِيلُ ضَامِنًا
لِلنَّقْصِ . وَهَلْ لِلْمَالِكِ إبْطَالُ الْإِجَارَةِ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْجُنْدِ اسْتَأْجَرُوا وَكِيلًا عَلَى إقْطَاعِهِمْ
وَأَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى ذَلِكَ الْإِقْطَاعِ . وَيُسَجِّلَ بِالْقَيِّمَةِ
فَوَاطَأَ الْوَكِيلُ أَصْحَابَهُ وَوَافَقَ الْمُزَارِعِينَ عَلَى رَأْيِهِمْ
وَسَجَّلَ بِدُونِ الْقِيمَةِ الْجَارِي بِهَا الْعَادَةُ فَهَلْ يَجُوزُ
تَصَرُّفُهُ فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ ؛ لِأَجْلِ مَا بِيَدِهِ مِنْ
الْوَكَالَة الشَّرْعِيَّةِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أَجَّرَ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَسَلَّمَ الْأَرْضَ إلَيْهِمْ فَهُوَ
ظَالِمٌ مُعْتَدٍ وَلِأَرْبَابِ الْأَرْضِ أَنْ يُضَمِّنُوهُ تَمَامَ أُجْرَةِ
الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ أَرْضَهُمْ إلَى مَنْ يَتَمَتَّعُ بِهَا . وَأَمَّا
الْمُسْتَأْجِرُونَ إنْ كَانُوا عَلِمُوا أَنَّهُ ظَالِمٌ وَأَنَّهُ حَابَاهُمْ
فَلِأَصْحَابِ الْأَرْضِ تَضْمِينُهُمْ أَيْضًا إنْ كَانُوا اسْتَوْفُوا
الْمَنْفَعَةَ . وَلَهُمْ مَنْعُهُمْ مِنْ الزَّرْعِ إنْ كَانُوا لَمْ يَزْرَعُوا
؛ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ حِينَئِذٍ بَاطِلَةٌ . وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَعْلَمُوا
بَلْ الْمُؤَجِّرُ عَرَّفَهُمْ فَهَلْ لِأَصْحَابِ الْأَرْضِ تَضْمِينُهُمْ ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . وَإِذَا ضَمَّنُوهُمْ . فَهَلْ لَهُمْ
الرُّجُوعُ عَلَى هَذَا الْغَارِّ بِمَا لَمْ يَلْزَمُوا ضَمَانَهُ بِالْعَقْدِ ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا . وَالثَّالِثُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ
الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ وَكَّلَتْ أَخَاهَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِحُقُوقِهَا كُلِّهَا
وَالدَّعْوَى لَهَا وَفِي فَسْخِ نِكَاحِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَثَبَتَ ذَلِكَ
عِنْدَ الْحَاكِمِ ثُمَّ ادَّعَى الْوَكِيلُ عِنْدَ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ
بِنَفَقَةِ مُوَكِّلَتِهِ وَكِسْوَتِهَا عَلَى زَوْجِهَا الْمَذْكُورِ وَاعْتَرَفَ
أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ وَأَحْضَرَهُ مِرَارًا إلَى
الْحَاكِمِ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ فَطَلَبَ الْوَكِيلُ
مِنْ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ فَسْخِ نِكَاحِ مُوَكِّلَتِهِ
مِنْ زَوْجِهَا فَمَكَّنَهُ مِنْ ذَلِكَ فَفَسَخَ الْوَكِيلُ
نِكَاحَ مُوَكِّلَتِهِ مِنْ زَوْجِهَا
الْمَذْكُورِ بِحُضُورِ الزَّوْجِ بَعْدَ أَنْ أُمْهِلَ الْمُهْلَةَ
الشَّرْعِيَّةَ قَبْلَ الْفَسْخِ . فَهَلْ يَصِحُّ الْفَسْخُ ؟ وَتَقَعُ
الْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِتَمْكِينِ الْحَاكِمِ الْوَكِيلَ الْمَذْكُورَ
مِنْ فَسْخِ نِكَاحِ مُوَكِّلَتِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَمْ لَا ؟ أَوْ
يُشْتَرَطُ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِصِحَّةِ الْفَسْخِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا فَسَخَ الْوَكِيلُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ بَعْدَ تَمْكِينِ
الْحَاكِمِ لَهُ مِنْ الْفَسْخِ صَحَّ فَسْخُهُ وَلَمْ يَحْتَجْ بَعْدَ ذَلِكَ
إلَى حُكْمِهِ بِصِحَّةِ الْفَسْخِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَلَكِنَّ الْحَاكِمَ نَفْسَهُ إذَا فَعَلَ فِعْلًا
مُخْتَلَفًا فِيهِ مِنْ عَقْدٍ وَفَسْخٍ كَتَزْوِيجِ بِلَا وَلِيٍّ وَشِرَاءِ
عَيْنٍ غَائِبَةٍ لِيَتِيمِ ثُمَّ رَفَعَ إلَى حَاكِمٍ لَا يَرَاهُ . فَهَلْ لَهُ
نَقْضُهُ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ ؟ أَوْ يَكُونُ فِعْلُ الْحَاكِمِ حُكْمًا ؟
عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالْفَسْخُ
لِلْإِعْسَارِ جَائِزٌ فِي مَذْهَبِ الثَّلَاثَةِ . وَالْحَاكِمُ لَيْسَ هُوَ
فَاسِخًا وَإِنَّمَا هُوَ الْآذِنُ فِي الْفَسْخِ وَالْحَاكِمُ بِجَوَازِهِ كَمَا
لَوْ حَكَمَ لِرَجُلِ بِمِيرَاثِ وَأَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ أَوْ حَكَمَ
لِرَجُلِ بِأَنَّهُ وَلِيٌّ فِي النِّكَاحِ وَأَذِنَ لَهُ فِي عَقْدِهِ أَوْ
حَكَمَ لِمُشْتَرٍ بِأَنَّ لَهُ فَسْخَ الْبَيْعِ لِعَيْبِ وَنَحْوِهِ فَفِي كُلِّ
مَوْضِعٍ حُكِمَ لِشَخْصِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعَقْدِ أَوْ الْفَسْخِ صَحَّ بِلَا
نِزَاعٍ فِي مِثْلِ هَذَا . وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَ هُوَ
الْعَاقِدَ أَوْ الْفَاسِخَ . وَمَعَ هَذَا
فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ عَقْدُهُ وَفَسْخُهُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ فِيهِ . وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ رَفَعَ مِثْلَ هَذَا إلَى حَاكِمٍ حَنَفِيٍّ لَا يَرَى الْفَسْخَ بِالْإِعْسَارِ . فَأَمَّا إنْ كَانَ الْحَاكِمُ الثَّانِي مِمَّنْ يَرَى ذَلِكَ . كَمَنْ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد لَمْ يَكُنْ لَهُ نَقْضُ هَذَا الْفَسْخِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَالْعُلَمَاءُ الَّذِينَ اشْتَرَطُوا فِي فَسْخِ النِّكَاحِ بِعَيْبِ أَوْ إعْسَارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ - وَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ فَسْخِ الْمُعْتَقَةِ تَحْتَ عَبْدٍ قَالُوا : لِأَنَّ هَذَا فَسْخٌ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى حَاكِمٍ وَذَلِكَ فَسْخٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . وَسَبَبُهُ أَيْضًا يُدْخِلُهُ الِاجْتِهَادَ ؛ بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ فَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ بِحُكْمِ حَاكِمٍ - لَمْ يَشْتَرِطُوا أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَدْ حَكَمَ بِصِحَّةِ الْفَسْخِ بَعْدَ وُقُوعِهِ ؛ إذْ هَذَا لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ بَلْ كُلُّ تَصَرُّفٍ مُتَنَازَعٍ فِيهِ إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّتِهِ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ إذَا لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا . فَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُنَا الْحُكْمَ بَعْدَهُ لَمْ يَحْتَجْ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ ابْتِدَاءً ؛ بَلْ كُلُّ مُسْتَحِقٍّ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ . ثُمَّ حُكْمُ الْحَاكِمِ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ إبْطَالِ الْفَسْخِ كَمَا لَوْ عَقَدَ عَقْدًا مُخْتَلَفًا فِيهِ وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّتِهِ . وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ عَرَفَ مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَكَّلَ رَجُلًا فِي عِمَارَةِ إقْطَاعِهِ بِبَيْتِ فَسَجَّلَ طِينَهُ
بِالْقِيمَةِ الْعَادِلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ بِالنَّاحِيَةِ
وَيُرَاعِي الْغِبْطَةَ وَالْمَصْلَحَةَ لِمُوَكِّلِهِ فَاتَّفَقَ الْمُزَارِعُونَ
وَخَدَعُوا الْوَكِيلَ لِكَوْنِهِ غَرِيبًا مِنْ النَّاحِيَةِ عَادِمَ الْخِبْرَةِ
وَالْمَعْرِفَةِ بمواريها وَخَوَاصِّهَا فَسَجَّلُوا مِنْهُ الطِّينَ بِأَقَلِّ
مِنْ الْقِيمَةِ الْعَادِلَةِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ نِسْبَةِ الشَّرِكَةِ الْمُقْطِعِينَ
بِالنَّاحِيَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ الطِّينُ بِالسَّوِيَّةِ دُونَ الْفَرْطِ
الْكَثِيرِ وَالْغَبْنِ الْفَاحِشِ . فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُقْطِعِ أَنْ يُطَالِبَ
الْمُزَارِعِينَ بِالْخَرَاجِ عَلَى الْقِيمَةِ الْعَادِلَةِ أُسْوَةَ شُرَكَائِهِ
الْمُقْطِعِينَ بِالنَّاحِيَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا وَكَّلَهُ فِي أَنْ يُسَجِّلَهُ وَكَالَةً مُطْلَقَةً أَوْ قَالَ : سَجِّلْهُ
أُسْوَةَ أَمْثَالِهِ فَسَوَاءٌ أَطْلَقَ الْوَكَالَة أَوْ قَيَّدَهَا بِأُسْوَةِ
أَمْثَالِهِ ؛ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَجِّلَهُ إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ
كَنُظَرَائِهِ فَإِنْ فَرَّطَ الْوَكِيلُ بِحَيْثُ سَجَّلَهُ بِدُونِ الْأُجْرَةِ
الْمَعْرُوفَةِ وَسَلَّمَ الْأَرْضَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ
الْوَكِيلِ بِمَا نَقَصَ . وَإِذَا كَانَ الْمُسَجِّلُ قَدْ قَالَ لِلْوَكِيلِ :
هَذِهِ الْأُجْرَةُ هِيَ أُسْوَةُ النَّاسِ ثُمَّ تَبَيَّنَ
كَذِبَهُ فَهُنَا يُطَالِبُ الْمُسَجِّلَ
بِتَمَامِ الْأُجْرَةِ إنْ كَانَ قَدْ زَرَعَ الْأَرْضَ . وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ
الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ أَنْ يُطَالِبَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ وَكَّلَ وَكِيلًا فِي بَيْعِ دَارٍ وَفِي قَبْضِ الثَّمَنِ وَالتَّسْلِيمِ
وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْإِشْهَادِ عَلَى التَّرْسِيمِ الْمُعْتَادِ فَبَاعَ
الْوَكِيلُ الدَّارَ لِشَخْصِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَثَبَتَ التَّبَايُعُ وَحَكَمَ
حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ وَاسْتَمَرَّتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مُدَّةً ثُمَّ
وَقَفَهَا وَشَهِدَ وَحَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي
أَوَّلًا وَآخِرًا ثَلَاثَ سِنِينَ وَمُوَكَّلُ الْبَائِعِ عَالِمٌ بِذَلِكَ
كُلِّهِ وَلَمْ يُبْدِ فِيهِ مَطْعَنًا ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ ادَّعَى
الْمُوَكِّلُ أَنَّهُ عَزَلَ الْوَكِيلَ قَبْلَ صُدُورِ الْبَيْعِ ؛ وَلَمْ
يَعْلَمْ وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً فِي بَلَدٍ آخَرَ وَحَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ
مِنْ غَيْرِ دَعْوَى عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَا وَكِيلِهِ وَلَا مَنْ بِيَدِهِ شَيْءٌ
مِنْ رِيعِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفِعَةِ . فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْحُكْمُ
وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَوْ
يَكُونُ انْتِفَاعُهُ شُبْهَةً ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ الْبَائِعِ
إعَادَةُ الثَّمَنِ ؟ وَإِذَا أَقَامَ الْوَكِيلُ الْبَائِعُ بَيِّنَةً بِوُصُولِ
الثَّمَنِ إلَى مُوَكِّلِهِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ رِضًى مِنْهُ ؟ وَهَلْ يَفْسُقُ
الْمُوَكِّلُ فِي ادِّعَاءِ عَزْلِ الْوَكِيلِ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ وَسُكُوتِهِ
عَنْ ذَلِكَ وَغُرُورِهِ لِلْمُشْتَرِي وَوُصُولِ الثَّمَنِ إلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَوَّلًا
مَبْنِيَّةٌ عَلَى عَزْلِ الْوَكِيلِ : هَلْ يَنْعَزِلُ قَبْلَ بُلُوغِ الْعَزْلِ
لَهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . أَحَدُهُمَا : لَا
يَنْعَزِلُ حَتَّى يَعْلَمَ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي
إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي
مَذْهَبِ مَالِكٍ بَلْ أَرْجَحُهُمَا . فَعَلَى هَذَا تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ قَبْلَ
الْعِلْمِ صَحِيحٌ نَافِذٌ . وَثُبُوتُ عَزْلِهِ قَبْلَ التَّصَرُّفِ لَا يَقْدَحُ
فِي تَصَرُّفِهِ قَبْلَ الْعِلْمِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَالْوَقْفُ الْوَاقِعُ
عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ وَلَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ
. وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَنْعَزِلُ قَبْلَ الْعِلْمِ وَهُوَ
الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . فَعَلَى هَذَا لَا
تُقْبَلُ مُجَرَّدُ دَعْوَاهُ الْعَزْلَ بَعْدَ التَّصَرُّفِ وَإِذَا أَقَامَ
بِذَلِكَ بَيِّنَةً بِبَلَدِ آخَرَ وَحَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا
عَلَى الْغَائِبِ وَالْحُكْمُ عَلَى الْغَالِبِ إذَا قِيلَ بِصِحَّتِهِ فَهُوَ
يَصِحُّ مَعَ بَقَاءِ كُلِّ ذِي حُجَّةٍ عَلَى حُجَّتِهِ وَلِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ
أَنْ يَقْدَحَ فِي الْحُكْمِ وَالشَّهَادَةِ بِمَا يَسُوغُ قَبُولُهُ : إمَّا
الطَّعْنُ فِي الشُّهُودِ أَوْ الْحُكْمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ : مِثْلَ أَنْ
يَكُونَ الْحَاكِمُ الَّذِي حَكَمَ بِالْعَزْلِ لَا يَرَى الْعَزْلَ قَبْلَ
الْعِلْمِ . وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ الْبَيِّنَةَ الشَّاهِدَةَ
بِالْعَزْلِ فَاسِقَةً أَوْ مُتَّهَمَةً بِشَيْءِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ .
ثُمَّ الْحَاكِمُ الَّذِي حَكَمَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَالْوَقْفِ إنْ كَانَ
مِمَّنْ لَا يَرَى عَزْلَ الْوَكِيلِ قَبْلَ الْعِلْمِ وَقَدْ بَلَغَهُ ذَلِكَ
كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا لَا يَجُوزُ
نَقْضُهُ بِحَالِ ؛ بَلْ الْحُكْمُ النَّاقِضُ لَهُ مَرْدُودٌ . وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ . أَوْ مَذْهَبُهُ عَدَمُ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ إذَا ثَبَتَ كَانَ وُجُودُ حُكْمِهِ كَعَدَمِهِ . وَالْحَاكِمُ الثَّانِي إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الْعَزْلَ قَبْلَ الْعِلْمِ أَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ وَهُوَ لَا يَرَاهُ أَوْ رَآهُ وَهُوَ لَا يَرَى نَقْضَ الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ عَلَمِ مُوَكِّلِ الْوَكِيلِ الْبَائِعِ بِمَا جَرَى وَسُكُوتُهُ : كَانَ وُجُودُ حُكْمِهِ كَعَدَمِهِ وَاسْتِيثَاقُ الْحُكْمِ فِي الْقِصَّةِ وَقَبْضُ الثَّمَنِ مِنْ الْوَكِيلِ دَلِيلٌ فِي الْعَادَةِ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَبَقَاءِ الْوَكَالَة إذَا لَمْ يُعَارِضُ ذَلِكَ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقْبَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَيَدْفَعُونَ بِهَا دَعْوَى الْمُوَكِّلِ لِلْعَزْلِ ؛ لِيَبْطُلَ الْبَيْعُ ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ شُهُودِ الزُّورِ . وَلَوْ حَكَمَ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَكِيلِ وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُ مَا اسْتَوْفَاهُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ وَالْمُشْتَرِي مَغْرُورَيْنِ غَرَّهُمَا الْمُوَكِّلُ لِعَدَمِ إعْلَامِهِ بِالْعَزْلِ فَالتَّفْرِيطُ جَاءَ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَضْمَنُ لَهُ الْمَنْفَعَةَ . وَإِذَا أَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ قَبْضَ الثَّمَنِ وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِهِ فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ بِلَا جُعْلٍ قُبِلَ قَوْلُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينُهُ كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُودِعِ فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ إلَى مَالِكِهَا . وَإِنْ كَانَ بِجُعَلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُشْتَرِي . فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بَاقِيًا
فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ
مَفْسُوخًا فَلَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوا الْوَكِيلَ بِالثَّمَنِ وَالْوَكِيلُ
يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ .
وَسُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَكِيلٍ بَاعَ لِمُوَكِّلِهِ حِصَّتَهُ مِنْ حَانُوتٍ ثُمَّ إنَّ
الْمُشْتَرِيَ وَقَفَ تِلْكَ الْحِصَّةَ وَثَبَتَ الْبَيْعُ وَالْوَقْفُ وَحُكِمَ
بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَبَعْدَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْوَكِيلَ كَانَ مَعْزُولًا
بِتَارِيخِ مُتَقَدِّمٍ عَلَى بَيْعِهِ مَحْكُومًا بِصِحَّةِ عَزْلِهِ . فَهَلْ
يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْبَيْعِ وَالْوَقْفِ ؟ أَمْ هُمَا صَحِيحَانِ ؟ وَإِذَا
بَانَ الْبُطْلَانُ . فَهَلْ لِلْمُوَكِّلِ الرُّجُوعُ بِأُجْرَةِ تِلْكَ
الْحِصَّةِ مُدَّةَ مَقَامِهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الْوَاقِفِ لَهَا ؟ أَمْ لَا
؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ
مَشْهُورٌ وَهُوَ : أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا مَاتَ مُوَكِّلُهُ أَوْ عَزَلَهُ وَلَمْ
يَعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى تَصَرَّفَ فَهَلْ يَنْعَزِلُ قَبْلَ الْعِلْمِ ؟ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ
أَحْمَد وَغَيْرِهِمَا : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَنْعَزِلُ قَبْلَ الْعِلْمِ وَهَذَا
هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَقَوْلٌ
فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . فَعَلَى هَذَا يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْبَيْعِ ؛ لَكِنْ
عَلَى هَذَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ وَأَمَّا
الْمُشْتَرِي فَهُوَ
مَغْرُورٌ أَيْضًا إذَا لَمْ يَعْلَمْ . وَفِي تَضْمِينِهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَهَذَا الْغَارُّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا يَضْمَنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَارِّ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي رِوَايَةٍ . فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي وَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَنْعَزِلُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَنْعَزِلُ بِالْعَزْلِ حَتَّى يَعْلَمَ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد . فَعَلَى هَذَا تَصَرُّفُهُ قَبْلَ الْعِلْمِ صَحِيحٌ . فَيَصِحُّ الْبَيْعُ إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ عَالِمًا بِالْعَزْلِ فَأَمَّا إنْ تَصَرَّفَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ لَمْ يَكُنْ تَصَرُّفُهُ لَازِمًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ وَهُوَ مَرْدُودٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَمَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ . فَمَتَى لَمْ يُجِزْهُ الْمُسْتَحِقُّ بَطَلَ بِالْإِجْمَاعِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَبْلَ الْعِلْمِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَمَّنْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ فَبَاعَهَا إلَى أَجَلٍ وَتَوَى
بَعْضُ الثَّمَنِ . فَهَلْ يُطَالِبُ الْمَالِكُ بِقِيمَتِهَا حَالَّةً أَوْ
بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ . وَهُوَ أَكْثَرُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ إلَى أَجَلٍ فَالْمَالِكُ
مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ الْبَائِعَ بِقِيمَتِهَا بِنَقْدِ وَبَيْنَ أَنْ
يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ جَمِيعِهِ وَيَحْسِبَ الْمُنْكَسِرَ عَلَى
صَاحِبِ السِّلْعَةِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِدُونِ إذْنٍ كَتَصَرُّفِ غَاصِبٍ .
وَالْغَاصِبُ إذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ عِنْدَهُ إلَى بَدَلٍ كَانَ لِلْمَالِكِ
الْخِيَرَةُ بَيْنَ الْمُطَالَبَةِ وَبَيْنَ الْبَدَلِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ
الْمِثْلُ أَوْ الْقِيمَةُ وَبَيْنَ الْبَدَلِ الْمُعَيَّنِ . وَهَذَا يَكُونُ
حَيْثُ لَمْ يُعْرَفْ الْمُشْتَرِي بِالْغَصْبِ فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ إلَّا
الثَّمَنُ الْمُسَمَّى وَإِذَا قُلْنَا بِوَقْفِ الْعُقُودِ عَلَى الْإِجَازَةِ :
إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْإِجَازَةُ وَاصْطَلَحَا عَلَى الثَّمَنِ وَتَرَاضَيَا بِهِ
صَحَّ الصُّلْحُ عَنْ بَدَلِ الْمُتْلَفِ بِأَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ
ضَمَانِهِ كَمَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى فَرْضِ الْمَهْرِ فِي مَسْأَلَةِ
التَّفْوِيضِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
:
عَنْ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ
الْقُمَاشِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْوَاقِ فَيَأْخُذُونَ مَا أَعْجَبَهُمْ مِنْ
ذَلِكَ وَيَكْتُبُ الْأَمِيرُ لِصَاحِبِهِ خَطًّا بِذَلِكَ أَوْ يُنْزِلُهُ
وَنُوَّابُهُ فِي دَفْتَرِهِ وَيَقْتَرِضُونَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ دَرَاهِمَ
وَكُلُّ ذَلِكَ بِغَيْرِ حُجَجٍ تُكْتَبُ وَلَا إشْهَادٍ وَهَذِهِ عَادَتُهُمْ .
وَإِذَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ وَعَلِمَ دِيوَانُهُ وأستاداره بِحُقُوقِ النَّاسِ .
فَهَلْ يَحِلُّ لَهُمْ مَنْعُهُمْ ؟ أَوْ مَطْلُهُمْ أَمْ يَلْزَمُهُمْ دَفْعُ
حُقُوقِهِمْ الَّتِي عَلِمُوهَا مِنْ التَّرِكَةِ . وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
بَلْ كُلُّ مَا وُجِدَ بِخَطِّ الْأَمِيرِ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ كَاتِبُهُ أَوْ
لَفَظَ وَكِيلُهُ فِي ذَلِكَ مِثْلُ كَاتِبِهِ وأستاداره فَإِنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ
بِذَلِك . فَإِنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِيمَا وَكَّلَهُ فِيهِ
مَقْبُولٌ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينُهُ وَخَطُّ الْمَيِّتِ كَلَفْظِهِ فِي الْوَصِيَّةِ
وَالْإِقْرَارِ وَنَحْوِهِمَا . وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ
إلَى بَيِّنَةٍ . وَتَكْلِيفُهُمْ الْبَيِّنَةَ إضَاعَةٌ لِلْحُقُوقِ وَتَعْذِيبٌ
لِلْأَمْوَاتِ بِبَقَائِهِمْ مُرْتَهَنِينَ بِالذُّنُوبِ فَفِيهِ ظُلْمٌ
لِلْأَمْوَاتِ
وَالْأَحْيَاءِ ؛ لَا سِيَّمَا فِي
الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ فِيهَا بِالْإِشْهَادِ فَتَكْلِيفُ
الْبَيِّنَةِ فِي ذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ الْعَدْلِ الْمَعْرُوفِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مُتَحَدِّثٍ لِأَمِيرِ فِي تَحْصِيلِ أَمْوَالِهِ . فَهَلْ يَكُونُ
لَهُ الْعُشْرُ فِيمَا حَصَّلَهُ الْمُقَرَّرُ عَنْ الْوِكَالَةِ عَنْ كُلِّ
أَلْفِ دِرْهَمٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ ذَلِكَ فِي
حَالِ حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ وَبِإِذْنِهِ أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إنْ كَانَ الْأَمِيرُ قَدْ وَكَّلَهُ
بِالْعُشْرِ أَوْ وَكَّلَهُ تَوْكِيلًا مُطْلَقًا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ
الَّذِي يَقْتَضِي فِي الْعُرْفِ أَنَّ لَهُ الْعُشْرَ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ
يَسْتَحِقُّ الْعُشْرَ بِشَرْطِ لَفْظِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ . وَالِاسْتِئْجَارُ :
كَاسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ بِجُزْءِ مِنْ زَرْعِهَا وَهِيَ
مَسْأَلَةُ " قَفِيزِ الطَّحَّانِ " . وَمَنْ نَقَلَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ }
فَقَدْ غَلِطَ . وَاسْتِيفَاءُ الْمَالِ بِجُزْءِ مُشَاعٍ مِنْهُ جَائِزٌ فِي
أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ لَهُ عَلَى أَنْ
يُعْطِيَهُ عِوَضًا ؛ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ ذَلِكَ فَلَهُ أَيْضًا أُجْرَةُ
الْمِثْلِ الَّذِي جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فَإِنْ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شَيْئًا
فَلَهُ أَنْ
يَسْتَوْفِيَهُ مُطْلَقًا مِنْ تَرِكَتِهِ
وَبِدُونِ إذْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ
شَيْئًا إلَّا بِإِذْنِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ وَكَّلَ رَجُلًا وِكَالَةً مُطْلَقَةً ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا
يَتَصَرَّفُ إلَّا بِالْمَصْلَحَةِ وَالْغِبْطَةِ فَأَجَّرَ لَهُ أَرْضًا تُسَاوِي
إجَارَتُهَا عَشَرَةَ آلَافٍ بِخَمْسَةِ آلَافٍ . فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ
الْإِجَارَةُ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا صَحَّتْ هَلْ يَلْزَمُ الْوَكِيلَ التَّفَاوُتُ
؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا بِمِثْلِ هَذَا الْغَبْنِ
وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْوَكِيلَ الْمُفَرِّطَ مَا فَوَّتَهُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا
صِحَّةُ الْإِجَارَةِ : فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ : إجَارَةٌ بَاطِلَةٌ
كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَكِنْ
إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ مَغْرُورًا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْوَكِيلِ مِثْلَ
أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ مَالِكٌ عَالِمٌ بِالْقِيمَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى
مَنْ غَرَّهُ بِمَا يَلْزَمُهُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَزَرْعُهُ
زَرْعٌ مُحْتَرَمٌ لَا يَجُوزُ قَطْعُهُ مَجَّانًا ؛ بَلْ يُنْزَلُ بِأُجْرَةِ
الْمِثْلِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ . فَهُنَا هُوَ ظَالِمٌ وَزَرْعُهُ
زَرْعُ غَاصِبٍ . وَهَلْ لِلْمَالِكِ قَلْعُهُ مَجَّانًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ
مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . وَهَلْ يَمْلِكُهُ
بِنَفَقَتِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا
. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ لَهُ تَمَلُّكَهُ بِنَفَقَتِهِ . وَأَمَّا
إبْقَاؤُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَيَمْلِكُهُ بِالِاتِّفَاقِ . وَإِذَا ادَّعَى
عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْحَالِ فَأَنْكَرَ فَالْقَوْلُ
قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَكَّلَ غُلَامَهُ فِي إيجَارِ حَانُوتٍ لِشَخْصِ ثُمَّ إنَّ
الْمُسْتَأْجِرَ أَجَّرَهُ لِشَخْصِ فَهَلْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَقْبَلَ
الزِّيَادَةَ فِي أُجْرَةِ الْحَانُوتِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ لَهُ مُطَالَبَةُ
الْمُسْتَأْجِرِ الثَّانِي ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا غَصَبَ الْمُسْتَأْجِرُ الثَّانِي
وَأَخَذَ مِنْهُ الْأُجْرَةَ فَهَلْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَعِيدَ مِنْهُ ؟
أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ هَذَا الْغُلَامُ يَتَصَرَّفُ لِهَذَا الْمُوَكِّلِ
بِإِيجَارِ حَوَانِيتِهِ وَقَبْضِ الْأُجْرَةِ وَيَدَّعِي بِذَلِكَ عِنْدَ
الْقُضَاةِ لِمُوَكِّلِهِ وَسَيِّدُهُ يَعْلَمُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَيُقِرُّهُ
عَلَيْهِ : فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ إنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْهُ ؟ وَإِذَا أَكْرَهَ
الْمُوَكِّلُ الْمُسْتَأْجِرَ الثَّانِيَ عَلَى غَيْرِ الْإِجَارَةِ الْأُولَى .
فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْإِجَارَةُ الثَّانِيَةُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ - وَالْحَالَةُ
هَذِهِ - أَنْ يُؤَجِّرَ الْحَانُوتَ لِأَحَدِ لَا بِزِيَادَةِ وَلَا غَيْرِ
زِيَادَةٍ وَلَا لِلْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ
مُطَالَبَةُ الْمُسْتَأْجِرِ الثَّانِي وَإِذَا أَخَذَ مِنْهُ الْأُجْرَةَ
غَصْبًا فَلَهُ اسْتِرْجَاعُ ذَلِكَ
مِنْهُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إنْكَارِ الْوَكَالَةِ مَعَ كَوْنِهِ
يَتَصَرَّفُ لَهُ تَصَرُّفَ الْوُكَلَاءِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَكَوْنِهِ
مَعْرُوفًا بِأَنَّهُ وَكِيلُهُ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ
يُوَكِّلْهُ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - فَتَفْرِيطُهُ وَتَسْلِيطُهُ عُدْوَانٌ
مِنْهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ . وَالْإِجَارَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي أَكْرَهَ
الْمُوَكِّلُ عَلَيْهَا الْمُسْتَأْجِرَ الثَّانِيَ بَاطِلَةٌ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْمٍ أَرْسَلُوا قَوْمًا فِي مَصَالِحَ لَهُمْ وَيُعْطُونَهُمْ نَفَقَةً .
فَهَلْ يَحِلُّ لَهُمْ أَكْلُ ذَلِكَ ؟ وَاسْتِدَانَةُ تَمَامِ نَفَقَتِهِمْ
وَمُخَالَطَتُهُمْ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا أَعْطَاهُمْ الَّذِينَ بَعَثُوهُمْ مَا يُنْفِقُونَهُ جَازَ ذَلِكَ
وَعَلَيْهِمْ تَمَامُ نَفَقَتِهِمْ مَا دَامُوا فِي حَوَائِجِهِمْ وَيَجُوزُ
مُخَالَطَتُهُمْ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ نَوْبَةِ الْوُكَلَاءِ لِحِفْظِ الْغِلَالِ عَلَى الْفَلَّاحِينَ . هَلْ هِيَ
حَلَالٌ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ يَحْفَظُ الزَّرْعَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْفَلَّاحِ فَلَهُ
أُجْرَتُهُ عَلَيْهَا فَإِذَا كَانَتْ الْمُؤْنَةُ الَّتِي يَأْخُذُهَا مِنْ
الْفَلَّاحِ بِقَدْرِ حَقِّهِ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ وَكَّلَ رَجُلًا فِي شِرَاءٍ وَلَمْ يُوَكِّلْهُ فِي الْإِقَالَةِ
فَأَقَالَ . هَلْ تَصِحُّ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا وَكَّلَ الْإِنْسَانُ وَكِيلًا فِي شِرَاءِ شَيْءٍ وَلَمْ يُوَكِّلْهُ فِي
الْإِقَالَةِ ؛ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ الْإِقَالَةُ وَلَا تَنْفُذُ إقَالَتُهُ
بِدُونِ إذْنِ الْمُوَكِّلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ وَكِيلٍ فِي مَبْلَغٍ لِوَالِدِهِ يَجْبِي الدُّيُونَ الَّتِي لَهُ عَلَى
النَّاسِ فَإِذَا جَاءَ إلَى أَحَدٍ قَالَ : إنِّي وَقَّعْته لِأَبِيك ثُمَّ قَالَ
: إنْ أَبَرَيْتنِي وَصَالَحْتنِي عَلَى شَيْءٍ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنِي
وَبَيْنَك ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْ جُمْلَةِ أَلْفٍ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ .
ثُمَّ أَقَرَّ بِالدِّينِ بَعْدَ الصُّلْحِ وَأَخَذَ بِيَدِهِ الْإِبْرَاءَ فَهَلْ
تَجُوزُ دَعْوَاهُ عَلَيْهِ بَعْدَ إقْرَارِهِ وَالشُّهُودُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ
بِالْإِبْرَاءِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْوَكِيلُ فِي الِاسْتِيفَاءِ لَا يَصِحُّ إبْرَاؤُهُ وَلَا مُصَالَحَتُهُ عَلَى
بَعْضِ الْحَقِّ وَلَوْ كَانَ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ . ثُمَّ إنَّ الْغَرِيمَ إذَا
جَحَدَ الْحَقَّ حَتَّى صُولِحَ كَانَ الصُّلْحُ فِي حَقِّهِ بَاطِلًا وَلَمْ
تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعِي إنَّمَا صَالَحَهُ خَوْفًا مِنْ
ذَهَابِ جَمِيعِ الْحَقِّ فَهُوَ مُكْرَهٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ صُلْحُهُ
وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْحَقِّ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ أَوْ قَامَتْ
بِهِ بَيِّنَةٌ .
بَابُ الشَّرِكَةِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة :
عَنْ جَمَاعَةٍ اشْتَرَكُوا شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ بِغَيْرِ رِضَا بَعْضِهِمْ
وَعَمِلُوا عَمَلًا مُجْتَمِعِينَ فِيهِ وَعَمَلًا مُتَفَرِّقِينَ فِيهِ . فَهَلْ
تَصِحُّ هَذِهِ الشَّرِكَةُ ؟ وَمَا يَسْتَحِقُّ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنْ أُجْرَةِ مَا
عَمِلَ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ لَا عَمَلَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةً عَنْ
عَمَلِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَا مَنْ عَمِلَ ؟
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ الَّتِي تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْتَرِكَا فِيمَا يَتَقَبَّلَانِ مِنْ الْعَمَلِ فِي
ذِمَّتِهِمَا كَأَهْلِ الصِّنَاعَاتِ مِنْ الْخِيَاطَةِ وَالنِّجَارَةِ
وَالْحِيَاكَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ الَّذِينَ تُقَدَّرُ أُجْرَتُهُمْ بِالْعَمَلِ لَا
بِالزَّمَانِ - وَيُسَمَّى الْأَجِيرَ الْمُشْتَرِكَ - وَيَكُونُ الْعَمَلُ فِي
ذِمَّةِ أَحَدِهِمْ بِحَيْثُ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ أَنْ يَعْمَلَ
ذَلِكَ الْعَمَلَ وَالْعَمَلُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ كَدُيُونِ الْأَعْيَانِ ؛
لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى عَيْنِهِ ==
46.مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى :
728هـ)
كَالْأَجِيرِ الْخَاصِّ . فَهَؤُلَاءِ
جَوَّزَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ اشْتِرَاكُهُمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ
وَأَحْمَد . وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ " شَرِكَةِ الْوُجُوهِ "
وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِجَاهِهِ شَيْئًا لَهُ
وَلِشَرِيكِهِ كَمَا يَتَقَبَّلُ الشَّرِيكُ الْعَمَلَ لَهُ وَلِشَرِيكِهِ . قَالُوا
: وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ مَبْنَاهَا عَلَى الْوِكَالَةِ فَكُلٌّ مِنْ
الشَّرِيكَيْنِ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِالْمِلْكِ وَلِشَرِيكِهِ بِالْوِكَالَةِ
. وَلَمْ يُجَوِّزْهَا الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ أَنَّ
مَذْهَبَهُ أَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا تَكُونُ
الشَّرِكَةُ شَرِكَةَ الْأَمْلَاكِ خَاصَّةً فَإِذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي مَالٍ
كَانَ لَهُمَا نَمَاؤُهُ وَعَلَيْهِمَا غُرْمُهُ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ شَرِكَةُ
الْعِنَانِ مَعَ اخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَالَيْنِ وَلَا يُجَوِّزُهَا إلَّا مَعَ
خَلْطِ الْمَالَيْنِ وَلَا يَجْعَلُ الرِّبْحَ إلَّا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ .
وَالْجُمْهُورُ يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا وَيَقُولُونَ : الشَّرِكَةُ نَوْعَانِ :
" شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ " و " شَرِكَةُ عُقُودٍ " . وَشَرِكَةُ
الْعُقُودِ أَصْلًا لَا تَفْتَقِرُ إلَى شَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ كَمَا أَنَّ
شَرِكَةَ الْأَمْلَاكِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى شَرِكَةِ الْعُقُودِ وَإِنْ كَانَا
قَدْ يَجْتَمِعَانِ . وَالْمُضَارَبَةُ شَرِكَةُ عُقُودٍ بِالْإِجْمَاعِ لَيْسَتْ
شَرِكَةَ أَمْلَاكٍ ؛ إذْ الْمَالُ لِأَحَدِهِمَا وَالْعَمَلُ لِلْآخَرِ
وَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ
يَزْعُمُ أَنَّهَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ ؛ وَأَنَّهَا خِلَافُ الْقِيَاسِ .
فَالصَّوَابُ أَنَّهَا أَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ وَهِيَ مِنْ بَابِ الْمُشَارَكَةِ لَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ عَلَى وَفْقِ قِيَاسِ الْمُشَارَكَاتِ . وَلَمَّا كَانَ مَبْنَى الشَّرِكَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَنَازَعُوا فِي الشَّرِكَةِ فِي اكْتِسَابِ الْمُبَاحَاتِ ؛ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ التَّوَكُّلِ فِيهَا فَجَوَّزَ ذَلِكَ أَحْمَد وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَاحْتَجَّ أَحْمَد بِحَدِيثِ سَعْدٍ وَعَمَّارٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ . وَقَدْ يُقَالُ : هَذِهِ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي إذَا تَشَارَكَا فِيمَا يُؤَجِّرَانِ فِيهِ أَبْدَانَهُمَا وَدَابَّتَيْهِمَا : إجَارَةً خَاصَّةً . فَفِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ قَوْلَانِ مَرْوِيَّانِ وَالْبُطْلَانُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَأَبِي الْخَطَّابِ وَالْقَاضِي فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ . وَقَالَ : هُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الضَّمَانُ بِذَلِكَ الِاشْتِرَاكِ عَلَى كَسْبِ الْمُبَاحِ : كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى أَحَدِهِمَا مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي وَجَبَ عَلَى الْآخَرِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي نَتَاجِ مَاشِيَتِهِمَا وَتُرَاثِ بَسَاتِينِهِمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمَنْ جَوَّزَهُ قَالَ : هُوَ مِثْلُ الِاشْتِرَاكِ فِي اكْتِسَابِ الْمُبَاحَاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ هُنَاكَ فِي ذِمَّةِ أَحَدِهِمَا عَمَلٌ ؛ وَلَكِنْ بِالشَّرِكَةِ صَارَ مَا يَعْمَلُهُ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ شَرِيكِهِ . كَذَلِكَ هُنَا مَا يَشْتَرِطُهُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْأُجْرَةِ أَوْ شَرَطَ لَهُ مِنْ الْجُعَلِ : هُوَ لَهُ وَلِشَرِيكِهِ . وَالْعَمَلُ الَّذِي يَعْمَلُ عَنْ
نَفْسِهِ وَعَنْ شَرِيكِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ شَرِكَةَ الْعِنَانِ مَعَ عَدَمِ اخْتِلَاطِ الْمَالَيْنِ وَمَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا } وَأَظُنُّ هَذَا قَوْلَ مَالِكٍ . وَأَمَّا اشْتِرَاكُ الشُّهُودِ فَقَدْ يُقَالُ : مِنْ مَسْأَلَةِ " شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ " الَّتِي تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا ؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَثْبُتْ فِي الذِّمَّةِ وَلَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ فِيهَا حَتَّى يَكُونَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَلِشَرِيكِهِ بِحُكْمِ الْوِكَالَةِ وَالْعِوَضُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ بَابِ الْجَعَالَة ؛ لَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ ؛ فَإِنَّمَا هِيَ اشْتِرَاكٌ فِي الْعَقْدِ ؛ لَا عَقْدَ الشَّرِكَةِ ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ لِجَمَاعَةِ : ابْنُوا لِي هَذَا الْحَائِطَ وَلَكُمْ عَشَرَةٌ أَوْ إنْ بَنَيْتُمُوهُ فَلَكُمْ عَشَرَةٌ أَوْ إنْ خِطْتُمْ هَذَا الثَّوْبَ فَلَكُمْ عَشَرَةٌ . أَوْ إنْ رَدَدْتُمْ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَكُمْ عَشَرَةٌ . وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْ الْجُعَلَ - وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِالْجُعَلِ : مِثْلَ حَمَّالِينَ يَحْمِلُونَ مَالَ تَاجِرٍ مُتَعَاوِنِينَ عَلَى ذَلِكَ - فَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ جُعْلَ مِثْلِهِمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ الطَّبَّاخُ الَّذِي يَطْبُخُ بِالْأُجْرَةِ وَالْخَبَّازُ الَّذِي يَخْبِزُ بِالْأُجْرَةِ وَالنَّسَّاجُ الَّذِي يَنْسِجُ بِالْأُجْرَةِ وَالْقَصَّارُ الَّذِي يُقَصِّرُ بِالْأُجْرَةِ وَصَاحِبُ الْحَمَّامِ
وَالسَّفِينَةِ وَالْعُرْفُ الَّذِي جَرَتْ عَادَتُهُ بِأَنْ يُسْتَوْفَى مَنْفَعَتُهُ بِالْأَجْرِ . فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ عِوَضَ الْمِثْلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ جَمَاعَةٌ فِي أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ وَيَكْتُبُوا خُطُوطَهُمْ بِالشَّهَادَةِ يَسْتَحِقُّونَ الْجُعْلَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِعْمَالِهِ إيَّاهُمْ فِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ إذَا قِيلَ : إنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْجُعْلَ فَيَسْتَحِقُّونَ جُعْلَ مِثْلِهِمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ وَمَنَافِعُهُمْ مُتَسَاوِيَةً اسْتَحَقُّوا الْجُعْلَ بِالسَّوَاءِ وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ صَحِيحٌ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُمْ شَرِكَةٌ . فَأَمَّا إذَا اشْتَرَكُوا فِيمَا يَكْتَسِبُونَهُ بِالشَّهَادَةِ فَهُوَ كَاشْتِرَاكِهِمْ فِيمَا يَكْتَسِبُونَهُ بِسَائِرِ الْجَعَالَاتِ وَالْإِجَارَاتِ . ثُمَّ الْجُعْلُ فِي الشَّهَادَةِ قَدْ يَكُونُ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ وَلِلشَّاهِدِ أَنْ يُقِيمَ مَقَامَهُ مَنْ يَشْهَدُ لِلْجَاعِلِ . فَهُنَا تَكُونُ شَرِكَةً صَحِيحَةً عِنْدَ كُلِّ مَنْ يَقُولُ بِشَرِكَةِ الْأَبْدَانِ وَهُمْ الْجُمْهُورُ : أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ . وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ . إلَّا أَنْ يَكُونَ الْجُعْلُ عَلَى أَنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدُ بِعَيْنِهِ فَيَكُونَ فِيهَا الْقَوْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ . وَالصَّحِيحُ أَيْضًا جَوَازُ الِاشْتِرَاكِ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَدَعَ
الْعَمَلَ وَيَطْلُبَ مُقَاسَمَةَ الْآخَرِ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا . وَأَمَّا إذَا أَكْرَهَهُمْ الْقُضَاةُ عَلَى هَذِهِ الشَّرِكَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْعُقُودِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ لِأَنَّ الْقُضَاةَ هُمْ الَّذِينَ يَأْذَنُونَ لَهُمْ فِي الِارْتِزَاقِ بِالشَّهَادَةِ وَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى تَعْدِيلِهِمْ ؛ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الصُّنَّاعِ الَّذِينَ يَكْتَسِبُونَ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّ الْأَمْرِ وَإِذَا كَانَ لِلْقُضَاةِ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي التَّشْرِيكِ بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قُعُودِ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ ؛ إذْ شَهَادَةُ وَاحِدٍ لَا تُحَصِّلُ مَقْصُودَ الشَّهَادَةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُرَاعَى فِي ذَلِكَ مُوجِبُ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ فَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدُهُمْ عَنْ عَمَلٍ هُوَ عَلَيْهِ وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمْ بِشَيْءِ مِنْ الرِّزْقِ الَّذِي وَقَعَتْ الشَّرِكَةُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ وَلِيَ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَمَذْهَبُهُ لَا يُجَوِّزُ
" شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ " فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ مَنْعُ النَّاسِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَلَا مِنْ نَظَائِرِهِ مِمَّا
يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَلَيْسَ مَعَهُ بِالْمَنْعِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ
وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا مَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ ؛ لَا سِيَّمَا
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّا يَعْمَلُ بِهِ
عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ الْأَمْصَارِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ
الْحَاكِمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَ غَيْرِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ
الْمَسَائِلِ وَلَا لِلْعَالِمِ وَالْمُفْتِي أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ
بِاتِّبَاعِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا اسْتَشَارَ
الرَّشِيدُ مَالِكًا أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى " مُوَطَّئِهِ " فِي
مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ : إنَّ أَصْحَابَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا فِي الْأَمْصَارِ
وَقَدْ أَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ مِنْ الْعِلْمِ مَا بَلَغَهُمْ . وَصَنَّفَ رَجُلٌ
كِتَابًا فِي الِاخْتِلَافِ فَقَالَ أَحْمَد : لَا تُسَمِّهِ " كِتَابَ
الِاخْتِلَافِ " وَلَكِنْ سَمِّهِ " كِتَابَ السُّنَّةِ " .
وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : إجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ وَاخْتِلَافُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْتَلِفُوا ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى قَوْلٍ فَخَالَفَهُمْ رَجُلٌ كَانَ ضَالًّا وَإِذَا اخْتَلَفُوا فَأَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ هَذَا وَرَجُلٌ بِقَوْلِ هَذَا كَانَ فِي الْأَمْرِ سَعَةٌ . وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ مَالِكٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ : لَيْسَ لِلْفَقِيهِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ . وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُصَنِّفُونَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ : إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لَا تُنْكَرُ بِالْيَدِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ فِيهَا ؛ وَلَكِنْ يَتَكَلَّمُ فِيهَا بِالْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ تَبِعَهُ وَمَنْ قَلَّدَ أَهْلَ الْقَوْلِ الْآخَرِ فَلَا إنْكَارَ عَلَيْهِ . وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَثِيرَةٌ : مِثْلَ تَنَازُعِ النَّاسِ فِي بَيْعِ الباقلا الْأَخْضَرِ فِي قِشْرَتِهِ وَفِي بَيْعِ المقاثي جُمْلَةً وَاحِدَةً وَبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ وَالسَّلَمِ الْحَالِّ وَاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ بَعْدَ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ وَالتَّوَضُّؤِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَالنِّسَاءِ وَخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَالْقَهْقَهَةِ وَتَرْكِ الْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ وَالْقِرَاءَةِ بِالْبَسْمَلَةِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا وَتَرْكِ ذَلِكَ . وَتَنْجِيسِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثِهِ أَوْ الْقَوْلِ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ وَبَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِالصِّفَةِ وَتَرْكِ ذَلِكَ . وَالتَّيَمُّمِ بِضَرْبَةٍ أَوْ ضَرْبَتَيْنِ إلَى الْكُوعَيْنِ أَوْ الْمِرْفَقَيْنِ وَالتَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ
لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ أَوْ الِاكْتِفَاءِ بِتَيَمُّمِ وَاحِدٍ وَقَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ وَشَرِكَةُ الْوُجُوهِ وَالْمُسَاقَاةُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ وَالْمُزَارَعَةُ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِنْ جِنْسِ شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ ؛ بَلْ الْمَانِعُونَ مِنْ هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَانِعِينَ مِنْ مُشَارَكَةِ الْأَبْدَانِ وَمَعَ هَذَا فَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ وَإِلَى الْيَوْمِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ يَتَعَامَلُونَ بِالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ وَلَوْ مُنِعَ النَّاسُ مِثْلَ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ لَتَعَطَّلَ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِمْ الَّتِي لَا يَتِمُّ دِينُهُمْ وَلَا دُنْيَاهُمْ إلَّا بِهَا . وَلِهَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُفْتِي بِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ لَا تَجُوزُ ثُمَّ يُفَرِّعُ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِهَا وَيَقُولُ : إنَّ النَّاسَ لَا يَأْخُذُونَ بِقَوْلِي فِي الْمَنْعِ ؛ وَلِهَذَا صَارَ صَاحِبَاهُ إلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِهَا كَمَا اخْتَارَ ذَلِكَ مَنْ اخْتَارَهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ شَارَكَ قَوْمًا فِي مَتْجَرٍ بِغَيْرِ رَأْسِ مَالٍ وَقَدْ ذَكَرَ
بَعْضُ الشُّرَكَاءِ أَنَّ الْمَالَ غُرْمٌ . فَهَلْ يَلْزَمُ الْمَذْكُورَ
غَرَامَةٌ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا اشْتَرَكُوا عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ
يَعْمَلُ بِبَدَنِهِ كَالْمُضَارِبِ وَبَعْضَهُمْ بِمَالِهِ أَوْ بِمَالِهِ
وَبَدَنِهِ وَتَلِفَ الْمَالُ أَوْ بَعْضُهُ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ وَلَا
تَفْرِيطٍ مِنْ الْعَامِلِ بِبَدَنِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ شَيْءٍ مِنْ
الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ أَوْ فَاسِدَةٌ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ قُمَاشٌ كَثِيرٌ فَطَلَبَ رَجُلٌ تَاجِرٌ سفار أَنْ يَأْخُذَ
ذَلِكَ الْقُمَاشَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ النِّصْفَ مَشَاعًا وَيُبْقِيَ النِّصْفَ
الْآخَرَ لِصَاحِبِهِ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ شَرِكَةَ عَنَانٍ وَيَكُونُ لِهَذَا
نِصْفُ الرِّبْحِ وَلِهَذَا نِصْفُ الرِّبْحِ وَأَخْبَرَهُ بِرَأْسِ الْمَالِ
وَزَادَ عَلَيْهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ زِيَادَةً اتَّفَقَا
عَلَيْهَا
وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُسَافِرَ إلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى
دِمَشْقَ وَإِذَا لَمْ يَصْلُحْ لَهُ الْبَيْعُ بِدِمَشْقَ يُسَافِرُ إلَى
الْعِرَاقِ وَالْعَجَمِ وَكَتَبَ وَثِيقَةً بِالشَّرِكَةِ : أَنَّ الْمَالَ
جَمِيعَهُ بِيَدِ هَذَا الْمُشْتَرِي يَبِيعُ وَيَشْتَرِي وَيَأْخُذُ وَيُعْطِي .
وَكَتَبَا أَنَّ الشَّرِكَةَ كَانَتْ بِدَرَاهِمَ وَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِمَا
ذُكِرَ ثُمَّ لَمَّا قَدِمَا إلَى الإسكندرية فَتَشَاجَرَا فَطَلَبَ صَاحِبُ
الْقُمَاشِ مِنْهُ الثَّمَنَ وَأَلْزَمَهُ بِأَنْ يَقْسِمَ الْقُمَاشَ وَيَبِيعَهُ
هُنَا بِخَسَارَةِ وَيُوَفِّيَهُ الثَّمَنَ . فَهَلْ هَذَا الْبَيْعُ الَّذِي
اتَّفَقَا عَلَيْهِ بِشَرْطِ الشَّرِكَةِ صَحِيحٌ ؟ أَمْ هُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ ؟
وَهَلْ لَهُ إذَا كَانَ شَرِيكًا أَنْ يَجْعَلَهُ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ الْمَالَ
وَيَبِيعُ وَيَشْتَرِي وَيَأْخُذُ وَيُعْطِي . فَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فَلَيْسَ
لَهُ إلَّا عَيْنُ مَالِهِ وَقَدْ عَمِلَ هَذَا الْعَامِلُ فِيهِ عَلَى أَنَّ لَهُ
نِصْفَ الرِّبْحِ . فَهَلْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِنِصْفِ الرِّبْحِ أَمْ لَا ؟
وَهَلْ لَهُ بَعْدَ عَمَلِ هَذَا الْعَامِلِ وَانْتِقَالِ الْقُمَاشِ مِنْ
الشَّامِ إلَى الإسكندرية أَنْ يَأْخُذَ الْقُمَاشَ وَيَذْهَبَ عَمَلُهُ
وَسَعْيُهُ فِيهِ ؟ أَمْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأُجْرَةِ عَمَلِهِ ؟ أَمْ بِرِبْحِ
مِثْلِهِ ؟ أَفْتُونَا .
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ مِنْ وُجُوهٍ : مِنْهَا
الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشَّرِكَةِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ . وَقَدّ
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ مَعَ الْبَيْعِ
عَقْدًا مِثْلَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ عَلَى أَنْ يُسَاقِيَهُ أَوْ يُشَارِكَهُ
عَلَى أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْهُ وَلَا أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهُ
وَنَحْوَ
ذَلِكَ . فَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك } " كَذَلِكَ " { نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ } " وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ أَوْ أَجَّرَهُ مَعَ الْقَرْضِ فَإِنَّهُ يُحَابِيهِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَجْلِ الْقَرْضِ وَالْقَرْضُ مُوجَبُهُ رَدُّ الْمِثْلِ فَقَطْ فَمَتَى اشْتَرَطَ زِيَادَةً لَمْ تَجُزْ بِالِاتِّفَاقِ . وَكَذَلِكَ الْمُبَايَعَةُ وَالْمُشَارَكَةُ مَبْنَاهَا عَلَى الْعَدَالَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ . وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمَا بِرِبْحِ سِلْعَةٍ مُعَيَّنٍ وَلَا بِمِقْدَارِ مِنْ الرِّبْحِ وَلَا تَخْصِيصَ أَحَدِهِمَا بِالضَّمَانِ وَمَتَى بَايَعَهُ عَلَى أَنْ يُشَارِكَهُ فَإِنَّهُ يُحَابِيهِ ؛ إمَّا فِي الشَّرِكَةِ بِأَنْ يَخْتَصَّ بِالْعَمَلِ وَإِمَّا فِي الْبَيْعِ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَتَخْرُجُ الْعُقُودُ عَنْ الْعَدْلِ الَّذِي مَبْنَاهَا عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فَفِي اشْتِرَاطِ الْمُشَارَكَةِ إلْزَامُ الْمُشْتَرِي بِتَصَرُّفِ خَاصٍّ وَمَنْعُهُ بِمَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ . وَمِثْلُ هَذَا مَمْنُوعٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إنَّمَا يَسُوغهُ فِي مِثْلِ اشْتِرَاطِ عِتْقِ الْمَبِيع أَوْ وَقْفِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَصْلَحَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا تَضَمَّنَ تَرْكَ الْعَدْلِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وِفَاقًا . وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ : أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ إنَّمَا مَقْصُودُهُمَا فِي الْعَادَةِ
الْمُضَارَبَةُ بِالْمَالِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا لَكِنْ قَدْ يُرِيدُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَجْعَلَ نِصْفَ الْمَالِ فِي ضَمَانِ الْعَامِلِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وِفَاقًا لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْبَيْعُ وَالشَّرِكَةُ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ وِفَاقًا فَيَحْتَالُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَبِيعَ الْعَامِلُ نِصْفَ الْمَالِ ؛ وَلِهَذَا يُجْعَلُ الْمَالُ كُلُّهُ فِي يَدِهِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ مَحْضَ الشَّرِكَةِ لَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ شَرِيكَا الْعِنَانِ مَعَ كَوْنِ الْمَالِ فِي أَيْدِيهِمَا . وَهَذَا " وَجْهٌ ثَالِثٌ " فَتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ وَهُوَ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بِيَدِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فَقَطْ . وَأَمَّا كَوْنُ هَذِهِ شَرِكَةَ عَرَضٍ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ ؛ لَكِنَّ الْإِقْرَارَ الْمُكَذَّبَ الْمُخَالِفَ لِلْوَاقِعِ حَرَامٌ قَادِحٌ فِي الدِّينِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَالُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ وَلَوْ كَانَ شَرِيكًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجْعَلَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْعُقُودَ والقبوض دُونَهُ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُضَارَبَةِ ؛ لَا فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ . وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى لَكِنْ إنْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ رَدَّ الْقِيمَةَ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ فِيهَا الْمُشْتَرِي الشَّرِيكُ فَلَهُ رِبْحُ مِثْلِهِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَنَازِعُونَ فِيمَا فَسَدَ مِنْ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ إذَا عَمِلَ فِيهَا الْعَامِلُ هَلْ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ ؟ أَوْ يَسْتَحِقُّ قِسْطُ مِثْلِهِ مِنْ الرِّبْحِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَظْهُرُهُمَا الثَّانِي . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَالْعِوَضُ فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ هُوَ نَظِيرُ مَا يَجِبُ فِي الصَّحِيحِ عُرْفًا وَعَادَةً كَمَا يَجِبُ فِي
الْبَيْعِ
وَالْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ ثَمَنُ الْمِثْلِ وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ وَفِي
الْجَعَالَة الْفَاسِدَةِ جُعِلَ الْمِثْلُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ
هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ إنَّمَا يَجِبُ فِيهِ قِسْطُهُ مِنْ الرِّبْحِ إنْ كَانَ
لَا أُجْرَةَ مُقَدَّرَةً وَكَذَلِكَ النَّصِيبُ الَّذِي اشْتَرَاهُ إنْ قِيلَ :
يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ مَعَ ارْتِفَاعِ قِيمَته كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ
مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد . وَلِلْعَامِلِ الْمُشْتَرِي
أَنْ يَطْلُبَ إمَّا أُجْرَةَ عَمَلِهِ . وَإِمَّا قِسْطَ مِثْلِهِ مِنْ الرِّبْحِ
. عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ . وَأَمَّا إنْ قِيلَ : إنَّهُ بَعْدَ قَبْضِهِ
وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا رَدُّ الْقِيمَةِ - كَمَا يَقُولُهُ
مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ - فَالْحُكْمُ فِيهِ
ظَاهِرٌ . وَبِكُلِّ حَالٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الزِّيَادَةِ الَّتِي
زِيدَتْ عَلَى قِيمَةِ الْمِثْلِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - بِالِاتِّفَاقِ
وَاَللَّهِ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً وَمَاتَ فَعَمِلَ فِيهِ الْعَامِلُ بَعْدَ
مَوْتِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَرَثَةِ . فَهَلْ تَنْفَسِخُ الْمُضَارَبَةُ ؟ وَمَا
حُكْمُ الرِّبْحِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَالِكِ ؟
فَأَجَابَ
:
نَعَمْ تَنْفَسِخُ الْمُضَارَبَةُ بِمَوْتِ الْمَالِكِ ثُمَّ إذَا عَلِمَ
الْعَامِلُ بِمَوْتِهِ وَتَصَرَّفَ بِلَا إذْن الْمَالِكِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا
وَلَا وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَهُوَ غَاصِبٌ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
الرِّبْحِ الْحَاصِلِ فِي هَذَا : هَلْ هُوَ لِلْمَالِكِ فَقَطْ كَنَمَاءِ
الْأَعْيَانِ ؟ أَوْ لِلْعَامِلِ فَقَطْ ؟ لِأَنَّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ أَوْ
يَتَصَدَّقَانِ بِهِ لِأَنَّهُ رِبْحٌ خَبِيثٌ ؟ أَوْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا ؟ عَلَى
أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : أَصَحُّهَا الرَّابِعُ . وَهُوَ أَنَّ الرِّبْحَ
بَيْنَهُمَا كَمَا يَجْرِي بِهِ الْعُرْفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَبِهَذَا حَكَمَ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا
أَخَذَهُ بَنُوهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَاتَّجَرُوا فِيهِ بِغَيْرِ
اسْتِحْقَاقٍ فَجَعَلَهُ مُضَارَبَةً وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْفُقَهَاءُ فِي
" بَابِ الْمُضَارَبَةِ " ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءٌ حَاصِلٌ مِنْ
مَنْفَعَةِ بَدَنِ هَذَا وَمَالِ هَذَا : فَكَانَ بَيْنَهُمَا كَسَائِرِ النَّمَاءِ
الْحَادِثِ مِنْ أَصْلَيْنِ وَالْحَقُّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا وَلَا وَجْهَ
لِتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِمَا وَلَا لِتَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِهِ . وَإِيجَابُ
قِسْطِ مِثْلِهِ مِنْ الرِّبْحِ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ أُجْرَةَ
الْمِثْلِ ؛ فَإِنَّ الْمَالَ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ رِبْحٌ وَقَدْ تَكُونُ
أُجْرَتُهُ أَضْعَافَ رِبْحِهِ وَبِالْعَكْسِ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ
الْمُشَارَكَاتِ الْعَمَلَ حَتَّى يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ أُجْرَةً وَلَا هِيَ
عَقْدُ إجَارَةٍ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ أَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ
الْمُشَارَكَاتِ لَا مِنْ الْمُؤَاجَرَاتِ حَتَّى يَبْطُلَ فِيهَا مَا يَبْطُلُ
فِيهَا فَمَنْ أَوْجَبَ فِيهَا مَا لَا يَجِبُ فِيهَا : فَقَدْ غَلِطَ . وَإِنْ
كَانَ جَرَى بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْوَرَثَةِ مِنْ الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي فِي
الْعُرْفِ
أَنْ يَكُونَ إبْقَاءً لِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى لَهُ مِنْ
الرِّبْحِ وَكَانَ ذَلِكَ مُضَارَبَةً مُسْتَحَقَّةً . وَإِذَا أَقَرَّ
بِالرِّبْحِ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ . فَإِنْ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ غَلَطًا
لَا يُعْذَرُ فِي مِثْلِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ . وَإِنْ كَانَ يُعْذَرُ فِي
مِثْلِهِ فَفِي قَبُولِهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ
إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ أَوْ الشَّارِعِ . وَمَتَى فَعَلَ كَانَ
ضَامِنًا لِلْمَالِ ؛ سَوَاءٌ كَانَ دَفْعُهُ بِعَقْدِ صَحِيحٍ ؛ أَوْ فَاسِدٍ .
فَمَا ضَمِنَهُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ ضَمِنَ بِالْفَاسِدِ . وَمَا لَمْ يُضْمَنْ
بِالصَّحِيحِ لَمْ يُضْمَنْ بِالْفَاسِدِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَالُ غَصْبًا
فَهُوَ ضَامِنٌ بِكُلِّ حَالٍ وَمَتَى فَرَّطَ الْعَامِلُ فِي الْمَالِ أَوْ
اعْتَدَى فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ . وَكَذَلِكَ الْعَامِلُ الثَّانِي إذَا جَحَدَ
الْحَقَّ أَوْ كَتَمَ الْمَالَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَوْ طَلَبَ الْتِزَامَهُمْ
إجَارَةً لِغَيْرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ أَثِمَ بِذَلِكَ . وَعَلَى وَلِيِّ
الْأَمْرِ إيصَالُ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ دَفَعَ لِرَجُلِ مَالًا عَلَى سَبِيلِ الْقِرَاضِ ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَ
ذَلِكَ عَلَى الْمَدْفُوعِ لَهُ الْمَالُ دَيْنٌ بِتَارِيخِ مُتَقَدِّمٍ عَلَى
الْقِرَاضِ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ لِأَرْبَابِ الدَّيْنِ شَيْئًا
مِنْ هَذَا الْمَالِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ مِنْ
مَالِ الْقِرَاضِ شَيْئًا أَوْ عَدِمَ أَوْ وَقَعَ فِيهِ تَفْرِيطٌ بِغَيْرِ
سَبَبٍ
ظَاهِرٍ
يُقْبَلُ هَذَا الْقَوْلُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَفِّيَ مِنْ مَالِ هَذَا الْقِرَاضِ شَيْئًا مِنْ الدَّيْنِ
الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْعَامِلِ ؛ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ رَبُّ الْمَالِ ؛ فَإِنْ
ادَّعَى مَا يُخَالِفُ الْعَادَةَ لَمْ يُقْبَلْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ مُضَارِبٍ رَفَعَهُ صَاحِبُ الْمَالِ إلَى الْحَاكِمِ وَطَلَبَ مِنْهُ
جَمِيعَ الْمَالِ وَحَكَمَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ فَدَفَعَ إلَيْهِ
الْبَعْضَ وَطَلَبَ مِنْهُ الْإِنْظَارَ بِالْبَاقِي فَأَنْظَرَهُ وَضَمِنَ عَلَى
وَجْهِهِ فَسَافَرَ الْمُضَارِبُ عَنْ الْبَلَدِ مُدَّةً . فَهَلْ تَبْطُلُ
الشَّرِكَةُ بِرَفْعِهِ إلَى الْحَاكِمِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ بِدَفْعِ
الْمَبْلَغِ وَإِنْظَارِهِ ؟ وَهَلْ يَضْمَنُ فِي ذِمَّتِهِ ؟
فَأَجَابَ :
تَنْفَسِخُ الشَّرِكَةُ بِمُطَالَبَتِهِ الْمَذْكُورَةِ وَيَضْمَنُ الْمَالَ فِي
ذِمَّتِهِ بِالسَّفَرِ الْمَذْكُورِ ؛ بِتَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ مَعَ الْإِمْكَانِ
عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يَجُوزُ لِلْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِ
الْمُقَارِضِ حَضَرًا أَوْ سَفَرًا ؟ وَإِذَا جَازَ . هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْسُطَ
لَذِيذَ الْأَكْلِ . وَالتَّنَعُّمَاتِ مِنْهُ ؟ أَمْ يَقْتَصِرُ عَلَى
كِفَايَتِهِ الْمُعْتَادَةِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا شَرْطٌ فِي
النَّفَقَةِ جَازَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُنَاكَ عُرْفٌ وَعَادَةٌ
مَعْرُوفَةٌ بَيْنَهُمْ وَأَطْلَقَ الْعَقْدَ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى تِلْكَ
الْعَادَةِ . وَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ
مَنْ يَقُولُ : لَهُ النَّفَقَةُ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ كَمَا
يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ . وَالْمَشْهُورُ
أَنْ لَا نَفَقَةَ بِحَالِ وَلَوْ شَرَطَهَا . وَحَيْثُ كَانَتْ لَهُ النَّفَقَةُ
فَلَيْسَ لَهُ النَّفَقَةُ إلَّا بِالْمَعْرُوفِ وَأَمَّا الْبَسْطُ الْخَارِجُ
عَنْ الْمَعْرُوفِ فَيَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ اثْنَيْنِ اشْتَرَكَا : مِنْ أَحَدِهِمَا دَابَّةً وَمِنْ الْآخَرِ دَرَاهِمَ
. جَعَلَا ذَلِكَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا قَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ رِبْحٍ
كَانَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ رَبِحَا . فَمَا الْحُكْمُ ؟
فَأَجَابَ :
يَنْظُرُ قِيمَةَ الْبَهِيمَةِ فَتَكُونُ هِيَ وَالدَّرَاهِمُ رَأْسَ الْمَالِ
وَذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ
وَالْقِسْمَةَ تَصِحُّ بِالْأَقْوَالِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى خَلْطِ الْمَالَيْنِ
وَلَا إلَى تَمْيِيزِهِمَا وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ مُشْتَرَكًا بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ
كَمَا يَتَمَيَّزُ بِعَقْدِ الْقِسْمَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ فَمَا رَبِحَا كَانَ
بَيْنَهُمَا وَإِذَا تَقَاسَمَا بِيعَتْ الدَّابَّةُ وَاقْتَسَمَا ثَمَنَهَا مَعَ
جُمْلَةِ الْمَالِ . وَهَذَا إذَا صَحَّحْنَا الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ ظَاهِرٌ
وَأَمَّا إذَا أَبْطَلْنَاهَا فَحُكْمُ الْفَاسِدِ حُكْمُ الصَّحِيحِ فِي
الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ وَصِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَفَسَادِهِ وَإِنَّمَا
يَفْتَرِقَانِ فِي الْحِلِّ وَفِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ
. فَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ
يَكُونُ الرِّبْحُ تَبَعًا لِلْمَالِ وَيَكُونُ لِلْآخَرِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ
وَالْأَصَحُّ فِي هَذَا أَنَّ لَهُ رِبْحَ الْمِثْلِ وَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ شَرِيكَيْنِ فِي فَرَسٍ . لَا يَتَبَايَعَانِ وَلَا يَشْتَرِيَانِ وَلَا
يَكُونُ عِنْدَ أَحَدِهِمَا مُشَاهَرَةٌ وَالْفَرَسُ تَضِيعُ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ
أَحَدَهُمَا أَعَارَهَا بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَهَلَكَتْ . هَلْ تَلْزَمُ
الشَّرِيكَ الَّذِي أَعَارَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يَتَّفِقَا أَنْ تَكُونَ عِنْدَ أَحَدِهِمَا وَلَا عِنْدَ ثَالِثٍ
يَخْتَارَانِهِ لَهَا وَلَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا مُفَاضَلَةَ الْآخَرِ فِيهَا :
تُبَاعُ جَمِيعُ الْفَرَسِ وَيُقْسَمُ ثَمَنُهَا بَيْنَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلَيْنِ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ فِي فَرَسٍ . فَأَذِنَ أَحَدُهُمَا
لِلْآخَرِ فِي سَيْرِهِ ؛ لِئَلَّا يَضُرَّ بِهِ الْوُقُوفُ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ
فِي سَوْقِهِ وَأَرْكَبَ غَيْرَهُ فَحَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ مَرَضٌ . فَهَلْ
يَلْزَمُهُ إنْ مَاتَ ؟ أَوْ يَلْزَمُهُ أَرْشُهُ بِالنَّقْصِ ؟ وَهَلْ يَلْزَمُهُ
مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ دَوَاءٍ ؟ وَالشَّرِيكُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ مِنْ
جِهَةِ الْحَاكِمِ
وَهُوَ
رَشِيدٌ فِي تَصَرُّفِهِ ؛ غَيْرَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ ذَلِكَ بَيِّنَةٌ
تَشْهَدُ لَهُ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ : فَهَلْ لِشَرِيكِهِ أَنْ
يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ قِيمَتَهُ ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الشَّرِيكُ قَدْ اعْتَدَى فَفَعَلَ مَا لَمْ تَأْذَنْ بِهِ
الشَّرِيعَةُ وَلَا الْمَالِكُ ؛ لَا لَفْظًا وَلَا عُرْفًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا
تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَتْ
الْجِنَايَةُ نَقَصَتْ الْفَرَسَ ضَمِنَ النَّقْصَ وَإِنْ وَجَبَ بِتَلَفِ
الْفَرَسِ ضَمِنَهُ جَمِيعَهُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو مُشْتَرِكَانِ فِي فَرَسٍ وَأَخَذَ زَيْدٌ الْفَرَسَ
وَسَاقَهَا غَيْرَ الْعَادَةِ بِغَيْرِ إذْنِ عَمْرٍو ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَصَلَ
لِلْفَرَسِ ضَعْفٌ فَمَاتَتْ تَحْتَ يَدِ زَيْدٍ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ إذَا اعْتَدَى الشَّرِيكُ عَلَيْهَا فَتَلِفَتْ بِسَبَبِ عُدْوَانِهِ
ضِمْنَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ شَارَكَ شَخْصًا فِي بَقَرَةٍ وَكَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمَا
يَسْتَعْمِلُهَا وَيَعْلِفُهَا وَطَلَبَهَا شَرِيكُهُ يُفَاضِلُهُ فِيهَا فَأَبَى
فَادَّعَى ثُلْثَيْ الْبَقَرَةِ وَمَنَعَ الْمُفَاضَلَةَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، عَلَيْهِ أَنْ يُفَاضِلَهُ فِيهَا
وَإِذَا طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بَيْعَهَا بِيعَتْ عَلَيْهِمَا وَاقْتَسَمَا
الثَّمَنَ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِمْ . وَإِذَا كَانَ الشَّرِيكُ يَأْخُذُ اللَّبَنَ وَكَانَ اللَّبَنُ
بِقَدْرِ الْعَلَفِ سَوَاءً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ انْتِفَاعُهُ
بِهَا أَكْثَرَ مِنْ الْعَلَفِ أَعْطَى شَرِيكَهُ نَصِيبَهُ مِنْ الْفَضْلِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَاعٍ كَانَ مَعَهُ غَنَمٌ خَلْطًا وَاحْتَاجَتْ إلَى نَفَقَةٍ فَبَاعَ
بَعْضَهَا وَأَنْفَقَهُ عَلَى الْبَاقِي . وَكَانَ الْمَبِيع مَالَ بَعْضِهِمْ .
فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْقَ مَنْ غَنَمِهِ شَيْءٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ لَهُ
قَلِيلٌ . وَمِنْهُمْ كَثِيرٌ . فَهَلْ يَقْتَسِمُونَ عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ
الْأَمْوَالِ ؟ أَمْ كُلُّ مَنْ بَقِيَ لَهُ شَيْءٌ يَأْخُذُهُ ؟
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
بَلْ يَقْتَسِمُونَ الْبَاقِيَ عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ الْأَمْوَالِ أَوْ يَغْرَمُ
أَرْبَابُ الْبَاقِي مَا أَنْفَقَ عَنْهُمْ وَهُوَ قِيمَةُ مَا بَاعَهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ شَرِيكَيْنِ بَيْنَهُمْ خَيْلٌ وَكَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمَا فَرَسٌ فَمَاتَتْ
بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَعَمِلَ بِمَوْتِهَا مَحْضَرًا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ قَدْ سَلَّمَهَا إلَى الْآخَرِ وَتَلِفَتْ
تَحْتَ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا عُدْوَانٍ فَلَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ لَهُ شَرِيكٌ فِي فَرَسٍ وَهِيَ تَحْتَ يَدِ الشَّرِيكِ بِرِضَاهُ
فَوَقَعَ عَلَى الْبَلَدِ أَمْرٌ مِنْ السَّلْطَنَةِ وَأُخِذَتْ الْفَرَسُ مَعَ
خَيْلٍ أُخَرَ وَقُمَاشٍ وَقَدْ قَصَدَ الشَّرِيكُ أَنْ يُضَمِّنَ شَرِيكَهُ .
فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ وَلَا عُدْوَانٌ فَلَا
ضَمَانَ عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ . وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي نَفْيِ
التَّفْرِيطِ وَالْعُدْوَانِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ شَرِكَةٌ فِي بُسْتَانٍ وَأَنَّهُ
اسْتَأْجَرَ مِنْهُ نَصِيبَهُ بِإِجَارَةِ شَرْعِيَّةٍ وَأَنَّ الشَّرِيكَ الَّذِي
اسْتَأْجَرَ تَعَدَّى وَقَطَعَ مِنْ أَخْشَابِ الْبُسْتَانِ شَيْئًا لَهُ ثَمَرٌ
يَغِلُّ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ وَهُوَ حَاضِرٌ وَاسْتَعْمَلَ مِنْهَا
بَوَاقِيَ وأحطابا لِغَرَضِهِ . فَهَلْ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ بِمَا تَعَدَّى
عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ لِلْمَالِكِ أَنْ يُمْسِكَ أَعْوَانَهُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا
قَطْعَ الْخَشَبِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ بِعَقْدِ
الْإِجَارَةِ
وَمَا أَخَذَهُ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ لِشَرِيكِهِ يَضْمَنُ لَهُ
نَصِيبَهُ . وَلِلْمَالِكِ أَنْ يُطَالِبَ بِالضَّمَانِ مَنْ بَاشَرَ الْأَخْذَ
وَلَا أَنْ يُطَالِبَ الشَّرِيكَ الْآمِرَ لَهُمْ فَيَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ
أَيِّهِمْ شَاءَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ جَمَاعَةٍ شُهُودٍ اشْتَرَكُوا فَعَمِلَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ .
فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْجَمَاعَةُ الْجَعَالَةَ بِالسَّوِيَّةِ أَوْ
يَسْتَحِقُّونَهَا عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ ؟
فَأَجَابَ :
مُوجَبُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ الْمُطْلَقَةِ التَّسَاوِي فِي الْعَمَلِ وَالْأَجْرِ
. فَإِنْ عَمِلَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ تَبَرُّعًا بِالزِّيَادَةِ سَاوَوْهُ فِي
الْأَجْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا طَالَبَهُمْ ؛ إمَّا بِمَا زَادَ فِي
الْعَمَلِ وَإِمَّا بِإِعْطَائِهِ زِيَادَةً فِي الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ .
وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَشْتَرِطُوا لَهُ زِيَادَةً جَازَ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ جَمَاعَةٍ دَلَّالِينَ مُشْتَرِكِينَ فِي بَيْعِ السِّلَعِ . هَلْ يَقْدَحُ
ذَلِكَ فِي دِينِهِمْ ؟ وَهَلْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ - أَعَزَّهُ اللَّهُ -
مَنْعُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِمْ غِشٌّ أَوْ تَدْلِيسٌ ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا إذَا كَانَ التَّاجِرُ الَّذِي
يُسَلِّمُ مَالَهُ إلَى الدَّلَالِ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يُسَلِّمُهُ إلَى غَيْرِهِ
مِنْ الدَّلَّالِينَ وَرَضِيَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ بِلَا رَيْبٍ
؛ فَإِنَّ الدَّلَالَ وَكِيلُ التَّاجِرِ . وَالْوَكِيلُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ
غَيْرَهُ كَالْمُوَكِّلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي
جَوَازِ تَوْكِيلِهِ بِلَا إذْنِ الْمُوَكِّلِ . عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ
لِلْعُلَمَاءِ . وَعَلَى هَذَا تَنَازَعُوا فِي شَرِكَةِ الدَّلَّالِينَ ؛
لِكَوْنِهِمْ وُكَلَاءَ . فَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ .
وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ عُرْفٌ مَعْرُوفٌ أَنَّ الدَّلَّالَ يُسَلِّمُ السِّلْعَةَ
إلَى مَنْ يَأْتَمِنُهُ كَانَ الْعُرْفُ الْمَعْرُوفُ كَالشَّرْطِ الْمَشْرُوطِ
وَلِهَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : كَمَالِكِ وَأَبِي
حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ إلَى جَوَازِ " شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ
" كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : اشْتَرَكْت أَنَا وَسَعْدُ بْنُ أَبِي
وَقَّاصٍ وَعَمَّارٌ يَوْمَ بَدْرٍ فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ وَلَمْ أَجِئْ
أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءِ . و " شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ " فِي مَصَالِحِ
الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ الْأَمْصَارِ وَكَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِ
الْمُسْلِمِينَ لَا يَنْتَظِمُ بِدُونِهَا . كَالصُّنَّاعِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي
الْحَوَانِيتِ ؛ مِنْ الدَّلَّالِينَ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَا
يَسْتَقِلُّ بِأَعْمَالِ النَّاسِ فَيَحْتَاجُ إلَى مُعَاوِنٍ وَالْمُعَاوِنُ لَا
يُمْكِنُ أَنْ تُقَدَّرَ أُجْرَتُهُ وَعَمَلُهُ كَمَا لَا يُمْكِنُ مِثْلُهُ ذَلِكَ
فِي الْمُضَارَبَةِ ؛ وَنَحْوِهَا فَيَحْتَاجُونَ إلَى الِاشْتِرَاكِ .
وَجُمْهُورُ
الْعُلَمَاءِ يَجْعَلُونَ الشَّرِكَةَ عَقْدًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ فِي
الشَّرِيعَةِ يُوجِبُ لِكُلِّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ بِالْعَقْدِ مَا لَا
يَسْتَحِقُّهُ بِدُونِ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا
يَجْعَلُ شَرِكَةً إلَّا شَرِكَةَ الْأَمْلَاكِ فَقَطْ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ
الْعُقُودِ فَيَمْنَعُ عَامَّةَ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ النَّاسُ
إلَيْهَا كَالتَّفَاضُلِ فِي الرِّبْحِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمَالِ وَشَرِكَةِ
الْوُجُوهِ وَالْأَبْدَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَلَكِنَّ قَوْلَ الْجُمْهُورِ
أَصَحُّ . وَإِذَا اشْتَرَكَ اثْنَانِ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَتَصَرَّفُ
لِنَفْسِهِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَلِشَرِيكِهِ بِحُكْمِ الْوِكَالَةِ . فَمَا
عَقَدَهُ مِنْ الْعُقُودِ عَقَدَهُ لِنَفْسِهِ وَلِشَرِيكِهِ . وَمَا قَبَضَهُ
قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ وَلِشَرِيكِهِ . وَإِذَا عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ
وَيُسَلِّمُونَ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ إذْنًا لِأَحَدِهِمْ أَنْ
يَأْذَنَ لِشَرِيكِهِ وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ الْمَنْعُ فِي مِثْلِ
الْعُقُودِ والقبوض الَّتِي يُجَوِّزُهَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَمَصَالِحُ
النَّاسِ وَقْفٌ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ جَمِيعِهَا لَا يُمْكِنُ فِي
الشَّرْعِ وَتَخْصِيصُ بَعْضِهَا بِالْمَنْعِ تَحَكُّمٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ تَخْبِيرِ الشِّرَاءِ مُرَابَحَةً وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ
بِالنَّسِيئَةِ فَهَلْ يَحِلُّ ذَلِكَ ؟ أَمْ يَحْرُمُ ؟ .
فَأَجَابَ
:
أَمَّا الْبَيْعُ بِتَخْبِيرِ الثَّمَنِ فَهُوَ جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ مُرَابَحَةً
أَوْ مُوَاضَعَةً أَوْ تَوْلِيَةً أَوْ شَرِكَةً ؛ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ
يَسْتَوِيَ عِلْمُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ . فَإِذَا كَانَ
الْبَائِعُ قَدْ اشْتَرَاهُ إلَى أَجَلٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ الْمُشْتَرِي
ذَلِكَ فَإِنْ أَخْبَرَهُ بِثَمَنِ مُطْلَقٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ أَنَّهُ
اشْتَرَاهُ إلَى أَجَلٍ فَهَذَا جَائِرٌ ظَالِمٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا
وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ
بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَاجِرٍ فِي حَانُوتٍ ، اشْتَرَى قِطْعَةَ قُمَاشٍ بِأَحَدِ عَشَرَ
وَرُبْعٍ وَبَعْدَ مَا اشْتَرَاهَا جَاءَهُ رَجُلٌ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ
اشْتَرَاهَا بِأَحَدِ عَشَرَ وَرُبْعٍ وَكَسَبَ نِصْفًا فَأَخْذَهَا الْمُشْتَرِي
وَتَفَارَقَا بِالْأَبْدَانِ وَبَعْدَ سَاعَةٍ جَاءَ الْمُشْتَرِي وَغَصَبَهُ
بِرَدِّهَا وَامْتَنَعَ التَّاجِرُ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْفَائِدَةَ فَأَبَى الْمُشْتَرِي
فَتَنَازَعَا عَلَى الْفَائِدَةِ . فَقَالَ الْمُشْتَرِي : خُذْ مِنِّي رُبْعًا
وَثُمُنًا فَقَالَ التَّاجِرُ لِلْمُشْتَرِي : ابْتَعْنِي بِأَحَدِ عَشَرَ
وَنِصْفٍ فَقَالَ : عِبَارَةُ نَعَمْ . فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِهَذَا
الرُّبْعِ الزَّائِدِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ؟ وَيَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ فِي
وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِصَاحِبِ السِّلْعَةِ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِذَلِكَ مِنْ
غَيْرِ
بَيَانِ الْحَالِ ؛ بَلْ إنْ أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ فَلْيُبَيِّنْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَهَا أَعَادَهَا إلَيْهِ بِنِصْفِ الرِّبْحِ ؛ فَإِنَّ هَذَا سَوَاءٌ كَانَ بَيْعًا أَوْ إقَالَةً لَيْسَ هُوَ عِنْدَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَشْتَرِي سِرًّا مُطْلَقًا ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُ . فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِالثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْحَالِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ إذْ هَذَا مِنْ نَوْعِ الْخِيَانَةِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا بَاعَهَا بِرِبْحِ ثُمَّ وَجَدَهَا تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَاشْتَرَاهَا هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُسْقِطَ الْأَوَّلَ مِنْ الثَّمَنِ الثَّانِي ؟ أَوْ يُخْبِرَ بِالْحَالِ ؟ أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . فَإِذَا كَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ فَكَيْفَ إذَا قَالَ فِيهَا بِدُونِ الثَّمَنِ ؟ وَكَيْفَ إذَا كَانَ كَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ لَهُ ؟ وَالْبَيْعُ بِتَخْبِيرِ الثَّمَنِ أَصْلُهُ الصِّدْقُ وَالْبَيَانُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا } " . فَمَا كَانَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي إذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهَا لَمْ يَشْتَرِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ ؛ كَانَ كِتْمَانُهُ خِيَانَةً . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَزْوَاجِ مَتَاعٍ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَأَخْبَرَ
بِزَوْجِ عَلَى حُكْمِ مَا اشْتَرَاهُ وَقَسَمَ الثَّمَنَ عَلَى الْأَزْوَاجِ لَا
زَائِدَ وَلَا نَاقِصَ . هَلْ ذَلِكَ حَلَالٌ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ أَخْبَرَ بِالِاشْتِرَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فَيَذْكُرُ
أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مَعَ غَيْرِهَا وَأَنَّهُ قَسَّطَ الثَّمَنَ عَلَى الْجَمِيعِ
فَجَاءَ قِسْطُ هَذَا كَذَا وَهَذَا كَذَا فَإِنَّ هَذَا حَقِيقَةُ الصِّدْقِ
وَالْبَيَانِ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّعَانِ
بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا
فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا }
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
بَابُ
الْمُسَاقَاةِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَدْ ذَكَرْت فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي فِيهَا قَوَاعِدُ
فَقِيهَةٌ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ قِيَامِ النَّاسِ
بِالْقِسْطِ وَتَنَاوُلُ ذَلِكَ لِلْمُعَامَلَاتِ : الَّتِي هِيَ الْمُعَاوَضَاتُ
وَالْمُشَارَكَاتُ وَذَكَرْت أَنَّ " الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ
وَالْمُضَارَبَةَ " وَنَحْوَ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْمُشَارَكَاتِ وَبَيَّنْت
بَعْضَ مَا دَخَلَ مِنْ الْغَلَطِ عَلَى مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ
الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ حَتَّى حَكَّمَ فِيهَا أَحْكَامً
الْمُعَاوَضَاتِ . وَبَيَّنْت جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ بِبَذْرِ مِنْ الْمَالِكِ
أَوْ مِنْ الْعَامِلِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ وَبَيَّنْت أَنَّ حَدِيثَ رَافِعِ
بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَعَنْ كِرَاءِ
الْأَرْضِ أَنَّ مَا مَعْنَاهُ : مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ اشْتِرَاطِ
زَرْعِ بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِرَبِّ الْأَرْضِ
كَمَا بَيَّنَهُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا . وَمَنْ سَمَّى الْمُعَامَلَةَ بِبَذْرِ مِنْ الْمَالِكِ مُزَارَعَةً وَمِنْ الْعَامِلِ مُخَابَرَةً : فَهُوَ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ؛ بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّاهَا هَؤُلَاءِ وَآبَاؤُهُمْ لَمْ يُنْزِلْ اللَّهُ بِهَا سُلْطَانًا . فَإِنَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } . وَالْمُخَابَرَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَذْرٌ مِنْ الْعَامِلِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُشَارَكَةِ الَّتِي هِيَ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ إذَا اشْتَرَطَ لِرَبِّ الْأَرْضِ فِيهَا زَرْعَ مَكَانٍ بِعَيْنِهِ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ - وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ - أَنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ إذَا نَظَرَ فِيهِ ذُو الْبَصَرِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَلِمَ أَنَّهُ حَرَامٌ أَوْ كَمَا قَالَ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشَارَكَةَ وَالْمُعَامَلَةَ تَقْتَضِي الْعَدْلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَالْمَغْرَمِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَصْلَ مَالِهِ فَإِذَا اُشْتُرِطَ لِأَحَدِهِمَا زَرْعٌ مُعَيَّنٌ كَانَ فِيهِ تَخْصِيصُهُ بِذَلِكَ وَقَدْ لَا يَسْلَمُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ ظُلْمًا لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَهُوَ مِنْ الْغَرَرِ وَالْقِمَارِ أَيْضًا . فَفِي مَعْنَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ وَمَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ لِأَحَدِهِمَا ثَمَرَةَ شَجَرَةٍ بِعَيْنِهَا وَلَا مِقْدَارًا مَحْدُودًا مِنْ الثَّمَرِ وَكَذَلِكَ لَا
يَشْتَرِطُ لِأَحَدِهِمَا زَرْعَ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ وَلَا مِقْدَارًا مَحْدُودًا مِنْ نَمَاءِ الزَّرْعِ وَكَذَلِكَ لَا يَشْتَرِطُ لِأَحَدِهِمَا رِبْحَ سِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا وَلَا مِقْدَارًا مَحْدُودًا مِنْ الرِّبْحِ . فَأَمَّا اشْتِرَاطُ عَوْدِ مِثْلِ رَأْسِ الْمَالِ فَهُوَ مِثْلُ اشْتِرَاطِ عَوْدِ الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ . وَفِي اشْتِرَاطِ عَوْدِ مِثْلِ الْبَذْرِ كَلَامٌ ذَكَرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِمُعَيَّنِ أَوْ مِقْدَارٍ مِنْ النَّمَاءِ حَتَّى يَكُونَ مَشَاعًا بَيْنَهُمَا ؛ فَتَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِمَا لَيْسَ مِنْ النَّمَاءِ أَوْلَى : مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَنْ يَزْرَعَ لَهُ أَرْضًا أُخْرَى أَوْ يَبْضَعَهُ بِضَاعَةً يَخْتَصُّ رَبُّهَا بِرِبْحِهَا أَوْ يَسْقِي لَهُ شَجَرَةً أُخْرَى وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . فَإِنَّ الْعَامِلَ لِحَاجَتِهِ قَدْ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ الْمَالِكُ نَفْعَهُ فِي قَالَبٍ آخَرَ فَيُضَارِبُهُ وَيَبْضَعُهُ بِضَاعَةً أَوْ يُعَامِلُهُ عَلَى شَجَرٍ وَأَرْضٍ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي أَرْضٍ أُخْرَى أَوْ فِي إعَانَةِ مَاشِيَةٍ لَهُ أَوْ يَشْتَرِطَ اسْتِعَارَةَ دَوَابِّهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ شَرْطُهُ بِلَا نِزَاعٍ أَعْلَمُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى اشْتِرَاطٍ بِمُعَيَّنِ أَوْ بِقَدْرِ مِنْ الرِّبْحِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَطَ مَنْفَعَتَهُ أَوْ مَنْفَعَةَ مَالِهِ اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِاسْتِيفَاءِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ نَمَاءٌ أَوْ يَحْصُلُ دُونَ مَا ظَنَّهُ فَيَكُونُ الْآخَرُ قَدْ أَخَذَ مَنْفَعَتَهُ بِالْبَاطِلِ وَقَامَرَهُ وَرَابَاهُ فَإِنَّ فِيهِ رِبًا وَمَيْسِرًا .
فَإِنْ تَوَاطَآ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ الْعَقْدِ فَهُوَ كَالشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي " كِتَابِ بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ " : إنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى الْعَقْدِ كَالْمُقَارِنِ لَهُ . فَإِنْ تَبَرَّعَ أَحَدُهُمَا بِهَدِيَّةِ إلَى الْآخَرِ مِثْلَ أَنْ يَهْدِيَ الْعَامِلُ فِي الْمُضَارَبَةِ إلَى الْمَالِكِ شَيْئًا أَوْ يَهْدِيَ الْفَلَّاحُ غَنَمًا أَوْ دَجَاجًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ : فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ إهْدَاءِ الْمُقْتَرِضِ مِنْ الْمُقْرِضِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ فِيهَا بَيْنَ الرَّدِّ وَبَيْنَ الْقَبُولِ وَالْمُكَافَأَةِ عَلَيْهَا بِالْمَثَلِ وَبَيْنَ أَنْ يَحْسِبَهَا لَهُ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ إذَا تَقَاسَمَا كَمَا يَحْسِبُهُ مِنْ أَصْلِ الْقَرْضِ . وَهَذَا يُنَازِعُنَا فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ . وَيَقُولُ مُتَبَرِّعٌ بِالْإِهْدَاءِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ إنَّمَا أَهْدَاهُ لِأَجْلِ الْمُعَامَلَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا مِنْ الْقَرْضِ وَالْمُعَاوَضَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ { الْعَامِلِ الأزدي ابْنِ اللتبية لَمَّا قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ . فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا } " وَثَبَتَ عَنْ عَدَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهُمْ أَمَرُوا الْمُقْرِضَ الَّذِي قَبِلَ الْهَدِيَّةَ أَنْ يَحْسِبَهَا مِنْ قَرْضِهِ . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الِاعْتِبَارِ فَإِنَّهُ إذَا قَبِلَ الْهَدِيَّةَ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فَقَدْ
دَخَلَ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْهَدِيَّةَ وَبَدَلَ الْقَرْضِ عِوَضًا عَنْ الْقَرْضِ وَهَذَا عَيْنُ الرِّبَا ؛ فَإِنَّ الْقَرْضَ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ إلَّا مِثْلَهُ . وَلَوْ قَالَ لَهُ وَقِّتْ الْقَرْضَ : أَنَا أُعْطِيك مِثْلَهُ وَهَذِهِ الْهَدِيَّةَ : لَمْ يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ . فَإِذَا أَعْطَاهُ قَبْلَ الْوَفَاءِ الْهَدِيَّةَ الَّتِي هِيَ مِنْ أَجْلِ الْقَرْضِ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ مَعَهَا مِثْلَ الْقَرْضِ كَانَ ذَلِكَ مُعَاقَدَةً عَلَى أَخْذِ أَكْثَرِ مِنْ الْأَصْلِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَهْدَى إلَيْهِ عَلَى الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقَرْضِ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ بِقَبُولِ الْهَدِيَّةِ يُرِيدُ أَنْ يُنْظِرَهُ لِأَجَلِهَا فَيَصِيرُ بِمِائَةِ وَالْهَدِيَّةُ بِمِائَةِ إلَى أَجَلٍ وَهَذَا عَيْنُ الرِّبَا ؛ بِخِلَافِ الْمِائَةِ بِمِائَةِ مِثْلِهَا فِي الصِّفَةِ . وَلَوْ شُرِطَ فِيهَا الْأَجَلُ ؛ فَإِنَّ هَذَا تَبَرُّعٌ مَحْضٌ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةِ ؛ إذْ الْعَاقِلُ لَا يَبِيعُ الشَّيْءَ بِمَا يُسَاوِيهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إلَى أَجَلٍ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الصِّفَةِ كَبَيْعِ الصِّحَاحِ بِالْمُكَسَّرَةِ وَنَقْدٍ بِنَقْدِ آخَرَ إلَى أَجَلٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي الْمُشَارَكَةِ : فَإِنَّهُ إذَا قَبِلَ هَدِيَّةَ الْعَامِلِ وَنَفْعَهُ الَّذِي إنَّمَا بَذَلَهُ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ بِلَا عِوَضٍ مَعَ اشْتِرَاطِهِ النَّصِيبَ مِنْ الرِّبْحِ : كَانَ هَذَا الْقَبُولُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُعَاقَدَةً عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مَعَ النَّصِيبِ الشَّائِعِ شَيْئًا غَيْرَهُ ؛ بِمَنْزِلَةِ زَرْعِ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ . وَقَدْ لَا يَحْصُلُ رِبْحٌ فَيَكُونُ الْعَامِلُ مَقْهُورًا مَظْلُومًا ؛ وَلِهَذَا يَطْلُبُ الْعَامِلُ بَدَلَ هَدِيَّتِهِ وَيَحْتَسِبُ بِهَا عَلَى الْمَالِكِ فَإِنْ لَمْ يُعَوِّضْهُ عَنْهَا وَإِلَّا خَانَهُ فِي الْمَالِ : أَصْلِهِ
وَرِبْحِهِ كَمَا يَجْرِي مِثْلُ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَالْفَلَّاحِ ؛ فَإِنَّ الْفَلَّاحَ يَخُونُهُ وَيَظْلِمُهُ لِمَا يَزْعُمُ أَنَّ الْمُزَارِعَ يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ مَالِهِ وَنَحْوِهِ : كَأَخْذِ الْهَدَايَا . وَأَكْلِهِ هُوَ وَدَوَابُّهُ مِنْ مَالِهِ مُدَّةً بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَقْرِضُ السُّنْبُلَ قَبْلَ الْحَصَادِ وَيَتْرُكُ الْحَبَّ فِي الْقَصَبِ وَالتِّبْنِ وَفِي عِفَارَةِ الْبَيْدَرِ وَيَسْرِقُ مِنْهُ وَيَحْتَالُ عَلَى السَّرِقَةِ بِكُلِّ وَجْهٍ وَالْمُزَارِعُ يَظْلِمُهُ فِي بَدَنِهِ بِالضَّرْبِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَفِي مَالِهِ بِالِاسْتِنْفَاقِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ وَيَرَى أَنَّ هَذَا بِإِزَاءِ مَا اخْتَانَهُ مِنْ مَالِهِ . وَكَذَلِكَ يَجْرِي بَيْنَ مَالِكِ الْمَالِ وَالْعَامِلِ : الْعَامِلُ يَرَى أَنَّهُ يَأْخُذُ نَفْعَهُ وَمَالَهُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ هَدَايَا وَمِنْ بَضَائِعَ مَعَهُ يَتَّجِرُ لَهُ فِيهَا فَيَخُصُّهُ بِالرِّبْحِ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ فَيُرِيدُ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ نَفْعِهِ وَمَالِهِ فَيَخُونَ فِي الْمَالِ وَالرِّبْحِ وَيَكْذِبَ وَيَكْتُمَ وَالْمَالِكُ يَرَى أَنَّ الْعَامِلَ يَخُونُ فِي الْمَالِ وَالرِّبْحِ وَيُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مَالٍ لَهُ آخَرَ أَوْ بِالْإِهْدَاءِ إلَى أَصْدِقَائِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ نَفْعُهُ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ فَيُطَالِبَهُ بِالْهَدَايَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . حَتَّى إنَّ مِنْ الْعُمَّالِ مَنْ لَا يَهْدِي إلَّا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْمَالِكَ يَطْلُبُ ذَلِكَ وَيُؤْثِرُهُ فَيَتَّقِي بِذَلِكَ شَرَّهُ وَظُلْمَهُ . وَتُفْضِي هَذِهِ الْمُعَامَلَاتُ إلَى الْمُخَاصَمَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَالظُّلْمِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ . وَسَبَبُ ذَلِكَ اخْتِصَاصُ أَحَدِهِمَا بِشَيْءِ خَارِجٍ عَنْ النَّصِيبِ الْمُشَاعِ مِنْ النَّمَاءِ فَإِنَّ هَذَا خُرُوجٌ عَنْ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ
فِي
الْمُشَارَكَاتِ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ . فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْهِ .
أَمْ لَا ؟ } يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ جَمِيعَهَا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ
إذَا كَانَتْ لِأَجْلِ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ كَانَتْ مَقْبُوضَةً بِحُكْمِ
ذَلِكَ السَّبَبِ كَسَائِرِ الْمَقْبُوضِ بِهِ ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْعُرْفِيَّ
كَالْعِقْدِ اللَّفْظِيِّ . وَمَنْ أُهْدِيَ لَهُ لِأَجْلِ قَرْضٍ أَوْ إقْرَاضٍ
كَانَتْ الْهَدِيَّةُ كَالْمَالِ الْمَقْبُوضِ بِعَقْدِ الْقَرْضِ وَالْقِرَاضِ
إذَا لَمْ يَحْصُلْ عَنْهَا مُكَافَأَةٌ . وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ يَدْخُلُ
بِسَبَبِ إهْمَالِهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ شَيْءٌ عَظِيمٌ .
فَصْلٌ
وَكَمَا قُلْنَا فِي الْمَقْبُوضِ : إنَّهُ قَبْلَ الْوَفَاءِ لَيْسَ لَهُ أَنْ
يَأْخُذَ مِنْهُ مَالًا وَلَا نَفْعًا قَبْلَ الْوَفَاءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ مِثْلِهِ
؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّبَا فَالْإِهْدَاءُ وَالْإِعَارَةُ مِنْ نَوْعٍ
فَكَذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ ؛ مَتَى أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ
مَالًا أَوْ نَفْعًا قَبْلَ الِاقْتِسَامِ التَّامِّ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِعِوَضِ
مِثْلِهِ : مِثْلَ اسْتِخْدَامِ الْعَامِلِ وَالْفَلَّاحِ فِي غَيْرِ مُوجَبِ
عَقْدِ الْمُشَارَكَة أَوْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ
يَحْتَسِبَ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَلِهَذَا
تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ . لَوْ أَعْطَاهُ عَرَضًا فَقَالَ : بِعْهُ وَضَارِبْ
بِثَمَنِهِ .
فَقِيلَ
: لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَخْتَصُّ بِمَنْفَعَتِهِ قَبْلَ
الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ بَيْعَ سِلْعَةٍ أُخْرَى .
وَقِيلَ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مَقْصُودُهُ مَقْصُودُ
الْمُضَارَبَةِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ الْحَاصِلَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالْمَالُ
أَمَانَةٌ بِيَدِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ مَنْفَعَةٌ
يَخْتَصُّ بِهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَقْصُودِ الْمُضَارَبَةِ . وَفِي الْمَسْأَلَةِ
نَظَرٌ .
وَقَالَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْمُزَارَعَةُ " : فَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ
أَوْ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ . أَوْ كَانَ مِنْ شَخْصٍ أَرْضٌ وَمِنْ آخَرَ بَذْرٌ
وَمِنْ ثَالِثٍ الْعَمَلُ فَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَالصَّوَابُ
أَنَّهَا تَصِحُّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ
الْعَامِلِ فَهُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِمَّا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ
الْمَالِكِ . { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ
أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِشَطْرِ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ } " . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَغَيْرُهُ . وَقِصَّةُ أَهْلِ خَيْبَرَ هِيَ الْأَصْلُ فِي جَوَازِ "
الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ " وَإِنَّمَا كَانُوا يَبْذُرُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُعْطِيهِمْ بَذْرًا مِنْ عِنْدِهِ وَهَكَذَا خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ : مِثْلُ عُمَرَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ . كَانُوا يُزَارِعُونَ بِبَذْرِ مِنْ الْعَامِلِ . وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ فِي أَجْوِبَةٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْأَرْضَ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِقِصَّةِ أَهْلِ خَيْبَرَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَهُمْ عَلَيْهَا بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا . وَهَذَا هُوَ مَعْنَى إجَارَتِهَا بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الَّذِي يَبْذُرُ الْأَرْضَ وَفِي الصُّورَتَيْنِ لِلْمَالِكِ بَعْضُ الزَّرْعِ . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ حَقَّقَ هَذَا الْمَوْضِعَ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ : إنَّ هَذَا مُزَارَعَةٌ عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ الْعَامِلِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي وَغَيْرِهِ : بَلْ يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَلَا يَجُوزُ بِلَفْظِ الْمُزَارَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ الْمُزَارَعَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ : بَلْ يَجُوزُ هَذَا مُزَارَعَةً وَلَا يَجُوزُ مُؤَاجَرَةً ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ ؛ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا يُشْبِهُ قَفِيزَ الطَّحَّانِ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَفِيزِ
الطَّحَّانِ } وَهُوَ : أَنْ يُسْتَأْجَرَ لِيَطْحَنَ الْحَبَّ بِجُزْءِ مِنْ الدَّقِيقِ . وَالصَّوَابُ : هُوَ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِالْمَعَانِي وَالْمَقَاصِدِ ؛ لَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ . هَذَا أَصْلُ أَحْمَد وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ وَلَكِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ أَحْمَد قَدْ يَجْعَلُونَ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِتَغَايُرِ اللَّفْظِ كَمَا قَدْ يَذْكُرُ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَهَذَا كَالسَّلَمِ الْحَالِّ فِي لَفْظِ الْبَيْعِ وَالْخُلْعِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَالْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُزَارَعَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ فَلَيْسَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَا أَثَرَ عَنْ الصَّحَابَةِ ؛ وَلَكِنَّهُمْ قَاسُوا ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ . قَالُوا : كَمَا أَنَّهُ فِي الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ الْعَمَلُ مِنْ شَخْصٍ وَالْمَالُ مِنْ شَخْصٍ فَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ يَكُونُ الْعَمَلُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْمَالُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ . وَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ فَنَظِيرُهُ الْأَرْضُ أَوْ الشَّجَرُ يَعُودُ إلَى صَاحِبِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الثَّمَرَ وَالزَّرْعَ وَأَمَّا الْبَذْرُ فَإِنَّهُمْ لَا يُعِيدُونَهُ إلَى صَاحِبِهِ ؛ بَلْ يَذْهَبُ بِلَا بَدَلٍ كَمَا يَذْهَبُ عَمَلُ الْعَامِلِ وَعَمَلُ بَقَرِهِ بِلَا بَدَلٍ ؛ فَكَانَ مِنْ جَنْسِ النَّفْعِ لَا مِنْ جَنْسِ الْمَالِ وَكَانَ اشْتِرَاطُ كَوْنِهِ مِنْ الْعَامِلِ أَقْرَبَ فِي الْقِيَاسِ مَعَ مُوَافَقَةِ هَذَا الْمَنْقُولِ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُزَارِعُ وَالْبَذْرُ مِنْ
الْعَامِلِ وَكَانَ عُمَرَ يُزَارِعُ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ فَلَهُ كَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَامِلِ فَلَهُ كَذَا . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ . فَجَوَّزَ عُمَرَ هَذَا . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إجَارَةً لِنَهْيِهِ عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ فَيُقَالُ : هَذَا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ وَلَا رَوَاهُ إمَامٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْمَدِينَةُ النَّبَوِيَّةُ لَمْ يَكُنْ بِهَا طَحَّانٌ يَطْحَنُ بِالْأُجْرَةِ وَلَا خَبَّازٌ يَخْبِزُ بِالْأُجْرَةِ . وَأَيْضًا فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِكْيَالٌ يُسَمَّى الْقَفِيزَ وَإِنَّمَا حَدَثَ هَذَا الْمِكْيَالُ لَمَّا فُتِحَتْ الْعِرَاقُ وَضُرِبَ عَلَيْهِمْ الْخَرَاجُ فَالْعِرَاقُ لَمْ يُفْتَحْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ الَّذِينَ لَا يُسَوِّغُونَ مِثْلَ هَذَا ؛ قَوْلًا بِاجْتِهَادِهِمْ . وَالْحَدِيثُ لَيْسَ فِيهِ نَهْيُهُ عَنْ اشْتِرَاطِ جُزْءٍ مُشَاعٍ مِنْ الدَّقِيقِ ؛ بَلْ عَنْ شَيْءٍ مُسَمًّى : وَهُوَ الْقَفِيزُ وَهُوَ مِنْ الْمُزَارَعَةِ لَوْ شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا زَرَعَهُ بُقْعَةً بِعَيْنِهَا أَوْ شَيْئًا مُقَدَّرًا كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةً . وَهَذَا هُوَ الْمُزَارَعَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حَدِيثِ
رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي حَدِيثِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { أَنَّهُمْ كَانُوا
يَشْتَرِطُونَ لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا فَنَهَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ } " . وَقَدْ بَسَطَ
الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَبَيَّنَ
أَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَحَلُّ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ بِأُجْرَةِ مُسَمَّاةٍ . وَقَدْ
تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْجَمِيعِ ؛ فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ مَبْنَاهَا
عَلَى الْعَدْلِ : إنْ حَصَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ
اشْتَرَكَا فِي الْحِرْمَانِ . وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَالْمُؤَجِّرُ يَقْبِضُ
الْأُجْرَةَ وَالْمُسْتَأْجِرُ عَلَى خَطَرٍ : قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُهُ
وَقَدْ لَا يَحْصُلُ ؛ فَكَانَتْ الْمُزَارَعَةُ أَبْعَدَ عَنْ الْمُخَاطَرَةِ
مِنْ الْإِجَارَةِ ؛ وَلَيْسَتْ الْمُزَارَعَةُ مُؤَاجَرَةً عَلَى عَمَلٍ
مُعَيَّنٍ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهَا الْعَمَلُ بِالْأُجْرَةِ ؛ بَلْ هِيَ مِنْ
جِنْسِ الْمُشَارَكَةِ : كَالْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا . وَأَحْمَد عِنْدَهُ هَذَا
الْبَابُ هُوَ الْقِيَاسُ .
وَيَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ
وَالْجِمَالَ إلَى مَنْ يُكَارِي عَلَيْهَا وَالْكِرَاءُ بَيْنَ الْمَالِكِ
وَالْعَامِلِ وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد
وَغَيْرِهِ . وَيَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَا يُصْطَادُ بِهِ : الصَّقْرُ
وَالشِّبَاكُ وَالْبَهَائِمُ وَغَيْرُهَا إلَى مَنْ يَصْطَادُ بِهَا وَمَا حَصَلَ
بَيْنَهُمَا . وَيَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْحِنْطَةَ إلَى مَنْ
يَطْحَنُهَا وَلَهُ الثُّلُثُ أَوْ الرُّبْعُ . وَكَذَلِكَ الدَّقِيقُ إلَى مَنْ
يَعْجِنُهُ وَالْغَزْلُ إلَى مَنْ يَنْسِجُهُ وَالثِّيَابُ إلَى مَنْ يَخِيطُهَا
بِجُزْءِ فِي الْجَمِيعِ مِنْ النَّمَاءِ . وَكَذَلِكَ الْجُلُودُ إلَى مَنْ
يَحْذُوهَا نِعَالًا وَإِنْ حُكِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ . وَكَذَلِكَ
يَجُوزُ عِنْدَهُ - فِي أَظْهَرِ
الرِّوَايَتَيْنِ
- أَنْ يَدْفَعَ الْمَاشِيَةَ إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا بِجُزْءِ مِنْ
دَرِّهَا وَنَسْلِهَا وَيَدْفَعَ دُودَ الْقَزِّ وَالْوَرَقِ إلَى مَنْ يُطْعِمُهُ
وَيَخْدِمُهُ وَلَهُ جُزْءٌ مِنْ الْقَزِّ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ
الْمُزَارَعَةِ وَالْإِجَارَةِ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ ؛ بِخِلَافِ
الْمُزَارَعَةِ فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا مَمْنُوعٌ ؛ بَلْ إذَا زَارَعَهُ حَوْلًا
بِعَيْنِهِ فَالْمُزَارَعَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ كَمَا تَلْزَمُ إذَا كَانَتْ بِلَفْظِ
الْإِجَارَةِ وَالْإِجَارَةُ قَدْ لَا تَكُونُ لَازِمَةً كَمَا إذَا قَالَ :
آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمَيْنِ ؛ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ فِي
ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَكُلَّمَا دَخَلَ شَهْرٌ فَلَهُ فَسْخُ
الْإِجَارَةِ . وَالْجَعَالَةُ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَلَيْسَتْ عَقْدًا
لَازِمًا . فَالْعَقْدُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا وَقْتَ لَهُ لَا يَكُونُ لَازِمًا
وَأَمَّا الْمُؤَقَّتُ فَقَدْ يَكُونُ لَازِمًا .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا إجَارَةُ الْأَرْضِ بِجِنْسِ الطَّعَامِ الْخَارِجِ مِنْهَا :
كَإِجَارَةِ الْأَرْضِ لِمَنْ يَزْرَعُهَا حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا بِمِقْدَارِ
مُعَيَّنٍ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ : فَهُوَ أَيْضًا جَائِزٌ فِي أَظْهَرِ
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ
وَفِي الْأُخْرَى يَنْهَى عَنْهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ .
قَالُوا : لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِجَارَةِ هُوَ الطَّعَامُ فَهُوَ فِي مَعْنَى بَيْعِهِ بِجِنْسِهِ . وَقَالُوا : هُوَ مِنْ الْمُخَابَرَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْمُزَابَنَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيْعُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ جُزَافًا . وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ هُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ ؛ وَلِهَذَا إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الزَّرْعِ وَلَمْ يَزْرَعْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَالطَّعَامُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَبَذْرِهِ . وَبَذْرُهُ لَمْ يُعْطِهِ إيَّاهُ الْمُؤَجِّرُ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الرِّبَا فِي شَيْءٍ . وَنَظِيرُ هَذَا : أَنْ يَسْتَأْجِرَ قَوْمًا لِيَسْتَخْرِجُوا لَهُ مَعْدِنَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ رِكَازًا مِنْ الْأَرْضِ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَلَيْسَ هَذَا كَبَيْعِ الدَّرَاهِمِ بِدَرَاهِمَ . وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَشُقُّ الْأَرْضَ وَيَبْذُرُ فِيهَا وَيَسْقِيهَا بِطَعَامِ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنْ يَبْذُرَ لَهُ طَعَامًا . فَهَذَا مِثْلُ ذَلِكَ . وَالْمُخَابَرَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَسَّرَهَا رَافِعٌ رَاوِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهَا الْمُزَارَعَةُ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعُ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا ؛ وَلَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ الْمُزَارَعَةَ كُلَّهَا مِنْ الْمُخَابَرَةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمُزَارَعَةُ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ مِنْ الْمُخَابَرَةِ كَالشَّافِعِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمُزَارَعَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ مِنْ الْمُخَابَرَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : كِرَاءُ الْأَرْضِ بِجِنْسِ الْخَارِجِ مِنْهَا مِنْ
الْمُخَابَرَةِ كَمَالِكِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُخَابَرَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا كَمَا فَسَّرَهَا بِهِ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ إذَا نَظَرَ فِيهِ ذُو الْبَصِيرَةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَلِمَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ . وَهَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : كَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَة وَغَيْرِهِمْ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ أَشْيَاءَ دَاخِلَةً فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ فِي كِتَابِهِ الرِّبَا وَالْمَيْسِرَ وَحَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الْغَرَرِ فَإِنَّهُ مِنْ نَوْعِ الْمَيْسِرِ وَكَذَلِكَ بَيْعُ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَبَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ . وَحَرَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي الرِّبَا . فَصَارَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَظُنُّونَ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَامِّ أَوْ عِلَّتُهُ الْعَامَّةُ أَشْيَاءُ وَهِيَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي ذَلِكَ . كَمَا أَدَخَلَ بَعْضُهُمْ ضَمَانَ الْبَسَاتِينِ حَوْلًا كَامِلًا أَوْ أَحْوَالًا لِمَنْ يَسْقِيهَا وَيَخْدِمُهَا حَتَّى تُثْمِرَ فَظَنُّوا أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَحَرَّمُوهُ ؛ وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ : كَإِجَارَةِ الْأَرْضِ . فَلَمَّا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ وَجَوَّزَ إجَارَةَ الْأَرْضِ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى تُنْبِتَ . وَكَذَلِكَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَلَمْ يَنْهَ أَنْ تُضْمَنَ لِمَنْ يَخْدِمُهَا حَتَّى تُثْمِرَ وَيَحْصُلُ الثَّمَرُ بِخِدْمَتِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَبَائِعُ الثَّمَرِ
وَالزَّرْعِ
عَلَيْهِ سَقْيُهُ إلَى كَمَالِ صَلَاحِهِ خِلَافَ الْمُؤَجِّرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ
يَسْقِي مَا لِلْمُسْتَأْجِرِ مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ ؛ بَلْ سَقْيُ ذَلِكَ عَلَى
الضَّامِنِ الْمُسْتَأْجِرِ . وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ضَمِنَ حَدِيقَةَ أسيد
بْنِ الحضير ثَلَاثَ سِنِينَ وَتَسَلَّفَ كِرَاءَهَا فَوَفَّى بِهِ دَيْنًا كَانَ
عَلَيْهِ . وَنَظَائِرُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ .
وَسُئِلَ :
هَلْ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا فَرَّطَ الْمُزَارِعُ فِي نِصْفِ
فَدَّانٍ فَحَلَفَ رَبُّ الْأَرْضِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لَيَأْخُذَن عِوَضَهُ
مِنْ الزَّرْعِ الطَّيِّبِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْمُزَارِعُ بِثُلُثِ الزَّرْعِ أَوْ رُبُعِهِ أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ الْأَجْزَاءِ الشَّائِعَةِ : جَائِزٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَقِّقِي
الْفُقَهَاءِ . وَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ قَدْ فَرَّطَ حَتَّى فَاتَ بَعْضُ
الْمَقْصُودِ فَأَخَذَ الْمَالِكُ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى وَجَعَلَ
ذَلِكَ لَهُ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ عُدْوَانٌ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ
وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ سَلَّمَ أَرْضَهُ إلَى رَجُلٍ لِيَزْرَعَهَا وَيَكُونَ الزَّرْعُ
بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَالْبَذْرُ مِنْ الزَّارِعِ ؛ لَا مِنْ رَبِّ
الْأَرْضِ . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا شَرِكَةً ؟ أَوْ لَا
يَجُوزُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا جَائِزٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَبِهِ
مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ
خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِهِ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ
عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا
: مِنْ زَرْعٍ وَثَمَرٍ . عَلَى أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ . فَهَذِهِ
مُشَاطَرَةٌ فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ لَا مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ . وَكَذَلِكَ كَانَ
أَصْحَابُهُ بَعْدَهُ يَفْعَلُونَ : مِثْلَ آلِ أَبِي بَكْرٍ وَآلِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ وَمِثْلَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ . وَاَلَّذِينَ خَالَفُوا ذَلِكَ لَهُمْ مَأْخَذَانِ ضَعِيفَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْمُزَارَعَةَ مِثْلُ الْمُؤَاجَرَةِ
وَلَيْسَتْ مِنْ بَابِ
الْمُؤَاجَرَةِ
؛ فَإِنَّ الْمُؤَاجَرَةَ يُقْصَدُ مِنْهَا عَمَلُ الْعَامِلِ وَيَكُونُ الْعَمَلُ
مَعْلُومًا ؛ بَلْ يَشْتَرِكَانِ هَذَا بِمَنْفَعَةِ أَرْضِهِ وَهَذَا
بِمَنْفَعَةِ بَدَنِهِ وَبَقَرِهِ كَسَائِرِ الشُّرَكَاءِ . وَأَمَّا مَا نَهَى
عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُخَابَرَةِ فَقَدْ
جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ لِرَبِّ
الْأَرْضِ زَرْعَ بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ ؛ فَلِهَذَا نَهَى عَنْهَا . وَمَنْ اشْتَرَطَ
أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ فَإِنَّهُ شَبَّهَهَا بِالْمُضَارَبَةِ
الَّتِي يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْعَمَلُ مِنْ
الْآخَرِ وَظَنَّ أَنَّ الْبَذْرَ يَكُونُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَكِلَاهُمَا
مَالٌ . وَهَذَا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ رَأْسَ الْمَالِ يَعُودُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ
إلَى صَاحِبِهِ كَمَا يَعُودُ رَأْسُ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْأَرْضُ فِي
الْمُزَارَعَةِ وَالْأَرْضُ وَالشَّجَرُ فِي الْمُسَاقَاةِ . وَالْعَامِلُ إذَا
بَذَرَ الْبَذْرَ وَأَمَاتَهُ فَلَمْ يَأْخُذْ مِثْلَهُ صَارَ الْبَذْرُ يَجْرِي
مَجْرَى الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا يُرْجَعُ بِمِثْلِهَا وَمَنْ اشْتَرَطَ أَنْ
يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ وَلَا يَعُودُ فِيهِ فَقَوْلُهُ فِي غَايَةِ
الْفَسَادِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَرَأْسِ الْمَالِ لَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ فِي
نَظِيرِهِ كَمَا يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ أَرْضٌ مَزْرُوعَةٌ وَغَيْرُهَا وَجَاءَ مَنْ يَزْرَعُهَا لَهُ
مُشَاطَرَةً وَالْبَذْرُ وَسَائِرُ مَا يَلْحَقُ الزَّرْعَ مِنْ الْأَجْرِ حَتَّى
إذَا أَخَذَ الحَصَّادُونَ
شَيْئًا
أَخَذَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مِثْلَهُ وَنِصْفَ التِّبْنِ أَيْضًا . فَهَلْ يَجُوزُ
ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْمُزَارَعَةُ عَلَى الْأَرْضِ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ
مِنْهَا جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ
الْعَامِلِ . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ .
فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ
بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يُعَمِّرُوهَا
مِنْ أَمْوَالِهِمْ } وَهَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ .
وَجَوَازُ الْمُزَارَعَةِ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ هُوَ مَذْهَبُ
الثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْعُلَمَاءِ
بِالْحَدِيثِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ عَلَى
أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ
مِنْ الْعَامِلِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ
أَهْلِ خَيْبَرَ وَتَشْبِيهُ ذَلِكَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّ
الْبَذْرَ لَا يَعُودُ إلَى بَاذِرِهِ كَمَا يَعُودُ مَالُ الْمَالِكِ . وَاَلَّذِي
نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُخَابَرَةِ
هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَامِلُونَ وَيَشْتَرِطُونَ لِلْمَالِكِ مَنْفَعَةً
مُعَيَّنَةً مِنْ الْأَرْضِ وَهَذَا
بَاطِلٌ
بِالِاتِّفَاقِ . كَمَا لَوْ اشْتَرَطَ دَرَاهِمَ مُقَدَّرَةً فِي الْمُضَارَبَةِ
أَوْ رِبْحَ صِنْفٍ بِعَيْنِهِ مِنْ السِّلَعِ . وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ
وَالْمُضَارَبَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا
تَقْدِيرُ الْعَمَلِ وَالْأُجْرَةِ فَإِنَّ تِلْكَ يَكُونُ الْمَقْصُودُ فِيهَا
الْعَمَلَ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَةِ فَإِنَّهُمَا
يَشْتَرِكَانِ بِمَنْفَعَةِ بَدَنِ هَذَا وَمَنْفَعَةِ مَالِ هَذَا وَهُمَا
مُشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَالْمَغْرَمِ . وَكَانَ آلُ أَبِي بَكْرٍ
يُزَارِعُونَ وَآلُ عُمَرَ يُزَارِعُونَ وَآلُ ابْنِ مَسْعُودٍ يُزَارِعُونَ
وَهَذَا عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنِ نَبِيِّهِمْ إلَى الْيَوْمِ . وَهِيَ
كَانَتْ فِيهِمْ أَظْهَرَ مِنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
فَإِنَّهَا أَبْعَدُ عَنْ الظُّلْمِ وَالْغُرُورِ وَأَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ
الَّذِي ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْمُعَامَلَاتُ . وَأَمَّا مُؤْنَةُ الحصادين فَعَلَى
مَنْ اشْتَرَطَاهُ ؛ إنْ اشْتَرَطَا الْمُؤْنَةَ عَلَيْهِمَا فَهِيَ عَلَيْهِمَا
وَإِنْ شَرَطَاهَا عَلَى أَحَدِهِمَا فَهِيَ عَلَيْهِ وَفِي الْإِطْلَاقِ نِزَاعٌ
. وَلَهُمَا اقْتِسَامُ الْحَبِّ وَالتِّبْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا بِجُزْءِ مِنْ زَرْعِهَا وَتَسَلَّمَهَا وَلَمْ
يَزْرَعْهَا . فَهَلْ لِلْمَالِكِ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ؟ .
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهَا . وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ
عِنْدَنَا صِحَّتُهَا ثُمَّ سَوَاءٌ سُمِّيَتْ إجَارَةً أَوْ مُزَارَعَةً :
فَأَحْمَدُ يُصَحِّحُهَا فِي غَالِبِ نُصُوصِهِ وَسَمَّاهَا إجَارَةً وَقَالَ
أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ : هِيَ الْمُزَارَعَةُ بِبَذْرِ الْعَامِلِ .
وَأَمَّا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ فَصَحَّحُوهَا وَأَبْطَلُوا الْمُزَارَعَةَ
بِبَذْرِ مِنْ الْعَامِلِ . وَإِذَا كَانَتْ صَحِيحَةً ضُمِنَتْ بِالْمُسَمَّى
الصَّحِيحِ . وَهُنَا لَيْسَ هُوَ فِي الذِّمَّةِ فَيُنْظَرُ إلَى مُعَدَّلِ الْمُغَلِّ
فَيَجِبُ الْقِسْطُ الْمُسَمَّى فِيهِ . وَإِذَا جَعَلْنَاهَا مُزَارَعَةً
وَصَحَّحْنَاهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تُضْمَنَ بِمِثْلِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى
وَاحِدٌ وَإِنْ أَفْسَدْنَاهَا وَسَمَّيْنَاهَا إجَارَةً فَفِي الْوَاجِبِ
قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا
وَغَيْرِهِمْ . وَالثَّانِي : قِسْطُ الْمِثْلِ وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ .
وَأَجَابَ بَعْضُ النَّاسِ : أَنَّ هَذِهِ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ فَيَجِبُ
بِالْقَبْضِ فِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ .
وَسُئِلَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَمَّا إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِهِمَا أَرْضٌ وَمِنْ آخَرَ حَبٌّ . إلَخْ ؟
فَأَجَابَ :
وَكَذَلِكَ إذَا تَعَامَلَا بِأَنْ يَكُونَ مِنْ رَجُلٍ أَرْضٌ وَمِنْ آخَرَ حَبٌّ
أَوْ بَقَرٌ أَوْ مِنْ رَجُلٍ مَاءٌ وَمِنْ رَجُلٍ حَبٌّ وَعِنَبٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ
هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ
إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَطْحَنَ لَهُ طَحِينًا بِثُلُثِهِ أَوْ رُبُعِهِ . أَوْ
يَخْبِزَ لَهُ رَغِيفًا بِثُلُثِهِ أَوْ رُبُعِهِ . أَوْ يَخِيطَ لَهُ ثِيَابًا
بِثُلُثِهَا أَوْ رُبُعِهَا . أَوْ يَسْقِيَ لَهُ زَرْعًا بِثُلْثِهِ أَوْ
رُبُعِهِ . أَوْ يَقْطِفَ لَهُ ثَمَرًا بِثُلُثِهِ أَوْ رُبُعِهِ فَهَذَا
وَمِثْلُهُ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ إذَا
أَعْطَاهُ مَاءَهُ لِيَسْقِيَ بِهِ قُطْنَهُ أَوْ زَرْعَهُ وَيَكُونُ لَهُ
رُبُعُهُ أَوْ ثُلُثُهُ . فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ أَيْضًا . سَوَاءٌ كَانَ الْمَاءُ
مِنْ هَذَا . وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَةِ ؛ لَا مِنْ جَنْسِ الْإِجَارَةِ
وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَاقَاةِ ؛ وَالْمُزَارَعَةِ . وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ
فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ : أَنَّ الْمُزَارَعَةَ جَائِزَةٌ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ
مِنْ الْمَالِكِ أَوْ مِنْ الْعَامِلِ أَوْ مِنْهُمَا . وَسَوَاءٌ كَانَتْ
أَرْضًا
بَيْضَاءَ أَوْ ذَاتَ شَجَرٍ وَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْجَارِ
. وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ ظَنَّ أَنَّهُ إجَارَةٌ بِعِوَضِ مَجْهُولٍ وَلَيْسَ
كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مُشَارَكَةٌ كَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُضَارَبَةُ عَلَى وَفْقِ
الْقِيَاسِ لَا عَلَى خِلَافِهِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَنْ جَنْسِ الْإِجَارَةِ
بَلْ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَاتِ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي
مَوْضِعِهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ رَابَعَ رَجُلًا . صُورَتُهَا : أَنَّ الْأَرْضَ لِوَاحِدِ وَمِنْ آخَرَ
الْبَقَرُ وَالْبَذْرُ وَمِنْ الْمُرَابِعِ الْعَمَلُ . عَلَى أَنَّ لِرَبِّ
الْأَرْضِ النِّصْفَ وَلِهَذَيْنِ النِّصْفُ لِلْمُرَابِعِ رُبُعُهُ فَبَقِيَ فِي
الْأَرْضِ فَمَا نَبَتَ وَنَبَتَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ هَذَا مِنْ الْأَرْضِ وَمِنْ الْحَبِّ الْمُشْتَرَكِ فَفِيهِ قَوْلَانِ
: " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَقَطْ . و "
الثَّانِي " يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ
وَالْحَبِّ . وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ لَهُ أَرْضٌ أَعْطَاهَا لِشَخْصِ مغارسة بِجُزْءِ مَعْلُومٍ وَشَرَطَ
عَلَيْهِ عِمَارَتَهَا فَغَرَسَ بَعْضَ الْأَرْضِ وَتَعَطَّلَ مَا فِي الْأَرْضِ
مِنْ الْغَرْسِ . فَهَلْ يَجُوزُ قَلْعُ الْمَغْرُوسِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ
لِلْحَاكِمِ أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِقَلْعِهِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا لَمْ يَقُومُوا بِمَا شَرَطَ
عَلَيْهِمْ كَانَ لِرَبِّ الْأَرْضِ الْفَسْخُ وَإِذَا فَسَخَ الْعَامِلُ أَوْ
كَانَتْ فَاسِدَةً فَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نَصِيبَ الْغَارِسِ
بِقِيمَتِهِ إذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى قَلْعِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ غَرَسَ غِرَاسًا فِي أَرْضٍ بِإِذْنِ مَالِكِهَا ثُمَّ تُوُفِّيَ
مَالِكُهَا عَنْهَا وَخَلَفَ وَرَثَةً فَوَقَفُوا الْأَرْضَ عَلَى مُعَيَّنِينَ
فَتَشَاجَرَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ وَصَاحِبُ الْغِرَاسِ عَلَى الْأُجْرَةِ
فَمَاذَا يَلْزَمُ صَاحِبَ الْأَرْضِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ الْغِرَاسُ قَدْ غُرِسَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ
بِإِعَارَةِ
أَوْ بِإِجَارَةِ وَانْقَضَتْ مُدَّتُهُ أَوْ كَانَتْ مُطْلَقَةً فَعَلَى صَاحِبِ
الْغِرَاسِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ تُقَوَّمُ الْأَرْضُ بَيْضَاءَ لَا غِرَاسَ فِيهَا
ثُمَّ تُقَوَّمُ وَفِيهَا ذَلِكَ الْغِرَاسُ فَمَا بَلَغَ فَهُوَ أُجْرَةُ
الْمِثْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ جُنْدِيٍّ أَقَطَعَ لَهُ السُّلْطَانُ إقْطَاعًا وَهُوَ خَرَاجُ أَرْضٍ
وَتِلْكَ الْأَرْضُ كَانَتْ مُقْطَعَةً لِجُنْدِيِّ - تُوُفِّيَ إلَى رَحْمَةِ
اللَّهِ تَعَالَى - بَعْدَ أَنْ زَرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ فَحَكَمَ لَهُ
الدِّيوَانِيُّ السُّلْطَانِيُّ أَنْ يَأْخُذَ شَطْرَ الزَّرْعِ وَوَرَثَةُ
الْمُتَوَفَّى شَطْرَهُ بَعْدَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جُمْلَةِ الزَّرْعِ نِصْفَ
الْعُشْرِ ثُمَّ يَدْفَعُ لِوَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى الْمُزَارِعِ رُبُعَ الشَّطْرِ
الَّذِي لَهُ ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ يَأْخُذُ لِوَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى رُبُعَ
الْخَرَاجِ وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ . فَهَلْ تَجُوزُ هَذِهِ الْقِسْمَةُ
وَيَجُوزُ أَخْذُ الْخَرَاجِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ
ذَلِكَ جَائِزًا فَكَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْعِ
الشَّرِيفِ ؟ ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ أَمَرُوهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ
وَرَثَتِهِ بَذْرَ هَذِهِ الْأَرْضِ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ تَكُونُ عِنْدَهُ
قَرْضًا بِحُجَّةِ بِرَسْمِ عِمَارَةِ الْإِقْطَاعِ وَيُعِيدَهُ لَهُمْ عَلَى
سَنَتَيْنِ . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا الْإِقْطَاعُ لَيْسَ إقْطَاعًا بِمُجَرَّدِ خَرَاجِ الْأَرْضِ كَمَا ظَنَّهُ
السَّائِلُ بَلْ هُوَ إقْطَاعُ اسْتِغْلَالٍ ؛ فَإِنَّ الْإِقْطَاعَ نَوْعَانِ :
إقْطَاعُ تَمْلِيكٍ
كَمَا يُقْطَعُ الْمَوَاتُ لِمَنْ يُحْيِيهِ بِتَمَلُّكِهِ . وَإِقْطَاعُ اسْتِغْلَالٍ : وَهُوَ إقْطَاعُ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ لِمَنْ يَسْتَغِلُّهَا إنْ شَاءَ أَنْ يَزْرَعَهَا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُؤَجِّرَهَا . وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزَارِعَ عَلَيْهَا . وَهَذَا الْإِقْطَاعُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّ الْمُقْطَعِينَ لَمْ يُقْطَعُوا مُجَرَّدَ خَرَاجٍ وَاجِبٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَرْضِ بِيَدِهِ كَالْخَرَاجِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي ضَرَبَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ عَلَى بِلَادِ الْعَنْوَةِ وَكَالْأَحْكَارِ الَّتِي تَكُونُ فِي ذِمَّةِ مَنْ اسْتَأْجَرَ عَقَارًا لِبَيْتِ الْمَالِ فَمَنْ أَقُطِعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَقُطِعَ خَرَاجًا . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَأُقْطِعُوا الْمَنْفَعَةَ . وَإِذَا عُرِفَ هَذَا . فَإِذَا انْفَسَخَ الْإِقْطَاعُ فِي أَثْنَاءِ الْأَمْرِ ؛ إمَّا لِمَوْتِ الْمُقْطَعِ وَإِمَّا لِغَيْرِهِ وَأُقْطِعَ لِغَيْرِهِ : كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ الْحَادِثَةُ لِلْمُقْطَعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ؛ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ الْمُقْطَعُ الْأَوَّلُ قَدْ أَجَّرَ الْأَرْضَ الْمُقْطَعَةَ ثُمَّ انْفَسَخَ إقْطَاعُهُ انْفَسَخَتْ تِلْكَ الْإِجَارَةُ كَمَا تَنْفَسِخُ إجَارَةُ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ إذَا انْتَقَلَ الْوَقْفُ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْإِقْطَاعُ انْتَقَلَ فِي نِصْفِ الْمُدَّةِ . كَانَ لِلثَّانِي نِصْفُ الْمَنْفَعَةِ وَإِنْ كَانَ فِي رِيعِهَا الْمَاضِي كَانَ لَهُ رِيعُ الْمَنْفَعَةِ فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الدِّيوَانِ أَعْطَوْا الثَّانِيَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْإِقْطَاعِ وَالْأَوَّلَ الرُّبُعَ ؛ لِكَوْنِ الثَّانِي قَامَ بِثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ بِمِائَةِ اسْتَحَقَّ الْإِقْطَاعَ .
مِثْلَ أَنْ يَخْدِمَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمُدَّةِ الْمُسْتَوْفِيَةِ لِلْمَنْفَعَةِ فَقَدْ عَدَلُوا فِي ذَلِكَ . ثُمَّ إنَّ الْمُقْطَعَ الْأَوَّلَ لَمَّا ازْدَرَعَهُ بِعَمَلِهِ وَبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ وَصَارَ بَعْضُ الْمَنْفَعَةِ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ صَارَ مُزْدَرِعًا فِي أَرْضِ الْغَيْرِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ غَاصِبًا يَجُوزُ إتْلَافُ زَرْعِهِ ؛ بَلْ زَرْعُهُ زَرْعٌ مُحْتَرَمٌ كَالْمُسْتَأْجِرِ . وَأَوْلَى . فَهُنَا لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ لِلْمُزْدَرِعِ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَنْفَعَةِ الثَّانِي . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَعَلَيْهِ مَا أَنْفَقَهُ الْأَوَّلُ عَلَى زَرْعِهِ . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ . فَمَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ : هَلْ الزَّرْعُ لِلْمُزْدَرِعِ ؟ أَوْ لِرَبِّ الْأَرْضِ يَأْخُذُهُ وَيُعْطِيهِ نَفَقَتَهُ ؟ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ } عَلَى الْقَوْلَيْنِ . وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ . وَهَذَا الثَّانِي مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَالْمُزْدَرِعُ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ لَيْسَ غَاصِبًا ؛ لَكِنْ بِمَنْزِلَةِ أَنَّهُ مِمَّا يُعَدُّ زَرَعَ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ اتَّجَرَ فِي مَالٍ يَظُنُّهُ لِنَفْسِهِ فَبَانَ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " قَوْلُ ثَالِثٌ " هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ أَهْلُ الدِّيوَانِ .
وَهُوَ الَّذِي قَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ اجْتَمَعَ عِنْدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ أَنْ يُرْسِلَهُ إلَى عُمَرَ فَمَرَّ بِهِ ابْنَا عُمَرَ . فَقَالَ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعْطِيَكُمَا شَيْئًا ؛ وَلَكِنْ عِنْدِي مَالٌ أُرِيدُ حَمْلَهُ إلَيْهِ فَخُذَاهُ اتَّجِرَا بِهِ وَأَعْطُوهُ مِثْلَ الْمَالِ فَتَكُونَانِ قَدْ انْتَفَعْتُمَا وَالْمَالُ حَصَلَ عِنْدَهُ مَعَ ضَمَانِكُمَا لَهُ . فَاشْتَرَيَا بِهِ بِضَاعَةً فَلَمَّا قَدِمَا إلَى عُمَرَ قَالَ : أَكُلَّ الْعُشْرِ أَقَرَّهُمْ مِثْلَ مَا أَقَرَّكُمَا فَقَالَا : لَا فَقَالَ ضَعَا الرِّبْحَ كُلَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ . وَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ : أَرَأَيْت لَوْ ذَهَبَ هَذَا الْمَالُ أَمَا كَانَ عَلَيْنَا ضَمَانُهُ ؟ فَقَالَ بَلَى قَالَ : فَكَيْفَ يَكُونُ الرِّبْحُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالضَّمَانُ عَلَيْنَا فَوَقَفَ عُمَرَ . فَقَالَ لَهُ الصَّحَابَةُ : اجْعَلْهُ مُضَارَبَةً بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمَا نِصْفُ الرِّبْحِ وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ فَعَمِلَ عُمَرَ بِذَلِكَ . وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ الَّتِي تَنَازَعَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَسْأَلَةِ التِّجَارَةِ بِالْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَالِ الْغَيْرِ فَإِنَّ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ هَلْ الرِّبْحُ لِبَيْتِ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ . . . (1) الْمَالُ ؟ أَوْ الرِّبْحُ لِلْعَامِلِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ حَصَلَ لَهُ بِاشْتِرَاءِ الْأَعْيَانِ فِي الذِّمَّةِ وَيَتَصَدَّقَانِ بِالرِّبْحِ ؛ لِأَنَّهُ خَبِيثٌ أَوْ يَقْتَسِمَا بَيْنَهُمَا . كَالْمُضَارَبَةِ . وَهَذَا الرَّابِعُ الَّذِي فَعَلَهُ عُمَرَ وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ مَنْ اعْتَمَدَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي
جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ . وَمَسْأَلَةُ الْمُزَارَعَةِ كَذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّ هَذَا ازْدِرَاعٌ فِي الْأَرْضِ يَظُنُّهَا لِنَفْسِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا أَوْ بَعْضُهَا لِغَيْرِهِ فَجُعِلَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا مُزَارَعَةً . وَالْمُزَارِعَةُ الْمُطْلَقَةُ تَكُونُ مُشَاطَرَةً لِهَذَا نِصْفُ الزَّرْعِ وَلِهَذَا نِصْفُهُ ؛ فَلِهَذَا جُعِلَ لِلْأَوَّلِ نِصْفُ الزَّرْعِ كَالْعَامِلِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَيُجْعَلُ النِّصْفُ الثَّانِي لِلْمَنْفَعَةِ الْمُقْطَعَةِ . وَالْأَوَّلُ قَدْ اسْتَحَقَّ رُبْعَهَا فَيُجْعَلُ لَهُ النِّصْفُ وَرُبْعُ النِّصْفِ ؛ بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ . وَالثَّانِي ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ النِّصْفِ . وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ بَلْ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُقْطَعَ الثَّانِيَ مُخَيَّرٌ : إنْ شَاءَ أَنْ يُطَالِبَ مَنْ ازْدَرَعَ فِي أَرْضِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا مُزَارَعَةً كَمَا يُخَيَّرُ ابْتِدَاءً . وَأَمَّا إذَا قِيلَ : بِأَنَّ لَهُ أَخْذَ الزَّرْعِ وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْأَوَّلِ فَهَذَا أَبْلَغُ . وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْجَوَابُ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ فِيهَا مِنْ الْعَامِلِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ وَإِنْ سَمَّاهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مُخَابَرَةً فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَّزُوا ذَلِكَ كَمَا كَانُوا يُزَارِعُونَ كَآلِ أَبِي بَكْرٍ وَآلِ عُمَرَ وَآلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِمْ .
وَاَلَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُخَابَرَةِ إنَّمَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطُوا لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا فَهَذَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَأَمَّا الْقُوَّةُ الَّتِي تُجْعَلُ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ قَرْضًا مَحْضًا كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ . فَإِنَّ الْقَرْضَ الْمُطْلَقَ هُوَ بِمَا يَمْلِكُهُ الْمُقْتَرِضُ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا شَاءَ . وَهَذِهِ الْقُوَّةُ مَشْرُوطَةٌ عَلَى مَنْ يَقْبِضُهَا أَنْ يَبْذُرَهَا فِي الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ جُعِلَتْ قُوَّةً فِي الْأَرْضِ يَنْتَفِعُ [ بِهَا ] (1) كُلُّ مَنْ يَسْتَعْمِلُ الْأَرْضَ مِنْ مُقْطَعٍ وَعَامِلٍ إذْ مَصْلَحَةُ الْأَرْضِ لَا تَقُومُ إلَّا بِهَا كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ صِهْرِيجُ مَاءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ وَلِهَذَا يُقَالُ : مَنْ دَخَلَ عَلَى قُوَّةٍ خَرَجَ عَلَى نَظِيرِهَا . وَإِذَا كَانَ الصِّهْرِيجُ مَلْآنَ مَاءً عِنْدَ دُخُولِك فَامْلَأْهُ عِنْدَ خُرُوجِك . وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُقَاطَعَةِ أَنْ يَتْرُكُوا فِي الْأَرْضِ قُوَّةً وَهَذَا مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ تَرَكَ فِيهَا قُوَّةً وَالثَّانِي مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فَرَأَى مَنْ وَلِيَ مِنْ وُلَاةِ الْأَمْرِ أَنْ يَجْعَلَ عَطَاءَهَا لِلْأَوَّلِ بِقِسْطِهِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا . وَإِذَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَى قُوَّةٍ خَرَجَ عَلَى نَظِيرِهَا وَمَنْ أَعْطَى قُوَّةً مِنْ عِنْدِهِ اسْتَوْفَاهَا مُؤَجَّلَةً : كَانَ إقْطَاعُ وَلِيِّ الْأَمْرِ لِهَذَا
الشَّرْطِ وَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ فَإِنَّ الزَّرْعَ إنَّمَا مَلَكَهُ بِالْإِقْطَاعِ وَأَوْرَثَ الْأَوَّلُ مَا اسْتَحَقَّهُ قَبْلَ الْمَوْتِ . وَأَمَّا نِصْفُ الْعُشْرِ الْمَذْكُورِ فَلَمْ يَذْكُرْ وَجْهَهُ حَتَّى يُفْتَى بِهِ . وَإِقْطَاعُ وَلِيِّ الْأَمْرِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ قِسْمَتِهِ بَيْتَ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَتْ قِسْمَةُ الْإِمَامِ لِلْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ كَالْفَيْءِ بِمَنْزِلَةِ قِسْمَةِ الْمَالِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ الْمُعَيَّنِينَ ؛ فَإِنَّ الْمَالَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ الْمُعَيَّنِينَ كَالْمِيرَاثِ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى صِنْفٍ مِنْهُ إنْ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَإِلَّا بِيعَ وَقُسِّمَ ثَمَنُهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَتُعْدَلُ السِّهَامُ بِالْأَجْزَاءِ إنْ كَانَتْ الْأَمْوَالُ مُتَمَاثِلَةً : كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ . وَتُعْدَلُ بِالتَّقْوِيمِ إنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً كَأَجْزَاءِ الْأَرْضِ . وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمَعْدُودَاتِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ قُسِّمَتْ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ وَعُدِلَتْ بِالْقِسْمَةِ . وَأَمَّا الدُّورُ الْمُخْتَلِفَةُ فَفِيهَا نِزَاعٌ وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُخْتَصَّ بِصِنْفِ وَأَمَّا أَمْوَالُ الْفَيْءِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ طَائِفَةً بِصِنْفِ وَطَائِفَةً بِصِنْفِ . بَلْ وَكَذَلِكَ فِي الْمَغَانِمِ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَوْ أَعْطَى الْإِمَامُ طَائِفَةً إبِلًا وَطَائِفَةً غَنَمًا جَازَ . وَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَفْضِيلُ بَعْضِ الْغَانِمِينَ لِزِيَادَةِ مَنْفَعَةٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ : أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ . كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَفَلَ فِي بِدَايَتِهِ الرُّبُعَ بَعْدِ الْخُمُسِ وَفِي رَجْعَتِهِ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ } " وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ نَفَلَ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ وَغَيْرَهُ .
وَأَمَّا مَالُ الْفَيْءِ فَيُسْتَحَقُّ بِحَسَبِ مَنْفَعَةِ الْإِنْسَانِ لِلْمُسْلِمِينَ وَبِحَسَبِ الْحَاجَةِ أَيْضًا وَالْمُقَاتِلَةُ أَحَقُّ بِهِ وَهَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَإِذَا قُسِمَ بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ فَيَجِبُ أَنْ يُقْسَمَ بِالْعَدْلِ كَمَا يَجِبُ الْعَدْلُ عَلَى كُلِّ حَاكِمٍ وَكُلِّ قَاسِمٍ ؛ لَكِنْ إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْقَاسِمَ أَوْ الْحَاكِمَ لَيْسَ عَدْلًا لَمْ تَبْطُلْ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ وَقَسْمُهُ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي تَفْسُدُ بِهِ أُمُورُ النَّاسِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي يَأْمُرُ فِيهَا بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ مَعَ جَوْرِهِمْ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ إذَا أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُمْ وَإِنْ كَانُوا ظَالِمِينَ . فَإِذَا حَكَّمَ حَكَمًا عَادِلًا وَقَسَمَ قَسْمًا عَادِلًا : كَانَ هَذَا مِنْ الْعَدْلِ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيهِ . فَالظَّالِمُ لَوْ قَسَمَ مِيرَاثًا بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ بِكِتَابِ اللَّهِ كَانَ هَذَا عَدْلًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ قَسَمَ مَغْنَمًا بَيْنَ غَانِمِيهِ بِالْحَقِّ كَانَ هَذَا عَدْلًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ حَكَمَ لِمُدَّعٍ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ لَا تُعَارَضُ كَانَ هَذَا عَدْلًا . وَالْحُكْمُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَإِبَاحَةٌ فَيَجِبُ طَاعَتُهُ فِيهِ . هَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَادِلَةً . فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْقِسْمَةِ ظُلْمٌ ؛ مِثْلَ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ النَّاسِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّ وَبَعْضَهُمْ دُونَ مَا يَسْتَحِقُّ : فَهَذَا هُوَ الِاسْتِيثَارُ الَّذِي ذَكَرَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . حَيْثُ قَالَ : { عَلَى الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ وَمَنْشَطِهِ وَمَكْرَهِهِ وَأَثَرَةٍ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عبادة بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ وَأَنْ نَقُولَ - أَوْ نَقُومَ - بِالْحَقِّ . حَيْثُ مَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مَا زَالَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَمَنْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَإِنَّمَا يُسْتَثْنَى فِي الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ . فَالْمُعْطَى إذَا أُعْطِيَ قَدْرَ حَقِّهِ أَوْ دُونَ حَقِّهِ : كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِحُكْمِ قِسْمَةِ هَذَا الْقَاسِمِ كَمَا لَوْ قَسَمَ الْمِيرَاثَ وَأَعْطَى بَعْضَ الْوَرَثَةِ حَقَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِحُكْمِ هَذَا الْقَاسِمِ وَكَمَا لَوْ حَكَمَ لِمُسْتَحِقِّ بِمَا اسْتَحَقَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ بِمُوجَبِ هَذَا الْحُكْمِ . وَلَيْسَ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ : أَخَذَهُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ وَلَا قَاسِمٌ فَإِنَّهُ عَلَى نُفُوذِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ تَبْطُلُ الْأَحْكَامُ وَالْأَعْطِيَةُ الَّتِي فَعَلَهَا وُلَاةُ الْأُمُورِ جَمِيعُهُمْ ؛ غَيْرُ الْخُلَفَاءِ . وَحِينَئِذٍ فَتَسْقُطُ طَاعَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ حُكْمٍ وَقَسْمٍ وَبَيْنَ عَدَمِهِ . وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ الْفَسَادِ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ فَتَحَ هَذَا الْبَابَ أَفْضَى مِنْ الْفَسَادِ إلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ظُلْمِ الظَّالِمِ ثُمَّ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَظُنُّ
أَنَّ
مَا يَأْخُذُهُ قَدْرُ حَقِّهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ إنَّمَا يَشْهَدُ اسْتِحْقَاقَ
نَفْسِهِ دُونَ اسْتِحْقَاقِ بَقِيَّةِ النَّاسِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ
الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ . وَهَلْ يُجْعَلُ لَهُ مِنْهَا بِالْقِيمَةِ هَذَا
أَوْ أَقَلُّ ؟ وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا لِنَفْسِهِ
وَلَا شَاهِدًا لِنَفْسِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَاسِمًا لِنَفْسِهِ ؟ . وَمَعْلُومٌ
عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ دُخُولَ الشُّرَكَاءِ تَحْتَ قَاسِمٍ غَيْرِهِمْ
وَدُخُولَ الْخُصَمَاءِ تَحْتَ حَاكِمٍ غَيْرِهِمْ وَلَوْ كَانَ ظَالِمًا أَوْ
جَاهِلًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ خَصْمٍ حَاكِمًا لِنَفْسِهِ وَكُلُّ
شَرِيكٍ قَاسِمًا لِنَفْسِهِ فَإِنَّ الْفَسَادَ فِي هَذَا أَعْظَمُ مِنْ
الْفَسَادِ فِي الْأَوَّلِ . وَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ
وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا وَرَجَّحَتْ خَيْرَ
الْخَيْرَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ نَصْبِ وُلَاةِ
الْأُمُورِ . وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا يَظُنُّهُ الْجَاهِلُ لَكَانَ وُجُودُ
السُّلْطَانِ كَعَدَمِهِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ
يَقُولَهُ مُسْلِمٌ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ الْعُقَلَاءُ : سِتُّونَ سَنَةً مِنْ
سُلْطَانٍ ظَالِمٍ خَيْرٌ مِنْ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا سُلْطَانٍ . وَمَا
أَحْسَنَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ :
لَوْلَا الْأَئِمَّةُ لَمْ يَأْمَنْ لَنَا سُبْلُ * * * وَكَانَ أَضْعَفُنَا
نَهْبًا لِأَقْوَانَا
وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ بَسْطًا تَامًّا فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى قَدْرِ مَا يُعْرَفُ بِهِ مَقْصُودُ
الْجَوَابِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ جَارِيَةً فِي إقْطَاعِ رَجُلٍ وَأُخِذَتْ ثُمَّ أُقْطِعَتْ
لِاثْنَيْنِ بَعْدَ أَنْ زَرَعَ فَلَّاحُوهَا أَرَاضِيَهَا مِنْ غَلَّةِ
الْمُقْطَعِ الْأَوَّلِ ثُمَّ طَلَبَ أَحَدُ الْمُقْطَعَيْنِ الْمُسْتَجَدَّيْنِ
أَنْ يَقْسِمَ حِصَّتَهُ مِنْ زَرْعِهِ . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ وَهَلْ تَصِحُّ
الْقِسْمَةُ ؟ وَهَلْ يَجِبُ اسْتِمْرَارُ النَّاحِيَةِ مَشَاعًا إلَى حَيْثُ
يُقْسَمُ الْمُغَلُّ . وَيَتَنَاوَلُ كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنْ جَمِيعِ الْمُغَلِّ
؟ أَوْ يُقْسَمُ قَبْلَ إدْرَاكِ الْمُغَلِّ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ لَمْ تَنْقُصْ حِصَّةُ الشُّرَكَاءِ لَا فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي الزَّرْعِ
فَعَلَيْهِمْ إجَابَةُ طَالِبِ الْقِسْمَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ضَرَرٌ
عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بِنَقْصِ قِسْمَةِ أَنْصِبَائِهِمْ
لَمْ يُرْفَعْ الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ ؛ بَلْ إنْ أَمْكَنَ انْقِسَامُ عِوَضِ
الْمَقْسُومِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَعَلَ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ صَاحِبِ إقْطَاعٍ . هَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الزَّرْعِ جُزْءًا
مُعَيَّنًا ؟ . وَهَلْ لَهُ إذَا شَاطَرَهُ بِجُزْءِ مُشَاعٍ وَعُلِمَ أَنَّهُمْ
قَدْ حَابَوْهُ أَنْ يَأْخُذَ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ بِجُزْءِ شَائِعٍ سَوَاءٌ كَانَ
أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ . وَلَا فَرْقَ عِنْدَ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَنَحْوِهِمْ : أَنْ يُزَارِعَ بِالنِّصْفِ أَوْ
الثُّلُثِ أَوْ الثُّلُثَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْزَاءِ الشَّائِعَةِ
كَثَلَاثَةِ أَخْمَاسٍ وَخُمُسَيْنِ . وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُ الْمُزَارَعَةِ بِسُنَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحِيحَةِ بِاتِّفَاقِ
الصَّحَابَةِ وَهِيَ أَعْدَلُ مِنْ التَّسْجِيلِ وَإِذَا شَرَطَ عَلَيْهِ نِصْفَ
الزَّرْعِ فَأَخَذُوا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ
بِقَدْرِ الزَّائِدِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مَعَهُ دَرَاهِمُ حَرَامٌ فَدَفَعَهَا إلَى وَالِدِهِ وَأَخَذَ مِنْهُ
عِوَضَهَا مِنْ دَرَاهِمِهِ الْحَلَالِ وَاشْتَرَى مِنْهَا شَيْئًا يَعُودُ مِنْهُ
مَنْفَعَةٌ ؛ إمَّا نَتَاجُ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَإِمَّا زَرْعُ أَرْضٍ
وَاسْتَعْمَلَهَا . هَلْ هِيَ حَرَامٌ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
مَتَى اعْتَاضَ عَنْ الْحَرَامِ عِوَضًا بِقَدْرِهِ فَحُكْم الْبَدَلِ حُكْم
الْمُبَدِّلِ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَمَّى بِفِعْلِهِ نَمَاء مِنْ رِبْحٍ أَوْ
كَسْب أَوْ غَيْر ذَلِكَ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ . وَأَعْدَل
الْأَقْوَالِ أَنْ يُقْسِمَ النَّمَاء بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْمَالِ وَبَيْنَ
مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ ؛ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارَبَةِ . كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَالِ الَّذِي اتَّجَرَ مِنْهُ
أَوْلَاده مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَهَكَذَا كُلُّ نَمَاءٍ بَيْنَ أَصْلَيْنِ . إذَا
بِيعَ الْأَصْلُ . وَأَجَابَ أَيْضًا : أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ وَشَبَّهَهَا أَنَّ يَقْسِطَ الزَّرْع الْحَادِث مِنْ مَنْفَعَةِ
الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ وَالْعَامِلِ وَالْبَقَرِ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ
فَيَكُونُ قِسْط الْحَرَام لِمَنْ يَجِبُ صَرْفُهُ إلَيْهِ وَقِسْط الْحَلَال
لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ كَسَائِرِ الْحَادِثِ عَنْ الْأُصُولِ الْمُشْتَرِكَةِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ إقْطَاعٌ مِنْ السُّلْطَانِ فَزَرَعَهَا لِفَلَّاحِ مُشَاطِرَةً
: هَلْ يَجُوزُ الْإِشْهَادُ بَيْنَهُمَا ؟ أَوْ أَنَّ بَعْضَ الْعُدُولِ
امْتَنَعَ مِنْ الْإِشْهَادِ بَيْنَهُمَا . وَهَلْ إذَا اشْتَرَطَ عَلَى
الْفَلَّاحِ . مِثْلَ دَجَاجٍ أَوْ خِرَاقٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ سَائِر
الْأَصْنَافِ مَعَ رِضَا الْفَلَّاحِ بِذَلِكَ . هَلْ يَجُوزُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، دَفْعُ الْأَرْضِ الْمِلْكِ وَالْإِقْطَاعِ أَوْ غَيْرِهَا
إلَى مَنْ يَعْمَلُ فِيهَا بِشَطْرِ الزَّرْعِ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنَّ
الصَّوَابَ الْمَقْطُوعَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إجْمَاعٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ : آلِ أَبِي بَكْرٍ وَآلِ عُمَرَ وَآلِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ عَمَلُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ . وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا نَهَى عَمَّا إذَا اشْتَرَطَ
لِرَبِّ الْمَالِ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا ؛ بَلْ قَدْ عَامَلَ أَهْلَ
خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ . وَقَدْ ثَبَتَ
عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهَا تَجُوزُ وَإِنْ كَانَ
الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ ؛ بَلْ
هَذِهِ
الْمُعَامَلَةُ أَحَلُّ مِنْ دَفْعِ الْأَرْضِ بِالْمُؤَاجَرَةِ ؛ فَإِنَّ
كِلَاهُمَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالْإِجَارَةُ أَقْرَبُ إلَى الْغَرَرِ ؛ لِأَنَّ
الْمُؤَجِّرَ يَأْخُذُ الْأُجْرَةَ وَالْمُسْتَأْجِرَ لَا يَدْرِي : هَلْ يَحْصُلُ
لَهُ مَقْصُودُهُ أَمْ لَا ؟ بِخِلَافِ الْمُشَاطَرَةِ ؛ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ
فِي الْمَغْنَمِ وَالْمَغْرَمِ إنْ أَنْبَتَ اللَّهُ زَرْعًا كَانَ لَهُمَا وَإِنْ
لَمْ يَنْبُتْ كَانَ عَلَيْهِمَا وَمَنْفَعَةُ أَرْضٍ هَذَا كَمَنْفَعَةِ بَذْرٍ
هَذَا كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ . وَلَا يَجُوزُ فِي الْمُشَاطَرَةِ أَنْ
يُشْتَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ لَا دَجَاجَ وَلَا غَيْرَهُ .
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ
مِمَّنْ لَا يُجِيزُهَا ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالشَّاهِدُ
يَشْهَدُ بِمَا جَرَى ؛ لَا سِيَّمَا وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ عَلَى تَجْوِيزِهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ
أَهْلِ الْحَدِيثِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ مُقْطِعٍ يَجْمَعُ غَلَّتَهُ مِنْ الْفَلَّاحِينَ وَفِيهَا غَلَّةٌ نَظِيفَةٌ
وَغَلَّةٌ عَلِثَةٌ فِي أَيَّامِ الْقَسْمِ وَخَلَطَهَا إلَى أَيَّامِ الْبَذْرِ
ثُمَّ فَرَّقَهَا عَلَيْهِمْ خِلَالَ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ حِنْطَةُ بَعْضِهِمْ خَيْرًا مِنْ حِنْطَةِ بَعْضٍ فَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يَخْلِطَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ سَوَاءً وَقَدْ احْتَاجَ إلَى
الْخَلْطِ فَلَا بَأْسَ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ جُنْدِيٍّ لَهُ أَرْضٌ خَالِيَةٌ . فَقَالَ لَهُ فَلَّاحٌ : أَنَا أَزْرَعُ
لَك هَذِهِ الْأَرْضَ وَالثُّلُثَانِ لِي وَالثُّلُثُ لَك عَلَى أَنْ يَقُومَ
لِلْجُنْدِيِّ بِالثُّلُثِ الْمَذْكُورِ بِخَرَاجِ مُعَيَّنٍ وَشَرَطَ لَهُ ذَلِكَ
ثُمَّ إنَّ الْجُنْدِيَّ أَعْطَى الْفَلَّاحَ الْمَذْكُورَ وَسْقَ بِزْرِ كَتَّانٍ
يَزْرَعُهُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ وَتُوُفِّيَ الْجُنْدِيُّ قَبْلَ
إدْرَاكِ الْمُغَلِّ فَاسْتَوْلَى الْفَلَّاحُ عَلَى جَمِيعِ الزَّرْعِ وَمَنَعَ
الْوَرَثَةَ الْمَبْلَغَ الْمُعَيَّنَ . فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ وَالشَّرْطُ
بِغَيْرِ مَكْتُوبٍ ؟
فَأَجَابَ :
مَا يَسْتَحِقُّهُ الْجُنْدِيُّ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ مُقَاسَمَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ بِمَكْتُوبِ أَوْ
غَيْرِ مَكْتُوبٍ . وَمَتَى شَهِدَ شَاهِدُ عَدْلٍ أَوْ مُزَكًّى وَحَلَفَ
الْمُدَّعِي مَعَ الشَّاهِدِ حُكِمَ لَهُ بِذَلِكَ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ فَلَّاحًا وَلَا لَهُ عَادَةٌ بِزَرْعِ . فَهَلْ يَجُوزُ
لِأَحَدِ أَنْ يُزَارِعَهُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَى فِلَاحَةٍ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فَإِنَّ
ذَلِكَ ظُلْمٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ : {
يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ
مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا } " . بَلْ مِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ
إكْرَاهُهُ لَا فِي الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ وَلَا فِي الْعَادَةِ
السُّلْطَانِيَّةِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَزْرَعُ فِي أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ بِغَيْرِ إذْنِ الشُّرَكَاءِ وَلَا
أَعْلَمَهُمْ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً : بِأَنَّ مِنْ يَزْرَعُ فِيهَا يَكُونُ لَهُ
نَصِيبٌ مَعْلُومٌ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ نَصِيبٌ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ مَا زَرَعَهُ
فِي مِقْدَارِ أَنْصِبَاءِ شُرَكَائِهِ مُقَاسَمَةً بَيْنَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ
الْمُعْتَادِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَمَّنْ زَارَعَ بَعْضَ الشُّرَكَاءِ فِي الْأَرْضِ الْمُشَاعَةِ فِي قَدْرِ
حَقِّهِ إذَا امْتَنَعَ الْآخَرُونَ مِنْ الزَّرْعِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا امْتَنَعَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ عَنْ الْإِنْفَاقِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ
الزَّرْعُ جَازَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَزْرَعَ فِي مِقْدَارِ نَصِيبِهِ وَيُخْتَصَّ
بِمَا زَرَعَهُ فِي قَدْرِ نَصِيبِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ : طَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ
أَنْ يَزْرَعَ مَعَهُ فَأَذِنَ ثُمَّ تَغَيَّبَ فَزَرَعَ الْأَوَّلُ فِي أَقَلِّ
مِنْ حَقِّهِ فَطَلَبَ الْأَوَّلُ أُجْرَتَهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الْآخَرِ أَنْ يَزْرَعَ مَعَهُ أَوْ
يُهَايِئَهُ وَامْتَنَعَ الْآخَرُ مِنْ ذَلِكَ فَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَزْرَعَ فِي
مِقْدَارِ حَقِّهِ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِلشَّرِيكِ ؛ لِأَنَّهُ
تَارِكٌ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَالْأَوَّلُ
مُسْتَوْفٍ
لِمَا هُوَ حَقُّهُ . وَهُوَ نَظِيرُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا دَارٌ فِيهَا
بُنْيَانٌ فَيَسْكُنُ فِيهَا أَحَدُهُمَا عِنْدَ امْتِنَاعِ الْأَوَّلِ مِمَّا
وَجَبَ عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ دَفَعَتْ إلَى إنْسَانٍ مَبْلَغَ دَرَاهِمَ لِيَزْرَعَ شَرِكَةً
وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ زَرَعَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَفَعَ إلَيْهَا أَرْبَعِينَ
وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ الْكَسْبِ وَرَأْسُ الْمَالِ بَاقٍ ثُمَّ دَفَعَ لَهَا
خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَقَالَ : هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَالِك وَبَقِيَ مِنْ
الدَّرَاهِمِ مِائَةٌ خَارِجًا عَنْ الْكَسْبِ فَطَلَبَتْهَا مِنْهُ فَقَالَ :
الْأَرْبَعُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمِائَةِ وَلَمْ يَبْقَ لَك سِوَى سِتِّينَ فَهَلْ
لَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْمَبْلَغَ وَمَا تَكْسِبُ شَيْئًا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا دَفَعَتْ إلَيْهِ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَأَعْطَاهَا شَيْئًا وَقَالَ : هَذَا
مِنْ الرِّبْحِ كَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بَعْدَ هَذَا بِرَأْسِ الْمَالِ .
وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ : إنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ كَانَتْ مِنْ رَأْسِ
الْمَالِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَرْيَةٍ وُقِفَ عَلَى جِهَتَيْنِ مُشَاعَةٍ بَيْنَهُمَا . فَصَرَفَ
الْعَامِلُ عَلَى إحْدَى الْجِهَتَيْنِ إلَى فَلَّاحِيهَا قَدْرًا مَعْلُومًا مِنْ
الْقَمْحِ وَغَيْرِهِ بِرَسْمِ الزِّرَاعَةِ . فَزَرَعَهُ الْفَلَّاحُونَ فِي
الْأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ وَلَمْ يَصْرِفُوا بِجِهَةِ أُخْرَى شَيْئًا وَقَدْ
طَلَبَ أَرْبَابُ الْجِهَةِ الْأُخْرَى مُشَارَكَتَهُمْ فِيمَا حَصَلَ مِنْ
الْبَذْرِ الَّذِي صَرَفَهُ الْعَامِلُ إلَى الْفَلَّاحِينَ . فَهَلْ لَهُمْ
ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ فِيمَا صَرَفَهُ
وَادَّعَى أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا
اخْتَصَّ الرِّيعُ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ . هَلْ يَجُوزُ لِأَحَدِ
مُنَازَعَتُهُمْ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِأَرْبَابِ الْجِهَةِ الْأُخْرَى مُشَارَكَةُ أَرْبَابِ الْبَذْرِ كَمَا
يُشَارِكُونَهُمْ لَوْ بَذَرُوا ؛ لَكِنْ إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْفَلَّاحِينَ
الْبَذْرُ وَحْدَهُ لِشُيُوعِ الْأَرْضِ وَامْتِنَاعِ الشُّرَكَاءِ مِنْ
الْمُقَاسَمَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ . فَالزَّرْعُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْبَذْرِ إذَا
زَرَعَ فِي قَدْرِ مِلْكِهِ الْمُشَاعِ وَإِنْ جَعَلَ مَا زَرَعَ فِي نَصِيبِ
التَّارِكِ مُزَارَعَةً مِنْ أَرْبَابِ الْبَذْرِ بِالْمَبْذُورِ مِنْ الْآخَرِ
مِنْ الْأَرْضِ وَالْعَمَلُ لِلْعَامِلِ وَيُقْسَمُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمْ كَمَا
لَوْ اشْتَرَكَا فِي هَذَا عَلَى مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ؛
إذْ الْعَامِلُ لَيْسَ بِغَاصِبِ ؛ بَلْ مَأْذُونٌ لَهُ عُرْفًا فِي الِازْدِرَاعِ
.
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ شَارَكَ فِي قِطْعَةِ أَرْضٍ لِيَزْرَعَهَا فَأَخَّرَ تَحْضِيرَهَا
عَنْ وَقْتِ اسْتِحْقَاقِهِ تَفْرِيطًا مِنْهُ فَنَقَصَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ
مِقْدَارَ النِّصْفِ . فَهَلْ لِلشَّرِيكِ النَّقْصُ بِسَبَبِ مَا فَرَّطَ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الشَّرِيكُ قَدْ فَرَّطَ فِي مَالِ شَرِيكِهِ مِثْلَ أَنْ يَبْذُرَهُ
فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي يُبْذَرُ مِثْلُهُ أَوْ فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ عَلَى
الْوَصْفِ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . كَانَ مِنْ ضَمَانِ
شَرِيكِهِ وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ مِثْلُ رَأْسِ الْمَالِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ :
عَنْ عَامِلٍ لِرَبِّ الْأَرْضِ فِيهَا حَبٌّ مِنْ الْعَامِ الْمَاضِي يُسَمَّى
الزريع عَامَلَهُ عَلَى سَقْيِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا ؟
فَأَجَابَ :
أَنَّ هَذِهِ مُعَامَلَةٌ صَحِيحَةٌ وَيَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ مَا شَرَطَ لَهُ
إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ حُصُولُ الزَّرْعِ بِعَمَلِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَمَلُ
قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ لَهُ فِي الْأَرْضِ فِلَاحَةٌ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا ؟
فَأَجَابَ :
لَهُ قِيمَتُهَا بَعْدَ الْفَسْخِ حَتَّى يُحْكَمَ بِلُزُومِهَا أَوْ عَدَمِهِ ؛
وَلَيْسَ كَعَامِلِ الْمُسَاقَاةَ ؛ لِعَدَمِ الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْمُسَاقَاةِ الثَّمَرَةُ وَهِيَ
مَعْدُومَةٌ ؛ لَا الْعَمَلُ فَإِذَا أَعَرَضَ عَنْ الْمَعْقُودِ قَبْلَ وُجُودِهِ
لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْهُ شَيْئًا وَبِهَذَا صَرَّحَ الْأَصْحَابُ : بِأَنَّهُ
بَعْدَ وُجُودِ الثَّمَرَةِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ نَصِيبِهِ فِيهَا وَيُلْزِمُهُ
تَمَامَ الْعَمَلِ . وَفِي الشَّرِكَةِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَالُ
وَالْعَمَلُ : فَالْمَالُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ وَالْعَمَلُ إنْ وُجِدَ
بَعْضُهُ اُسْتُحِقَّ مَعَ الْفَسَادِ وَلِفَسْخِ مُؤَجَّرٍ أُجْرَةُ عَمَلِهِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ يَزْرَعُ مِنْ كَسْبِهِ عَلَى بَقَرَةٍ بِأَرْضِ السُّلْطَانِ أَوْ
بِأَرْضِ مُقْطَعٍ وَيَدْفَعُ الْعُشْرَ عَلَى الَّذِي لَهُ وَاَلَّذِي
لِلْمُقْطَعِ . فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ وَرَاءِ الْمُقْطَعِ
شَيْئًا ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْفَلَّاحُ مُزَارِعًا : مِثْلَ أَنْ يَعْمَلَ بِالثُّلُثِ أَوْ
الرُّبْعِ أَوْ النِّصْفِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَشِّرَ إلَّا نَصِيبَهُ
وَأَمَّا نَصِيبُ الْمُقْطَعِ فَعُشْرُهُ عَلَيْهِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ
الْعُشْرَ جَمِيعَهُ عَلَى الْفَلَّاحِ وَالْمُقْطَعُ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنْ
الزَّرْعِ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَكِنْ لِلْعُلَمَاءِ فِي
الْمُزَارَعَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا بَاطِلَةٌ وَأَنَّ الزَّرْعَ
جَمِيعَهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَعَلَيْهِ الْعُشْرُ جَمِيعُهُ وَلِرَبِّ
الْأَرْضِ قِيمَةُ الْأَرْضِ فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُقْطَعِينَ يَرَى الْعُشْرَ
كُلَّهُ عَلَى الْفَلَّاحِ فَتَمَامُ قَوْلِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ الزَّرْعَ كُلَّهُ
وَيُطَالِبَهُ بِقِيمَةِ الْأَرْضِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ الصَّحِيحُ
الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ - أَنَّ الْمُزَارَعَةَ صَحِيحَةٌ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْمُقْطَعِ نَصِيبُهُ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ نَصِيبِهِ وَلِلْفَلَّاحِ نَصِيبُهُ وَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ . فَإِذَا كَانُوا يُلْزِمُونَ الْفَلَّاحَ بِالْعُشْرِ الْوَاجِبِ عَلَى الْجُنْدِيِّ فَيُؤَدِّي الْعُشْرَ عَلَى الْجُنْدِيِّ مِنْ مَالِ الْجُنْدِيِّ كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ . فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ بَيِّنٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ لَيْسَ حَقًّا خَفِيًّا وَلَا يُمْكِنُ الْجُنْدِيَّ جَحْدُهُ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ { خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } " فَإِنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ وَلِلْوَلَدِ حَقٌّ ظَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ أَبَا سُفْيَانَ جَحْدُهُ . وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } وَفِي رِوَايَةٍ { إنَّ لَنَا جِيرَانًا لَا يَدَعُونَ لَنَا شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إلَّا أَخَذُوهَا فَإِذَا قَدَرْنَا لَهُمْ عَلَى شَيْءٍ . أَفَنَأْخُذُهُ ؟ فَقَالَ : أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } لِأَنَّ الْحَقَّ هُنَا خَفِيٌّ لَا يَفُوتُهُ الظُّلْمُ . فَإِذَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ ظَاهِرٍ كَانَ خِيَانَةً . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الْإِجَارَةِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَجَّرَ رَجُلًا أَرْضًا فِيهَا شَجَرٌ مُثْمِرٌ بِأُجْرَةِ
مَعْلُومَةٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَبَيَاضًا لَا تُسَاوِي الْأُجْرَةَ وَإِنَّمَا
الْأُجْرَةُ بَعْضُهَا يُوَازِي الْبَيَاضَ وَبَعْضُهَا فِي مُقَابَلَةِ
الثَّمَرَةِ وَكَتَبَا كِتَابَ الْإِجَارَةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى
الْأَرْضِ مُسَاقَاةً عَلَى الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ . فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ ؟ أَمْ
لَا ؟ وَإِذَا صَحَّ : فَهَلْ يَدْخُلُ أَشْجَارُ الْجَوْزِ الْمُثْمِرِ مَعَ
كَوْنِهِ مُثْمِرًا جَمِيعَ مَا لَهُ ثَمَرَةٌ ؟ فَهَلْ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ
يُخَصِّصَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ مَعَ كَوْنِهِ مُثْمِرًا ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ
إذَا كَانَ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ بِجُزْءِ مِنْ الثَّمَرَةِ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ
الْبَلْوَى وَرَأَى بَعْضُ الْحُكَّامِ جَوَازَهُ فَهَلْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ
إبْطَالُهُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
ضَمَانُ الْبَسَاتِينِ الَّتِي فِيهَا أَرْضٌ وَشَجَرٌ عِدَّةَ سِنِينَ هُوَ
الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ . وَثَبَتَ عَنْ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّهُ ضَمِنَ حَدِيقَةً لأسيد بْنِ
الحضير بَعْدَ مَوْتِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَوَفَّى بِالضَّمَانِ دَيْنَهُ .
وَهَذِهِ كَثِيرَةٌ لَا تَحْتَمِلُ الْفُتْيَا تَقْرِيرَهَا .
فَهَذِهِ
الضَّمَانَاتُ الَّتِي لِبَسَاتِينَ دِمَشْقَ الشَّتْوِيَّة الَّتِي فِيهَا أَرْضٌ
وَشَجَرٌ ضَمَانَاتٌ صَحِيحَةٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ كَتَبَ فِي الْمَكْتُوبِ
إجَارَةَ الْأَرْضِ وَالْمُسَاقَاةُ عَلَى الشَّجَرِ فَالْمَقْصُودُ الَّذِي
اتَّفَقَا عَلَيْهِ هُوَ الضَّمَانُ الْمَذْكُورُ وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ
بِالشُّرُوطِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْمُتَعَاقِدَانِ وَالْمَقَاصِدُ
مُعْتَبَرَةٌ . فَإِذَا الْعَقْدُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا هُوَ
بَيْعُ الثَّمَرِ الْمُجَرَّدِ كَمَا تُبَاعُ الْكُرُومُ فِي دِمَشْقَ بِحَيْثُ
يَكُونُ السَّعْيُ وَالْعَمَلُ عَلَى الْبَائِعِ وَالضَّمَانَاتُ شَبِيهَةٌ
بِالْمُؤَاجَرَاتِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ أَجَّرَ بَيَاضًا مَبْلَغُهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ مَزْرَعَةِ
الْبُسْتَانِ وَالْمَقْصَبَةُ الْمُسْتَدِيرَةُ : فَهَلْ يَجُوزُ إيجَارُهُ الْمَقْصَبَةَ
فِي إيجَارِ بَيَاضِ الْأَرْضِ لِحِصَّتِهِ الْمَذْكُورَةِ ؟
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ إجَارَةُ مَنْبَتِ الْقَصَبِ لِيَزْرَعَ فِيهَا الْمُسْتَأْجِرُ قَصَبًا
وَكَذَلِكَ إجَارَةُ الْمَقْصَبَةِ لِيَقُومَ عَلَيْهَا الْمُسْتَأْجِرُ
وَيَسْقِيَهَا فَمَنْبَتُ الْعُرُوقِ الَّتِي فِيهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَسْقِي
الْأَرْضَ لِيَنْبُتَ لَهُ فِيهَا الْكَلَأُ بِلَا بَذْرٍ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ سَجَّلَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا أَوَّلَ سَنَةٍ كَتَّانًا وَثَانِيَ
سَنَةٍ فُولًا فَقَصَدَ الْمُؤَجِّرُ أَنْ يَأْخُذَ زَائِدًا : كَوْنُهُ زَرَعَهَا
كَتَّانًا فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنَّ اسْتَأْجَرَهَا عَلَى أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا نَوْعًا مِنْ الْحُبُوبِ لَمْ
يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ مَا هُوَ أَشَدُّ ضَرَرًا وَإِذَا زَرَعَ مَا هُوَ
أَشَدُّ ضَرَرًا كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ مُطَالَبَتُهُ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ
اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْرَعَ فِيهَا مَا شَاءَ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا شَيْءَ عَلَى
الْمُسْتَأْجِرِ إذَا زَرَعَ فِيهَا مَا شَاءَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضَ بُسْتَانٍ وَسَاقَاهُ عَلَى الشَّجَرِ ثُمَّ إنْ
الْآخَرُ قَطَعَ بَعْضَ الشَّجَرِ الَّذِي يُثْمِرُ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَقْطَعَهَا قَبْلَ فَرَاغِ الْإِجَارَةِ ؟ وَهَلْ يَلْزَمُ قِيمَةَ ثَمَرَتِهَا
لِلْمُسْتَأْجِرِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا قَطَعَهَا نَقَصَ مِنْ الْعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ
بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الْمُسْتَأْجِرُ .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ إجَارَةَ
الْأَرْضِ
وَمُسَاقَاةَ الشَّجَرِ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ عِوَضٌ عَنْ
الْجَمِيعِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَبْذُلْ الْعِوَضَ إلَّا لِيَحْصُلَ
لَهُ مَعَ زَرْعِ الْأَرْضِ ثَمَرُ الشَّجَرِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي
صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ . وَسَوَاءٌ قِيلَ بِصِحَّتِهِ أَوْ فَسَادِهِ فَمَا
ذَهَبَ مِنْ الشَّجَرِ ذَهَبَ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْعِوَضِ سَوَاءٌ كَانَ
بِقَطْعِ الْمَالِكِ أَوْ بِغَيْرِ قَطْعِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضَ بُسْتَانٍ مِنْ مَشَارِفِ الْأَجْنَاسِ مُدَّةً ثُمَّ
تُوُفِّيَ الْمُسْتَأْجِرُ وَخَلَفَ أَوْلَادًا وَالْأُجْرَةُ مُقَسَّطَةٌ : فِي
كُلِّ سَنَةٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا وَقَدْ طَلَبَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُسْتَأْجِرِ
الْمُتَوَفَّى تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ بِكَمَالِهَا . فَهَلْ يُلْزِمُ الْأَوْلَادَ
جَمِيعَ الْإِجَارَةِ ؟ أَوْ يَأْخُذُ مِنْهُمْ عَلَى أَقْسَاطِهَا فِي كُلِّ
سَنَةٍ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجِبُ عَلَى أَوْلَادِهِ تَعْجِيلُ جَمِيعِ الْأُجْرَةِ - وَالْحَالُ هَذِهِ
- لَكِنْ إذَا لَمْ يَثِقْ أَهْلُ الْأَرْضِ بِذِمَّتِهِمْ فَلَهُمْ أَنْ
يُطَالِبُوهُمْ بِمَنْ يَضْمَنُ لَهُمْ الْأُجْرَةَ فِي أَقْسَاطِهَا . وَهَذَا
عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَحِلُّ بِمَوْتِ
مَنْ هُوَ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ
يَحِلُّ عَلَيْهِ . . . (1) ، وَكَذَلِكَ هُنَا عَلَى
الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ الَّذِي وَرِثَ الْمَنْفَعَةَ عَلَيْهِ أُجْرَةُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي اسْتَوْفَاهَا ؛ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دُيُونٌ لَمْ يَكُنْ لِلْوَارِثِ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَنْفَعَةِ وَيُزَاحِمَ أَهْلَ الدُّيُونِ بِالْأُجْرَةِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مِنْ الدُّيُونِ الَّتِي عَلَى الْمَيِّتِ كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ ثَمَنَ مَبِيعٍ نَافِذٍ ؛ بِمَنْزِلَةِ أَنْ تَنْتَقِلَ الْمَنْفَعَةُ إلَى مُشْتَرٍ أَوْ مُتَّهِبٍ مِثْلَ أَنْ يَبِيعَ الْأَرْضَ أَوْ يَهَبَهَا أَوْ يُورَثَ فَإِنَّ الْأَرْضَ مِنْ حِينِ الِانْتِقَالِ تَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ وَالْمُتَّهِبَ وَالْوَلَدَ : فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ يُطَالِبُونَ الْمُشْتَرِيَ وَالْوَارِثَ بِالْحِكْرِ قِسْطًا لَا يُطَالِبُونَ الْحِكْرَ جَمِيعَهُ مِنْ الْبَائِعِ . أَوْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَسْتَقِرُّ الْأُجْرَةُ إلَّا بِاسْتِيفَائِهَا فَلَوْ تَلِفَتْ الْمَنَافِعُ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ سَقَطَتْ الْأُجْرَةُ بِالِاتِّفَاقِ . وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ ؛ بَلْ بِالِاسْتِيفَاءِ وَلَا تُمْلَكُ الْمُطَالَبَةُ إلَّا شَيْئًا فَشَيْئًا وَلِهَذَا قَالَ : إنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ . وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِنْ قَالَا : تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ وَتُمْلَكُ الْمُطَالَبَةُ إذَا سَلَّمَ الْعَيْنَ فَلَا نِزَاعَ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا نِزَاعَ فِي سُقُوطِهَا بِتَلَفِ الْمَنَافِعِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ . وَلَا نِزَاعَ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُؤَجَّلَةً لَمْ تُطْلَبْ إلَّا عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ . فَإِذَا خَلَّفَ الْوَارِثُ ضَامِنًا وَتَعَجَّلَ الْأَجَلَ الَّذِي لَمْ يَجِبْ إلَّا مُؤَخَّرًا مَعَ تَأْخِيرِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ كَانَ هَذَا ظُلْمًا لَهُ مُخَالِفًا لِلْعَدْلِ الَّذِي هُوَ
مَبْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَإِذَا لَمْ يَرْضَ الْوَارِثُ بِأَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَقَالَ الْمُؤَجِّرُ أَنَا مَا أُسَلِّمُ إلَيْك الْمَنْفَعَةَ لِتَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهَا فَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ أَدَاءَ الْأُجْرَةِ حَالَّةٍ مِنْ التَّرِكَةِ مَعَ تَأَخُّرِ الْمَنْفَعَةِ : تَبَيَّنَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَيْفِ عَلَيْهِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُؤَجَّرُ وَقْفًا وَنَحْوَهُ . فَهُنَا لَيْسَ لِلنَّاظِرِ تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ كُلِّهَا بَلْ لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ ؛ لَأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمُسْتَقْبَلَةَ إذَا لَمْ يَمْلِكْهَا وَإِنَّمَا يَمْلِكُ أُجْرَتَهَا مَا يَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِذَا تَعَجَّلَتْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى عِمَارَةٍ كَانَ ذَلِكَ أَخْذًا لِمَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْآنَ . وَأَجَابَ : لَا يَلْزَمُ تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ حَبْسًا فَإِنَّ تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ فِي الْحَبْسِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِعِمَارَةِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْحَبْسِ يَسْتَحِقُّهَا الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ . وَكُلُّ قَوْمٍ يَسْتَحِقُّونَ أُجْرَةَ الْمَنَافِعِ الْحَادِثَةِ فِي زَمَانِهِمْ فَإِنْ تَسَلَّفُوا مَنْفَعَةَ الْمُسْتَقْبَلِ كَانُوا قَدْ أَخَذُوا عِوَضَ مَا لَمْ يَسْتَحِقُّوهُ مِنْ الْوَقْفِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لَكِنْ إذَا طَلَبَ أَهْلُ الْمَالِ مِنْ وَرَثَةِ الْمُسْتَأْجِرِ ضَمِينًا بِالْأُجْرَةِ فَلَهُمْ ذَلِكَ . وَيَبْقَى الْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْوَرَثَةِ مَعَ ضَامِنٍ خَبِيرٍ لِأَهْلِ الْوَقْفِ مَنْ يَسْكُنُهُ مَعَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَقْفًا لَمْ يَحِلَّ بِمَوْتِ الْمَدِينِ . وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِحُلُولِهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِمْ ؛ إذْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا يُفَرِّقُونَ فِي الْأَرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ إذَا بِيعَتْ أَوْ
وُرِثَتْ
فَإِنَّ الْحِكْرَ يَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْوَارِثِ وَلَيْسَ لَهُمْ
أَخْذُهُ مِنْ الْبَائِعِ وَتَرِكَةِ الْمَيِّتِ : فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِمْ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ بُسْتَانًا مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ وَقَامَ بِقَبْضِ
مَبْلَغِ الْأُجْرَةِ ثُمَّ تُوُفِّيَ لِانْقِضَاءِ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ
الْمُدَّةِ وَبَقِيَ فِي الْإِجَارَةِ خَمْسَ سِنِينَ وَلَهُ وَرَثَةٌ وَأَقَامُوا
وَرَثَةَ الْمُتَوَفَّى بَعْدَ مُدَّةِ سَنَةٍ مِنْ وَفَاتِهِ . فَهَلْ يَجُوزُ
لِلْمَالِكِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْأَيْتَامِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ
عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ الْأُجْرَةَ
عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَحِلُّ بِمَوْتِهِ وَتُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ فَلَهُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
: لَا تَحِلُّ الْأُجْرَةُ إذَا وَثَّقَ الْوَرَثَةُ بِرَهْنِ أَوْ ضَمِينٍ
يَحْفَظُ الْأُجْرَةَ ؛ بَلْ يُوَفُّونَهُ كَمَا كَانَ يُوَفِّيهَا الْمَيِّتُ
وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَقْوَامٍ سَاكِنِينَ بِقَرْيَةِ مِنْ قُرَى الفيوم وَالْقَرْيَةُ قَرِيبَةٌ
مِنْ الْجَبَلِ يُرَى فِيهَا بَعْضَ السِّنِينَ النِّصْفُ فَلَمَّا كَانَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ كُتُب عَلَى الْمَشَايِخِ إجَارَةُ الْبَلَدِيِّ مُدَّةَ ثَلَاثِ
سِنِينَ قَبْلَ خُلُوِّ الْأَرْضِ مِنْ الْإِجَارَةِ الْمَاضِيَةِ وَقَبْلَ
فَرَاغِ الْأَرْضِ مِنْ الزَّرْعِ . فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْإِجَارَةُ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا كَانُوا مُكْرَهِينَ عَلَى الْإِجَارَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ تَصِحَّ
الْإِجَارَةُ وَلَمْ تَلْزَمْ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ . وَأَمَّا لَوْ
كَانُوا اسْتَأْجَرُوهَا مُخْتَارِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ بِحَقِّ وَكَانَتْ حِينَ
الْإِجَارَةِ فِي إجَارَةِ آخَرِينَ فَهَذِهِ تُسَمَّى الْإِجَارَةُ الْمُضَافَةُ
. كَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي غَالِبِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ إذْ لَا
مَحْذُورَ فِيهَا يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ كَعَقْدِ الْبَيْعِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ
أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ عَلَى الْعَقْدِ أَوْ لَا تَكُونَ . وَكَوْنُ
الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَقْبِضُ عَقِيبَ الْعَقْدِ لَا يَضُرُّ فَإِنَّ الْقَبْضَ
يَتْبَعُ مُوجَبَ الْعَقْدِ وَمُقْتَضَاهُ فَإِنْ اقْتَضَى الْقَبْضَ عَقِيبه
وَجَبَ قَبْضُهُ عَقِيبَهُ وَإِنْ اقْتَضَى تَأَخُّرَ الْقَبْضِ وَجَبَ الْقَبْضُ
حِينَ أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ ؛ إذْ الْمَقْبُوضُ
فِي الْعَقْدِ لَيْسَ مِمَّا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ عَلَى صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ ؛ بَلْ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى مَا أَوْجَبَا فِي الْعَقْدِ . وَلِهَذَا لَوْ بَاعَ نَخْلًا لَمْ تُؤَبَّرْ كَانَ الثَّمَرُ لِلْبَائِعِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَكَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَدْخُلَ لِأَجْلِ ثَمَرِهِ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُنَافِي الْقَبْضَ التَّامَّ : فَلَوْ بَاعَ أَمَةً مُزَوَّجَةً كَانَتْ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ عَلَى مِلْكِ الزَّوْجِ لَمْ تَدْخُلْ فِيمَا يَقْبِضُهُ الْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ؛ فَلِهَذَا صَحَّ عِنْدَ طَوَائِفَ مِنْهُمْ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . كَمَا اقْتَضَى حَدِيثُ . . . (1) كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَلِهَذَا لَوْ أُقْبِضَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ كَانَتْ فِي الْمَنْفَعَةِ مَعَ خَرَاجِ تَصَرُّفِ الْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا بَاقِيَةٌ عَلَى ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ فَلَوْ تَلِفَتْ بِآفَةِ سَمَاوِيَّةٍ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ يَقُولُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا فِي بَيْعِ الثِّمَارِ إذَا أَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ . وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَحْرِمُ مِنْ الْعُقُودِ إلَّا مَا حَرَّمَهُ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ أَوْ قِيَاسٌ فِي مَعْنَى مَا دَلَّ عَلَى النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ فَكُلُّ ذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي الْإِجَارَةِ الْمُضَافَةِ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ وَفِيهَا زَرْعٌ لِلْغَيْرِ فَإِنَّهُ يَبْقَى لِصَاحِبِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ كَمَا تَبْقَى لَوْ لَمْ يُؤَجِّرْ الْأَرْضَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ حَانُوتًا وَقَدْ جَاءَ إنْسَانٌ زَادَ عَلَيْهِ فِي
الْحَوَانِيتِ فَقَدَّمَهُ . فَهَلْ تُفْسَخُ إجَارَةُ الْمُسْتَأْجِرِ
الْحَانُوتَ الْوَاحِدَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا اسْتَأْجَرَهَا مِنْ الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ أَوْ
وَلِيِّهِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يَقْبَلَ عَلَيْهِ زِيَادَةً وَلَا
يُخْرِجَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ
وَلَا شُهُودٌ بَلْ مَنْ قَالَ : اذْهَبْ اُكْتُبْ عَلَيْك إجَارَةً فَأَشْهَدَ
عَلَيْهِ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْإِجَارَةِ وَمَكَّنَهُ الْمُؤَجِّرُ مِنْ
السُّكْنَى فَهَذِهِ إجَارَةٌ لَازِمَةٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ زَادَ عَلَى قَوْمٍ فِي بَيْتٍ لِيَسْكُنَ فِيهِ . فَهَلْ يَأْثَمُ
بِذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَجِبُ تَعْزِيرُهُ عَلَى ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَسُومَ عَلَى سَوْمِ
أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ } فَإِذَا
كَانَ
الْمُؤَجِّرُ قَدْ رَكَنَ إلَى شَخْصٍ لِيُؤَجِّرَهُ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ
الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ سَاكِنًا فِي الْمَكَانِ
مُسْتَمِرًّا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ دَارًا بِجِوَارِهِ رَجُلُ سُوءٍ فَرَاحَ الْمُسْتَأْجِرُ
إلَى الْمُؤَجِّرِ وَقَالَ لَهُ : مَا أَرْتَضِي بِهِ أَنْ يَكُونَ جِوَارِي إمَّا
أَنْ تَنْقُلَهُ أَوْ تُعْطِيَنِي أُجْرَتِي . فَقَالَ لَهُ : أَنَا أَنْقُلُهُ
فِي هَذَا النَّهَارِ فَحَلَفَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مَتَى لَمْ
يَنْتَقِلْ الْجَارُ فِي هَذَا النَّهَارِ وَإِلَّا مَا أَسْكُنُ الدَّارَ فَلَمْ
يَنْقُلْ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الدَّارِ فَطَلَبَ الْإِجَارَةَ فَلَمْ يُعْطِهِ
الْإِجَارَةَ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ فَمِثْلُ هَذَا عَيْبٌ فِي الْعَقَارِ
وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ حَالَ الْعَقْدِ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ
الْإِجَارَةَ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ الْفَسْخِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ مِلْكٌ يَسْتَحِقُّ كِرَاهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ يُعْطِي
الْمُكْتِرَيْنِ دَرَاهِمَ تَقْوِيَةً وَيَزِيدُونَ فِي الْكَرْيِ . هَلْ يَجُوزُ
ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا أَقَرَضَهُ عَشْرَةً عَلَى أَنْ يَكْتَرِيَ مِنْهُ حَانُوتَهُ بِأُجْرَةِ
أَكْثَرِ مِنْ الْمِثْلِ . لَمْ يَجُزْ هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ
لَوْ قَرَّرَ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا مَنْهِيًّا
عَنْهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . ( كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ
وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعِ وَلَا رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَا بَيْعُ
مَا لَيْسَ عِنْدَك } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ ) (*) . فَنَهَى
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُقْرِضَهُ ؛ لِأَنَّهُ
يُحَابِيهِ فِي الْبَيْعِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ فَكَيْفَ إذَا شَارَطَهُ مَعَ
الْقَرْضِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ وَيُحَابِيَهُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ
الْغَرِيمُ مُعْسِرًا أُنْظِرَ إلَى مَيْسَرَةٍ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا
تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى
مَيْسَرَةٍ وَأَنْ
تَصَدَّقُوا
خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ
إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
.
وَسُئِلَ :
عَنْ جُنْدِيٍّ لَهُ قِطَاعٌ فَأَلْزَمَهُ إنْسَانٌ أَنْ يُؤَجِّرَهُ فَآجَرَهُ
عَلَى سَبِيلِ الْغَصْبِ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَظَهَرَ أَنَّهُ يُسَاوِي
أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْإِيجَارُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ قَدْ أَكْرَهَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَى الْإِجَارَةِ
لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَلَّسَ عَلَيْهِ فَلَهُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ جَبَى لِإِنْسَانِ دَرَاهِمَ كُلُّ أَلْفٍ بِسِتَّةِ دَرَاهِمَ وَعُرِفَ
النَّاسُ وَعَادَتُهُمْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا وَقَدْ غَرِمَ فِيهَا بِجِبَايَتِهَا
. وَهُوَ مَغْرُورٌ بِالشَّرْطِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ دَلَّسَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ وَغَرَّهُ حَتَّى
اسْتَأْجَرَ بِدُونِ قِيمَةِ الْمِثْلِ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ
بِمِثْلِهِ فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ أَجَّرَ رَجُلًا عَقَارًا مُدَّةً وَفِي أَوَاخِرِ الْمُدَّةِ زَادَ
رَجُلٌ فِي أُجْرَتِهَا فَأَجَّرَهُ فَعَارَضَهُ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَوَّلُ .
وَقَالَ : هَذِهِ فِي إجَارَتِي . هَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ قَدْ أَجَّرَ الْمُدَّةَ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ إجَارَةِ الْأَوَّلِ
لَمْ يَكُنْ لِلْأَوَّلِ اعْتِرَاضٌ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ حَوَانِيتُ وَبِهَا أَقْوَامٌ سَاكِنُونَ مِنْ غَيْرِ إجَارَةٍ
مِنْ الْمَالِكِ وَفِي هَذَا الْوَقْتِ زَادَ أَقْوَامٌ عَلَى السَّاكِنِينَ
بِالْحَوَانِيتِ زِيَادَةً مُتَضَاعِفَةً فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمَالِكِ إجَارَتُهُمْ
؛ وَقَبُولُ الزِّيَادَةِ ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : إنْ كَانُوا غَاصِبِينَ ظَالِمِينَ قَدْ سَكَنُوا الْمَكَانَ بِغَيْرِ
إذْن الْمَالِكِ فَإِخْرَاجُ مِثْلِ هَؤُلَاءِ لَا يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةٍ ؛
بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَخْرُجُوا قَبْلَ حُصُولِ الزِّيَادَةِ
وَلِلْمَالِكِ أَنْ يُخْرِجَهُمْ قَبْلَ الزِّيَادَةِ . وَلَا
يَحِلُّ لِلْمَالِكِ أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِأُجْرَةِ مُسَمَّاةٍ ؛ بَلْ إنَّمَا عَلَيْهِمْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ . وَإِنْ كَانَ الْمُؤَجِّرُ نَاظِرَ وَقْفٍ أَوْ يَتِيمٍ : كَانَ بِإِقْرَارِهِ لَهُمْ مَعَ إمْكَانِ إخْرَاجِهِمْ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا . وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ وَوِلَايَتِهِ . وَأَمَّا إنْ سَكَنُوا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي سُكْنَى الْمُسْتَأْجِرِينَ مِثْلَ أَنْ يَجِيءَ إلَى الْمَالِكِ فَيَقُولَ : أَجِّرْنِي الْمَكَانَ الْفُلَانِيَّ بِكَذَا . فَيَقُولُ : اذْهَبْ فَأَشْهِدْ عَلَيْك وَيُشْهِدُ عَلَى نَفْسِهِ الْمُسْتَأْجِرَ دُونَ الْمُؤَجِّرِ وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ الْمَكَانَ . وَإِذَا أَرَادَ السَّاكِنُ أَنْ يَخْرُجَ لَمْ يُمَكِّنْهُ صَاحِبُ الْمَكَانِ فَهَذِهِ إجَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ إجَارَةً شَرْعِيَّةً وَلَيْسَ لِلسَّاكِنِ أَنْ يَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَالْمَالِكُ يُخْرِجُهُ مَتَى شَاءَ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ إنْ كَانَتْ شَرْعِيَّةً فَهِيَ لَازِمَةٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلَةً فَهِيَ بَاطِلَةٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَمَنْ جَعَلَهَا لَازِمَةً مِنْ جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ جَائِزَةً مِنْ جَانِبِ الْمُؤَجِّرِ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ . وَمَتَى كَانَ الْمُؤَجِّرُ نَاظِرَ وَقْفٍ أَوْ مَالِ يَتِيمٍ يُسَلِّمُهُ إلَى السَّاكِنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِ إجَارَةً وَطَالَبَهُ بِمَكْتُوبِ الْإِجَارَةِ وَالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ وَقَالَ مَعَ هَذَا : إنِّي لَمْ أُؤَجِّرْهُ إجَارَةً شَرْعِيَّةً : كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ وَوِلَايَتِهِ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ لَهُمْ فِي الْإِجَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِمَا يَعُدُّهُ النَّاسُ إجَارَةً حَتَّى لَوْ دَفَعَ طَعَامَهُ إلَى طَبَّاخٍ يَطْبُخُ بِالْأُجْرَةِ أَوْ ثِيَابَهُ إلَى غَسَّالٍ يَغْسِلُ بِالْأُجْرَةِ أَوْ نَسَّاجٍ أَوْ خَيَّاطٍ أَوْ نَحْوَهُمْ مِنْ الصُّنَّاعِ الَّذِينَ جَرَتْ عَادَتُهُمْ أَنَّهُمْ يَصْنَعُونَ بِالْأُجْرَةِ يَسْتَحِقُّونَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ . وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ حَمَّامًا أَوْ رَكِبَ سَفِينَةً أَوْ دَابَّةً . كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِالرُّكُوبِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْمَرَاكِبِ الْمُعَدَّةِ لِلْكَرْيِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ . فَكَيْفَ إذَا قَالَ : أَجِّرْنِي بِكَذَا ؟ فَقَالَ : اذْهَبْ فَاكْتُبْ إجَارَةً فَكَتَبَهَا وَسَلَّمَ إلَيْهِ الْمَكَانَ : فَهَذِهِ إجَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ . وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الصِّفَةِ فِي ذَلِكَ . كَمَا قِيلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ . كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَمَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ هَذَا فَعَلَيْهِ أَلَّا يُوجِبَ أَجْرًا إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَأَجَّرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ وَسَلَّمَ الْمَكَانَ وَطَالَبَ بِالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ ثُمَّ عِنْدَ الزِّيَادَةِ يَدَّعِي عَدَمَ الْإِجَارَةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فَإِنَّ هَذَا ظُلْمٌ فَإِنَّهُ إذَا الْتَزَمَ مَذْهَبًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ لَهُ وَعَلَيْهِ . وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الَّذِي لَهُ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ وَعِنْدَ الَّذِي عَلَيْهِ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا فَهَذَا غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلَا سَائِغٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَهُوَ ظَالِمٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ هُوَ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مُسْتَأْجِرٍ أَرْضًا بِجِوَارِهِ فَلَمَّا سَافَرَ اشْتَرَى إنْسَانٌ
الدَّارَ الَّتِي بِجِوَارِ الْأَرْضِ الَّذِي هُوَ مُسْتَأْجِرُهَا فَبَنَاهَا
وَأَدْخَلَهَا فِي دَارِهِ . فَمَا يَجِبُ ؟
فَأَجَابَ : (*)
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ مَعَ غَيْرِهَا
وَلَا يُدْخِلَهَا فِي دَارِهِ ؛ بَلْ هُوَ بِذَلِكَ غَاصِبٌ ظَالِمٌ .
وَالْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ بِهَذَا
السَّبَبِ ؛ وَتَسْقُطَ عَنْهُ الْأُجْرَةُ . وَبَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ فِي
الْإِجَارَةِ وَيُطَالِبَ الْغَاصِبَ بِأُجْرَةِ مَا انْتَفَعَ بِهِ مِنْ
الْأَرْضِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَبْقَى بِنَاؤُهُ فِيهَا وَبَيْنَ أَنْ
يَنْزِلَهُ إنْ كَانَ مِمَّا دَخَلَ فِي عَقْدِ إجَارَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ
فِي عَقْدِ إجَارَتِهِ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ وَكَّلَ رَجُلًا عَلَى أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُ لَهُ وَيُؤَجِّرُ عَنْهُ
وَيَبِيعُ عَنْهُ وَيَبْتَاعُ لَهُ . فَاسْتَأْجَرَ لِمُوَكِّلِهِ حِصَّةً
بِقَرْيَةِ مُدَّةً مَعْلُومَةً إجَارَةً صَحِيحَةً لَازِمَةً فقايله مُدَّةَ
الْإِيجَارِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ وَكَّلَهُ فِي الْمُقَايَلَةِ
. فَهَلْ هَذِهِ الْمُقَايَلَةُ صَحِيحَةٌ ؟ وَهَلْ الْإِيجَارُ بَاقٍ عَلَى
أَصْلِهِ الصَّحِيحِ يَسْتَحِقُّهُ لِلْمُوَكِّلِ ؟ وَيَسْتَحِقُّ الْمُؤَجِّرُ
الْإِجَارَةَ وَالْحَالُ هَذِهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمُسْتَأْجِرِ الْأُجْرَةَ
الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا فَلَهُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ كَمَا إذَا تَعَذَّرَ
اسْتِيفَاءُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إذَا طَلَبَ الْفَسْخَ وَالْحَالُ هَذِهِ
وَإِجَارَةُ الْمُسْتَأْجِرِ لِلْوَكِيلِ قَدْ كَانَ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمُقَايَلَةِ الْجَائِزَةِ الَّتِي تَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ
الْمُوَكِّلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ جَمَاعَةٍ بِيَدِهِمْ إقْطَاعٌ وَفِي الْإِقْطَاعِ أَرْضٌ عَاطِلَةٌ
وَأَذِنُوا لِشَخْصِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا ؛ فَأَجَّرَهَا مُدَّةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً
وَلَمْ يُشَاوِرْ الْوَكِيلُ الْمُقْطَعِينَ عَلَى الثَّلَاثِينَ سَنَةٍ فَهَلْ
تَجُوزُ هَذِهِ الْإِجَارَةُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْإِجَارَةُ إلَّا إذَا كَانَتْ بِإِذْنِ الْمُقْطَعِينَ أَوْ
مَا يَقْتَضِي الْإِذْنَ فِيهَا . فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْإِذْنِ فِي الْإِجَارَةِ
مُطْلَقًا الَّذِي يَقْتَضِي فِي الْعُرْفِ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ أَوْ نَحْوَ
ذَلِكَ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْإِذْنُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ فَلَا
تَصِحُّ الْإِجَارَةُ بِمُجَرَّدِهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ بِيَدِهِ إقْطَاعٌ يَشْهَدُ بِهِ مَنْشُورُهُ وَأَنَّهُ ضَمِنَ بَعْضَ
نَوَاحِي الْإِقْطَاعِ لِمَنْ يَزْرَعُهَا وَيَنْتَفِعُ بِهَا مُدَّةً مُعَيَّنَةً
ثُمَّ انْتَقَلَ الْإِقْطَاعُ الَّذِي بِيَدِهِ إلَى غَيْرِهِ . فَهَلْ يَصِحُّ
الْإِيجَارُ الْأَوَّلُ ؟ وَهَلْ إذَا صَحَّ يَصِحُّ الْإِيجَارُ عَلَى
الْمُقْطَعِ الثَّانِي أَوْ يُفْسَخُ ؟ وَهَلْ لِلْمُقْطَعِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُؤَجِّرِينَ
الِانْتِفَاعَ ؟
فَأَجَابَ
: الْحَمْدُ لِلَّهِ . نَعَمْ يَصِحُّ الْإِيجَارُ الْأَوَّلُ ؛ لَكِنْ إنْ شَاءَ
الْمُقْطَعُ الثَّانِي أَمْضَاهُ ؛ بَلْ مِنْ حِينِ أُقْطِعَهَا صَارَتْ لَهُ
فَإِنْ شَاءَ أَجَّرَهَا لِذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُؤَجِّرْهُ
. فَإِنْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا زَرْعٌ أَبْقَاهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ
إلَى حِينِ كَمَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا لَا عَيْنٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ
فَلَا شَيْءَ لَهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ إقْطَاعٌ فَحَضَرَ إلَيْهِ شَخْصٌ وَطَلَبَ إيجَارَ الطِّينِ
مِنْهُ فَأَجَّرَهُ طِينَهُ لِلشَّخْصِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكْشِفَ
طِينَهُ وَسَأَلَ عَنْهُ وَكَانَ الْمُسْتَأْجِرُ ذَكَرَ لِلْآخَرِ إنْ لَمْ
تُؤَجِّرْ طِينَك وَإِلَّا يَبُورُ فَخَشِيَ الْجُنْدِيُّ مِنْ بَوَرَانِ الطِّينِ
فَأَجَّرَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكْشِفَ ثُمَّ حَضَرَ شَخْصٌ آخَرُ مِنْ أَهْلِ
النَّاحِيَةِ وَعَرَّفَ الْجُنْدِيَّ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ اسْتَأْجَرَ طِينَك
بِدُونِ الْقِيمَةِ فَإِنَّ الشَّرِكَةَ طِينُهُمْ مُسَجَّلٌ بِأَكْثَرَ مِنْ
هَذِهِ الْقِيمَةِ . فَهَلْ يَجُوزُ لِلْجُنْدِيِّ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ
الْمَكْتَبِيَّةَ ؟ وَيُؤَجِّرَ لِغَيْرِهِ بِقِيمَتِهِ سَنَةً ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ دَلَّسَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ
: مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْبَرَهُ عَنْهُ بِمَا يَنْقُصُ قِيمَتَهُ وَلَمْ
يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِلْمُؤَجِّرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ .
وَكَذَلِكَ
إنْ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ وَكَانَ لَهُ
هُنَاكَ طُلَّابٌ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ جُنْدِيٍّ اسْتَأْجَرَ طِينًا مِنْ أَمِيرٍ وَانْتَقَلَ عَنْ الْإِقْطَاعِ
وَاخْتَارَ الْمُسْتَأْجِرُ الْفَسْخَ عَنْ الْإِجَارَةِ وَجَاءَ الْأَمِيرُ
الْمُسْتَجَدُّ وَطَلَبَ مِنْهُ التَّحْضِيرَ . فَهَلْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا انْتَقَلَ الْإِقْطَاعُ إلَى آخَرَ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ مِنْ حِينِ
انْتِقَالِهِ ؛ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ
مِلْكًا لِلْأَوَّلِ وَلَا لِلثَّانِي . وَالْمُقْطَعُ إنْ شَاءَ يُؤَجِّرُ وَإِنْ
شَاءَ لَا يُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ إنْ شَاءَ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ وَإِنْ شَاءَ
لَا يَسْتَأْجِرُ مِنْهُ . لَيْسَ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا إلْزَامُ الْآخَرِ لَا
بِإِجَارَةِ وَلَا لَهُ إلْزَامُهُ بِتَحْضِيرِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا ثُمَّ حَدَثَتْ مَظْلِمَةٌ عَلَى الْبَلَدِ
وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَغْرَمَ فِي الْمَظْلِمَةِ . فَهَلْ يَلْزَمُ
الْمُسْتَأْجِرَ شَيْءٌ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْمَظَالِمُ لَا تَلْزَمُ هَذَا وَلَا هَذَا . لَكِنْ إذَا وُضِعَتْ عَلَى
الزَّرْعِ أُخِذَتْ مِنْ رَبِّ الزَّرْعِ وَإِنْ وُضِعَتْ عَلَى الْعَقَارِ
أُخِذَتْ مِنْ الْعَقَارِ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَإِذَا
كَانَ مَا اشْتَرَطَ لَمْ يَدْخُلْ فِيمَا اشْتَرَطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَقَدْ
وُضِعَ عَلَى الْعَقَارِ دُونَ الزَّرْعِ أُخِذَتْ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَإِنْ
وُضِعَ عَلَى الزَّرْعِ أُخِذَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ وَإِنْ وُضِعَ مُطْلَقًا
رُجِعَ فِي ذَلِكَ إلَى الْعَادَةِ فِي مِثْلِهِ .
وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَنْ أَمِيرٍ دَخَلَ عَلَى بَلَدٍ وَهِيَ مُسْتَأْجَرَةٌ لِشَيْخِهَا وَبَعْضُ
الْأَرْضِ مَشْغُولَةٌ بِزِرَاعَةِ أَقْصَابٍ وَالْأَقْصَابُ مُسْتَمِرَّةٌ فِي
عَقْدِ إيجَارِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ قَبْلِ دُخُولِ الْأَمِيرِ عَلَى
الْإِقْطَاعِ وَإِلَى حِينِ انْفِصَالِهِ . فَهَلْ إذَا
كَانَتْ
أَرْضُ الْأَقْصَابِ مُسْتَمِرَّةٌ فِي عَقْدِ إيجَارِ الْمُسْتَأْجِرِ قَبْلَ
الدُّخُولِ وَإِلَى حِينِ الْخُرُوجِ يَبْطُلُ حُكْمُ الْإِيجَارِ ؟ أَوْ
يَسْتَمِرُّ حُكْمُهُ ؟
فَأَجَابَ :
إيجَارُ الْمُقْطَعِ لِلْأَرْضِ يَصِحُّ وَلَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا لِمَنْ
يَزْدَرِعُهَا قَصَبًا وَغَيْرَ قَصَبٍ . وَكَذَلِكَ لِلْمُسْتَأْجِرِ مِنْهُ أَنْ
يُؤَجِّرَهَا لِغَيْرِهِ بِحُكْمِ مَا اسْتَأْجَرَهَا . وَإِذَا مَاتَ ذَلِكَ
الْمُقْطَعُ أَوْ أَقْطَعَ إقْطَاعَهُ فَالْمُقْطَعُ الثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ
إجَارَةُ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْلَعَ مَا لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا
مِنْ الزَّرْعِ وَالْقَصَبِ مَجَّانًا ؛ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَنْ
يَبْقَى زَرْعُهُ وَقَصَبُهُ بِأُجْرَةِ مُسْتَأْنَفَةٍ بِمِثْلِ الْأُجْرَةِ
الْأُولَى أَوْ أَقَلِّ أَوْ أَكْثَرِ كَمَا يَتَرَاضَيَانِ بِهِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ
لَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ بِأَكْثَرِ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ . وَإِذَا
اسْتَأْجَرَهَا صَاحِبُ الْقَصَبِ وَالزَّرْعِ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ ؛ فَإِنَّهُ
يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا ؛ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا غَيْرُهُ جَازَ
عَلَى الصَّحِيحِ وَقَامَ غَيْرُهُ فِيهَا مَقَامَ الْمُؤَجِّرِ إنْ شَاءَ أَنْ
يَبْقَى زَرْعُهُ وَقَصَبُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ
إيَّاهَا بِرِضَاهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ لَهُ قِيرَاطٌ فِي بَلَدٍ فَأَجَّرَهُ لِشَخْصِ بِمِائَةِ إرْدَبٍّ
وَسِتِّينَ إرْدَبًّا ؛ بِنَاقِصِ عَنْ الْغَيْرِ بِثَمَانِينَ إرْدَبًّا وَذَلِكَ
قَبْلَ أَنْ يَشْمَلَهُ الرَّيُّ . فَهَلْ تَصِحُّ الْإِجَارَةُ قَبْلَ شُمُولِ
الرَّيِّ ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الْقِيمَةَ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْبِلَادُ مِمَّا تُرْوَى غَالِبًا صَحَّتْ إجَارَتُهَا
عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ قَبْلَ أَنْ يُرْوَى ؛ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . فَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ جَوَازُ إجَارَةِ ذَلِكَ .
كَمَذْهَبِ سَائِر الْأَئِمَّةِ . وَمَا يُوجَدُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ مِنْ
إطْلَاقِ الْعَقْدِ قَدْ فَسَّرَهُ أَئِمَّةُ مَذْهَبِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
. وَمَا زَالَتْ أَرْضُ مِصْرَ تُؤَجَّرُ قَبْلَ شُمُولِ الرَّيِّ فِي أَعْصَارِ
السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ أَنْكَرَ بِسَبَبِ تَأَخُّرِهِ .
وَإِذَا طَلَبَ الزِّيَادَةَ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ
وَإِنْ كَانَ غَرَّهُ فَذَاكَ شَيْءٌ آخَرُ لِيُبَيِّنْهُ السَّائِلُ حَتَّى
يُجَابَ عَنْهُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ شَخْصٍ أَجَّرَ أَرْضًا جَارِيَةً فِي إقْطَاعِهِ مُدَّةً ثُمَّ إنَّ
الْمُسْتَأْجِرَ تَسَلَّمَ الْأَرْضَ وَتَسَلَّمَ الْمُؤَجِّرُ بَعْضَ الْأُجْرَةِ
وَأَخَذَ مَا دَفَعَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ إلَى الْمُؤَجِّرِ وَقَطَعَ الْإِجَارَةَ
ثُمَّ إنَّهُ ذَكَرَ بِأَنَّهُ حَرَثَ بَعْضَ الْأَرْضِ فَأَلْزَمَ الْمُؤَجِّرَ
بِأُجْرَةِ الْحِرَاثَةِ . فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْمُؤَجِّرُ مِثْلَ أُجْرَةِ
الْحَرْثِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْمُسْتَأْجِرِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَفْسَخُ
الْمُؤَجِّرُ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ فَسَخَ الْإِجَارَةَ بَعْدَ اسْتِيلَائِهِ
عَلَى الْأَرْضِ فَإِنْ كَانَا قَدْ تَقَايَلَا الْإِجَارَةَ أَوْ فَسَخَهَا
بِحَقِّ : فَعَلَيْهِ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَرْضِ
وَلَهُ قِيمَةُ حَرْثِهِ بِالْمَعْرُوفِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ نَاظِرِ وَقْفٍ أَوْ مَالِ يَتِيمٍ : هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ
الْمَكَانَ مِنْ الْوَقْفِ أَوْ مَالِ الْيَتِيمِ لِمَنْ يَسْكُنُهُ بِغَيْرِ
إجَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ ؟ وَإِذَا أَشْهَدَ أَحَدٌ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ
اسْتَأْجَرَ مِنْ مُبَاشِرِ الْوَقْفِ مَكَانًا مُعَيَّنًا مُدَّةً مُعَيَّنَةً
بِأُجْرَةِ
مُسَمَّاةٍ وَسَلَّمَ الْإِجَارَةَ لِلْمُبَاشِرِ وَتَسَلَّمَ مِنْهُمْ الْمَكَانَ
وَسَكَنَهُ مُدَّةً وَطَالَبُوهُ بِالْأُجْرَةِ الْمُسَلَّمَةِ . فَهَلْ
لِلنَّاظِرِ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الْإِجَارَةَ لَازِمَةً مِنْ جِهَةِ
الْمُسْتَأْجِرِ غَيْرَ لَازِمَةٍ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَنُوَّابِهِ ؟ يَمْنَعُ
بِهَا الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ الْخُرُوجِ إذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ وَيُطَالِبُهُ
بِالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ فِيهَا وَتُقْبَلُ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ مَتَى
حَصَلَتْ مِمَّنْ زَادَ عَلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَائِزًا وَأَصَرَّ
النَّاظِرُ عَلَى ذَلِكَ : هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ
وَوِلَايَتِهِ ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْوَقْفَ أَوْ مَالَ
الْيَتِيمِ إجَارَةً صَحِيحَةً ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُ تَسْلِيمُ الْوَقْفِ وَلَا مَالِ الْيَتِيمِ وَلَا غَيْرِهِمَا مِمَّا
يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ إلَّا بِإِجَارَةِ شَرْعِيَّةٍ لَا
يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ بِإِجَارَةِ فَاسِدَةٍ ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ
مَعَ مُوَكِّلِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ مَا وُكِّلَ فِي إجَارَتِهِ إلَّا بِإِجَارَةِ
شَرْعِيَّةٍ وَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَجْعَلَ الْإِجَارَةَ لَازِمَةً مِنْ
جِهَةِ الْمُسْتَأْجِرِ جَائِزَةً مِنْ جِهَةِ الْمُؤَجِّرِ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ
إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ
وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِمَا بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ - كَمَا هُوَ قَوْلُ
الْجُمْهُورِ - جَازَ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ بِمَا هُوَ إجَارَةٌ فِي الْعُرْفِ
وَإِنْ كَانَ لَا يَرَى صِحَّةَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا إلَّا
بِاللَّفْظِ كَانَ عَلَيْهِ أَلَّا يُسَلِّمَهَا إلَّا إذَا أَجَّرَهَا كَذَلِكَ
كَانَ عَلَيْهِ أَلَّا يُسَلِّمَ مَا بَاعَهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَغَيْرِهِ
إلَّا إذَا بَاعَهُ بَيْعًا شَرْعِيًّا . فَمَنْ اعْتَقَدَ جَوَازَ بَيْعِ
الْمُعَاطَاةِ سَلَّمَهُ بِهَذَا الْبَيْعِ . وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ
الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ وَإِلَى الْيَوْمِ . وَمَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعٌ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الصِّيغَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ : لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَ وُجُودِ هَذَا الِاعْتِقَادِ أَنْ يُسَلِّمَ مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِعَقْدِ صَحِيحٍ كَالْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي يُجَوِّزُهَا الْجُمْهُورُ بِدُونِ اللَّفْظِ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَا يُجَوِّزُهَا إلَّا بِاللَّفْظِ : يَجِبُ فِيهَا عَلَى كُلِّ مَنْ اعْتَقَدَ أَنْ يَعْمَلَ بِمُوجَبِ اعْتِقَادِهِ لَهُ وَعَلَيْهِ ؛ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فِيهَا لَهُ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِيهَا عَلَيْهِ كَمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ جَارًا اسْتَحَقَّ شُفْعَةَ الْجِوَارِ وَإِذَا كَانَ مُشْتَرِيًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شُفْعَةُ الْجَارِ . أَوْ إذَا كَانَ مِنْ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ - فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُشْرِكَةِ الحمارية - يَسْقُطُ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ وَإِذَا كَانَ هُوَ مِنْ الْإِخْوَةِ لِلْأَبَوَيْنِ اسْتَحَقَّ مُشَارَكَةَ وَلَدِ الْأُمِّ وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُدَّعِي قُضِيَ لَهُ بِرَدِّ الْيَمِينِ وَإِذَا كَانَ هُوَ الطَّالِبَ حُكِمَ لَهُ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي مَسْأَلَةِ نِزَاعِ مِثْلِ هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذَا أَنْ يُحَلِّلَ لِنَفْسِهِ مَا يُحَرِّمُهُ عَلَى مِثْلِهِ وَيُحَرِّمَ عَلَى مِثْلِهِ مَا يُحَلِّلُهُ لِنَفْسِهِ وَيُوجِبَ عَلَى غَيْرِهِ - الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ - مَا لَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيُوجِبَ لِنَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ مَا لَا يُوجِبُهُ لِمِثْلِهِ . وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ وَمِنْ كُلِّ دِينٍ ؛ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ وَمَنْ اعْتَقَدَ جَوَازَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ ؛ بَلْ مَنْ اعْتَقَدَ صِحَّةَ
بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْإِجَارَاتِ الَّتِي يُعِدُّهَا أَهْلُ الْعُرْفِ بَيْعًا وَإِجَارَةً : اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ صَحِيحٌ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ . وَمَنْ اعْتَقَدَهُ بَاطِلًا : اعْتَقَدَهُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ . فَالْمُؤَجِّرُ النَّاظِرُ إنْ اعْتَقَدَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ الْتَزَمَهُ لَهُ وَعَلَيْهِ . فَإِنْ اعْتَقَدَ بُطْلَانَ هَذَا الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ الْمُؤَجَّرَ وَلَا يُطَالِبَ بِالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ وَلَا [ يَمْنَعُ ] (1) الْمُسْتَأْجِرِينَ مِنْ الْخُرُوجِ . وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَلَّمَ الْعَيْنَ إلَى الْغَاصِبِ فَمَا تَلِفَ تَحْتَ يَدِ الْمُسْتَوْلِي كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ كَمَا لَوْ سَلَّمَ مَالَهُ بِعَقْدِ فَاسِدٍ يَعْتَقِدُ هُوَ فَسَادَهُ وَإِنْ اعْتَقَدَ صِحَّةَ هَذَا الْعَقْدِ كَانَ لَهُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ وَالْمُطَالَبَةُ بِالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ زِيَادَةً عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا يُخْرِجَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأُجْرَةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ الْفَسْخَ . وَمَتَى أَصَرَّ النَّاظِرُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُ فَاسِدًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ صَحِيحًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ غَيْرَ لَازِمٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ ؛ فَإِنَّهُ ظَالِمٌ جَائِرٌ وَذَلِكَ قَادِحٌ فِي وِلَايَتِهِ وَعَدَالَتِهِ . وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَجِّرَ مَا يُؤَجِّرُهُ إجَارَةً صَحِيحَةً وَلَيْسَ لَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُؤَجِّرَ إجَارَةً يَعْلَمُ أَنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ حِصَّةُ وَقْفٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِشَخْصِ فَأَجَّرَهُ
الضَّيْعَةَ وَقَاصَّهُ بِدَيْنِهِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَهُوَ
شَرْطُ مَذْهَبِ الْوَاقِفِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ لِرَجُلِ آخَرَ فَاعْتَقَلَهُ
فِي حَبْسِ السِّيَاسَةِ مُدَّةً إلَى أَنْ هَلَكَ مِنْ السِّجْنِ وَحَلَفَ
أَنَّهُ مَا يُخْرِجُهُ حَتَّى يُضَمِّنَهُ الْحِصَّةَ فَمَا وَجَدَ مِنْ
الْحَبْسِ وَالتَّهْدِيدِ ضَمَّنَّهُ الْحِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ وَهُوَ ضَامِنُ
حِصَّةٍ أُخْرَى فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا مِنْ أَوَّلِ الْمُدَّةِ وَمُدَّةُ
الْإِيجَارِ خَمْسُ سِنِينَ وَمَبْلَغُ الدَّيْنِ وَاحِدٌ . فَهَلْ يَعْمَلُ
بِالْإِيجَارَةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ شَرْطُ الْوَاقِفِ وَأَغْلَى قِيمَةً ؟
أَمْ بِالثَّانِيَةِ الَّتِي هِيَ كُرْهٌ وَإِجْبَارٌ وَدُونَ الْقِيمَةِ وَغَيْرُ
شَرْطِ الْوَاقِفِ ؟ وَإِذَا كَانَ قَدْ أَخَذَ مِنْهَا مُغَلَّاتٍ يَرْجِعُ عَلَى
الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ قَدْ فَرَغَ مُدَّةَ
الْأَوَّلِ لِمَنْ يَكُونُ وِلَايَةُ الْإِيجَارِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ قَدْ أَجَّرَهُ إجَارَةً صَحِيحَةً كَانَتْ
إجَارَتُهُ تِلْكَ الْمُدَّةَ أَوْ بَعْضَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ هَذِهِ الْإِجَارَةِ
إجَارَةً بَاطِلَةً سَوَاءٌ كَانَتْ بِاخْتِيَارِ الْمُؤَجِّرِ أَوْ كَانَ قَدْ
أُكْرِهَ عَلَيْهَا وَكَانَ هَذَا الْمُسْتَأْجِرُ ظَالِمًا بِوَضْعِ يَدِهِ
عَلَيْهَا وَاسْتِغْلَالِهَا وَكَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ الْخِيَارُ
بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ
الْإِجَارَةَ
وَتَسْقُطَ عَنْهُ الْأُجْرَةُ مِنْ حِينِ الْفَسْخِ وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنَهَا
فَيُؤَدِّي الْأُجْرَةَ وَيُطَالِبُ هَذَا الظَّالِمَ بِعِوَضِ الْمَنْفَعَةِ.
وَسُئِلَ :
عَنْ دَارٍ وُقِفَ عَلَى صَغِيرٍ وَرَجُلٍ بَالِغٍ وَقَدْ أَجَّرَهَا أَبُو الْوَاقِفِ
بِالْإِكْرَاهِ وَالْإِجْبَارِ مِنْ رَجُلٍ لَهُ جَاهٌ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً
. فَهَلْ تَصِحُّ إجَارَةُ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ الْبَالِغِ ؟ وَقَدْ رَآهُ
مُكْرَهًا وَعَلَيْهِ التَّرْسِيمُ فَأَرَادَ الِابْنُ خَلَاصَهُ مِنْ يَدِ
الظَّالِمِ الَّذِي أَكْرَهَ عَلَى الْإِيجَارِ فَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ
بِإِمْضَاءِ الْإِجَارَةِ فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْإِشْهَادُ ؟ وَهَلْ تَصِحُّ
إجَارَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِيجَارِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ أُكْرِهَ بِغَيْرِ حَقٍّ
عَلَى تَنْفِيذِهَا : لَمْ يَصِحَّ ؛ فَإِنَّ الْمُكْرَهَ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا
يُلْزَمُ بَيْعَهُ وَلَا إجَارَتَهُ وَلَا إنْفَاذَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ
. وَأَمَّا إجَارَةُ الْوَقْفِ هَذِهِ الْمُدَّةَ فَفِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ كَمَا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَيْتَامٍ لَهُمْ نَصِيبٌ فِي مِلْكٍ فَأَجَّرَهُ الْوَصِيُّ لِلشَّرِكَةِ
مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ بِدُونِ قِيمَةِ الْمِثْلِ . فَمَا الْحُكْمُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَتَى أَجَّرَهُ الْوَصِيُّ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ كَانَ
ضَامِنًا لِمَا فَوَّتَهُ عَلَى الْيَتِيمِ وَلَمْ تَكُنْ الْإِجَارَةُ لَازِمَةً
لِلْيَتِيمِ بَعْدَ رُشْدِهِ ؛ بَلْ هِيَ بَاطِلَةٌ مُنْفَسِخَةٌ فِي أَحَدِ
قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَفِي الْآخَرِ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهَا . ثُمَّ إنْ كَانَ
الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ مَا فَعَلَهُ الْوَصِيُّ كَانَ لَهُ أَنْ
يَضْمَنَهُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْ ضَمَانَهُ وَإِنْ عَلِمَ اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ
عَلَيْهِ ؛ بَلْ لَوْ أَجَّرَهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ . مِثْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الَّتِي
يَعْلَمُ الْوَصِيُّ أَنَّهُ يَبْلُغُ فِي أَثْنَائِهَا ؛ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ
يُجَوِّزُونَ لِلْيَتِيمِ الْفَسْخَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدُ حَمَّامًا بِجَانِبِ الدَّارِ
يَحْصُلُ مِنْ الْمَاءِ النَّامُوسُ وَزَوْجَتُهُ أَسْقَطَتْ مِنْ رَائِحَةِ
الدُّخَّانِ . فَهَلْ يَفْسَخُ الْإِجَارَةَ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَأْجِرُ يَعْلَمُ بِأَنَّ هَذِهِ الْحَمَّامَ إذَا
أُدِيرَ يَحْصُلُ مِنْ إدَارَتِهِ الضَّرَرُ الَّذِي يَنْقُصُ قِيمَةَ الْمَنْفَعَةِ
فِي الْعَادَةِ فَلَهُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ . وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ
الْعِلْمِ مَعَ يَمِينِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ إقْطَاعٍ مُسَجَّلٍ تَقَاوِيَ عَلَى الْمُقْطَعِ كُلُّ فَدَّانٍ بِثَلَاثَةِ
أَرَادِبَ وَثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ . وَالْبَقَرُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِينَ . هَلْ
يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ الضَّرِيبَةُ وَمُؤَجِّرُهَا يُؤَجِّرُهَا بِهَا سَوَاءٌ كَانَ
الْفَلَّاحُ يَقْتَرِضُ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَلَمْ يُرِدْ الضَّرِيبَةَ لِأَجْلِ
الْقُوَّةِ فَهَذَا جَائِزٌ ؛ فَإِنَّ الْقَرْضَ لَمْ يَجُرَّ بِهِ مَنْفَعَةً
وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَرِهَ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ مِنْ الْقَرْضِ
الَّذِي يَجُرُّ مَنْفَعَةً ؛ إذْ بِالْقُوَّةِ يَسْتَأْجِرُهَا الْفَلَّاحُ
لَكِنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ
لِلِاثْنَيْنِ
وَإِذَا لَمْ يَزِدْ الْأُجْرَةَ لِأَجْلِ الْقُوَّةِ فَقَدْ أَحْسَنَ . وَلَا
فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُسَمَّى إجَارَةً أَوْ مُسَجَّلًا فَالْجَمِيعُ سَوَاءٌ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَعْمَلُ فِي بُسْتَانٍ فَتَرَكَ الْعَمَلَ حَتَّى
فَسَدَ بَعْضُ الْبُسْتَانِ . فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ ؟ أَوْ يَضْمَنُ ؟
أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا رَيْبَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ
الْأُجْرَةَ وَإِنْ عَمِلَ بَعْضَهُ أُعْطِيَ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا
عَمِلَ وَإِذَا تَلِفَ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ بِسَبَبِ تَفْرِيطِهِ كَانَ عَلَيْهِ
ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ . وَالتَّفْرِيطُ هُوَ تَرْكُ مَا يَجِبُ
عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ .
وَسُئِلَ :
عَنْ دَابَّةٍ : أَيُّمَا أَفْضَلُ يَنْقُلُ النَّاسَ بِلَا أُجْرَةٍ أَوْ
يَأْخُذُ الْأُجْرَةَ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ فَتَرْكُهُ لَهُمْ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ
وَهُنَالِكَ مُحْتَاجٌ فَأَخْذُهُ لِأَجْلِ الْمُحْتَاجِ أَفْضَلُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ أَجَّرَ أَرَاضِيَ بَيْتِ الْمَالِ لِأَقْوَامِ مُعَيَّنِينَ فِي إيجَارِ
كُلِّ وَاحِدٍ فِي إجَارَةٍ قَدْرٍ مَعْلُومٍ بِدِرْهَمِ مَعْلُومٍ وَزُرِعَتْ
الْأَرَاضِيَ أنشابا وَأَنَّ الْأَرَاضِيَ الْمُسْتَأْجَرَةَ فِيهَا زَائِدٌ مَعَ
الْمُسْتَأْجِرِ بِخَارِجِ عَمَّا يَشْهَدُ بِهِ الْإِيجَارُ . فَهَلْ يَجُوزُ
اعْتِبَارُ الْأَرَاضِي وَإِخْرَاجُ الزَّائِدِ لِبَيْتِ الْمَالِ ؟ .
فَأَجَابَ :
مَا زَرَعُوهُ زَائِدًا عَمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ بِالْإِجَارَةِ فَزَرْعُهُمْ
بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَمَتَى اسْتَعْمَلُوا الزَّائِدَ كَانَ عَلَيْهِمْ أُجْرَةُ
الْمِثْلِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ : فَهَلْ
لِرَبِّ الْأَرْضِ قَلْعُهُ بِمَا أَنْفَقُوهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ
لِلْعُلَمَاءِ . وَإِنْ اخْتَارَ إبْقَاءَهُ وَالْمُطَالَبَةَ بِأُجْرَةِ
الْمِثْلِ : فَلَهُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ اسْتَأْجَرَ مَكَانًا مِنْ مُبَاشِرِيهِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً بِأُجْرَةِ
مُعَيَّنَةٍ وَلَوْ أَرَادَ الْإِقَالَةَ مَا أَقَالُوهُ إلَّا بِانْقِضَاءِ
الْمُدَّةِ . فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا عَلَيْهِ زِيَادَةً قَبْلَ أَنْ
تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فَهِيَ لَازِمَةٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُخْرِجَ الْمُسْتَأْجِرَ ؛ لِأَجْلِ
زِيَادَةٍ حَصَلَتْ عَلَيْهِ وَالْحَالُ هَذِهِ . وَلَا يَقْبَلُ عَلَيْهِ
زِيَادَةً وَالْحَالُ هَذِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَإِنْ كَانَتْ
الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً لَمْ يَجُزْ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يُمَكِّنَ
الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ تَسَلُّمِ الْمَكَانِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْإِجَارَةِ وَلَا
لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ إذَا أَرَادَ وَلَا يَمْلِكُ أَنْ
يُطَالِبَهُ بِالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ فِي الْعَقْدِ وَكَانَ دُخُولُ
النَّاظِرِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ وَوِلَايَتِهِ ؛ فَإِنَّهُ
يَجِبُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يُؤَجِّرَ الْمَكَانَ إلَّا
إجَارَةً صَحِيحَةً فِي الشَّرْعِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ
إذَا أَجَّرَهُ كَذَلِكَ أَنْ لَا يَقْبَلَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ
وَلَا يُخْرِجَهُ لِأَجْلِهَا . وَأَمَّا الَّذِي زَادَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ . فَلَوْ
زَادَ عَلَيْهِ بَعْدَ رُكُونِ الْمُؤَجِّرِ
إلَى إجَارَتِهِ لَكَانَ قَدْ سَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَوْ زَادَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَإِمْكَانُ الْفَسْخِ فَهُوَ مِثْلُ الَّذِي يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ . وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَكَيْفَ إذَا زَادَ عَلَيْهِ مَعَ وُجُودِ الْإِجَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ هَذَا الزَّائِدَ عَاصٍ آثِمٌ ظَالِمٌ مُسْتَحِقٌّ لِلتَّعْزِيرِ وَالْعُقُوبَةِ وَمَنْ أَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَعَانَهُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِشْهَادُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ إشْهَادِ الْمُؤَجِّرِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إشْهَادٍ ؛ بَلْ يَصِحُّ بِدُونِ الشَّهَادَةِ . وَقَوْلُ النَّاظِرِ لَهُ : أَشْهِدْ عَلَى نَفْسِك مَعَ إشْهَادِ الْمُسْتَأْجِرِ هُوَ إجَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ ؛ بَلْ بَعْدَ قَوْلِ النَّاظِرِ لَهُ : أَشْهِدْ عَلَى نَفْسِك لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ وَعَلَى النَّاظِرِ أَلَّا يُؤَجِّرَهَا حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَزِيدُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُشْهِرَ الْمَكَانَ عِنْدَ أَهْلِ الرَّغَبَاتِ الَّذِينَ جَرَتْ الْعَادَةُ بِاسْتِئْجَارِهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ آجَرَهُ الْمِثْلَ وَهِيَ الْإِجَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ . فَإِنْ حَابَاهُ بَعْضُ أَصْدِقَائِهِ أَوْ بَعْضُ مَنْ لَهُ عِنْدَهُ يَدٌ أَوْ غَيْرُهُمْ : فَأَجَّرَهُ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ كَانَ ظَالِمًا ضَامِنًا لِمَا نَقَصَ أَهْلَ الْوَقْفِ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ . وَلَوْ تَغَيَّرَتْ أَسْعَارُ الْعَقَارِ بَعْدَ الْإِجَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَمْلِكْ الْفَسْخَ بِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَنْضَبِطُ وَلَا يَدْخُلُ فِي التَّكْلِيفِ . وَالْمَنْفَعَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّمَانِ قَدْ تَكُونُ مُخْتَلِفَةً لَا مُمَاثِلَةً . فَتَكُونُ قِيمَتُهَا فِي الشِّتَاءِ
أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فِي الصَّيْفِ وَبِالْعَكْسِ . وَمَنْ اسْتَأْجَرَهُ حَوْلًا فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ فِي زَمَانِ بَعْضِ الْكَرْيِ لِأَجْلِ مَا يَحْصُلُ مِنْ ارْتِفَاعِهِ فِي الزَّمَانِ الْآخَرِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ مِنْ ارْتِفَاعِ سِعْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَلَوْ قَدَّرَ أَنَّ الْإِجَارَةَ انْفَسَخَتْ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ لَبُسِطَتْ الْقِيمَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ لَا بِأَجْزَاءِ الزَّمَانِ . فَيُقَالُ : كَمْ قِيمَتُهُ فِي وَقْتِ الصَّيْفِ ؟ وَيَقْسِمُ الْأُجْرَةَ عَلَى وَقْتِ الْقِيمَةِ وَيَحْسِبُ لِكُلِّ زَمَانٍ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ . وَالْوَاجِبُ عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَفْعَلَ مَصْلَحَةَ الْوَقْفِ فِي إجَارَةِ الْمَكَانِ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً أَوْ موايمة . فَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ يَوْمًا فَيَوْمًا وَكُلَّمَا مَضَى يَوْمٌ تَمَكَّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الْإِخْلَاءِ وَالْمُؤَجَّرُ مِنْ أَمْرِهِ بِهِ فَعَلَ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ مُشَاهَرَةً وَعِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الْإِخْلَاءِ وَالْمُؤَجِّرُ مِنْ أَمْرِهِ بِهِ فَعَلَ ذَلِكَ . وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ مُسَانَهَةً فَقَدْ فَعَلَ مَا عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ ؛ لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ ؛ لَا الشَّافِعِيِّ وَلَا أَحْمَد وَلَا غَيْرِهِمَا ؛ لَا فِي الْوَقْفِ وَلَا فِي غَيْرِهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ اسْتَأْجَرَ حَانُوتًا مِنْ مُبَاشِرِي الْأَوْقَافِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً
بِأُجْرَةِ مُعَيَّنَةٍ وَتَسَلَّمَ الْحَانُوتَ وَانْتَفَعَ بِهِ وَقَبَضُوا
مِنْهُ مَا اُسْتُحِقَّ لَهُمْ مِنْ الْأُجْرَةِ وَلَوْ أَرَادَ الْإِقَالَةَ مَا
أَقَالُوهُ إلَّا بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ . فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا
عَلَيْهِ زِيَادَةً مِمَّنْ زَادَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ
إجَارَتِهِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ - وَالْحَالُ هَذِهِ -
سَوَاءٌ كَانَ هَذَا وَقْفًا أَوْ مِلْكَ يَتِيمٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . وَمَنْ
اسْتَجَازَ أَنْ يَقْبَلَ الزِّيَادَةَ وَلَا يُمَكِّنُ الْمُسْتَأْجِرَ
الْخُرُوجَ إذَا أَرَادَ : فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ
الْإِجَارَةَ إنْ كَانَتْ فَاسِدَةً أَوْ غَيْرَ جَائِزَةٍ : كَانَ لِكُلِّ مِنْ
الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ تَرْكُهَا . وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَازِمَةً
لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا فَسْخُهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ ذَلِكَ
لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ وَنَحْوِهَا . فَأَمَّا أَنْ تُجْعَلَ جَائِزَةً مِنْ
جَانِبِ الْمُؤَجِّرِ ؛ لَازِمَةً مِنْ جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ : فَهَذَا خِلَافُ
إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ زَعْمَ النَّاظِرِ أَنَّهُ لَمْ
يُؤَجِّرْ هَذَا الْمَكَانَ أَوْ أَجَّرَهُ إجَارَةً فَاسِدَةً : كَانَ ذَلِكَ
قَادِحًا فِي نَظَرِهِ وَعَدَالَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ
يُسَلِّمُ
الْعَيْنَ
الْمَوْقُوفَةَ إلَى مَنْ لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ وَتَمْكِينُهُ بِغَيْرِ
أُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ ؛ وَلَا نِزَاعَ أَنَّ النَّاظِرَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا تَجِبُ
عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ ؛ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ
الْمِثْلِ . وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ كَثِيرًا مَا تَكُونُ دُونَ الْمُسَمَّاةِ
فَيَكُونُ ذَلِكَ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا فَوَّتَهُ
عَلَى أَهْلِ الْوَقْفِ . وَلَوْ ادَّعَى النَّاظِرُ أَنَّ الْإِجَارَةَ كَانَتْ
فَاسِدَةً وَادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ
مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ ؛ إذْ الْأَصْلُ فِي عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةُ
؛ وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَزَّانٍ بِالْقَبَّانِ وَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ مِمَّنْ يَزِنُ لَهُ .
فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ الْأُجْرَةُ حَلَالٌ ؟ أَمْ حَرَامٌ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْوَزْنُ بِالْقَبَّانِ الصَّحِيحِ كَالْوَزْنِ بِسَائِرِ
الْمَوَازِينِ إذَا وَزَنَ الْوَازِنُ بِهَذِهِ الْآلَاتِ الصَّحِيحَةِ
بِالْقِسْطِ جَازَ وَزْنُهُ وَإِنْ كَانَتْ الْآلَةُ فَاسِدَةً وَالْوَازِنُ
بَاخِسًا كَانَ مِنْ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ . وَإِذَا وَزَنَ بِالْعَدْلِ
وَأَخَذَ أُجْرَتَهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْوَزْنُ : جَازَ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ يَخْتِمُ الْقُمَاشَ وَهُوَ سَاكِنٌ عِنْدَهُ رَجُلٌ فَإِذَا ادَّعَى
الرَّجُلُ أَنَّ الْأُجْرَةَ مِنْ غَيْرِ كَسْبِهِ . هَلْ يَجُوزُ أَنْ
يَأْخُذَهَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا كَانَ لَهُ جِهَةٌ أُخْرَى حَلَالٌ وَذَكَرَ أَنَّهُ يُعْطِي
الْأُجْرَةَ مِنْهَا ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ [ جَازَ ] (1) أَنْ
يَأْخُذَ وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ كَذِبُهُ جَازَ تَصْدِيقُهُ فِي
ذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْرَفْ كَذِبُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أُجْرَةِ الْحَجَّامِ . هَلْ هِيَ حَرَامٌ ؟ وَهَلْ يَنْجُسُ مَا يَصْنَعُهُ
بِيَدِهِ لِلْمَأْكَلِ ؟ وَهَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ ؟ وَمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ التَّحْرِيمِ ؟ وَهَلْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { شِفَاءُ أُمَّتِي فِي ثَلَاثٍ : آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ
لَعْقَةٌ مِنْ عَسَلٍ أَوْ كَأْسٌ مِنْ حَجَّامٍ } " فَكَيْفَ حَرَّمَ هَذَا
وَوَصَفَ بِالتَّدَاوِي هُنَا وَجَعَلَهُ شِفَاءً
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا يَدُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَجَاسَةٌ فَهِيَ
كَسَائِرِ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَضُرُّهَا تَلْوِيثُهَا بِالدَّمِ إذَا
غَسَلَهَا كَمَا لَا يَضُرُّهَا تَلَوُّثُهَا بِالْخَبَثِ حَالَ الِاسْتِنْجَاءِ
إذَا غَسَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ : { احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ } وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ إيَّاهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أَنَسٍ - وَسُئِلَ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ - قَالَ :
احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَمَهُ أَبُو طِيبَةَ
فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلَّمَ أَهْلَهُ فَخَفَّفُوا عَنْهُ }
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَجَّامَ إذَا حَجَمَ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ حَجْمِهِ عِنْدَ
جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفُ بِخِلَافِ ذَلِكَ .
وَقَدْ أَرْخَصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ أَنْ
يَعْلِفَهُ نَاضِحَهُ وَيُطْعِمَهُ رَقِيقَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ { مُحْصَنٍ أَنَّ
أَبَاهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
خَرَاجِ الْحَجَّامِ فَأَبَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَالَ
: أَطْعِمْهُ رَقِيقَك وَاعْلِفْهُ نَاضِحَك } رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ ابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ . وَاحْتَجَّ بِهَذَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ
أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ . وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِلْحَرِّ تَنْزِيهًا . قَالُوا : لَوْ
كَانَ حَرَامًا لَمَا أَمَرَهُ أَنْ يُطْعِمَهُ رَقِيقَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ
مُتَعَبِّدُونَ
وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَأْذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطْعِمَ رَقِيقَهُ حَرَامًا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ يَحْرُمُ ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ وَثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ } " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { ابْنِ أَبِي جحيفة قَالَ : رَأَيْت أَبِي اشْتَرَى حَجَّامًا فَأَمَرَ بِمَحَاجِمِهِ فَكُسِرَتْ فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ } . قَالَ هَؤُلَاءِ : فَتَسْمِيَتُهُ خَبِيثًا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ كَتَحْرِيمِ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ . قَالَ الْأَوَّلُونَ : قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ الْخَبِيثَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَن مَسْجِدَنَا } " فَسَمَّاهُمَا خَبِيثَتَيْنِ بِخُبْثِ رِيحِهِمَا وَلَيْسَتَا حَرَامًا . وَقَالَ : " { لَا يُصَلِّيَن أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثِينَ } أَيْ : الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ . فَيَكُونُ تَسْمِيَتُهُ خَبِيثًا لِمُلَاقَاةِ صَاحِبِهِ النَّجَاسَةَ ؛ لَا لِتَحْرِيمِهِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يُطْعِمَهُ الرَّقِيقَ وَالْبَهَائِمَ . وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ لَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يُطْعَمُ مِنْهُ رَقِيقٌ وَلَا بَهِيمَةٌ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَحَالُ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لَيْسَتْ كَحَالِ الْمُسْتَغْنِي عَنْهُ كَمَا قَالَ السَّلَفُ : كَسْبٌ فِيهِ بَعْضُ الدَّنَاءَةِ خَيْرٌ مِنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ . وَلِهَذَا لَمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ :
كَانَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَعْدَلُهَا أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُحْتَاجِ قَالَ أَحْمَد : أُجْرَةُ التَّعْلِيمِ خَيْرٌ مِنْ جَوَائِزِ السُّلْطَانِ وَجَوَائِزُ السُّلْطَانِ خَيْرٌ مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَانِ . وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي الْمَنْهِيَّاتِ بَيْنَ الْمُحْتَاجِ وَغَيْرِهِ كَمَا فِي الْمَأْمُورَاتِ . وَلِهَذَا أُبِيحَتْ الْمُحَرَّمَاتُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَا سِيَّمَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ يَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ إلَى سُؤَالِ النَّاسِ . فَالْمَسْأَلَةُ أَشَدُّ تَحْرِيمًا ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : يَجِبُ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ إلَّا بِالشُّبُهَاتِ كَمَا ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ وَأَبُو حَامِدٍ : أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد سَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ : إنَّ ابْنًا لِي مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ دُيُونٌ أَكْرَهُ تَقَاضِيهَا . فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد : أَتَدَعُ ذِمَّةَ ابْنِك مُرْتَهِنَةً ؟ يَقُولُ : قَضَاءُ الدَّيْنِ وَاجِبٌ وَتَرْكُ الشُّبْهَةِ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ هُوَ الْمَأْمُورُ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُرْزَقُ الْحَاكِمُ وَأَمْثَالُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَتَنَازَعُوا فِي الرِّزْقِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } فَهَكَذَا يُقَالُ فِي نَظَائِرِ هَذَا ؛ إذْ الشَّرِيعَةُ مَبْنَاهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا . وَالْوَرَعُ تَرْجِيحُ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَدَفْعِ شَرِّ الشَّرَّيْنِ وَإِنْ حَصَلَ أَدْنَاهُمَا . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحِجَامَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ
قَالَ : { شِفَاءُ أُمَّتِي فِي ثَلَاثٍ : شَرْبَةُ عَسَلٍ أَوْ شَرْطَةُ مِحْجَمٍ
. أَوْ كَيَّةُ نَارٍ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ } وَالتَّدَاوِي
بِالْحِجَامَةِ جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَبِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ
.
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ مُنْقَطِعَةٍ أَرْمَلَةٍ . وَلَهَا مَصَاغٌ قَلِيلٌ تَكْرِيهِ
وَتَأْكُلُ كِرَاهُ . فَهَلْ هُوَ حَلَالٌ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذَا جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٍ
وَأَحْمَد وَأَصْحَابُ مَالِكٍ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَهَذِهِ
كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ لَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ . وَهَذَا إذَا كَانَتْ بِجِنْسِهِ
وَأَمَّا بِغَيْرِ جِنْسِهِ فَلَا بَأْسَ . فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ إذَا أَكْرَتْهُ
وَأَكَلَتْ كِرَاهُ لِحَاجَتِهَا لَمْ تُنْهَ عَنْ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ عَلَيْهَا
الزَّكَاةُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ
وَالْإِمَامِ أَحْمَد . وَهَذَا إنْ أَكْرَتْهُ لِمَنْ تَزَّيَّنُ لِزَوْجِهَا
أَوْ سَيِّدِهَا أَوْ لِمَنْ يَحْضُرُ بِهِ حُضُورًا مُبَاحًا مِثْلَ أَنْ
يَحْضُرَ عُرْسًا يَجُوزُ حُضُورُهُ . فَأَمَّا إنْ أَكْرَتْهُ لِمَنْ تَزَّيَّنُ
بِهِ لِلرِّجَالِ الْأَجَانِبِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا
إنْ أَكْرَتْهُ لِمَنْ تَزَّيَّنُ بِهِ لِفِعْلِ الْفَاحِشَةِ فَهَذَا أَعْظَمُ
مِنْ أَنْ تَسْأَلَ عَنْهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَانَ أَحَدٌ عَلَى الْفَاحِشَةِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ
الْمَعَاصِي ؛ لَا بِحِلْيَةِ وَلَا لِبَاسٍ وَلَا مَسْكَنٍ وَلَا دَابَّةٍ وَلَا
غَيْرِ ذَلِكَ ؛ لَا بكرى وَلَا بِغَيْرِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الشَّمَّاعِينَ الَّذِينَ يَكْرُونَ الشَّمْعَ . ثُمَّ إنَّهُمْ يَزِنُونَهُ
. أَوَّلًا فَإِذَا رَجَعَ وَزَنُوهُ ثَانِيًا وَأَخَذُوا نَقْصَهُ . فَهَلْ
يُكْرَهُ ذَلِكَ ؟ وَإِذَا كُسِرَ الشَّمْعُ فَهَلْ يَلْزَمُ الَّذِي اكْتَرَاهُ ؟
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الشَّمْعُ إذَا أَعْطَاهُ لِمَنْ يُوقِدُهُ وَقَالَ : كُلَّمَا نَقَصَ
مِنْهُ أُوقِيَّةٌ بِكَذَا فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ
الْإِجَارَاتِ وَلَا بَابِ الْبَيْعِ اللَّازِمِ ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ اللَّازِمَ
لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيع فِيهِ مَعْلُومًا ؛ بَلْ هَذَا مُعَاوَضَةٌ
جَائِزَةٌ لَا لَازِمَةٌ . كَمَا لَوْ قَالَ : اُسْكُنْ فِي هَذِهِ الدَّارِ كُلَّ
يَوْمٍ بِدِرْهَمِ وَلَمْ يُوَقِّتْ أَجَلًا فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ فِي أَظْهَرِ
قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . فَمَسْأَلَةُ الْأَعْيَانِ نَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
فِي الْمَنَافِعِ وَهُوَ إذْنٌ فِي الْإِتْلَافِ
عَلَى
وَجْهِ الِانْتِفَاعِ بِعَرْضِ كَمَا لَوْ قَالَ : أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ
وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ بِلَا رَيْبٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا
يَنْتَفِعُ بِهِ مُلْتَزِمُ الثَّمَنِ لِلتَّخْفِيفِ كَمَا يَنْتَفِعُ بِلُزُومِ
الثَّمَنِ هُنَا فَإِيقَادُ الشَّمْعِ بِالْكِرَاءِ جَائِزٌ إذَا عَلِمَ
تَوْقِيدَهُ ؛ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِيقَادُ فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ لَا
مَحْظُورٍ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ زركشي اُسْتُعْمِلَ عِنْدَهُ مِنْدِيلٌ فَلَمَّا فَرَغَ أَذِنُوا لَهُ فِي
غَسْلِهِ فَعَدَتْ عَلَيْهِ أَمَةُ الصَّانِعِ فِي صَقْلِ الذَّهَبِ فتقرض
الْمِنْدِيلُ . فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ غَرَامَةُ الْمِنْدِيلِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ قَدْ جَنَتْ عَلَى الْمِنْدِيلِ
فَالْجِنَايَةُ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهَا فَعَلَى مَالِكِهَا إمَّا أَرْشُ
الْجِنَايَةِ وَإِمَّا تَسْلِيمُهَا لِتُسْتَوْفَى الْجِنَايَةُ مِنْ رَقَبَتِهَا
وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهَا أَوْ مِنْ سَيِّدِهَا أَوْ غَيْرِهِمَا
فَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي مَا أَنْفَقُوا عَلَى الْمِنْدِيلِ وَلَيْسَ بِهِ هَذَا
الْقَرْضُ وَيُقَوَّمُ بِهِ بَعْدَ حُصُولِهِ فَيَضْمَنُونَ مَا نَقَصَتْ
الْقِيمَةُ وَأَنْ تَرَاضَوْا بِأَنْ يَأْخُذَ الصَّانِعُ الْمِنْدِيلَ
وَيُعْطِيَهُمْ قِيمَتَهُ الَّتِي تُسَاوِي فِي السُّوقِ قَبْلَ الْقَرْضِ جَازَ
ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ جَدِيدًا خَيْرًا مِنْهُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ إجَارَةِ الْجَوَامِيسِ يَسْتَأْجِرُهَا عَامًا وَاحِدًا مُطْلَقًا
وَغَرَضُهُ لَبَنُهَا وَيَسْتَعْمِلُهَا لِذَلِكَ . وَإِنَّمَا جَعَلُوهُ
مُطْلَقًا أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهَا وَالْقَصْدُ اللَّبَنُ . وَالْغَنَمُ أَيْضًا
هَلْ تَجُوزُ إجَارَتُهَا لِلَّبَنِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تُعْطَى لِمَنْ
يَرْعَاهَا بِصُوفِهَا وَلَبَنِهَا ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ
السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ فِي اشْتِرَاءِ اللَّبَنِ مُدَّةً مِقْدَارًا
مُعَيَّنًا مِنْ ذَلِكَ اللَّبَنِ يَأْخُذُهُ أَقْسَاطًا مِنْ هَذِهِ الْمَاشِيَةِ
. وَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . قَالَ هَؤُلَاءِ : هَذَا بَيْعُ مَا لَمْ يُرَ وَلَمْ
يُوصَفْ بَلْ بَيْعُ مَعْدُومٍ لَمْ يُوجَدْ . وَالْإِجَارَةُ إنَّمَا تَكُونُ
عَلَى الْمَنَافِعِ دُونَ الْأَعْيَانِ وَهَذِهِ أَعْيَانٌ . وَقَالَ هَؤُلَاءِ :
إجَارَةُ الظِّئْرِ لِلرِّضَاعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ جَازَتْ لِلْحَاجَةِ .
وَتَنَازَعَ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ . فَقِيلَ : إنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ
هُوَ الْخِدْمَةُ وَالرِّضَاعُ تَابِعٌ وَهَذَا قَوْلُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ .
وَقِيلَ : بَلْ
الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ اللَّبَنُ . وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ : فَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يُسَمُّونَ إجَارَةَ الظِّئْرِ لِلرِّضَاعِ تَبَعًا لِلَّبَنِ ؛ لِأَنَّ الظِّئْرَ تَبِعَ اللَّبَنَ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْأَعْيَانِ وَالْعَقْدُ عَلَى الْعَيْنِ هُوَ مِنْ بَابِ الْبُيُوعِ وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ لَفْظِيٌّ ؛ فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْبَيْعِ الْعَامِّ الْمُتَنَاوِلِ لِلْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ وَالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَلَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْبَيْعِ الْخَاصِّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِ مِنْ الْأَعْيَانِ . وَكَذَلِكَ السَّلَفُ تَنَازَعُوا : هَلْ هُوَ مِنْ الْبَيْعِ ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ . وَهَلْ يَكُونُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ سَلَفًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . حَتَّى قَالَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ بَيْعًا : إنَّ السَّلَفَ الْحَالَّ يَجُوزُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ؛ دُونَ لَفْظِ السَّلَمِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعُقُودَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهَا مَعَانِيهَا لَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ . وَالصَّوَابُ : أَنَّ الْإِجَارَةَ الْمَسْئُولَ عَنْهَا جَائِزَة ؛ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْجَوَازِ بِعِوَضِهَا وَمُقَايَسَتِهَا تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْإِجَارَةَ وَلَيْسَ مِنْ الْأَدِلَّةِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : إنَّ إجَارَةَ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ؛ كَلَامٌ فَاسِدٌ . فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إجَارَةٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي شَرِيعَتِنَا إلَّا هَذِهِ الْإِجَارَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ } وَقَالَ : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } . وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ دَلَّا عَلَى جَوَازِهَا وَإِنَّمَا تَكُونُ مُخَالِفَةً لِلْقِيَاسِ لَوْ عَارَضَهَا قِيَاسُ نَصٍّ آخَرَ وَلَيْسَ فِي سَائِر النُّصُوصِ وَأَقْيِسَتِهَا مَا يُنَاقِضُ هَذِهِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : الْإِجَارَةُ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْمَنَافِعِ دُونَ الْأَعْيَانِ : لَيْسَ هُوَ قَوْلًا لِلَّهِ وَلَا لِرَسُولِهِ وَلَا الصَّحَابَةِ وَلَا الْأَئِمَّةِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ قَالَتْهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ . فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى الْمَنَافِعِ فَقَطْ ؛ بَلْ الْإِجَارَةُ تَكُونُ عَلَى مَا يَتَجَدَّدُ وَيَحْدُثُ وَيُسْتَخْلَفُ بَدَلُهُ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ كَمِيَاهِ الْبِئْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً كَمَا أَنَّ الْمَوْقُوفَ يَكُونُ مَا يَتَجَدَّدُ وَمَا تَحْدُثُ فَائِدَتُهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَتْ الْفَائِدَةُ مَنْفَعَةً أَوْ عَيْنًا كَالتَّمْرِ وَاللَّبَنِ وَالْمَاءِ النَّابِعِ . وَكَذَلِكَ الْعَارِيَةُ . وَهُوَ عَمَّا يَكُونُ الِانْتِفَاعُ بِمَا يَحْدُثُ وَيُسْتَخْلَفُ بَدَلُهُ . يُقَالُ : أَفْقَرَ الظَّهْرَ وَأَعْرَى النَّخْلَةَ وَمَنَحَ النَّاقَةَ فَإِذَا مَنَحَهُ النَّاقَةَ يَشْرَبُ لَبَنَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا أَوْ أَعْرَاهُ نَخْلَةً يَأْكُلُ ثَمَرَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا وَهُوَ مِثْلُ أَنْ يُفْقِرَهُ ظَهْرًا يَرْكَبُهُ ثُمَّ يَرُدُّهُ . وَكَذَلِكَ إكْرَاءُ الْمَرْأَةِ أَوْ طَيْرٍ أَوْ نَاقَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ يَشْرَبُ
لَبَنَهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَهُوَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ دَابَّةً يَرْكَبُ ظَهْرَهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً . وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَادَةُ فِي ذَلِكَ كَانَ تَغَيُّرُ الْعَادَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ ؛ إمَّا الْفَسْخَ وَإِمَّا الْأَرْشَ . وَكَذَلِكَ إذَا أَكْرَاهُ حَدِيقَةً يَسْتَعْمِلُهَا حَوْلًا أَوْ حَوْلَيْنِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا قَبِلَ حَدِيقَةَ أسيد بْنِ الحضير ثَلَاثَ سِنِينَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَقَضَى بِهِ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَى هَذِهِ الدَّوَابِّ فَهُوَ إجَارَةٌ وَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ إجَارَةِ الظِّئْرِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ هُوَ الَّذِي يَعْلِفُهَا وَيَسْقِيهَا وَيُؤْوِيهَا وَطَالِبُ اللَّبَنِ لَا يَعْرِفُ إلَّا لَبَنَهَا وَقَدْ اسْتَأْجَرَهَا تُرْضِعُ سِخَالًا لَهُ فَهُوَ مِثْلُ إجَارَةِ الظِّئْرِ . وَإِذَا كَانَ لِيَأْخُذَ اللَّبَنَ هُوَ فَهُوَ يُشْبِهُ إجَارَةَ الظِّئْرِ لِلرِّضَاعِ الْمُطْلَقِ ؛ لَا لِإِرْضَاعِ طِفْلٍ مُعَيَّنٍ . وَهَذَا قَدْ يُسَمَّى بَيْعًا وَيُسَمَّى إجَارَةً . وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ . وَإِذَا قِيلَ : هُوَ بَيْعُ مَعْدُومٍ . قِيلَ : نَعَمْ وَلَيْسَ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ مَا يَنْهَى عَنْ بَيْعِ كُلِّ مَعْدُومٍ ؛ بَلْ الْمَعْدُومُ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْعَادَةِ : يَجُوزُ بَيْعُهُ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الثَّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ مَعَ أَنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي تُخْلَقُ بَعْدُ مَعْدُومَةٌ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الْعَقْدِ . وَكَذَلِكَ
يَجُوزُ
بَيْعُ المقاثي وَغَيْرِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ مَرِيضٍ طَلَبَ مِنْ رَجُلٍ أَنْ يُطَبِّبَهُ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ فَفَعَلَ .
فَهَلْ لِلْمُنْفِقِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَرِيضَ بِالنَّفَقَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ يُنْفِقُ طَالِبًا لِلْعِوَضِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا فَلَهُ
الْمُطَالَبَةُ بِالْعِوَضِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ ضَرِيرٍ كُتِبَتْ عَلَيْهِ إجَارَةٌ . فَهَلْ تَصِحُّ إجَارَتُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ الْأَعْمَى وَاشْتِرَاؤُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ :
كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ .
وَلَا بُدَّ أَنْ يُوصَفَ لَهُ الْمَبِيع وَالْمُسْتَأْجَرُ . فَإِنْ وَجَدَهُ
بِخِلَافِ الصِّفَةِ فَلَهُ الْفَسْخُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ مَا يَكْفِيهِ . وَهُوَ يُصَلِّي بِالْأُجْرَةِ . فَهَلْ
يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَد . وَقِيلَ : يَجُوزُ وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَقَوْلٌ فِي
مَذْهَبِ مَالِكٍ . وَالْخِلَافُ فِي الْأَذَانِ أَيْضًا ؛ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ
مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ يَجُوزُ عَلَى الْأَذَانِ وَعَلَى
الْإِمَامَةِ مَعَهُ . لَا مُنْفَرِدَةً . وَفِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى هَذَا
وَنَحْوِهِ كَالتَّعْلِيمِ قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ :
أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْحَاجَةِ وَلَا يَجُوزُ بِدُونِ الْحَاجَةِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَأَوْصَى أَنْ يُصَلَّى عَنْهُ بِدَرَاهِمَ ؟ .
فَأَجَابَ :
صَلَاةُ الْفَرْضِ لَا يَفْعَلُهَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ لَا بِأُجْرَةِ وَلَا
بِغَيْرِ أُجْرَةٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرُ
أَحَدًا لِيُصَلِّيَ عَنْهُ نَافِلَةً بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ لَا فِي
حَيَاتِهِ وَلَا فِي مَمَاتِهِ . فَكَيْفَ مَنْ يَسْتَأْجِرُ لِيُصَلَّى عَنْهُ
فَرِيضَةً . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا صَلَّى نَافِلَةً
بِلَا أُجْرَةٍ وَأَهْدَى ثَوَابَهَا إلَى الْمَيِّتِ . هَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ ؟
فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَلَوْ نَذَرَ الْمَيِّتُ أَنْ يُصَلِّيَ فَمَاتَ
. فَهَلْ تُفْعَلُ عَنْهُ الصَّلَاةُ الْمَنْذُورَةُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا
رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد . لَكِنَّ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ الَّتِي
أَوْصَى بِهَا يُتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُ وَيَخُصُّ بِالصَّدَقَةِ أَهْلَ الصَّلَاةِ
فَيَكُونُ لِلْمَيِّتِ أَجْرٌ . وَكُلُّ صَلَاةٍ يُصَلُّونَهَا وَيَسْتَعِينُونَ
عَلَيْهَا بِصَدَقَتِهِ فَيَكُونُ لَهُ مِنْهَا نَصِيبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ
مِنْ أَجْرِ الْمُصَلِّي شَيْءٌ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ } وَقَالَ : { مَنْ
جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا } " .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَصَدَ لِأَنْ يُقْرَأَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ
أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهَا مِنْ
الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فَامْتَنَعَ مِنْ إقْرَائِهَا إلَّا بِأُجْرَةِ .
فَقِيلَ لَهُ : قَدْ رُوِيَ مِنْ هَدْيِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْهُدَى تَعْلِيمُ
الْعِلْمِ ابْتِغَاءً لِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ عَلَى
عَاقِلٍ وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي . فَقَالَ : أَقْرِئْ الْعِلْمَ بِغَيْرِ
أُجْرَةٍ يَحْرُمُ عَلَيَّ ذَلِكَ فَكَلَامُهُ صَحِيحٌ ؟ أَمْ بَاطِلٌ ؟ وَهَلْ
هُوَ جَاهِلٌ بِقَوْلِهِ إنَّهُ مَعْذُورٌ . وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ
الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ النَّافِعِ ؟ أَمْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ؟
.
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ
فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَأَحَبُّهَا إلَى اللَّهِ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ
بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ هَذَا مِمَّا يَخْفَى عَلَى
أَحَدٍ مِمَّنْ نَشَأَ بِدِيَارِ الْإِسْلَامِ . وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ
وَتَابِعُو التَّابِعِينَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ عِنْدَ
الْأُمَّةِ بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ إنَّمَا كَانُوا يُعَلِّمُونَ
بِغَيْرِ أُجْرَةٍ . وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُعَلِّمُ بِأُجْرَةِ أَصْلًا .
فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ
يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا
وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّ وَافِرٍ . وَالْأَنْبِيَاءُ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ إنَّمَا كَانُوا يُعَلِّمُونَ الْعِلْمَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ . كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَكَذَلِكَ قَالَ هُودُ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَلُوطٌ وَغَيْرُهُمْ . وَكَذَلِكَ قَالَ خَاتَمُ الرُّسُلِ : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } وَقَالَ : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } . وَتَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ لَمْ يَتَنَازَعْ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّهُ عَمَلٌ صَالِحٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا ؛ بَلْ هُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ ؛ فَإِنَّ تَعْلِيمَ الْعِلْمِ الَّذِي بَيَّنَهُ فُرِضَ عَلَى الْكِفَايَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً } وَقَالَ : { لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ } . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ . عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . إحْدَاهُمَا - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى ذَلِكَ . وَالثَّانِيَةُ - وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ . وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْحَاجَةِ ؛ دُونَ الْغِنَى كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ
كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } . وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى هَؤُلَاءِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّعْلِيمِ كَمَا يُعْطَى الْأَئِمَّةُ وَالْمُؤَذِّنُونَ وَالْقُضَاةُ وَذَلِكَ جَائِزٌ مَعَ الْحَاجَةِ . وَهَلْ يَجُوزُ الِارْتِزَاقُ مَعَ الْغِنَى ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عَمَلَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِغَيْرِ أَجْرٍ لَا يَجُوزُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ؛ لَكِنْ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ فَقِيرٌ مَتَى عَلَّمَ بِغَيْرِ أَجْرٍ عَجَزَ عَنْ الْكَسْبِ لِعِيَالِهِ وَالْكَسْبُ لِعِيَالِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مُتَعَيِّنٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الْوَاجِبِ الْمُتَعَيِّنِ لِغَيْرِ مُتَعَيِّنٍ وَاعْتَقَدَ مَعَ ذَلِكَ جَوَازَ التَّعْلِيمِ بِالْأُجْرَةِ مَعَ الْحَاجَةِ أَوْ مُطْلَقًا ؛ فَهَذَا مُتَأَوِّلٌ فِي قَوْلِهِ لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَلَا يَفْسُقُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُصِيبًا أَوْ مُخْطِئًا . وَمَأْخَذُ الْعُلَمَاءِ فِي ( عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى هَذَا النَّفْعِ : أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ يَخْتَصُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهَا مِنْ أَهْلِ الْقُرَبِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ كَافِرٌ : وَلَا يَفْعَلُهُ إلَّا مُسْلِمٌ ؛ بِخِلَافِ النَّفْعِ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ : كَالْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ وَالنَّسْجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَإِذَا فُعِلَ الْعَمَلُ بِالْأُجْرَةِ لَمْ يَبْقَ عِبَادَةً لِلَّهِ فَإِنَّهُ يَبْقَى مُسْتَحَقًّا بِالْعِوَضِ مَعْمُولًا لِأَجْلِهِ . وَالْعَمَلُ إذَا عُمِلَ لِلْعِوَضِ لَمْ يَبْقَ
عِبَادَةً : كَالصِّنَاعَاتِ الَّتِي تُعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ . فَمَنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ قَالَ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ إيقَاعُهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ . كَمَا لَا يَجُوزُ إيقَاعُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْقِرَاءَةِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالِاسْتِئْجَارُ يُخْرِجُهَا عَنْ ذَلِكَ . وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ قَالَ : إنَّهُ نَفْعٌ يَصِلُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَجَازَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ : كَسَائِرِ الْمَنَافِعِ . قَالَ : وَإِذَا كَانَتْ لَا عِبَادَةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا تَقَعُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ فَيَجُوزُ إيقَاعُهَا عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِ وَجْهِ الْعِبَادَةِ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ النَّفْعِ . وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُحْتَاجِ وَغَيْرِهِ - وَهُوَ أَقْرَبُ - قَالَ : الْمُحْتَاجُ إذَا اكْتَسَبَ بِهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَنْوِيَ عَمَلَهَا لِلَّهِ وَيَأْخُذُ الْأُجْرَةَ لِيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى الْعِبَادَةِ ؛ فَإِنَّ الْكَسْبَ عَلَى الْعِيَالِ وَاجِبٌ أَيْضًا فَيُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ بِهَذَا ؛ بِخِلَافِ الْغَنِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَسْبِ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُوهُ أَنْ يَعْمَلَهَا لِغَيْرِ اللَّهِ ؛ بَلْ إذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَغْنَاهُ وَهَذَا فُرِضَ عَلَى الْكِفَايَةِ : كَانَ هُوَ مُخَاطَبًا بِهِ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ إلَّا بِهِ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَيْنًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ اكْتَرَى دَارًا لِمَرْضَاةِ نَفْسِهِ . هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكْرِيَ
؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ اكْتَرَى مَنْفَعَةً لِفِعْلِ مُحَرَّمٍ : مِثْلَ الْغَنَاءِ وَالزِّنَا
وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَقَتْلِ الْمَعْصُومِ : كَانَ كِرَاهُ مُحَرَّمًا .
وَكَذَلِكَ إنْ أَكْرَاهَا لِفِعْلِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ : مِثْلَ أَنْ
يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ بِحَقِّ أَوْ فُتْيَا فِي مَسْأَلَةٍ أَوْ قَضَاءٍ
فِي حُكُومَةٍ أَوْ جِهَادٍ مُتَعَيِّنٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا الكرى لَا يَجُوزُ .
وَإِنْ كَانَ لِفِعْلِ يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْقُرُبَاتِ كالكرى لِإِقْرَاءِ
الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ وَالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ وَالْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ
وَالْجِهَادِ الَّذِي لَمْ يَتَعَيَّنْ : فَهَذَا فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ . وَإِنْ كَانَ الكرى لِعَمَلِ . كَالْخِيَاطَةِ وَالنِّجَارَةِ .
وَالْبِنَاءِ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ .
وَقَالَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
الِاسْتِئْجَارُ عَلَى مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ : كَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ
وَالْغِنَاءِ وَحَمْلِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : بَاطِلٌ ؛ لَكِنْ إذَا
اسْتَوْفَى تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ وَمَنَعَ الْعَامِلَ أُجْرَتَهُ كَانَ غَدْرًا
وَظُلْمًا أَيْضًا . وَقَدْ اسْتَوْفَيْت مَسْأَلَةَ الِاسْتِئْجَارِ لِحَمْلِ
الْخَمْرِ فِي كِتَابِ " الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ " بَيَّنْت أَنَّ
الصَّوَابَ مَنْصُوصُ أَحْمَد : أَنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِالْأُجْرَةِ وَأَنَّهَا
لَا تَطِيبُ لَهُ . إمَّا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ أَوْ تَحْرِيمٍ لَكِنَّ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ فِيمَا كَانَ جِنْسُهُ مُبَاحًا كَالْحَمْلِ بِخِلَافِ الزِّنَا .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَهْرَ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ خَبِيثٌ
وَالْحَاكِمُ يَقْضِي بِعُقُوبَةِ الْمُسْتَأْجِرِ الْمُسْتَوْفِي لِلْمَنْفَعَةِ
الْمُحَرَّمَةِ فَتَكُونُ عُقُوبَتُهُ لَهُ عِوَضًا عَنْ الْأَجْرِ . فَأَمَّا
فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ . فَهَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ
؟ وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ الْأَخْذُ لِحَقِّ اللَّهِ . فَهَذَا مُتَقَوِّمٌ .
وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَانَ فِي ذَلِكَ دَرْكٌ لِحَاجَتِهِ ؛
أَنَّهُ يَفْعَلُ الْمُحَرَّمَ وَيُعْذَرُ وَلَا يُعَاقِبُهُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا
عَلَى
فِعْلِ الْمُحَرَّمِ لَا عَلَى الْغَدْرِ وَالظُّلْمِ . وَهَذَا الْبَحْثُ
يَتَّصِلُ بِالْبَحْثِ فِي أَحْكَامِ سَائِر الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وقبوضها.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ اسْتَعْمَلَ كِتَابًا مُذْهَبًا مَكْتُوبًا وَأَعْطَى أُجْرَتَهُ
وَتَسَلَّمَهُ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ وَجَلَّدَهُ وَغَابَ بِهِ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا ثُمَّ أَتَى بِهِ إلَى الصَّانِعِ الَّذِي تَوَلَّى كِتَابَتَهُ
وَتَذْهِيبَهُ وَقَالَ لَهُ : أَعْطِنِي مَا تَسَلَّمْته مِنِّي مِنْ الْأُجْرَةِ
فَإِنِّي وَاسِطَةٌ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَى رَدِّهِ ؟
وَإِعَادَةُ مَا أَعْطَاهُ مِنْ الْأُجْرَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلِ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَجُوزُ الْإِجَارَةُ
عَلَيْهَا وَأَعْطَاهُ أُجْرَتَهُ مَعَ تَوْفِيَةِ الْمُسْتَأْجِرِ عَمَلَهُ لَمْ
يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ ؛ بَلْ إنْ لَمْ يُسَمِّ
مُوَكِّلَهُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَانَ ضَامِنًا لِلْأُجْرَةِ بِلَا رَيْبٍ .
وَإِنْ سَمَّاهُ : فَهَلْ يَكُونُ ضَامِنًا لِلْأُجْرَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا
رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد . فَلَوْ لَمْ يُعْطِهِ الْأُجْرَةَ كَانَ
لِلْأَجِيرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهَا فَكَيْفَ إذَا أَعْطَاهُ إيَّاهَا ؟ بَلْ إنْ
كَانَ أَعْطَى الْأُجْرَةَ مِنْ مَالِ مُوَكِّلِهِ وَإِلَّا فَلِلْوَكِيلِ
مُطَالَبَةُ الْمُوَكِّلِ بِالْأُجْرَةِ الَّتِي أَدَّاهَا عَنْهُ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ إنْسَانٍ جَاءَهُ سَائِلٌ فِي صُورَةِ مُشَبِّبٍ . فَشَبَّبَ . فَأَعْطَاهُ
شَيْئًا فَكَانَ إنْسَانٌ حَاضِرًا فَقَالَ لِلْمُعْطَى : تَحْرُمُ عَلَيْهِ
هَذِهِ الْعَطِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لِكَوْنِ الشبابة وَسِيلَةً :
فَقَالَ : مَا أَعْطَيْته إلَّا لِكَوْنِهِ فَقِيرًا وَبَعْدَ هَذَا لَوْ
أَعْطَيْته لِأَجْلِ تَشْبِيبِهِ لَكَانَ جَائِزًا ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَبَاحَ
بَعْضُهُمْ سَمَاعَ الشبابة وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ { النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبَرَ عَلَى رَاعٍ وَمَعَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
أَوْ غَيْرُهُ . وَكَانَ الرَّاعِي يُشَبِّبُ فَسَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُذُنَيْهِ بِإِصْبَعَيْهِ وَصَارَ يَسْأَلُ الَّذِي كَانَ
مَعَهُ : هَلْ تَسْمَعُ صَوْتَ الشبابة ؟ فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى أَخْبَرَهُ
أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهَا فَفَتَحَ أُذُنَيْهِ } . وَقَالَ : لَوْ كَانَ سَمَاعُ
الشبابة حَرَامًا ؛ لَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ
كَانَ مَعَهُ بِسَدِّ أُذُنَيْهِ كَمَا فَعَلَ أَوْ نَهَى الرَّاعِيَ عَنْ
التَّشْبِيبِ وَهَذَا دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ .
فَهَلْ هَذَا الْخَبَرُ صَحِيحٌ ؟ وَهَلْ هَذَا الدَّلِيلُ مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ
؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا نَقْلُ هَذَا الْخَبَرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَبَاطِلٌ ؛ لَكِنْ قَدْ
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ { أَنَّهُ كَانَ مَعَ ابْنِ عُمَرَ - فَمَرَّ
بِرَاعٍ مَعَهُ زَمَّارَةٌ
فَجَعَلَ يَقُولُ : أَتَسْمَعُ يَا نَافِعُ ؟ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ رَفَعَ إصْبَعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ } وَقَالَ أَبُو دَاوُد لَمَّا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا . فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ أَبَاحَ الشبابة لَا سِيَّمَا وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ الشبابة حَرَامٌ . وَلَمْ يَتَنَازَعْ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا مُتَأَخِّرِي الْخُرَاسَانِيِّين مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا فِيهَا وَجْهَيْنِ . وَأَمَّا الْعِرَاقِيُّونَ - وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَذْهَبِهِ - فَقَطَعُوا بِالتَّحْرِيمِ كَمَا قَطَعَ بِهِ سَائِر الْمَذَاهِبِ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ فِي مَذْهَبِهِ . وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيِّ : الْغِنَاءُ مَكْرُوهٌ يُشْبِهُ الْبَاطِلَ وَمَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ فَهُوَ سَفِيهٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ . وَقَالَ أَيْضًا : خَلَفْت فِي بَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ " التَّغْبِيرَ " يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ . وَآلَاتُ الْمَلَاهِي لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهَا وَلَا الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . فَهَذَا الْحَدِيثُ إنْ كَانَ ثَابِتًا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى إبَاحَةِ الشبابة ؛ بَلْ هُوَ عَلَى النَّهْيِ عَنْهَا أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الِاسْتِمَاعُ لَا السَّمَاعُ فَالرَّجُلُ لَوْ يَسْمَعُ الْكُفْرَ وَالْكَذِبَ وَالْغِيبَةَ وَالْغِنَاءَ والشبابة مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ ؛ بَلْ كَانَ مُجْتَازًا
بِطَرِيقِ فَسَمِعَ ذَلِكَ لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ جَلَسَ وَاسْتَمَعَ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ لَا بِقَلْبِهِ وَلَا بِلِسَانِهِ وَلَا يَدِهِ : كَانَ آثِمًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ } فَجَعَلَ الْقَاعِدَ الْمُسْتَمِعَ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : الْمُسْتَمِعُ شَرِيكُ الْمُغْتَابِ . وَفِي الْأَثَرِ : مَنْ شَهِدَ الْمَعْصِيَةَ وَكَرِهَهَا كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا . فَإِذَا شَهِدَهَا لِحَاجَةِ أَوْ لِإِكْرَاهِ أَنْكَرَهَا بِقَلْبِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ . فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } . فَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مَارًّا فَسَمِعَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَمِعَ إلَيْهِ لَمْ يُؤْجَرْ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا يُؤْجَرُ عَلَى الِاسْتِمَاعِ الَّذِي يُقْصَدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَقَالَ لِمُوسَى : { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } .
فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِمَاعِ ؛ لَا بِالسَّمَاعِ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ عُمَرَ كَانَ مَارًّا مُجْتَازًا لَمْ يَكُنْ مُسْتَمِعًا وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَافِعٌ مَعَ ابْنِ عُمَرَ : كَانَ سَامِعًا لَا مُسْتَمِعًا . فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَدُّ أُذُنِهِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ إنَّمَا سَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُذُنَيْهِ مُبَالَغَةً فِي التَّحَفُّظِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ أَصْلًا . فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ السَّمَاعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي السَّمَاعِ إثْمٌ وَلَوْ كَانَ الصَّوْتُ مُبَاحًا لَمَا كَانَ يَسُدُّ أُذُنَيْهِ عَنْ سَمَاعِ الْمُبَاحِ ؛ بَلْ سَدَّ أُذُنَيْهِ لِئَلَّا يَسْمَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السَّمَاعُ مُحَرَّمًا دَلَّ عَلَى أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الِاسْتِمَاعِ أَوْلَى . فَيَكُونُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الِاسْتِمَاعِ أَدَلَّ مِنْهُ عَلَى الْإِذْنِ فِيهِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ لَا يَجُوزُ فَلَوْ سَدَّ هُوَ وَرَفِيقُهُ آذَانَهُمَا لَمْ يَعْرِفَا مَتَى يَنْقَطِعُ الصَّوْتُ فَيَتْرُكُ الْمَتْبُوعُ سَدَّ أُذُنَيْهِ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الرَّفِيقَ كَانَ بَالِغًا ؛ أَوْ كَانَ صَغِيرًا دُونَ الْبُلُوغِ . وَالصِّبْيَانُ يُرَخَّصُ لَهُمْ فِي اللَّعِبِ مَا لَا يُرَخَّصُ فِيهِ لِلْبَالِغِ . الْخَامِسُ : أَنَّ زَمَّارَةَ الرَّاعِي لَيْسَتْ مُطْرِبَةً كالشبابة الَّتِي يَصْنَعُ غَيْرُ الرَّاعِي فَلَوْ قُدِّرَ الْإِذْنُ فِيهَا لَمْ يَلْزَمْ الْإِذْنُ فِي الْمَوْصُوفِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ الْأَصْوَاتِ الَّتِي تَفْعَلُ فِي النُّفُوسِ فِعْلَ حَمِيِّ الْكُؤُوسِ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إجَارَةِ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ فَقَالَ : أَجَمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إبْطَالِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ كَرِهَ ذَلِكَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخْعِيُّ وَمَالِكٍ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالنُّعْمَانُ وَيَعْقُوبُ وَمُحَمَّدٍ : لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ وَبِهِ نَقُولُ . فَإِذَا كَانَ قَدْ ذَكَرَ إجْمَاعَ مَنْ يَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إبْطَالِ إجَارَةِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ . وَالْغِنَاءُ لِلنِّسَاءِ فِي الْعُرْسِ وَالْفَرَحِ جَائِزٌ . وَهُوَ لِلرَّجُلِ إمَّا مُحَرَّمٌ ؛ وَإِمَّا مَكْرُوهٌ . وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ بَعْضُهُمْ فَكَيْفَ بالشبابة الَّتِي لَمْ يُبِحْهَا أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا لِلرِّجَالِ وَلَا لِلنِّسَاءِ ؛ لَا فِي الْعُرْسِ وَلَا فِي غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يُبِيحُهَا مَنْ لَيْسَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ : لَوْ أَعْطَيْته لِأَجْلِ تَشْبِيبِهِ لَكَانَ جَائِزًا . قَوْلٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِمَذَاهِبِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَوْ كَانَ التَّشْبِيبُ مِنْ الْبَاطِلِ الْمُبَاحِ فَكَيْفَ وَهُوَ مِنْ الْبَاطِلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهَذَا يَظْهَرُ " بِالْوَجْهِ السَّابِعِ " : وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا جَازَ فِعْلُهُ جَازَ إعْطَاءُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا سَبْقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ } فَقَدْ نَهَى عَنْ السَّبْقِ فِي غَيْرِ هَذِهِ
الثَّلَاثَةِ . وَمَعَ هَذَا فَالْمُصَارَعَةُ قَدْ تَجُوزُ . كَمَا صَارَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركانة بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ . وَتَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ بِالْأَقْدَامِ كَمَا سَابَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ وَكَمَا أَذِنَ لسلمة بْنِ الْأَكْوَعِ فِي الْمُسَابَقَةِ فِي غَزْوَةِ الْغَابَةِ وَذِي قِرْدٍ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبُهُ فَرَسُهُ وَمُلَاعَبَةُ امْرَأَتِهِ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ } وَهَذَا اللَّهْوُ الْبَاطِلُ مَنْ أَكَلَ الْمَالَ بِهِ كَانَ أَكْلًا بِالْبَاطِلِ وَمَعَ هَذَا فَيُرَخَّصُ فِيهِ كَمَا يُرَخَّصُ لِلصِّغَارِ فِي اللَّعِبِ وَكَمَا { كَانَتْ صَغِيرَتَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ أَيَّامَ الْعِيدِ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَمِعُ إلَيْهِنَّ وَلَا يَنْهَاهُنَّ . وَلَمَّا قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَإِنَّ هَذَا عِيدُنَا } فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُرَخَّصُ لِمَنْ يَصْلُحُ لَهُ اللَّعِبُ أَنْ يَلْعَبَ فِي الْأَعْيَادِ وَإِنْ كَانَ الرِّجَالُ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ . وَلَا يَبْذُلُ الْمَالَ فِي الْبَاطِلِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَجَوَازِ إعْطَاءِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ : مُخْطِئٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَوْ كَانَ الْحَدِيثُ صَحِيحًا فَكَيْفَ وَفِيهِ مَا فِيهِ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
وَإِذَا آجَرَ الْأَرْضَ أَوْ الرِّبَاعَ كَالدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ
وَالْفَنَادِقِ وَغَيْرِهَا إجَارَةً كَانَتْ لَازِمَةً مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَا
تَكُونُ لَازِمَةً مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ جَائِزَةً مِنْ الطَّرَفِ الْآخَرِ ؛
بَلْ إمَّا أَنْ تَكُونَ لَازِمَةً مِنْهُمَا أَوْ تَكُونَ جَائِزَةً غَيْرَ
لَازِمَةٍ مِنْهُمَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ . كَمَا لَوْ اسْتَكْرَاهُ
كُلَّ يَوْمٍ بِدِرْهَمِ وَلَمْ يُوَقِّتْ أَجَلًا فَهَذِهِ الْإِجَارَةُ
جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . فَكُلَّمَا سَكَنَ
يَوْمًا لَزِمَتْهُ أُجْرَتُهُ وَلَهُ أَنْ يَسْكُنَ الْيَوْمَ الثَّانِيَ
وَلِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَمْنَعَهُ سُكْنَى الْيَوْمِ الثَّانِي . وَكَذَلِكَ إذَا
كَانَ أَجَلُ الشَّهْرِ بِكَذَا أَوْ كُلُّ سَنَةٍ بِكَذَا وَلَمْ يُؤَجِّلَا
أَجَلًا . وَأَمَّا إذَا كَانَتْ لَازِمَةً مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَإِذَا كَانَ
الْمُسْتَأْجِرُ لَا يُمْكِنُهُ
الْخُرُوجُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُخْرِجَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَا لِأَجْلِ زِيَادَةٍ حَصَلَتْ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ وَلَا لِغَيْرِ زِيَادَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ الْعَيْنُ وَقْفًا أَوْ طَلْقًا . وَسَوَاءٌ كَانَتْ لِيَتِيمِ أَوْ لِغَيْرِ يَتِيمٍ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ الْمُطْلَقَةَ تَكُونُ لَازِمَةً مِنْ جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ غَيْرَ لَازِمَةٍ مِنْ جَانِبِ الْمُؤَجِّرِ ؛ فِي وَقْفٍ أَوْ مَالِ يَتِيمٍ وَلَا غَيْرِهِمَا . وَإِنْ شَذَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَحَكَى نِزَاعًا فِي بَعْضِ ذَلِكَ فَذَلِكَ مَسْبُوقٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَأَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ } وَقَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَإِذَا قَالَ النَّاظِرُ لِلطَّالِبِ : أَكْتُبُ عَلَيْك إجَارَةً وَاسْكُنْ فَقَدْ أَجَّرَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَجَّرَهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الْعَيْنَ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ سَلَّمَ الْوَقْفَ وَمَالَ الْيَتِيمِ إلَى مَا لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ فَيَكُونُ ظَالِمًا ضَامِنًا . وَلَوْ لَمْ يَسْتَأْجِرْ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ إذَا شَاءَ وَلَكَانَ غَاصِبًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ ؛ بَلْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَا انْتَفَعَ بِهِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَضْمَنُ مَنَافِعَ الْغَصْبِ لَا يَجِبُ
عَلَيْهِ شَيْءٌ . وَغَايَةُ مَا يُقَالُ : إنَّهُ قَبَضَهَا بِإِجَارَةِ فَاسِدَةٍ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ إذَا شَاءَ ؛ بَلْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْعَيْنَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ كَالْمَقْبُوضِ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُسَمَّى أَوْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَفِي الْآخَرِ يَجِبُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ . فَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الزِّيَادَةِ لَا فِي وَقْفٍ أَوْ مَالِ يَتِيمٍ وَغَيْرِهِمَا إلَّا حَيْثُ لَا تَكُونُ الْإِجَارَةُ لَازِمَةً وَذَلِكَ حَيْثُ يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْخُرُوجِ وَرَدِّ الْعَقَارِ إلَيْهِمْ إذَا شَاءَ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ الْإِخْلَاءَ وَالْإِغْلَاقَ . فَإِذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْإِخْلَاءِ وَالْإِغْلَاقِ كَانَ الْمُؤَجِّرُ أَيْضًا مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يُخْرِجَهُ وَيُؤَجِّرَهُ لِغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ وَيَجِبُ أَنْ يَعْمَلَ مَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ ضَمَانِ الْبَسَاتِينِ وَالْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا النَّخْلُ أَوْ الشَّجَرُ
غَيْرُ النَّخْلِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ . هَلْ يَجُوزُ ضَمَانُ
السَّنَةِ أَوْ السَّنَتَيْنِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا
: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِحَالِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِيمَا
نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . مِنْ بَيْعِ
الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي
غَيْرِ الضَّمَانِ ؛ مَثَلًا أَنْ يَشْتَرِيَ ثَمَرَةً مُجَرَّدَةً بَعْدَ
ظُهُورِهَا وَقَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ
مُؤْنَةُ سَقْيِهَا وَخِدْمَتِهَا إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ . وَهَذَا الْقَوْلُ
هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ
نَصِّهِ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ أَشَدُّ مَنْعًا . وَتَنَازَعَ
أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ . هَلْ يَجُوزُ الِاحْتِيَالُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يُؤَجِّرَ
الْأَرْضَ وَيُسَاقِيَ عَلَى الشَّجَرِ بِجُزْءِ يَسِيرٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .
فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ . وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو
يَعْلَى فِي كِتَابِ " إبْطَالِ الْحِيَلِ " :
أَنَّهُ يَجُوزُ . وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ قَدْ تَعَذَّرَتْ عَلَى أَصْلِ مُصَحِّحِي الْحِيَلِ وَهِيَ بَاطِلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ : مِنْهَا أَنَّ الْأَمْكِنَةَ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا يَكُونُ وَقْفًا أَوْ يَكُونُ لِيَتِيمِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يُتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ وَالْمُسَاقَاةِ عَلَى ذَلِكَ بِجُزْءِ يَسِيرٍ لَا يَجُوزُ وَاشْتِرَاطُ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ مِنْ الْآخَرِ لَا يَصِحُّ . وَمِنْهَا أَنَّ الْفَسَادَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مِثْلَ كَوْنِ ذَلِكَ غَرَرًا مِنْ جِنْسِ الْقِمَارِ وَأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْخُصُومَاتِ وَالْعَدَاوَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي حُرِّمَ الْقِمَارُ لِأَجْلِهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ يُوجَدُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ أَكْثَرَ مِمَّا يُوجَدُ عِنْدَ مُجَرَّدِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُتَقَبِّلَ لِذَلِكَ لَمْ يَبْذُلْ مَالَهُ إلَّا بِإِزَاءِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ مَنْفَعَةُ الشَّجَرِ هِيَ الْأَغْلَبُ : كَالْحَدَائِقِ وَالْبَسَاتِينِ الَّتِي يَكُونُ غَالِبُهَا شَجَرًا أَوْ بَيَاضُهَا قَلِيلًا . فَهُنَا إذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ وَطُولِبَ الضَّامِنُ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَمِنْ الْخُصُومَاتِ وَالشَّرِّ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ . وَمِنْهَا أَنَّ اسْتِئْجَارَ الْأَرْضِ الَّتِي تُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ هُوَ مِنْ أَفْعَالِ السُّفَهَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْحَجْرِ وَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ عَلَى الشَّجَرِ بِجُزْءِ
مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ لِرَبِّهَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ السُّفَهَاءِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْحَجَرَ . فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ الْحَجْرُ عَلَيْهِ فَضْلًا عَنْ إمْضَاءِ الْعَقْدِ وَالْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ . وَلَوْ قِيلَ : إنَّ لَهُ مُحَابَاةً فِي هَذَا الْعَقْدِ لِمَا يَحْصُلُ مِنْ مُحَابَاةِ الْآخَرِ لَهُ فِي الْعَقْدِ . قِيلَ لَهُ : إنْ كَانَ هَذَا مُسْتَحِقًّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ شَرْطًا فِي الْآخَرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا كَانَ مُحَابِيًا فِي هَذَا الْعَقْدِ وَلَيْسَ مُحَابَاةً لِلْآخَرِ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ . وَهَذَا إنَّمَا يَنْفَعُ إذَا حَصَلَ التَّقَابُضُ فَلَوْ حَابَا رَجُلًا فِي سِلْعَةٍ وَحَابَاهُ آخَرُ فِي أُخْرَى وَتَقَابَضَا فَقَدْ يُقَالُ : إنَّ الْغَرَضَ يَحْصُلُ بِذَلِكَ ؛ إمَّا فِي مِثْلِ هَذَا وَإِمَّا فِي مِثْلِ هَذَا وَالثَّمَرُ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ وَذَاكَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الثَّمَرُ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِ الرُّشْدِ بَلْ مِنْ أَفْعَالِ السُّفَهَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْحَجْرِ ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمُتَصَرِّفُ مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ : كَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَالْيَتِيمِ ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ : إنَّهُ يَجِبُ عَلَيَّ مُطَالَبَتُك بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ حَصَلَتْ الثَّمَرَةُ أَوْ لَمْ تَحْصُلْ . فَهَلْ يُدْخَلُ رَشِيدٌ فِي مِثْلِ هَذَا فَيَبْذُلُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي قِيمَةِ أَرْضٍ تُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ طَمَعًا فِي أَنْ يُسَلِّمَ الثَّمَرَةَ وَتَحْصُلَ لَهُ وَالْأُجْرَةُ عَلَيْهِ حَصَلَتْ الثَّمَرَةُ أَوْ لَمْ تَحْصُلْ ؟ وَلَوْ فَعَلَ هَذَا . فَهَلْ هَذَا إلَّا دُخُولٌ فِي نَفْسِ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ } . وَهَذَا الْمُسْتَأْجِرُ إذَا بَذَلَ مَالَهُ لِتَحْصُلَ لَهُ الثَّمَرَةُ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُشْتَرِي الَّذِي نَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِمْ فَكَيْفَ يَبْذُلُ مَالَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ . وَالْأَدِلَّةُ عَلَى فَسَادِ مِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ كَثِيرَةٌ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلَيْسَ الْفَقِيهُ مَنْ عَمَدَ إلَى مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفْعًا لِفَسَادِ يَحْصُلُ لَهُمْ فَعَدَلَ عَنْهُ إلَى فَسَادٍ أَشَدَّ مِنْهُ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَجِيرِ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ . وَهَذَا يُعْلَمُ مِنْ قَاعِدَةِ إبْطَالِ الْحِيَلِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهَا يَتَضَمَّنُ مِنْ الْفَسَادِ وَالضَّرَرِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي إتْيَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ظَاهِرًا كَمَا قَالَ أَيُّوبُ السختياني : يُخَادِعُونَ اللَّهَ . كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ . وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي نِكَاحِ التَّحْلِيلِ مِنْ الْفَسَادِ أَعْظَمُ مِمَّا يُوجَدُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ؛ إذْ الْمُتَمَتِّعُ قَاصِدٌ لِلنِّكَاحِ إلَى وَقْتٍ وَالْمُحَلِّلُ لَا غَرَضَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَكُلُّ فَسَادٍ نُهِيَ عَنْهُ الْمُتَمَتِّعُ فَهُوَ فِي التَّحْلِيلِ وَزِيَادَةٌ ؛ وَلِهَذَا تُنْكِرُ قُلُوبُ النَّاسِ التَّحْلِيلَ أَعْظَمُ مِمَّا تُنْكِرُ الْمُتْعَةَ . وَالْمُتْعَةُ أُبِيحَتْ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ
وَتَنَازَعَ السَّلَفُ فِي بَقَاءِ الْحِلِّ . وَنِكَاحُ التَّحْلِيلِ لَمْ يُبَحْ قَطُّ وَلَا تَنَازَعَ السَّلَفُ فِي تَحْرِيمِهِ . وَمَنْ شَنَّعَ عَلَى الشِّيعَةِ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ مَعَ إبَاحَتِهِ لِلتَّحْلِيلِ فَقَدْ سَلَّطَهُمْ عَلَى الْقَدْحِ فِي السُّنَّةِ كَمَا تَسَلَّطَتْ النَّصَارَى عَلَى الْقَدْحِ فِي الْإِسْلَامِ بِمِثْلِ إبَاحَةِ التَّحْلِيلِ . حَتَّى قَالُوا : إنَّ هَؤُلَاءِ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ : إذَا طَلَّقَ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَزْنِيَ . وَذَلِكَ أَنَّ نِكَاحَ التَّحْلِيلِ سِفَاحٌ كَمَا سَمَّاهُ الصَّحَابَةُ بِذَلِكَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالشَّجَرُ تَبَعٌ جَازَ أَنْ تُؤَجَّرَ الْأَرْضُ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الشَّجَرُ تَبَعًا . وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ يُقَدِّرُ التَّابِعَ بِقَدْرِ الثُّلُثِ . وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يُجَوِّزُ بَيْعَ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مَا يَدْخُلُ ضِمْنًا وَتَبَعًا كَمَا جَازَ إذَا ابْتَاعَ ثَمَرَةً بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ ثَمَرَتَهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمُبْتَاعُ هُنَا قَدْ اشْتَرَى الثَّمَرَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ؛ لَكِنْ تَبَعًا لِلْأَصْلِ . وَهَذَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَيَقِيسُ مَا كَانَ تَبَعًا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى مَا كَانَ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ ضَمَانُ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الشَّجَرُ أَكْثَرَ . وَهَذَا قَوْلُ ابْنُ عَقِيلٍ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ؛ فَإِنَّهُ قَبِلَ حَدِيقَةَ أسيد بْنِ حضير ثَلَاثَ سِنِينَ وَأَخَذَ الْقِبَالَةَ فَوَفَّى بِهَا دَيْنَهُ . رَوَى ذَلِكَ حَرْبٌ الكرماني صَاحِبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِهِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَحْمَدَ وَرَوَاهُ أَبُو زَرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ مَعْرُوفٌ عَنْ عُمَرَ . وَالْحَدَائِقُ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الشَّجَرُ . وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْأَثَرَ عَنْ عُمَرَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ فُقَهَاءِ ظَاهِرِيَّةِ الْمَغْرِبِ وَزَعَمَ أَنَّهُ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ بِشَيْءِ ؛ بَلْ ادِّعَاءُ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ أَقْرَبُ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بِمَشْهَدِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ فِي مَظِنَّةِ الِاشْتِهَارِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ أَنْكَرَهَا وَقَدْ كَانُوا يُنْكِرُونَ مَا هُوَ دُونَهَا وَإِنْ فَعَلَهُ عُمَرَ كَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَغَيْرُهُ مَا فَعَلَهُ مِنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ ؛ وَإِنَّمَا هَذِهِ الْقَضِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ تَوْرِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عفان لِامْرَأَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الَّتِي بَتَّهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ . وَاَلَّذِي فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هُوَ الصَّوَابُ . وَإذَا تَدَبَّرَ الْفَقِيهُ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَالِ لَيْسَ دَاخِلًا فِيمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا يَظْهَرُ بِأُمُورِ : أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ : مَعْلُومٌ أَنَّ الْأَرْضَ يُمْكِنُ فِيهَا الْإِجَارَةُ وَيُمْكِنُ فِيهَا بَيْعُ حَبِّهَا قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ . ثُمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَهْيًا عَنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ
وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُسْتَأْجِرِ هُوَ الْحَبُّ ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ الْحَبُّ ؛ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَشْتَرِي حَبًّا مُجَرَّدًا وَعَلَى الْبَائِعِ تَمَامُ خِدْمَتِهِ حَتَّى يَتَحَصَّلَ فَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ لَيْسَ نَهْيًا عَمَّنْ يَأْخُذُ الشَّجَرَ فَيَقُومُ عَلَيْهَا وَيَسْقِيهَا حَتَّى تُثْمِرَ ؛ وَإِنَّمَا النَّهْيُ لِمَنْ اشْتَرَى عِنَبًا مُجَرَّدًا وَعَلَى الْبَائِعِ خِدْمَتُهُ حَتَّى يَكْمُلَ صَلَاحُهُ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُشْتَرُونَ لِلْأَعْنَابِ الَّتِي تُسَمَّى الْكُرُومَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يَبِيعُونَهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا ؛ بِخِلَافِ التَّضْمِينِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَلَى الْأَرْضِ كَالْمُسَاقَاةِ عَلَى الشَّجَرِ وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ ؛ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِثْلِ ابْنِ خُزَيْمَة وَابْنِ الْمُنْذِرِ . وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ اللَّيْثِ ابْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ جَائِزَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعُ أَصْحَابِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَاَلَّذِينَ نَهَوْا عَنْهَا ظَنُّوا أَنَّهَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ فَتَكُونُ إجَارَةً بِعِوَضِ مَجْهُولٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ . وَأَبُو حَنِيفَةَ طَرَدَ قِيَاسَهُ فَلَمْ يُجَوِّزْهَا بِحَالِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيِّ فَاسْتَثْنَى مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ كَالْبَيَاضِ إذَا دَخَلَ تَبَعًا لِلشَّجَرِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَكَذَلِكَ مَالِكٍ ؛ لَكِنْ يُرَاعَى الْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ عَلَى أَصْلِهِ . وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْمُضَارَبَةَ أَيْضًا خَارِجَةً عَنْ الْقِيَاسِ ظَنًّا أَنَّهَا مِنْ
بَابِ الْإِجَارَةِ بِعِوَضِ مَجْهُولٍ وَأَنَّهَا جُوِّزَتْ لِلْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ النَّقْدِ لَا يُمْكِنُهُ إجَارَتَهَا . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ هِيَ مِنْ بَابِ الْمُشَارَكَاتِ . وَالْمُزَارَعَةُ مُشَارَكَةٌ ؛ هَذَا يُشَارِكُ بِنَفْعِ بَدَنِهِ وَهَذَا بِنَفْعِ مَالِهِ وَمَا قَسَمَ اللَّهُ مِنْ رِبْحٍ كَانَ بَيْنَهُمَا كَشَرِيكَيْ الْعِنَانِ ؛ وَلِهَذَا لَيْسَ الْعَمَلُ فِيهَا مَقْصُودًا وَلَا مَعْلُومًا كَمَا يُقْصَدُ وَيُعْلَمُ فِي الْإِجَارَةِ وَلَوْ كَانَتْ إجَارَةً لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِيهَا مَعْلُومًا ؛ لَكِنْ إذَا قِيلَ : هِيَ جَعَالَةٌ كَانَ أَشْبَهَ ؛ فَإِنَّ الْجَعَالَةَ لَا يَكُونُ الْعَمَلُ فِيهَا مَعْلُومًا وَكَذَلِكَ هِيَ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ ؛ وَلَكِنْ لَيْسَتْ جَعَالَةً أَيْضًا ؛ فَإِنَّ الْجَعَالَةَ يَكُونُ الْمَقْصُودُ لِأَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَقْصُودِ الْآخَرِ . هَذَا يَقْصِدُ رَدَّ آبِقِهِ أَوْ بِنَاءَ حَائِطِهِ وَهَذَا يَقْصِدُ الْجَعْلَ الْمَشْرُوطَ . وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُضَارَبَةُ هُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي جِنْسِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الرِّبْحُ مُسْتَوِيَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَالْمَغْرَمِ إنْ أَخَذَ هَذَا أَخَذَ هَذَا وَإِنْ حُرِمَ هَذَا حُرِمَ هَذَا . وَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ لِأَحَدِهِمَا جُزْءًا مُشَاعًا مِنْ الرِّبْحِ مِنْ جِنْسِ الْمَشْرُوطِ لِلْآخَرِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا مَعْلُومًا فَعُلِمَ أَنَّهَا مِنْ بَابِ الْمُشَارَكَةِ كَمَا فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الرِّبْحِ وَلَوْ شُرِطَ مَالٌ مُقَدَّرٌ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ غَيْرِهِ : لَمْ يَجُزْ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُخَابَرَةِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ
مُفَسَّرًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ . وَغَيْرِهِ عَنْ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرُونَ الْأَرْضَ وَيَشْتَرِطُونَ لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا . كَمَا تَنْبُتُ الماذيانات وَالْجَدَاوِلُ فَرُبَّمَا سَلِمَ هَذَا وَلَمْ يَسْلَمْ هَذَا . وَلِهَذَا قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : أَنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُخَابَرَةِ أَمْرٌ إذَا نَظَرَ فِيهِ ذُو الْبَصَرِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ . وَهَذَا مِنْ فِقْهِ اللَّيْثِ الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّافِعِيِّ : كَانَ اللَّيْثِ أَفْقَهَ مِنْ مَالِكٍ . فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَافِقٌ لِقِيَاسِ الْأُصُولِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ أَنْ يُشْتَرَطَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ مِنْ الرِّبْحِ . وَالشَّرِكَةُ حَقُّهَا الْعَدْلُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فِيمَا لَهُمَا مِنْ الْمَغْنَمِ وَعَلَيْهِمَا مِنْ الْمَغْرَمِ . فَإِذَا خَرَجَتْ كَانَ ظُلْمًا مُحَرَّمًا . وَأَيْنَ مَنْ يَجْعَلُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ إلَى مَنْ يَجْعَلُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ . وَمَنْ أَعْطَى النَّظَرَ حَقَّهُ عَلِمَ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ هَذِهِ الْمُخَابَرَةِ وَمِنْ مُعَامَلَةِ أَهْلِ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ وَمَا عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ : كُلُّ ذَلِكَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ . وَأَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَاتِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمُؤَجَّرَاتِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ : مَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا سَاقَاهُ عَلَى الشَّجَرِ بِجُزْءِ مِنْ الثَّمَرَةِ كَانَ كَمَا إذَا زَارَعَهُ
عَلَى الْأَرْضِ بِجُزْءِ مِنْ الزَّرْعِ وَضَارَبَهُ عَلَى النَّقْدِ بِجُزْءِ مِنْ الرِّبْحِ فَقَدْ جُعِلَتْ الثَّمَرَةُ مِنْ بَابِ النَّمَاءِ وَالْفَائِدَةُ الْحَاصِلَةُ بِبَدَنِ هَذَا وَمَالِ هَذَا . وَاَلَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي عَمَلٌ فِي حُصُولِهِ أَصْلًا ؛ بَلْ الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْبَائِعِ فَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ حَتَّى حَصَلَ لَهُ ثَمَرٌ وَزَرْعٌ . كَانَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ الزَّرْعُ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الثَّمَرَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ فِي الْوَقْفِ وَالْعَارِيَةِ وَنَحْوِهِمَا فَيَجُوزُ أَنْ يَقِفَ الشَّجَرَ لِيَنْتَفِعَ أَهْلُ الْوَقْفِ بِثَمَرِهَا كَمَا يَقِفُ الْأَرْضَ لِيَنْتَفِعُوا بِمُغَلِّهَا وَيَجُوزُ إعْرَاءُ الشَّجَرِ كَمَا يَجُوزُ إفْقَارُ الظَّهْرِ وَعَارِيَةُ الدَّارِ وَمَنِيحَةُ اللَّبَنِ . وَهَذَا كُلُّهُ تَبَرُّعٌ بِنَمَاءِ الْمَالِ وَفَائِدَتِهِ ؛ فَإِنَّ مَنْ دَفَعَ عَقَارَهُ إلَى مَنْ يَسْكُنُهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ دَابَّتَهُ إلَى مَنْ يَرْكَبُهَا وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ شَجَرَهُ إلَى مَنْ يَسْتَثْمِرُهَا وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ أَرْضَهُ إلَى مَنْ يَزْرَعُهَا وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ النَّاقَةَ وَالشَّاةَ إلَى مَنْ يَشْرَبُ لَبَنَهَا . فَهَذِهِ الْفَوَائِدُ تَدْخُلُ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَصْلُ مُحْبَسًا كَالْوَقْفِ أَوْ غَيْرَ مُحْبَسٍ . وَتَدْخُلُ أَيْضًا فِي عُقُودِ الْمُشَارَكَاتِ فَكَذَلِكَ تَدْخُلُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَعْيَانَ مَعْقُودٌ عَلَيْهَا فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِجَارَةُ إنَّمَا هِيَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ لَا عَلَى الْأَعْيَانِ وَإِنَّمَا جَازَتْ إجَارَةُ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ . قِيلَ : الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَقْبِيلَ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ لَيْسَ هُوَ عَقْدًا عَلَى عَيْنٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ إجَارَةِ الْأَرْضِ لِلِازْدِرَاعِ فَالْعَيْنُ هِيَ مَقْصُودُ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ لِيَحْصُلَ لَهُ الزَّرْعُ ؛ لَكِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الْمَنَافِعِ الَّتِي هِيَ شِبْهُ هَذِهِ الْأَعْيَانِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إجَارَةَ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَكَيْفَ يُقَالُ : وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إجَارَةٌ مَنْصُوصَةٌ فِي شَرِيعَتِنَا إلَّا إجَارَةُ الظِّئْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } . وَإِنَّمَا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهَا خِلَافَ الْقِيَاسِ حَيْثُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى مَنْفَعَةٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ الْإِجَارَةُ تَكُونُ عَلَى كُلِّ مَا يُسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً . فَلَمَّا كَانَ لَبَنُ الظِّئْرِ يُسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ وَنَقْعُ الْبِئْرِ يُسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ : جَازَتْ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ كَمَا جَازَتْ عَلَى الْمَنْفَعَةِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ يُحْدِثُهَا اللَّهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَأَصْلُهَا بَاقٍ كَمَا يُحْدِثُ اللَّهُ الْمَنَافِعَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَأَصْلُهَا بَاقٍ ؛ وَلِهَذَا جَازَ وَقْفُ هَذِهِ الْأُصُولِ لِاسْتِثْنَاءِ هَذِهِ الْفَوَائِدِ أَعْيَانِهَا وَمَنَافِعِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ إجَارَةِ الْحَيَوَانِ لِشُرْبِ لَبَنِهِ . قِيلَ : وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا . وَالْمُزَارَعَةُ إنَّمَا تَكُونُ بِدَلِيلِ
شَرْعِيٍّ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا مَسَائِلُ النِّزَاعِ إذَا عُورِضَ فَنُجِيبُ عَنْهَا بِجَوَابِ عَامٍّ : وَهُوَ إنْ كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ مُوجِبًا لِصِحَّةِ هَذِهِ الْإِجَارَةِ لَزِمَ طَرْدُ الدَّلِيلِ وَالْعَمَلُ بِذَلِكَ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لَمْ يَكُنْ نَقْصًا . وَالدَّلِيلُ الَّذِي يُقَالُ : إنَّهُ مُفْسِدٌ لِهَذِهِ الْإِجَارَةِ . إنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ مِنْ الدَّلِيلِ فَلَا مُنَافَاةَ وَإِلَّا فَمَا ذَكَرْنَاهُ رَاجِحٌ ؛ إذْ الْمَنَافِعُ إنَّمَا يَسْتَنِدُ مَنْعُهَا إلَى جِنْسِ مَا يَذْكُرُهُ فِي مَوْرِدِ النِّزَاعِ هُنَا . فَإِنْ قِيلَ : إنَّ ابْنُ عَقِيلٍ جَوَّزَ إجَارَةَ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ جَمِيعًا ؛ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ وَأَنَّهُ سَلَكَ مَسْلَكَ مَالِكٍ ؛ لَكِنْ مَالِكٍ اعْتَبَرَ الْقِلَّةَ فِي الشَّجَرِ وَابْنُ عَقِيلٍ عَمَّمَ فَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى إجَارَةِ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ وَإِفْرَادُهَا عَنْهَا بِالْإِجَارَةِ مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ فَجَوَّزَ دُخُولَهَا فِي الْإِجَارَةِ كَمَا جَوَّزَ الشَّافِعِيِّ دُخُولَ الْأَرْضِ مَعَ الشَّجَرِ تَبَعًا فِي بَابِ الْمُسَاقَاةِ . وَمِنْ حُجَّةِ ابْنُ عَقِيلٍ : أَنَّ غَايَةَ مَا فِي ذَلِكَ جَوَازُ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ وَهَذَا يَجُوزُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِيمَا إذَا بَاعَ شَجَرًا وَعَلَيْهَا ثَمَرٌ بَادٍ بِمَا يَشْتَرِطُهُ الْمُبْتَاعُ فَإِنَّهُ اشْتَرَى شَجَرًا وَثَمَرًا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ يَقْتَضِي أَنَّ جَوَازَ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ وَأَنَّهُ جَائِزٌ بِدُونِ الْحَاجَةِ حَتَّى مَعَ الِانْفِرَادِ .
قِيلَ : هَذَا زِيَادَةُ تَوْكِيدٍ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَهَا مَأْخَذَانِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يُسَلِّمَ أَنَّ الْأَصْلَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ لَكِنْ يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ . كَمَا فِي نَظَائِرِهِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَمْنَعَ هَذَا وَيُقَالَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَصْلَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ ؛ بَلْ الدَّلِيلُ لَا يَتَنَاوَلُ مِثْلَ هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى . أَمَّا لَفْظًا فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَبِعْ ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَلَوْ كَانَ قَدْ بَاعَ لَكَانَ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ التَّوْفِيَةِ كَمَا لَوْ بَاعَهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَإِنَّ مُؤْنَةَ التَّوْفِيَةِ عَلَيْهِ أَيْضًا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى مَا فَعَلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ ضَرْبِ الْخَرَاجِ عَلَى السَّوَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ تُجْعَلَ فَيْئًا كَمَا قَالَهُ مَالِكٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . أَوْ قِيلَ : إنَّهُ يَجِبُ قِسْمَتُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ . أَوْ قِيلَ : يُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهَا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَنَحْوِهِمْ . وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ . فَإِنَّ الشَّافِعِيِّ يَقُولُ : إنَّ عُمَرَ اسْتَطَابَ أَنْفُسَ الْغَانِمِينَ حَتَّى جَعَلَهَا فَيْئًا وَضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَيْهَا فَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْخَرَاجِ عَلَى أَرْضِ الْعَنْوَةِ جَائِزٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ظُلْمٌ لِلْغَانِمَيْنِ .
ثُمَّ الْخَرَاجُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ أُجْرَةُ الْأَرْضِ وَأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ لِعُمُومِ مَصْلَحَتِهَا وَالْخَرَاجُ ضَرِيبَةٌ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ وَالْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ . وَضَرَبَ عَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ مِقْدَارًا وَعَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ مِقْدَارًا . وَهَذَا بِعَيْنِهِ إجَارَةٌ لِلْأَرْضِ مَعَ الشَّجَرِ ؛ فَإِنْ كَانَ جَوَازُ هَذَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَإِنْ كَانَ جَوَازُ ذَلِكَ لِحَاجَةِ دَاعِيَةٍ إلَى ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَهُمْ بَسَاتِينُ فِيهَا مَسَاكِنُ وَلَهَا أُجُورٌ وَافِرَةٌ فَإِنْ دَفَعُوهَا إلَى مَنْ يَعْمَلُهَا مُسَاقَاةً وَمُزَارَعَةً : تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَةُ الْمَسَاكِنِ عَلَيْهَا كَمَا فِي أَرْضِ دِمَشْقَ وَنَحْوِهَا . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ وَقْفًا أَوْ لِيَتِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَكَيْفَ يَجُوزُ تَعْطِيلُ مَنْفَعَةِ الْمَسْكَنِ الْمَبْنِيَّةِ فِي تِلْكَ الْحَدَائِقِ . وَقَدْ تَكُونُ مَنْفَعَةُ الْمَسْكَنِ هِيَ أَكْثَرُ الْمَنْفَعَةِ وَمَنْفَعَةُ الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ تَابِعَةً فَيَحْتَاجُونَ إلَى إجَارَةِ تِلْكَ الْمَسَاكِنِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُؤَجَّرَ دُونَ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ ؛ فَإِنَّ الْعَامِلَ إذَا كَانَ غَيْرَ السَّاكِنِ تَضَرَّرَ هَذَا وَهَذَا تَضَرَّرَ : بِبِنَاءِ الْمَسَاكِنِ وَيَبْقَى مَمْنُوعًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالثَّمَرِ وَالزَّرْعِ هُوَ وَعِيَالُهُ مَعَ كَوْنِهِ عِنْدَهُمْ وَيَتَضَرَّرُونَ بِدُخُولِ الْعَامِلِ عَلَيْهِمْ فِي دَارِهِمْ وَالْعَامِلُ أَيْضًا لَا يَبْقَى مُطْمَئِنًّا إلَى سَلَامَةِ ثَمَرِهِ وَزَرْعِهِ ؛ بَلْ يَخَافُ عَلَيْهَا فِي مَغِيبِهِ . وَمَا كَلُّ سَاكِنٍ أَمِينًا وَلَوْ كَانَ أَمِينًا لَمْ تُؤْمَنْ الضِّيفَانُ وَالصِّبْيَانُ والنسوان . وَكُلُّ هَذَا مَعْلُومٌ . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَهِيَ بَيْعُ
الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ بَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً - وَبَابُ الرِّبَا أَشَدُّ مِنْ بَابِ الْمَيْسِرِ - ثُمَّ إنَّهُ أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا ؛ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ وَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَبِيعَ شَجَرَةً لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لِتَضَرُّرِهِ بِذَلِكَ لِدُخُولِهِ عَلَيْهِ أَوْ يَهَبَهَا لَهُ فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ أُمِرَ بِقَلْعِهَا . فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْمُعَاوَضَةَ لِرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ مَالِكِ الْعَقَارِ كَمَا أَوْجَبَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ بِثَمَنِهِ رَفْعًا لِضَرَرِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُقَاسَمَةِ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ الضَّرَرُ مَا ذَكَرَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا وَأُمِرْنَا بِتَقْدِيمِ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَبِدَفْعِ شَرِّ الشَّرَّيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا . وَالْفَسَادُ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ حُصُولِ ضَرَرٍ مَا لِأَحَدِ الْمُتَعَوِّضِينَ فَإِنَّ هَذَا ضَرَرٌ كَثِيرٌ مُحَقَّقٌ وَذَاكَ إنْ حَصَلَ فِيهِ ضَرَرٌ فَهُوَ قَلِيلٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ . وَأَيْضًا فَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ تَعْتَمِدُ أَمَانَةَ الْعَامِلِ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ كَثِيرًا فَيَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى الْمُؤَاجَرَةِ الَّتِي فِيهَا مَالٌ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ ؛ وَلِهَذَا يَعْدِلُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ عَنْ الْمُزَارَعَةِ إلَى الْمُؤَاجَرَةِ ؛ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرِيعَةَ تُوجِبُ مَا تُوجِبُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَتَشْتَرِطُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ مَا تَشْتَرِطُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ؛ وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يَنْفُذَ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ - مَعَ فُجُورِهِ - مِنْ وِلَايَتِهِ وَقِسْمَتِهِ
وَحُكْمِهِ مَا يَسُوغُ وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْأَمْرِ يَجِبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا إذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ بِلَا مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ . وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الصَّلَاةِ إذَا لَمْ تُمْكِنْ الصَّلَاةُ إلَّا خَلْفَ الْفَاجِرِ . فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الْأَرْضِ إلَّا إلَى فَاجِرٍ وَائْتِمَانُهُ عَلَيْهَا يُوجِبُ الْفَسَادَ ؛ اُحْتِيجَ إلَى أَنْ تُدْفَعَ إلَيْهِ مُؤَاجَرَةً . فَهَذَا وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ جَوَازِ الْمُؤَاجَرَةِ . وَأَيْضًا فَقَدْ لَا يَتَّفِقُ مَنْ يَأْخُذُهَا مُشَارَكَةً كَالْمُسَاقَاةِ أَوْ الْمُزَارَعَةِ ؛ فَإِنْ لَمْ تُدْفَعْ مُؤَاجَرَةً وَإِلَّا تَعَطَّلَتْ وَتَضَرَّرَ أَهْلُهَا وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ . وَلَيْسَ فِي هَذَا مِنْ الْفَسَادِ إلَّا إمْكَانَ نَقْصِ الثَّمَرِ عَنْ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فَيَبْقَى ذَلِكَ مُخَاطَرَةً . وَهَذَا الْقَدْرُ يَنْجَبِرُ بِمَا يُجْعَلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مِنْ جُبْرَانِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْإِجَارَةَ الْجَائِزَةَ إذَا تَلِفَتْ فِيهَا الْمَنْفَعَةُ سَقَطَتْ الْأُجْرَةُ الَّتِي تُقَابِلُهَا وَكَذَلِكَ لَوْ نَقَصَتْ - عَلَى الصَّحِيحِ - فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ وَقَالَ : إذَا بِعْت مِنْ أَخِيك بَيْعًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَخِيك شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ } وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا . وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ قُبِضَتْ وَلَمْ تُقْبَضْ قَبْضًا تَامًّا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ الْقَابِضُ مِنْ جِذَاذِهَا كَمَا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إذَا قَبَضَ الْعَيْنَ لَمْ يَحْصُلْ الْقَبْضُ التَّامُّ الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا تَلِفَتْ الْمَنْفَعَةُ قَبْلَ
تَمَكُّنِهِ مِنْ اسْتِيفَائِهَا سَقَطَتْ الْأُجْرَةُ فَكَذَلِكَ إذَا تَلِفَتْ الثَّمَرَةُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْجِذَاذِ سَقَطَ الثَّمَنُ . فَهُنَا الْمُسْتَأْجِرُ لِلْبُسْتَانِ إذَا قَدَّرَ أَنَّهُ حَصَلَتْ آفَةٌ مَنَعَتْ الْأَرْضَ عَنْ الْمَنْفَعَةِ الْمُعْتَادَةِ - كَمَا لَوْ نَقَصَ مَاءُ الْمَطَرِ وَالْأَنْهَارِ حَتَّى نَقَصَتْ الْمَنْفَعَةُ عَنْ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى عَلَى الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ فَإِذَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْحَالِ - كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ إمَّا الْفَسْخُ وَإِمَّا الْأَرْشُ ؛ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ وَضْعِ الْجَائِحَةِ فِي الْمُمْتَنِعِ . كَمَا فِي الثَّمَرِ الْمُشْتَرَى بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ تَلَفِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالْعَقْدِ أَوْ فَوَاتِهَا . وَهُنَا الْمُسْتَأْجِرُ لِلْبُسْتَانِ كَالْمُسْتَأْجِرِ لِلْأَرْضِ سَوَاءً بِسَوَاءِ . إنَّمَا يَتَسَلَّمُ الْأُصُولَ وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهَا حَتَّى يَشْتَدَّ الزَّرْعُ وَيَبْدُوَ صَلَاحُ الثَّمَرِ كَمَا يَقُومُ عَلَى ذَلِكَ الْعَامِلُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذَا مُشْتَرٍ لِلثَّمَرَةِ فَلْيُقَلْ إنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مُشْتَرٍ لِلزَّرْعِ وَإِنَّ الْعَامِلَ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ مُشْتَرٍ لِمَا يَحْصُلُ مِنْ النَّمَاءِ فَإِذَا كَانَ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْبَيْعِ امْتَنَعَ شُمُولُ الْعُمُومِ لَهُ لَفْظًا وَيَمْتَنِعُ إلْحَاقُهُ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَوْ شُمُولِ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ ؛ فَإِنَّ إلْحَاقَ هَذِهِ الْإِجَارَةِ لِلْأَرْضِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَفِي الْمُضَارَبَةِ وَالْوَقْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُجْعَلُ حُكْمُ أَحَدِهِمَا حُكْمَ الْآخَرِ : أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهَا بِالْبَيْعِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَكُلُّ مَنْ نَظَرَ فِي هَذَا نَظَرًا صَحِيحًا سَلِيمًا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَاتِ والقبالات الَّتِي تُسَمَّى الضَّمَانَاتِ . كَمَا تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ ضَمَانًا وَكَمَا سَمَّاهُ السَّلَفُ قِبَالَةً ؛ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الْمُبَايَعَاتِ . وَأَحْكَامُ الْبَيْعِ مُنْتَفِيَةٌ فِي هَذَا مِنْ كَوْنِ مُؤْنَةِ التَّوْفِيَةِ عَلَى الْبَائِعِ وَكُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومَاتِ : مِثْلَ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الملاقيح وَالْمَضَامِينِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ وَهُوَ بَيْعُ مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ وَأَرْحَامِ الْإِنَاثِ وَنَتَاجِ النَّتَاجِ . وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ . وَهُوَ الْمُعَاوَمَةُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُشْتَرِيَ تِلْكَ الْأَعْيَانَ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ وَأُصُولُهَا يَقُومُ عَلَيْهَا الْبَائِعُ فَهُوَ الَّذِي يَسْتَنْتِجُهَا وَيَسْتَثْمِرُهَا وَيُسَلِّمُ إلَى الْمُشْتَرِي مَا يَحْصُلُ مِنْ النَّتَاجِ وَالثَّمَرَةِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَهُ . وَهَذَا عَلَى تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ فِي " حَبَلِ الْحَبَلَةِ " أَنَّهُ بَيْعُ نَتَاجِ النَّتَاجِ فَإِنَّهُ يَكُونُ إبْطَالُهُ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ وَهَذِهِ الْبُيُوعُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ مِنْ بَابِ الْقِمَارِ الَّذِي هُوَ مَيْسِرٌ وَذَلِكَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَأَصْحَابُ هَذِهِ الْأُصُولِ يُمْكِنُهُمْ تَأْخِيرُ الْبَيْعِ إلَى أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ هَذِهِ الثِّمَارِ وَالْأَوْلَادِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ هَذَا مُخَاطَرَةً ومباختة . وَالتِّجَارَاتُ بِضَمَانِ الْبُسْتَانِ لِمَنْ يَقُومُ عَلَيْهِ كَضَمَانِ الْأَرْضِ لِمَنْ يَقُومُ عَلَيْهَا فَيَزْدَرِعَهَا وَاحْتِكَارِ الْأَرْضِ لِمَنْ يَبْنِي فِيهَا وَيَغْرِسُ فِيهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي الْإِجَارَةِ إذَا تَلِفَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَائِهَا فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ أُجْرَةُ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ حَيَوَانًا فَيَمُوتَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَكَذَلِكَ الْمَبِيع إذَا تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ ؛ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ فَتَتْلَفُ الصُّبْرَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالتَّمْيِيزِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ بِلَا نِزَاعٍ ؛ لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي تَلَفِهِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ . وَقَبْلَ الْقَبْضِ ؛ كَمَنْ اشْتَرَى مَعِيبًا وَمُكِّنَ مِنْ قَبْضِهِ . وَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ : مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَبًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي . وَالثَّانِي : يَضْمَنُهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ يَسْتَثْنِي الْعَقَارَ . وَمَعَ هَذَا فَمَذْهَبُهُ أَنَّ التَّخْلِيَةَ قَبْضٌ كَقَوْلِ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . فَيَتَقَارَبُ مَذْهَبُهُ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ : أَنَّ مَا يَتْلَفُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مَنْ مَالِ أَخِيك شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَشْهُورُ عَنْهُ يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي . إذَا تَلِفَ
بَعْدَ الْقَبْضِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَمَذْهَبُهُ أَنَّ التَّبْقِيَةَ لَيْسَتْ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهَا . وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ : قَبْضُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْإِجَارَاتِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِقَبْضِ تَامٍّ يَنْقُلُ الضَّمَانَ ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَقْصُودِ . وَهَذَا طَرْدُ أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : لَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فَرَّطَ فِي قَبْضِ الثَّمَرَةِ بَعْدَ كَمَالِ صَلَاحِهَا حَتَّى تَلِفَتْ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِهِ كَمَا لَوْ فَرَّطَ فِي قَبْضِ الْمُعَيَّنِ حَتَّى تَلِفَ . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْمُنَاسَبَةِ وَالتَّأْثِيرِ ؛ فَإِنَّ الْبَائِعَ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا التَّفْرِيطُ مِنْ الْمُشْتَرِي : كَانَ إحَالَةُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُفَرِّطِ أَوْلَى مِنْ إحَالَتِهِ عَلَى مَنْ قَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُفَرِّطْ ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَوْ فَرَّطَ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ حَتَّى تَلِفَتْ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِهِ . وَلَوْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ . وَفِي الْإِجَارَةِ إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ ازْدِرَاعِ الْأَرْضِ لِآفَةِ حَصَلَتْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ . وَإِنْ نَبَتَ الزَّرْعُ ثُمَّ حَصَلَتْ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ حَصَادِهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّمَرِ وَالْمَنْفَعَةِ قَالَ : الثَّمَرَةُ هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ الْمَنْفَعَةُ . وَهُنَا الزَّرْعُ لَيْسَ بِمَعْقُودِ عَلَيْهِ ؛ بَلْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ وَقَدْ اسْتَوْفَاهَا ؛ وَمَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا قَالَ : الْمَقْصُودُ بِالْإِجَارَةِ هُوَ الزَّرْعُ فَإِذَا
حَالَتْ
الْآفَةُ السَّمَاوِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْصُودِ بِالْإِجَارَةِ كَانَ
قَدْ تَلِفَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ
وَالْمُؤَجِّرُ وَإِنْ لَمْ يُعَاوِضْ عَلَى زَرْعٍ فَقَدْ عَاوَضَ عَلَى
الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ حُصُولِ الزَّرْعِ فَإِذَا حَصَلَتْ
الْآفَةُ السَّمَاوِيَّةُ الْمُفْسِدَةُ لِلزَّرْعِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ
حَصَادِهِ لَمْ تَسْلَمْ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا بَلْ تَلِفَتْ
قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَعَطُّلِ
مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ أَوْ فِي آخِرِهَا ؛ إذَا لَمْ
يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِيفَائِهَا بِشَيْءِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْآفَةَ السَّمَاوِيَّةَ إذَا فُقِدَ الزَّرْعُ مُطْلَقًا ؛ بِحَيْثُ لَا
يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ مَعَ تِلْكَ الْآفَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ
تَقَدُّمِهَا وَتَأَخُّرِهَا . وَعَلَى هَذَا تَنْبَنِي مَسْأَلَةُ " ضَمَانِ
الْحَدَائِقِ " وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ تَضْمِينِ الْبَسَاتِينِ قَبْلَ إدْرَاكِ الثَّمَرَةِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا
؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا تَضْمِينُ حَدِيقَتِهِ أَوْ بُسْتَانِهِ الَّذِي فِيهِ النَّخِيلُ
وَالْأَعْنَابُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْجَارِ لِمَنْ يَقُومُ عَلَيْهَا
وَيَزْرَعُ أَرْضَهَا بِعِوَضِ مَعْلُومٍ : فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ نَهَى عَنْ
ذَلِكَ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا .
ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَيَاضُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالشَّجَرُ تَابِعٌ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ مَالِكٍ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُجَوِّزُ الِاحْتِيَالَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يُؤَجِّرَ الْأَرْضَ وَيُسَاقِيَ عَلَى الشَّجَرِ بِجُزْءِ مِنْ الْخَارِجِ مِنْهُ ؛ وَلَكِنَّ هَذَا إنْ شُرِطَ فِيهِ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا كَانَ لِرَبِّ الْبُسْتَانِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِالْأُجْرَةِ عَنْ الْأَرْضِ بِدُونِ الْمُسَاقَاةِ . وَأَكْثَرُ مَقْصُودِ الضَّامِنِ هُوَ الثَّمَرُ وَهِيَ جُزْءٌ كَبِيرٌ مِنْ مَقْصُودِهِ . وَقَدْ يَكُونُ الْمَكَانُ وَقْفًا وَمَالَ يَتِيمٍ فَلَا تَجُوزُ الْمُحَابَاةُ فِي مُسَاقَاتِهِ . وَهَذِهِ الْحِيلَةُ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى ذَكَرَهَا فِي كِتَابِ " إبْطَالِ الْحِيَلِ " مُوَافَقَةً لِغَيْرِهِ فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد أَنَّهَا بَاطِلَةٌ . وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ الْحِيَلِ - الَّتِي يَكُونُ ظَاهِرُهَا مُخَالِفًا لِبَاطِنِهَا وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهَا فِعْلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالْحِيَلِ عَلَى الرِّبَا وَعَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - بِالْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ الضَّمَانَ لِلْأَرْضِ وَالشَّجَرِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ الشَّجَرُ مَقْصُودًا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ وَلَهُ مَأْخَذَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ فَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ لَهُمَا جَمِيعًا لِتَعَذُّرِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي الْعَادَةِ .
وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ لَمْ يَبِعْ ثَمَرَهُ بِلَا أَجْرٍ أَصْلًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ جَازَ وَلَوْ اشْتَرَى الزَّرْعَ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ بِشَرْطِ الْبَقَاءِ لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ يُفَرَّقُ فِي الشَّجَرِ . الثَّانِي : أَنَّ الْبَائِعَ عَلَيْهِ السَّقْيُ وَغَيْرُهُ مِمَّا فِيهِ صَلَاحُ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَكْمُلَ صَلَاحُهَا وَلَيْسَ عَلَى الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا الضَّامِنُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِالسَّقْيِ وَالْعَمَلِ حَتَّى تَحْصُلَ الثَّمَرَةُ وَالزَّرْعُ فَاشْتِرَاءُ الثَّمَرَةِ اشْتِرَاءٌ لِلْعِنَبِ وَالرُّطَبِ فَإِنَّ الْبَائِعَ عَلَيْهِ تَمَامُ الْعَمَلِ حَتَّى يَصْلُحَ ؛ بِخِلَافِ مَنْ دَفَعَ إلَيْهِ الْحَدِيقَةَ وَكَانَ هُوَ الْقَائِمَ عَلَيْهَا . الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ الْبُسْتَانَ إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ ثَمَرِهِ وَزَرْعِهِ كَانَ هَذَا مُسَاقَاةً وَمُزَارَعَةً فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ بِعَمَلِهِ وَلَيْسَ هَذَا اشْتِرَاءً لِلْحَبِّ وَالثَّمَرَةِ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ أَرْضَهُ لِمَنْ يَزْرَعُهَا أَوْ أَعْطَى شَجَرَتَهُ لِمَنْ يَسْتَغِلُّهَا ثُمَّ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ كَانَ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْعَارِيَةِ ؛ لَا مِنْ جِنْسِ هِبَةِ الْأَعْيَانِ . الْخَامِسُ : أَنَّ ثَمَرَةَ الشَّجَرِ مِنْ مُغَلِّ الْوَقْفِ كَمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَلَبَنِ
الظِّئْرِ
. وَاسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .
وَاللَّبَنُ لَمَّا كَانَ يَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ صَحَّ عَقْدُ
الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ كَمَا يَصِحُّ عَلَى الْمَنَافِعِ وَإِنْ كَانَتْ
أَعْيَانًا وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلْمَالِكِ إجَارَةُ الْمَاشِيَةِ لِلَبَنِهَا .
فَإِجَارَةُ الْبُسْتَانِ لِمَنْ يَسْتَغِلُّهُ بِعَمَلِهِ هُوَ مِنْ هَذَا
الْبَابِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الشِّرَاءِ . وَإِذَا قِيلَ : إنَّ فِي ذَلِكَ غَرَرًا
. قِيلَ : هُوَ كَالْغَرَرِ فِي الْإِجَارَةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ
أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا فَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الزَّرْعُ وَقَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ
لَا يَحْصُلُ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّهُ ضَمِنَ
حَدِيقَةَ أسيد ابْنِ حضير بَعْدَ مَوْتِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَأَخَذَ الضَّمَانَ
فَصَرَفَهُ فِي دَيْنِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ
الصَّحَابَةِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ لَمَّا فَتَحَهَا
الْمُسْلِمُونَ دَفَعَهَا عُمَرَ إلَيْهِمْ وَفِيهَا النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ
لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا بِالْخَرَاجِ وَهَذِهِ إجَارَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ ضَمَانِ بَسَاتِينِ وَأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا بِقُدُومِ الْعَدُوِّ
الْمَخْذُولِ دَخَلُوا إلَى الْمَدِينَةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ الْمَدِينَةِ وَلَمْ
يَبْقَ لَهُمْ سَبِيلٌ إلَى الْبَسَاتِينِ وَنُهِبَ زَرْعُهُمْ وَغَلَّتُهُمْ .
فَهَلْ لَهُمْ الْإِجَاحَةُ فِي ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ
: الْخَوْفُ الْعَامُّ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ هُوَ مِنْ الْآفَاتِ
السَّمَاوِيَّةِ وَإِذَا تَلِفَتْ الزُّرُوعُ بِآفَةِ سَمَاوِيَّةٍ : فَهَلْ
تُوضَعُ الْجَائِحَةُ فِيهِ كَمَا تُوضَعُ فِي الثَّمَرَةِ ؟ كَمَا نَصَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي
رَوَاهُ مُسْلِمٌ حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
إذَا بِعْت أَخَاك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ
تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَخِيك شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ
بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } اخْتَلَفُوا فِي الزَّرْعِ إذَا تَلِفَ قَبْلَ تَمَكُّنِ
الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ حَصَادِهِ هَلْ تُوضَعُ فِيهِ الْجَائِحَةُ ؟ عَلَى
قَوْلَيْنِ . أَشْبَهُهُمَا بِالْمَنْصُوصِ وَالْأُصُولِ أَنَّهَا تُوضَعُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ ضَمَانِ الْإِقْطَاعِ . هَلْ هُوَ صَحِيحٌ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
ضَمَانُ الْإِقْطَاعِ صَحِيحٌ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ
الَّذِينَ يُفْتَى بِقَوْلِهِمْ قَالَ : إنَّهُ بَاطِلٌ . وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا
مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُنْصِفِينَ قَالَ : إنَّهُ بَاطِلٌ . إلَّا مَا بَلَغَنَا
عَنْ بَعْضِ النَّاسِ حُكِيَ فِيهِ خِلَافًا : قَوْلٌ بِالْجَوَازِ . وَقَوْلٌ
بِالْمَنْعِ . وَقَوْلٌ إنَّهُ يَجُوزُ سَنَةً فَقَطْ . وَمَا زَالَ
الْمُسْلِمُونَ يُضَمِّنُونَهُ وَلَمْ يُفْتِ أَحَدٌ بِتَحْرِيمِهِ إلَّا بَعْضُ
أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ لِشُبْهَةِ عَرَضَتْ لَهُمْ ؛ لِكَوْنِهِمْ اعْتَقَدُوا
أَنَّ الْمُقْطَعَ بِمَنْزِلَةِ
الْمُسْتَعِيرِ
وَغَفَلُوا عَنْ كَوْنِ الْمَنَافِعِ مُسْتَحِقَّةً لِأَهْلِ الْإِقْطَاعِ لَا
مَبْذُولَةً ؛ بِمَنْزِلَةِ اسْتِحْقَاقِ أَهْلِ الْبُطُونِ لِلْوَقْفِ . وَإِنْ
جَازَ انْفِسَاخُ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ
يَقُولُ بِهِ . وَالسُّلْطَانُ قَاسِمٌ لَا مُعِينٌ . وَقِسْمَتُهُ لِلْمَنَافِعِ
كَقِسْمَةِ الْأَمْوَالِ . وَغَفَلُوا عَنْ كَوْنِ السُّلْطَانِ الْمُقْطِعَ
أَذِنَ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمُقْطَعِ اسْتِغْلَالًا وَإِيجَارًا . وَلَوْ
أَذِنَ الْمُعِيرُ فِي الْإِجَارَةِ جَازَتْ وِفَاقًا فَكَيْفَ الْإِقْطَاعُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مُسْتَأْجِرٍ نِصْفَ بُسْتَانٍ مُشَاعًا غَيْرَ مَقْسُومٍ وَقَدْ
تَهَدَّمَتْ الْحِيطَانُ فَاتَّفَقَ الْمُسْتَأْجِرُ لِلنِّصْفِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ
الْآخَرِ عَلَى الْعِمَارَةِ وَتَقَاسَمَا الْحِيطَانَ لِيَبْنِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا
مَا اقْتَسَمَاهُ فَعَمَّرَ الْمُسْتَأْجِرُ نَصِيبَهُ وَامْتَنَعَ الْآخَرُ
حَتَّى سُرِقَ أَكْثَرُ الثَّمَرَةِ . وَامْتَنَعَ مِنْ السَّقْيِ أَيْضًا حَتَّى
تَلِفَ أَكْثَرُ الثَّمَرَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ إذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ حَتَّى
تَلِفَ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَرَةِ بِسَبَبِ إهْمَالِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا
تَلِفَ مِنْ نَصِيبِ شَرِيكِهِ . وَأَمَّا إذَا امْتَنَعَ ابْتِدَاءً مِنْ الْعِمَارَةِ
وَالسَّقْيِ مَعَهُ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ . وَفِي الْآخَرِ لَا يُجْبَرُ ؛ لَكِنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُعَمِّرَ
وَيَسْقِيَ .
وَيُمْنَعُ
مَنْ لَمْ يُعَمِّرْ وَيَسْقِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ مَالِهِ .
وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ قَدَحَ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ إجَارَةِ الْوَقْفِ . هَلْ تَجُوزُ سِنِينَ ؟ وَكُلُّ سَنَةٍ بِذَاتِهَا ؟
وَإِذَا قَطَعَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الْوَقْفِ أَشْجَارًا هَلْ تَلْزَمُهُ
الْقِيمَةُ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا شَرَى الْوَقْفَ بِدُونِ الْقِيمَةِ مَا يَجِبُ
عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ جَازَتْ إجَارَتُهُ بِحَسَبِ
الْمَصْلَحَةِ وَلَا يتوقت ذَلِكَ بِعَدَدِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . وَمَا
قَطَعَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِ بَيْعُ الْوَقْفِ ؛ بَلْ عَلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي
وَالْوَقْفُ عَلَى حَالِهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَمِيرٍ دَخَلَ عَلَى إقْطَاعٍ وَجَدَ فِيهِ فَلَّاحًا مُسْتَأْجِرًا إقْطَاعَهُ
بِأُجْرَةِ وَاسْتَقَرَّ الْفَلَّاحُ الْمَذْكُورُ مُسْتَأْجِرًا إقْطَاعَهُ إلَى
حِينِ انْقِضَائِهِ ثُمَّ انْتَقَلَ الْإِقْطَاعُ إلَى غَيْرِهِ فَوَجَدَ
الْمُقْطَعُ الْمُسْتَجَدُّ الْفَلَّاحَ بَوَّرَ بَعْضَ الْأَرْضِ
الْمُسْتَأْجَرَةِ فَطَالَبَ الْمُقْطَعَ الْمُنْفَصِلَ بِخَرَاجِ الْبُورِ
وَادَّعَى أَنَّ الْإِيجَارَ الْمُكْتَتَبَ عَلَى الْفَلَّاحِ إجَارَةٌ بَاطِلَةٌ
بِحُكْمِ أَنَّ بَعْضَ الْأَرْضِ كَانَتْ مَشْغُولَةً هَلْ يَبْطُلُ حُكْمُ
الْإِيجَارِ ؟ أَوْ يَصِحُّ ؟ وَهَلْ يُلْزِمُ الْبُورَ لِلْمُسْتَأْجِرِ ؟ أَمْ
لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِلْمُقْطَعِ الثَّانِي أَنْ يُطَالِبَ الْمُقْطَعَ الْمُنْفَصِلَ بِمَا
بَوَّرَ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا زَرَعَ فَإِنَّ حَقَّهُ عَلَى
الْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي أُجِّرَ الْأَرْضَ وَسُلِّمَتْ إلَيْهِ سَوَاءٌ زَرَعَ
الْأَرْضَ أَوْ لَمْ يَزْرَعْهَا . وَلَكِنَّ الْمُقْطَعَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ
طَالَبَهُ بِالْأُجْرَةِ الَّتِي رَضِيَ بِهَا الْأَوَّلُ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَهُ
بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لِمَا تَسَلَّمَهُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَإِجَارَةِ الْأَرْضِ
لِمَنْ يَزْرَعُ فِيهَا زَرْعًا وَقَصَبًا جَائِزَةٌ لَكِنَّ الْمُقْطَعَ
الثَّانِيَ لَهُ أَنْ يُمْضِيَهَا وَلَهُ أَنْ لَا يُمْضِيَهَا وَلَوْ قَدَّرَ
أَنَّ الْأَوَّلَ آجَرَهُ إيَّاهَا إجَارَةً فَاسِدَةً وَسَلَّمَ إلَيْهِ
الْأَرْضَ قَبْلَ إقْطَاعِ الثَّانِي لَكَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ضَمَانُ
الْأَرْضِ كُلِّهَا لِلْمُقْطَعِ
الثَّانِي
الَّذِي يَسْتَحِقُّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ سَوَاءٌ زَرَعَهَا أَوْ لَمْ
يَزْرَعْهَا ؛ لِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ ضُمِنَ
بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَمَا لَوْ قَبَضَ الْمَبِيع قَبْضًا
فَاسِدًا فَإِنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ أَجْنَادٍ لَهُمْ أَرْضٌ . فَآجَرُوهَا لِقَوْمِ فَلَّاحِينَ بِغَلَّةِ
مُعَيَّنَةٍ وَدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ وصيافة لِيَزْرَعُوهَا أَوْ يَنْتَفِعُوا بِهَا
مُدَّةَ سَنَةٍ كَامِلَةٍ وَأَنَّ الْأَجْنَادَ قَبْلَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ
عَدَوْا عَلَى أَغْنَامِ الْفَلَّاحِينَ وَأَخَذُوا عَنْ الْمَرَاعِي جُمْلَةَ
دَرَاهِمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ غَصْبًا بِالْيَدِ الْقَوِيَّةِ
. فَهَلْ مَا يَنَالُهُ الْأَجْنَادُ حَلَالٌ ؟ أَمْ حَرَامٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا إجَارَةٌ شُرِطَ فِيهَا شُرُوطٌ سَائِغَةٌ : مِثْلَ أَنْ
يَشْتَرِطَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِجَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ حَتَّى
فِي الْكَلَأِ الْمُبَاحِ وَأَعْقَابِ الزَّرْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهَذَا شَرْطٌ
لَازِمٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي
الْإِجَارَةِ ؛ لَكِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ مُطْلَقَةً . وَهَذِهِ هِيَ
الْعَادَةُ ؛ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ الْمُطْلَقَةَ تُحْمَلُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ
الْمُعْتَادَةِ . فَإِذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ تَتَنَاوَلُ بِذَلِكَ
تَنَاوَلَتْهُ الْإِجَارَةُ الْمُطْلَقَةُ فَمَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُ الْإِجَارَةِ
أَوْ الْعُرْفُ الْمُعْتَادُ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ .
وَأَمَّا
إنْ كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الْإِجَارَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تَتَنَاوَلُ
الْكَلَأَ الْمُبَاحَ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ لِرَجُلِ أَرْضًا بِطَرِيقِ شَرْعِيَّةٍ مُدَّةً
مُعَيَّنَةً ثُمَّ إنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَهُ تُوُفِّيَ وَإِنَّ الْوَكِيلَ لَمَّا
اسْتَأْجَرَ هَذِهِ الْمُدَّةَ قَدَّمَ لِلْمُؤَجِّرِ حَقَّ سَنَةٍ عَلَى يَدِ
وَكِيلِهِ وَإِنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ ادَّعَى عَلَى وَارِثِ الْمُسْتَأْجِرِ لَهُ
فَطَلَبُوا مِنْهُ تَثْبِيتَ وِكَالَةَ الْمُسْتَأْجِرِ الْوَكِيلِ . فَهَلْ
يَجِبُ عَلَى الْمُدَّعِي إثْبَاتُ الْوِكَالَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ مِنْهُ حَقَّ
سَنَةٍ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَغَلَّ هَذِهِ الْأَرْضَ الْمُسْتَأْجَرَةَ
دُونَ الْوَكِيلِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْأَرْضَ اُسْتُؤْجِرَتْ لَهُ قَدْ
اسْتَغَلَّ الْأَرْضَ فَقَدْ وَجَبَ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي اسْتَوْفَاهَا
سَوَاءٌ اُسْتُؤْجِرَتْ أَوْ لَمْ تُسْتَأْجَرْ وَإِذَا لَمْ يَعْتَرِفْ أَنَّهُ
اسْتَوْفَاهَا بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ وَلَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَالْحَالَةُ
هَذِهِ فَهُوَ غَاصِبٌ يَسْتَحِقُّ تَعْزِيرَهُ وَعُقُوبَتَهُ تَعْزِيرًا
يَمْنَعُهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ الْمُعْتَدِينَ عَنْ ظُلْمِ الْخَلْقِ وَجَحْدِ
الْحَقِّ . وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا ذُكِرَ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ
مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِجَارَةِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى الْمُزْدَرِعُ أَنَّهُ
إنَّمَا زَرَعَ بِطَرِيقِ الْعَارِيَةِ وَقَالَ
رَبُّ الْأَرْضِ : بَلْ بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ . فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُمْ . وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ فِي مَسْأَلَةِ الدَّابَّةِ إذَا تَنَازَعَا فَقَالَ : أَعَرْتَنِي وَقَالَ الْمَالِكُ : بَلْ أكريتك فَقَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ . فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ . وَالْمَذْهَبُ فِيهِمَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ وَقَالَ : الدَّابَّةُ يُسْمَحُ فِي الْعَادَةِ بِأَنْ تُعَارَ ؛ بِخِلَافِ الْأَرْضِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ : إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَا يَكْرِي الدَّوَابَّ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الدَّابَّةِ : الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ . وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد . وَبِالْجُمْلَةِ : فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَرْضِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ فَيَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِالْأُجْرَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لَكِنْ هَلْ يُطَالِبُ بِالْأُجْرَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا أَوْ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ؟ أَوْ بِالْأَقَلِّ مِنْهُمَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ فَلَّاحٍ حَرَثَ أَرْضًا وَلَمْ يَزْرَعْهَا ثُمَّ زَرَعَهَا غَيْرُهُ .
فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْإِجَارَةَ وَالْمُقَاسَمَةَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ مُقَاسَمَةً : لِرَبِّ الْأَرْضِ سَهْمٌ وَلِلْفَلَّاحِ
سَهْمٌ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ نَصِيبُ الْفَلَّاحِ بَيْنَ الْحَارِثِ وَالزَّارِعِ
عَلَى مِقْدَارِ مَا بَذَلَاهُ مِنْ نَفْعٍ وَمَالٍ : وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ قِطْعَةَ أَرْضٍ وَبِئْرَ مَاءٍ
مُعَيَّنٍ بِأُجْرَةِ مَعْلُومَةٍ وَزَرَعَهَا إنْسَانٌ ثُمَّ إنَّهُ بَاعَ
النِّصْفَ مِنْ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ لِأَحَدِ الْمُؤَجِّرِينَ وَبَقِيَ
عَلَى مِلْكِهِ النِّصْفُ مِنْ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ وَدَفَعَ الْأُجْرَةَ
لِلْآخَرِينَ الْمَذْكُورِينَ عَنْ حِصَّتِهِمَا خَاصَّةً وَلَمْ يَدْفَعْ لِلْمُشْتَرِي
مِنْ الْأُجْرَةِ الْمَذْكُورَةِ . وَعِنْدَ وَفَاتِهِ أَشْهَدَ أَنَّ جَمِيعَ مَا
يَخُصُّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْأُجْرَةِ الْمَذْكُورَةِ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى
حُكْمِهِ وَلَمْ يُخَلِّفْ سِوَى
نِصْفِ
الْإِنْسَانِ وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ الْمَذْكُورَةُ وَعَلَيْهِ صَدَاقُ
زَوْجَتِهِ . فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُسْوَةَ الشُّرَكَاءِ أَوْ يحاصصهم .
يَنْظُرُ مَالَهُ بِحُكْمِ غَيْرِهِ ؟ أَفْتُونَا .
فَأَجَابَ :
الْأُجْرَةُ الَّتِي كَانَ يَسْتَحِقُّهَا أَحَدُ الْمُؤَجِّرِينَ عَلَى
الْمُسْتَأْجِرِ بَاقِيَةٌ فِي ذِمَّتِهِ ؛ وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ بِبَقَائِهَا .
فَإِذَا أَقَرَّ بِبَقَائِهَا : كَانَ هَذَا مُؤَكَّدًا ؛ لَكِنْ لِغُرَمَائِهِ
عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ لَمْ يُبْرِ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ هَذِهِ الْأُجْرَةِ
لَا بِوَفَاءِ وَلَا إبْرَاءٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ مِنْ حِينِ
انْتَقَلَتْ لِإِنْسَانِ فَلِشُرَكَائِهِ مُطَالَبَتُهُ بِحَقِّهِمْ مِنْ
الْأُجْرَةِ مِنْ حِينِ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ . وَهَذِهِ الْأُجْرَةُ دَيْنٌ مِنْ
الدُّيُونِ يُحَاصُّ بِهَا سَائِر الْغُرَمَاءِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ أَقُطِعَ فَدَّانَ طِينٍ وَتَرَكَهُ بِدِيوَانِ الْأَحْبَاسِ
فَزَرَعَهُ ثُمَّ مَاتَ الْجُنْدِيُّ فَتَرَكَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَمَنَعَ مِنْ
ذَلِكَ فَأَخَذَ تَوْقِيعَ السُّلْطَانِ الْمُطْلَقِ لَهُ بِأَنْ يَجْرِيَ عَلَى
عَادَتِهِ فَمَنَعَهُ وَقَدْ زَرَعَهُ . فَهَلْ لَهُ أُجْرَةُ الْأَرْضِ ؟ أَمْ
الزَّرْعُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ الْمُقْطِعُ أَعْطَاهُ إيَّاهُ مِنْ إقْطَاعِهِ
وَخَرَجَ مِنْ دِيوَانِ الْإِقْطَاعِ إلَى دِيوَانِ الْأَحْبَاسِ الَّذِي لَا
يُقْطَعُ وَأَمْضَى ذَلِكَ .
فَلَيْسَ
لِلْمُقْطَعِ الثَّانِي انْتِزَاعُهُ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُقْطَعُ الْأَوَّلُ
تَبَرَّعَ لَهُ بِهِ مِنْ إقْطَاعِهِ وَلِلْمُقْطَعِ الثَّانِي أَنْ يَتَبَرَّعَ
وَأَلَّا يَتَبَرَّعَ : فَالْأَمْرُ مَوْكُولٌ لِلثَّانِي وَالزَّرْعُ لِمَنْ
زَرَعَهُ وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ حِينِ أَقُطِعَ إلَى
حِينِ كَمَالِ الِانْتِفَاعِ . وَأَمَّا قَبْلَ إقْطَاعِهِ فَالْمَنْفَعَةُ
كَانَتْ لِلْأَوَّلِ الْمُتَبَرِّعِ ؛ لَا لِلثَّانِي . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَاعِي أَبْقَارٍ سَرَحَ بِالْأَبْقَارِ لِيَسْقِيَهَا مِنْ مَوْرِدٍ جَرَتْ
الْعَادَةُ بِسَقْيِ الْأَبْقَارِ مِنْهَا فَعِنْدَ فَرَاغِ سَقْيِ الْأَبْقَارِ
لَحِقَ إحْدَى الْأَبْقَارِ مَرَضٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَسَقَطَتْ فِي
الْمَاءِ فَتَسَبَّبَ النَّاسُ فِي إقَامَتِهَا فَلَمْ تَقُمْ فَجَّرُوهَا إلَى
الْبَرِّ لِتَقُومَ فَلَمْ تَقُمْ وَلَمْ يَكُنْ بِهَا ضَرْبٌ وَلَا غَيْرُهُ
فَحَضَرَ وَكِيلُ مَالِكِهَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ وَشَاهَدُوا مَا
أَصَابَهَا وَرَأَوْا ذَبْحَهَا مَصْلَحَةً فَذَبَحُوهَا : فَهَلْ يَلْزَمُ
الرَّاعِيَ قِيمَتُهَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَلْزَمُ الرَّاعِيَ شَيْءٌ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ وَلَا
عُدْوَانٌ ؛ بَلْ إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرُوا لَا يُلْزَمُ أَيْضًا مِنْ
ذَبْحِهَا شَيْءٌ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَحْسَنُوا فِيمَا فَعَلُوا ؛ فَإِنَّ
ذَبْحَهَا خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهَا حَتَّى تَمُوتَ . وَقَدْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا
رَاعٍ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْ
النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَلَا بَيَّنَ أَنَّهُ ضَامِنٌ . وَهُوَ
نَظِيرُ خَرْقِ صَاحِبِ مُوسَى السَّفِينَةَ لِيَنْتَفِعَ بِهَا أَهْلُهَا
مَرْقُوعَةً ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ ذَهَابِهَا بِالْكُلِّيَّةِ
وَمِثْلُ هَذَا لَوْ رَأَى الرَّجُلُ مَالَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ يَتْلَفُ بِمِثْلِ
هَذَا فَأَصْلَحَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَانَ مَأْجُورًا عَلَيْهِ وَإِنْ
نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَنَاقِصٌ خَيْرٌ مِنْ تَالِفٍ فَكَيْفَ إذَا كَانَ
مُؤْتَمَنًا كَالرَّاعِي وَنَحْوِهِ ؟
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يَكُونُ رَاعِيَ إبِلٍ أَوْ غَنَمٍ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمَاشِيَةِ
تَمْرَضُ أَوْ يَتَسَبَّبُ لَهَا أَمْرٌ فَيُدْرِكُهُ الْمَوْتُ - أَوْ غَيْرَ
رَاعٍ - ثُمَّ إنَّهُ يُذَكِّي تِلْكَ الدَّابَّةَ خَشْيَةَ الْهَلَاكِ عَلَى
صَاحِبِهَا فَهَلْ يَضْمَنُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أَدْرَكَهَا الْمَوْتُ فَيَنْبَغِي لِلرَّاعِي أَنْ يُذَكِّيَهَا وَيُحْسِنَ
فِي ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهَا وَلَا
ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهَ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَاعِي غَنَمٍ تَسَلَّمَ غَنَمًا وَسَلَّمَهَا لِصَبِيِّهِ وَهُوَ عُمْرُهُ
اثْنَتَا عَشْرَ سَنَةً فَسَرَّحَ الْغَنَمَ فَذَهَبَ مِنْهَا رَأْسَانِ . فَهَلْ
تَلْزَمُ الصَّبِيَّ الْأَجِيرَ ؟ أَمْ الرَّاعِيَ الْأَصْلِيَّ ؟
فَأَجَابَ :
يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي يُسَلِّمُهَا إلَى الصَّبِيِّ بِغَيْرِ إذْنِ
أَصْحَابِهَا .
وَسُئِلَ :
عَنْ ضَمَانِ بَسَاتِينَ بِدِمَشْقَ وَأَنَّ الْجَيْشَ الْمَنْصُورَ لَمَّا كَسَرَ
الْعَدُوَّ وَقَدِمَ إلَى دِمَشْقَ وَنَزَلَ فِي الْبَسَاتِينِ رَعَى زَرْعَهُمْ
وَغِلَالَهُمْ فَاسْتُهْلِكَتْ الْغِلَالُ بِسَبَبِ ذَلِكَ . فَهَلْ لَهُمْ
الْإِجَاحَةُ فِي ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
إتْلَافُ الْجَيْشِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ هُوَ مِنْ الْآفَاتِ
السَّمَاوِيَّةِ ؛ كَالْجَرَادِ . وَإِذَا تَلِفَ الزَّرْعُ بِآفَةِ سَمَاوِيَّةٍ
قَبْلَ تَمَكُّنِ الْآخَرِ مِنْ حَصَادِهِ فَهَلْ تُوضَعُ فِيهِ الْجَائِحَةُ
كَمَا تُوضَعُ فِي الثَّمَرِ الْمُشْتَرَى ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ .
أَصَحُّهُمَا - وَأَشْبَهُهُمَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَدْلِ - وَضْعُ
الْجَائِحَةِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ قَالَ : أَضْمَنُهُ بِكَذَا وَإِنْ أَكَلَهُ الْجَرَادُ مَثَلًا ؟
فَأَجَابَ :
إنَّ هَذَا الشَّرْطَ فَاسِدٌ فَإِنَّهُ شَرْطُ غَرَرٍ وَقِمَارٍ وَإِذَا كَانَ
مَعَ الشَّرْطِ قَدْ ضَمِنَهُ بِعِوَضِ كَانَ ذَلِكَ دُونَ عِوَضِ الْمِثْلِ إذَا
خَلَا مِنْ الشَّرْطِ . وَحِينَئِذٍ يُفَرَّقُ بَيْنَ صِحَّةِ الْعَقْدِ
وَفَسَادِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ . فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا كَانَ
الْوَاجِبُ رَدَّ الْمَقْبُوضِ بِهِ أَوْ قِيمَتِهِ . وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا زِيدَ
عَلَى نَصِيبِ الْبَاقِي مِنْ الْمُسَمَّى بِقَدْرِ قِيمَتِهِ مَا بَيْنَ
الْقِيمَةِ مَعَ الشَّرْطِ وَالْقِيمَةِ مَعَ عَدَمِهِ . فَإِذَا كَانَ
الْمُسَمَّى مَثَلًا أَلْفًا وَالْبَاقِي ثُلُثَ الثَّمَرَةِ : كَانَ نَصِيبُهُ
ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَلْفِ فَيَنْظُرُ قِيمَةَ الْجَمِيعِ بِالشَّرْطِ
فَيَأْخُذُ تِسْعَمِائَةِ . . . (1) أَلْفٍ وَمِائَتَانِ فَيُزَادُ عَلَى
الْمُسَمَّى وَنَصِيبِهِ ثُلُثَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَلَمْ يَأْتِهَا الْمَطَرُ الْمُعْتَادُ فَتَلِفَ
الزَّرْعُ . هَلْ تُوضَعُ الْجَائِحَةُ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزَّرْعِ فَلَمْ يَأْتِ الْمَطَرُ الْمُعْتَادُ
فَلَهُ الْفَسْخُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ إنْ تَعَطَّلَتْ بَطَلَتْ
الْإِجَارَةُ بِلَا فَسْخٍ فِي الْأَظْهَرِ . وَأَمَّا إذَا نَقَصَتْ
الْمَنْفَعَةُ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَتْ
الْمَنْفَعَةُ نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ . فَيُقَالُ :
كَمْ أُجْرَةُ الْأَرْضِ مَعَ حُصُولِ الْمَاءِ الْمُعْتَادِ ؟ فَيُقَالُ : أَلْفُ
دِرْهَمٍ . وَيُقَالُ كَمْ أُجْرَتُهَا مَعَ نَقْصِ الْمَطَرِ هَذَا النَّقْصُ ؟
فَيُقَالُ : خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ . فَيَحُطُّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ نِصْفَ
الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ فَإِنَّهُ تَلِفَ بَعْضُ الْمَنْفَعَةِ
الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْعَقْدِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَائِهَا فَهُوَ
كَمَا لَوْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيع قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَ الْأَرْضَ جَرَادٌ أَوْ نَارٌ أَوْ جَائِحَةٌ أَتْلَفَ
بَعْضَ الزَّرْعِ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ
الْمَنْفَعَةِ . وَأَمَّا مَا تَلِفَ مِنْ الزَّرْعِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ
مَالِكِهِ لَا يَضْمَنُهُ لَهُ رَبُّ
الْأَرْضِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَلَمَّا رَأَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا ظَنَّ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ كَوْنِ الْمَنْفَعَةِ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُؤَجِّرِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ ؛ بِخِلَافِ الزَّرْعِ نَفْسِهِ . فَإِنَّهُ لَيْسَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَقَصَتْ الْمَنْفَعَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ بِالْعَقْدِ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ طَاحُونًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا لَهُ مَاءٌ مَعْلُومٌ فَنَقَصَ ذَلِكَ الْمَاءُ نَقْصًا فَاحِشًا عَمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ؛ بِخِلَافِ الْجَائِحَةِ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ فَإِنَّ فِيهَا نِزَاعًا مَشْهُورًا . فَلَوْ اشْتَرَى ثَمَرًا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ ؛ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الَّذِي عَلَّقَهُ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ وَقَدْ صَحَّ الْخَبَرُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنْ بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَخِيك شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } . وَاشْتَرَطَ مَالِكٍ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَوْقَ الثُّلُثِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ وَضْعُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ . وَالْمَسْأَلَةُ لَا تَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَمَا بَعْدَهُ ؛ بَلْ يُوجِبُ الْعَقْدَ عِنْدَ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ مُطْلَقًا وَلَوْ شَرَطَ التَّبْقِيَةَ وَلَوْ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ لَمْ يَجُزْ . وَالثَّلَاثَةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَمَا
بَعْدَهُ
. كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ . وَأَمَّا ضَمَانُ
الْبَسَاتِينِ عَامًا أَوْ أَعْوَامًا لِيَسْتَغِلَّهَا الضَّامِنُ بِسَقْيِهِ
وَعَمَلِهِ كَالْإِجَارَةِ فَفِيهَا نِزَاعٌ . وَكَذَلِكَ إذَا بَدَا الصَّلَاحُ
فِي جِنْسٍ مِنْ الثَّمَرِ كَالتُّوتِ فَهَلْ يُبَاعُ جَمِيعُ الْبُسْتَانِ ؟
فِيهِ نِزَاعٌ . وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ هَذَا وَهَذَا . كَمَا قَدْ بُسِطَ
الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ يَكْتَرِي أَرْضًا لِلزَّرْعِ فَتُصِيبُهُ آفَةٌ فَيَهْلَكُ فَهَلْ
فِيهِ جَائِحَةٌ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا اكْتَرَى أَرْضًا لِلزَّرْعِ فَأَصَابَتْهُ آفَةٌ . فَهَذِهِ "
مَسْأَلَةُ وَضْعِ الْجَوَائِحِ فِي الثَّمَرِ " فَإِنْ اشْتَرَى ثَمَرًا
قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ أَتْلَفَتْهُ قَبْلَ كَمَالِ
صَلَاحِهِ فَإِنَّهُ يَتْلَفُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ عِنْدَ فُقَهَاءِ
الْمَدِينَةِ . كَمَالِكِ وَغَيْرِهِ . وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ
وَغَيْرِهِ . وَهُوَ قَوْلٌ مُعَلَّقٌ لِلشَّافِعِيِّ ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيِّ
عَلَّقَ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ . وَالْحَدِيثُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
{ إذَا بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَخِيك شَيْئًا . بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } . وَالِاعْتِبَارُ يُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ فَإِنَّ الْمَبِيع تَلِفَ قَبْلَ تَمَكُّنِ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَتْ مَنَافِعُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَائِهَا . فَإِذَا قِيلَ : هَذِهِ الثَّمَرَةُ تَلِفَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَكْمُلْ صَلَاحُهَا مِنْ جِنْسِ قَبْضِ الْمَنَافِعِ ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ جِذَاذُهَا بَعْدَ كَمَالِ الصَّلَاحِ ؛ وَلِهَذَا إذَا شَرَطَ الْمُشْتَرِي فِي قَبْضِهَا بَعْدَ كَمَالِ الصَّلَاحِ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِهِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاء هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ الْجِذَاذِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لِلْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ إذْ لَوْ كَانَتْ مَقْبُوضَةً لَكَانَتْ مِنْ ضَمَانِهِ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ بَيْعُهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهَا الْقَبْضَ الْمُبِيحَ لِلتَّصَرُّفِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا الْقَبْضَ النَّاقِلَ لِلضَّمَانِ كَقَبْضِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ فَإِنَّهُ إذَا قَبَضَهَا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَنَافِعِ وَإِنْ كَانَتْ إذَا تَلِفَتْ تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ ؛ لَكِنْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ : هَلْ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا بِأَكْثَرِ مِمَّا اسْتَأْجَرَهَا بِهِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ .
قِيلَ
: يَجُوزُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ فِيمَا لَمْ يُضْمَنْ ؛ لِأَنَّ
الْمَنَافِعَ لَمْ يَضْمَنْهَا . وَقِيلَ : إنْ أَحْدَثَ فِيهَا عِمَارَةً جَازَ
وَإِلَّا فَلَا . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ
بِالْقَبْضِ بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَوْفِهَا تَلِفَتْ مِنْ ضَمَانِهِ
لَا مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ كَمَا لَوْ تَلِفَ الثَّمَرُ بَعْدَ بُدُوِّ
صَلَاحِهِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ جِذَاذِهِ ؛ وَلَكِنْ إذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ
الْمُؤَجَّرَةُ كَانَتْ الْمَنَافِعُ تَالِفَةً مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ ؛
لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِيفَائِهَا فَيُفَرَّقُ بَيْنَ
مَا قَبْلَ التَّمَكُّنِ وَبَعْدَهُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلِازْدِرَاعِ فَأَصَابَتْهَا آفَةٌ فَإِذَا
تَلِفَ الزَّرْعُ بَعْدَ تَمَكُّنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ أَخْذِهِ مِثْلَ أَنْ
يَكُونَ فِي الْبَيْدَرِ فَيَسْرِقَهُ اللِّصُّ أَوْ يُؤَخِّرَ حَصَادَهُ عَنْ
الْوَقْتِ حَتَّى يَتْلَفَ . فَهُنَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأُجْرَةُ .
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْآفَةُ مَانِعَةً مِنْ الزَّرْعِ فَهُنَا لَا أُجْرَةَ
عَلَيْهِ بِلَا نِزَاعٍ . وَأَمَّا إذَا نَبَتَ الزَّرْعُ وَلَكِنَّ الْآفَةَ
مَنَعَتْهُ مِنْ تَمَامِ صَلَاحِهِ مِثْلَ
نَارٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْسِدُهُ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ زَرْعٌ غَيْرُهُ لَأَتْلَفَتْهُ . فَهُنَا فِيهِ قَوْلَانِ : أَظْهُرُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآفَةَ أَتْلَفَتْ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ بِالْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ الْمَنْفَعَةُ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الزَّرْعُ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ حَصَادِهِ فَإِذَا حَصَلَ لِلْأَرْضِ مَا يَمْنَعُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ مُطْلَقًا بَطَلَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَائِهِ . وَمِثْلَ هَذَا لَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ سَبْخَةً فَتَلِفَ الزَّرْعُ أَوْ كَانَتْ إلَى جَانِبِ بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ فَأَتْلَفَ الْمَاءُ تِلْكَ الْأَرْضَ قَبْلَ كَمَالِ الزَّرْعِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا تَتْلَفُ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ . وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أُجْرَةٌ مَا تَعَطَّلَ الِانْتِفَاعُ بِهِ . كَمَا لَوْ مَاتَتْ الدَّابَّةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ وَلَمْ يُمْكِنْ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالْعَقْدِ وَأَمْثَالِ هَذِهِ الصُّوَرِ . وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ أَنْ يَسْرِقَ مَالَهُ أَوْ يَحْتَرِقَ مِنْ الدَّارِ ؛ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ بِالْعَقْدِ لَمْ تَتَغَيَّرْ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا هُوَ وَغَيْرُهُ ؛ بِأَنْ يَحْفَظَهَا مِنْ اللِّصِّ أَوْ الْحَرِيقِ . وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَتْلَفَ الْمَالُ الَّذِي اكْتَرَى الدَّابَّةَ لِحَمْلِهِ ؛ فَإِنَّ الْأُجْرَةَ عَلَيْهِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْآفَةُ مَانِعَةً مِنْ الِانْتِفَاعِ مُطْلَقًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِ الدَّابَّةِ وَاحْتِرَاقِ الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ . وَنَظِيرُ سَرِقَةِ
مَتَاعِهِ
مِنْ الدَّارِ : أَنْ يَسْرِقَ سَارِقٌ زَرْعَهُ . وَأَمَّا إذَا جَاءَ جَيْشٌ
عَامٌّ فَأَفْسَدَ الزَّرْعَ فَهَذِهِ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا
يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ ؛ وَلَا الِاحْتِرَازُ مِنْهُ . وَنَظِيرُهُ أَنْ يَجِيءَ
جَيْشٌ عَامٌّ فَيُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ :
فِي " وَضْعِ الْجَوَائِحِ " فِي الْمُبَايَعَاتِ وَالضَّمَانَاتِ
وَالْمُؤَاجَرَاتِ مِمَّا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ . وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي
" قَاعِدَةِ تَلَفِ الْمَقْصُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ
مِنْ قَبْضِهِ " .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى - فِيمَا ذَمَّ بِهِ بَنِي إسْرَائِيلَ - { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } . وَمَنْ أَكَلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ أَخَذَ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ بِدُونِ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ هُوَ التَّقَابُضُ فَكُلٌّ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ يَطْلُبُ مِنْ الْآخَرِ تَسْلِيمَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ } أَيْ تَتَعَاهَدُونَ وَتَتَعَاقَدُونَ وَهَذَا هُوَ مُوجَبُ الْعُقُودِ وَمُقْتَضَاهَا ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعَقْدِ مَا طَلَبَهُ الْآخَرُ وَسَأَلَهُ مِنْهُ . فَالْعُقُودُ مُوجِبَةٌ للقبوض ؛ والقبوض هِيَ الْمَسْئُولَةُ الْمَقْصُودَةُ الْمَطْلُوبَةُ ؛ وَلِهَذَا تَتِمُّ الْعُقُودُ بِالتَّقَابُضِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرَانِ بَعْدَ التَّقَابُضِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهَا أَوْ تَحَاكَمَا إلَيْنَا لَمْ نَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ لِانْقِضَاءِ الْعُقُودِ بِمُوجَبَاتِهَا ؛ وَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَإِيجَابٌ عَلَى النُّفُوسِ بِلَا حُصُولِ مَقْصُودٍ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَلَا لَهُمَا ؛ وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْسِرَ الَّذِي مِنْهُ بَيْعُ الْغَرَرِ . وَمِنْ الْغَرَرِ مَا يُمْكِنُهُ قَبْضُهُ
وَعَدَمُ قَبْضِهِ : كَالدَّوَابِّ الشَّارِدَةِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَقْدِ - وَهُوَ الْقَبْضُ - غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ . وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي " بَيْعِ الدَّيْنِ عَلَى الْغَيْرِ " وَفِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ مَنْعَهُ . وَبِهَذَا وَقَعَ التَّعْلِيلُ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ قِيلَ : وَمَا تُزْهِيَ ؟ قَالَ : حَتَّى تَحْمَرَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْت إذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ } وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ : { نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَعَنْ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ ؟ قِيلَ : وَمَا يَزْهُو ؟ قَالَ : يَحْمَارُّ وَيَصْفَارُّ } وَفِي لَفْظٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى تَزْهُوَ فَقُلْت لِأَنَسٍ : مَا زَهْوُهَا ؟ قَالَ : تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيك ؟ } وَهَذِهِ أَلْفَاظُ الْبُخَارِيِّ . وَعِنْدَ مُسْلِمٍ { نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ وَعِنْدَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنْ لَمْ يُثْمِرْهَا اللَّهُ فَبِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ ؟ } قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ : جَعَلَ مَالِكٍ والدراوردي قَوْلَ أَنَسٍ : أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ - مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَدْرَجَاهُ فِيهِ وَيَرَوْنَ أَنَّهُ غَلِطَ .
وَفِيمَا قَالَهُ أَبُو مَسْعُودٍ نَظَرٌ . وَهَذَا الْأَصْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ فِيهِ نِزَاعٌ وَهُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَجِبُ اتِّفَاقُ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ فِيهَا فِي الْجُمْلَةِ ؛ فَإِنَّ مَبْنَى ذَلِكَ عَلَى الْعَدْلِ وَالْقِسْطِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَبِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ كَالْمُبَايَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُعَادَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَمْ يَبْذُلْ أَحَدُهُمَا مَا بَذَلَهُ إلَّا لِيَحْصُلَ لَهُ مَا طَلَبَهُ . فَكُلٌّ مِنْهُمَا آخِذٌ مُعْطٍ طَالِبٌ مَطْلُوبٌ . فَإِذَا تَلِفَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ - مِثْلَ تَلَفِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهَا وَتَلَفِ مَا بِيعَ بِكَيْلِ أَوْ وَزْنٍ قَبْلَ تَمْيِيزِهِ بِذَلِكَ وَإِقْبَاضِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُؤَجِّرِ أَوْ الْمُشْتَرِي أَدَاءُ الْأُجْرَةِ أَوْ الثَّمَنِ . ثُمَّ إنْ كَانَ التَّلَفُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ ضَمَانُهُ - وَهُوَ التَّلَفُ بِأَمْرِ سَمَاوِيٍّ - بَطَلَ الْعَقْدُ وَوَجَبَ رَدُّ الثَّمَنِ إلَى الْمُشْتَرِي إنْ كَانَ قَبَضَ مِنْهُ وَبَرِئَ مِنْهُ إنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ . وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ فِيهِ الضَّمَانُ وَهُوَ أَنْ يُتْلِفَهُ آدَمِيٌّ يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ فَلِلْمُشْتَرِي الْفَسْخُ لِأَجْلِ تَلَفِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ وَلَهُ الْإِمْضَاءُ لِإِمْكَانِ مُطَالَبَةِ الْمُتْلِفِ . فَإِنْ
فَسَخَ كَانَتْ مُطَالَبَةُ الْمُتْلِفِ لِلْبَائِعِ وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ إنْ كَانَ قَبَضَهُ وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ كَانَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُتْلِفِ ؛ لَكِنَّ الْمُتْلِفَ لَا يُطَالَبُ إلَّا بِالْبَدَلِ الْوَاجِبِ بِالْإِتْلَافِ وَالْمُشْتَرِي لَا يُطَالِبُ إلَّا بِالْمُسَمَّى الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ : إنَّ الْمُتْلِفَ إمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْبَائِعَ أَوْ الْمُشْتَرِيَ أَوْ ثَالِثًا أَوْ يَكُونَ بِأَمْرِ سَمَاوِيٍّ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِيَ فَإِتْلَافُهُ كَقَبْضِهِ يَسْتَقِرُّ بِهِ الْعِوَضُ . وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِ سَمَاوِيٍّ انْفَسَخَ الْعَقْدُ . وَإِنْ كَانَ ثَالِثًا فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ . وَإِنْ كَانَ الْمُتْلِفُ هُوَ الْبَائِعُ فَأَشْهَرُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ كَإِتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ . وَالثَّانِي أَنَّهُ كَالتَّلَفِ السَّمَاوِيِّ . وَهَذَا الْأَصْلُ مُسْتَقِرٌّ فِي جَمِيعِ الْمُعَاوَضَاتِ إذَا تَلِفَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ تَلَفًا لَا ضَمَانَ فِيهِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ الضَّمَانُ كَانَ فِي الْعَقْدِ الْخِيَارُ . وَكَذَلِكَ سَائِر الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ فِيهَا حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ إيَاسٍ : مِثْلَ أَنْ يَغْصِبَ الْمَبِيع أَوْ الْمُسْتَأْجَرَ غَاصِبٌ أَوْ يُفْلِسَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ أَوْ يَتَعَذَّرُ فِيهَا مَا تَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجَةُ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقَسْمِ أَوْ مَا يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ مِنْ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِهَا وَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَمَامُ الْعَقْدِ وَنِهَايَتُهُ وَلَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ حُصُولِ الصِّلَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَحَدُ مَقْصُودَيْ الْعَقْدِ ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَتْ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ فِي غَيْرِ الرَّبِيبَةِ .
فَصْلٌ
:
وَالْأَصْلُ فِي أَنَّ تَلَفَ الْمَبِيع وَالْمُسْتَأْجَرِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ
مِنْ قَبْضِهِ يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ : مِنْ السُّنَّةِ : مَا رَوَاهُ
مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرًا
فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِمَ
تَأْخُذُ مَالَ أَخِيك بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : { أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ
} . فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ إذَا بَاعَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا
يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا . ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ
وَعِلَّتَهُ فَقَالَ : { بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيك بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } وَهَذَا
دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَحْرِيمِ أَكْلِ
الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَأَنَّهُ إذَا تَلِفَ الْمَبِيع قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ
قَبْضِهِ كَانَ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ أَخْذَ مَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ بَلْ
بِالْبَاطِلِ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ؛ لِأَنَّهُ
مِنْ الظُّلْمِ الْمُخَالِفِ لِلْقِسْطِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ السَّمَاءُ
وَالْأَرْضُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي هَذَا الْبَابِ .
وَالْعُلَمَاءُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي حُكْمِ هَذَا الْحَدِيثِ - كَمَا سَنَذْكُرُهُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَلَفَ الْمَبِيع قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ وَيُحَرِّمُ أَخْذَ الثَّمَنِ - فَلَسْت أَعْلَمُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا صَحِيحًا صَرِيحًا فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ : " أَنَّ تَلَفَ الْمَبِيع قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ " غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ . وَهَذَا لَهُ نَظَائِرُ مُتَعَدِّدَةٌ قَدْ يَنُصُّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصًّا يُوجِبُ قَاعِدَةً وَيَخْفَى النَّصُّ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى يُوَافِقُوا غَيْرَهُمْ عَلَى بَعْضِ أَحْكَامِ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ وَيَتَنَازَعُوا فِيمَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ فِيهِ النَّصُّ : مِثْلَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَمُنَازَعَتِهِمْ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ . وَهُمَا ثَابِتَانِ بِالنَّصِّ وَالْمُضَارَبَةُ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ وَإِنَّمَا فِيهَا عَمَلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَلِهَذَا كَانَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ يُؤَصِّلُونَ أَصْلًا بِالنَّصِّ وَيُفَرِّعُونَ عَلَيْهِ - لَا يُنَازِعُونَ فِي الْأَصْلِ الْمَنْصُوصِ وَيُوَافِقُونَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ - وَيَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ ظُهُورُ الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ؛ لِهَيْبَةِ الِاتِّفَاقِ فِي الْقُلُوبِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ خِلَافُهُ . وَتَوَقَّفَ بَعْضُ النَّاسِ فِي الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ . وَقَدْ يَكُونُ حُكْمُهُ أَقْوَى مِنْ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ . وَإِنْ خَفِيَ مُدْرَكُهُ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَانِعِ
مِنْ قُوَّتِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَتَّى يَقْطَعَ بِهِ مَنْ ظَهَرَ لَهُ مُدْرَكُهُ . وَوَضْعُ الْجَوَائِحِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ وَبِالْعَمَلِ الْقَدِيمِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَبِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَالْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ ؛ بَلْ عِنْدَ التَّأَمُّلِ الصَّحِيحِ لَيْسَ فِي الْعُلَمَاءِ مَنْ يُخَالِفُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى التَّحْقِيقِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ بِهِ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَهُمْ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى زَمَنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْ عُلَمَائِهِمْ : كَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَاضِي وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ . وَأَمَّا فِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ فَإِنَّهُ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ صِحَّتَهُ فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ أَعُدَّهُ وَلَوْ كُنْت قَائِلًا بِوَضْعِهَا لَوَضَعْتهَا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَجْزِمْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ صِحَّتَهُ . وَعَلَّقَ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ فَقَالَ : لَوْ ثَبَتَ لَمْ أَعُدَّهُ . وَالْحَدِيثُ ثَابِتٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَمْ يَقْدَحْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ ؛ بَلْ صَحَّحُوهُ وَرَوَوْهُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ . فَظَهَرَ وُجُوبُ الْقَوْلِ بِهِ
عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ أَصْلًا . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لَا يَتَصَوَّرُ الْخِلَافَ مَعَهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ : أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَبَعْدَهُ وَمُطْلَقُ الْعَقْدِ عِنْدَهُ وُجُوبُ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ . وَلَوْ شَرَطَ التَّبْقِيَةَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ ؛ بِنَاءً عَلَى مَا رَآهُ مِنْ أَنَّ الْعَقْدَ مُوجِبٌ التَّقَابُضَ فِي الْحَالِ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَإِذَا تَلِفَ الثَّمَرُ عِنْدَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالتَّخْلِيَةِ فَقَدْ تَلِفَ بَعْدَ وُجُوبِ قَطْعِهِ كَمَا لَوْ تَلِفَ عِنْدَ غَيْرِهِ بَعْدَ كَمَالِ صَلَاحِهِ . وَطَرَدَ أَصْلَهُ فِي الْإِجَارَةِ فَعِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ الْمَنَافِعَ فِيهَا إلَّا بِالْقَبْضِ شَيْئًا فَشَيْئًا لَا تُمْلَكُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَقَبْضِ الْعَيْنِ ؛ وَلِهَذَا يَفْسَخُهَا بِالْمَوْتِ وَغَيْرِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاتِرَةٌ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَقَبْلَ بُدُوِّهِ كَمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ حَيْثُ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ . حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الصِّحَاحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ . فَلَوْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ مِمَّنْ يَقُولُ بِبَيْعِ الثِّمَارِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُبْقَاةً إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ ظَهَرَ النِّزَاعُ مَعَهُ . وَاَلَّذِينَ يُنَازِعُونَ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ الْمَبِيع إذَا
تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ ؛ بَلْ الشَّافِعِيِّ أَشَدُّ النَّاسِ فِي ذَلِكَ قَوْلًا ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ : إذَا تَلِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ فِي كُلِّ مَبِيعٍ وَيَطْرُدُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِهِ فِي كُلِّ مَنْقُولٍ . وَمَالِكٍ وَأَحْمَد الْقَائِلَانِ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ يُفَرِّقَانِ بَيْنَ مَا أَمْكَنَ قَبْضُهُ كَالْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ وَمَا لَمْ يُمْكِنْ قَبْضُهُ ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : " مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَبًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي " . وَأَمَّا النِّزَاعُ فِي أَنَّ تَلَفَ الثَّمَرِ قَبْلَ كَمَالِ صَلَاحِهِ تَلَفٌ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ أَمْ لَا ؟ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : هَذَا تَلِفَ بَعْدَ قَبْضِهِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ حَصَلَ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا قَبْضُ الْعَقَارِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَجَوَازُ التَّصَرُّفِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيع قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ فَهَذَا سِرُّ قَوْلِهِمْ . وَقَدْ احْتَجُّوا بِظَاهِرِ مِنْ أَحَادِيثَ معتضدين بِهَا . مِثْلَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : { أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغُرَمَائِهِ : خُذُوا مَا
وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ } وَمِثْلَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إنَّ ابْنِي اشْتَرَى ثَمَرَةً مِنْ فُلَانٍ فَأَذْهَبَتْهَا الْجَائِحَةُ فَسَأَلَهُ أَنْ يَضَعَ عَنْهُ فَتَأَلَّى أَلَّا يَفْعَلَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأَلَّى أَنْ لَا يَفْعَلُ خَيْرًا } . وَلَا دَلَالَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ . أَمَّا الْأَوَّلُ : فَكَلَامٌ مُجْمَلٌ فَإِنَّهُ حَكَى أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى ثِمَارًا فَكَثُرَتْ دُيُونُهُ فَيُمْكِنُ أَنَّ السِّعْرَ كَانَ رَخِيصًا فَكَثُرَ دَيْنُهُ لِذَلِكَ . وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا تَلِفَتْ أَوْ بَعْضُهَا بَعْدَ كَمَالِ الصَّلَاحِ أَوْ حَوْزِهَا إلَى الْجَرِينِ أَوْ إلَى الْبَيْتِ أَوْ السُّوقِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَبْلَ نَهْيِهِ أَنْ تُبَاعَ الثِّمَارُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا . وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا كَانَ مُخَالِفًا لَكَانَ مَنْسُوخًا ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ وَذَاكَ نَاقِلٌ عَنْهُ وَفِيهِ سُنَّةٌ جَدِيدَةٌ فَلَوْ خُولِفَتْ لَوَقَعَ التَّغْيِيرُ مَرَّتَيْنِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَأَلَّى أَلَّا يَفْعَلَ خَيْرًا } وَالْخَيْرُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا وَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ لِعَدَمِ مُطَالَبَةِ الْخَصْمِ وَحُضُورِ الْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ وَلَعَلَّ التَّلَفَ كَانَ بَعْدَ كَمَالِ الصَّلَاحِ . وَقَدْ اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى حَدِيثِ الْجَوَائِحِ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ . وَهَذَا بَاطِلٌ لِعِدَّةِ أَوْجُهٍ .
أَحَدُهَا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا بِعْت مِنْ
أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ } وَالْبَيْعُ الْمُطْلَقُ لَا يَنْصَرِفُ
إلَّا إلَى الْبَيْعِ الصَّحِيحِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَطْلَقَ بَيْعَ الثَّمَرَةِ وَلَمْ يَقُلْ قَبْلَ بُدُوِّ
صَلَاحِهَا . فَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِبَيْعِهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَلَا
وَجْهَ لَهُ .
الثَّالِثُ أَنَّهُ قَيَّدَ ذَلِكَ بِحَالِ الْجَائِحَةِ وَبَيْعِ الثَّمَرِ
قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ لَا يَجِبُ فِيهِ ثَمَنٌ بِحَالِ . ( الرَّابِعُ أَنَّ
الْمَقْبُوضَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ مَضْمُونٌ فَلَوْ كَانَ الثَّمَرُ عَلَى
الشَّجَرِ مَقْبُوضًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي فِي
الْعَقْدِ الْفَاسِدِ . وَهَذَا الْوَجْهُ يُوجِبُ أَنْ يَحْتَجَّ بِحَدِيثِ
أَنَسٍ عَلَى وَضْعِ الْجَوَائِحِ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ كَمَا تُوضَعُ فِي
الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّ مَا ضُمِنَ فِي الصَّحِيحِ ضُمِنَ فِي الْفَاسِدِ
وَمَا لَا يُضْمَنْ فِي الصَّحِيحِ لَا يُضْمَنُ فِي الْفَاسِدِ . وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ : إنَّهُ تَلِفَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَمَمْنُوعٌ بَلْ نَقُولُ : ذَلِكَ
تَلِفَ قَبْلَ تَمَامِ الْقَبْضِ وَكَمَالِهِ ؛ بَلْ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ
الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَلَيْهِ تَمَامُ التَّرْبِيَةِ مِنْ سَقْيِ
الثَّمَرِ حَتَّى لَوْ تَرَكَ ذَلِكَ لَكَانَ مُفَرِّطًا وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ
الْبَائِعَ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ التَّخْلِيَةِ فَالْمُشْتَرِي
إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَقْبِضَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ الْمُعْتَادِ .
فَقَدْ وُجِدَ التَّسْلِيمُ دُونَ تَمَامِ التَّسَلُّمِ . وَذَلِكَ
أَحَدُ طَرَفَيْ الْقَبْضِ . وَلَمْ يَقْدِرْ الْمُشْتَرِي إلَّا عَلَى ذَلِكَ . وَإِنَّمَا عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبِضَ الْمَبِيع عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ الْمُعْتَادِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَبْضُ مُسْتَعْقِبًا لِلْعَقْدِ أَوْ مُسْتَأْخِرًا . وَسَوَاءٌ كَانَ جُمْلَةً أَوْ شَيْئًا فَشَيْئًا . وَنَحْنُ نَطْرُدُ هَذَا الْأَصْلَ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقَبْضِ أَنْ يَسْتَعْقِبَ الْعَقْدَ ؛ بَلْ الْقَبْضُ يَجِبُ وُقُوعُهُ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ ؛ لَفْظًا وَعُرْفًا ؛ وَلِهَذَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْمَبِيع مُدَّةً مُعَيَّنَةً وَإِنْ تَأَخَّرَ بِهَا الْقَبْضُ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ وَيَجُوزُ بَيْعُ الشَّجَرِ وَاسْتِثْنَاءُ ثَمَرِهِ لِلْبَائِعِ وَإِنْ تَأَخَّرَ مَعَهُ كَمَالُ الْقَبْضِ . وَيَجُوزُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ لِمُدَّةِ لَا تَلِي الْعَقْدَ . وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الْقَبْضَ هُوَ مُوجَبُ الْعَقْدِ فَيَجِبُ فِي ذَلِكَ مَا أَوَجَبَهُ الْعَاقِدَانِ بِحَسَبِ قَصْدِهِمَا الَّذِي يَظْهَرُ بِلَفْظِهِمَا وَعُرْفِهِمَا ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا إنْ شَرَطَا تَعْجِيلَ الْقَطْعِ جَازَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَسَادٌ يَحْظُرُهُ الشَّرْعُ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا . وَإِنْ أَطْلَقَا فَالْعُرْفُ تَأْخِيرُ الْجِذَاذِ وَالْحَصَادِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ . وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْقَبْضَ هُوَ التَّخْلِيَةُ فَالْقَبْضُ مَرْجِعُهُ إلَى عُرْفِ النَّاسِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ . وَقَبْضُ ثَمَرِ الشَّجَرِ
لَا
بُدَّ فِيهِ مِنْ الْخِدْمَةِ وَالتَّخْلِيَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ إلَى كَمَالِ
الصَّلَاحِ ؛ بِخِلَافِ قَبْضِ مُجَرَّدِ الْأُصُولِ . وَتَخْلِيَةُ كُلِّ شَيْءٍ
بِحَسْبِهِ . وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْمَنَافِعُ فِي الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ .
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْبَيْعِ فَعَنْ
أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ :
إحْدَاهُمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَا دَامَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ ؛
لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَلَا يَجُوزُ . وَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ
الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ . وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ
فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنَافِعِ الْإِجَارَةِ بِأَنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ قَبْلَ
الِاسْتِيفَاءِ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجَّرِ بِالِاتِّفَاقِ وَمَعَ هَذَا
فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ حَصَلَ الْإِقْبَاضُ الْمُمْكِنُ فَجَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ
بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الضَّمَانِ ؛ لِانْتِفَاءِ
كَمَالِهِ وَتَمَامِهِ الَّذِي بِهِ يَقْدِرُ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَأْجِرُ
عَلَى الِاسْتِيفَاءِ وَعَلَى هَذَا فَعِنْدَنَا لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ جَوَازِ
التَّصَرُّفِ وَالضَّمَانِ ؛ بَلْ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ بِلَا ضَمَانٍ كَمَا هُنَا
. وَقَدْ يَحْصُلُ الضَّمَانُ بِلَا جَوَازِ تَصَرُّفٍ كَمَا فِي الْمَقْبُوضِ
قَبْضًا فَاسِدًا كَمَا لَوْ اشْتَرَى قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ فَقَبَضَ
الصُّبْرَةَ كُلَّهَا وَكَمَا فِي الصُّبْرَةِ قَبْلَ نَقْلِهَا عَلَى إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ . اخْتَارَهَا الخرقي . وَقَدْ يَحْصُلَانِ جَمِيعًا . وَقَدْ
لَا يَحْصُلَانِ جَمِيعًا .
وَلَنَا فِي جَوَازِ إيجَارِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ بِأَكْثَرِ مِنْ أُجْرَتِهَا رِوَايَتَانِ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ . وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ : إنْ زَادَ فِيهَا عِمَارَةً جَازَتْ زِيَادَةُ الْأُجْرَةِ فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ . فَالرِّوَايَتَانِ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ الْمُشْتَرَاةِ نَظِيرُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي إيجَارِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ . وَلَوْ قِيلَ فِي الثِّمَارِ : إنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ كَرِوَايَةِ الْمَنْعِ فِي الْإِجَارَةِ لَتَوَجَّهَ ذَلِكَ . وَبِهَذَا الْكَلَامِ يَظْهَرُ الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ وَإِنَّ ذَلِكَ تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ كَتَلَفِ الْمَنَافِعِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا مَقْصُودُهَا تَمَكُّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِ الْمَبِيع وَالثَّمَرُ عَلَى الشَّجَرِ لَيْسَ بِمُحْرَزٍ وَلَا مَقْبُوضٍ ؛ وَلِهَذَا لَا قَطْعَ فِيهِ . وَلَا الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ كَوْنُهُ عَلَى الشَّجَرِ ؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ حَصَادُهُ وَجِذَاذُهُ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ مَا بِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ جِذَاذِهِ وَسَقْيِهِ وَالْأَجْزَاءُ الْحَادِثَةُ بَعْدَ الْبَيْعِ دَاخِلَةٌ فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً كَمَا تَدْخُلُ الْمَنَافِعُ فِي الْإِجَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً . فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَعْدُومُ مَقْبُوضًا قَبْضًا مُسْتَقِرًّا مُوجِبًا لِانْتِقَالِ الضَّمَانِ ؟.
فَصْلٌ
:
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَتَفَرَّعُ الْمَسَائِلُ . فَالْجَائِحَةُ هِيَ
الْآفَاتُ السَّمَاوِيَّةُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ مَعَهَا تَضْمِينُ أَحَدٍ :
مِثْلَ الرِّيحِ وَالْبَرْدِ وَالْحَرِّ وَالْمَطَرِ وَالْجَلِيدِ وَالصَّاعِقَةِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا لَوْ تَلِفَ بِهَا غَيْرُ هَذَا الْمَبِيع . فَإِنْ
أَتْلَفَهَا آدَمِيٌّ يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ أَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ فَقَالَ
أَصْحَابُنَا كَالْقَاضِي وَغَيْرِهِ : هِيَ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِ الْمَبِيع
قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْإِمْضَاءِ
وَالْفَسْخِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَإِنْ أَتْلَفَهَا مِنْ الْآدَمِيِّينَ مَنْ لَا
يُمْكِنُ ضَمَانُهُ كَالْجُيُوشِ الَّتِي تَنْهَبُهَا وَاللُّصُوصِ الَّذِينَ
يُخَرِّبُونَهَا : فَخَرَّجُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : لَيْسَتْ جَائِحَةً لِأَنَّهَا مِنْ فِعْلِ آدَمِيٍّ .
وَالثَّانِي : وَهُوَ قِيَاسُ أُصُولِ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا جَائِحَةٌ وَهُوَ
مَذْهَبُ مَالِكٍ . كَمَا قُلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَنَافِعِ الْإِجَارَةِ
لِأَنَّ الْمَأْخَذَ إنَّمَا هُوَ إمْكَانُ الضَّمَانِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ
الْمُتْلِفُ جُيُوشَ الْكُفَّارِ أَوْ أَهْلَ الْحَرْبِ كَانَ ذَلِكَ كَالْآفَةِ
السَّمَاوِيَّةِ . وَالْجُيُوشِ وَاللُّصُوصِ وَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ ظُلْمًا
وَلَمْ يُمْكِنْ تَضْمِينُهُمْ : فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْبَرْدِ فِي الْمَعْنَى .
وَلَوْ كَانَتْ الْجَائِحَةُ قَدْ عَيَّبَتْهُ وَلَمْ تُتْلِفْهُ فَهُوَ
كَالْعَيْبِ
الْحَادِثِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ وَهُوَ كَالْعَيْبِ الْقَدِيمِ يَمْلِكُ بِهِ أَوْ الْأَرْشِ حَيْثُ يَقُولُ بِهِ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَلَفِ الْمَبِيع قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْجَائِحَةِ وَكَثِيرِهَا فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ . وَهِيَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى . وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْجَائِحَةَ الثُّلُثُ فَمَا زَادَ كَقَوْلِ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَلَفِ بَعْضِ الثَّمَرِ فِي الْعَادَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيرِ الْجَائِحَةِ فَتُقَدَّرُ بِالثُّلُثِ كَمَا قُدِّرَتْ بِهِ الْوَصِيَّةُ وَالنُّذُرُ وَمَوَاضِعُ فِي الْجِرَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } . وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى يُقَالُ : الْفَرْقُ مَرْجِعُهُ إلَى الْعَادَةِ فَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِسُقُوطِهِ أَوْ أَكَلَ الطَّيْرُ أَوْ غَيْرُهُ لَهُ فَهُوَ مَشْرُوطٌ فِي الْعَقْدِ وَالْجَائِحَةُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْعَادَةِ وُضِعَتْ جَمِيعُهَا وَكَذَلِكَ إذَا زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ وَقُلْنَا بِتَقْدِيرِهِ فَإِنَّهَا تُوضَعُ جَمِيعُهَا . وَهَلْ الثُّلُثُ مُقَدَّرٌ بِثُلُثِ الْقِيمَةِ أَوْ ثُلُثِ الْمِقْدَارِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ .
فَصْلٌ
:
وَالْجَوَائِحُ مَوْضُوعَةٌ فِي جَمِيعِ الشَّجَرِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ
مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا
الْجَوَائِحُ فِي النَّخْلِ وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الْقَاضِي عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ
إخْرَاجَ الزَّرْعِ وَالْخُضَرِ مِنْ ذَلِكَ وَيُمْكِنُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ
لَفْظَ الْجَوَائِحِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ هُوَ فِي النَّخْلِ وَبَاقِي
الشَّجَرِ ثَابِتَةٌ بِالْقِيَاسِ لَا بِالنَّصِّ ؛ فَإِنَّ شَجَرَ الْمَدِينَةِ
كَانَ النَّخْلَ . وَأَمَّا الْجَوَائِحُ فِيمَا يُبْتَاعُ مِنْ الزَّرْعِ فَفِيهِ
وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ . ( أَحَدُهُمَا لَا جَائِحَةَ فِيهَا
. قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا أَشْبَهُ لِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ إلَّا بَعْدَ
تَكَامُلِ صَلَاحِهَا وَأَوَانِ جِذَاذِهَا ؛ بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ فَإِنَّ
بَيْعَهَا جَائِزٌ بِمُجَرَّدِ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَمُدَّتُهُ تَطُولُ . وَعَلَى
هَذَا الْوَجْهِ حَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ أَحْمَدَ : إنَّمَا الْجَوَائِحُ فِي
النَّخْلِ - يَعْنِي لَمَّا كَانَ بِبَغْدَادَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ جَوَائِحِ
الزَّرْعِ فَقَالَ : إنَّمَا الْجَوَائِحُ فِي النَّخْلِ . وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ
مَالِكٍ أَنَّهُ لَا جَائِحَةَ فِي الثَّمَرَةِ إذَا يَبِسَتْ وَالزَّرْعُ لَا
جَائِحَةَ فِيهِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُبَاعُ يَابِسًا وَهَذَا قَوْلُ مَنْ
لَا يَضَعُ الْجَوَائِحَ فِي الثَّمَرِ . كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي
الْقَوْلِ الْجَدِيدِ الْمُعَلَّقِ . ( وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِيهَا الْجَائِحَةُ
كَالثَّمَرَةِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ
غَيْرُ
وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا كَأَبِي مُحَمَّدٍ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ خِلَافًا
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الثَّمَرَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى
يَسْوَدَّ وَبَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ } فَبَيْعُ هَذَا بَعْدَ
اسْوِدَادِهِ كَبَيْعِ هَذَا بَعْدَ اشْتِدَادِهِ . وَمِنْ حِينِ يَشْتَدُّ إلَى
حِينِ يُسْتَحْصَدُ مُدَّةٌ قَدْ تُصِيبُهُ فِيهَا جَائِحَةٌ . وَمِنْ
أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : مَا تَكَرَّرَ حَمْلُهُ كَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ
وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْخُضَرِ وَالْبُقُولِ وَغَيْرِهِمَا فَهُوَ كَالشَّجَرِ
وَثَمَرُهُ كَثَمَرِهِ فِي ذَلِكَ ؛ لِصِحَّةِ بَيْعِ أُصُولِهِ صِغَارًا كَانَتْ
أَوْ كِبَارًا مُثْمِرَةً أَوْ غَيْرَ مُثْمِرَةٍ .
فَصْلٌ :
هَذَا إذَا تَلِفَتْ قَبْلَ كَمَالِ صَلَاحِهَا وَوَقْت جِذَاذِهَا . فَإِنْ
تَرَكَهَا إلَى حِينِ الْجِذَاذِ فَتَلِفَتْ حِينَئِذٍ فَكَذَلِكَ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا . وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي
. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَى الْبَائِعِ
شَيْءٌ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ لَا
خَاصٌّ وَلَا عَامٌّ فَإِنَّ تَأْخِيرَهَا إلَى هَذَا الْحِينِ مِنْ مُوجَبِ
الْعَقْدِ . فَأَصْحَابُنَا رَاعَوْا عَدَمَ تَمَكُّنِ الْمُشْتَرِي وَعَدَمَ
تَفْرِيطِهِ وَالْمُنَازِعِ رَاعَى تَسْلِيمَ الْبَائِعِ وَتَمْكِينَهُ . وَأَمَّا
إنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَجَاوَزَ وَقْتَ نَقْلِهَا وَتَكَامَلَ بُلُوغُهَا ثُمَّ
تَلِفَتْ :
فَفِيهَا
لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ ضَمَانِ
الْبَائِعِ أَيْضًا لِعَدَمِ كَمَالِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ الَّذِي قَطَعَ
بِهِ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ وَهُوَ
مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لَكِنْ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ عَلَّلَهُ
بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ ؛ دُونَ مَا إذَا عَاقَهُ مَرَضٌ أَوْ مَانِعٌ
. وَأَمَّا غَيْرُهُ فَذَهَبُوا إلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَهُوَ عَدَمُ
اعْتِبَارِ إمْكَانِ الرَّفْعِ وَالْجِدِّ . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : هَذَا هُوَ
الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُنَا . وَهُوَ كَمَا قَالَ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ
الثَّمَرَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْإِجَارَةِ . وَلَوْ حَالَ بَيْنَ
الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْنَهَا حَائِلٌ يَخُصُّهُ مِثْلَ مَرَضِهِ وَنَحْوَهُ لَمْ
تَسْقُطْ عَنْهُ الْأُجْرَةُ ؛ بِخِلَافِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ أُجْرَةَ
مَا ذَهَبَ بِهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ .
فَصْلٌ :
هَذَا إذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ وَالزَّرْعَ فَإِنْ اشْتَرَى الْأَصْلَ بَعْدَ
ظُهُورِ الثَّمَرِ أَوْ قَبْلَ التَّأْبِيرِ وَاشْتَرَطَ الثَّمَرَ فَلَا
جَائِحَةَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا . وَلِذَلِكَ
احْتَرَزَ الخرقي مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ فَقَالَ : وَإِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ
دُونَ الْأَصْلِ فَتَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ مِنْ السَّمَاءِ رَجَعَ بِهَا عَلَى
الْبَائِعِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ هُنَا حَصَلَ الْقَبْضُ الْكَامِلُ بِقَبْضِ
الْأَصْلِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ
عَلَى
الْبَائِعِ سَقْيٌ وَلَا مَئُونَةٌ أَصْلًا ؛ فَإِنَّ الْمَبِيع عَقَارٌ
وَالْعَقَارُ قُبِضَ بِالتَّخْلِيَةِ وَالثَّمَرُ دَخَلَ ضِمْنًا وَتَبَعًا
فَإِذَا جَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ صَلَاحِهِ جَازَ هُنَا تَبَعًا . وَلَوْ بِيعَ
مَقْصُودًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ قَبْلَ صَلَاحِهِ .
فَصْلٌ :
هَذَا الْكَلَامُ فِي الْبَيْعِ الْمَحْضِ لِلثَّمَرِ وَالزَّرْعِ . وَأَمَّا
الضَّمَانُ وَالْقَبَالَةُ وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ جَمِيعًا
بِعِوَضِ وَاحِدٍ لِمَنْ يَقُومُ عَلَى الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ وَيَكُونُ الثَّمَرُ
وَالزَّرْعُ لَهُ : فَهَذَا الْعَقْدُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا
أَنَّهُ بَاطِلٌ وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِي ذَلِكَ تَبَعًا لِلثَّمَرِ
قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ .
وَالثَّانِي يَجُوزُ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ وَالشَّجَرُ
تَابِعٌ لَهَا ؛ بِأَنْ يَكُونَ شَجَرًا قَلِيلًا . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ .
وَالثَّالِثُ جَوَازُ ذَلِكَ مُطْلَقًا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا
وَغَيْرِهِمْ مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّ
إجَارَةَ الْأَرْضِ جَائِزَةٌ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بِإِدْخَالِ الشَّجَرِ
فِي الْعَقْدِ فَجَازَ لِلْحَاجَةِ تَبَعًا وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ بَيْعُ ثَمَرٍ
قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ إذَا بِيعَ مَعَ الْأَصْلِ ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ
بِبَيْعِ
لِلثَّمَرِ ؛ لِأَنَّ الضَّامِنَ هُنَا هُوَ الَّذِي يَسْقِي الشَّجَرَ وَيَزْرَعُ الْأَرْضَ فَهُوَ فِي الشَّجَرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْأَرْضِ . وَالْمُبْتَاعُ لِلثَّمَرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي لِلزَّرْعِ فَلَا يَصِحُّ إلْحَاقُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَلِأَنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبَلَ حَدِيقَةَ أسيد بْنِ الحضير ثَلَاثَ سِنِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَخَذَ الْقَبَالَةَ فَوَفَّى بِهَا دَيْنَهُ . رَوَاهُ حَرْبٌ الكرماني فِي مَسَائِلِهِ وَأَبُو زَرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ . وَلِأَنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ضَرَبَ الْخَرَاجَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرُ نَخْلٍ وَعِنَبٍ وَجَعَلَ لِلْأَرْضِ قِسْطًا وَلِلشَّجَرِ قِسْطًا . وَذَلِكَ إجَارَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ مَنْ يُنَازِعُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ ضَمَانٌ لِأَرْضِ وَشَجَرٍ . وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي " الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ " . وَالْغَرَضُ هُنَا " مَسْأَلَةُ وَضْعِ الْجَوَائِحِ " فَإِذَا قُلْنَا : لَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ فَكَيْفَ الطَّرِيقُ فِي الْمُعَامَلَةِ ؟ قِيلَ : إنَّهُ يُؤَجِّرُ الْأَرْضَ وَيُسَاقِي عَلَى الشَّجَرِ فِيهَا وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي كِتَابِ " إبْطَالِ الْحِيَلِ " وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ إبْطَالُ هَذِهِ الْحِيلَةِ وَهُوَ الصَّوَابُ كَمَا قَرَّرْنَا فِي " كِتَابِ إبْطَالِ الْحِيَلِ " فَسَادَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . مِنْهَا أَنَّهُ إنْ جَعَلَ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ شَرْطًا فِي الْآخَرِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ عَقَدَهُمَا عَقْدَيْنِ مُفْرَدَيْنِ لَمْ تَجُزْ لَهُ هَذِهِ الْمُحَابَاةُ فِي مَالِ مُوَلِّيهِ ؛ كَالْوَقْفِ
وَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِهِمَا ؛ وَلَا مَالِ مُوَكِّلِهِ الْغَائِبِ وَنَحْوِهِ . وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ إعْطَاءَ الْعِوَضِ الْعَظِيمِ مِنْ الضَّامِنِ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ الَّتِي قَدْ لَا تُسَاوِي عُشْرَ الْعِوَضِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الثَّمَرَةِ وَكَذَلِكَ الْمَالِكُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ لِنَفْسِهِ مِنْ الثَّمَرَةِ شَيْئًا وَهُوَ لَا يُطَالِبُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ النَّزْرِ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ وَإِنَّمَا جَعَلَ الثَّمَرَةَ جَمِيعَهَا لِلضَّامِنِ . وَفِي الْجُمْلَةِ : فَهَذَا الْعَقْدُ إمَّا أَنْ يَصِحَّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَصِحَّ بِحَالِ ؛ لَكِنَّ الثَّانِيَ فِيهِ فَسَادٌ عَظِيمٌ لَا تَحْتَمِلُهُ الشَّرِيعَةُ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ . وَأَمَّا هَذِهِ الْحِيلَةُ فَيُعْرَفُ بُطْلَانُهَا بِأَدْنَى نَظَرٍ . فَعَلَى هَذَا إذَا حَصَلَتْ جَائِحَةٌ فِي هَذَا الضَّمَانِ فَإِنْ قُلْنَا : الْعَقْدُ فَاسِدٌ فَيَكُونُ قَدْ اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَقَدْ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَتَلِفَتْ قَبْلَ كَمَالِ الصَّلَاحِ أَوْ لَمْ تَطْلُعْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ لِقَوْلِهِ : { أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ } أَوْ قَالَ : { أَرَأَيْت إنْ لَمْ يُثْمِرْهَا اللَّهُ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } وَإِذَا أَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ مَنَعَتْ كَمَالَ صَلَاحِهَا وَأَفْسَدَتْهَا : فَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَيَجِبُ أَلَّا يَأْخُذَ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الثَّمَرَةَ تُضْمَنُ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ
يَقُولَ : إنَّهَا تُضْمَنُ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَإِذَا تَلِفَتْ هُنَا تَكُونُ مِنْ ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَضْمَنُوا قِيمَتَهَا حِينَ تَلِفَتْ وَقَدْ يَكُونُ تَلَفُهَا فِي أَوَائِلِ ظُهُورِهَا وَقِيمَتُهَا قَلِيلَةٌ وَقَدْ يَكُونُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَهَذَا مِمَّا يُلْزِمُهُمْ فِيهِ إلْزَامًا قَوِيًّا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَاهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُسْتَحِقَّةً التَّبْقِيَةَ فَكَثِيرٌ مِنْ أَجْزَائِهَا وَصِفَاتِهَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ فَإِذَا تَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ وَلَمْ نَضَعْ عَنْهُ الْجَائِحَةَ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَضْمَنَ إلَّا مَا قَبَضَهُ دُونَ مَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ فَيَجِبُ أَنْ يَنْظُرَ قِيمَتَهَا حِينَ أَصَابَتْهَا الْجَائِحَةُ فَيُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى قِيمَتِهَا وَقْتَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَيَضْمَنُ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَبَضَ بَعْضَ الْمَبِيع وَبَعْضَ مَنْفَعَةِ الْإِجَارَةِ دُونَ بَعْضٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا قَبَضَهُ دُونَ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ بَعْدُ . فَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ الْأَجْزَاءَ وَالصِّفَاتِ الْمَعْدُومَةَ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ مِنْ ضَمَانِهِ وَهِيَ لَمْ تُوجَدْ فَهَذَا خِلَافُ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ ظُلْمٌ بَيِّنٌ لَا وَجْهَ لَهُ . وَمَنْ قَالَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ إذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَقَبَضَ أَصْلَهَا وَلَمْ يُخْلَقْ مِنْهَا شَيْءٌ لِآفَةِ مَنَعَتْ الطَّلْعَ أَنْ يَضْمَنَ الثَّمَنَ جَمِيعَهُ لِلْبَائِعِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ لَوْ بَدَا صَلَاحُهَا فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَتَلِفَتْ بِآفَةِ سَمَاوِيَّةٍ أَنْ يَضْمَنَ جَمِيعَ الثَّمَرَةِ كَمَا يَضْمَنُهَا عِنْدَهُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَإِنَّ مَا ضُمِنَ بِالْقَبْضِ فِي أَحَدِهِمَا
ضُمِنَ بِالْقَبْضِ فِي الْآخَرِ إلَّا أَنَّهُ يُضْمَنُ هُنَا بِالْمُسَمَّى وَهُنَاكَ بِالْبَدَلِ . وَهَذِهِ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ لَا مَحِيصَ عَنْهَا فَإِنَّهُ إنْ جَعَلَ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْ الْأَجْزَاءِ مَقْبُوضًا لَزِمَهُ أَنْ يَضْمَنَ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَإِنْ جَعَلَهُ غَيْرَ مَقْبُوضٍ لَزِمَهُ أَلَّا يَضْمَنَ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ . وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ قَطْعًا مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ : إنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ مَا وُجِدَ فَقَطْ وَهُوَ الْمَقْبُوضُ فَقَدْ سَلِمَ مِنْ هَذَا التَّنَاقُضِ ؛ لَكِنْ لَزِمَهُ مُخَالَفَةُ النُّصُوصِ الْمُسْتَفِيضَةِ وَمُخَالَفَةُ عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَمُخَالَفَةُ الْأُصُولِ الْمُسْتَقِرَّةِ وَمُخَالَفَةُ الْعَدْلِ الَّذِي بِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَهَذَا كَالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ عَلَى وُجُوبِ وَضْعِ الْجَوَائِحِ فِي الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ وَوَضْعُهَا فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ أَقْوَى . وَأَمَّا إذَا جَعَلْنَا الضَّمَانَ صَحِيحًا فَإِنَّا نَقُولُ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ فِيهِ . كَمَا نَقُولُهُ فِي الشِّرَاءِ وَأَوْلَى أَيْضًا وَأَمَّا مَنْ يُصَحِّحُ هَذِهِ الْحِيلَةَ وَيَرَى الْعَقْدَ صَحِيحًا فَقَدْ يَقُولُ : أَنْتَ مُسَاقٍ وَالْمُسَاقَاةُ لَيْسَ فِيهَا جَائِحَةٌ فَيُبْنَى هَذَا عَلَى وَضْعِ الْجَوَائِحِ فِي الْمُسَاقَاةِ .
فَصْلٌ
:
وَأَمَّا الْجَوَائِحُ فِي الْإِجَارَةِ فَنَقُولُ : لَا نِزَاعَ بَيْنَ
الْأَئِمَّةِ أَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ إذَا تَعَطَّلَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ
مِنْ اسْتِيفَائِهَا سَقَطَتْ الْأُجْرَةُ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ كَمَا
تَنَازَعُوا فِي تَلَفِ الثَّمَرَةِ الْمَبِيعَةِ . لِأَنَّ الثَّمَرَةَ هُنَاكَ
قَدْ يَقُولُونَ : قُبِضَتْ بِالتَّخْلِيَةِ وَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ الَّتِي لَمْ
تُوجَدْ فَلَمْ تُقْبَضْ بِحَالِ . وَلِهَذَا نُقِلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ
الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ إذَا تَلِفَتْ قَبْلَ قَبْضِهَا بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ
وَكَذَلِكَ إذَا تَلِفَتْ عَقِبَ قَبْضِهَا وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ
الِانْتِفَاعِ ؛ إلَّا خِلَافًا شَاذًّا حَكَوْهُ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّ
الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَأَشْبَهَ تَلَفَ الْمَبِيع بَعْدَ
الْقَبْضِ جَعْلًا لِقَبْضِ الْعَيْنِ قَبْضًا لِلْمَنْفَعَةِ . وَقَدْ يُقَالُ :
هُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ وَضْعِ الْجَوَائِحِ ؛ لَكِنْ
يَقُولُونَ : الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَا الْمَنَافِعُ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ لَمْ
تُقْبَضْ ؛ وَإِنَّمَا قَبْضُهَا بِاسْتِيفَائِهَا أَوْ التَّمَكُّنِ مِنْ
اسْتِيفَائِهَا ؛ وَإِنَّمَا جُعِلَ قَبْضُ الْعَيْنِ قَبْضًا لَهَا فِي
انْتِقَالِ الْمِلْكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَجَوَازِ التَّصَرُّفِ . فَإِذَا
تَلِفَتْ الْعَيْنُ فَقَدْ تَلِفَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ
الْمَنْفَعَةِ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ . وَهَذَا يُلْزِمُهُمْ مِثْلَهُ فِي
الثَّمَرَةِ بِاعْتِبَارِ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ أَجْزَائِهَا .
وَالْأُصُولُ
فِي الثَّمَرَةِ كَالْعَيْنِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَعَدَمُ التَّمَكُّنِ مِنْ
اسْتِيفَاءِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ مَوْجُودٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . فَأَبُو
ثَوْرٍ طَرَدَ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ كَمَا طَرَدَ الْجُمْهُورُ الْقِيَاسَ
الصَّحِيحَ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ وَإِبْطَالِ الْإِجَارَةِ . وَإِنْ تَلِفَتْ
الْعَيْنُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ
الْمُدَّةِ دُونَ مَا مَضَى . وَفِي انْفِسَاخِهَا فِي الْمَاضِي خِلَافٌ شَاذٌّ .
وَتَعَطُّلُ بَعْضِ الْأَعْيَانِ الْمُسْتَأْجَرَةِ يُسْقِطُ نَصِيبَهُ مِنْ
الْأُجْرَةِ كَتَلَفِ بَعْضِ الْأَعْيَانِ الْمَبِيعَةِ ؛ مِثْلَ مَوْتِ بَعْضِ
الدَّوَابِّ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَانْهِدَامِ بَعْضِ الدُّورِ . وَتَعَطُّلُ
الْمَنْفَعَةِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا تَلَفُ الْعَيْنِ كَمَوْتِ
الْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ .
وَالثَّانِي زَوَالُ نَفْعِهَا بِأَنْ يَحْدُثَ عَلَيْهَا مَا يَمْنَعُ نَفْعَهَا
كَدَارِ انْهَدَمَتْ وَأَرْضٍ لِلزَّرْعِ غَرِقَتْ أَوْ انْقَطَعَ مَاؤُهَا .
فَهَذِهِ إذَا لَمْ يَبْقَ فِيهَا نَفْعٌ فَهِيَ كَالتَّالِفَةِ سَوَاءً لَا
فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَإِنْ زَالَ بَعْضُ
نَفْعِهَا الْمَقْصُودِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ مِثْلَ أَنْ يُمْكِنَهُ زَرْعُ
الْأَرْضِ بِغَيْرِ مَاءٍ وَيَكُونُ زَرْعًا نَاقِصًا وَكَانَ الْمَاءُ يَنْحَسِرُ
عَنْ الْأَرْضِ الَّتِي غَرِقَتْ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ بَعْضَ الزِّرَاعَةِ أَوْ
نُشُوءَ الزَّرْعِ : مَلَكَ فَسْخَ الْإِجَارَةِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كَالْعَيْبِ فِي
الْبَيْعِ - وَلَمْ تَبْطُلْ بِهِ الْإِجَارَةُ . وَفِي إمْسَاكِهِ بِالْأَرْشِ
قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ . وَإِنْ تَعَطَّلَ نَفْعُهَا بَعْضَ الْمُدَّةِ
لَزِمَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا انْتَفَعَ
بِهِ
كَمَا قَالَ الخرقي . فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ غَالِبٌ يَحْجُرُ الْمُسْتَأْجِرَ عَنْ
مَنْفَعَةِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ لَزِمَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِمِقْدَارِ
مُدَّةِ انْتِفَاعِهِ . وَإِذَا بَقِيَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مَا لَيْسَ هُوَ
الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ مِثْلَ أَنْ يَنْقَطِعَ الْمَاءُ عَنْ الْأَرْضِ
الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلزَّرْعِ وَيُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِوَضْعِ حَطَبٍ
وَنَصْبِ خَيْمَةٍ وَكَذَلِكَ الدَّارُ الْمُتَهَدِّمَةُ يُمْكِنُ نَصْبُ خَيْمَةٍ
فِيهَا وَالْأَرْضُ الَّتِي غَرِقَتْ يُمْكِنُ صَيْدُ السَّمَكِ مِنْهَا : فَهَلْ
تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ هُنَا ؟ أَوْ يَكُونُ هَذَا كَالنَّقْصِ الَّذِي يَمْلِكُ
بِهِ الْفَسْخَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا تَبْطُلُ . وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ
وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي صُورَةِ الْهَدْمِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ
لَمَّا لَمْ تَكُنْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ بِالْعَقْدِ كَانَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا
سَوَاءً .
وَالثَّانِي يَمْلِكُ الْفَسْخَ . وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي صُورَةِ
انْقِطَاعِ الْمَاءِ . وَقَدْ اخْتَارَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي بَعْضِ
الْمَوَاضِعِ . وَالْأَوَّلُ اخْتَارَهُ غَيْرُهُمَا مِنْ الْأَصْحَابِ .
فَصْلٌ
:
( إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزَّرْعِ فَقَدْ يَنْقَطِعُ
الْمَاءُ عَنْهَا أَوْ تَغْرَقُ قَبْلَ الزَّرْعِ . [ وَقَدْ يَنْقَطِعُ الْمَاءُ
عَنْهَا أَوْ تَغْرَقُ ] أَوْ يُصِيبُ الزَّرْعَ آفَةٌ بَعْدَ زَرْعِهَا وَقَبْلَ
وَقْتِ الْحَصَادِ فَمَا الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؟ ) (*) .
الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابِ وَغَيْرِهِمْ فِي انْقِطَاعِ الْمَاءِ
: أَنَّ انْقِطَاعَهُ بَعْدَ الزَّرْعِ كَانْقِطَاعِهِ قَبْلَهُ إنْ حَصَلَ مَعَهُ
بَعْضُ الْمَنْفَعَةِ وَجَبَ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ ذَلِكَ وَإِنْ تَعَطَّلَتْ
الْمَنْفَعَةُ كُلُّهَا فَلَا أُجْرَةَ . قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ :
سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : عَنْ رَجُلٍ اكْتَرَى أَرْضًا يَزْرَعُهَا
وَانْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْهَا قَبْلَ تَمَامِ الْوَقْتِ ؟ قَالَ : يُحَطُّ عَنْهُ
مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا أَوْ بِقَدْرِ انْقِطَاعِ
الْمَاءِ عَنْهَا . فَصَرَّحَ بِأَنَّ انْقِطَاعَ الْمَاءِ بَعْدَ الزَّرْعِ
يُوجِبُ أَنْ يُحَطَّ عَنْهُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ
الْمَنْفَعَةِ وَعَلَى هَذَا أَصْحَابُنَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ أَعْلَمُهُ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَنَّهُ إذَا اكْتَرَى أَرْضًا لِلزَّرْعِ
فَزَرَعَهَا ثُمَّ أَصَابَهَا غَرَقُ آفَةٍ مِنْ غَيْرِ الشُّرْبِ فَلَمْ يَنْبُتْ
لَزِمَهُ الْكِرَاءُ وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّهَا لَوْ
غَرِقَتْ فِي وَقْتِ زَرْعِهَا فَلَمْ يُمْكِنْهُ الزِّرَاعَةُ
لَمْ تَلْزَمْهُ الْأُجْرَةُ لِتَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ صَاحِبُ التَّفْرِيعِ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي الصُّورَتَيْنِ . فَالْقَاضِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ كَالنَّصَّيْنِ الْمُفْتَرِقَيْنِ : يُفَرِّقُ بَيْنَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ وَبَيْنَ حُدُوثِ الْغَرَقِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْآفَاتِ بِأَنَّ انْقِطَاعَ الْمَاءِ فَوَاتُ نَفْسِ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَرْضٌ لَهَا مَاءٌ فَانْقِطَاعُ الْمَاءِ الْمُعْتَادُ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ كَمَوْتِ الدَّابَّةِ . وَالْأُجْرَةُ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِدَوَامِ التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ . وَأَمَّا الْغَرَقُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْآفَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ الزَّرْعَ فَهُوَ إتْلَافٌ لِعَيْنِ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَتَلِفَ لَهُ فِيهَا ثَوْبٌ . وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ : أَنَّهُ مَعَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ لَمْ تَسْلَمْ الْمَنْفَعَةُ وَمَعَ تَلَفِ الزَّرْعِ تَسْلَمُ الْمَنْفَعَةُ ؛ لَكِنْ حَصَلَ مَا أَتْلَفَ مِلْكَ الْمُسْتَأْجِرِ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَلِفَ بَعْدَ الْحَصَادِ . وَسَوَّى طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا - كَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ - فِي الْإِجَارَةِ بَيْنَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ وَحُدُوثِ الْغَرَقِ الَّذِي يَمْنَعُ الزَّرْعَ أَوْ يَضُرُّ الزَّرْعَ ؛ بِأَنَّ ذَلِكَ إنْ عَطَّلَ الْمَنْفَعَةَ أَسْقَطَ الْأُجْرَةَ وَإِنْ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ مَعَهُ عَلَى تَعَبٍ مِنْ الْقُصُورِ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْغَرَقُ يَمْنَعُ بَعْضَ الزِّرَاعَةِ أَوْ يَسُوءُ الزَّرْعَ ثَبَتَ بِهِ الْفَسْخُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ كَغَرَقِ بِمَاءِ يَنْحَسِرُ فِي قُرْبٍ مِنْ الزَّمَانِ لَا يَمْنَعُ الزَّرْعَ وَلَا يَضُرُّهُ وَانْقِطَاعُ الْمَاءِ عَنْهَا إذَا سَاقَ الْمُؤَجِّرُ إلَيْهَا الْمَاءَ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ أَوْ كَانَ انْقِطَاعُهُ فِي زَمَنٍ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ لَمْ
يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ . وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَنْقُلُ جَوَابَ أَحْمَدَ مِنْ مَسْأَلَةِ انْقِطَاعِ الْمَاءِ إلَى مَسْأَلَةِ غَرَقِ الزَّرْعِ وَمِنْ مَسْأَلَةِ غَرَقِ الزَّرْعِ إلَى مَسْأَلَةِ انْقِطَاعِ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ . وَذَلِكَ إنْ غَرِقَ الزَّرْعُ الْحَادِثُ قَبْلَ الزَّرْعِ إذَا مُنِعَ مِنْ الزَّرْعِ فَالْحَادِثُ بَعْدَهُ يَمْنَعُ مِنْ نَبَاتِ الزَّرْعِ كَمَا أَنَّ انْقِطَاعَ الْمَاءِ يَمْنَعُ مِنْ نَبَاتِ الزَّرْعِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ إلَى حِينِ الْحَصَادِ لَيْسَ إلْقَاءُ الْبَذْرِ هُوَ جَمِيعُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَحْدَهُ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ لَوَجَبَ إذَا انْقَطَعَ الْمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْفَسْخَ وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِهِ ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ مَقْصُودَ الْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي عَقَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدَ هُوَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِتُرْبَةِ الْأَرْضِ وَهَوَائِهَا وَمَائِهَا وَشَمْسِهَا إلَى أَنْ يَكْمُلَ صَلَاحُ زَرْعِهِ فَمَتَى زَالَتْ مَنْفَعَةُ التُّرَابِ أَوْ الْمَاءِ أَوْ الْهَوَاءِ أَوْ الشَّمْسِ لَمْ يَنْبُتْ الزَّرْعُ وَلَمْ يَسْتَوْفِ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ بِالْعَقْدِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِلسُّكْنَى فَتَعَذَّرَتْ السُّكْنَى بِهَا لِبَعْضِ الْأَسْبَابِ مِثْلَ خَرَابِ حَائِطٍ أَوْ انْقِطَاعِ مَاءٍ أَوْ انْهِدَامِ سَقْفٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ تَعَطُّلَ الْمَنْفَعَةِ بِأَمْرِ سَمَاوِيٍّ يُوجِبُ سُقُوطَ الْأُجْرَةِ أَوْ نَقْصَهَا أَوْ الْفَسْخَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهِ صُنْعٌ كَمَوْتِ الدَّابَّةِ وَانْهِدَامِ الدَّارِ وَانْقِطَاعِ مَاءِ السَّمَاءِ : فَكَذَلِكَ حُدُوثُ الْغَرَقِ
وَغَيْرُهُ مِنْ الْآفَاتِ الْمَانِعَةِ مِنْ كَمَالِ الِانْتِفَاعِ بِالزَّرْعِ . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ فِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي هُوَ شَقُّ الْأَرْضِ وَإِلْقَاءُ الْبَذْرِ حَتَّى يُقَالَ : إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ جَمِيعِهَا وَإِنْ حَصَلَ بَعْدَهُ مَا يُفْسِدُ الزَّرْعَ وَيَمْنَعُ الِانْتِفَاعَ بِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْتَقَضٌ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَفْسُ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَانْتِفَاعُهُ بِهَا لَيْسَ هُوَ فِعْلَهُ ؛ فَإِنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ هُوَ مَنْفَعَةً لَهُ وَلَا فِيهِ انْتِفَاعٌ لَهُ ؛ بَلْ هُوَ كُلْفَةٌ عَلَيْهِ وَتَعَبٌ وَنَصَبٌ يَذْهَبُ فِيهِ نَفْعُهُ وَمَالُهُ . وَهَذَا بِخِلَافِ سُكْنَى الدَّارِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ ؛ فَإِنَّ نَفْسَ السُّكْنَى وَالرُّكُوبِ انْتِفَاعٌ وَبِذَلِكَ قَدْ نَفَعَتْهُ الْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَةُ . وَأَمَّا شَقُّ الْأَرْضِ فَتَعَبٌ وَنَصَبٌ وَإِلْقَاءُ الْبَذْرِ إخْرَاجُ مَالٍ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِمَا يَرْجُوهُ مِنْ انْتِفَاعِهِ بِالنَّفْعِ الَّذِي يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْإِنْبَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ } وَقَالَ : { يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ } وَقَالَ : { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا } { وَعِنَبًا وَقَضْبًا } { وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا } . وَلَيْسَ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ : إنَّ إنْبَاتَ الْأَرْضِ لَيْسَ مَقْدُورًا لِلْمُسْتَأْجِرِ وَلَا لِلْمُؤَجِّرِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا
خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ وَسَائِرِ الْعُقَلَاءِ ؛ فَإِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَقْصُودَ بِالْإِجَارَةِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِ أَحَدِ المتآجرين ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ غَيْرُهُمَا مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ جَمَادٍ وَإِنْ كَانَا عَاجِزَيْنِ عَنْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ : مِثْلَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ عَبْدًا أَوْ دَابَّةً وَنَفَعَهَا هُوَ بِاخْتِيَارِهَا . وَمِثْلَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ دَارًا لِلسُّكْنَى وَنَفْسُ الِانْتِفَاعِ بِهَا هُوَ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا مِنْ الْبَقَاءِ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْمُؤَجِّرِ . وَكَذَلِكَ جَرَيَانُ الْمَاءِ مِنْ السَّمَاءِ وَنَبْعُهُ مِنْ الْأَرْضِ هُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَقْدُورِ أَحَدِهِمَا . وَكَذَلِكَ إذَا آجَرَهُ مَنْقُولًا مِنْ سِلَاحٍ أَوْ كُتُبٍ أَوْ ثِيَابٍ أَوْ آلَةِ صِنَاعَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي فِيهِ لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِ الْمُؤَجِّرِ . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . فَكَذَلِكَ نَفْعُ الْأَرْضِ الَّذِي يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِيهَا حَتَّى يَنْبُتَ الزَّرْعُ بِتُرَابِهَا وَمَائِهَا وَهَوَائِهَا وَشَمْسِهَا وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ لَا يَدْخُلُ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ - هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ فَإِذَا تَلِفَ هَذَا الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بَطَلَ الْعَقْدُ وَإِنْ بَطَلَ بَعْضُهُ كَانَ كَمَا لَوْ تَعَطَّلَ مَنْفَعَةُ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمُؤَجَّرَةِ ؛ بَلْ بُطْلَانُ الْإِجَارَةِ أَوْ نَقْصُ الْأُجْرَةِ هُنَا أَوْلَى مِنْهُ فِي جَوَائِحِ الثَّمَرِ . فَإِنَّ الَّذِينَ تَنَازَعُوا هُنَاكَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ حُجَّتُهُمْ أَنَّ الثَّمَرَةَ تَلِفَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْجِذَاذِ أَوْ بَعْدَ
وَقْتِهِ . وَأَمَّا هُنَا فَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَنْفَعَةَ إنَّمَا تُقْبَضُ - الْقَبْضَ الْمَضْمُونَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ - شَيْئًا فَشَيْئًا . وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ أَوْ تَعَطَّلَتْ الْمَنْفَعَةُ أَوْ بَعْضُهَا فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ سَقَطَتْ الْأُجْرَةُ أَوْ بَعْضُهَا أَوْ مِلْكُ الْفَسْخِ . وَإِنَّمَا دَخَلَتْ الشُّبْهَةُ عَلَى مَنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ بِالْعَقْدِ إثَارَةُ الْأَرْضِ وَالْبَذْرُ فِيهَا . وَظَنَّ أَنَّ تَلَفَ الزَّرْعِ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَرَقِ أَوْ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ تَلَفِ زَرْعِ الزَّارِعِ بَعْدَ الْحَصَادِ وَبِمَنْزِلَةِ تَلَفِ ثَوْبٍ لَهُ فِي الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ . وَهَذِهِ غَفْلَةٌ بَيِّنَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ . وَلِهَذَا يُنْكِرُ كُلُّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ ذَلِكَ حَتَّى مَنْ لَمْ يُمَارِسْ عِلْمَ الْفِقْهِ مِنْ الْفَلَّاحِينَ وَشُذَّاذِ الْمُتَفَقِّهَةِ وَنَحْوِهِمْ . فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ انْتِفَاعُ الْمُسْتَأْجِرِ مَنْفَعَةَ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ ؛ لَا مُجَرَّدَ تَعَبِهِ وَنَفَقَتِهِ الَّذِي هُوَ طَرِيقٌ إلَى الِانْتِفَاعِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إسْرَاجِهِ وَإِلْجَامِهِ وَاقْتِيَادِهِ لِلْفَرَسِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَذَلِكَ طَرِيقٌ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالرُّكُوبِ ؛ لَا أَنَّهُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ . وَكَذَلِكَ شَدُّ الْأَحْمَالِ وَعَقْدُ الْحِبَالِ وَنَحْوُ ذَلِكَ هُوَ طَرِيقٌ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِ . وَإِلَّا فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَقْصُودُ هُوَ نَفْسُ حَمْلِ الدَّابَّةِ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ نَفْعَ الدَّابَّةِ وَالْإِسْرَاجُ وَالشَّدُّ فِعْلَ الْمُسْتَأْجِرِ فَكَذَلِكَ هُنَا الشَّقُّ وَالْبَذْرُ وَإِنْ كَانَ فِعْلَهُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْإِجَارَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِ ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى النَّفْعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ
نَفْعُ الْأَرْضِ بِمَا يَخْلُقُهُ فِيهَا مِنْ مَاءٍ وَهَوَاءٍ وَشَمْسٍ . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مُجَرَّدَ فِعْلِهِ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا بِالْيَقِينِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ . وَسَبَبُ غَلَطِهِ كَوْنُ فِعْلِهِ أَمْرًا مَحْسُوسًا لِحَرَكَتِهِ وَكَوْنُ نَفْعِ الْأَرْضِ أَمْرًا مَعْقُولًا لِعَدَمِ حَرَكَتِهَا فَالذِّهْنُ لَمَّا أَدْرَكَ الْحَرَكَةَ الْمَحْسُوسَةَ تَوَهَّمَ أَنَّهَا هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهَذَا غَلَطٌ مَنْقُوضٌ بِسَائِرِ صُوَرِ الْإِجَارَةِ ؛ فَإِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ نَفْعُ الْأَعْيَانِ الْمُؤَجَّرَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ جَامِدَةً كَالْأَرْضِ وَالدَّارِ وَالثِّيَابِ أَوْ مُتَحَرِّكَةً كَالْأَنَاسِيِّ وَالدَّوَابِّ ؛ لَا عَمَلُ الشَّخْصِ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ وَإِنَّمَا عَمَلُ الشَّخْصِ الْمُسْتَأْجِرِ طَرِيقٌ إلَى اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ . فَتَارَةً يُقْرَنُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ كَالرُّكُوبِ وَاللَّبْسِ . وَتَارَةً يَتَأَخَّرُ عَنْهُ الِاسْتِيفَاءُ كَالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ وَالزَّرْعِ . فَإِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ حُصُولُ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ وَالزَّرْعِ ؛ لَا مُجَرَّدُ عَمَلِ الْبَانِي الْغَارِسِ الزَّارِعِ الَّذِي هُوَ حَقُّ نَفْسِهِ كَيْفَ يَكُونُ حَقُّ نَفْسِهِ هُوَ الَّذِي بَذَلَ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَتِهِ ؟ وَإِنَّمَا يَبْذُلُ الْأُجْرَةَ فِيمَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ لَا فِيمَا هُوَ لَهُ مِنْ عَمَلِ نَفْسِهِ ؛ فَإِنَّ شِرَاءَ حَقِّهِ بِحَقِّهِ مُحَالٌ . وَمَنْ تَصَوَّرَ هَذِهِ قَطَعَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ فِيهِ شُبْهَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَإِذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ نَفْسَ مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الْمُدَّةِ إلَى آخِرِهَا
فَأَيُّ
وَقْتٍ نَقَصَتْ فِيهِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةُ : بِنَقْصِ مَاءٍ وَانْقِطَاعِهِ أَوْ
بِزِيَادَتِهِ وَتَغْرِيقِهِ أَوْ حُدُوثِ جَرَادٍ أَوْ بَرْدٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ
ثَلْجٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ خَارِجًا عَنْ الْعَادَةِ وَمَانِعًا مِنْ
الْمَنْفَعَةِ الْمُعْتَادَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ الْمَنْفَعَةَ
الْمُسْتَحَقَّةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا . فَيَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ الْفَسْخَ أَوْ
يُسْقِطَ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا فَاتَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ كَانْقِطَاعِ
الْمَاءِ وَلَيْسَ بَيْنَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ وَزِيَادَتِهِ وَسَائِرِ
الْمَوَانِعِ فَرْقٌ يَصْلُحُ لِافْتِرَاقِ الْحُكْمِ .
فَصْلٌ :
إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّ أَحْمَدَ والخرقي وَغَيْرِهِمَا
عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ
الْمَنْفَعَةِ . وَهَذَا نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : حُصُولُ الْمَنْفَعَةِ فِي بَعْضِ زَمَنِ الْإِجَارَةِ أَوْ بَعْضِ
أَجْزَاءِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فَهَذَا تَسْقُطُ فِيهِ الْأُجْرَةُ عَلَى
قَدْرِ ذَلِكَ وَيَجِبُ بِقِسْطِ مَا حَصَلَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَتَكُونُ
الْأُجْرَةُ مَقْسُومَةً عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ ؛
فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ مُتَمَاثِلًا وَقَدْ يَكُونُ مُخْتَلِفًا ؛
بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَرْضِ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ وَكَرْيُ بَعْضِ فُصُولِ
السُّنَّةِ أَغْلَى مِنْ بَعْضٍ . وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُنَا
وَغَيْرُهُمْ . وَالثَّانِي : نَقْصُ الْمَنْفَعَةِ فِي نَفْسِ الْمَكَانِ
الْوَاحِدِ وَالزَّمَانِ الْوَاحِدِ ؛
مِثْلَ
أَنْ يَقِلَّ مَاءُ السَّمَاءِ عَنْ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ أَوْ يَحْصُلُ غَرَقٌ
يُنْقِصُ الزَّرْعَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُنَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ : (
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا الْفَسْخَ .
وَالثَّانِي - وَهُوَ مُقْتَضَى الْمَنْصُوصِ وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ - أَنَّهُ
يُخَيَّرُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ الْأَرْشِ كَالْبَيْعِ ؛ بَلْ هُوَ فِي
الْإِجَارَةِ أَوْكَدُ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَيْعِ يُمْكِنُهُ الرَّدُّ
وَالْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ . وَهُنَا لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ جَمِيعِ
الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّهَا إلَّا مُتَغَيِّرَةً . فَلَوْ قِيلَ هُنَا
: إنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْمُطَالَبَةُ بِالْأَرْشِ : كَمَا نَقُولُ عَلَى
إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ : إنَّ تَعَيُّبَ الْمَبِيع عِنْدَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ
الرَّدَّ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ وَيُوجِبُ الْأَرْشَ - لَكَانَ ذَلِكَ أَوْجَهَ
وَأَقْيَسَ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : لَيْسَ لَهُ إذَا تَعَقَّبَ الْمَنْفَعَةَ
إلَّا الرَّدُّ دُونَ الْمُطَالَبَةِ بِالْأَرْشِ . فَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا
بَعِيدٌ عَنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ وَخِلَافُ مَا نَصَّ
عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَأَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَدْ
يَقُولُهُ فِي " الْمُجَرَّدِ " وَيَتْبَعُهُ عَلَيْهِ ابْنُ عَقِيلٍ
أَوْ غَيْرُهُ فَالْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَنَّفَ " الْمُجَرَّدَ
" قَدِيمًا بَعْدَ أَنْ صَنَّفَ " شَرْحَ الْمَذْهَبِ " وَقَبْلَ
أَنْ يُحْكِمَ " التَّعْلِيقَ " و " الْجَامِعَ الْكَبِيرَ "
وَهُوَ يَأْخُذُ الْمَسَائِلَ الَّتِي وَضَعَهَا النَّاسُ وَأَجَابُوا فِيهَا
عَلَى أُصُولِهِمْ فَيُجِيبُ فِيهَا بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ
وَأَصْحَابُهُ وَبِمَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُهُ عِنْدَهُ فَرُبَّمَا حَصَلَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَتَفَرَّعُ وَتَتَشَعَّبُ ذُهُولٌ لِلْمُفَرِّعِ فِي بَعْضِ فُرُوعِهَا عَنْ رِعَايَةِ الْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ . وَعَلَى هَذَا فَإِذَا حَصَلَ مِنْ الضَّرَرِ - كَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَالْغَرَقِ وَالْهَوَاءِ الْمُؤْذِي وَالْجَرَادِ وَالْجَلِيدِ وَالْفَأْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - مَا نَقَصَ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ الْمُعْتَادَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِالْعَقْدِ فَيُصْنَعُ فِي ذَلِكَ كَمَا يُصْنَعُ فِي أَرْشِ الْمَبِيع الْمَعِيبِ : تُنْظَرُ قِيمَةُ الْأَرْضِ بِدُونِ تِلْكَ الْآفَةِ وَقِيمَتُهَا مَعَ تِلْكَ الْآفَةِ وَيُنْسَبُ النَّقْصُ إلَى الْقِيمَةِ الْكَامِلَةِ وَيُحَطُّ مِنْ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ بِقَدْرِ النَّقْصِ كَأَنْ تَكُونَ أُجْرَتُهَا مَعَ السَّلَامَةِ تُسَاوِي أَلْفًا وَمَعَ الْآفَةِ تُسَاوِي ثَمَانِمِائَةٍ فَالْآفَةُ قَدْ نَقَصَتْ خُمْسَ الْقِيمَةِ فَيُحَطُّ خُمْسُ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ وَكَذَلِكَ فِي جَائِحَةِ الثَّمَرِ : يُنْظَرُ كَمْ نَقَصَتْهُ الْجَائِحَةُ ؟ هَلْ نَقَصَتْهُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ أَوْ رُبْعَهَا أَوْ خُمْسَهَا ؟ يُحَطُّ عَنْهُ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِهِ . وَكَذَلِكَ لَوْ تَغَيَّرَ الثَّمَرُ وَعَابَ نَظَرَ كَمْ نَقَصَهُ ذَلِكَ الْعَيْبُ مَنْ قِيمَتِهِ ؟ وَحَطَّ مِنْ الثَّمَنِ بِنِسْبَتِهِ . وَأَمَّا مَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ جَائِحَةَ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ تُوضَعُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ أَوْ يُوضَعُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ بَعْضُ الزَّرْعِ قِيَاسًا عَلَى جَائِحَةِ الْمَبِيع فِي الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ : فَهَذَا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلثَّمَرِ وَالزَّرْعِ مَلَكَ بِالْعَقْدِ نَفْسَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ . فَإِذَا تَلِفَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ
الْقَبْضِ تَلِفَتْ مِنْ مِلْك الْبَائِعِ . وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ الِانْتِفَاعَ بِالْأَرْضِ . وَأَمَّا الزَّرْعُ نَفْسُهُ فَهُوَ مِلْكُهُ الْحَادِثُ عَلَى مِلْكِهِ ؛ لَمْ يَمْلِكْهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا مَلَكَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي تُنْبِتُهُ إلَى حِينِ كَمَالِ صَلَاحِهِ . فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ جَائِحَةِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ الْمُشْتَرَى وَبَيْنَ الْجَائِحَةِ فِي مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ الْمَزْرُوعَةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مَزَلَّةُ أَقْدَامٍ وَمَضَلَّةُ أَفْهَامٍ غَلِطَ فِيهَا خَلَائِقُ مِنْ الْحُكَّامِ وَالْمُقَوِّمِينَ والمجيحين وَالْمُلَّاكِ وَالْمُسْتَأْجِرِين حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ جَائِحَةَ الْإِجَارَةِ لِلْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ بِمَنْزِلَةِ جَائِحَةِ الزَّرْعِ الْمُشْتَرَى . وَبَعْضُ الْمُتَفَقِّهَةِ يَظُنُّ أَنَّ الْأَرْضَ الْمَزْرُوعَةَ إذَا حَصَلَ بِهَا آفَةٌ مَنَعَتْ مِنْ كَمَالِ الزَّرْعِ لَمْ تَنْقُصْ الْمَنْفَعَةَ وَلَمْ يَتْلَفْ شَيْءٌ مِنْهَا وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ غَلَطٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ . وَنَظِيرُ الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلِازْدِرَاعِ الْأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ لِلْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ ؛ فَإِنَّ الْمُؤَجِّرَ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ إذَا تَلِفَ ؛ وَلَكِنْ لَوْ حَصَلَتْ آفَةٌ مَنَعَتْ كَمَالَ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْعَقْدِ مِثْلَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَدُوٌّ يَمْنَعُ الِانْتِفَاعَ بِالْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ أَوْ تَحْصُلَ آفَةٌ مِنْ جَرَادٍ أَوْ آفَةٍ تُفْسِدُ الشَّجَرَ الْمَغْرُوسَ أَوْ حَصَلَ رِيحٌ يَهْدِمُ الْأَبْنِيَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُنَا نَقَصَتْ الْمَنْفَعَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ بِالْعَقْدِ نَظِيرَ نَقْصِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ . وَلَمَّا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ تُوضَعُ عَنْهُ الْجَائِحَةُ فِي
نَفْسِ الزَّرْعِ وَالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ كَالْمُشْتَرِي : نَفَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَنَقَلَهُ أَصْحَابُنَا . كَالْقَاضِي وَأَبِي مُحَمَّدٍ حَيْثُ قَالُوا - وَاللَّفْظُ لِأَبِي مُحَمَّدٍ - : إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا فَتَلِفَ الزَّرْعُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ . نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُ الْأَرْضِ وَلَمْ تَتْلَفْ إنَّمَا تَلِفَ مَالُ الْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا فَصَارَ كَدَارِ اسْتَأْجَرَهَا لِيُقَصِّرَ فِيهَا ثِيَابًا فَتَلِفَتْ الثِّيَابُ فِيهَا . فَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُؤَجِّرَ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا مِنْ زَرْعِ الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا يَضْمَنُ الْبَائِعُ بِزَرْعِ الْمُشْتَرِي وَلِذَلِكَ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَابِ جَوَائِحِ الْأَعْيَانِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّالِفَ إنَّمَا هُوَ عَيْنُ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا الْمَنْفَعَةُ . وَهَذَا حَسَنٌ فِي نَفْيِ ضَمَانِ نَفْسِ الزَّرْعِ . وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا تَلِفَ الزَّرْعُ بَعْدَ كَمَالِهِ . وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ نَفْسَ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا تَنْقُصُ وَتَتَعَطَّلُ بِمَا يُصِيبُ الزَّرْعَ مِنْ الْآفَةِ فَيَحُطُّ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ . فَمَا نَفَى فِيهِ الشَّيْخُ الْخِلَافَ ضَمَانَ نَقْصِ الْعَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ ضَمَانَ نَقْصِ الْمَنْفَعَةِ هُنَا ؛ لَكِنْ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ . وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ اشْتِبَاهٍ وَفِي كَلَامِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا إجْمَالٌ . وَبِمَا حَقَّقْنَاهُ يَتَّضِحُ الصَّوَابُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مَقِيلًا وَمَرَاحًا وَلِلزِّرَاعَةِ إنْ
أَمْكَنَ أَيْضًا ؛ لِيَنْتَفِعَ بِذَلِكَ انْتِفَاعَ مِثْلِهِ بِمِثْلِهَا ثُمَّ
إنَّ الْأَرْضَ الْمَذْكُورَةَ شَمِلَ الْمَاءُ بَعْضَهَا وَتَرَكَ بَعْضَهَا .
فَهَلْ تَصِحُّ الْإِجَارَةُ بِذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ خَرَاجُ
الْأَرْضِ كَامِلًا وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِبَعْضِهَا ؟ وَهَلْ الْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُسْتَأْجِرِ فِي الِانْتِفَاعِ أَمْ لَا ؟ وَالرَّجُلُ يَسْتَأْجِرُ أَرْضًا
أَوْ دَارًا أَوْ حَانُوتًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ نَاظِرِ وَقْفٍ أَوْ وَلِيِّ
يَتِيمٍ ثُمَّ كَانَ غِبْطَةً وَزِيَادَةً لِلْيَتِيمِ وَالْوَقْفِ . فَهَلْ
يَفْسَخُ حُكْمَ الْإِجَارَةِ ؟ وَيَقْبَلُ زِيَادَةَ مَا جَرَى ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إجَارَةُ أَرْضٍ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ فَجَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ
شَمِلَهَا الرَّيُّ أَوْ لَمْ يَكُنْ يَشْمَلُهَا إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ مِمَّا
جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّ الرَّيَّ يَشْمَلُهَا . كَمَا تُكْرَى الْأَرْضُ
الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَشْرَبَ مِنْ الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ
الْمَطَرُ عَلَيْهَا وَهَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : كَمَالِكِ
وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَد . وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِهِ .
وَلَكِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ غَلِطَ فِي مَعْرِفَةِ مَذْهَبِهِ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْأَرْضِ الَّتِي يَنَالُهَا الْمَاءُ فِي أَغْلَبِ الْأَوْقَاتِ . وَالْأَرْضِ الَّتِي لَا يَنَالُهَا الْمَاءُ إلَّا نَادِرًا كَالْأَرَاضِيِ الَّتِي تَشْرَبُ فِي غَيْرِ الْأَوْقَاتِ . ثُمَّ هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي صَحَّتْ إجَارَتُهَا إنْ شَمِلَهَا الرَّيُّ وَأَمْكَنَ الزَّرْعُ الْمُعْتَادُ وَجَبَتْ الْأُجْرَةُ . وَإِنْ لَمْ يَرْوِ مِنْهَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ . وَإِنْ رُوِيَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ وَجَبَ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا رُوِيَ . وَمَنْ أَلْزَمَ الْمُسْتَأْجِرَ بِالْإِجَارَةِ وَطَالَبَهُ بِالْأُجْرَةِ إذَا لَمْ تُرْوَ الْأَرْضُ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ الْقَائِلِ : أجرتكها مَقِيلًا وَمَرَاحًا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ قَبْلَ رَيِّ الْأَرْضِ وَاَلَّذِي فَعَلُوهُ مِنْ إجَارَتِهَا مَقِيلًا وَمَرَاحًا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ لَا تَصْلُحُ مَقِيلًا وَمَرَاحًا ؛ فَإِنَّ الْمَاشِيَةَ لَا تَرُوحُ وَتَقِيلُ إلَّا بِأَرْضِ تُقِيمُ بِهَا فِي الْعَادَةِ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ بِقُرْبِ مَا تَرْعَاهُ وَتَشْرَبُ مِنْهُ فَأَمَّا الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ وَلَا زَرْعٌ وَلَا عِمَارَةٌ فَلَا تَصْلُحُ مَقِيلًا وَمَرَاحًا وَإِجَارَةُ الْعَيْنِ بِمَنْفَعَةِ لَيْسَتْ فِيهَا إجَارَةٌ بَاطِلَةٌ . الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ إنْ كَانَتْ حَاصِلَةً فَهِيَ مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فِي
مِثْلِ
هَذِهِ الْأَرْضِ ؛ بَلْ الْبَرِيَّةُ كُلُّهَا تُشَارِكُ هَذِهِ الْأَرْضَ فِي
كَوْنِهَا مَقِيلًا وَمَرَاحًا وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا فِي
الْعَادَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا لَا يَصِحُّ أَنْ
يَرِدَ عَلَى هَذِهِ عَقْدُ إجَارَةٍ وَلَا عَلَى هَذِهِ عَقْدُ بَيْعٍ
بِالِاتِّفَاقِ كَالِاسْتِظْلَالِ وَالِاسْتِضَاءَةِ مِنْ بَعْدُ . وَأَمَّا
إجَارَةُ الْأَرْضِ لِيَنْتَفِعَ بِذَلِكَ انْتِفَاعَ مِثْلِهِ بِمِثْلِهَا
فَجَائِزٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : اسْتَأْجَرَ مَقِيلًا وَمَرَاحًا وَلِلزِّرَاعَةِ
إنْ أَمْكَنَ أَيْضًا ؛ لِيَنْتَفِعَ بِذَلِكَ انْتِفَاعَ مِثْلِهِ بِمِثْلِهِ .
فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ ؛ لَكِنَّ قَوْلَهُ : مَقِيلًا وَمَرَاحًا كَلَامٌ
لَغْوٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ الِانْتِفَاعُ بِهَا سَقَطَتْ
الْأُجْرَةُ . وَإِنْ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِبَعْضِهَا وَجَبَتْ الْأُجْرَةُ
بِقَدْرِ ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا تَنَازَعَا فِي إمْكَانِ الِانْتِفَاعِ رَجَعَ
فِي ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِمَا ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ هَلْ رُوِيَتْ ؟ أَمْ
لَمْ تُرْوَ ؟
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَصَرَّحَ فِي الْإِجَارَةِ أَنَّهُ كَانَ
عَايَنَهَا وَلَمْ يُعَايِنْهَا قَبْلَ إيجَارِهَا وَوَصَفَهَا الْمُؤَجِّرُ
بِأَنَّهَا تُرْوَى كُلَّ عَامٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ الْمُؤَجِّرُ للمستأجرين
وَصَرَّحَ أَنَّ فِيهَا مَقِيلًا وَمَرَاحًا وَظَهَرَ فِيهَا بِقَدْرِ رُبْعِهَا
شَرَاقِيُ . فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْإِجَارَةُ إذَا لَمْ يُعَايِنْهَا
الْمُسْتَأْجِرُونَ ؟ وَهَلْ
يَلْزَمُهُمْ
الْقِيَامُ بِمَا رُوِيَ مِنْ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ خَاصَّةً ؟ أَوْ
يَلْزَمُهُمْ الْقِيَامُ بِمَا شَرَقَ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ وَلَمْ
يُعَايِنُوهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يَرَهَا وَلَمْ تُوصَفْ لَهُ لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ صَحَّحَهَا أَثْبَتَ لَهُمْ الْخِيَارَ خِيَارَ
الرُّؤْيَةِ وَإِنْ وُصِفَتْ بِوَصْفِ بِأَنَّهَا تُرْوَى كُلَّ عَامٍ فَلَمْ
تُرْوَ فَلَهُمْ فَسْخُ الْإِجَارَةِ إذَا وُجِدَتْ بِخِلَافِ الصِّفَةِ
وَالشَّرْطِ الَّذِي شَرَطَ لَهُمْ . وَلَوْ أَجَّرَهُمْ إجَارَةً مُطْلَقَةً
فَرُوِيَ بَعْضُهَا وَلَمْ يُرْوَ بَعْضٌ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ الْأُجْرَةُ مَا
لَمْ يُرْوَ . وَلَوْ ذَكَرَ فِي الْإِجَارَةِ أَنَّهَا مَقِيلٌ وَمَرَاحٌ فَإِنَّ
إجَارَةَ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي لَا تُرْوَى لِلْمَقِيلِ وَالْمَرَاحِ
بَاطِلَةٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُرْوَى لَا يُنْتَفَعُ بِهِ
مَقِيلًا وَمَرَاحًا فَإِنَّهَا كَسَائِرِ الْبَرِيَّةِ الَّتِي لَا زَرْعَ فِيهَا
وَلَا مَاءَ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَتَقَوَّمُ وَلَا قُدِّرَ لَهَا
لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فَكَيْفَ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ وَالْإِجَارَةُ إنَّمَا
تَصِحُّ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ . وَإِذَا كَانَ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ أَوْ
لَا قِيمَةَ لِنَفْعِهِ ؛ لَمْ يَصِحَّ . فَكَذَلِكَ إجَارَةُ مَا لَا نَفْعَ
فِيهِ لِمَا اُسْتُؤْجِرَ لَهُ وَلَا قِيمَةَ لِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ . وَهَذَا
عَلَى قَوْلِ مَنْ صَحَّحَ الْحِيَلَ وَلَيْسَ يُبْطِلُهَا ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ
عِنْدَهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ إنَّمَا هُوَ
الِانْتِفَاعُ بِالزَّرْعِ وَإِظْهَارُ مَا سِوَى ذَلِكَ كَذِبٌ وَخِدَاعٌ .
وَإِجَارَةُ الْأَرْضِ الَّتِي تُرْوَى غَالِبًا قَبْلَ الرَّيِّ جَائِزَةٌ عِنْدَ
الْأَئِمَّةِ وَأَمَّا مَا تُرْوَى أَحْيَانًا فَفِيهِ نِزَاعٌ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا قَبَالَةً بِلَا مَعْرِفَةِ مِسَاحَتِهَا
مَقِيلًا وَمَرَاحًا وَمَرْعًى ومزرعا لِيَنْتَفِعَ بِهَا مُدَّةَ سَبْعِ سِنِينَ
وَأَنَّ الْأَرْضَ الْمَذْكُورَةَ غَرِقَتْ وَتَبَحَّرَتْ وَعَدِمَ الِانْتِفَاعَ
بِهَا وَعِنْدَمَا غَرِقَتْ قَصَدَ الْإِقَالَةَ مِنْهَا وَقَدْ بَقِيَ فِي
الْإِجَارَةِ لَمَّا غَرِقَتْ وَعُدِمَ الْآخَرُ مِنْ الِانْتِفَاعِ . فَهَلْ
يَجِبُ عَلَيْهِ فِي سَنَةِ غَرَقِهَا وَتَبَحُّرِهَا خَرَاجٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ
يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ؟
فَأَجَابَ :
إجَارَةُ الْأَرْضِ الْمُعَيَّنَةِ جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَرِعَاتِهَا
كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَبَيْعُ سَائِر الْمُعَيَّنَاتِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ
مِقْدَارُهَا فَإِنَّ بَيْعَ الْعَيْنِ جُزَافًا جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ
وَالْإِجْمَاعِ . كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَ الشَّرَكِ فِي الْأَرْضِ الرَّبَعَةِ وَالْحَائِطِ
وَبَيْعَ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ . وَأَقَرَّهُمْ
عَلَى بَيْعِ الطَّعَامِ جُزَافًا . ثُمَّ إذَا تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَتُهَا
بِغَرَقِ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أُجْرَةُ مَا تَعَطَّلَ مِنْ
الْمَنْفَعَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَرْيَةً وَغَلَبَ عَلَى أَرْضِهَا الْمَاءُ بِسَبَبِ
أَنَّهُ انْكَسَرَ عَلَيْهِ نَهْرٌ وَعَجَزُوا عَنْ رَدِّهِ . فَهَلْ يَسْقُطُ
عَنْهُمْ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا غَرِقَ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا حَكَمَ
عَلَيْهِ حَاكِمٌ بِلُزُومِ جَمِيعِ الْأُجْرَةِ فَهَلْ يُنَفِّذُ حُكْمَهُ ؟ أَمْ
لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَلَهُ أَنْ يَحُطَّ مِنْ
الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَمَنْ حَكَمَ بِلُزُومِ
الْعَقْدِ وَجَمِيعِ الْأُجْرَةِ فَقَدْ حَكَمَ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَلَا
يُنَفَّذُ حُكْمُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
إذَا تَعَطَّلَ بَعْضُ مَنَافِعِ الدَّارِ . فَهَلْ يَسْقُطُ مِنْ الْأُجْرَةِ
بِقَدْرِ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا تَعَطَّلَ مِنْ
الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْعَقْدِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ اسْتَأْجَرَ بُسْتَانًا فِيهِ أَرْضٌ بَيَاضٌ وَشَجَرُهُ أَكْثَرَ
اسْتَأْجَرَهُ سَنَتَيْنِ وَصُورَةُ الْأَرْضِ بَيَاضٌ وَسَاقَاهُ عَلَى الشَّجَرِ
بِجُزْءِ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ وَجَعَلُوا الْمُسَاقَاةَ حِيلَةً لِبَيْعِ الثَّمَرِ
قَبْلَ حِلِّهِ فَأَتْلَفَ الْجَرَادُ أَكْثَرَ الثَّمَرِ . فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْ
الْمُسْتَأْجِرِ مَا أَتْلَفَهُ الْجَرَادُ ؟
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْمُعَامَلَاتُ الْوَاقِعَةُ عَلَى الْبَسَاتِينِ الْمُسَمَّاةِ
بِالضَّمَانِ : سَوَاءٌ كَانَتْ قَبْلَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ وَقَبْلَ بُدُوِّ
صَلَاحِهَا أَوْ بَعْدَهُمَا أَوْ بَيْنَهُمَا وَسَوَاءٌ سُمِّيَتْ ضَمَانًا أَوْ
سُمِّيَتْ - لِلتَّحَيُّلِ - مُسَاقَاةً وَإِجَارَةً ؛ فَإِنَّهُ إذَا تَلِفَ
الثَّمَرُ بِجَرَادِ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ الْآفَاتِ السَّمَاوِيَّةِ كَنَهْبِ
الْجُيُوشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ وَضْعُ الْجَائِحَةِ عَنْ
الْمُسْتَأْجِرِ الْمُشْتَرِي فَيَحُطُّ عَنْهُ مِنْ الْعِوَضِ بِقَدْرِ مَا
تَلِفَ مِنْ الْعِوَضِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا أَوْ صَحِيحًا . وَعَلَى
كِلَا الصُّورَتَيْنِ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَجَابِرٍ . وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ
الْعُلَمَاءِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ . فَكَيْفَ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ أَوْ
الْمُخْتَلَفِ فِيهِ أَوْ الْمُتَحَيَّلِ عَلَى صِحَّتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْمٍ عَلَيْهِمْ لِأَصْحَابِ الْقَرْيَةِ دَرَاهِمُ وَتَقَاوِي وَأَنَّ
التَّقَاوِيَ جَمِيعَهَا بَذَرُوهَا فِي الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَقَدْ جَاءَ
بَرْدٌ أَهَلَكَ الزَّرْعَ بَعْدَ إقْبَالِهِ . فَهَلْ يَلْزَمُ الْفَلَّاحِينَ
الْمَذْكُورِينَ الْقِيَامُ بِجَمِيعِ التَّقَاوِي الَّتِي قَبَضُوهَا ؟ أَمْ لَا
؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ التَّقَاوِي مِنْ الْمُلَّاكِ بَذْرًا فِي الْأَرْضِ فِي زِرَاعَةٍ
صَحِيحَةٍ أَوْ فَاسِدَةٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْفَلَّاحِينَ إذَا فَعَلُوا بِهَا
مَا أُمِرُوا بِهِ وَإِنْ سُمِّيَتْ مَعَ ذَلِكَ بَاسِمِ الْقَرْضِ الْفَاسِدِ ؛
فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مُزَارَعَةٌ وَإِذَا بَذَرَ الْمَالِكُ فِيهَا بَذْرًا
يَرْجِعُ بِهِ . وَأَمَّا إنْ كَانَتْ قَرْضًا مُطْلَقًا فِي الذِّمَّةِ
يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْمُقْتَرِضُ بِأَشْيَاءَ فَهِيَ فِي ذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ
وَإِنْ تَلِفَ زَرْعُهُ وَالدَّرَاهِمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَمْلَاكًا مَوْقُوفَةً وَقَلَّتْ الرَّغَبَاتُ فِي
سُكَّانِهَا وَعَمِلَ بِذَلِكَ مَحْضَرًا بِأَرْبَابِ الْخِبْرَةِ . فَهَلْ يَضَعُ
عَنْهُ شَيْئًا إذَا رَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْوَقْفِ ؟ وَإِذَا حَطَّ
عَنْهُ هَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ ؟ وَهَلْ
لِمُسْتَحِقِّي رِيعِ الْوَقْفِ التَّعَرُّضُ عَلَى النَّاظِرِ بِسَبَبِ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا اسْتَأْجَرَ مَا تَكُونُ مَنْفَعَةُ إيجَارِهِ لِلنَّاسِ
. مِثْلَ الْحَمَّامِ وَالْفُنْدُقِ والقيسارية وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَنَقَصَتْ
الْمَنْفَعَةُ الْمَعْرُوفَةُ مِثْلَ أَنْ يَنْتَقِلَ جِيرَانُ الْمَكَانِ
وَيَقِلَّ الزَّبُونُ لِخَوْفِ أَوْ خَرَابٍ أَوْ تَحْوِيلِ ذِي سُلْطَانٍ لَهُمْ
وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ يَحُطُّ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ الْأُجْرَةِ
بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْرُوفَةِ ؛ سَوَاءٌ رَضِيَ
النَّاظِرُ وَأَهْلُ الْوَقْفِ أَوْ سَخِطُوا . وَلَا يَرْجِعُ عَلَى
الْمُسْتَأْجِرِ بِمَا وَضَعَ عَنْهُ إذَا لَمْ تُوضَعْ إلَّا قَدْرَ مَا نَقَصَ
مِنْ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْرُوفَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ إقْطَاعَهُ وَهُوَ قِيرَاطٌ وَاحِدٌ وَنِصْفُ
قِيرَاطٍ مِنْ النَّاحِيَةِ إجَارَةً شَرْعِيَّةً ؛ لِيَنْتَفِعَ الْمُسْتَأْجِرُ
بِذَلِكَ بِالزِّرَاعَةِ كَيْفَ شَاءَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَلَمْ يَكُنْ
فِي الْإِجَارَةِ الْمَذْكُورَةِ مَرَاحًا وَلَا مَقِيلًا . وَقَدْ سُرِقَ بَعْضُ
مَا فِي النَّاحِيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ . فَهَلْ يَلْزَمُ
الْمُسْتَأْجِرَ الْمَذْكُورَ أُجْرَةُ مَا تَعَطَّلَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
مَا لَمْ يَشْمَلْهُ الرَّيُّ مِنْ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ بِقَدْرِهِ مِنْ
الْأُجْرَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَإِنْ قَالَ فِي الْإِجَارَةِ : مَقِيلًا
وَمَرَاحًا أَوْ أَطْلَقَ وَلَوْ لَمْ يُرْوَ شَيْءٌ مِنْ الْأَرْضِ : لَمْ يَجِبْ
عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَإِنْ قَالَ فِي
الْإِجَارَةِ : مَقِيلًا وَمَرَاحًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الْعَارِيَةِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ فَرَسًا لِيَرْكَبَهَا إلَى بَابِ النَّصْرِ
وَاشْتَرَطَ الْمُسْتَعِيرُ عَلَى أَنْ لَا يَسِيرَ بِالْفَرَسِ سِوَى إلَى بَابِ
النَّصْرِ وَيَجِيءَ مِنْ سَاعَتِهِ فَسَارَ بِهَا إلَى بَرْكَةِ الْحَجَّاجِ
وَلَمْ يَجِئْ إلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ فَانْتَكَبَ الْفَرَسُ وَبَاعَهَا
صَاحِبُهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهَا . فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ نِصْفُ
نَقْصِ الْقِيمَةِ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، إذَا كَانَ قَدْ زَادَ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى مَا أَذِنَ لَهُ
صَاحِبُهَا فَهُوَ ظَالِمٌ ضَامِنٌ مَا يُتْلِفُ بِعُدْوَانِهِ فَمَا نَقَصَ مِنْ
قِيمَةِ الْفَرَسِ بِهَذَا الظُّلْمِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَعَارَ فَرَسًا وَهِيَ شَرِكَةٌ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَمَاتَتْ
الْفَرَسُ عِنْدَ الَّذِي أَعَارَهَا شَرِيكُهُ فَمَنْ يَضْمَنُ حِصَّةَ
الشَّرِيكِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أَعَارَ نَصِيبَ الشَّرِيكِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَتَلِفَتْ الْفَرَسُ كَانَ
لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُعِيرِ الْمُعْتَدِي بِقِيمَةِ نَصِيبِهِ وَلَهُ مُطَالَبَةُ
الْمُسْتَعِيرِ أَيْضًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ اسْتَعَارَتْ زَوْجَيْ حَلَقٍ وَقَدْ عُدِمُوا مِنْهَا . فَهَلْ
يَلْزَمُهَا قِيمَةُ الْحَلَقِ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ فَرَّطَتْ فِي حِفْظِهَا لَزِمَهَا غَرَامَتُهَا بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ . وَإِنْ لَمْ تُفَرِّطْ فَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَهُمْ
. فَفِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهَا وَفِي مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد عَلَيْهَا الضَّمَانُ وَعِنْدَ مَالِكٍ إذَا تَلِفَتْ
بِسَبَبِ مَعْلُومٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا وَإِذَا ادَّعَتْ التَّلَفَ بِسَبَبِ
خَفِيٍّ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ سَافَرَ وَانْتَهَى بِهِ الطَّرِيقُ إلَى قَرْيَةٍ فَعَزَمَ عَلَيْهِ
رَجُلٌ فَبَاتَ عِنْدَهُ وَطَلَبَ مِنْهُ دَابَّةً فَلَمَّا وَصَلَ إلَى
الْفُنْدُقِ مَاتَتْ ؟
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهُمَا : لَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ إذَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ وَلَا عُدْوَانِهِ . وَهَذَا
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا فَأَعَارَهُ وَهُوَ لَا يَشُكُّ فِي
أَنَّهُ عُمَرُ وَقَطَعَ بِأَنَّهُ ذَلِكَ الشَّخْصُ وَطَلَبَ مَا أَعَارَهُ
فَأَنْكَرَ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَعِيرُ
فَطَلَعَ خِلَافَ مَا ظَنَّهُ وَجَاءَ بِالْعَارِيَةِ . فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ
الطَّلَاقُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
: إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ صِدْقَ نَفْسِهِ
فَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا
بَعْدُ أَنَّهُ أَخْطَأَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ عِنْدَ أَمِيرٍ فَقَالَ الْأَمِيرُ لِأَحَدِهِمَا : اُطْلُبْ
سَيْفَ رَفِيقِك عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَةِ فَأَجَابَ وَأَخَذَهُ الْأَمِيرُ
فَعَدِمَ عِنْدَهُ : هَلْ تَلْزَمُ الْمُطَالَبَةُ لِلْأَمِيرِ أَوْ لِلرَّسُولِ
الَّذِي اسْتَعَارَهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الرَّسُولُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ يَتَعَدَّ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛
بَلْ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ إنْ كَانَ فَرَّطَ أَوْ اعْتَدَى بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ وَإِلَّا فَفِي ضَمَانِهِ نِزَاعٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الْغَصْبِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ غَصَبَ زَرْعَ رَجُلٍ وَحَصَدَهُ . هَلْ يُبَاحُ لِلْفُقَرَاءِ اللِّقَاطُ
الْمُتَسَاقِطُ ؟
فَأَجَابَ : نَعَمْ يُبَاحُ اللِّقَاطُ كَمَا كَانَ يُبَاحُ لَوْ حَصَدَهَا
الْمَالِكُ كَمَا يُبَاحُ رَعْيُ الْكَلَإِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ نَصَّ
الْإِمَامِ أَحْمَد عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ
مَا يُبَاحُ مِنْ الْكَلَإِ وَاللِّقَاطِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْغَصْبِ وَعَدَمِهِ
وَلَا يَمْنَعُهُ حَقُّ الْمَالِكِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ أَرْضٌ مِلْكٌ وَهِيَ بِيَدِهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً فَجَاءَ رَجُلٌ
جَذَّ زَرْعَهُ مِنْهَا ثُمَّ زَرَعَهَا فِي ثَانِي سَنَةٍ . فَمَا يَجِبُ
عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ بَلْ لَهُ أَنْ
يُطَالِبَ
مَنْ
زَرَعَ فِي مِلْكِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الزَّرْعَ إذَا
كَانَ قَائِمًا وَيُعْطِيَهُ نَفَقَتَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ سَرَقَ كَيْلَ غَلَّةٍ . وَبَذَرَهُ وَلَمْ يَعْرِفْ مَالِكُهُ فَهَلْ
يَحِلُّ لَهُ الزَّرْعُ كُلُّهُ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا مِقْدَارُ الْبَذْرِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ بِلَا رَيْبٍ وَأَمَّا
الزِّيَادَةُ فَفِيهَا نِزَاعٌ . وَأَعْدَلُ الْأَقْوَالِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مُزَارَعَةً
فَيَأْخُذَ نَصِيبَهُ وَنَصِيبَ صَاحِبِ الْبَذْرِ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ غَصَبَ عَيْنًا فَبَاعَهَا مِنْ رَجُلٍ عَالِمٍ بِالْغَصْبِ فَجَاءَ
صَاحِبُ الْعَيْنِ فَأَخَذَهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي . فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي
أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ الَّذِي اشْتَرَاهَا مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِ
بِالْغَصْبِ بِالثَّمَنِ الَّذِي بَذَلَهُ لَهُ ؟ أَمْ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ
عَلَى الْغَاصِبِ بِشَيْءِ وَاَلَّذِي نَقَدَهُ لِلْغَاصِبِ يَرُوحُ مَجَّانًا ؟
فَكَيْفَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، بَلْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى
الْغَاصِبِ بِالثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا
بِالْغَصْبِ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا ؛ فَإِنَّ الثَّمَنَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ
حَقٍّ وَلَوْ كَانَ بِرِضَاهُ . فَإِنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا مَا لَا يَحِلُّ
بَيْعُهُ : مِنْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ بِرِضَاهُمَا لَوَجَبَ أَنْ يَرُدَّ
الْمَبِيع فَيُتْلِفَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَيَرُدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي
الثَّمَنَ فَكَيْفَ إذَا بَاعَهُ مَالَ الْغَيْرِ ؟ وَبِأَيِّ وَجْهٍ بَقِيَ
الثَّمَنُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِلْكُ
الْمُشْتَرِي . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَنْ رَجُلٍ غَرَسَ نَوًى فِي أَرْضِ الْغَيْرِ ؟ :
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا غَرَسَ نَخْلَةً تَمَلَّكَهَا فِي أَرْضِ الْغَيْرِ
ابْنُهُ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَةِ ابْنِهِ فِيهَا حَقٌّ بَلْ الْحَقُّ فِيهَا لَهُ
وَلِأَهْلِ الْأَرْضِ فَالنَّخْلَةُ لَهُ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْأَرْضِ
لِأَهْلِهَا إذَا أَبْقَوْهَا فِي أَرْضِهِمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ كَسَبَ بَعِيرًا وَجَابَ الْبَعِيرُ بَعِيرًا . فَهَلْ فِي نَتَاجِهَا
رُخْصَةٌ فِي الْأَرْبَعِ مَذَاهِبَ ؟ .
فَأَجَابَ :
نَتَاجُ الدَّابَّةِ لِمَالِكِهَا وَلَا يَحِلُّ لِلْغَاصِبِ ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ
النَّتَاجُ مُسْتَوْلَدًا مِنْ عَمَلِ الْمُسْتَوْلِي . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ
يَجْعَلُ النَّمَاءَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْعَامِلِ كَالْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا
. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ بَهَائِمُ حَلَالٌ وَأَنْزَى عَلَيْهَا فَحْلٌ حَرَامٌ . فَهَلْ
فِي نَتَاجِهِمْ شُبْهَةٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا أَنْزَى عَلَى بَهَائِمِهِ فَحْلُ غَيْرِهِ فَالنَّتَاجُ لَهُ ؛ وَلَكِنْ
إذَا كَانَ ظَالِمًا فِي الْإِنْزَاءِ ؛ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِالْفَحْلِ الْمُنْزِي
فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ لِصَاحِبِهِ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبُهُ
تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ نَقْصِهِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُ فَلَا قِيمَةَ
لَهُ فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ عَسْبِ
الْفَحْلِ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى بَهِيمَةً بِثَمَنِ بَعْضُهُ حَلَالٌ وَبَعْضُهُ حَرَامٌ
فَأَيُّ شَيْءٍ يَحْكُمُ بِهِ الشَّرْعُ ؟ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : إذَا كَانَ اشْتَرَاهَا بِثَمَنِ بَعْضُهُ لَهُ وَبَعْضُهُ مَغْصُوبٌ
فَنِصْفُهَا مِلْكُهُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَا يَسْتَحِقُّهُ ؛ بَلْ يَدْفَعُهُ
إلَى صَاحِبِهِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ فَإِنْ حَصَلَ مِنْ
ذَلِكَ نَمَاءٌ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَصْلِ : نِصْفُهُ لَهُ وَنِصْفُهُ
لِلْجِهَةِ الْأُخْرَى . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ جَارِيَةٍ لِسَيِّدَةٍ تَطْلُبُ لِنَفْسِهَا زركشا عَلَى لِسَانِ
سَيِّدَتِهَا ثُمَّ إنَّ الْجَارِيَةَ طَلَبَتْ عَلَى لِسَانِ سَيِّدَتِهَا
خَاتَمًا وَأَنْكَرَتْ السَّيِّدَةُ وَالْجَارِيَةُ مُعْتَرِفَةٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ طَلَبَتْ عَلَى لِسَانِ سَيِّدَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ أَذِنَتْ لَهَا
كَانَتْ الْجَارِيَةُ غَاصِبَةً قَابِضَةً لِذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِذَا تَلِفَ
فِي يَدِهَا فَضَمَانُهُ فِي رَقَبَةِ الْجَارِيَةِ وَسَيِّدَتُهَا بِالْخِيَارِ
بَيْنَ أَنْ تَفْتَدِيَهَا فَتُؤَدِّيَ قِيمَةَ مَا أَخَذَتْهُ وَبَيْنَ أَنْ تُسَلِّمَهَا
لِتُبَاعَ وَيُؤْخَذَ مِنْ ثَمَنِهَا ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي تُقْبَضُ بِطَرِيقِ المناهب الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ
الْأَعْرَابِ إذَا كَانَ فِيهَا حَيَوَانٌ تَنَاسَلَ وَعَيْنٌ حَصَلَ فِيهَا
رِبْحٌ أَوْ شَجَرٌ أَثْمَرَ . هَلْ النَّسْلُ وَالرِّبْحُ لِلْغَاصِبِ ؛
لِكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يَرْعَى الْحَيَوَانَ وَيَتَّجِرُ فِي الْعَيْنِ
وَيَسْقِي الشَّجَرَ ؟ أَمْ لِلْمَالِكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ؟ وَالْأَمْوَالُ
الَّتِي بِأَيْدِي هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ . هَلْ تُزَكَّى ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا
تَابَ الْغَاصِبُ وَقَدْ جَهِلَ الْمَالِكُ ؟ مَا حُكْمُهُ ؟ هَلْ يَتَصَدَّقُ
بِالْجَمِيعِ أَوْ الْبَعْضِ ؟ وَهَلْ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ الزِّنَا
وَالسَّرِقَةِ . وَنَحْوِ ذَلِكَ ؟ وَفِي أَقْوَامٍ مِنْ الْأَحْمَدِيَّةِ
وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَحْضُرُ سَمَاعَ الْغِنَاءِ وَالْمَلَاهِي وَيُمْسِكُونَ
الْحَيَّاتِ وَيَدْخُلُونَ النَّارَ وَلَا يَحْتَرِقُونَ . وَإِذَا لَمْ يُعْطُوا
مِنْ الزَّكَاةِ غَضِبُوا وَتَوَجَّهُوا عَلَى الْمَانِعِ لَهُمْ وَيَقُولُونَ :
هَذِهِ فِي إبِلِك هَذِهِ فِي غَنَمِك فِي كَذَا . . . وَيَمُوتُ بَعْضُ الْإِبِلِ
وَالْغَنَمِ فَيَقُولُونَ : هَذِهِ بِخَوَاطِرِنَا . فَهَلْ يَجُوزُ إعْطَاءُ
هَؤُلَاءِ مِنْ الزَّكَاةِ خَوْفًا مِنْهُمْ ؟ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا الْمَالُ الْمَغْصُوبُ إذَا
عَمِلَ فِيهِ الْغَاصِبُ حَتَّى حَصَلَ مِنْهُ نَمَاءٌ : فَفِيهِ أَقْوَالٌ
لِلْعُلَمَاءِ : هَلْ النَّمَاءُ لِلْمَالِكِ
وَحْدَهُ ؟ أَوْ يَتَصَدَّقَانِ بِهِ ؟ أَوْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا كَمَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا إذَا عَمِلَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَكَمَا يَدْفَعُ الْحَيَوَانَ إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهِ بِجُزْءِ مِنْ دَرِّهِ وَنَسْلِهِ أَوْ يَكُونُ لِلْعَامِلِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ إنْ كَانَتْ عَادَتُهُمْ جَارِيَةً بِمِثْلِ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا أَقْرَضَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ابْنَيْهِ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَخَصَّهُمَا بِهَا دُونَ سَائِر الْمُسْلِمِينَ وَرَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ ذَلِكَ مُحَابَاةً لَهُمَا لَا تَجُوزُ وَكَانَ الْمَالُ قَدْ رَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا بَلَغَ بِهِ الْمَالُ ثَمَانَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَدْفَعَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُمَا مِنْ الرِّبْحِ لِكَوْنِهِمَا قَبَضَا الْمَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ . فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ : إنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَك ؛ فَإِنَّ الْمَالَ لَوْ خَسِرَ وَتَلِفَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَمَانِنَا فَلِمَاذَا تَجْعَلُ عَلَيْنَا الضَّمَانَ وَلَا تَجْعَلُ لَنَا الرِّبْحَ ؟ فَتَوَقَّفَ عُمَرَ . فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : نَجْعَلُهُ مُضَارَبَةً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ : لَهُمَا نِصْفُ الرِّبْحِ وَلِلْمُسْلِمِينَ نِصْفُ الرِّبْحِ فَعَمِلَ عُمَرَ بِذَلِكَ . وَهَذَا مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْعَدْلُ ؛ فَإِنَّ النَّمَاءَ حَصَلَ بِمَالِ هَذَا وَعَمَلِ هَذَا فَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِالرِّبْحِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ بِالنَّمَاءِ ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا ؛ بَلْ يُجْعَلُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَا مُشْتَرِكَيْنِ شَرِكَةَ مُضَارِبَةٍ .
وَهَكَذَا الَّذِي يَعْمَلُ عَلَى مَاشِيَةِ غَيْرِهِ أَوْ بُسْتَانِهِ أَوْ أَرْضِهِ حَتَّى يَحْصُلَ بِمَزْرُوعِ أَوْ دَرٍّ أَوْ نَسْلٍ ؛ لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الْعَمَلَ هُنَا بِجُزْءِ مِنْ النَّمَاءِ وَإِنَّمَا تَجُوزُ عِنْدَهُ الْإِجَارَةُ . وَأَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ : أَنَّهَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ وَتَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ أَوْ مِنْ الْعَامِلِ أَوْ مِنْهُمَا كَمَا { عَامَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ . وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا كَانُوا يَدْفَعُونَ إلَى مَنْ يَزْرَعُهَا لِيَبْذُرَ مِنْ عِنْدِهِ وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا وَكَانَ عَامَّةُ بُيُوتِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مُزَارِعُونَ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَرَّمٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ مُقَدَّرَةٌ . وَإِنَّمَا الْعَدْلُ أَنْ يَشْتَرِكَا فِيمَا يَرْزُقُهُ اللَّهُ مِنْ النَّمَاءِ ؛ لِهَذَا جُزْءٌ شَائِعٌ وَلِهَذَا جُزْءٌ شَائِعٌ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَيَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْرَمِ فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ ذَهَبَ نَفْعُ مَالِ هَذَا وَنَفْعُ بَدَنِ هَذَا .
فَصْلٌ
:
وَالْأَمْوَالُ الَّتِي بِأَيْدِي هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ المتناهبين إذَا لَمْ
يُعْرَفْ لَهَا مَالِكٌ مُعَيَّنٌ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ زَكَاتَهَا فَإِنَّهَا إنْ
كَانَتْ مِلْكًا لِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ كَانَتْ زَكَاتُهَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ
تَكُنْ مِلْكًا لَهُ وَمَالِكُهَا مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ
بِهَا كُلِّهَا فَإِذَا تَصَدَّقَ بِقَدْرِ زَكَاتِهَا كَانَ خَيْرًا مِنْ أَنْ
لَا يَتَصَدَّقَ بِشَيْءِ مِنْهَا . فَإِخْرَاجُ قَدْرِ الزَّكَاةِ مِنْهَا
أَحْسَنُ مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ . وَإِذَا كَانَ يَنْهَبُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِنْ كَانَ النَّهْبُ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مَعْرُوفَتَيْنِ
فَإِنَّهُ يَنْظُرُ قَدْرَ مَا أَخَذَتْهُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ الْأُخْرَى فَإِنْ
كَانُوا سَوَاءً تَقَاضَيَا وَأَقَرَّ كُلَّ قَوْمٍ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ
وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عَيْنُ الْمَنْهُوبِ مِنْهُ . كَمَا لَوْ تَقَاتَلُوا
قِتَالَ جَاهِلِيَّةٍ وَقَتَلَ هَؤُلَاءِ بَعْضَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بَعْضَ
هَؤُلَاءِ وَأَتْلَفَ هَؤُلَاءِ بَعْضَ أَمْوَالِ هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ
الْقِصَاصُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ . فَتَقَابُلُ النُّفُوسِ بِالنُّفُوسِ
وَالْأَمْوَالِ بِالْأَمْوَالِ فَإِنَّ فَضَلَ لِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى
الْأُخْرَى شَيْءٌ طَالَبَتْهَا بِذَلِكَ .
وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ الْعَرَبِ كَانَ بَيْنَهُمَا قِتَالٌ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُقَاصَّ مِنْ الْقَتْلَى : الْحُرُّ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالْحُرِّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى . ثُمَّ قَالَ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } . يَقُولُ : إنْ فَضَلَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ شَيْءٌ فَلْيُؤَدِّهِ إلَيْهِمْ بِمَعْرُوفِ والتتبعة الْأُخْرَى أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِهِ بِإِحْسَانِ وَالِاتِّبَاعُ هُوَ الْمُطَالَبَةُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } . وَهَذَا لِأَنَّ الطَّوَائِفَ الْمُمْتَنِعَةَ الَّتِي يُعِينُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الْقِتَالِ ثُمَّ يَكُونُ الضَّمَانُ فِيهَا عَلَى الَّذِي يُبَاشِرُ الْقِتَالَ وَالْأَخْذَ وَالْإِتْلَافَ وَعَلَى الرَّدْءِ الَّذِي يُعِينُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَلِهَذَا كَانَ فِي مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ يُقْتَلُ مِنْهُمْ الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ . وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَ رَبِيئَةَ الْمُحَارِبِينَ وَهُوَ النَّاظِرُ الَّذِي يَنْظُرُ لَهُمْ الطَّرِيقَ . فالمتعاونون عَلَى الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْعُقُوبَةُ بِالضَّمَانِ وَغَيْرِهِ وَلِهَذَا قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إنَّ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْن عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَرِيَاسَةٍ تَضْمَنُ كُلُّ طَائِفَةٍ مَا أَتْلَفَتْ لِلْأُخْرَى مِنْ
نَفْسٍ وَمَالٍ . فَأَوْجَبُوا الضَّمَانَ عَلَى مَجْمُوعِ الطَّائِفَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عَيْنُ الْمُتْلِفِ . وَإِنْ كَانَ قَدْرُ الْمَنْهُوبِ مَجْهُولًا لَا يُعْرَفُ مَا نَهَبَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا قَدْرُ مَا نَهَبَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى التَّسَاوِي ؛ كَمَنْ اخْتَلَطَ فِي مَالِهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ وَلَمْ يَعْرِفْ أَيَّهمَا أَكْثَرُ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ نِصْفَ مَالِهِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لَهُ حَلَالٌ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالْعُمَّالِ عَلَى الْأَمْوَالِ ؛ فَإِنَّهُ شَاطَرَهُمْ . فَأَخَذَ نِصْفَ أَمْوَالِ عُمَّالِهِ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقَ . فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّهُ اخْتَلَطَ بِأَمْوَالِهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَعْرِفْ لَا أَعْيَانَ الْمَمْلُوكِ وَلَا مِقْدَارَ مَا أَخَذَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْوَاحِدِ أَقَلُّ مِنْ حَقِّهِ وَأَكْثَرُ فَفِي مِثْلِ هَذَا يُقَرُّ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مَا فِي يَدِهِ إذَا تَابَ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَإِنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ يَسْقُطُ التَّكْلِيفُ بِهِ وَيُزَكِّي ذَلِكَ الْمَالَ كَمَا يُزَكِّيهِ الْمَالِكُ . وَإِنْ عَرَفَ أَنَّ فِي مَالِهِ حَلَالًا مَمْلُوكًا وَحَرَامًا لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ وَعَرَفَ قَدْرَهُ فَإِنَّهُ يَقْسِمُ الْمَالَ عَلَى قَدْرِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَيَأْخُذُ قَدْرَ الْحَلَالِ وَأَمَّا الْحَرَامُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْ أَصْحَابِهِ كَمَا يَفْعَلُ مَنْ عِنْدِهِ أَمْوَالٌ مَجْهُولَةُ الْمُلَّاكِ : مِنْ غصوب وَعَوَارِيَّ وَوَدَائِعَ ؛ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ
وَأَبِي
حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَتَصَدَّقُ
بِهَا . وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مِقْدَارَ
الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْمَالَ نِصْفَيْنِ يَأْخُذُ
لِنَفْسِهِ نِصْفَهُ وَالنِّصْفُ الثَّانِي يُوَصِّلُهُ إلَى أَصْحَابِهِ إنْ
عَرَفَهُمْ وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهِ . وَمَا تَصَدَّقَ بِهِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ
فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ : فَيُعْطَى مِنْهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ
وَيُقْرَى مِنْهُ الضَّيْفُ وَيُعَانُ فِيهِ الْحَاجُّ وَيُنْفَقُ فِي الْجِهَادِ
وَفِي أَبْوَابِ الْبِرِّ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا يُفْعَلُ
بِسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمَجْهُولَةِ وَهَكَذَا يَفْعَلُ مَنْ تَابَ مِنْ
الْحَرَامِ وَبِيَدِهِ الْحَرَامُ لَا يَعْرِفُ مَالِكَهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ وَالٍ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِإِنْسَانِ وَثَبَتَ عَلَيْهِ
عِنْدَ حَاكِمٍ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ حَرَامٌ نَهَبَ
أَمْوَالَ النَّاسِ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ هَذَا الْمَالِ
عِوَضَ مَا أَخَذَهُ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ
حَرَامٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إنْ كَانَ جَمِيعُ مَا بِيَدِهِ أَخَذَهُ
مِنْ
النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ : مِثْلَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ بَعْضَ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ وَمِثْلَ أَنْ يَطْلُبَ ظُلْمَ أَقْوَامٍ فَيُعْطُوهُ مَا يَنْكَفُّ بِهِ عَنْ ظُلْمِهِمْ وَمِثْلَ أَنْ يَحْمِيَ بَعْضَ النَّاسِ عَنْ مُسَاوَاةِ نُظَرَائِهِمْ فِيمَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ لِيُعْطُوهُ رِشْوَةً وَمِثْلَ أَنْ يَظْلِمَ فِي حُكْمِهِ أَوْ يَعْدِلَ بِرِشْوَةِ يَأْخُذُهَا وَمِثْلَ أَنْ يَغْصِبَ مَالَ قَوْمٍ بِافْتِرَاءِ يَفْتَرِيهِ عَلَيْهِمْ وَمِثْلَ أَنْ يُهْدِرَ دِمَاءَ الْمَقْتُولِينَ بِرِشْوَةِ مِنْ الْقَاتِلِينَ . فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ وَنَحْوُهَا هِيَ مُسْتَحَقَّةٌ لِأَصْحَابِهَا . كَاللِّصِّ الَّذِي يَسْرِقُ أَمْوَالًا وَيَخْلِطُ بَعْضَهَا بِبَعْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحَرِّمُهَا عَلَى أَصْحَابِهَا ؛ بَلْ يَقْتَسِمُونَ الْأَمْوَالَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ وَإِنْ جَهِلَ عَيْنَ مَالِ الرَّجُلِ لِكَوْنِهِ بَاعَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَعِوَضُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ . وَمَنْ اكْتَسَبَ بِهَذِهِ الْأَمْوَالِ بِتِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَقِيلَ : الرِّبْحُ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ . وَقِيلَ لَهُ : إذَا اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ . وَقِيلَ : بَلْ يَتَصَدَّقَانِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ خَبِيثٌ . وَقِيلَ : بَلْ يُقَسَّمُ الرِّبْحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ كَالْمُضَارَبَةِ . كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الْمَالِ الَّذِي أَقَرَضَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِابْنَيْهِ دُونَ الْعَسْكَرِ . وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَهْلُ الْأَمْوَالِ يَقْتَسِمُونَ مَا وَجَدُوهُ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إمَّا عَيْنُ أَمْوَالِهِمْ وَإِمَّا وَفَاءُ دُيُونِهِمْ الثَّابِتَةِ فِي ذِمَّتِهِ ؛ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ حُقُوقَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا بِذِمَّتِهِ وَبِالْأَمْوَالِ . فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ مِقْدَارَ مَا غَصَبَهُ وَلَا أَعْيَانَ الْغُرَمَاءِ كُلِّهِمْ : فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ مِنْ هَذِهِ
الْأَمْوَالِ
قَدْرَ حَقِّهِ لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ
قَدْ اتَّجَرَ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي بِيَدِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ حِينَئِذٍ
أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ حَقِّهِ ؛ لَكِنْ يَخَافُ أَنْ تَكُونَ الْأَمْوَالُ الَّتِي
بِيَدِهِ تَضِيقُ عَنْ حُقُوقِ جَمِيعِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَكِنَّ الْمَجْهُولَ
مِنْهُمْ الَّذِي لَا يُعْلَمُ صَارَ كَالْمَعْدُومِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي
يَأْخُذُ قَدْرَ حَقِّهِ لَهُ . وَلَمْ يَظْلِمْ سَائِر الْغُرَمَاءِ
الْمَعْرُوفِينَ لَمْ نَحْكُمْ بِتَحْرِيمِ مَا أَخَذَهُ ؛ لَكِنْ إنْ ظَهَرَ
فِيمَا بَعْدُ غُرَمَاءُ وَلَهُمْ قِسْطٌ مِنْ مَالِهِ كَانَ لَهُمْ
الْمُطَالَبَةُ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ فَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَى الْمَالِ يُؤْخَذُ
مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
سُئِلْت عَنْ قَوْمٍ أُخِذَتْ لَهُمْ غَنَمٌ أَوْ غَيْرُهَا مِنْ الْمَالِ ثُمَّ
رُدَّتْ عَلَيْهِمْ أَوْ بَعْضُهَا وَقَدْ اشْتَبَهَ مِلْكُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ .
فَأَجَبْتهمْ :
أَنَّهُ إنْ عُرِفَ قَدْرُ الْمَالِ تَحْقِيقًا قُسِمَ الْمَوْجُودُ بَيْنَهُمْ
عَلَى قَدْرِهِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا عَدَدُهُ قُسِمَ عَلَى الْعَدَدِ ؛
لِأَنَّ الْمَالَيْنِ إذَا اخْتَلَطَا قُسِمَا بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ يَدْفَعُ
لِكُلِّ مِنْهُمْ عَنْ مَالِهِ مَا كَانَ لِلْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ
جَعَلَهُمْ شُرَكَاءَ ؛ لَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ تَصِحُّ
بِالْعَقْدِ مَعَ امْتِيَازِ الْمَالَيْنِ ؛ لَكِنَّ الِاشْتِبَاهَ فِي الْغَنَمِ
وَنَحْوِهَا يَقُومُ مَقَامَ الِاخْتِلَاطِ فِي الْمَائِعَاتِ .
وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا اشْتَرَكَا فِيمَا يَتَشَابَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ أَنَّهُ يَصِحُّ كَمَا لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ إذَا صَحَّحْنَاهَا بِالْعُرُوضِ وَإِذَا كَانُوا شُرَكَاءَ بِالِاخْتِلَاطِ وَالِاشْتِبَاهِ فَعِنْدَ الْقِسْمَةِ يُقَسَّمُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْمَرْدُودُ جَمِيعَ مَا لَهُمْ فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ فَذَلِكَ الْبَعْضُ هُوَ بَعْضُ الْمُشْتَرَكِ كَمَا لَوْ رَدَّ بَعْضَ الدَّرَاهِمِ الْمُخْتَلِطَةِ . يَبْقَى إنْ كَانَ حَيَوَانًا . فَهَلْ يَجِبُ قِسْمَتُهُ أَعْيَانًا عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِهِمْ قَوْلًا وَاحِدًا أَوْ يَخْرُجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَيَوَانِ الْمُشْتَرَكِ ؟ فَالْأَشْبَهُ خُرُوجُهُ عَلَى الْخِلَافِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَشَرَةُ رُءُوسٍ وَلِلْآخَرِ عِشْرُونَ فَمَا وُجِدَ فَلِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهُ وَلِلْآخَرِ ثُلْثَاهُ كَذَلِكَ . لَكِنَّ الْمَحْذُورَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَالَ كُلٍّ مِنْهُمَا إنْ عُرِفَ قِيمَتُهُ فَظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا عَدَدُهُ مَعَ أَنَّ غَنَمَ أَحَدِهِمَا قَدْ تَكُونُ خَيْرًا مِنْ غَنَمِ الْآخَرِ فَالْوَاجِبُ عِنْدَ تَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ التَّسْوِيَةُ ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُلْجِئُ إلَى التَّسْوِيَةِ . وَعَلَى هَذَا فَسَوَاءٌ اخْتَلَطَ غَنَمُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً يُقْسَمُ الْمَالَانِ عَلَى الْعَدَدِ إنْ لَمْ يُعْرَفْ الرُّجْحَانُ . وَإِنْ عُرِفَ وَجُهِلَ قَدْرُهُ أُثْبِتُ مِنْهُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ وَأُسْقِطَ الزَّائِدُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْرِقَ ثَوْبَهُ كَمَا يَخْرِقَ ثَوْبَهُ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي إتْلَافِ الْأَمْوَالِ مِثْلَ أَنْ يَخْرِقَ ثَوْبَهُ
فَيَخْرِقَ ثَوْبَهُ الْمُمَاثِلَ لَهُ أَوْ يَهْدِمَ دَارَهُ فَيَهْدِمَ دَارَهُ
وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ
أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ؛ لِأَنَّهُ إفْسَادٌ
وَلِأَنَّ الْعَقَارَ وَالثِّيَابَ غَيْرُ مُمَاثِلَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ
ذَلِكَ مَشْرُوعٌ ؛ لِأَنَّ الْأَنْفُسَ وَالْأَطْرَافَ أَعْظَمُ قَدْرًا مِنْ
الْأَمْوَالِ وَإِذَا جَازَ إتْلَافُهَا عَلَى سَبِيلِ الْقِصَاصِ ؛ لِأَجْلِ
اسْتِيفَاءِ الْمَظْلُومِ فَالْأَمْوَالُ أَوْلَى . وَلِهَذَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ
نُفْسِدَ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا أَفْسَدُوا أَمْوَالَنَا كَقَطْعِ
الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ . وَإِنْ قِيلَ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ
فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَتْلَفَ لَهُ ثِيَابًا أَوْ حَيَوَانًا
أَوْ عَقَارًا وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهَلْ يَضْمَنُهُ بِالْقِيمَةِ ؟ أَوْ
يَضْمَنُهُ بِجِنْسِهِ مَعَ الْقِيمَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ
لِلْعُلَمَاءِ . وَهُمَا قَوْلَانِ فِي
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . فَإِنَّ الشَّافِعِيِّ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا هَدَمَ دَارَهُ بَنَاهَا كَمَا كَانَتْ فَضَمِنَهُ بِالْمِثْلِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي الْحَيَوَانِ نَحْوُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ أَحْمَد يُضَمِّنُ أَوْلَادَ الْمَغْرُورِ بِجِنْسِهِمْ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَإِذَا اقْتَرَضَ حَيَوَانًا رَدَّ مِثْلَهُ فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ . وَقِصَّةُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ هِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ ضَمَّنَ أَهْلَ الْحَرْثِ الَّذِي نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ بِالْقِيمَةِ وَأَعْطَاهُمْ الْمَاشِيَةَ مَكَانَ الْقِيمَةِ . وَسُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ أَنْ يُعَمِّرُوا الْحَرْثَ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ وَيَنْتَفِعُوا بِالْمَاشِيَةِ بَدَلَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ مَنْفَعَةِ الْحَرْثِ . وَبِهَذَا أَفْتَى الزُّهْرِيُّ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا كَانَ قَدْ اعْتَدَى بَعْضُ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى بُسْتَانٍ لَهُ فَقَلَعُوهُ وَسَأَلُوهُ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : يَغْرِسُهُ كَمَا كَانَ . فَقِيلَ لَهُ : إنَّ رَبِيعَةَ وَأَبَا الزِّنَادِ قَالَا : تَجِبُ الْقِيمَةُ فَتَكَلَّمَ الزُّهْرِيُّ فِيهِمَا بِكَلَامِ مَضْمُونُهُ : أَنَّهُمَا خَالَفَا السُّنَّةَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ ضَمَانَ الْمَالِ بِجِنْسِهِ مَعَ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ مِنْ ضَمَانِهِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ مَعَ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ؛ فَإِنَّ الْقِيمَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالْجِنْسُ مُخْتَصٌّ بِأَحَدِهِمَا وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَغْرَاضَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِنْسِ وَإِلَّا فَمَنْ لَهُ غَرَضٌ فِي كِتَابٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ بُسْتَانٍ مَا يَصْنَعُ بِالدَّرَاهِمِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : يَشْتَرِي بِهَا مِثْلَهُ قِيلَ : الظَّالِمُ الَّذِي فَوَّتَهُ مَالَهُ هُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يَضْمَنَ لَهُ مِثْلَ مَا فَوَّتَهُ إيَّاهُ ؛ أَوْ نَظِيرَ مَا أَفْسَدَهُ مِنْ مَالِهِ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ تُجَّارٍ أَخَذَهُمْ حَرَامِيَّةٌ ثُمَّ رَدُّوا عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَالِ
شَيْئًا . فَهَلْ مَنْ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ يَأْخُذُهُ ؟ أَوْ يُقْسَمُ
عَلَى رُءُوسِ الْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ بِالسَّوِيَّةِ إلَخْ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا مَنْ وَجَدَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ
وَأَمَّا الَّذِينَ عَدِمَتْ أَمْوَالُهُمْ فَيَتَقَاسَمُونَ مَا غَرِمَهُ
الْحَرَامِيَّةُ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ ؛ لَا عَلَى عَدَدِ الرُّؤُوسِ
. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ عَسْكَرٍ نَزَلُوا مَكَانًا بَاتُوا فِيهِ فَجَاءَ أُنَاسٌ سَرَقُوا لَهُمْ
قُمَاشًا فَلَحِقُوا السَّارِقَ فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ بِالسَّيْفِ ثُمَّ حُمِلَ
إلَى مُقَدَّمِ الْعَسْكَرِ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : إذَا كَانَ هَذَا هُوَ الطَّرِيقُ فِي اسْتِرْجَاعِ مَا مَعَ
السَّارِقِ لَمْ يَلْزَمْ الضَّارِبَ شَيْءٌ . وَقَدْ رَوَى ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ
لِصًّا دَخَلَ دَارَهُ فَقَامَ
إلَيْهِ
بِالسَّيْفِ فَلَوْلَا أَنَّهُمْ رَدُّوهُ عَنْهُ لَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ . وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ : { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } .
وَسُئِلَ :
عَمَّا قَدَّمَهُ لِلسُّلْطَانِ مِنْ الْمَغْصُوبِ إلَخْ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَا قَدَّمَهُ لِلسُّلْطَانِ مِنْ الْمَغْصُوبِ وَأَعْطَاهُ مَا أَعْطَاهُ
فَلْيَتَصَدَّقْ بِقَدْرِ ذَلِكَ الْمَغْصُوبِ عَنْ صَاحِبِهِ إنْ لَمْ يَعْرِفْهُ
وَكَذَلِكَ مَا أَهْدَاهُ لِلْأَمِيرِ أَوْ عَوَّضَهُ عَنْهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يَطْحَنُ فِي طَوَاحِينِ السُّلْطَانِ يَسْتَأْجِرُهَا وَهُوَ
يَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَهَا مَا هُوَ غَصْبٌ وَفِي رَجُلٍ يَعْمَلُ فِي زَرْعِ
السُّلْطَانِ هَلْ نَصِيبُهُ مِنْهُ حَلَالٌ وَمَا يَكْسِبُهُ الْأَوَّلُ مِنْ
الطَّاحُونِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْأَرَاضِي السُّلْطَانِيَّةُ وَالطَّوَاحِينُ السُّلْطَانِيَّةُ الَّتِي
لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ فَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا
مُزَارَعَةً بِنَصِيبِ مِنْ الزَّرْعِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا وَيَجُوزَ
أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِأُجْرَتِهِ
مَعَ
الضَّمَانِ . وَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهَا
مَالِكٌ مُعَيَّنٌ ؛ فَهَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ
الْعَمَلُ فِيهَا إذَا كَانَ الْعَامِلُ لَا يَأْخُذُ إلَّا أُجْرَةَ عَمَلِهِ
فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قَدْ ظَلَمَ أَحَدًا شَيْئًا فَالْعَمَلُ فِيهَا
خَيْرٌ مِنْ تَعْطِيلِهَا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ . وَهَذَا إنْ أَمْكَنَ أَنْ
تُرَدَّ إلَى أَصْحَابِهَا وَإِلَّا صُرِفَتْ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ؛
وَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ . وَأَمَّا إذَا عُرِفَ أَنَّ لِلْأَرْضِ مَالِكًا
مُعَيَّنًا وَقَدْ أُخِذَتْ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا يُعْمَلُ فِيهَا بِغَيْرِ
إذْنِهِ أَوْ إذْنِ وَلِيِّهِ أَوْ وَكِيلِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يُطْلَبُ مِنْهُمْ كُلَفٌ يَجْمَعُونَهَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ فَإِذَا
كَانُوا سَوَّوْا بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا طُلِبَ مِنْهُمْ وَهُمْ مَغْصُوبُونَ فِي
ذَلِكَ . فَهَلْ عَلَيْهِمْ إثْمٌ ؟
فَأَجَابَ :
بَلْ هَذِهِ الْكُلَفُ الَّتِي تُطْلَبُ مِنْ النَّاسِ بِحَقِّ أَوْ بِغَيْرِ
حَقٍّ يَجِبُ الْعَدْلُ فِيهَا وَيَحْرُمُ أَنْ يُوَفِّرَ فِيهَا بَعْضُ النَّاسِ
وَيَجْعَلَ قِسْطَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَمَنْ قَامَ فِيهَا بِنِيَّةِ الْعَدْلِ .
وَتَخْفِيفِ الظُّلْمِ مَهْمَا أَمْكَنَ وَإِعَانَةِ الضَّعِيفِ لِئَلَّا
يَتَكَرَّرَ الظُّلْمُ عَلَيْهِ بِلَا نِيَّةِ إعَانَةِ الظَّالِمِ : كَانَ كَالْمُجَاهِدِ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ إذَا تَحَرَّى الْعَدْلَ وَابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ .
وَقَالَ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو
الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ
وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ
اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ فِي " الْمَظَالِمِ الْمُشْتَرِكَةِ " الَّتِي تُطْلَبُ مِنْ
الشُّرَكَاءِ مِثْلَ الْمُشْتَرِكِينَ فِي قَرْيَةٍ أَوْ مَدِينَةٍ إذَا طُلِبَ
مِنْهُمْ شَيْءٌ يُؤْخَذُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ أَوْ رُءُوسِهِمْ : مِثْلَ
الْكُلَفِ السُّلْطَانِيَّةِ الَّتِي تُوضَعُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ ؛ إمَّا عَلَى
عَدَدِ رُءُوسِهِمْ أَوْ عَدَدِ دَوَابِّهِمْ أَوْ عَدَدِ أَشْجَارِهِمْ أَوْ
عَلَى قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ الزَّكَوَاتِ
الْوَاجِبَةِ بِالشَّرْعِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ الْخَرَاجِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ
أَوْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْكُلَفُ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي غَيْرِ الْأَجْنَاسِ
الشَّرْعِيَّةِ
كَمَا يُوضَعُ عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ لِلطَّعَامِ وَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْفَاكِهَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : يُؤْخَذُ مِنْهُمْ إذَا بَاعُوا . وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ تَارَةً مِنْ الْبَائِعِينَ . وَتَارَةً مِنْ الْمُشْتَرِينَ وَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ : إنَّ بَعْضَ ذَلِكَ وُضِعَ بِتَأْوِيلِ وُجُوبِ الْجِهَادِ عَلَيْهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَاحْتِيَاجِ الْجِهَادِ إلَى تِلْكَ الْأَمْوَالِ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ ( غِيَاثِ الْأُمَمِ ) وَغَيْرِهِ مَعَ مَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي لَا مَسَاغَ لَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ . وَمِثْلَ الْجِبَايَاتِ الَّتِي يَجْبِيهَا بَعْضُ الْمُلُوكِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ كُلَّ مُدَّةٍ . وَيَقُولُ : إنَّهَا مُسَاعَدَةٌ لَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ وَمِثْلَ مَا يَطْلُبُهُ الْوُلَاةُ أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ رَاتِبًا ؛ إمَّا لِكَوْنِهِمْ جَيْشًا قَادِمِينَ يَجْمَعُونَ مَا يَجْمَعُونَهُ لِجَيْشِهِمْ وَإِمَّا لِكَوْنِهِمْ يَجْمَعُونَ لِبَعْضِ الْعَوَارِضِ : كَقُدُومِ السُّلْطَانِ أَوْ حُدُوثِ وَلَدٍ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَإِمَّا أَنْ تُرْمَى عَلَيْهِمْ سِلَعٌ تُبَاعُ مِنْهُمْ بِأَكْثَرِ مِنْ أَثْمَانِهَا وَتُسَمَّى " الْحَطَائِطَ " . وَمِثْلَ الْقَافِلَةِ الَّذِينَ يَسِيرُونَ حُجَّاجًا أَوْ تُجَّارًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . فَيَطْلُبُ مِنْهُمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ أَوْ دَوَابِّهِمْ أَوْ قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ ؛ أَوْ يَطْلُبُ مُطْلَقًا مِنْهُمْ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ كَانَ الطَّالِبُ ذَا السُّلْطَانِ فِي بَعْضِ الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى كَاَلَّذِينَ يَقْعُدُونَ عَلَى الْجُسُورِ وَأَبْوَابِ الْمَدَائِنِ فَيَأْخُذُونَ مَا يَأْخُذُونَهُ . أَوْ كَانَ الْآخِذُونَ قُطَّاعَ طَرِيقٍ : كَالْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ مُكُوسًا مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَلَا يُمَكِّنُونَهُمْ مِنْ الْعُبُورِ حَتَّى يُعْطُوهُمْ مَا يَطْلُبُونَ . فَهَؤُلَاءِ الْمُكْرَهُونَ عَلَى أَدَاءِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ عَلَيْهِمْ لُزُومُ الْعَدْلِ فِيمَا
يُطْلَبُ مِنْهُمْ وَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَظْلِمَ بَعْضًا فِيمَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ ؛ بَلْ عَلَيْهِمْ الْتِزَامُ الْعَدْلِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ كَمَا عَلَيْهِمْ الْتِزَامُ الْعَدْلِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بِحَقِّ فَإِنَّ هَذِهِ الْكُلَفَ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ بِسَبَبِ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ . وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حَالُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَخْذِ فَقَدْ يَكُونُ أَخْذًا بِحَقِّ وَقَدْ يَكُونُ أَخْذًا بِبَاطِلِ . وَأَمَّا الْمُطَالَبُونَ بِهَا فَهَذِهِ كُلَفٌ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ بِسَبَبِ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَظْلِمَ بَعْضًا فِي ذَلِكَ ؛ بَلْ الْعَدْلُ وَاجِبٌ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالظُّلْمُ لَا يُبَاحُ شَيْءٌ مِنْهُ بِحَالِ حَتَّى إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْدِلُوا عَلَى الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } . وَالْمُؤْمِنُونَ كَانُوا يُعَادُونَ الْكَفَّارَ بِأَمْرِ اللَّهِ فَقَالَ تَعَالَى [ مُبَيِّنًا ] (1) : لَا يَحْمِلُكُمْ بُغْضُكُمْ لِلْكُفَّارِ عَلَى أَنْ لَا تَعْدِلُوا عَلَيْهِمْ بَلْ اعْدِلُوا عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى . وَحِينَئِذٍ فَهَؤُلَاءِ الْمُشْتَرِكُونَ لَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَفْعَلَ مَا بِهِ ظُلْمُ غَيْرِهِ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يُؤَدِّيَ قِسْطَهُ فَيَكُونَ عَادِلًا وَإِمَّا أَنْ يُؤَدِّيَ زَائِدًا عَلَى قِسْطِهِ فَيُعِينَ شُرَكَاءَهُ بِمَا أُخِذَ مِنْهُمْ فَيَكُونَ مُحْسِنًا . وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ أَدَاءِ قِسْطِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ امْتِنَاعًا يُؤْخَذُ بِهِ قِسْطُهُ مِنْ سَائِر الشُّرَكَاءِ فَيَتَضَاعَفُ الظُّلْمُ عَلَيْهِمْ ؛ فَإِنَّ الْمَالَ إذَا كَانَ يُؤْخَذُ لَا مَحَالَةَ وَامْتَنَعَ بِجَاهِ
أَوْ
رِشْوَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا : كَانَ قَدْ ظَلَمَ مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْقِسْطُ
الَّذِي يَخُصُّهُ . وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ
الظُّلْمَ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ لِغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ : مِثْلَ أَنْ
يَمْتَنِعَ عَنْ أَدَاءِ مَا يَخُصُّهُ فَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا مِنْ
غَيْرِهِ . وَهَذَا كَالْوَظَائِفِ السُّلْطَانِيَّةِ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى
الْقُرَى مِثْلَ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهِمْ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَطْلُبُ
مَنْ لَهُ جَاهٌ بِإِمْرَةِ أَوْ مَشْيَخَةٍ أَوْ رِشْوَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
أَنْ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَخْذِ جَمِيعِ
الْمَالِ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَخَذَ مَا يَخُصُّهُ مِنْ سَائِر الشُّرَكَاءِ
فَيَمْتَنِعُ مِنْ أَدَاءِ مَا يَنُوبُهُ وَيُؤْخَذُ مِنْ سَائِر الشُّرَكَاءِ ؛
فَإِنَّ هَذَا ظُلْمٌ مِنْهُ لِشُرَكَائِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَدْفَعْ
الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِظُلْمِ شُرَكَائِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ : أَنَا لَمْ أَظْلِمْهُمْ ؛ بَلْ ظَلَمَهُمْ مَنْ أَخَذَ
مِنْهُمْ الْحِصَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ
أَوَّلًا : هَذَا الطَّالِبُ قَدْ يَكُونُ مَأْمُورًا مِمَّنْ فَوْقَهُ أَنْ
يَأْخُذَ ذَلِكَ الْمَالَ فَلَا يُسْقِطُ عَنْ بَعْضِهِمْ نَصِيبَهُ إلَّا
أَخَذَهُ مِنْ نَصِيبِ ذَلِكَ الْآخَرِ فَيَكُونُ أَمْرُهُ بِأَنْ لَا يَأْخُذَ
أَمْرًا بِالظُّلْمِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ الْآمِرُ الْأَعْلَى فَعَلَيْهِ أَنْ
يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الطَّلَبِ
ظُلْمًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ فِي هَذَا الظُّلْمِ وَلَا يَظْلِمَ فِيهِ
ظُلْمًا ثَانِيًا فَيَبْقَى ظُلْمًا مُكَرَّرًا فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إذَا
كَانَ قِسْطُهُ مِائَةً فَطُولِبَ بِمِائَتَيْنِ كَانَ قَدْ ظُلِمَ ظُلْمًا
مُكَرَّرًا بِخِلَافِ مَا إذَا
أَخَذَ
مِنْ كُلٍّ قِسْطَهُ . وَلِأَنَّ النُّفُوسَ تَرْضَى بِالْعَدْلِ بَيْنَهَا فِي
الْحِرْمَانِ وَفِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهَا ظُلْمًا وَلَا تَرْضَى بِأَنْ يُخَصَّ
بَعْضُهَا بِالْعَطَاءِ أَوْ الْإِعْفَاءِ . وَلِهَذَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ
بِأَنَّ الْمَرِيضَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ لِغَيْرِ وَارِثٍ وَلَا
يَخُصَّ الْوَارِثَ بِزِيَادَةِ عَلَى حَقِّهِ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثِ وَإِنْ كَانَ
لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ كُلَّهُ لِلْأَجْنَبِيِّ . وَكَذَلِكَ فِي عَطِيَّةِ
الْأَوْلَادِ : هُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَاءِ أَوْ
الْحِرْمَانِ وَلَا يَخُصُّ بَعْضَهُمْ بِالْإِعْطَاءِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ
ذَلِكَ ؛ لِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَغَيْرِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ إذَا طَلَبَ مِنْ الْقَاهِرِ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهُ
وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضَعُ قِسْطَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَقَدْ أَمَرَهُ بِمَا
يَعْلَمُ أَنَّهُ يَظْلِمُ فِيهِ غَيْرَهُ وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَطْلُبَ
مِنْ غَيْرِهِ مَا يَظْلِمُ فِيهِ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ لَمْ يَأْمُرْهُ
بِالظُّلْمِ كَمَنْ يُوَلِّي شَخْصًا وَيَأْمُرُهُ أَنْ لَا يَظْلِمُ وَهُوَ
يَعْلَمُ أَنَّهُ يَظْلِمُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ
وَكَّلَ وَكِيلًا وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَظْلِمَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَظْلِمُ
وَكَذَلِكَ مَنْ طَلَبَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يُوَفِّيَهُ دَيْنَهُ مِنْ مَالِهِ
الْحَلَالِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُوَفِّيهِ إلَّا مِمَّا ظَلَمَهُ مِنْ
النَّاسِ . وَكَذَلِكَ هَذَا طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعْفِيَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَهُوَ
يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُعْفِيهِ إلَّا بِظُلْمِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَطْلُبَ مِنْهُ ذَلِكَ . ( الرَّابِعُ : أَنَّ هَذَا يُفْضِي إلَى أَنَّ
الضُّعَفَاءَ الَّذِينَ لَا نَاصِرَ لَهُمْ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ جَمِيعُ ذَلِكَ
الْمَالِ وَالْأَقْوِيَاءُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ وَظَائِفِ
الْأَمْلَاكِ مَعَ أَنَّ أَمْلَاكَهُمْ أَكْثَرُ وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ مِنْ
الْفَسَادِ وَالشَّرِّ
مَا
لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ . ( الْخَامِسُ :
أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا احْتَاجُوا إلَى مَالٍ يَجْمَعُونَهُ لِدَفْعِ
عَدُوِّهِمْ وَجَبَ عَلَى الْقَادِرِينَ الِاشْتِرَاكُ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ
الْكُفَّارُ يَأْخُذُونَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَأَنْ يَشْتَرِكُوا فِيمَا
يَأْخُذُهُ الظَّلَمَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى وَأَحْرَى .
فَصْلٌ :
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا تَغَيَّبَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ ؛ أَوْ امْتَنَعَ مِنْ
الْأَدَاءِ فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ وَأُخِذَ مَنْ غَيْرِهِ حِصَّتُهُ ؛ كَانَ
عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ قَدْرَ نَصِيبِهِ إلَى مَنْ أَدَّى عَنْهُ فِي أَظْهَرِ
قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ
وَيُلْزَمُ بِذَلِكَ وَيُعَاقَبُ عَلَى أَدَائِهِ كَمَا يُعَاقَبُ عَلَى أَدَاءِ
سَائِر الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ كَالْعَامِلِ فِي الزَّكَاةِ إذَا طَلَبَ
مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ وَأَخَذَهُ بِتَأْوِيلِ
فَلِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْآخَرِ بِقِسْطِهِ . وَإِنْ كَانَ
بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَظْهُرُهُمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ
أَيْضًا ؛ كَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَالْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ
وَالْوَكِيلِ وَسَائِرِ مَنْ تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ بِوِلَايَةِ أَوْ وِكَالَةٍ
إذَا طَلَبَ مِنْهُ مَا يَنُوبُ ذَلِكَ الْمَالُ مِنْ الْكُلَفِ مِثْلَ مَا إذَا
أُخِذَتْ مِنْهُ الْكُلَفُ السُّلْطَانِيَّةُ عَنْ الْأَمْلَاكِ أَوْ أَخَذَ مِنْ
التُّجَّارِ فِي الطُّرُقِ وَالْقُرَى مَا يَنُوبُ الْأَمْوَالَ الَّتِي مَعَهُمْ
؛ فَإِنَّ لَهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الْمَالِ ؛ بَلْ يَجِبُ
عَلَيْهِمْ إذَا خَافُوا إنْ لَمْ يُؤَدُّوهُ أَنْ يُؤْخَذَ أَكْثَرَ مِنْهُ .
وَإِذَا قُدِّرَ
أَنَّ الْمَالَ صَارَ غَائِبًا فَاقْتَرَضُوا عَلَيْهِ وَأَدَّوْا عَنْهُ أَوْ أَدَّوْا مِنْ مَالٍ لَهُمْ عَنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَالْمُوَلِّي عَلَيْهِ : كَانَ لَهُمْ الرُّجُوعُ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ . وَعَلَى هَذَا عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ . وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ قَوْلَهُ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ ؛ فَإِنَّ الْكُلَفَ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ الْأَمْوَالِ عَلَى وَجْهِ الظُّلْمِ كَثِيرَةٌ جِدًّا . فَلَوْ كَانَ مَا يُؤَدِّيهِ الْمُؤْتَمَنُ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ عَنْهُ مِنْ تِلْكَ الْكُلَفِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْهُ قَهْرًا بِغَيْرِ حَقٍّ تُحْسَبُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُؤَدِّهَا مِنْ غَيْرِ مَالِ الْمُؤْتَمَنِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ ذَهَابُ كَثِيرٍ مِنْ أَمْوَالِ الْأُمَنَاءِ وَلَزِمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْأُمَنَاءُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِئَلَّا تَذْهَبَ أَمْوَالُهُمْ . وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْخَوَنَةُ الْفُجَّارُ الَّذِينَ لَا يَتَّقُونَ اللَّهَ ؛ بَلْ يَأْخُذُونَ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَيَدَّعُونَ نَقْصَ الْمَقْبُوضِ الْمُسْتَخْرَجِ أَوْ زِيَادَةَ الْمَصْرُوفِ الْمُؤَدَّى كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُؤْتَمَنِينَ عَلَى الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يَدْخُلُ فِي بَعْضِ مَا يَفْعَلُونَهُ تَأْوِيلٌ ؛ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ وَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهِمْ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ إذَا كَانَ يُعْتَدُّ لَهُ بِمَا أُخِذَ مِنْهُ مِنْ هَذِهِ الْكُلَفِ فَمَا قَبَضَهُ عُمَّالُ الزَّكَاةِ بِاسْمِ الزَّكَاةِ أَوْلَى أَنْ يُعْتَدَّ لَهُ بِهِ وَإِنْ قَبَضُوا فَوْقَ الْوَاجِبِ بِلَا تَأْوِيلٍ ؛ لَا سِيَّمَا وَهَذَا
هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا أَوْ غَالِبًا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ فَإِنَّ عُمَّالَ الزَّكَاةِ يَأْخُذُونَ مِنْ زَكَوَاتِ الْمَاشِيَةِ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ بِكَثِيرِ وَكَذَلِكَ مِنْ زَكَوَاتِ التِّجَارَاتِ وَيَأْخُذُونَ مِنْ كُلِّ مَنْ كَانَ الْمَالُ بِيَدِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا أَوْ وَكِيلًا أَوْ شَرِيكًا أَوْ مُضَارِبًا أَوْ غَيْرَهُمْ . فَلَوْ لَمْ يُعْتَدَّ لِلْأُمَنَاءِ بِمَا أُخِذَ مِنْهُمْ ظُلْمًا لَزِمَ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ . وَأَيْضًا فَذَلِكَ الْإِعْطَاءُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا لِلْمَصْلَحَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤَدِّهِ لَأَخَذَ الظَّلَمَةُ أَكْثَرَ مِنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُؤْتَمَنَ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُ الظُّلْمِ الْكَثِيرِ إلَّا بِأَدَاءِ بَعْضِ الْمَطْلُوبِ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ حِفْظَ الْمَالِ وَاجِبٌ . فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِذَلِكَ وَجَبَ فَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . وَأَيْضًا فَالْمُنَازِعُ يُسَلِّمُ أَنَّهُمْ لَوْ أَكْرَهُوا الْمُؤْتَمَنَ عَلَى أَخْذِ غَيْرِ مَالِهِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا وَأَنَّ الْعَامِلَ الظَّالِمَ إذَا أَخَذَ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا وَإِنَّمَا وَقَعَتْ لَهُمْ الشُّبْهَةُ إذَا أَكْرَهَ الْمُؤَدِّيَ عَلَى الْأَدَاءِ عَنْهُ كَيْفَ كَانَ فَأَدَّى عَنْهُ مِمَّا اُقْتُرِضَ عَلَيْهِ أَوْ مِنْ مَالِ إنْسَانٍ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ . فَيُقَالُ لَهُمْ : أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَى الْأَدَاءِ عَنْهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ مَالِ الْغَائِبِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ إلْزَامَهُ بِالْأَدَاءِ عَنْ الْغَائِبِ وَالْمُمْتَنِعِ أَعْظَمُ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِنْ الْأَدَاءِ مِنْ عَيْنِ مَالِ الْغَائِبِ وَالْمُمْتَنِعِ ؛ فَإِنَّ أَدَاءَ مَا يُطْلَبُ مِنْ الْغَائِبِ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَاءِ ذَلِكَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَإِذَا عُذِرَ فِيمَا
يُؤَدِّيهِ مِنْ مَالِ الْغَائِبِ لِكَوْنِهِ مُكْرَهًا عَلَى الْأَدَاءِ فَلَأَنْ يُعْذَرَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْأَدَاءِ عَنْهُ أَوْلَى وَأَحْرَى . فَإِنْ قَالَ الْمُنَازِعُ : لِأَنَّ الْمُؤَدَّى هُنَاكَ عَيْنُ مَالِ الْمُكْرَهِ الْمُؤَدِّي فَهُوَ الْمَظْلُومُ . فَيُقَالُ لَهُمْ : بَلْ كِلَاهُمَا مَظْلُومٌ : هَذَا مَظْلُومٌ بِالْأَدَاءِ عَنْ ذَاكَ وَذَاكَ مَظْلُومٌ بِطَلَبِ مَالِهِ . فَكَيْفَ يُحْمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْمُؤَدِّي وَالْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ طَلَبُ الْمَالِ مِنْ الْمُؤَدَّى عَنْهُ ؟ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَالطَّالِبُ الظَّالِمُ إنَّمَا قَصْدُهُ أَخْذُ مَالِ ذَلِكَ لَا مَالِ هَذَا وَإِنَّمَا طَلَبَ مِنْ هَذَا الْأَدَاءَ عَنْ ذَاكَ . وَأَيْضًا فَهَذَا الْمُكْرَهُ عَلَى الْأَدَاءِ عَنْ الْغَائِبِ مَظْلُومٌ مَحْضٌ بِسَبَبِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَذَاكَ مَظْلُومٌ بِسَبَبِ مَالِهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ مَالُ هَذَا وِقَايَةً لِمَالِ ذَاكَ لِظُلْمِ هَذَا الظَّالِمِ الَّذِي أَكْرَهَهُ أَوْ يَكُونُ صَاحِبُ الْمَالِ الْقَلِيلِ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ أَضْعَافَ مَا يَخُصُّهُ وَصَاحِبُ الْمَالِ الْكَثِيرِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ ؟ . وَغَايَةُ هَذَا أَنْ يُشَبَّهَ بِغَصْبِ الْمَشَاعِ ؛ فَإِنَّ الْغَاصِبَ إذَا قَبَضَ مِنْ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ نَصِيبَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ ذَلِكَ الشَّرِيكِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ أَخْذَ مَالِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِأَخٍ ثَالِثٍ وَكَذَّبَهُ أَخُوهُ لَزِمَ الْمُقِرُّ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ مَا فَضَلَ عَنْ حَقِّهِ وَهُوَ السُّدُسُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ . وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ . جَعَلُوا مَا غَصَبَهُ الْأَخُ الْمُنْكِرُ مِنْ مَالِ الْمُقِرِّ بِهِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ حَقِّ الْمُقِرِّ . وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ فِي غَصْبِ الْمَشَاعِ : إنَّ مَا قَبَضَهُ الْغَاصِبُ يَكُونُ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ جَمِيعًا بِاعْتِبَارِ صُورَةِ الْقَبْضِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نِيَّةٍ . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْأَخِ الْمُنْكِرِ : إنَّ مَا غَصَبَهُ يَكُونُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَيَدْفَعُ الْمُقِرُّ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ الرُّبُعُ وَيَكُونُ النِّصْفُ الَّذِي غَصَبَهُ الْمُنْكِرُ مِنْهُمَا جَمِيعًا . وَهَذَا قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ . وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الصَّوَابُ لِأَجْلِ النِّيَّةِ . وَكَذَلِكَ هُنَا إنَّمَا قَبَضَ الظَّالِمُ عَنْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ ؛ لَمْ يَقْصِدْ أَخْذَ مَالِ الدَّافِعِ . فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ غَلِطَ الظَّالِمُ مِثْلَ أَنْ يَقْصِدَ الْقُطَّاعُ أَخْذَ مَالِ شَخْصٍ فَيَأْخُذُونَ غَيْرَهُ ظَنًّا أَنَّهُ الْأَوَّلُ . فَهَلْ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ مَالَ هَذَا الَّذِي ظَنُّوهُ الْأَوَّلَ ؟ قِيلَ : بَابُ الْغَلَطِ فِيهِ تَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ ؛ وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَعْلُومٌ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذَا ؛ فَإِنَّ الظَّالِمَ الغالط الَّذِي أَخَذَ مَالَ هَذَا لَمْ يَأْخُذْهُ عَنْ غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ ظَنُّهُ مَالَ زَيْدٍ فَظَهَرَ أَنَّهُ مَالَ عَمْرٍو فَقَدْ قَصَدَ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ زَيْدٍ فَأَخَذَ مَالَ عَمْرٍو كَمَنْ طَلَبَ قَتْلَ مَعْصُومٍ
فَقَتَلَ مَعْصُومًا آخَرَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ الْأَوَّلُ . وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ قَصَدَ مَالَ زَيْدٍ بِعَيْنِهِ وَأَنْ يَأْخُذَ مِنْ الشُّرَكَاءِ مَا يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ وَأَخَذَ مِنْ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَغْلَطْ ؛ بَلْ فَعَلَ مَا أَرَادَهُ قَصَدَ أَخْذَ مَالِ شَخْصٍ وَطَلَبَ الْمَالَ مِنْ الْمُسْتَوْلِي عَلَى مَالِهِ مِنْ شَرِيكٍ أَوْ وَكِيلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِيُؤَدِّيَهُ عَنْهُ . أَوْ طَلَبُوا مِنْ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ مَالًا عَنْ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ تُؤْخَذُ مِنْ الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ لَمْ يَغْلَطُوا فِي ظَنِّهِمْ . فَإِذَا كَانُوا إنَّمَا قَصَدُوا الْأَخْذَ مِنْ وَاحِدٍ بَلْ قَصَدُوا الْعَدْلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُرَكَائِهِ وَلَكِنْ إنَّمَا قَدَرُوا عَلَى الْأَخْذِ مِنْ شَرِيكِهِ فَكَيْفَ يُظْلَمُ هَذَا الشَّرِيكُ مَرَّتَيْنِ ؟ . وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَحْتَاجَ وَلِيُّ بَيْتِ الْمَالِ إلَى إعْطَاءِ ظَالِمٍ لِدَفْعِ شَرِّهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ كَإِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ أَوْ إعْطَاءِ الْكُفَّارِ إذَا احْتَاجَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ وَاسْتَسْلَفَ مِنْ النَّاسِ أَمْوَالًا أَدَّاهَا فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ أَنَّ تِلْكَ الْأَمْوَالَ تَذْهَبُ مِنْ ضَمَانِ مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بِشَيْءِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ كَانَ عَيْنَ أَمْوَالِهِمْ لَا عَيْنَ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ ؟ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يُعْطُونَ مَا يُعْطُونَهُ : تَارَةً مِنْ عَيْنِ الْمَالِ . وَتَارَةً مِمَّا يستسلفونه . فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْلِفُ عَلَى الصَّدَقَةِ وَعَلَى الْفَيْءِ فَيَصْرِفُهُ فِي الْمَصَارِفِ الشَّرْعِيَّةِ : مِنْ إعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ وَغَيْرُهُمْ . وَكَانَ فِي الْآخِذِينَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ الْأَخْذُ ؛ بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : فَلِمَ تُعْطِيهِمْ ؟ قَالَ : يَأْبَوْنَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ } . وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ ذَلِكَ الْمَالَ يَذْهَبُ مِنْ عَيْنِ مَنْ اقْتَرَضَ مِنْهُ ؛ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا كَانَ عَيْنَ مَالِ الصَّدَقَةِ وَالْفَيْءِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ جَازَ لَهُ الْإِعْطَاءُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لِلْآخِذِ الْأَخْذُ . هَذَا وَهُوَ يُعْطِيهِ بِاخْتِيَارِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِعْطَاءِ وَجَازَ لَهُ الْإِعْطَاءُ أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ ؟ وَلَا يُقَالُ وَلِيُّ الْأَمْرِ هُنَا اقْتَرَضَ أَمْوَالَ النَّاسِ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ : إنَّمَا اقْتَرَضَهَا لِيَدْفَعَهَا إلَى ذَلِكَ الظَّالِمِ الَّذِي طَلَبَ أَخْذَ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَأَدَّى عَنْهُمْ مَا اقْتَرَضَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ عَنْهُمْ الضَّرَرَ وَعَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الْمُشْتَرَكَةِ مَالُ الصَّدَقَاتِ وَالْفَيْءِ وَلَا يُقَالُ : لَا يَحِلُّ لَهُ صَرْفُ أَمْوَالِهِمْ ؛ فَإِنَّ الَّذِي أَخَذَهُ ذَلِكَ الظَّالِمُ كَانَ مَالَ بَعْضِهِمْ ؛ بَلْ إعْطَاءُ هَذَا الْقَلِيلِ لِحِفْظِ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَاجِبٌ . وَإِذَا كَانَ الْإِعْطَاءُ وَاجِبًا لِدَفْعِ ضَرَرٍ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا : أَنَّ كُلَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا بِذَلِكَ وَإِنْ أَدَّاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ مِثْلَ مَنْ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ . سَوَاءٌ كَانَ قَدْ ضَمِنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَأَدَّاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ أَدَّاهُ عَنْهُ بِلَا ضَمَانٍ.
وَكَذَلِكَ مَنْ افْتَكَّ أَسِيرًا مِنْ الْأَسْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا افْتَكَّهُ بِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ نَفَقَةً وَاجِبَةً عَلَيْهِ ؛ مِثْلَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى ابْنِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ بَهَائِمِهِ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ لِلْمُنْفِقِ فِيهَا حَقٌّ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مُرْتَهِنًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا . أَوْ كَانَ مُؤْتَمَنًا عَلَيْهَا : مِثْلَ الْمُودَعِ وَمِثْلَ رَادِّ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَمِثْلَ إنْفَاقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْبَهَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ إرْضَاعِهِنَّ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدَ اسْتِئْجَارٍ وَلَا إذْنِ الْأَبِ لَهَا فِي أَنْ تُرْضِعَ بِالْأَجْرِ ؛ بَلْ لَمَّا كَانَ إرْضَاعُ الطِّفْلِ وَاجِبًا عَلَى أَبِيهِ فَإِنْ أَرْضَعَتْهُ الْمَرْأَةُ اسْتَحَقَّتْ الْأَجْرَ بِمُجَرَّدِ إرْضَاعِهَا . وَهَذَا فِي الْأُمِّ الْمُطْلَقَةِ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ : إنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِمُجَرَّدِ الْإِرْضَاعِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِذَلِكَ فِي الْأُمِّ وَإِنْ كَانَ لَا يَقُولُ بِرُجُوعِ الْمُؤَدِّي لِلدَّيْنِ وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ . وَالْمُفَرِّقُ يَقُولُ : الْأُمُّ أَحَقُّ بِرِضَاعِ ابْنِهَا مِنْ غَيْرِهَا ؛ حَتَّى لَوْ طَلَبَتْ الْإِرْضَاعَ بِالْأَجْرِ لَقُدِّمَتْ عَلَى الْمُتَبَرِّعَةِ . قِيلَ : فَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ حَقٌّ فِي بَهَائِمِ الْغَيْرِ كَالْمُسْتَأْجِرِ ؛ وَالْمُرْتَهِنِ : يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَةَ الْمَالِكِ بِالنَّفَقَةِ عَلَى بَهَائِمِهِ فَذَلِكَ أَحَقُّ مِنْ الْأُمِّ بِالْإِرْضَاعِ . وَأَيْضًا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ بِدُونِ عَقْدٍ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِرْضَاعُ وَاجِبًا عَلَى الْأَبِ وَإِذَا كَانَ إنَّمَا
أَدَّاهُ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَهَكَذَا جَمِيعُ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا إلَى مَنْ أَدَّى عَنْهُ وَأَحْسَنَ إلَيْهِ بِالْأَدَاءِ عَنْهُ . وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُعْطِي مُخْتَارًا فَكَيْفَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَدَاءِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ فَإِنَّ الظَّالِمَ الْقَادِرَ إذَا لَمْ يُعْطِهِ الْمَطْلُوبَ الَّذِي طَلَبَهُ مِنْهُ ضَرَّهُ ضَرَرًا عَظِيمًا ؛ إمَّا بِعُقُوبَةِ بَدَنِيَّةٍ وَإِمَّا بِأَخْذِ أَكْثَرَ مِنْهُ . وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ أَعْظَمُ الضَّرَرَيْنِ بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا فَلَوْ أَدَّى الْغَيْرُ عَنْهُ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّاهُ عَنْهُ فَكَيْفَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْأَدَاءِ عَنْهُ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الطَّلَبُ مِنْ الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَمْتَنِعَ مِمَّا عَلَيْهِ امْتِنَاعًا يَسْتَلْزِمُ تَكْثِيرَ الظُّلْمِ عَلَى غَيْرِهِ . وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْأَدَاءُ وَاجِبًا عَلَى جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ : كَلٌّ يُؤَدِّي قِسْطَهُ الَّذِي يَنُوبُهُ إذَا قُسِمَ الْمَطْلُوبُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ . وَمَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ قِسْطَهُ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ وَكَانَ مُحْسِنًا إلَيْهِ فِي الْأَدَاءِ عَنْهُ وَمُبَاشَرَةِ الظَّالِمِينَ دُونَهُ ؛ فَإِنَّ الْمُبَاشِرَ يَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَالْغَالِبُ إنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ الضَّرَرُ فِي مَالِهِ فَقَطْ فَإِذَا أَدَّى عَنْهُ لِئَلَّا يَحْضُرَ كَانَ مُحْسِنًا إلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا أَدَّاهُ عَنْهُ كَمَا يُوَفِّي الْمُقْرِضَ الْمُحْسِنُ ؛ فَإِنَّ جَزَاءَ الْقَرْضِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ وَمَنْ غَابَ وَلَمْ يُؤَدِّ حَتَّى أَدَّى عَنْهُ الْحَاضِرُونَ لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ قَدْرَ مَا أَدَّوْهُ عَنْهُ وَيُلْزَمُ بِذَلِكَ وَيُعَاقَبُ إنْ امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهِ وَيَطِيبُ لِمَنْ أَدَّى عَنْهُ أَنْ يَأْخُذَ نَظِيرَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ كَمَا يَأْخُذُ
الْمُقْرِضُ مِنْ الْمُقْتَرِضِ نَظِيرَ مَا أَقْرَضَهُ . وَمَنْ قَبَضَ ذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ وَأَدَّاهُ إلَى هَذَا الْمُؤَدِّي جَازَ لَهُ أَخْذُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُلْزِمُ لَهُ بِالْأَدَاءِ هُوَ الظَّالِمُ الْأَوَّلُ أَوْ غَيْرُهُ . وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ بِمَا أَدَّاهُ عَنْهُ عِنْدَ حُكَّامِ الْعَدْلِ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَحْكُمُوا عَلَى هَذَا بِأَنْ يُعْطِيَهُ مَا أَدَّاهُ عَنْهُ كَمَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْقَرْضِ وَلَا شُبْهَةَ عَلَى الْآخِذِ فِي أَخْذِ بَدَلِ مَالِهِ . وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ مِنْهُمْ مَا أَدَّاهُ عَنْهُمْ وَبَدَلَ مَا أَقْرَضَهُمْ إيَّاهُ مِنْ مَالٍ وَبَدَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ أَدَاءِ مَا يَنُوبُهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ سَائِر الشُّرَكَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا الِامْتِنَاعُ كَانَ الْأَدَاءُ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَمَنْ أَدَّى عَنْهُ نَاوِيًا لِلرُّجُوعِ فَلَهُ الرُّجُوعُ إذَا أَدَّاهُ طَوْعًا ؛ لِإِحْسَانِهِ إلَيْهِ بِالْأَدَاءِ عَنْهُ . فَكَيْفَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْأَدَاءِ عَنْهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَدَاءُ وَاجِبًا عَلَيْهِ ؛ بَلْ قَدْ أُكْرِهَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى الْأَدَاءِ عَنْهُ رَجَعَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ بِسَبَبِهِ أُكْرِهَ ذَاكَ وَأُخِذَ مَالُهُ . وَهَذَا كَمَنْ صُودِرَ عَلَى مَالٍ فَأُكْرِهُ أَقَارِبُهُ أَوْ جِيرَانُهُ أَوْ أَصْدِقَاؤُهُ أَوْ شُرَكَاؤُهُ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا عَنْهُ وَيَرْجِعُوا عَلَيْهِ فَلَهُمْ الرُّجُوعُ ؛ فَإِنَّ أَمْوَالَهُمْ إنَّمَا أُخِذَتْ بِسَبَبِهِ وَبِسَبَبِ الدَّفْعِ عَنْهُ . فَإِنَّ الْآخِذَ مِنْهُ إمَّا أَنْ يَأْخُذَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ ظَالِمٌ كَمَا يُصَادِرُ وُلَاةُ الْأُمُورِ بَعْضَ نُوَّابِهِمْ وَيَقُولُونَ : إنَّهُمْ أَخَذُوا مِنْ الْأَمْوَالِ أَكْثَرَ مِمَّا
صُودِرُوا عَلَيْهِ ؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ مَالٍ كَثِيرٍ فَيَطْلُبَ مِنْهُ الطَّالِبُ مَا يَقُولُ : إنَّهُ يَنُوبُ مَالَهُ . فَأَقَارِبُهُ وَجِيرَانُهُ وَأَصْدِقَاؤُهُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ أُخِذَ مَالُهُ بِسَبَبِ مَالِ هَذَا أَوْ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِ ؛ إنَّمَا ظُلِمُوا لِأَجْلِهِ وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ لِأَجْلِ مَالِهِ وَصِيَانَةً لِمَالِهِ وَالطَّالِبُ إنَّمَا مَقْصُودُهُ مَالُهُ لَا أَمْوَالُ أُولَئِكَ وَشُبْهَتُهُ وَإِرَادَتُهُ إنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَالِهِ دُونَ أَمْوَالِهِمْ . فَكَيْفَ تَذْهَبُ أَمْوَالُهُمْ هَدَرًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُمْ وَيَبْقَى مَالُ هَذَا مَحْفُوظًا وَهُوَ الَّذِي طُولِبُوا لِأَجْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ هَؤُلَاءِ الْمُؤَدُّونَ عَنْ غَيْرِهِمْ الرُّجُوعَ لَحَصَلَ فَسَادٌ كَثِيرٌ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ وَالْأَمْوَالَ قَدْ يَعْتَرِيهَا مِنْ الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ مَا لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِأَدَاءِ مَالٍ عَنْهُمْ فَلَوْ عَلِمَ الْمُؤَدُّونَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الرُّجُوعَ بِمَا أَدَّوْهُ إلَّا إذَا أَذِنَ ذَلِكَ الشَّخْصُ لَمْ يُؤَدُّوا وَهُوَ قَدْ لَا يَأْذَنُ ؛ إمَّا لِتَغَيُّبِهِ أَوْ لِحَبْسِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَإِمَّا لِظُلْمِهِ نَفْسَهُ وَتَمَادِيهِ عَلَى مَا يَضُرُّ نَفْسَهُ وَمَالَهُ سَفَهًا مِنْهُ وَظُلْمًا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ عَلَيْهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ تَحْتَ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَضُرَّ نَفْسَهُ وَمَالَهُ ضَرَرًا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ دَفَعَ ذَلِكَ الضَّرَرَ الْعَظِيمَ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ فَقَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ وَفِي فِطَرِ النَّاسِ جَمِيعِهِمْ أَنَّ مَنْ لَمْ يُقَابِلْ الْإِحْسَانَ بِالْإِحْسَانِ فَهُوَ ظَالِمٌ مُعْتَدٍ وَمَا عَدَّهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا فَهُوَ ظُلْمٌ . كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ
اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَأَوْهُ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ . وَأَصْلُ هَذَا اعْتِبَارُ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَهَذَا الْأَصْلُ قَدْ قُرِّرَ وَبُسِطَ فِي كِتَابِ : " بَيَانِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ " وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ابْنِ اللتبية الْعَامِلِ الَّذِي قَبِلَ الْهَدَايَا لَمَّا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَأُهْدِيَ إلَيْهِ هَدَايَا فَلَمَّا رَجَعَ حَاسَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا أَخَذَ وَأَعْطَى وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الدِّيوَانِ الِاسْتِيفَاءَ كَمَا يُحَاسِبُ الْإِنْسَانُ وَكِيلَهُ وَشَرِيكَهُ عَلَى مَقْبُوضِهِ وَمَصْرُوفِهِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الدِّيوَانِ الْمُسْتَخْرَجَ وَالْمَصْرُوفَ فَقَالَ ابْنُ اللتبية : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : { مَا بَالُ الرَّجُلِ نَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانَا اللَّهُ فَيَقُولُ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى إلَيْهِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ نَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ فَيَغُلَّ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ - ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ : أَلَا هَلْ بَلَّغْت ؟ } أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ . فَلَمَّا كَانَ الْمُعْطُونَ الْمُهْدُونَ إنَّمَا أَعْطَوْهُ وَأَهْدَوْا إلَيْهِ لِأَجْلِ وِلَايَتِهِ جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ الْمُسْتَحَقِّ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ
أَمْوَالِهِمْ قُبِضَ وَلَمْ يُخَصَّ بِهِ الْعَامِلُ الَّذِي قَبَضَهُ فَكَذَلِكَ مَا قُبِضَ بِسَبَبِ أَمْوَالِ بَعْضِ النَّاسِ فَعَنْهَا يُحَاسَبُ وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِهَا فَكَمَا أَنَّهُ أُعْطِيَ لِأَجْلِهَا فَهُوَ مَغْنَمٌ وَنَمَاءٌ لَهَا ؛ لَا لِمَنْ أَخَذَهُ فَمَا أُخِذَ لِأَجْلِهَا فَهُوَ مَغْرَمٌ وَنَقْصٌ مِنْهَا لَا عَلَى مَنْ أَعْطَاهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ خَلَّصَ مَالَ غَيْرِهِ مِنْ التَّلَفِ بِمَا أَدَّاهُ عَنْهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ ؛ مِثْلَ مَنْ خَلَّصَ مَالًا مِنْ قُطَّاعٍ أَوْ عَسْكَرِ ظَالِمٍ أَوْ مُتَوَلٍّ ظَالِمٍ وَلَمْ يُخَلِّصْهُ إلَّا بِمَا أَدَّى عَنْهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِذَلِكَ وَهُوَ مُحْسِنٌ إلَيْهِ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْتَمَنًا عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ وَلَا مُكْرَهًا عَلَى الْأَدَاءِ عَنْهُ فَإِنَّهُ مُحْسِنٌ إلَيْهِ بِذَلِكَ وَهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ . فَإِذَا خَلَّصَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ أَدَّاهَا عَنْهُ كَانَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ فَإِذَا أَعْطَاهُ الْأَلْفَ كَانَ قَدْ أَعْطَاهُ بَدَلَ قَرْضِهِ وَبَقِيَ عَمَلُهُ وَسَعْيُهُ فِي تَخْلِيصِ الْمَالِ إحْسَانًا إلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ بِهِ . هَذَا أَصْوَبُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَمَنْ جَعَلَهُ فِي مِثْلِ هَذَا مُتَبَرِّعًا وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا فَقَدْ قَالَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَقَدْ قَابَلَ الْإِحْسَانَ بِالْإِسَاءَةِ . وَمَنْ قَالَ هَذَا هُوَ الشَّرْعُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ؛ لَكِنَّهُ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ خَالَفَهُمْ آخَرُونَ . وَنِسْبَةُ مِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إلَى الشَّرْعِ تُوجِبُ سُوءَ ظَنِّ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي الشَّرْعِ وَفِرَارَهُمْ مِنْهُ وَالْقَدْحَ فِي أَصْحَابِهِ . فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ قَوْلًا بِرَأْيِهِ
وَخَالَفَهُ فِيهِ آخَرُونَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَرْعٌ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؛ بَلْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ قَدْ تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِ وَقَدْ يَتَّفِقُ أَنَّ مَنْ يَحْكُمُ بِذَلِكَ يَزِيدُ ذَلِكَ ظُلْمًا بِجَهْلِهِ وَظُلْمِهِ وَيَتَّفِقُ أَنَّ كُلَّ أَهْلِ ظُلْمٍ وَشَرٍّ يَزِيدُونَ الشَّرَّ شَرًّا وَيَنْسُبُونَ هَذَا الظُّلْمَ كُلَّهُ إلَى شَرْعِ مَنْ نَزَّهَهُ اللَّهُ عَنْ الظُّلْمِ وَبَعَثَهُ بِالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَجَعَلَ الْعَدْلَ الْمَحْضَ الَّذِي لَا ظُلْمَ فِيهِ هُوَ شَرْعُهُ . وَلِهَذَا كَانَ الْعَدْلُ وَشَرْعُهُ مُتَلَازِمَيْنِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ } . فَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَالْقِسْطُ مُتَلَازِمَانِ فَلَيْسَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ظُلْمٌ قَطُّ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
وَسُئِلَ
الشَّيْخُ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مُتَوَلٍّ وِلَايَاتٍ وَمُقْطِعِ إقْطَاعَاتٍ وَعَلَيْهَا مِنْ
الْكُلَفِ السُّلْطَانِيَّةِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَهُوَ يَخْتَارُ أَنْ
يُسْقِطَ الظُّلْمَ كُلَّهُ وَيَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ
وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْطَعَهَا غَيْرَهُ وَوَلَّى
غَيْرَهُ فَإِنَّ الظُّلْمَ لَا يُتْرَكُ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ بَلْ رُبَّمَا يَزْدَادُ
وَهُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَفِّفَ تِلْكَ الْمُكُوسَ الَّتِي فِي إقْطَاعِهِ
فَيُسْقِطَ النِّصْفَ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ جِهَةَ مَصَارِفَ لَا يُمْكِنُهُ
إسْقَاطُهُ فَإِنَّهُ يُطْلَبُ مِنْهُ لِتِلْكَ الْمَصَارِفِ عِوَضَهَا وَهُوَ
عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّهَا . فَهَلْ يَجُوزُ لِمِثْلِ هَذَا
بَقَاؤُهُ عَلَى وِلَايَتِهِ وَإِقْطَاعِهِ ؟ وَقَدْ عُرِفَتْ نِيَّتُهُ
وَاجْتِهَادُهُ وَمَا رَفَعَهُ مِنْ الظُّلْمِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ أَمْ عَلَيْهِ
أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ عَنْ هَذِهِ الْوِلَايَةِ وَالْإِقْطَاعِ وَهُوَ إذَا رَفَعَ
يَدَهُ لَا يَزُولُ الظُّلْمُ بَلْ يَبْقَى وَيَزْدَادُ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ
الْبَقَاءُ عَلَى الْوِلَايَةِ وَالْإِقْطَاعِ كَمَا ذُكِرَ ؟ وَهَلْ عَلَيْهِ
إثْمٌ فِي هَذَا الْفِعْلِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ .
فَهَلْ يُطَالَبُ عَلَى ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ خَيْرٌ لَهُ : أَنْ
يَسْتَمِرَّ مَعَ اجْتِهَادِهِ فِي رَفْعِ الظُّلْمِ وَتَقْلِيلِهِ أَمْ رَفْعُ
يَدِهِ مَعَ بَقَاءِ الظُّلْمِ وَزِيَادَةِ . وَإِذَا كَانَتْ الرَّعِيَّةُ
تَخْتَارُ بَقَاءَ يَدِهِ لِمَا لَهَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِهِ
وَرَفْعِ مَا رَفَعَهُ مِنْ الظُّلْمِ . فَهَلْ الْأَوْلَى
لَهُ
أَنْ يُوَافِقَ الرَّعِيَّةَ ؟ أَمْ يَرْفَعُ يَدَهُ . وَالرَّعِيَّةُ تَكْرَهُ
ذَلِكَ لِعِلْمِهَا أَنَّ الظُّلْمَ يَبْقَى وَيَزْدَادُ بِرَفْعِ يَدِهِ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعَدْلِ وَرَفْعِ
الظُّلْمِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ وَوِلَايَتِهِ خَيْرٌ وَأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ
مِنْ وِلَايَةِ غَيْرِهِ وَاسْتِيلَاؤُهُ عَلَى الْإِقْطَاعِ خَيْرٌ مِنْ
اسْتِيلَاءِ غَيْرِهِ كَمَا قَدْ ذُكِرَ : فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْبَقَاءُ
عَلَى الْوِلَايَةِ وَالْإِقْطَاعِ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ؛ بَلْ
بَقَاؤُهُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ إذَا
تَرَكَهُ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ . وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَاجِبًا
إذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ قَادِرًا عَلَيْهِ . فَنَشْرُ الْعَدْلِ -
بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَرَفْعُ الظُّلْمِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ - فَرْضٌ عَلَى
الْكِفَايَةِ يَقُومُ كُلُّ إنْسَانٍ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إذَا
لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ وَلَا يُطَالَبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ
بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ رَفْعِ الظُّلْمِ . وَمَا يُقَرِّرُهُ الْمُلُوكُ مِنْ
الْوَظَائِفِ الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ رَفْعُهَا لَا يُطَالَبُ بِهَا وَإِذَا
كَانُوا هُمْ وَنُوَّابُهُمْ يَطْلُبُونَ أَمْوَالًا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا إلَّا
بِإِقْرَارِ بَعْضِ تِلْكَ الْوَظَائِفِ وَإِذَا لَمْ يُدْفَعُ إلَيْهِمْ
أَعْطَوْا تِلْكَ الْإِقْطَاعَاتِ وَالْوِلَايَةَ لِمَنْ يُقَرِّرُ الظُّلْمَ أَوْ
يَزِيدُهُ وَلَا يُخَفِّفُهُ كَانَ أَخْذُ تِلْكَ الْوَظَائِفِ وَدَفْعُهَا
إلَيْهِمْ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إقْرَارِهَا كُلِّهَا وَمَنْ صُرِفَ مِنْ
هَذِهِ إلَى الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِ وَمَنْ
تَنَاوَلَهُ مِنْ هَذَا شَيْءٌ أُبْعِدَ عَنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
مِنْ غَيْرِهِ وَالْمُقْطَعُ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا الْخَيْرَ يَرْفَعُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَيَدْفَعُ شَرَّ الشِّرِّيرِ بِأَخْذِ بَعْضِ مَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ فَمَا لَا يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ هُوَ مُحْسِنٌ إلَى الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ يُثَابُ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا يَأْخُذُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَخَذَهُ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَهَذَا كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَالْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِيكِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ أَوْ الْوِكَالَةِ إذَا كَانَ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ مَصْلَحَتِهِمْ إلَّا بِأَدَاءِ بَعْضِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِلْقَادِرِ الظَّالِمِ : فَإِنَّهُ مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مُسِيءٍ وَذَلِكَ مِثْلُ مَا يُعْطِي هَؤُلَاءِ المكاسين وَغَيْرَهُمْ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَشْوَالِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي اُؤْتُمِنُوا ؛ كَمَا يُعْطُونَهُ مِنْ الْوَظَائِفِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى الْعَقَارِ وَالْوَظَائِفِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى مَا يُبَاعُ وَيُشْتَرَى ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ أَوْ لِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ وَنَحْوِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَدِّيَ هَذِهِ الْوَظَائِفَ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ فَسَادُ الْعِبَادِ وَفَوَاتُ مَصَالِحِهِمْ . وَاَلَّذِي يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقَعَ ظُلْمٌ قَلِيلٌ لَوْ قَبِلَ النَّاسُ مِنْهُ تَضَاعَفَ الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ عَلَيْهِمْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانُوا فِي طَرِيقٍ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَإِنْ لَمْ يُرْضُوهُمْ بِبَعْضِ الْمَالِ أَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ وَقَتَلُوهُمْ . فَمَنْ قَالَ لِتِلْكَ الْقَافِلَةِ : لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُعْطُوا لِهَؤُلَاءِ شَيْئًا مِنْ الْأَمْوَالِ
الَّتِي مَعَكُمْ لِلنَّاسِ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ بِهَذَا حِفْظَ ذَلِكَ الْقَلِيلِ الَّذِي يَنْهَى عَنْ دَفْعِهِ وَلَكِنْ لَوْ عَمِلُوا بِمَا قَالَ لَهُمْ ذَهَبَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَسُلِبُوا مَعَ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُشِيرُ بِهِ عَاقِلٌ فَضْلًا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ الشَّرَائِعُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . فَهَذَا الْمُتَوَلِّي الْمُقْطِعُ الَّذِي يَدْفَعُ بِمَا يُوجَدُ مِنْ الْوَظَائِفِ وَيَصْرِفُ إلَى مَنْ نَسَبُهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى وِلَايَتِهِ وَإِقْطَاعِهِ ظُلْمًا وَشَرًّا كَثِيرًا عَنْ الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنهُ دَفْعُهُ إلَّا بِذَلِكَ إذَا رَفَعَ يَدَهُ تَوَلَّى مَنْ يُقِرُّهُ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْئًا هُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَا ضَمَانَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ وَصِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ مَصْلَحَتِهِمْ إلَّا بِدَفْعِ مَا يُوَصِّلُ مِنْ الْمَظَالِمِ السُّلْطَانِيَّةِ إذَا رَفَعَ يَدَهُ تَوَلَّى مَنْ يَجُورُ وَيُرِيدُ الظُّلْمَ فَوِلَايَتُهُ جَائِزَةٌ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا يَدْفَعُهُ ؛ بَلْ قَدْ تَجِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ . وَكَذَلِكَ الْجُنْدِيُّ الْمُقْطَعُ الَّذِي يُخَفِّفُ الْوَظَائِفَ عَنْ بِلَادِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ خَيْلٌ وَسِلَاحٌ وَنَفَقَةٌ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَتُهَا إلَّا بِأَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ تِلْكَ الْوَظَائِفِ وَهَذَا مَعَ هَذَا يَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ فِي
الْجِهَادِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ : لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ هَذَا ؛ بَلْ ارْفَعْ يَدَك عَنْ هَذَا الْإِقْطَاعِ فَتَرَكَهُ وَأَخَذَهُ مَنْ يُرِيدُ الظُّلْمَ وَلَا يَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ : كَانَ هَذَا الْقَائِلُ مُخْطِئًا جَاهِلًا بِحَقَائِقِ الدِّينِ ؛ بَلْ بَقَاءُ الْخَيْلِ مِنْ التُّرْكِ وَالْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَقْرَبُ لِلْعَدْلِ عَلَى إقْطَاعِهِمْ مَعَ تَخْفِيفِ الظُّلْمِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ تِلْكَ الْإِقْطَاعَاتِ مَنْ هُوَ أَقَلُّ نَفْعًا وَأَكْثَرُ ظُلْمًا . وَالْمُجْتَهِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُقْطَعِينَ كُلِّهِمْ فِي الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ يَجْزِيهِ اللَّهُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَلَا يُعَاقِبُهُ عَلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا يَأْخُذُ وَيَصْرِفُ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا ذَلِكَ [ وَ ] (1) كَانَ تَرْكُ ذَلِكَ يُوجِبُ شَرًّا أَعْظَمَ مِنْهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ
عَنْ رَجُلٍ أُخِذَ مَالُهُ ظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَانْتُهِكَ عِرْضُهُ أَوْ
نِيلَ مِنْهُ فِي بَدَنِهِ فَلَمْ يَقْتَصَّ فِي الدُّنْيَا وَعَلِمَ أَنَّ مَا
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى . فَهَلْ يَكُونُ عَفْوُهُ عَنْ ظَالِمِهِ
مُسْقِطًا عِنْدَ اللَّهِ ؟ أَمْ نَقْصًا لَهُ ؟ أَمْ لَا يَكُونُ ؟ أَوْ يَكُونُ
أَجْرُهُ بَاقِيًا كَامِلًا مُوَفَّرًا ؟ وَأَيُّمَا أَوْلَى مُطَالَبَةُ هَذَا
الظَّالِمِ وَالِانْتِقَامُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - وَتَعْذِيبُ اللَّهِ
لَهُ . أَوْ الْعَفْوُ عَنْهُ وَقَبُولُ الْحَوَالَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَكُونُ الْعَفْوُ عَنْ الظَّالِمِ وَلَا قَلِيلُهُ مُسْقِطًا لِأَجْرِ
الْمَظْلُومِ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا مُنْقِصًا لَهُ ؛ بَلْ الْعَفْوُ عَنْ
الظَّالِمِ يُصَيِّرُ أَجْرَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ
يَعْفُ كَانَ حَقُّهُ عَلَى الظَّالِمِ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ بِقَدْرِ
مَظْلِمَتِهِ وَإِذَا عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ . وَأَجْرُهُ
الَّذِي هُوَ عَلَى اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى . قَالَ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
إنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ
سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا بِلَا عُدْوَانٍ وَهَذَا هُوَ الْقِصَاصُ فِي الدِّمَاءِ
وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . ثُمَّ قَالَ :
{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد لَمَّا ظُلِمَ فِي مِحْنَتِهِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى حَلَّلَ مَنْ ظَلَمَهُ . وَقَالَ : ذَكَرْت حَدِيثًا ذُكِرَ عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : { إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ : أَلَا لِيَقُمْ مَنْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَلَا يَقُومُ إلَّا مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } وَأَبَاحَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذَا عَاقَبُوا الظَّالِمَ أَنْ يُعَاقِبُوهُ بِمِثْلِ مَا عَاقَبَ بِهِ ثُمَّ قَالَ : { وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } فَعُلِمَ أَنَّ الصَّبْرَ عَنْ عُقُوبَتِهِ بِالْمِثْلِ خَيْرٌ مِنْ عُقُوبَتِهِ . فَكَيْفَ يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْأَجْرِ أَوْ مُنْقِصًا لَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } . فَجَعَلَ الصَّدَقَةَ بِالْقِصَاصِ الْوَاجِبِ عَلَى الظَّالِمِ - وَهُوَ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ - كَفَّارَةً لِلْعَافِي وَالِاقْتِصَاصُ لَيْسَ بِكَفَّارَةٍ لَهُ فَعُلِمَ أَنَّ الْعَفْوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الِاقْتِصَاصِ . وَهَذَا لِأَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَصَائِبِ مُكَفِّرٌ لِلذُّنُوبِ وَيُؤْجَرُ الْعَبْدُ عَلَى صَبْرِهِ عَلَيْهَا وَيُرْفَعُ دَرَجَتُهُ بِرِضَاهُ بِمَا يَقْضِيهِ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةُ يشاكها إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } . وَفِي الْمُسْنَدِ : { أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ نَزَلَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْت تَنْصَبُ ؟ أَلَسْت تَحْزَنُ ؟ أَلَسْت تُصِيبُك اللَّأْوَاءُ . فَذَلِكَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ } وَفِيهِ أَيْضًا : { الْمَصَائِبُ حِطَّةٌ تَحُطُّ الْخَطَايَا عَنْ صَاحِبِهَا كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ الْقَائِمَةُ وَرَقَهَا } . وَالدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ الْمَصَائِبَ كَفَّارَاتٌ كَثِيرَةٌ إذَا صَبَرَ عَلَيْهَا أُثِيبَ عَلَى صَبْرِهِ فَالثَّوَابُ وَالْجَزَاءُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعَمَلِ - وَهُوَ الصَّبْرُ - وَأَمَّا نَفْسُ الْمُصِيبَةِ فَهِيَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ ؛ لَا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَهِيَ مِنْ جَزَاءِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ عَلَى ذَنْبِهِ وَتَكْفِيرِهِ ذَنْبَهُ بِهَا . وَفِي الْمُسْنَدِ " أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَهُوَ مَرِيضٌ . فَذَكَرُوا أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى مَرَضِهِ فَقَالَ : مَا لِي مِنْ الْأَجْرِ وَلَا مِثْلُ هَذِهِ . وَلَكِنَّ الْمَصَائِبَ حِطَّةٌ " فَبَيَّنَ لَهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ نَفْسَ الْمَرَضِ لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ بَلْ يُكَفَّرُ بِهِ عَنْ خَطَايَاهُ . وَكَثِيرًا مَا يُفْهَمُ مِنْ الْأَجْرِ غُفْرَانُ الذُّنُوبِ فَيَكُونُ فِيهِ أَجْرٌ بِهَذَا
الِاعْتِبَارِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّعْوِيضِ وَالْأَجْرِ وَالِامْتِنَانِ وَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابٌ بِغَيْرِ عَمَلٍ كَمَا يُفْعَلُ عَنْهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ . وَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ فَفِيهَا أَجْرٌ عَظِيمٌ قَالَ تَعَالَى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } { الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } . فَالرَّجُلُ إذَا ظُلِمَ بِجُرْحِ وَنَحْوِهِ فَتَصَدَّقَ بِهِ كَانَ الْجُرْحُ مُصِيبَةً يُكَفَّرُ بِهَا عَنْهُ وَيُؤْجَرُ عَلَى صَبْرِهِ وَعَلَى إحْسَانِهِ إلَى الظَّالِمِ بِالْعَفْوِ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ الْإِحْسَانَ يَكُونُ بِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ وَبِدَفْعِ مَضَرَّةٍ ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ صَدَقَةً . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } فَذَكَرَ : أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ . وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ هَذَا مِنْ الْإِحْسَانِ . وَالْإِحْسَانُ ضِدُّ الْإِسَاءَةِ وَهُوَ فِعْلُ الْحَسَنِ سَوَاءٌ كَانَ لَازِمًا لِصَاحِبِهِ أَوْ مُتَعَدِّيًا إلَى الْغَيْرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إلَّا مِثْلَهَا } . فَالْكَاظِمُ لِلْغَيْظِ وَالْعَافِي عَنْ النَّاسِ قَدْ أَحْسَنَ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى النَّاسِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ عَمِلَ حَسَنَةً مَعَ نَفْسِهِ وَمَعَ النَّاسِ وَمَنْ أَحْسَنَ إلَى النَّاسِ فَإِلَى نَفْسِهِ . كَمَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ : مَا أَحْسَنْت إلَى أَحَدٍ وَمَا أَسَأْت إلَى أَحَدٍ
وَإِنَّمَا أَحْسَنْت إلَى نَفْسِي وَأَسَأْت إلَى نَفْسِي . قَالَ تَعَالَى : { إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ إحْسَانًا إلَى الْمُحْسِنِ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِ لَكَانَ فَاعِلًا إثْمًا أَوْ ضَرَرًا ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ الَّذِي لَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى فَاعِلِهِ ؛ إمَّا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ وَإِمَّا شَرٌّ مِنْ الْعَبَثِ ؛ إذَا ضَرَّ فَاعِلَهُ . وَالْعَفْوُ عَنْ الظَّالِمِ أَحَدُ نَوْعَيْ الصَّدَقَةِ : الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ . وَجِمَاعُ ذَلِكَ الزَّكَاةُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ دَائِمًا يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَهِيَ الصَّدَقَةُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ } وَذَلِكَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : اتِّصَالُ نَفْعٍ إلَيْهِ . الثَّانِي : دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْهُ . فَإِذَا كَانَ الْمَظْلُومُ يَسْتَحِقُّ عُقُوبَةَ الظُّلْمِ وَنَفْسُهُ تَدْعُوهُ إلَيْهِ فَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ وَدَفَعَ عَنْهُ مَا يَدْعُوهُ إلَيْهِ مِنْ إضْرَارِهِ فَهَذَا إحْسَانٌ مِنْهُ إلَيْهِ وَصَدَقَةٌ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ وَلَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . فَكَيْفَ يَسْقُطُ أَجْرُ الْعَافِي وَهَذَا عَامٌّ فِي سَائِر مَا لِلْعَبْدِ مِنْ الْحُقُوقِ عَلَى النَّاسِ ؛ وَلِهَذَا إذَا
ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حُقُوقَ الْعِبَادِ وَذَكَرَ فِيهَا الْعَدْلَ نَدَبَ فِيهَا إلَى الْإِحْسَانِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . فَجَعَلَ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ عَنْهُ خَيْرًا لِلْمُتَصَدِّقِ مِنْ مُجَرَّدِ إنْظَارِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } فَسَمَّى إسْقَاطَ الدِّيَةِ صَدَقَةً . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } فَجَعَلَ الْعَفْوَ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ الْوَاجِبِ عَلَى الزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَقْرَبَ لِلتَّقْوَى مِنْ اسْتِيفَائِهِ . وَعَفْوُ الْمَرْأَةِ إسْقَاطُ نِصْفِ الصَّدَاقِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ . وَأَمَّا عَفْوُ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ . فَقِيلَ : هُوَ عَفْوُ الزَّوْجِ وَأَنَّهُ تَكْمِيلٌ لِلصَّدَاقِ لِلْمَرْأَةِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا الْعَفْوُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْعَفْوِ فَهَذَا الْعَفْوُ إعْطَاءُ الْجَمِيعِ وَذَلِكَ الْعَفْوُ إسْقَاطُ الْجَمِيعِ . وَاَلَّذِي حَمَلَ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ ؛ أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ غَيْرَ الْمَرْأَةِ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّهَا الْوَاجِبِ كَمَا لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ سَائِر دُيُونِهَا . وَقِيلَ : الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ . هُوَ وَلِيٌّ الْمَرْأَةِ الْمُسْتَقِلُّ بِالْعَقْدِ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهَا :
كَالْأَبِ لِلْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ وَكَالسَّيِّدِ لِلْأَمَةِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَفْوَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ . وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ : إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوا هُمْ وَالْخِطَابُ فِي الْآيَةِ لِلْأَزْوَاجِ . وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ لُقْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } { إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } . فَهُنَاكَ فِي قَوْلِ لُقْمَانَ ذَكَرَ الصَّبْرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ فَقَالَ : { إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَهُنَا ذَكَرَ الصَّبْرَ وَالْعَفْوَ فَقَالَ : { إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهِ : { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } { إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ فِي بَابِ الظُّلْمِ الَّذِي يَكُونُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمَظْلُومِ ؛ وَهُمْ : الْعَادِلُ وَالظَّالِمُ وَالْمُحْسِنُ . فَالْعَادِلُ مَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ وَهَذَا جَزَاؤُهُ أَنَّهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ فَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مَمْدُوحًا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مَذْمُومًا . وَذَكَرَ الظَّالِمَ بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } فَهَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ السَّبِيلُ لِلْعُقُوبَةِ وَالِاقْتِصَاصِ . وَذَكَرَ الْمُحْسِنِينَ
فَقَالَ : { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } . وَالْقُرْآنُ فِيهِ جَوَامِعُ الْكَلِمِ . وَهَذَا كَمَا ذَكَرَ فِي آخِرِ الْبَقَرَةِ أَصْنَافُ النَّاسِ فِي الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَكُونُ بِاخْتِيَارِ الْمُتَعَامِلِينَ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ : مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ وَعَادِلٌ . فَالْمُحْسِنُ : هُوَ الْمُتَصَدِّقُ . وَالظَّالِمُ : هُوَ الْمُرْبِي . وَالْعَادِلُ : هُوَ الْبَائِعُ . فَذَكَرَ هُنَا حُكْمَ الصَّدَقَاتِ وَحُكْمَ الرِّبَا وَحُكْمَ الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُدَايَنَاتِ . وَكَمَا أَنَّ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ بِالْعَفْوِ يَسْقُطُ حَقُّهُ أَوْ يَنْقُصُ : غالط جَاهِلٌ ضَالٌّ ؛ بَلْ بِالْعَفْوِ يَكُونُ أَجْرُهُ أَعْظَمَ ؛ فَكَذَلِكَ مَنَّ تَوَهَّمَ أَنَّهُ بِالْعَفْوِ يَحْصُلُ لَهُ ذُلٌّ وَيَحْصُلُ لِلظَّالِمِ عِزٌّ وَاسْتِطَالَةٌ عَلَيْهِ فَهُوَ غالط فِي ذَلِكَ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ إنْ كُنْت لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ : مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوِ إلَّا عِزًّا وَمَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ } . فَبَيَّنَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ : أَنَّ اللَّهَ لَا يَزِيدُ الْعَبْدَ بِالْعَفْوِ إلَّا عِزًّا وَأَنَّهُ لَا تَنْقُصُ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَأَنَّهُ مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ . وَهَذَا رَدٌّ لِمَا يَظُنُّهُ مَنْ يَتَّبِعُ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ مِنْ أَنَّ الْعَفْوَ يُذِلُّهُ وَالصَّدَقَةَ تُنْقِصُ مَالَهُ وَالتَّوَاضُعَ يَخْفِضُهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : { مَا ضَرَبَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَادِمًا لَهُ وَلَا امْرَأَةً وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا نِيلَ مِنْهُ قَطُّ شَيْءٌ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ ؛ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ . حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ } . وَخُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنُ أَكْمَلَ الْأَخْلَاقِ وَقَدْ كَانَ مِنْ خُلُقِهِ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ وَإِذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ فَيَعْفُوَ عَنْ حَقِّهِ وَيَسْتَوْفِيَ حَقَّ رَبِّهِ . وَالنَّاسُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَصِرُ لِنَفْسِهِ وَلِرَبِّهِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ دِينٌ وَغَضَبٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَنْتَصِرُ لَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِرَبِّهِ وَهُوَ الَّذِي فِيهِ جَهْلٌ وَضَعْفُ دِينٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ ؛ لَا لِرَبِّهِ وَهُمْ شَرُّ الْأَقْسَامِ . وَأَمَّا الْكَامِلُ فَهُوَ الَّذِي يَنْتَصِرُ لِحَقِّ اللَّهِ وَيَعْفُو عَنْ حَقِّهِ . كَمَا قَالَ { أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : خَدَمْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي : أُفٍّ قَطُّ . وَمَا قَالَ لِي لِشَيْءِ فَعَلْته : لَمْ فَعَلْته ؟ وَلَا لِشَيْءِ لَمْ أَفْعَلْهُ : لَمْ لَا فَعَلْته ؟ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ إذَا عَتَبَنِي عَلَى شَيْءٍ يَقُولُ : دَعُوهُ لَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ } . فَهَذَا فِي الْعَفْوِ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِهِ
وَأَمَّا فِي حُدُودِ اللَّهِ فَلَمَّا { شَفَعَ عِنْدَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - وَهُوَ الْحِبُّ ابْنُ الْحِبِّ وَكَانَ هُوَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أَنَسٍ وَأَعَزَّ عِنْدَهُ - فِي امْرَأَةٍ سَرَقَتْ شَرِيفَةٍ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ قَطْعِ يَدِهَا : غَضِبَ وَقَالَ : يَا أُسَامَةُ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ إنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ . أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْت يَدَهَا } . فَغَضِبَ عَلَى أُسَامَةَ لَمَّا شَفَعَ فِي حَدٍّ لِلَّهِ وَعَفَا عَنْ أَنَسٍ فِي حَقِّهِ . وَكَذَلِكَ لَمَّا { أَخْبَرَهُ أُسَامَةُ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا بَعْدَ أَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ : قَالَ أَقَتَلْته بَعْدَ مَا قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْت : لَيْتَهُ سَكَتَ } . وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي اسْتِحْبَابِ الْعَفْوِ عَنْ الظَّالِمِ وَأَنَّ أَجْرَهُ بِذَلِكَ أَعْظَمُ كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَهَذَا مِنْ الْعِلْمِ الْمُسْتَقِرِّ فِي فِطَرِ الْآدَمِيِّينَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْعَفْوِ فِي أَخْلَاقِ النَّاسِ وَهُوَ مَا يُقَرُّ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ ابْنِ الزُّبَيْرِ : أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْعَفْوِ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } مِنْ أَمْوَالِهِمْ . هَذَا مِنْ الْعَفْوِ وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُعْرِضُ عَنْ الْجَاهِلِينَ . وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا جِمَاعُ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَعَ النَّاسِ إمَّا أَنْ يَفْعَلُوا مَعَهُ غَيْرَ
مَا
يُحِبُّ أَوْ مَا يَكْرَهُ . فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا يُحِبُّ مَا
سَمَحُوا بِهِ وَلَا يُطَالِبَهُمْ بِزِيَادَةِ . وَإِذَا فَعَلُوا مَعَهُ مَا
يَكْرَهُ أَعْرَضَ عَنْهُمْ وَأَمَّا هُوَ فَيَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ .
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ دَيْنٌ فَيَجْحَدُهُ أَوْ يَغْصِبُهُ
شَيْئًا . ثُمَّ يُصِيبُ لَهُ مَالًا مِنْ جِنْسِ مَالِهِ . فَهَلْ لَهُ أَنْ
يَأْخُذَ مِنْهُ مِقْدَارَ حَقِّهِ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا إذَا كَانَ لِرَجُلِ عِنْدَ غَيْرِهِ حَقٌّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ .
فَهَلْ يَأْخُذُهُ أَوْ نَظِيرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؟ فَهَذَا نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ ظَاهِرًا لَا يَحْتَاجُ إلَى
إثْبَاتٍ مِثْلَ اسْتِحْقَاقِ الْمَرْأَةِ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا
وَاسْتِحْقَاقَ الْوَلَدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَالِدُهُ وَاسْتِحْقَاقِ
الضَّيْفِ الضِّيَافَةَ عَلَى مَنْ نَزَلَ بِهِ فَهُنَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ
بِدُونِ إذْنِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِلَا رَيْبٍ ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عتبة بْنِ رَبِيعَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ : إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مِنْ
النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَبُنَيَّ . فَقَالَ : خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك
بِالْمَعْرُوفِ } فَأَذِنَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ نَفَقَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ
بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ .
وَهَكَذَا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ غُصِبَ مِنْهُ مَالُهُ غَصْبًا ظَاهِرًا يَعْرِفُهُ النَّاسُ فَأَخَذَ الْمَغْصُوبَ أَوْ نَظِيرَهُ مِنْ مَالِ الْغَاصِبِ . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَهُوَ يَمْطُلُهُ فَأَخَذَ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَالثَّانِي : أَلَّا يَكُونَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ ظَاهِرًا . مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَحَدَ دَيْنَهُ أَوْ جَحَدَ الْغَصْبَ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي . فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَالثَّانِي : لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيُسَوِّغُ الْأَخْذَ مَنْ جِنْسِ الْحَقِّ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ وَلَا يُسَوِّغُ الْأَخْذَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِرِضَا الْغَرِيمِ . وَالْمُجَوِّزُونَ يَقُولُونَ : إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ثَبَتَتْ الْمُعَاوَضَةُ بِدُونِ إذْنِهِ لِلْحَاجَةِ ؛ لَكِنْ مَنْ مَنَعَ الْأَخْذَ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ الْحَقِّ اسْتَدَلَّ بِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ { بَشِيرِ بْنِ الخصاصية أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لَنَا جِيرَانًا لَا يَدَعُونَ لَنَا شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إلَّا أَخَذُوهَا فَإِذَا قَدَرْنَا لَهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَنَأْخُذُهُ ؟
قَالَ : لَا أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنَّ أَهْلَ الصَّدَقَةِ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا ؟ قَالَ : لَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُبَيِّنُ أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذَا كَانَ سَبَبُهُ لَيْسَ ظَاهِرًا ، [ و ] (1) أَخَذَهُ خِيَانَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ هُوَ يَقْصِدُ أَخْذَ نَظِيرِ حَقِّهِ ؛ لَكِنَّهُ خَانَ الَّذِي ائْتَمَنَهُ فَإِنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ إلَيْهِ مَالَهُ فَأَخَذَ بَعْضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالِاسْتِحْقَاقُ لَيْسَ ظَاهِرًا كَانَ خَائِنًا . وَإِذَا قَالَ : أَنَا مُسْتَحِقٌّ لِمَا أَخَذْته فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ يَكُنْ مَا ادَّعَاهُ ظَاهِرًا مَعْلُومًا . وَصَارَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَنْكَرَتْ نِكَاحَهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ فَإِذَا قَهَرَهَا عَلَى الْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْحَاكِمَ حَكَمَ عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ بِبَيِّنَةٍ اعْتَقَدَ صِدْقَهَا وَكَانَتْ كَاذِبَةً فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا لِمَا هُوَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ . فَإِنْ قِيلَ لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يُمْنَعُ مِنْهُ ظَاهِرًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ ذَلِكَ قُدَّامَ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ فِي الظَّاهِرِ ؛ لَكِنَّ الشَّأْنَ إذَا كَانَ يُعْلَمُ سِرًّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ؟ قِيلَ : فِعْلُ ذَلِكَ سِرًّا يَقْتَضِي مَفَاسِدَ كَثِيرَةً مَنْهِيٌّ عَنْهَا فَإِنْ فَعَلَ
ذَلِكَ فِي مَظِنَّةِ الظُّهُورِ وَالشُّهْرَةِ وَفِيهِ أَلَّا يَتَشَبَّهَ بِهِ مَنْ لَيْسَ حَالُهُ كَحَالِهِ فِي الْبَاطِنِ فَقَدْ يَظُنُّ الْإِنْسَانُ خَفَاءَ ذَلِكَ فَيُظْهِرَ مَفَاسِدَ كَثِيرَةً وَيَفْتَحَ أَيْضًا بَابَ التَّأْوِيلِ . وَصَارَ هَذَا كَالْمَظْلُومِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِصَارُ إلَّا بِالظُّلْمِ كَالْمُقْتَصِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ الِاقْتِصَاصُ إلَّا بِعُدْوَانِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَاصُ . وَذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الْخِيَانَةِ مُحَرَّمَةُ الْجِنْسِ . فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ بِهَا ؛ كَمَا لَوْ جَرَّعَهُ خَمْرًا أَوْ تلوط بِهِ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالزُّورِ : لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا مُحَرَّمُ الْجِنْسِ . وَالْخِيَانَةُ مِنْ جِنْسِ الْكَذِبِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَيْسَ بِخِيَانَةِ ؛ بَلْ هُوَ اسْتِيفَاءُ حَقٍّ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ خِيَانَةِ مَنْ خَانَ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَالًا يَسْتَحِقُّ نَظِيرَهُ . قِيلَ هَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْحَدِيثَ فِيهِ { أَنَّ قَوْمًا لَا يَدَعُونَ لَنَا شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إلَّا أَخَذُوهَا . أَفَنَأْخُذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَأْخُذُونَ ؟ فَقَالَ : لَا أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك . وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الزَّكَاةِ : { أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَأْخُذُونَ مِنَّا ؟ فَقَالَ : لَا } . الثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ : { وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } . وَلَوْ أَرَادَ بِالْخِيَانَةِ الْأَخْذَ عَلَى طَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ لَمْ يَكُنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَنْ خَانَهُ وَمَنْ لَمْ يَخُنْهُ وَتَحْرِيمُ مِثْلِ
هَذَا
ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ وَسُؤَالٍ . وَقَدْ قَالَ : { وَلَا تَخُنْ
مَنْ خَانَك } فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّك لَا تُقَابِلُهُ عَلَى خِيَانَتِهِ
فَتَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِك . فَإِذَا أُودِعَ الرَّجُلُ مَالًا
فَخَانَهُ فِي بَعْضِهِ ثُمَّ أُودِعَ الْأَوَّلُ نَظِيرَهُ فَفَعَلَ بِهِ مِثْلَ
مَا فَعَلَ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } .
الثَّالِثُ : أَنَّ كَوْنَ هَذَا خِيَانَةً لَا رَيْبَ فِيهِ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ
فِي جَوَازِهِ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ ؛ فَإِنَّ الْأُمُورَ مِنْهَا مَا يُبَاحُ
فِيهِ الْقِصَاصُ كَالْقَتْلِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَأَخْذِ الْمَالِ . وَمِنْهَا
مَا لَا يُبَاحُ فِيهِ الْقِصَاصُ : كَالْفَوَاحِشِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
قَالَ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } .
وَقَالَ : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } .
وَقَالَ : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } . فَأَبَاحَ الْعُقُوبَةَ وَالِاعْتِدَاءَ بِالْمِثْلِ .
فَلَمَّا قَالَ هَاهُنَا : { وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } عُلِمَ أَنَّ هَذَا
مِمَّا لَا يُبَاحُ فِيهِ الْعُقُوبَةُ بِالْمِثْلِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مَدْيُونٍ وَلَهُ عِنْدَ صَاحِبِ الدَّيْنِ بِضَاعَةٌ وَالثَّمَنُ سَبْعُونَ
دِرْهَمًا وَمِقْدَارُ الْبِضَاعَةِ تِسْعُونَ دِرْهَمًا وَقَدْ تُوُفِّيَ
الْمَدْيُونُ وَاحْتَاطَ عَلَى مَوْجُودِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَنْ
يُطْلِعَ الْوَرَثَةَ عَلَى الْبِضَاعَةِ
فاختشى
أَنْ يَأْخُذُوهَا وَلَمْ يُوَصِّلُوهُ إلَى حَقِّهِ وَإِنْ أَخْفَاهَا فَيَبْقَى
إثْمُ فَرْطِهَا عَلَيْهِ وَيَخَافُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِغَيْرِ الْبِضَاعَةِ ؟
فَأَجَابَ :
يَبِيعُهَا وَيَسْتَوْفِي مِنْ الثَّمَنِ مَا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْ
الْأُجْرَةِ وَالثَّمَنِ وَمَا بَقِيَ يُوَصِّلُهُ إلَى مُسْتَحِقِّ تَرِكَتِهِ .
وَإِذَا حَلَّفُوهُ فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدِي غَيْرُ
هَذَا وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَشْتَرِيَ بِضَاعَةً مِثْلَ تِلْكَ الْبِضَاعَةِ
وَيَحْلِفَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَهُ إلَّا هَذَا . بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ
الْبِضَاعَةُ مِثْلَ تِلْكَ أَوْ خَيْرًا مِنْهَا .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَالٌ غُصِبَ أَوْ مُطِلَ فِي دَيْنٍ ثُمَّ مَاتَ . فَهَلْ
تَكُونُ الْمُطَالَبَةُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ؟ أَمْ لِلْوَرَثَةِ ؟ أَفْتُونَا
مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَنْ غُصِبَ لَهُ مَالٌ أَوْ مُطِلَ بِهِ فَالْمُطَالَبَةُ فِي الْآخِرَةِ
لَهُ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَتْ لِأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ فِي دَمٍ
أَوْ مَالٍ أَوْ عَرَضٍ فَلْيَسْتَحْلِلْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمُ لَا
دِينَارٌ فِيهِ وَلَا دِرْهَمٌ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ
حَسَنَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ
فَأُلْقِيَتْ عَلَيْهِ } .
فَبَيَّنَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الظُّلَامَةَ إذَا كَانَتْ
فِي الْمَالِ طَالَبَ الْمَظْلُومُ بِهَا ظَالِمَهُ وَلَمْ يَجْعَلْ
الْمُطَالَبَةَ لِوَرَثَتِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَرَثَةَ يُخَالِفُونَهُ فِي
الدُّنْيَا فَمَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا كَانَ لِلْوَرَثَةِ وَمَا
لَمْ يُمْكِنْ اسْتِيفَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا فَالطَّالِبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ
الْمَظْلُومُ نَفْسُهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْمٍ دَخَلَ فِي زَرْعِهِمْ جَامُوسَانِ . فَعَرْقَبُوهُمَا فَمَاتَا
وَقَدْ يُمْكِنُ دَفْعُهُمَا بِدُونِ ذَلِكَ فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ؟ وَمَا
يَجِبُ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي مِنْ حِفْظِهَا ؟ وَعَلَى أَرْبَابِ الزَّرْعِ
مِنْ حِفْظِهِ ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُمْ دَفْعُ الْبَهَائِم الدَّاخِلَةِ إلَى زَرْعِهِمْ إلَّا
بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ . فَإِذَا أَمْكَنَ إخْرَاجُهُمَا بِدُونِ
الْعَرْقَبَةِ فَعَرْقَبُوهُمَا عُزِّرُوا عَلَى تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِغَيْرِ
حَقٍّ . وَعَلَى الْعُدْوَانِ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ بِمَا يَرْدَعُهُمْ عَنْ
ذَلِكَ وَضَمِنُوا لِلْمَالِكِ بَدَلَهُمَا . وَعَلَى أَهْلِ الزَّرْعِ حِفْظُ
زَرْعِهِمْ بِالنَّهَارِ وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي حِفْظُ مَوَاشِيهِمْ
بِاللَّيْلِ كَمَا قَالَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ مِنْ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا إذَا نَمَتْ عِنْدَ
الْغَاصِبِ ثُمَّ تَابَ كَيْفَ يَتَخَلَّصُ مِنْ الْمَالِ . وَهَلْ هُوَ حَرَامٌ ؟
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ : أَنْ يُجْعَلَ نَمَاءُ الْمَالِ بَيْنَ
الْمَالِكِ وَالْعَامِلِ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إلَى مَنْ يَقُومُ عَلَيْهِ بِجُزْءِ
مِنْ نَمَائِهِ ثُمَّ إنَّ الْأَصْلَ وَنَصِيبَ الْمَالِكِ إذَا تَعَذَّرَ
دَفْعُهُ إلَى مَالِكِهِ صَرَفَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ غَصَبَ شَاةً ثُمَّ تَرَاضَى هُوَ وَمَالِكُهَا . هَلْ يَجُوزُ أَكْلُهَا
؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ إذَا تَرَاضَى هُوَ وَمَالِكُهَا جَازَ أَكْلُهَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ غُلَامٍ فِي يَدِهِ فَرَسٌ فَطَلَعَتْ نَعَامَةٌ مِنْ إصْطَبْلٍ وَهَجَمَتْ
عَلَى الْخَيْلِ وَالْغُلَامُ مَاسِكٌ الْفَرَسَ وَاثْنَانِ قُعُودٌ فَرَفَسَ
أَحَدَهُمَا وَتُوُفِّيَ فَمَا يَجِبُ عَلَى الْغُلَامِ ؟ وَمَا يَجِبُ عَلَى
صَاحِبِ الْفَرَسِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا رَفَسَتْهُ بِرِجْلِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْغُلَامِ وَلَا عَلَى صَاحِبِ
الْفَرَسِ ؛ بَلْ الْفَرَسُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ
جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ ؛ كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ .
وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { الرَّجُلُ جَبَّارٌ } وَقَالَ الشَّافِعِيِّ : يَضْمَنُ مَا ضَرَبَهُ
بِرِجْلِهِ إذَا كَانَ عَلَى الْفَرَسِ رَاكِبٌ أَوْ قَائِدٌ أَوْ سَائِقٌ كَمَا
وَافَقَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْيَدِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ
يُفَرِّطْ الْغُلَامِ الَّذِي هُوَ مُمْسِكٌ لِلْفَرَسِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ مِثْلَ أَنْ تُجْفَلَ الْفَرَسُ وَيُحَذِّرَ الْقَرِيبَ
مِنْهَا . فَيَقُولُ : حَاذِرُوا . فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَمَنْ رَفَسَتْ
مِنْهُمَا كَانَ هُوَ الْمُفَرِّطُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى أَحَدٍ ضَمَانٌ
بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ جَمَلٍ كَبِيرٍ مَرْبُوطٍ عَلَى الرَّبِيعِ وَإِلَى جَانِبِهِ قَعُودٌ
صَغِيرٌ لِآخَرَ غَيْرِ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْكَبِيرِ ثُمَّ غَابَ أَصْحَابُ
الْجَمَلَيْنِ فَانْقَلَبَ الْكَبِيرُ عَلَى الصَّغِيرِ فَقَتَلَهُ . فَمَا
حُكْمُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ صَاحِبُ الْجَمَلِ الْكَبِيرِ لَمْ يُفَرِّطْ فِي مَنْعِهِ فَلَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَيَّدَهُ الْقَيْدَ الَّذِي يَمْنَعُهُ . وَأَمَّا
إذَا كَانَ قَدْ فَرَّطَ بِأَنْ قَيْدَهُ قَيْدًا خَفِيفًا لَا يَمْنَعُهُ
فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
الشُّفْعَةِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الْعَقَارِ الَّذِي يَقْبَلُ
الْقِسْمَةَ - قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ - كَالْقَرْيَةِ وَالْبُسْتَانِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ . وَتَنَازَعُوا فِيمَا لَا يَقْبَلُ قِسْمَةَ الْإِجْبَارِ ؛ وَإِنَّمَا
يُقْسَمُ بِضَرَرِ أَوْ رَدِّ عِوَضٍ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّرَاضِي . هَلْ
تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا : تَثْبُتُ وَهُوَ
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : كَابْنِ سُرَيْجٍ
. وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ . وَهِيَ
رِوَايَةُ الْمُهَذَّبِ عَنْ مَالِكٍ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ كَمَا
سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَالثَّانِي : لَا تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ وَاخْتِيَارُ
كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ حُجَّتَانِ : أَحَدُهُمَا قَوْلُهُمْ : إنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا شُرِعَتْ لِرَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ وَمَا لَا تَجِبُ قِسْمَتُهُ لَيْسَ فِيهِ هَذَا الضَّرَرُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ لَتَضَرَّرَ الشَّرِيكُ ؛ فَإِنَّهُ إنْ بَاعَهُ لَمْ يَرْغَبْ النَّاسُ فِي الشِّرَاءِ ؛ لِخَوْفِهِمْ مِنْ انْتِزَاعِهِ بِالشُّفْعَةِ . وَإِنْ طَلَبَ الْقِسْمَةَ لَمْ تَجِبْ إجَابَتُهُ فَلَا يُمْكِنُهُ الْبَيْعُ وَلَا الْقِسْمَةُ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ ضَرَرِ شَرِيكِهِ . فَلَوْ أَثْبَتْنَا فِيهِ الشُّفْعَةَ لِرَفْعِ ضَرَرِ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ لَزِمَ إضْرَارُ الشَّرِيكِ الْبَائِعِ . وَالضَّرَرُ لَا يَزَالُ بِالضَّرَرِ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ . فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } وَلَمْ يَشْتَرِطْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ وَالرَّبْعَةِ وَالْحَائِطِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ : فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ كَلَامِ الرَّسُولِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ مِنْ كَلَامِهِ ؛ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا فِي بَابِ تَأْسِيسِ إثْبَاتِ الشُّفْعَةِ . وَلَيْسَ عَنْهُ لَفْظٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي الشُّفْعَةِ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ
فَإِذَا
وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ } فَلَمْ يَمْنَعْ
الشُّفْعَةَ إلَّا مَعَ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ وَهَذَا
الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ
جَارِهِ يَنْتَظِرُهُ بِهَا . وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا
وَاحِدًا } فَإِذَا قَضَى بِهَا لِلِاشْتِرَاكِ فِي الطَّرِيقِ ؛ فَلَأَنْ
يَقْضِيَ بِهَا لِلِاشْتِرَاكِ فِي رَقَبَةِ الْمِلْكِ أَوْلَى وَأَحْرَى .
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي شُفْعَةِ الْجَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .
أَعْدَلُهَا هَذَا الْقَوْلُ : إنَّهُ إنْ كَانَ شَرِيكًا فِي حُقُوقِ الْمِلْكِ
ثَبَتَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ وَإِلَّا فَلَا . وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ
أَنَّهُ إذَا أَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ
فِيمَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ فَمَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ أَوْلَى بِثُبُوتِ
الشُّفْعَةِ فِيهِ ؛ فَإِنَّ الضَّرَرَ فِيمَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ يُمْكِنُ
رَفْعُهُ بِالْمُقَاسِمَةِ وَمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقِسْمَةُ يَكُونُ ضَرَرُ
الْمُشَارَكَةِ فِيهِ أَشَدَّ . وَظَنُّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهَا تَثْبُتُ لِرَفْعِ
الْمُقَاسَمَةِ ؛ لَا لِضَرَرِ الْمُشَارَكَةِ كَلَامٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ؛
فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . أَنَّهُ إذَا طَلَبَ أَحَدُ
الشَّرِيكَيْنِ الْقِسْمَةَ فِيمَا يَقْبَلُهَا وَجَبَتْ إجَابَتُهُ إلَى
الْمُقَاسَمَةِ وَلَوْ كَانَ ضَرَرُ الْمُشَارَكَةِ أَقْوَى لَمْ يَرْفَعْ أَدْنَى
الضَّرَرَيْنِ بِالْتِزَامِ أَعْلَاهُمَا وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
الدُّخُولَ فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ لِرَفْعِ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ ؛ فَإِنَّ
شَرِيعَةَ
اللَّهِ مُنَزَّهَةٌ عَنْ مِثْلِ هَذَا . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : هَذَا يَسْتَلْزِمُ ضَرَرَ الشَّرِيكِ الْبَائِعِ . فَجَوَابُهُ أَنَّهُ إذَا طَلَبَ الْمُقَاسَمَةَ وَلَمْ يُمْكِنْ قِسْمَةُ الْعَيْنِ ؛ فَإِنَّ الْعَيْنَ تُبَاعُ وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْبَيْعِ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا . وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ . وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي غُلَامٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْغُلَامِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ } فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ قِيمَةِ الْجَمِيعِ ؛ لَا فِي قِيمَةِ نِصْفِ الْجَمِيعِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا بِيعَ الْعَبْدُ كُلُّهُ سَاوَى أَلْفَ دِرْهَمٍ مَثَلًا وَإِذَا بِيعَ نِصْفُهُ سَاوَى أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحَقُّ الشَّرِيكِ نِصْفُ الْأَلْفِ . فَهَكَذَا فِي الْعَقَارِ الَّذِي لَا يُقْسَمُ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ قِيمَتِهِ جَمِيعِهِ فَيُبَاعُ جَمِيعُ الْعَقَارِ وَيُعْطَى حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ عَنْهُ الضَّرَرُ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ كَمَالُ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ لَهُ مِلْكٌ وَلَهُ شَرِكَةٌ فِيهِ . فَاحْتَاجَ إلَى بَيْعِهِ
فَأَعْطَاهُ إنْسَانٌ فِيهِ شَيْئًا مَعْلُومًا فَبَاعَهُ . فَقَالَ : زِنْ لِي
مَا قُلْت فَنَقَصَهُ عَنْ الْمِثْلِ . فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ ؟ أَمْ
لَا ؟ وَهَلْ يَصِحُّ لِلشَّرِيكِ شُفْعَةٌ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا بَاعَهُ بِثَمَنِ مَعْلُومٍ كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَدَاءُ ذَلِكَ
الثَّمَنِ . وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا ؛ وَقَدْ فَاتَ : كَانَ عَلَيْهِ
قِيمَةُ مِثْلِهِ . وَإِذَا كَانَ الشِّقْصُ مَشْفُوعًا فَلِلشَّرِيكِ فِيهِ
الشُّفْعَةُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى شِقْصًا مَشْفُوعًا وَكُلَّمَا طَلَبَهُ الشَّفِيعُ أَظْهَرَ
صُورَةَ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ بِدُونِ الرُّؤْيَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فَفَسَخَهُ
الْحَاكِمُ وَأَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِبَرَاءَةِ الْبَائِعِ مِمَّا كَانَ قَبَضَهُ
وَوَقَفَ الشِّقْصَ عَلَى الْمُشْتَرِي كُلُّ ذَلِكَ دَفْعًا لِلشُّفْعَةِ . فَهَلْ
يَكُونُ ذَلِكَ مُسْقِطًا لِلشُّفْعَةِ ؟ وَهَلْ تَكُونُ هَذِهِ
التَّصَرُّفَاتُ
صَحِيحَةَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الِاحْتِيَالُ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا لَا يَجُوزُ
بِالِاتِّفَاقِ ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الِاحْتِيَالِ عَلَيْهَا
قَبْلَ وُجُوبِهَا وَبَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَهُوَ مَا إذَا أَرَادَ
الْمَالِكُ بَيْعَ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ ؛ مَعَ أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ الِاحْتِيَالُ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّ مُسْلِمٍ وَمَا وَجَدَ مِنْ
التَّصَرُّفَاتِ لِأَجْلِ الِاحْتِيَالِ الْمُحَرَّمِ فَهُوَ بَاطِلٌ . وَمَا
ذَكَرَ مِنْ إظْهَارِ صُورَةِ انْفِسَاخِ الْمَبِيع وَعَوْدِ الشِّقْصِ إلَى
الْبَائِعِ ثُمَّ إظْهَارِ بَرَاءَةِ الْبَائِعِ وَوَقْفِهِ : فَكُلُّ ذَلِكَ
بَاطِلٌ وَالشِّقْصُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَحَقُّ الشَّفِيعِ ثَابِتٌ
فِيهِ ؛ إلَّا أَنْ يَتْرُكَ تَرْكًا يُسْقِطُ الشُّفْعَةَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَسُئِلَ :
عَنْ شِقْصٍ مَشْفُوعٍ ثَبَتَ وَقْفُهُ وَثَبَتَ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ
بِالشُّفْعَةِ فِيهِ لِلشَّرِيكِ وَلَمْ يُثْبِتْ الشَّرِيكُ أَخْذَهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَبْطُلُ الْوَقْفُ إلَّا إذَا أَثْبَتَ أَنَّ الشَّرِيكَ يَمْلِكُ الشِّقْصَ
الْمَشْفُوعَ الْمَوْقُوفَ عَلَى مَا فِي تَمَلُّكِهِ مِنْ اخْتِلَافِ
الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا مُجَرَّدُ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ
فَلَا يَنْقُضُ الْوَقْفَ الْمُتَقَدِّمَ
قَبْلَ
ذَلِكَ كَمَا لَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي ؛ بَلْ يَبْقَى الْأَمْرُ
مَوْقُوفًا فَإِنْ أَخَذَ الشَّرِيكُ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ بَطَلَ التَّصَرُّفُ
الْمَوْجُودُ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ ؛ وَإِلَّا فَلَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى نِصْفَ حَوْشٍ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرُ
وَأَوْقَفَ حِصَّتَهُ قَبْلَ طَلَبِ الشَّرِيكِ الْأَوَّلِ وَأَنَّ الشَّرِيكَ
الْأَوَّلَ قَالَ : أَنَا آخُذُهُ بِالشُّفْعَةِ . فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ
الثَّانِيَ وَقَفَهُ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ وَشُفْعَةُ الْأَوَّلِ بَطَلَتْ ؛
لِكَوْنِهِ أَخَّرَ الطَّلَبَ بَعْدَ عِلْمِهِ حَتَّى خَرَجَتْ عَنْ مِلْك
الْمُشْتَرِي بِوَقْفِ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا شُفْعَةَ . وَإِنْ كَانَ قَدْ
أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ فَلَهُ
الشُّفْعَةُ . وَأَمَّا الْوَقْفُ وَالْهِبَةُ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ حِصَّةٌ مَعَ شَاهِدٍ ثُمَّ بَاعَ الشَّرِيكُ حِصَّتَهُ
لِشَاهِدِ آخَرَ بِزِيَادَةِ كَثِيرَةٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ فِي الظَّاهِرِ
وَتَوَاطَآ بَيْنَهُمَا فِي الْبَاطِنِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ دَفْعًا
لِلشُّفْعَةِ . فَهَلْ تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ وَالِاحْتِيَالُ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّ الْمُسْلِمِ وَيَجِبُ
عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُسَلِّمَ الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ بِالثَّمَنِ الَّذِي
تَرَاضَيَا عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ إذَا طَلَبَ الشَّرِيكُ ذَلِكَ وَإِنْ
مَنَعَهُ ذَلِكَ قُدِحَ فِي دِينِهِ . وَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ
بِالشُّفْعَةِ إذَا تَبَيَّنَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ .
بَابُ
الْوَدِيعَةِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ دَلَّالٍ أَعْطَاهُ إنْسَانٌ قُمَاشًا لِيَخْتِمَهُ وَيَبِيعَهُ فَمَا وَجَدَ
الْخِتَامَ فَأَوْدَعَهُ عِنْدَ رِجْلٍ خَيَّاطٍ أَمِينٍ عَادَتُهُمْ يُودِعُونَ
عِنْدَهُ فَحَضَرَ صَاحِبُ الْقُمَاشِ هُوَ وَدَلَّالٌ آخَرُ وَأَخَذُوا
الْقُمَاشَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَكُنْ الَّذِي أَوْدَعَهُ حَاضِرًا فَادَّعَى
صَاحِبُ الْقُمَاشِ أَنَّهُ عُدِمَ لَهُ مِنْهُمْ ثَوْبٌ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ
الدَّلَّالُ : فَهَلْ يَلْزَمُ الدَّلَالَ الَّذِي كَانَتْ عِنْدَهُ الْوَدِيعَةُ
شَيْءٌ ؟ أَمْ لَا ؟.
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا ادَّعَوْا عَدَمَ قَبْضِ الْوَدِيعَةِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ
الدَّلَّالُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ
شَرْعِيَّةٌ عَلَى تَصْدِيقِ دَعْوَاهُمْ . وَأَمَّا إذَا عُدِمَ مِنْهَا شَيْءٌ :
فَإِنْ كَانَ الدَّلَّالُ فَرَّطَ بِحَيْثُ فَعَلَ مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ
لَفْظًا وَلَا عُرْفًا ضَمِنَ فَإِذَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ الْإِيدَاعُ عِنْدَ
هَذَا الْأَمِينِ وَأَصْحَابُ الْقُمَاشِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيُقِرُّونَهُ
عَلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّلَّالِينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ وَزَوْجَةً وَإِحْدَى الْبِنْتَيْنِ
غَائِبَةٌ . فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ لَهُ النَّظَرُ عَلَى هَذِهِ التَّرِكَةِ أَنْ
يُودِعَ مَالَ الْغَائِبَةِ بِحَيْثُ لَا يُعْلَمُ هَلْ يَحْفَظُهُ الْمُودَعُ
عِنْدَهُ أَمْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ لِنَفْسِهِ ؟ وَإِذَا حَدَثَ مَظْلِمَةٌ عَلَى
جُمْلَةِ التَّرِكَةِ : هَلْ يَخْتَصُّ بِاسْتِدْفَاعِهَا عَنْ التَّرِكَةِ مَالُ
الْغَائِبَةِ أَوْ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَالِ الْمَتْرُوكِ ؟ وَإِذَا اسْتَوْدَعَ
عِنْدَهُ قَدْ يَحْفَظُهُ وَقَدْ يَتَصَرَّفُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ : فَهَلْ
لِلْمُسْتَحِقِّ لَهُ مُطَالَبَةُ مَنْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ أَوْ مَنْ
أَوْدَعَهُ حَيْثُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ وَقَدْ مَاتَ النَّاظِرُ وَالْمُودِعُ
وَطُلِبَ مِنْ تَرِكَةِ الْمُودِعِ فَلَمْ يُوجَدْ وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ غُصِبَ
أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الْإِبْرَاءُ لِذِمَّةِ الْمُسْتَوْدَعِ عِنْدَهُ أَنْ يُتْرَكَ
مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَضَعَ عَيْنَ يَدِهِ عَلَيْهِ أَوْ يَدْفَعَ
عَنْهُ وَلِيُّهُ مِنْ وَرَثَتِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ عَنْهُ مِنْ صَدَقَاتِهِ
الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ بِجِهَةِ مَخْصُوصَةٍ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا الْمَالُ صَارَ تَحْتَ يَدِهِ أَمَانَةً فَعَلَيْهِ
أَنْ يَحْفَظَهُ حِفْظَ الْأَمَانَاتِ وَلَا يُودِعَهُ إلَّا لِحَاجَةِ - فَإِنْ
أَوْدَعَهُ عِنْدَ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حِفْظُهُ لَهُ - كَالْحَاكِمِ
الْعَادِلِ إنْ وُجِدَ أَوْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي إيدَاعِهِ
تَفْرِيطٌ . فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ . وَإِنْ فَرَّطَ فِي إيدَاعِهِ فَأَوْدَعَهُ
لِخَائِنِ
أَوْ عَاجِزٍ مَعَ إمْكَانِ أَلَّا يَفْعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ مُفَرِّطٌ ضَامِنٌ . وَأَمَّا الْمُودَعُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ فَفِي تَضْمِينِهِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . أَظْهُرُهُمَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ الْمَغَارِمِ الَّتِي تُؤْخَذُ ظُلْمًا أَوْ غَيْرَ ظُلْمٍ فَهِيَ عَلَى الْمَالِ جَمِيعِهِ لَا يَخْتَصُّ بِهَا بَعْضُهُ . وَإِذَا غَصَبَ الْوَدِيعَةَ غَاصِبٌ فَلِلنَّاظِرِ الْمُودِعِ أَنْ يُطَالِبَهُ . وَلِلْمُودِعِ أَيْضًا أَنْ يُطَالِبَهُ فِي غَيْبَةِ الْمُودَعِ . وَأَمَّا الْمُسْتَحِقُّ الْمَالِكُ فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْغَاصِبَ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ النَّاظِرَ أَوْ الْمُودَعَ إنْ حَصَلَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ . فَأَمَّا بِدُونِ التَّفْرِيطِ وَالْعُدْوَانِ فَلَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ . وَإِذَا مَاتَ هَذَا الْمُودَعُ وَلَمْ يُعْلَمْ حَالُ الْوَدِيعَةِ : هَلْ أُخِذَتْ مِنْهُ أَوْ أَخَذَهَا أَوْ تَلِفَتْ فَإِنَّهَا تَكُونُ دَيْنًا عَلَى تَرِكَتِهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ . كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِهِ . وَإِذَا كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ وَجَبَ وَفَاؤُهَا مِنْ مَالِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَيْرُ الْوَقْفِ وُفِّيَتْ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُ الْوَقْفِ فَفِي الْوَقْفِ عَلَى الْمَدِينِ الَّذِي أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَكَذَلِكَ
الْوَقْفُ الَّذِي لَمْ يَخْرُجْ عَنْ يَدِهِ حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . كَمَالِكِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي
مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْوَقْفُ قَدْ صَحَّ
وَلَزِمَ وَلَهُ مُسْتَحِقُّونَ وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الدَّيْنِ مِمَّنْ
تَنَاوَلَهُ الْوَقْفُ : لَمْ يَكُنْ وَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ إنْ
كَانَ مِمَّنْ تَنَاوَلَهُ الْوَقْفُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفُقَرَاءِ
وَصَاحِبُ الدَّيْنِ فَقِيرٌ : فَلَا رَيْبَ أَنَّ الصَّرْفَ إلَى هَذَا الْفَقِيرِ
الَّذِي لَهُ دَيْنٌ عَلَى الْوَاقِفِ أَوْلَى مِنْ الصَّرْفِ إلَى غَيْرِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اسْتَوْدَعَ مَالًا عَلَى أَنَّهُ يُوَصِّلُهُ إنْ مَاتَ الْمُودَعُ
لِأَوْلَادِهِ فَمَاتَ وَتَرَكَ وَرَثَةً غَيْرَ أَوْلَادِهِ وَهُمْ زَوْجَتَانِ
وَمِنْ إحْدَاهُمَا ابْنَانِ وَبِنْتَانِ مِنْ غَيْرِهَا وَادَّعَى ذُو
السُّلْطَانِ أَنَّ أُمَّ الِابْنَيْنِ جَارِيَةٌ لَهُ تَحْتَ رِقِّهِ وَأَخَذَهَا
وَأَوْلَادَهَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ ثُمَّ مَاتَتْ أُمُّهُ . فَهَلْ
يَكُونُ الْأَوْلَادُ مُخْتَصِّينَ بِجَمِيعِ الْمَالِ ؟ أَوْ هُوَ لِجَمِيعِ
الْوَرَثَةِ ؟ وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَى مَنْ ادَّعَى أَنَّ أُمَّ
الْوَلَدَيْنِ مَمْلُوكَةٌ هَلْ لَهُ أَنْ يُوَصِّلَ إلَيْهِ جَمِيعَ مَا يَخُصُّ
الْوَلَدَيْنِ وَأُمَّهُمْ ؟ أَوْ لَهُ أَنْ يُبْقِيَ نَصِيبَهُمْ لِلْوَلَدِ
رَجَاءً فِي رَفْعِ الْمِلْكِ عَنْهُ أَوْ يَفْدِيهِ مِنْ الرِّقِّ . وَهَلْ لَهُ
أَنْ يَتَّجِرَ فِي الْمَالِ إنْ أَبْقَاهُ لِئَلَّا تُفْنِيَهُ الزَّكَاةُ ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَ هَذَا الْمَالُ لِلْمُودِعِ وَجَبَ أَنْ يُوَصِّلَ إلَى كُلِّ وَارِثٍ
حَقَّهُ مِنْهُ سَوَاءٌ خَصَّ بِهِ الْمَالِكُ أَوْلَادَهُ أَوْ لَمْ يَخُصَّهُمْ
. وَلَيْسَ لِهَذَا الْمُسْتَوْدَعِ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ إلَّا
بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ
لِوَارِثِ } . وَلَوْ صَرَّحَ الْوَصِيُّ بِتَخْصِيصِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ
بِالْمَالِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِدُونِ إجَازَةِ الْبَاقِينَ بِاتِّفَاقِ
الْأَئِمَّةِ . وَأَمَّا الْمُدَّعِي الْمُسْتَوْلَدَةَ فَلَا يُحْكَمُ لَهُ
بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَا سِيَّمَا إنْ اعْتَرَفَ
أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْجَارِيَةَ ؛ فَإِنَّ هَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِالتَّمْلِيكِ ؛
بَلْ الْأَمَةُ أُمُّ الْوَلَدِ وَأَوْلَادُهُ مِنْهَا أَحْرَارٌ . وَلَوْ فُرِضَ
أَنَّهَا أَمَةُ الْمُدَّعِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَانَ الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ
أَنَّهَا أَمَتُهُ . فَأَوْلَادُهُ أَحْرَارٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَهَذَا
الْمُودِعُ يَحْفَظُ نَصِيبَ هَؤُلَاءِ الصِّغَارِ . فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ
حَاكِمٌ عَالِمٌ عَادِلٌ قَادِرٌ يَحْفَظُ هَذَا الْمَالَ لَهُمْ سَلَّمَهُ
إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَحْفَظُ الْمَالَ لَهُمْ أَبْقَاهُ بِيَدِهِ
وَلْيَتَّجِرْ فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ وَالرِّبْحُ لِلْيَتِيمِ وَأَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ . وَأُمُّ الْوَلَدِ لَا تَرِثُ مِنْ سَيِّدِهَا شَيْئًا ؛ لَكِنْ إذَا
مَاتَ أَحَدُ بَنِيهَا [ وَرِثَتْ مِنْهُ ] (1) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ يَدِهِ بَعِيرٌ وَدِيعَةً فَسُرِقَ مِنْ جُمْلَةِ إبِلِهِ
ثُمَّ لَحِقَ السَّارِقَ وَأَخَذَ مِنْهُ الْإِبِلَ وَامْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ
ذَلِكَ الْبَعِيرِ لِلْمُودِعِ حَتَّى يَحْلِفَ أَنَّهُ كَانَ الْبَعِيرُ عَلَى
مِلْكِهِ . فَحَلَفَ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ وَقَصَدَ
بِذَلِكَ مِلْكَ الْحِفْظِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا مَلَكَ قَبْضَهُ وَالِاسْتِيلَادَ عَلَيْهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي
ذَلِكَ وَلَا إثْمَ ؛ وَإِنْ قَصَدَ أَنَّهُ مَلَكَهُ الْمِلْكَ الْمَعْرُوفَ
فَهَذَا كَذِبٌ ؛ لَكِنَّهُ إذَا اعْتَقَدَ جَوَازَ هَذَا لِدَفْعِ الظُّلْمِ
وَفِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ مِنْ
ذَلِكَ وَيَتُبْ إلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الِاقْتِرَاضِ مِنْ الْوَدِيعَةِ بِلَا إذْنِهِ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الِاقْتِرَاضُ مِنْ مَالِ الْمُودِعِ فَإِنْ عَلِمَ الْمُودَعُ عِلْمًا
اطْمَأَنَّ إلَيْهِ قَلْبُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ رَاضٍ بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ
بِذَلِكَ . وَهَذَا
إنَّمَا
يُعْرَفُ مِنْ رَجُلٍ اخْتَبَرْته خِبْرَةً تَامَّةً وَعَلِمْت مَنْزِلَتَك
عِنْدَهُ كَمَا نُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ وَكَمَا كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ فِي بُيُوتِ بَعْضِ
أَصْحَابِهِ وَكَمَا بَايَعَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ غَائِبٌ
وَمَتَى وَقَعَ فِي ذَلِكَ شَكٌّ لَمْ يَجُزْ الِاقْتِرَاضُ .
وَقَالَ : إذَا اشْتَرَى إنْسَانٌ سِلْعَةً : جَمَلًا أَوْ غَيْرَهُ وَهُوَ
مُودَعٌ فَأَوْدَعَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْمُودِعِ ثُمَّ بَاعَهُ الْآخَرُ
كَانَ الْبَيْعُ الثَّانِي بَاطِلًا . وَإِذَا سَلَّمَهُ الْمُودِعُ إلَى
الْمُشْتَرِي الثَّانِي كَانَ لِمَالِكِهِ - وَهُوَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ -
أَنْ يُطَالِبَ بِهِ الْمُودَعَ الَّذِي سَلَّمَهُ وَيُطَالِبَ بِهِ الْمُشْتَرِيَ
الَّذِي تَسَلَّمَهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْمٍ لَهُمْ عِنْدَ رَاهِبٍ فِي دَيْرٍ وَدِيعَةٌ وَادَّعَى عَدَمَهَا مَعَ
مَا كَانَ فِي الدَّيْرِ ثُمَّ ظَهَرَ الَّذِي ادَّعَى أَنَّ مَا عَدِمَ مِنْ
الدَّيْرِ قَدْ بَاعَهُ . فَهَلْ يُلْزَمُ بِالْمَالِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ
الْقَوْلُ قَوْلُهُ ؟ وَدَيْرُ هَذَا الرَّاهِبِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ
الْمَالِحِ وَلَهُ أَخٌ حَرَامِيٌّ فِي الْبَحْرِ يَأْوِي إلَيْهِ
وَالْحَرَامِيَّةُ أَيْضًا .
فَمَا
يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ فِيهِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ قَتْلُهُ وَخَرَابُ
دَيْرِهِ ؟ وَكَانَ أَهْلُ الْمَالِ طَلَبُوا مَالَهُمْ مِنْهُ فَلَمْ يُسَلِّمْهُ
لَهُمْ وَلَهُمْ شُهُودٌ نَصَارَى يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي لِلْمُودِعِ لَمْ
يَذْهَبْ فَادَّعَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ ذَهَبَتْ دُونَ مَالِهِ فَهُنَا يَكُونُ
ضَامِنًا لِلْوَدِيعَةِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ : كَقَوْلِ مَالِكٍ
وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ فَإِنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ ضَمَّنَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَدِيعَةً ادَّعَى أَنَّهَا ذَهَبَتْ دُونَ
مَالِهِ . وَأَمَّا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ ذَهَبَ جَمِيعُ الْمَالِ ثُمَّ ظَهَرَ
كَذِبُهُ فَهُنَا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ أَوْكَدُ . فَإِذَا ادَّعَى
الْمُودِعُ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ أَنَّهُ طَلَبَ الْوَدِيعَةَ مِنْهُ فَلَمْ
يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ خَانَ فِي الْوَدِيعَةِ وَلَمْ تَتْلَفْ :
كَانَ قَبُولُ قَوْلِهِ مَعَ يَمِينِهِ أَقْوَى وَأَوْكَدَ ؛ بَلْ يَسْتَحِقُّ فِي
مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ الَّذِي يَرْدَعُهُ
وَأَمْثَالَهُ عَنْ الْكَذِبِ . وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَهُمْ قُبِلَتْ
شَهَادَتُهُمْ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد
فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَقَبُولُ شَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ هُنَا أَوْكَدُ .
وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُمْ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لِظُهُورِ رُجْحَانِ قَوْلِ الْمُدَّعِي
فِي
أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَيْضًا . وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يُؤْوِي
أَهْلَ الْحَرْبِ أَوْ يُعَاوِنُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ قَدْ
انْتَقَضَ عَهْدُهُ وَحَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ
الْأُمُورِ أَلَّا يَتْرُكُوا مِثْلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمَنُونَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ فِي مَوْضِعٍ يُخَافُ ضَرَرُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ
يُنْقَلُ إلَيْهِمْ أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ انْتَقَضَ عَهْدُهُ
وَحَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ وَدِيعَةٍ فِي كِيسٍ مَخْتُومٍ وَلَمْ يَعْلَمْ مَا فِيهِ وَلَا عَايَنَهُ .
وَذَكَرَ الْمُودِعُ أَنَّهَا أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَثَلَاثَ تَفَاصِيلَ
وَعُدِمَتْ الْوَدِيعَةُ فِي جُمْلَةِ قُمَاشٍ . وَلَمَّا عُدِمَتْ قَالَ صَاحِبُ
الْوَدِيعَةِ : إنَّ مَا فِيهَا شَيْءٌ يُسَاوِي سَبْعَةَ آلَافٍ . فَهَلْ
يُلْزِمُ الْمُودَعَ غَرَامَةَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْأَوَّلِ ؟ أَمْ يُلْزِمُهُ مَا
ذَكَرَ فِي الْآخِرِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا عُدْوَانٍ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ
. وَإِذَا ذَهَبَتْ مَعَ مَالِهِ كَانَ أَبْلَغَ وَإِذَا ادَّعَى ذَلِكَ بِسَبَبِ
ظَاهِرٍ مَعْلُومٍ : كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ وَقُبِلَ قَوْلُهُ .
مَا
تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ :
فِي إنْسَانٍ يَضَعُ فِي بَيْتِ إنْسَانٍ وَدِيعَةً بِيَدِهِ مِنْ مُدَّةٍ تَزِيدُ
عَلَى عَشْرِ سِنِينَ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ فِي صُنْدُوقٍ غَيْرِ مَقْفُولٍ بِقُفْلِ
وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَمَرِضَ الْمُودَعُ مَرَضًا بَلَغَ فِيهِ الْمَوْتَ
وَصَاحِبُهَا حَاضِرٌ عِنْدَهُ يَبِيتُ وَيُصْبِحُ فَسَأَلَهُ مِرَارًا كَثِيرَةً
أَنْ يَأْخُذَ وَدِيعَتَهُ أَوْ يَقْفِلَ عَلَيْهَا بِقُفْلِ فَلَمْ يَفْعَلْ
فَعُدِمَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ حِرْزِهِ - بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ - وَحَدَّهَا وَلَمْ
يَعْلَمْ هَلْ عُدِمَتْ فِي الْمَرَضِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ . فَهَلْ يَجِبُ عَلَى
الْمُودَعِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ضَمَانُهَا ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ
لِصَاحِبِهَا إلْزَامُ الْمُودَعِ بِهَا وَعَسْفُهُ بِالْوِلَايَةِ ؟ أَمْ
مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ طَلَبُ ذَلِكَ بِالْوِلَايَةِ ؟ وَهَلْ إذَا أَصَرَّ عَلَى
ذَلِكَ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ - وَفَّقَهُ اللَّهُ - رَدْعُهُ وَزَجْرُهُ
عَنْ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ . إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وُصِفَ وَعُدِمَتْ بِغَيْرِ
تَفْرِيطٍ وَلَا عُدْوَانٍ مِنْ الْمُودَعِ وَعُدِمَتْ مَعَ مَالِهِ ؛ لَمْ
يَضْمَنْهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَكَذَلِكَ إذَا عُدِمَتْ بِتَفْرِيطِ
صَاحِبِهَا كَمَا ذَكَرَ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُودَعِ سَوَاءٌ ضَاعَتْ
وَحْدَهَا أَوْ ضَاعَتْ مَعَ مَالِهِ .
بَابُ
إحْيَاءِ الْمَوَاتِ
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ حُكْمِ الْبِنَاءِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ الْوَاسِعِ إذَا كَانَ
الْبِنَاءُ لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ ؟
فَأَجَابَ :
إنَّ ذَلِكَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَبْنِيَ لِنَفْسِهِ فَهَذَا لَا
يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ
بِإِذْنِ الْإِمَامِ . وَقَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَمِنْ خَطِّهِ
نَقَلْته أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ حَدَثَتْ فِي أَيَّامِهِ وَاخْتَلَفَ فِيهَا
جَوَابُ الْمُفْتِينَ فَذَكَرَ فِي مَسْأَلَةٍ حَادِثَةٍ فِي الطَّرِيقِ
الْوَاسِعِ : هَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ فِي حِيَازَةِ بَعْضِهِ
مُبَيِّنًا أَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْتَى بِالْجَوَازِ وَبَعْضَهُمْ أَفْتَى
بِالْمَنْعِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَذَكَرَ أَنَّهُ كَلَامُ أَحْمَد ؛ فَإِنَّهُ
قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ : إذَا كَانَ الطَّرِيقُ قَدْ سَلَكَهُ
النَّاسُ فَصَارَ طَرِيقًا . فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا
قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا . قِيلَ لَهُ : وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا مِثْلَ
الشَّوَارِعِ ؟ قَالَ : وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا . قَالَ : وَهُوَ أَشَدُّ مِمَّنْ
أَخَذَ حَدًّا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا يَأْخُذُ مِنْ وَاحِدٍ وَهَذَا يَأْخُذُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ : قُلْت : وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ مُصَنَّفًا فِيمَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ آثَارًا عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي . قَالَ فِي الْمُغْنِي : وَمَا كَانَ مِنْ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ وَالرَّحَبَاتِ بَيْنَ الْعُمْرَانِ : فَلَيْسَ لِأَحَدِ إحْيَاؤُهُ سَوَاءٌ كَانَ وَاسِعًا أَوْ ضَيِّقًا وَسَوَاءٌ ضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُضَيِّقْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَتُهُمْ فَأَشْبَهَ مَسَاجِدَهُمْ وَيَجُوزُ الِارْتِفَاقُ بِالْقُعُودِ فِي الْوَاسِعِ مَعَ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُضَيِّقُ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ ؛ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى إقْرَارِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَلِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِمُبَاحِ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ فَلَمْ يُمْنَعْ كَالِاجْتِيَازِ . قَالَ أَحْمَد فِي السَّابِقِ إلَى دَكَاكِينِ السُّوقِ : دَعُوهُ فَهُوَ لَهُ إلَى اللَّيْلِ وَكَانَ هَذَا فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ فِيمَا مَضَى وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِنَى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ } . وَلَهُ أَنْ يُظَلِّلَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ مِنْ بَارِيَةٍ وَتَابُوتٍ وَكِسَاءٍ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ ؛ لَا دَكَّةٌ وَلَا غَيْرُهَا ؛ لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ
عَلَى
النَّاسِ وَتَعْثُرُ بِهِ الْمَارَّة بِاللَّيْلِ وَالضَّرِيرُ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَيَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ فَرُبَّمَا ادَّعَى مِلْكَهُ بِسَبَبِ
ذَلِكَ وَالسَّابِقُ أَحَقُّ بِهِ مَا دَامَ فِيهِ .
قُلْت : هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا بَنَى الدَّكَّةَ لِنَفْسِهِ كَمَا يَدُلُّ
عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ وَآخِرُهُ ؛ وَلِهَذَا عُلِّلَ بِأَنَّهُ قَدْ
يَدَّعِي أَنَّهَا مِلْكُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ تَعْلِيلَهُ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَكُونُ فِي مَظِنَّةِ الضَّرَرِ
فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْبِنَاءَ يُحَاذِي مَا عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَلَا
يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ أَصْلًا فَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِيهِ وَمُوجَبُ
هَذَا التَّعْلِيلِ الْجَوَازُ إذَا انْتَفَتْ الْعِلَّةُ كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ
اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي . وَفِي الْجُمْلَةِ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ
الْمُخْتَصِّ بِالْبَانِي الَّذِي لَا ضَرَرَ فِيهِ أَصْلًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ
قَوْلَانِ : وَنَظِيرُ هَذَا إذَا أَخْرَجَ رَوْشَنًا أَوْ مِيزَابًا إلَى
الطَّرِيقِ النَّافِذِ وَلَا مَضَرَّةَ فِيهِ . فَهَلْ يَجُوزُ بِإِذْنِ
الْإِمَامِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ
كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْبَرَكَاتِ . ( وَالثَّانِي : لَا
يَجُوزُ كَمَا اخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد تَحْرِيمًا
أَوْ تَنْزِيهًا وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ المرذوي فِي " كِتَابِ الْوَرَعِ
" آثَارًا فِي ذَلِكَ . مِنْهَا مَا نَقَلَهُ المرذوي عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ
سَقَفَ لَهُ دَارًا وَجَعَلَ مِيزَابَهَا إلَى الطَّرِيقِ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ
: اُدْعُ لِي النَّجَّارَ حَتَّى يُحَوِّلَ الْمَاءَ
إلَى
الدَّارِ . فَدَعَوْته لَهُ فَحَوَّلَهُ وَقَالَ : إنَّ يَحْيَى الْقَطَّانَ
كَانَتْ مِيَاهُهُ فِي الطَّرِيقِ فَعَزَّمَ عَلَيْهَا وَصَيَّرَهَا إلَى الدَّارِ
. وَذَكَرَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ ذَكَرَ وَرَعَ شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ وَأَنَّهُ
قَالَ : لَيْسَ لَك أَنْ تُطَيِّنَ الْحَائِطَ ؛ لِئَلَّا يَخْرُجَ إلَى
الطَّرِيقِ . وَسَأَلَهُ المرذوي عَنْ الرَّجُلِ يَحْتَفِرُ فِي فِنَائِهِ
الْبِئْرَ أَوْ الْمُحَرَّمَ لِلْعُلُوِّ قَالَ : لَا ؛ هَذَا طَرِيقُ
الْمُسْلِمِينَ قَالَ المرذوي : قُلْت : إنَّمَا هُوَ بِئْرٌ يُحْفَرُ وَيُسَدُّ
رَأْسُهَا قَالَ : أَلَيْسَ هِيَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَسَأَلَهُ ابْنُ
الْحَكَمِ عَنْ الرَّجُلِ يُخْرِجُ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ الْكَنِيفَ أَوْ
الْأُسْطُوَانَةَ : هَلْ يَكُونُ عَدْلًا ؟ قَالَ : لَا يَكُونُ عَدْلًا وَلَا
تَجُوزُ شَهَادَتُهُ . وَرَوَى أَحْمَد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ : أَنَّهُ
كَانَ يَأْمُرُ بِالْمَثَاعِبِ وَالْكُنُفِ تُقْطَعُ عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ
. وَعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو المزني قَالَ : لَأَنْ يَصُبَّ طِينِي فِي
حَجَلَتِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَصُبَّ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ :
وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُخْرِجُ مِنْ دَارِهِ إلَى الطَّرِيقِ مَاءَ
السَّمَاءِ قَالَ : فَرُئِيَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قِيلَ لَهُ :
بِمَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : بِكَفِّ أَذَاهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ جَوَّزَ
ذَلِكَ احْتَجَّ بِحَدِيثِ مِيزَابِ الْعَبَّاسِ .
النَّوْعُ الثَّانِي : أَنْ يَبْنِيَ فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ مَا لَا يَضُرُّ
الْمَارَّة لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ : مِثْلَ بِنَاءِ مَسْجِدٍ يَحْتَاجُ
إلَيْهِ النَّاسُ أَوْ تَوْسِيعِ مَسْجِدٍ ضَيِّقٍ بِإِدْخَالِ بَعْضِ الطَّرِيقِ
الْوَاسِعِ فِيهِ أَوْ أَخْذِ بَعْضِ الطَّرِيقِ لِمَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ :
مِثْلَ حَانُوتٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَسْجِدُ فَهَذَا النَّوْعُ يَجُوزُ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَد الْمَعْرُوفِ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَلَكِنْ هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ وَلِيِّ الْأَمْرِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مَنْ لَمْ يَحْكِ نِزَاعًا فِي جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ . وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ رِوَايَةً ثَالِثَةً بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا . وَالْمَسْأَلَةُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَحْمَد الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ مِنْ زَمَنِ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ أَصْحَابِهِ إلَى زَمَنِ مُتَأَخِّرِي الْمُصَنِّفِينَ مِنْهُمْ كَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَابْنِ تَمِيمٍ وَابْنِ حَمْدَانَ وَغَيْرِهِمْ . وَأَلْفَاظُ أَحْمَد فِي " جَامِعِ الْخِلَالِ " و " الشَّافِي " لِأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ " وَزَادِ الْمُسَافِرِ " و " الْمُتَرْجِمِ " لِأَبِي إسْحَاقَ الجوزجاني وَغَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشالنجي : سَأَلْت أَحْمَد عَنْ طَرِيقٍ وَاسِعٍ وَلِلْمُسْلِمِينَ عَنْهُ غِنًى وَبِهِمْ إلَى أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا حَاجَةٌ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى هُنَاكَ مَسْجِدٌ ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالطَّرِيقِ . " وَمَسَائِلُ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ " هَذَا مِنْ أَجَلِّ مَسَائِلِ أَحْمَد وَقَدْ شَرَحَهَا أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الجوزجاني فِي " كِتَابِهِ الْمُتَرْجِمِ " وَكَانَ خَطِيبًا بِجَامِعِ دِمَشْقَ هُنَا وَلَهُ عَنْ أَحْمَد مَسَائِلُ وَكَانَ يَقْرَأُ كُتُبَ أَحْمَد إلَيْهِ عَلَى مِنْبَرِ جَامِعِ دِمَشْقَ فَأَحْمَدُ أَجَازَ الْبِنَاءَ هُنَا مُطْلَقًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ إذْنَ الْإِمَامِ . وَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ . تَكْرَهُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ
الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ الطَّرِيقِ . فَقَالَ : أَكْرَهُ الصَّلَاةَ فِيهِ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَهُنَا اشْتَرَطَ فِي الْجَوَازِ إذْنَ الْإِمَامِ . وَمَسَائِلُ إسْمَاعِيلَ عَنْ أَحْمَد بَعْدَ مَسَائِلِ ابْنِ الْحَكَمِ ؛ فَإِنَّ ابْنَ الْحَكَمِ صَحِبَ أَحْمَد قَدِيمًا وَمَاتَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِنَحْوِ عِشْرِينَ سَنَةً . وَأَمَّا إسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الرَّأْيِ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَسَأَلَ أَحْمَد مُتَأَخِّرًا وَسَأَلَ مَعَهُ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد الْهَاشِمِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَسُلَيْمَانُ كَانَ يُقْرَنُ بِأَحْمَدَ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيِّ : مَا رَأَيْت بِبَغْدَادَ أَعْقَلَ مِنْ رَجُلَيْنِ : أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ . وَأَمَّا الَّذِينَ جَعَلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَةً ثَالِثَةً فَأَخَذُوهَا مِنْ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ المرذوي : حُكْمُ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي قَدْ بُنِيَتْ فِي الطَّرِيقِ أَنْ تُهْدَمَ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ : قُلْت لِأَحْمَدَ : الرَّجُلُ يَزِيدُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الطَّرِيقِ ؟ قَالَ : لَا يُصَلِّي فِيهِ . وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ رِوَايَةً ثَالِثَةً فَإِنَّهُ يَقُولُ : هَذَا إشَارَةٌ مِنْ أَحْمَد إلَى مَسَاجِدَ ضَيَّقَتْ الطَّرِيقَ وَأَضَرَّتْ بِالْمُسْلِمِينَ وَهَذِهِ لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهَا بِلَا رَيْبٍ ؛ فَإِنَّ فِي هَذَا جَمْعًا بَيْنَ نُصُوصِهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ التَّنَاقُضِ بَيْنَهَا . وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَحْمَد يُجَوِّزُ إبْدَالَ الْمَسْجِدِ بِغَيْرِهِ لِلْمَصْلَحَةِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ . قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد : قُلْت لِأَبِي : الْمَسْجِدُ يَخْرَبُ
وَيَذْهَبُ أَهْلُهُ : تَرَى أَنْ يُحَوَّلَ إلَى مَكَانٍ آخَرَ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ يُرِيدُ مَنْفَعَةَ النَّاسِ فَنَعَمْ ؛ وَإِلَّا فَلَا . قَالَ : وَابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ حَوَّلَ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ مِنْ التَّمَّارِينَ فَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فَلَا بَأْسَ وَإِلَّا فَلَا . وَقَدْ سَأَلْت أَبِي عَنْ رَجُلٍ بَنَى مَسْجِدًا ثُمَّ أَرَادَ تَحْوِيلَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ : إنْ كَانَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَهُ خَوْفًا مِنْ لُصُوصٍ أَوْ يَكُونُ مَوْضِعُهُ مَوْضِعًا قَذِرًا فَلَا بَأْسَ . قَالَ أَحْمَد : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى بَيْتِ الْمَالِ كَانَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ قَدْ بَنَى الْقَصْرَ وَاِتَّخَذَ مَسْجِدًا عِنْدَ أَصْحَابِ التَّمْرِ قَالَ : فَنَقَبَ بَيْتَ الْمَالِ فَأَخَذَ الرَّجُلُ الَّذِي نَقَبَهُ فَكَتَبَ فِيهِ إلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ عُمَرَ : أَنْ اقْطَعْ الرَّجُلَ وَانْقُلْ الْمَسْجِدَ وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ ؛ فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ فِي الْمَسْجِدِ مُصَلٍّ . فَنَقَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَخَطَّ لَهُ هَذِهِ الْخُطَّةَ . قَالَ صَالِحٌ : قَالَ أَبِي : يُقَالُ إنَّ بَيْتَ الْمَالِ نَقَبَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فَحَوَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْمَسْجِدَ مَوْضِعَ التَّمَّارِينَ الْيَوْمَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ . يَعْنِي أَحْمَد : أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي بَنَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ كَانَ مَوْضِعَ التَّمَّارِينَ فِي زَمَانِ أَحْمَد وَهَذَا الْمَسْجِدُ هُوَ الْمَسْجِدُ الْعَتِيقُ ثُمَّ غُيِّرَ مَسْجِدُ الْكُوفَةِ مَرَّةً ثَالِثَةً . وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : يُحَوَّلُ الْمَسْجِدُ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ ضَيِّقًا لَا يَسَعُ أَهْلَهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُحَوَّلَ إلَى مَوْضِعٍ أَوْسَعَ مِنْهُ .
وَجَوَّزَ أَحْمَد أَنْ يُرْفَعَ الْمَسْجِدُ الَّذِي عَلَى الْأَرْضِ وَيُبْنَى تَحْتَهُ سِقَايَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ . وَإِنْ تَنَازَعَ الْجِيرَانُ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : نَحْنُ شُيُوخٌ لَا نَصْعَدُ فِي الدَّرَجِ وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ بِنَاءَهُ . فَقَالَ أَحْمَد : يَنْظُرُ إلَى مَا يَخْتَارُ الْأَكْثَرُ . وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ هَذَا عَلَى أَنَّهُ ابْتَدَأَ الْبِنَاءَ وَمُحَقِّقُو أَصْحَابِهِ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ نُصُوصَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ صَرِيحَةٌ بِتَحْوِيلِ الْمَسْجِدِ . فَإِذَا كَانَ أَحْمَد قَدْ أَفْتَى بِمَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ حَيْثُ جَعَلُوا الْمَسْجِدَ غَيْرَ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ مَعَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ سَائِر الْبِقَاعِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا } فَإِذَا جَازَ جَعْلُ الْبُقْعَةِ الْمُحْتَرَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بُقْعَةً غَيْرَ مُحْتَرَمَةٍ لِلْمَصْلَحَةِ فَلَأَنْ يَجُوزَ جَعْلُ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُحْتَرَمَةً كَالطَّرِيقِ الْوَاسِعِ بُقْعَةً مُحْتَرَمَةً وَتَابِعَةً لِلْبُقْعَةِ الْمُحْتَرَمَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ؛ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَسَاجِدِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الطُّرُقَاتِ وَكِلَاهُمَا مَنْفَعَةٌ مُشْتَرَكَةٌ .
فَصْلٌ
:
وَالْأُمُورُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْإِمَامِ مُتَعَلِّقَةٌ بِنُوَّابِهِ فَمَا
كَانَ إلَى الْحُكَّامِ فَأَمْرُ الْحَاكِمِ الَّذِي هُوَ نَائِبُ الْإِمَامِ
فِيهِ كَأَمْرِ الْإِمَامِ مِثْلَ تَزْوِيجِ الْأَيَامَى وَالنَّظَرِ فِي
الْوُقُوفِ وَإِجْرَائِهَا عَلَى شُرُوطِ وَاقِفِيهَا وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ
وَوُقُوفِهَا ؛ حَيْثُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِعْلُ ذَلِكَ فَمَا جَازَ لَهُ
التَّصَرُّفُ فِيهِ جَازَ لِنَائِبِهِ فِيهِ . وَإِذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ
مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي شَاعَ فِيهَا النِّزَاعُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ
أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى نَائِبِهِ مِنْ حَاكِمٍ وَغَيْرِهِ
وَلَا يَنْقُضُ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ مِنْ ذَلِكَ . وَهَذَا إذَا
كَانَ الْبِنَاءُ فِي الطَّرِيقِ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِالطَّرِيقِ عِنْدَ
أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَكَذَلِكَ فَنَاءُ
الدَّارِ ؛ وَلَكِنْ هَلْ الْفِنَاءُ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الدَّارِ ؟ أَوْ حَقٌّ مِنْ
حُقُوقِهَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ
مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . حَتَّى قَالَ
مَالِكٍ فِي الْأَفْنِيَةِ الَّتِي فِي الطَّرِيقِ : يَكْرِيهَا أَهْلُهَا فَقَالَ
: إنْ
كَانَتْ
ضَيِّقَةً تَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ وَصُنِعَ شَيْءٌ فِيهَا مُنِعُوا وَلَمْ
يُمَكَّنُوا . وَأَمَّا كُلُّ فَنَاءٍ إذَا انْتَفَعَ بِهِ أَهْلُهُ لَمْ
يُضَيِّقْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَمَرِّهِمْ فَلَا أَرَى بِهِ بَأْسًا . قَالَ
الطَّحَاوِي : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْأَفْنِيَةَ
مَمْلُوكَةً لِأَهْلِهَا ؛ إذْ أَجَازَ إجَارَتَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْسُدَ
الْبَيْعُ بِشَرْطِهَا . قَالَ : وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ لِلدَّارِ فَهُوَ مِلْكٌ
لِصَاحِبِهَا ؛ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَهُ . وَذَكَرَ
الطَّحَاوِي أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَفْنِيَةَ لِجَمَاعَةِ
الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ كَسَائِرِ الطَّرِيقِ . وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ
الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد هُوَ الْوَجْهُ
الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْأَرْضَ تُمْلَكُ دُونَ الطَّرِيقِ ؛ إلَّا أَنَّ
صَاحِبَ الْأَرْضِ أَحَقُّ بِالْمَرَافِقِ مِنْ غَيْرِهِ وَلِذَلِكَ هُوَ أَحَقُّ
بِفِنَاءِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَد فِي الْكَلَأِ
النَّابِتِ فِي مِلْكِهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ لَا
يَمْلِكُهُ . . . (1) عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ : مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد . . . (2) .
فَإِذَا كَانَ الْبِنَاءُ فِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَالدَّارِ فَإِنَّهُ أَحَقُّ
بِالْجَوَازِ مِنْهُ فِي جَادَّة الطَّرِيقِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اتَّخَذَ
مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَهَذَا كَالْبَطْحَاءِ الَّتِي كَانَ عُمَرُ ابْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَهَا خَارِجَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يَتَحَدَّثُ وَيَفْعَلُ مَا يُصَانُ
عَنْهُ الْمَسْجِدُ . فَلَمْ يَكُنْ مَسْجِدًا وَلَمْ يَكُنْ كَالطَّرِيقِ بَلْ .
. . (3) اخْتِصَاصٌ بِالْمَسْجِدِ فَمِثْلُ هَذِهِ
يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِيهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْبِنَاءُ كَالدَّخَلَاتِ الَّتِي تَكُونُ مُنْحَرِفَةً عَنْ جَادَّةِ الطَّرِيقِ مُتَّصِلَةٌ بِالدَّارِ وَالْمَسْجِدِ وَمُتَّصِلَةٌ بِالطَّرِيقِ وَأَهْلُ الطَّرِيقِ لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا ؛ إلَّا إذَا قُدِّرَ رَحْبَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الْعَادَةِ وَهِيَ تُشْبِهُ الطَّرِيقَ الَّذِي يُنْفِذُ الْمُتَّصِلَ بِالطَّرِيقِ النَّافِذِ فَإِنَّهُمْ فِي هَذَا كُلِّهِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يَبْنُوا فِيهِ وَيَجْعَلُوا عَلَيْهِ بَابًا جَازَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِمْ مِنْ الدُّخُولِ إلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ . وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ : حَقُّهُمْ فِيهِ إنَّمَا هُوَ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ إذَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ كَمَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالصَّحْرَاءِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِأَصْحَابِهَا : كَالصَّلَاةِ فِيهَا وَالْمَقِيلِ فِيهَا وَنُزُولِ الْمُسَافِرِ فِيهَا ؛ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ فِيهَا . وَفِي أَفْنِيَةِ الدَّوْرِ بِدُونِ إذْنِ الْمَالِكِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ . وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْفِنَاءِ بِدُونِ إذْنِ الْمَالِكِ قَوْلَيْنِ وَذَكَرَ أَصْحَابُ أَحْمَد فِي الصَّحْرَاءِ وَجْهًا بِالْمَنْعِ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا وَهُوَ بَعِيدٌ عَلَى نُصُوصِ أَحْمَد وَأُصُولِهِ ؛ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ أَكْلَ الثَّمَرَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ . فَكَيْفَ بِالْمَنَافِعِ الَّتِي لَا تَضُرُّهُ وَيَجُوزُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ رَعْيُ الْكَلَأِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَيَدْخُلُهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا لِأَجْلِ الْكَلَأِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الِانْتِفَاعُ الَّذِي لَا يَضُرُّ بِوَجْهِ فَهُوَ كَالِاسْتِظْلَالِ بِظِلِّهِ وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنَارِهِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنٍ فَإِذَا حَجَرَ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا صَارَتْ مَمْنُوعَةً ؛ وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الثِّمَارِ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا حَائِطٌ وَلَا نَاطُورٌ فَيَجُوزُ فِيهَا مِنْ الْأَكْلِ بِلَا عِوَضٍ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَمْنُوعَةِ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا لِلْمُحْتَاجِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْحَمْلُ . وَإِذَا جَازَ الْبِنَاءُ فِي فِنَاءِ الْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ فَفِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ لِلْمَسْجِدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَفِنَاءُ الدَّارِ وَالْمَسْجِدِ لَا يَخْتَصُّ بِنَاحِيَةِ الْبَابِ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ قَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا : إذَا كَانَ الْمُحْيِي أَرْضًا كَانَ أَحَقَّ بِفِنَائِهَا فَلَوْ أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي أَصْلِ حَائِطِهِ بِئْرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ والماوردي وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ
اللُّقَطَةِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَجَدَ فَرَسًا لِرَجُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ أُنَاسٍ مِنْ
الْعَرَبِ فَأَخَذَ الْفَرَسَ مِنْهُمْ ثُمَّ إنَّ الْفَرَسَ مَرِضَ بِحَيْثُ
إنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ فَهَلْ لِلْآخِذِ بَيْعُ الْفَرَسِ
لِصَاحِبِهَا ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ يَجُوزُ ؛ بَلْ يَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ
يَبِيعَهُ الَّذِي اسْتَنْقَذَهُ لِصَاحِبِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَكَّلَهُ فِي
الْبَيْعِ وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا
وَيَحْفَظُ الثَّمَنَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَقِيَ لَقِيَّةً فِي وَسَطِ فَلَاةٍ وَقَدْ أَنْشَدَ عَلَيْهَا إلَى
حَيْثُ دَخَلَ إلَى بَلَدِهِ . فَهَلْ هِيَ حَلَالٌ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ
: يُعَرِّفُهَا سَنَةً قَرِيبًا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ فَإِنْ
لَمْ يَجِدْ بَعْدَ سَنَةٍ صَاحِبَهَا فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا وَلَهُ أَنْ
يَتَصَدَّقَ بِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الدَّرَاهِمِ الْمَنْثُورَةِ يَجِدُهَا الرَّجُلُ ؟ .
فَأَجَابَ :
يُعَرِّفُهَا حَوْلًا فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا وَإِلَّا فَلَهُ أَنْ يُنْفِقَهَا
وَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ وَجَدَ لُقَطَةً وَعَرَّفَ بِهَا بَعْضَ النَّاسِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
سِرًّا أَيَّامًا وَلَهَا عِنْدَهُ مُدَّةُ سِنِينَ . فَمَا الْحُكْمُ فِيهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَحِلُّ لَهُ مِثْلُ هَذَا التَّعْرِيفِ ؛ بَلْ عَلَيْهِ
أَنْ يُعَرِّفَهَا تَعْرِيفًا ظَاهِرًا ؛ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ مُجْمَلٍ : بِأَنْ
يَقُولَ : مَنْ ضَاعَ لَهُ نَفَقَةٌ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ حُجَّاجٍ الْتَقَوْا مَعَ عَرَبٍ قَدْ قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ
وَأَخَذُوا قُمَاشَهُمْ فَهَرَبُوا وَتَرَكُوا جِمَالَهُمْ وَالْقُمَاشَ فَهَلْ
يَحِلُّ أَخْذُ الْجِمَالِ الَّتِي لِلْحَرَامِيَّةِ وَالْقُمَاشِ الَّذِي
سَرَقُوهُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَا أَخَذُوهُ مِنْ مَالِ الْحُجَّاجِ فَإِنَّهُ يَجِبُ
رَدُّهُ إلَيْهِمْ إنْ أَمْكَنَ ؛ فَإِنَّ هَذَا كَاللُّقَطَةِ تُعَرَّفُ سَنَةً
فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَذَاكَ وَإِلَّا فَلِآخِذِهَا أَنْ يُنْفِقَهَا بِشَرْطِ
ضَمَانِهَا : وَلَوْ أَيِسَ مِنْ وُجُودِ صَاحِبِهَا فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ
وَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ كَلُّ مَالٍ لَا يُعْرَفُ
مَالِكُهُ مِنْ الغصوب وَالْعَوَارِيَّ وَالْوَدَائِعَ وَمَا أُخِذَ مِنْ
الْحَرَامِيَّةِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ أَوْ مَا هُوَ مَنْبُوذٌ مِنْ أَمْوَالِ
النَّاسِ ؛ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ يُتَصَدَّقُ بِهِ وَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ
الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
لَمَّا جَاءَ التَّتَارُ وَجَفَلَ النَّاسُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَخَلَّفُوا
دَوَابَّ وَأَثَاثًا مِنْ النُّحَاسِ وَغَيْرِهِ وَضَمَّهُ مُسْلِمٌ وَطَالَتْ
مُدَّتُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ صَاحِبٌ
وَلَا
مُنْشِدٌ وَهُوَ يَسْتَعْمِلُ الدَّوَابَّ وَالْمَتَاعَ . فَمَا يَصْنَعُ ؟ .
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى
مِنْ يَنْتَفِعُ بِهِ . والله أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ سَفِينَةٍ غَرِقَتْ فِي الْبَحْرِ ثُمَّ إنَّهَا انْحَدَرَتْ وَهِيَ
مَعْلُومَةٌ إلَى بَعْضِ الْبِلَادِ . وَقَدْ كَانَ فِيهَا جِرَارُ زَيْتٍ حَارٍّ
ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ تَعَاوَنُوا عَلَى الْمَرْكَبِ حَتَّى أَخْرَجُوهَا
إلَى الْبَرِّ وَقَلَبُوهَا فَطَفَا الزَّيْتُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَبَقِيَ رَائِحًا
مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ جَاءُوا إلَى الْبَحْرِ فَوَجَدُوا
الزَّيْتَ عَلَى الْمَاءِ فَجَمَعَ كَلُّ وَاحِدٍ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ
وَالْمَرْكَبُ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ فَهَذَا الزَّيْتُ الْمَجْمُوعُ حَلَالٌ أَمْ
حَرَامٌ ؟ وَمَرْكَبُ رُمَّانٍ غَرِقَتْ وَجَمِيعُ مَا فِيهَا انْحَدَرَ فِي
الْبَحْرِ فَبَقِيَ كُلُّ أَحَدٍ يَجْمَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ
صَاحِبٌ فَهَلْ مَا لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهُ حَلَالٌ ؟ أَمْ حَرَامٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
الَّذِينَ جَمَعُوا الزَّيْتَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ قَدْ خَلَّصُوا مَالَ
الْمَعْصُومِ مِنْ التَّلَفِ وَلَهُمْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَالزَّيْتُ لِصَاحِبِهِ
. وَأَمَّا كَوْنُ الزَّيْتِ لِصَاحِبِهِ فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا ؛ إلَّا
نِزَاعًا قَلِيلًا ؛ فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ بِأَنَّهُ قَالَ : هُوَ لِمَنْ
خَلَّصَهُ.
وَأَمَّا وُجُوبُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لِمَنْ خَلَّصَهُ . فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . أَصَحُّهُمَا وُجُوبُ الْأُجْرَةِ وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ لِأَنَّ هَذَا الْمُخَلِّصَ مُتَبَرِّعٌ . وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ يَقُولُونَ : إنْ خَلَّصُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَأَجْرُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ خَلَّصُوهُ لِأَجْلِ الْعِوَضِ فَلَهُمْ الْعِوَضُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يُفْعَلْ لَأَفْضَى إلَى هَلَاكِ الْأَمْوَالِ ؛ لَأَنَّ النَّاسَ لَا يُخَلِّصُونَهَا مِنْ الْمَهَالِكِ إذَا عَرَفُوا أَنَّهُمْ لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَالصَّحَابَةُ قَدْ قَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ : إنَّهُ يَأْخُذُهُ مِمَّنْ اشْتَرَاهُ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَّصَهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ وَلِأَنَّ هَذَا الْمَالَ كَانَ مُسْتَهْلَكًا لَوْلَا أَخْذُ هَذَا وَتَخْلِيصُهُ عَمَلٌ مُبَاحٌ ؛ لَيْسَ هُوَ عَاصِيًا فِيهِ فَيَكُونُ الْمَالُ إذَا حَصَلَ بِعَمَلِ هَذَا وَالْأَصْلُ لِهَذَا فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ؛ لَكِنْ لَا تَجِبُ الشَّرِكَةُ عَلَى الْمُعَيَّنِ ؛ فَيَجِبُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ ؛ فَإِنَّ عَادَةَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ مَنْ يُخَلِّصُ لَهُمْ هَذَا بِالْأُجْرَةِ . وَالْإِجَارَةُ تَثْبُتُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَمَنْ دَخَلَ إلَى حَمَّامٍ أَوْ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بِغَيْرِ مُشَارَطَةٍ وَكَمَنَ دَفَعَ طَعَامًا إلَى طَبَّاخٍ وَغَسَّالٍ بِغَيْرِ مُشَارَطَةٍ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ . وَلَوْ كَانَ الْمَالُ حَيَوَانًا فَخَلَّصَهُ مِنْ مَهْلَكَةٍ مَلَكَهُ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَهُ حُرْمَةٌ فِي نَفْسِهِ ؛ بِخِلَافِ الْمَتَاعِ ؛ فَإِنَّ حُرْمَتَهُ لِحُرْمَةِ صَاحِبِهِ فَهُنَاكَ تَخْلِيصُهُ لِحَقِّ الْحَيَوَانِ وَهُوَ بِالْمَهْلَكَةِ قَدْ يَيْأَسُ صَاحِبُهُ ؛
بِخِلَافِ
الْمَتَاعِ ؛ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَقُولُ لِلْمُخَلِّصِ : كَانَ يَجُوزُ لَك مِنْ
حِينِ أَنْ أَدَعُهُ وَالْحَقُّ فِيهِ لِي فَإِذَا لَمْ تُعْطِنِي حَقِّي لَمْ
آذَنْ لَك فِي تَخْلِيصِهِ . وَأَمَّا الرُّمَّانُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ صَاحِبُهُ
فَهُوَ كَاللُّقَطَةِ وَاللُّقَطَةُ إنْ رُجِيَ وُجُودُ صَاحِبِهَا عُرِّفَتْ
حَوْلًا وَإِنْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ وُجُودَ صَاحِبِهِ فَفِي تَعْرِيفِهِ
قَوْلَانِ ؛ لَكِنْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا الرُّمَّانَ أَوْ
يَبِيعُوهُ وَيَحْفَظُوا ثَمَنَهُ ثُمَّ يُعَرِّفُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهَ رُوحَهُ - :
عَمَّنْ وَجَدَ طِفْلًا وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ ثُمَّ رَبَّاهُ حَتَّى
بَلَغَ مِنْ الْعُمْرِ شَهْرَيْنِ . فَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ لِتُرْضِعَهُ
امْرَأَتُهُ لِلَّهِ . فَلَمَّا كَبُرَ الطِّفْلُ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ
ابْنُهَا وَأَنَّهَا رَبَّتْهُ فِي حِضْنِ أَبِيهِ . فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهَا ؟
وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُعْطِيَ الرَّجُلَ الثَّانِيَ مَا أَنْفَقَهُ
عَلَيْهِ ؟ وَيُلْزِمُ الرَّجُلَ الْأَوَّلَ مَا وَجَدَ مَعَ ابْنِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الطِّفْلُ مَجْهُولَ النَّسَبِ وَادَّعَتْ أَنَّهُ ابْنُهَا : قُبِلَ
قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ وَيُصْرَفُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي وُجِدَ مَعَهُ فِي
نَفَقَتِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الثَّلَاثِينَ
الْجُزْءُ
الْحَادِي وَالْثَّلَاثُونَ
كِتَابُ الوَقْفِ إِلَى النِكَاحَ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ
بَعْدَهُ .
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
-:
عَنْ رَجُلٍ احْتَكَرَ مِنْ رَجُلٍ قِطْعَةَ أَرْضِ بُسْتَانٍ ثُمَّ إنَّ
الْمُحْتَكِرَ عَمَرَ فِي أَرْضِ الْبُسْتَانِ صُورَةَ مَسْجِدٍ وَبَنَى فِيهَا
مِحْرَابًا وَقَالَ لِمَالِكِ الْأَرْضِ : هَذَا عَمَرْته مَسْجِدًا فَلَا
تَأْخُذْ مِنِّي حِكْرَهُ فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ مَالِكَ الْأَرْضِ
بَاعَ الْبُسْتَانَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئًا . فَهَلْ يَصِيرُ هَذَا
الْمَكَانُ مَسْجِدًا بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا لَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا بِذَلِكَ
: فَهَلْ يَكُونُ عَدَمُ أَخْذِ مَالِكِ الْأَرْضِ الْحِكْرَ يَصِيرُ مَسْجِدًا ؟
وَإِذَا لَمْ يَصِرْ بَيْعَ الْبُسْتَانِ جَمِيعِهِ : هَلْ يَجُوزُ لِبَانِي
صُورَةِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَضَعَ مَا بَنَاهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يُسَبِّلْ لِلنَّاسِ كَمَا تُسَبَّلُ الْمَسَاجِدُ ؛ بِحَيْثُ تُصَلَّى
فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الَّتِي تُصَلَّى فِي الْمَسَاجِدِ لَمْ يَصِرْ
مَسْجِدًا بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ فِي الْعِمَارَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِذَا لَمْ
يَكُنْ قُرْبَةً يَقْتَضِي خُرُوجَهُ مِنْ الْمَبِيعِ دَخَلَ فِي الْمَبِيعِ ؛
فَإِنَّ الشُّرُوعَ فِي تَصْيِيرِهِ مَسْجِدًا لَا يَجْعَلُهُ مَسْجِدًا .
وَكَذَلِكَ
الْقَوْلُ فِي الْعِمَارَةِ لَكِنْ يَنْبَغِي لِمَنْ أَخْرَجَ ثَمَنَ ذَلِكَ أَنْ
لَا يَعُودَ إلَى مِلْكِهِ كَمَنْ أَخْرَجَ مِنْ مَالِهِ مَالًا لِيَتَصَدَّقَ
بِهِ فَلَمْ يَجِدْ السَّائِلَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُمْضِيَ ذَلِكَ وَيَتَصَدَّقَ
بِهِ عَلَى سَائِلٍ آخَرَ وَلَا يُعِيدَهُ إلَى مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ .
وَإِذَا صَرَفَ مِثْلَ هَذَا الْمَكَانِ فِي مَصَالِحِ مَسْجِدٍ آخَرَ جَازَ
ذَلِكَ بَلْ إذَا صَارَ مَسْجِدًا وَكَانَ بِحَيْثُ لَا يُصَلِّي فِيهِ أَحَدٌ
جَازَ أَنْ يُنْقَلَ إلَى مَسْجِدٍ يُنْتَفَعُ بِهِ بَلْ إذَا جَازَ أَنْ يُبَاعَ
وَيُصْرَفَ ثَمَنُهُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْمِرَ عِمَارَةً
يُنْتَفَعُ بِهَا لِمَسْجِدِ آخَرَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ بَنَى مَسْجِدًا وَأَوْقَفَ حَانُوتًا عَلَى مُؤَذِّنٍ وَمُقِيمٍ
مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَتَسَلَّمْ مِنْ رِيعِ الْحَانُوتِ شَيْئًا فِي حَيَاتِهِ .
فَهَلْ يَجُوزُ تَنَاوُلُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا وَقَفَ وَقْفًا وَلَمْ يُخْرِجْ
مِنْ يَدِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ : أَحَدُهُمَا :
يَبْطُلُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ مُحَمَّدٍ .
وَالثَّانِي
: يَلْزَمُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي مَذْهَبِ أَبِي
حَنِيفَةَ . وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ حُقُوقِ زَاوِيَةٍ وَهُوَ بِظَاهِرِهَا وَقَدْ أُقِيمَ فِيهِ مِحْرَابٌ
مُنْذُ سِنِينَ فَرَأَى مَنْ لَهُ النَّظَرُ عَلَى الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ
الْمَصْلَحَةَ فِي بِنَاءِ طَبَقَةٍ عَلَى ذَلِكَ الْمِحْرَابِ : إمَّا لِسَكَنِ
الْإِمَامِ أَوْ لِمَنْ يَخْدِمُ الْمَكَانَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَعُودُ عَلَى
الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ وَلَا عَلَى أَهْلِهِ . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَسْجِدًا مُعَدًّا لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بَلْ هُوَ
مِنْ حُقُوقِ الْمَكَانِ : جَازَ أَنْ يُبْنَى فِيهِ مَا يَكُونُ مِنْ مَصْلَحَةِ
الْمَكَانِ وَمُجَرَّدُ تَصْوِيرِ مِحْرَابٍ لَا يَجْعَلُهُ مَسْجِدًا لَا
سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ الْمُعَدُّ لِلصَّلَوَاتِ فَفِي الْبِنَاءِ
عَلَيْهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَبَنَى فِيهَا دَارًا وَدُكَّانًا أَوْ شَيْئًا
يَسْتَحِقُّ لَهُ كَرْيُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا كُلَّ شَهْرٍ إذَا يُعْمَرُ
وَعَلَيْهِ حِكْرٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ ؟ تَوَقَّفَ قَدِيمًا :
فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَعْمُرَ مَعَ مَا قَدْ عَمَرَهُ مِنْ
الْمِلْكِ مَسْجِدًا لِلَّهِ وَيُوقِفَ الْمِلْكَ عَلَى الْمَسْجِدِ ؟
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ الْبِنَاءَ الَّذِي بَنَاهُ فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَة .
سَوَاءٌ وَقَفَهُ مَسْجِدًا أَوْ غَيْرَ مَسْجِدٍ وَلَا يُسْقِطُ ذَلِكَ حَقَّ
أَهْلِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ مَتَى انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَانْهَدَمَ
الْبِنَاءُ زَالَ حُكْمُ الْوَقْفِ سَوَاءٌ كَانَ مَسْجِدًا أَوْ غَيْرَ مَسْجِدٍ
وَأَخَذُوا أَرْضَهُمْ فَانْتَفَعُوا بِهَا وَمَا دَامَ الْبِنَاءُ قَائِمًا
فِيهَا فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَلَوْ وَقَفَ عَلَى رَبْعٍ أَوْ دَارٍ
مَسْجِدًا ثُمَّ انْهَدَمَتْ الدَّارُ أَوْ الرَّبْعُ فَإِنَّ وَقْفَ الْعُلْوِ
لَا يُسْقِطُ حَقَّ مُلَّاكِ السُّفْلِ كَذَلِكَ وَقْفُ الْبِنَاءِ لَا يَسْقُطُ
عَلَى مُلَّاكِ الْأَرْضِ.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ وَصَّى أَوْ وَقَفَ عَلَى جِيرَانِهِ فَمَا الْحُكْمُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يُعْرَفُ مَقْصُودُ الْوَاقِفِ وَالْوَصِيِّ لَا بِقَرِينَةٍ
لَفْظِيَّةٍ وَلَا عُرْفِيَّةٍ وَلَا كَانَ لَهُ عُرْفٌ فِي مُسَمَّى الْجِيرَانِ
: رَجَعَ فِي ذَلِكَ إلَى الْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ وَهُوَ أَرْبَعُونَ دَارًا
مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْجِيرَانُ أَرْبَعُونَ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا
وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ
بَوَائِقَهُ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مُعَرِّفٍ عَلَى الْمَرَاكِبِ وَبَنَى مَسْجِدًا وَجَعَلَ لِلْإِمَامِ
فِي كُلِّ الْمَرَاكِبِ شَهْرَ أُجْرَةٍ مِنْ عِنْدِهِ : فَهَلْ هُوَ حَلَالٌ ؟
أَمْ حَرَامٌ ؟ وَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ يُعْطِي هَذِهِ الدَّرَاهِمَ مِنْ أُجْرَةِ الْمَرَاكِبِ الَّتِي لَهُ
جَازَ أَخْذُهَا وَإِنْ كَانَ يُعْطِيهَا مِمَّا يَأْخُذُ مِنْ النَّاسِ بِغَيْرِ
حَقٍّ فَلَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْمٍ بِيَدِهِمْ وَقْفٌ مِنْ جَدِّهِمْ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ
وَخَمْسِينَ سَنَةً عَلَى مَشْهَدٍ مُضَافٍ إلَى شيث وَعَلَى ذُرِّيَّةِ
الْوَاقِفِ وَالْفُقَرَاءِ وَنَظْرِهِ لَهُمْ وَالْوَقْفُ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ مِنْ
الزَّمَانِ الْقَدِيمِ . وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ الشَّرِيفِ وَبِيَدِهِمْ
مَرَاسِيمُ الْمُلُوكِ مِنْ زَمَانِ نُورِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الدِّينِ تَشْهَدُ
بِذَلِكَ وَتَأْمُرُ بِإِعْفَاءِ هَذَا الْوَقْفِ وَرِعَايَةِ حُرْمَتِهِ وَقَدْ
قَامَ نُظَّارُ هَذَا الْوَقْفِ فِي هَذَا الْوَقْتِ طَلَبُوا أَنْ يُفَرِّقُوا
نِصْفَ الْمُغَلِّ فِي عِمَارَةِ الْمَشْهَدِ وَالنِّصْفَ الَّذِي يَبْقَى
لِذُرِّيَّتِهِ يَأْخُذُونَهُ لَا يُعْطُونَهُمْ إيَّاهُ وَلَا يَصْرِفُونَهُ فِي
مَصَارِفِ الْوَقْفِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ هَذَا لِلنَّاظِرِ وَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ أَنْ يَصْرِفُوا الْوَقْفَ
فِي غَيْرِ مَصَارِفِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا حِرْمَانُ وَرَثَةِ الْوَاقِفِ
وَالْفُقَرَاءِ الدَّاخِلِينَ فِي شَرْطِ الْوَاقِفِ ؛ بَلْ ذُرِّيَّتُهُ
وَالْفُقَرَاءُ أَحَقُّ بِأَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِمْ مَا شُرِطَ لَهُمْ مِنْ
الْمَشْهَدِ الْمَذْكُورِ ؛ فَكَيْفَ يُحْرَمُونَ - وَالْحَالُ هَذِهِ - بَلْ لَوْ
كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْمَشْهَدِ وَحْدَهُ لَكَانَ صَرْفُ مَا يَفْضُلُ
إلَيْهِمْ مَعَ حَاجَتِهِمْ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إلَى غَيْرِهِمْ .
فَمَنْ صَرَفَ بَعْضَ الْوَقْفِ عَلَى الْمَشْهَدِ ؛ وَأَخَذَ بَعْضَهُ يَصْرِفُهُ فِيمَا لَمْ يَقْتَضِهِ الشَّرْطُ ؛ وَحَرَمَ الذُّرِّيَّةَ الدَّاخِلِينَ فِي الشَّرْطِ ؛ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؛ وَتَعَدَّى حُدُودَهُ مِنْ وُجُوبِ أَدَاءِ الْوَقْفِ عَلَى ذُرِّيَّةِ الْوَاقِفِ ؛ جَائِرٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُجَوِّزِينَ لِلْوَقْفِ ؛ وَهُوَ أَمْرٌ قَدِيمٌ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَأَمَّا بِنَاءُ الْمَشَاهِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَالْوَقْفُ عَلَيْهَا فَبِدْعَةٌ ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ ؛ وَلَا التَّابِعِينَ ؛ وَلَا تَابِعِيهِمْ ؛ بَلْ وَلَا عَلَى عَهْدِ الْأَرْبَعَةِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ بِنَاءُ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ عَلَى الْقُبُورِ ؛ وَلَا الْإِعَانَةُ عَلَى ذَلِكَ بِوَقْفِ وَلَا غَيْرِهِ ؛ وَلَا النَّذْرُ لَهَا ؛ وَلَا الْعُكُوفُ عَلَيْهَا ؛ وَلَا فَضِيلَةَ لِلصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ ( فِيهَا عَلَى الْمَسَاجِدِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْقُبُورِ ؛ فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ أَنَّ هَذَا خِلَافُ دِينِ الْإِسْلَامِ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ ؛ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَرْجِعْ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ ؛ بَلْ قَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ الْمُعْتَبَرُونَ عَلَى أَنَّ بِنَاءَ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ مِثْلَ هَذَا الْمَشْهَدِ وَنَحْوِهِ حَرَامٌ ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ ؛ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ؛ أَلَا فَلَا
تَتَّخِذُوا
الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ؛ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَفِي السُّنَنِ
عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ
زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ ؛ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ }
فَقَدْ لُعِنَ مَنْ يَبْنِي مَسْجِدًا عَلَى قَبْرٍ ؛ وَيُوقِدُ فِيهِ سِرَاجًا :
مِثْلَ قِنْدِيلٍ ؛ وَشَمْعَةٍ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَصْرِفُ مَالَ
أَحَدِهِمْ إلَى مَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَيَتْرُكُ صَرْفَ مَا شُرِطَ لَهُمْ ؛ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِمْ ذَلِكَ
فِي دِينِ اللَّهِ ؟ نَعَمْ لَوْ كَانَ هَذَا مَسْجِدًا لِلَّهِ خَالِيًا عَنْ
قَبْرٍ لَكَانُوا هُمْ وَهُوَ فِي تَنَاوُلِ شَرْطِ الْوَاقِفِ لَهُمَا سَوَاءً .
أَمَّا مَا يُصْرَفُ لِبِنَاءِ الْمَشْهَدِ فَمَعْصِيَةٌ لِلَّهِ . وَالصَّرْفُ
إلَيْهِمْ وَاجِبٌ . وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ مُنْفَصِلًا عَنْ الْقَبْرِ
فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَكِنْ لَا فَضِيلَةَ
لَهُ عَلَى غَيْرِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى مَدْرَسَةٍ . وَشَرَطَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ
أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ إلَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
وَظِيفَةٌ بجامكية ؛ وَلَا مُرَتَّبٌ . وَأَنَّهُ لَا يَصْرِفُ رِيعَهَا لِمَنْ
لَهُ مُرَتَّبٌ فِي جِهَةٍ أُخْرَى ؛ وَشَرَطَ لِكُلِّ طَالِبٍ جامكية مَعْلُومَةً
: فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؛ وَإِذَا صَحَّ فَنَقَصَ
رِيعُ الْوَقْفِ ؛ وَلَمْ يَصِلْ كُلُّ طَالِبٍ إلَى الجامكية الْمُقَرَّرَةِ لَهُ
: فَهَلْ يَجُوزُ
لِلطَّالِبِ
أَنْ يَتَنَاوَلَ جامكية فِي مَكَانٍ آخَرَ ؟ وَإِذَا نَقَصَ رِيعُ الْوَقْفِ
وَلَمْ يَصِلْ كُلُّ طَالِبٍ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ . فَهَلْ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ
أَنْ يُبْطِلَ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا حَكَمَ بِصِحَّةِ
الْوَقْفِ الْمَذْكُورِ حَاكِمٌ : هَلْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟
.
فَأَجَابَ :
أَصْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ إنْ كَانَ قُرْبَةً وَطَاعَةً
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ صَحِيحًا ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لَازِمًا .
وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا كَمَا لَمْ يُسَوِّغْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ السَّبْقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ ؛ وَإِنْ كَانَتْ
الْمُسَابَقَةُ بِلَا عِوَضٍ قَدْ جَوَّزَهَا بِالْأَقْدَامِ وَغَيْرِهَا ؛
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي مَالِ الْفَيْءِ : { كَيْ لَا يَكُونَ
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ أَنْ
يَكُونَ الْمَالُ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ . وَإِنْ كَانَ الْغِنَى وَصْفًا
مُبَاحًا فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ ؛ وَعَلَى قِيَاسِهِ
سَائِرُ الصِّفَاتِ الْمُبَاحَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْعَمَلَ إذَا لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً
لَمْ يَكُنْ الْوَاقِفُ مُثَابًا عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِيهِ فَيَكُونُ قَدْ
صَرَفَ الْمَالَ فِيمَا لَا يَنْفَعُهُ ؛ لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا فِي مَمَاتِهِ
ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الدُّنْيَا ؛ كَانَ
تَعْذِيبًا لَهُ بِلَا فَائِدَةٍ تَصِلُ إلَيْهِ ؛ وَلَا إلَى الْوَاقِفِ ؛
وَيُشْبِهُ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ مِنْ الْأَحْبَاسِ
الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ ؛ وَالْمَائِدَةِ . وَإِذَا
خَلَا الْعَمَلُ الْمَشْرُوطُ فِي الْعُقُودِ كُلِّهَا عَنْ مَنْفَعَةٍ فِي
الدِّينِ ؛ أَوْ فِي الدُّنْيَا
كَانَ بَاطِلًا بِالِاتِّفَاقِ فِي أُصُولٍ كَثِيرَةٍ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ فَيَكُونُ بَاطِلًا ؛ وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ . مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ الْتِزَامَ نَوْعٍ مِنْ الْمَطْعَمِ ؛ أَوْ الْمَلْبَسِ ؛ أَوْ الْمَسْكَنِ الَّذِي لَمْ تَسْتَحِبُّهُ الشَّرِيعَةُ ؛ أَوْ تَرْكَ بَعْضِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَسْتَحِبُّ الشَّرِيعَةُ عَمَلَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . يَبْقَى الْكَلَامُ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْمَنَاطِ فِي اعْتِبَارِ الْمَسَائِلِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ مُخْتَلَفًا فِيهِ ؛ لِاخْتِلَافِ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ ؛ فَيَنْظُرُ فِي شَرْطٍ تُرِكَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ؛ فَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ - خَالِصٌ أَوْ رَاجِحٌ - كَانَ بَاطِلًا ؛ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا ؛ ثُمَّ إذَا نَقَصَ الرِّيعُ عَمَّا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ جَازَ لِلْمُطَالِبِ أَنْ يَرْتَزِقَ تَمَامَ كِفَايَتِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ رِزْقَ الْكِفَايَةِ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ بَلْ هُوَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا قِيَامَ لِلْخَلْقِ بِدُونِهَا ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَشْرِطَ مَا يُنَافِيهَا ؛ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ ؟ . وَيَجُوزُ لِلنَّاظِرِ مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يُوصِلَ إلَى الْمُرْتَزِقَةِ بِالْعِلْمِ مَا جُعِلَ لَهُمْ وَألَا يَمْنَعَهُمْ مِنْ تَنَاوُلِ تَمَامِ كِفَايَتِهِمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يُرَتِّبُونَ فِيهَا ؛ وَلَيْسَ هَذَا إبْطَالًا لِلشَّرْطِ ؛ لَكِنَّهُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ ؛ وَشُرُوطُ اللَّهِ حُكْمُهَا كَذَلِكَ وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يَمْنَعُ مَا ذُكِرَ .
وَهَذِهِ
الْأَرْزَاقُ الْمَأْخُوذَةُ عَلَى الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ إنَّمَا هِيَ
أَرْزَاقٌ وَمُعَاوِنٌ عَلَى الدِّينِ ؛ بِمَنْزِلَةِ مَا يرتزقه الْمُقَاتِلَةُ ؛
وَالْعُلَمَاءُ مِنْ الْفَيْءِ . وَالْوَاجِبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ تَسْقُطُ
بِالْعُذْرِ ؛ وَلَيْسَتْ كَالْجِعَالَاتِ عَلَى عَمَلٍ دُنْيَوِيٍّ ؛ وَلَا
بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا فَهَذِهِ حَقِيقَةُ حَالِ هَذِهِ
الْأَمْوَالِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ وَقَفَ مَدْرَسَةً وَشَرَطَ مَنْ يَكُونُ لَهُ بِهَا وَظِيفَةٌ أَنْ
لَا يَشْتَغِلَ بِوَظِيفَةِ أُخْرَى بِغَيْرِ مَدْرَسَتِهِ وَشَرَطَ لَهُ فِيهَا
مُرَتَّبًا مَعْلُومًا . وَقَالَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ : وَإِذَا حَصَلَ فِي
رِيعِ هَذِهِ الْمَدْرَسَةِ نَقْصٌ بِسَبَبِ مَحَلٍّ أَوْ غَيْرِهِ كَانَ مَا بَقِيَ
مِنْ رِيعِ هَذَا الْوَقْفِ مَصْرُوفًا فِي أَرْبَابِ الْوَظَائِفِ بِهَا لِكُلِّ
مِنْهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْلُومِهِ بالمحاصصة . وَقَالَ فِي كِتَابِ
الْوَقْفِ : وَإِذَا حَصَلَ فِي السِّعْرِ غَلَاءٌ فَلِلنَّاظِرِ أَنْ يُرَتِّبَ
لَهُمْ زِيَادَةً عَلَى مَا قَرَّرَ لَهُمْ بِحَسَبِ كِفَايَتِهِمْ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ . ثُمَّ إذَا حَصَلَ فِي رِيعِ الْوَقْفِ نَقْصٌ مِنْ جِهَةِ نَقْصِ
وَقْفِهَا بِحَيْثُ إنَّهُ إذَا أُلْغِيَ هَذَا الشَّرْطُ مِنْ عَدَمِ الْجَمْعِ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا يُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ الْمَدْرَسَةِ : فَهَلْ
يَجُوزُ لِمَنْ يَكُونُ بِهَا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا
لِيَحْصُلَ لَهُ قَدَرُ كِفَايَتِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟ حَيْثُ رَاعَى
الْوَاقِفُ الْكِفَايَةَ لِمَنْ يَكُونُ بِهَا أَوْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ
غَلَاءِ السِّعْرِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الشُّرُوطُ الْمَشْرُوطَة عَلَى مَنْ فِيهَا كَعَدَمِ
الْجَمْعِ إنَّمَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا إذَا لَمْ يُفْضِ ذَلِكَ إلَى
الْإِخْلَالِ بِالْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ : الَّذِي هُوَ يَكُونُ اسْمَك إمَّا
وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ . فَأَمَّا الْمُحَافَظَةُ عَلَى بَعْضِ الشُّرُوطِ
مَعَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِالشُّرُوطِ فَلَا يَجُوزُ . فَاشْتِرَاطُ عَدَمِ
الْجَمْعِ بَاطِلٌ مَعَ ذَهَابِ بَعْضِ أَصْلِ الْوَقْفِ وَعَدَمِ حُصُولِ
الْكِفَايَةِ لِلْمُرَتَّبِ بِهَا لَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ وَلَا يَجُوزُ
الْإِلْزَامُ بِهِ لِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا شُرِطَ
عَلَيْهِمْ مَعَ وُجُودِ رِيعِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ سَوَاءٌ كَانَ كَامِلًا
أَوْ نَاقِصًا فَإِذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَصْلِ الْوَقْفِ لَمْ تَكُنْ الشُّرُوطُ
مَشْرُوطَةً فِي هَذِهِ الْحَالِ وَفَرْقٌ بَيْنَ نَقْصِ رِيعِ الْوَقْفِ مَعَ
وُجُودِ أَصْلِهِ وَبَيْنَ ذَهَابِ بَعْضِ أَصْلِهِ . ( الْوَجْهُ الثَّانِي :
أَنَّ حُصُولَ الْكِفَايَةِ الْمُرَتَّبِ بِهَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ حَتَّى
لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْوَاقِفَ صَرَّحَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَانَ شَرْطًا بَاطِلًا .
مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الْمُرَتَّبَ بِهَا لَا يَرْتَزِقُ مِنْ غَيْرِهَا
وَلَوْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ كِفَايَتُهُ فَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا لَمْ يَصِحَّ ؛
لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ فَإِنَّ حُصُولَ الْكِفَايَةِ لَا
بُدَّ مِنْهَا وَتَحْصِيلُهَا لِلْمُسْلِمِ وَاجِبٌ إمَّا عَلَيْهِ ؛ وَإِمَّا
عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَصِحُّ شَرْطٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ . وَقَدْ ظَهَرَ
أَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لَهُمْ الْكِفَايَةَ
وَلَكِنْ ذَهَابُ بَعْضِ أَمْوَالِ الْوَقْفِ بِمَنْزِلَةِ تَلَفِ الْعَيْنِ
الْمَوْقُوفَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَالْوَقْفُ
سَوَاءٌ شُبِّهَ بِالْجُعْلِ أَوْ بِالْأُجْرَةِ أَوْ بِالرِّزْقِ فَإِنَّ مَا
عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَعْمَلَ إذَا وَفَّى لَهُ بِمَا شَرَطَ لَهُ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى مَسْجِدٍ وَأَكْفَانِ الْمَوْتَى وَشَرَطَ فِيهِ
الْأَرْشَدَ فَالْأَرْشَدَ مِنْ وَرَثَتِهِ ثُمَّ لِلْحَاكِمِ وَشَرَطَ لِإِمَامِ
الْمَسْجِدِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ بِالتُّرْبَةِ سِتَّةَ
دَرَاهِمَ وَشَرَطَ لَهُمَا دَارَيْنِ لِسُكْنَاهُمَا ثُمَّ إنَّ رِيعَ الْوَقْفِ
زَادَ خَمْسَةَ أَمْثَالِهِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ الْأَكْفَانُ إلَى زِيَادَةٍ
فَجَعَلَ لَهُمَا الْحَاكِمُ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ثُمَّ اطَّلَعَ
بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ فَتَوَقَّفَ فِي أَنْ يَصْرِفَ عَلَيْهِمْ
مَا زَادَ عَلَى كُلِّ شَرْطِ الْوَاقِفِ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ
يَجُوزُ لَهُمَا تَنَاوُلُهُ ؟ وَأَيْضًا الدَّارُ الْمَذْكُورَةُ انْهَدَمَتْ
فَأَحْكَرَهَا نَاظِرُ الْوَقْفِ كُلَّ سَنَةٍ بِدِرْهَمَيْنِ فَعَمَرَهَا
الْمُسْتَأْجِرُ وَأَجَّرَهَا فِي السَّنَةِ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا . فَهَلْ
يَصِحُّ هَذَا الإحكار ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْإِمَامُ وَالْمُؤَذِّنُ مِنْ مِثْلِ هَذَا
الْوَقْفِ الْفَائِضِ رِزْقَ مِثْلِهِمَا هَلْ وَإِنْ كَانَ زَائِدًا عَلَى
ثَلَاثِينَ بَلْ إذَا كَانَا فَقِيرَيْنِ وَلَيْسَ لِمَا زَادَ مَصْرِفٌ مَعْرُوفٌ
: جَازَ أَنْ يَصْرِفَ إلَيْهِمَا مِنْهُ تَمَامَ كِفَايَتِهِمَا . وَذَلِكَ
لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَقْدِيرَ الْوَاقِفِ دَرَاهِمَ مُقَدَّرَةً فِي وَقْفِ مِقْدَارِ رِيعٍ قَدْ يُرَادُ بِهِ النِّسْبَةُ : مِثْلَ أَنْ يَشْرِطَ لَهُ عَشْرَةً وَالْمُغَلُّ مِائَةٌ وَيُرَادُ بِهِ الْعَشْرُ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ هَذَا عُمِلَ بِهِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ فِي الْعُرْفِ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا كَانَ مُغَلُّهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَشَرَطَ لَهُ سِتَّةً ثُمَّ صَارَ خَمْسَمِائَةٍ فَإِنَّ الْعَادَةَ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَشْرِطَ لَهُ أَضْعَافَ ذَلِكَ مِثْلَ خَمْسَةِ أَمْثَالِهِ وَلَمْ تَجْرِ عَادَةٌ مِنْ شَرْطِ سِتَّةٍ مِنْ مِائَةٍ أَنْ يَشْتَرِطَ سِتَّةً مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فَيُحْمَلُ كَلَامُ النَّاسِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ فِي خِطَابِهِمْ . الثَّانِي : أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ هَذَا فَزَائِدُ الْوَقْفِ يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ مَصَالِحِهِ وَمَا يُشْبِهُهَا : مِثْلُ صَرْفِهِ فِي مَسَاجِدَ أُخَرَ وَفِي فُقَرَاءِ الْجِيرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : لِأَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يُصْرَفَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَوْ يُرْصَدَ لِمَا يَحْدُثُ مِنْ عِمَارَةٍ وَنَحْوِهِ . وَرَصْدُهُ دَائِمًا مَعَ زِيَادَةِ الرِّيعِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ : بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ وَهُوَ حَبْسُهُ لِمَنْ يَتَوَلَّى عَلَيْهِمْ مِنْ الظَّالِمِينَ الْمُبَاشِرِينَ وَالْمُتَوَلِّينَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : أَنَّهُ حَضَّ النَّاسَ عَلَى مُكَاتَبٍ يَجْمَعُونَ لَهُ فَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ فَأَمَرَ بِصَرْفِهَا فِي الْمُكَاتَبِينَ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ الْمُعَيَّنُ صَارَ الصَّرْفُ إلَى نَوْعِهِ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ فِي الْوَقْفِ هُوَ هَذَا الْقَوْلُ وَأَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا فَضَلَ مِنْ كُسْوَتِهِ كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَتَصَدَّقُ كُلَّ عَامٍ بِكُسْوَةِ الْكَعْبَةِ يُقَسِّمُهَا بَيْنَ الْحُجَّاجِ .
وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ ؛ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ صَرْفَ الْفَاضِلِ إلَى إمَامِهِ
وَمُؤَذِّنِهِ مَعَ الِاسْتِحْقَاقِ أَوْلَى مِنْ الصَّرْفِ إلَى غَيْرِهِمَا
وَتَقْدِيرُ الْوَاقِفِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الزِّيَادَةِ بِسَبَبِ آخَرَ
كَمَا لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ غَيْرِ مَسْجِدِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ
وَقَدَّرَ الْأَكْفَانَ الَّتِي هِيَ الْمَصْرُوفَةُ بِبَعْضِ الرِّيعِ صُرِفَ مَا
يَفْضُلُ إلَى الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ مَا ذَكَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَوْقَفَ وَقْفًا وَشَرَطَ التَّنْزِيلَ فِيهِ لِلشَّيْخِ وَشَرَطَ
أَنْ لَا يَنْزِلَ فِيهِ شِرِّيرٌ وَلَا مُتَجَوِّهٌ وَأَنَّهُ نَزَلَ فِيهِ
شَخْصٌ بِالْجَاهِ ثُمَّ بَدَا مِنْهُ أَمْرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شِرِّيرٌ
فَرَأَى الشَّيْخُ الْمَصْلَحَةَ فِي صَرْفِهِ اعْتِمَادًا عَلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ
وَنَزَّلَ الشَّيْخُ شَخْصًا آخَرَ بِطَرِيقِ شَرْطِ الْوَاقِفِ وَمَرْسُومِ
أَلْفَاظِهِ فَهَلْ يَجُوزُ صَرْفُ مَنْ نَزَلَ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ بِغَيْرِ
مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ وَإِعَادَةُ الْمُتَجَوِّهِ الشِّرِّيرِ الْمُخَالِفِ
لِشَرْطِ الْوَاقِفِ . وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى النَّاظِرِ وَالشَّيْخِ ذَلِكَ
وَيَقْدَحُ ذَلِكَ فِي وِلَايَتِهِمَا ؟ وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى السَّاعِي فِي
ذَلِكَ الْمُسَاعِدُ لَهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا عَلِمَ شَرْطَ الْوَاقِفِ عَدَلَ عَنْهُ إلَى شَرْطِ اللَّهِ قَبْلَ شَرْطِ
الْوَاقِفِ إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِشَرْطِ اللَّهِ .
فَإِنَّ الْجِهَاتِ الدِّينِيَّةَ مِثْلَ الخوانك وَالْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ فِيهَا فَاسِقٌ سَوَاءٌ كَانَ فِسْقُهُ بِظُلْمِهِ لِلْخَلْقِ وَتَعَدِّيه عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ . أَوْ فِسْقِهِ بِتَعَدِّيهِ حُقُوقَ اللَّهِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ . فَإِنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَعُقُوبَتُهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَرِّرَ فِي الْجِهَاتِ الدِّينِيَّةِ وَنَحْوِهَا فَكَيْفَ إذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ وُجُوبُهُ مُؤَكَّدًا . وَمَنْ نَزَلَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ تَنْزِيلًا شَرْعِيًّا لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ لِأَجْلِ هَذَا الظُّلْمِ وَلَا لِغَيْرِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ الظَّالِمَ بِالْعَادِلِ وَالْفَاجِرَ بِالْبَرِّ . وَمَنْ أَعَانَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ سَوَاءٌ عَلِمَ شَرْطَ الْوَاقِفِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَوْقَفَ وَقْفًا عَلَى مَدْرَسَةٍ وَشَرَطَ فِيهَا أَنَّ رِيعَ
الْوَقْفِ لِلْعِمَارَةِ ؛ وَالثُّلُثَيْنِ يَكُونُ لِلْفُقَهَاءِ ؛
وَلِلْمَدْرَسَةِ ؛ وَأَرْبَابِ الْوَظَائِفِ . وَشَرَطَ أَنَّ النَّاظِرَ يَرَى
بِالْمَصْلَحَةِ ؛ وَالْحَالُ جَارِيًا كَذَلِكَ مُدَّةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً ؛
وَإِنَّ حُصْرَ الْمَدْرَسَةِ وَمَلْءَ الصِّهْرِيجِ يَكُونُ مِنْ جامكية
الْفُقَهَاءِ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ غَيْبَةً ؛ وَأَمَاكِنَ غَيْرَهَا ؛ وَأَنَّ
مَعْلُومَ الْإِمَامِ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا ؛
وَكَذَلِكَ الْمُؤَذِّنُ ؛ فَطَلَبَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
أَرْبَابَ الْوَظَائِفِ أَنْ يُشَارِكُوهُمْ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ جوامكهم ؛
لِأَجْلِ الْحُصْرِ ؛ وَمَلْءِ الصِّهْرِيجِ ؛ وَأَنَّ أَرْبَابَ الْوَظَائِفِ
قَائِمُونَ بِهَذِهِ الْوَظِيفَةِ . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَيْرُهَا هَلْ
يَجِبُ لِلنَّاظِرِ مُوَافَقَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَا طَلَبُوهُ . وَنَقْصُ
هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ عَنْ مَعْلُومِهِمْ الْيَسِيرِ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا رَأَى النَّاظِرُ تَقْدِيمَ أَرْبَابِ الْوَظَائِفِ
الَّذِينَ يَأْخُذُونَ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ - كَالْإِمَامِ ؛ وَالْمُؤَذِّنِ -
فَقَدْ أَصَابَ فِي ذَلِكَ ؛ إذَا كَانَ الَّذِي يَأْخُذُونَهُ لَا يَزِيدُ عَلَى
جُعْلِ مِثْلِهِمْ فِي الْعَادَةِ ؛ كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ
الْجَابِيَ وَالْحَامِلَ وَالصَّانِعَ وَالْبَنَّاءَ وَنَحْوَهُمْ مِمَّنْ
يَأْخُذُ عَلَى عَمَلٍ يَعْمَلُهُ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ ؛ أَوْ عِمَارَةِ
الْمَكَانِ ؛ يُقَدَّمُونَ بِأَخْذِ الْأُجْرَةِ .
وَالْإِمَامَةُ
وَالْأَذَانُ شَعَائِرُ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهَا ؛ وَلَا تَنْقِيصُهَا بِحَالِ ؛
فَالْجَاعِلُ جَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهَا يُقَدَّمُ عَلَى مَا يَأْخُذُهُ
الْفُقَهَاءُ ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُدَرِّسِ وَالْمُفِيدِ وَالْفُقَهَاءِ ؛
فَإِنَّهُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ . وَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُ ثَمَنِ الْحُصْرِ ؛
وَمَلْءُ الصِّهْرِيجِ مِنْ ثُلُثِ الْعِمَارَةِ ؛ أَوْ غَيْرِهِ ؛ يُجْعَلُ
ذَلِكَ ؛ وَيُوَفَّرُ الثُّلُثَانِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا شُرِطَ
أَنَّ الثُّلُثَ لِلْعِمَارَةِ ؛ وَالثُّلُثَيْنِ لِأَرْبَابِ الْوَظَائِفِ ؛ لَمْ
يَكُنْ أَخْذُ ثَمَنِ الْحُصْرِ وَنَحْوِهَا مِنْ هَذَا أَوْلَى مِنْ صَرْفِهَا
مِنْ هَذَا ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْوَقْفِ شَرْطٌ شَرْعِيٌّ بِخِلَافِ هَذَا .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ وَقَفَ تُرْبَةً وَشَرَطَ الْمُقْرِي عَزَبًا ؛ فَهَلْ يَحِلُّ
التَّنَزُّلُ مَعَ التَّزَوُّجِ ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ ؛ وَالْمُتَأَهِّلُ أَحَقُّ بِمِثْلِ هَذَا مِنْ
الْمُتَعَزِّبِ ؛ إذَا اسْتَوَيَا فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ ؛ إذْ لَيْسَ فِي
التَّعَزُّبِ هُنَا مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى عَدَدٍ مَعْلُومٍ مِنْ النِّسَاءِ
وَالْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ : وَشَرَطَ النَّظْرَ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ ؛
ثُمَّ الصَّالِحِ مِنْ وَلَدِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ؛
وَلِلْوَاقِفِ أَقَارِبُ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ مِمَّنْ هُوَ مُحْتَاجٌ ؛
وَقَصَدَ النَّاظِرُ أَنْ يُمَيِّزَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الصَّرْفِ . هَلْ
يَجُوزُ أَنْ يُمَيِّزَهُمْ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا اسْتَوَوْا هُمْ وَغَيْرُهُمْ فِي الْحَاجَةِ ؛ فَأَقَارِبُ الْوَاقِفِ
يُقَدَّمُونَ عَلَى نُظَرَائِهِمْ الْأَجَانِبِ ؛ كَمَا يُقَدَّمُونَ لِصِلَتِهِ
فِي حَيَاتِهِ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَدَقَتُك
عَلَى الْمُسْلِمِينَ صَدَقَةٌ ؛ وَعَلَى ذَوِي الرَّحِمِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ } .
وَلِهَذَا يُؤْمَرُ أَنْ يُوصِيَ لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ ؛ إمَّا
أَمْرَ إيجَابٍ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَإِمَّا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ
كَقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ ؛ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد ؛ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ ؛ وَشَرَطَ شُرُوطًا ؛
وَمَاتَ الْوَاقِفُ ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ الْوَقْفُ عَلَى حَاكِمٍ وَعُدِمَ الْكِتَابُ
قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ عَمِلَ مَحْضَرًا مُجَرَّدًا يُخَالِفُ الشُّرُوطَ
وَالْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ وَأَثْبَتَ عَلَى حَاكِمٍ
بَعْدَ تَارِيخِ الْوَقْفِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ سَنَتَيْنِ ثُمَّ ظَهَرَ
كِتَابُ الْوَقْفِ وَفِيهِ شُرُوطٌ لَمْ يَتَضَمَّنْ الْمَحْضَرُ شَيْئًا مِنْهَا
وَتَوَجَّهَ الْكِتَابُ لِلثُّبُوتِ فَهَلْ يَجُوزُ مَنْعُ ثُبُوتِهِ وَالْعَمَلِ
الْمَذْكُورِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَجُوزُ مَنْعُ ثُبُوتِهِ بِحَالِ مِنْ الْأَحْوَالِ بَلْ
إذَا أَمْكَنَ ثُبُوتُهُ وَجَبَ ثُبُوتُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ
الْمَحْضَرُ الْمُثْبَتُ بَعْدَهُ . وَإِنْ حَكَمَ بِذَلِكَ الْمَحْضَرِ حَاكِمٌ
فَالْحَاكِمُ بِهِ مَعْذُورٌ بِكَوْنِهِ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مَا يُخَالِفُهُ .
وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَ مَا يُقَالُ : إنَّهُ كِتَابُ الْوَقْفِ وَجَبَ التَّمَكُّنُ
مِنْ إثْبَاتِهِ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ فَإِنْ ثَبَتَ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
:
عَنْ رَجُلٍ أَوْقَفَ وَقْفًا وَشَرَطَ فِي بَعْضِ شُرُوطِهِ أَنَّهُمْ
يَقْرَءُونَ مَا تَيَسَّرَ وَيُسَبِّحُونَ وَيُهَلِّلُونَ وَيُكَبِّرُونَ
وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ . فَهَلْ الْأَفْضَلُ السِّرُّ أَوْ الْجَهْرُ ؟
وَإِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ فَمَا يَكُونُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ الْإِسْرَارُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ - كَالصَّلَاةِ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهَا - أَفْضَلُ ؛
وَلَا هُوَ الْأَفْضَلُ مُطْلَقًا إلَّا لِعَارِضِ رَاجِحٍ وَهُوَ فِي هَذَا
الْوَقْتِ أَفْضَلُ خُصُوصًا : فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي
نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ
ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا
وَإِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا : إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى
أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ } وَفِي الْحَدِيثِ : { خَيْرُ الذِّكْرِ
الْخَفِيُّ ؛ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا كَفَى } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا وَشَرَطَ فِيهِ شُرُوطًا عَلَى جَمَاعَةِ قُرَّاءٍ
وَأَنَّهُمْ يَحْضُرُونَ كُلَّ يَوْمٍ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَقْرَءُونَ مَا
تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَتَدَاوَلُونَ
النَّهَارَ بَيْنَهُمْ يَوْمًا مَثْنَى مَثْنَى وَيَجْتَمِعُونَ أَيْضًا بَعْدَ
صَلَاةِ الْعَصْرِ يَقْرَأُ كُلٌّ مِنْهُمْ حِزْبَيْنِ وَيَجْتَمِعُونَ أَيْضًا
فِي كُلِّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ . جُمْلَةُ اجْتِمَاعِهِمْ فِي الشَّهْرِ سَبْعَةٌ
وَسَبْعُونَ مَرَّةً عَلَى هَذَا النَّحْوِ عِنْدَ قَبْرِهِ بِالتُّرْبَةِ ؛
وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنْ يَبِيتُوا كُلَّ لَيْلَةٍ بِالتُّرْبَةِ
الْمَذْكُورَةِ وَجَعَلَ لِكُلِّ مِنْهُمْ سَكَنًا يَلِيقُ بِهِ وَشَرَطَ لَهُمْ
جَارِيًا مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ يَتَنَاوَلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَفِي كُلِّ
شَهْرٍ . فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ الْحُضُورُ عَلَى شَرْطِهِ عَلَيْهِمْ ؟ أَمْ
يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَتَّصِفُوا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فِي أَيِّ مَكَانٍ أَمْكَنَ
إقَامَتُهُمْ بِوَظِيفَةِ الْقِرَاءَةِ أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ الْمَكَانُ وَلَا
الزَّمَانُ ؟ وَهَلْ يَلْزَمُهُمْ أَيْضًا أَنْ يَبِيتُوا بِالْمَكَانِ
الْمَذْكُورِ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ قِيلَ بِاللُّزُومِ فَاسْتَخْلَفَ أَحَدُهُمْ مَنْ
يَقْرَأُ عَنْهُ وَظِيفَتَهُ فِي الْوَقْفِ وَالْمَكَانِ وَالْوَاقِفُ شَرَطَ فِي
كِتَابِ الْوَقْفِ أَنْ يستنيبوا فِي أَوْقَاتِ الضَّرُورَاتِ فَمَا هِيَ
الضَّرُورَةُ الَّتِي تُبِيحُ النِّيَابَةَ ؟
وَأَيْضًا
إنْ نَقَصَهُمْ النَّاظِرُ مِنْ مَعْلُومِهِمْ الشَّاهِدُ بِهِ كِتَابُ الْوَقْفِ
: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْقَصُوا مِمَّا شَرَطَ عَلَيْهِمْ ؟ وَسَوَاءٌ كَانَ
النَّقْصُ بِسَبَبِ ضَرُورَةٍ . أَوْ مِنْ اجْتِهَادِ النَّاظِرِ أَوْ مِنْ غَيْرِ
اجْتِهَادِهِ وَلْيَشْفِ سَيِّدُنَا بِالْجَوَابِ مُسْتَوْعِبًا بِالْأَدِلَّةِ
وَيَجْلِي بِهِ عَنْ الْقُلُوبِ كُلَّ عُسْرٍ مُثَابًا فِي ذَلِكَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - وَهُوَ
عَلَى أَهْلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَالْوَصِيَّةُ لِأَهْلِهَا وَالنَّذْرُ لَهُمْ - أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ لَا
بُدَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ الطَّاعَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
فَإِذَا كَانَتْ مَنْهِيًّا عَنْهَا لَمْ يَجُزْ الْوَقْفُ عَلَيْهَا . وَلَا
اشْتِرَاطُهَا فِي الْوَقْفِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ فِي النَّذْرِ
وَنَحْوِهِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَقْفِ
وَالنَّذْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَصْلًا .
وَمِنْ أُصُولِ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ
نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . وَمِنْ أُصُولِهِ مَا أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا { أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ
لَمَّا أَرَادَ أَهْلُ بَرِيرَةَ أَنْ
يَشْتَرِطُوا الْوَلَاءَ لِغَيْرِ الْمُعْتَقِ . فَقَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ الْمُسْتَفِيضُ الَّذِي اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ عَامٌّ فِي الشُّرُوطِ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ لَيْسَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِالشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ بَلْ مَنْ اشْتَرَطَ فِي الْوَقْفِ أَوْ الْعِتْقِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ الْبَيْعِ أَوْ النِّكَاحِ أَوْ الْإِجَارَةِ أَوْ النَّذْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ شُرُوطًا تُخَالِفُ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بِحَيْثُ تَتَضَمَّنُ تِلْكَ الشُّرُوطُ الْأَمْرَ بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ أَوْ النَّهْيَ عَمَّا أَمَرَ بِهِ أَوْ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَهُ أَوْ تَحْرِيمَ مَا حَلَّلَهُ فَهَذِهِ الشُّرُوطُ بَاطِلَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ : الْوَقْفِ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا } . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ هُوَ مِنْ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : إنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَلَا يُقْتَصَرُ عَلَى سَبَبِهِ فَلَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ أَنَّ أَكْثَرَ العمومات الْوَارِدَةِ عَلَى أَسْبَابٍ لَا تَخْتَصُّ بِأَسْبَابِهَا كَالْآيَاتِ النَّازِلَةِ بِسَبَبِ مُعَيَّنٍ : مِثْلَ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ ؛ وَالْجِهَادِ وَالظِّهَارِ ؛
وَاللِّعَانِ وَالْقَذْفِ وَالْمُحَارَبَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْفَيْءِ وَالرِّبَا وَالصَّدَقَاتِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَعَامَّتُهَا نَزَلَتْ عَلَى أَسْبَابٍ مُعَيَّنَةٍ مَشْهُورَةٍ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْمَغَازِي مَعَ اتِّفَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا عَامٌّ فِي حَقِّ غَيْرِ أُولَئِكَ الْمُعَيَّنِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُمَاثِلُ قَضَايَاهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى عُمُومِهِ وَأَنَّهُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي أُوتِيَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُعِثَ بِهَا حَيْثُ قَالَ : { مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْعُقُودِ الْمُبَاحَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ : هَلْ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ خَالَفَ فِيهِ شَرْعًا أَوْ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ ؟ هَذَا فِيهِ تَنَازُعٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ : { كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ الْبَاطِلَ مَا خَالَفَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ : { مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَاب اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ } قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ . وَصَاحِبُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَقُولُ : مَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ ؛ فَهُوَ مِمَّا أَذِنَ فِيهِ فَيَكُونُ مَشْرُوعًا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَمَّا مَا كَانَ فِي الْعُقُودِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا
الطَّاعَاتُ كَالنَّذْرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَنْذُورُ طَاعَةً فَمَتَى كَانَ مُبَاحًا لَمْ يَجِبْ الْوَفَاءُ بِهِ ؛ لَكِنْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ كَالنِّزَاعِ فِي الْكَفَّارَةِ بِنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ ؛ لَكِنْ نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ وَنَذْرُ الْمُبَاحِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ أَيْضًا . وَحُكْمُ الشُّرُوطِ فِيهِ يُعْرَفُ بِذِكْرِ أَصْلَيْنِ : أَنَّ الْوَاقِفَ إنَّمَا وَقَفَ الْوُقُوفَ بَعْدَ مَوْتِهِ لِيَنْتَفِعَ بِثَوَابِهِ وَأَجْرِهِ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَنْتَفِعُ الْمَيِّتُ إلَّا بِالْأَجْرِ وَالثَّوَابِ . وَلِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَ مَا قَدْ يُقْصَدُ بِهِ مَنْفَعَةُ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا لَا يُقْصَدُ بِهِ إلَّا الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ . فَالْأَوَّلُ : كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ فَهَذَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَبْذُلَ مَالَهُ فِيهَا لِيَحْصُلَ أَغْرَاضًا مُبَاحَةً دُنْيَوِيَّةً وَمُسْتَحَبَّةً وَدِينِيَّةً بِخِلَافِ الْأَغْرَاضِ الْمُحَرَّمَةِ . وَأَمَّا الْوَقْفُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْذُلَ مِلْكَهُ إلَّا فِيمَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا بَذَلَهُ فِيمَا لَا يَنْفَعُهُ فِي الدِّينِ وَالْوَقْفُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الدُّنْيَا صَارَ بَذْلُ الْمَالِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ تَعُودُ إلَيْهِ ؛ لَا فِي دِينِهِ وَلَا فِي دُنْيَاهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ . وَلِهَذَا فَرَّقَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ الْوَقْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ وَعَلَى جِهَةٍ . فَلَوْ وَقَفَ أَوْ وَصَّى لِمُعَيَّنِ جَازَ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا ذِمِّيًّا لِأَنَّ صِلَتَهُ مَشْرُوعَةٌ . كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } وَمِثْلِ حَدِيثِ
{
أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا قَدِمَتْ أُمُّهَا وَكَانَتْ مُشْرِكَةً
فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ
أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : صِلِي أُمَّك } وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَفِي
ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ
تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }
وقَوْله تَعَالَى { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إلَّا
ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكُمْ
وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } . فَبَيَّنَ أَنَّ عَطِيَّةَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ
إنَّمَا يُعْطُونَهَا لِوَجْهِ اللَّهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فِي كُلِّ ذَاتِ
كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ } فَإِذَا أَوْصَى أَوْ وَقَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ وَكَانَ
كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا لَمْ يَكُنْ الْكُفْرُ وَالْفِسْقُ هُوَ سَبَبُ
الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا شَرْطًا فِيهِ بَلْ هُوَ يَسْتَحِقُّ مَا أَعْطَاهُ وَإِنْ
كَانَ مُسْلِمًا عَدْلًا فَكَانَتْ الْمَعْصِيَةُ عَدِيمَةَ التَّأْثِيرِ
بِخِلَافِ مَا لَوْ جَعَلَهَا شَرْطًا فِي ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْكُفَّارِ
وَالْفُسَّاقِ أَوْ عَلَى الطَّائِفَةِ الْفُلَانِيَّةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا
كُفَّارًا أَوْ فُسَّاقًا فَهَذَا الَّذِي لَا رَيْبَ فِي بُطْلَانِهِ عِنْدَ
الْعُلَمَاءِ .
وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ مُبَاحَةٍ كَالْوَقْفِ عَلَى
الْأَغْنِيَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ وَالصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّ
عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْأُصُولُ أَنَّهُ بَاطِلٌ أَيْضًا لِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي مَالِ الْفَيْءِ : { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً
بَيْنَ
الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ شَرَعَ مَا ذَكَرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ الْفَيْءُ مُتَدَاوَلًا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ ؛ دُونَ الْفُقَرَاءِ فَعُلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَكْرَهُ هَذَا وَيَنْهَى عَنْهُ وَيَذُمُّهُ فَمَنْ جَعَلَ الْوَقْفَ لِلْأَغْنِيَاءِ فَقَطْ فَقَدْ جَعَلَ الْمَالَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ فَيَتَدَاوَلُونَهُ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ دُونَ الْفُقَرَاءِ وَهَذَا مُضَادٌّ لِلَّهِ فِي أَمْرِهِ وَدِينِهِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا سَبْقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ } فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ بَذْلِ السَّبْقِ إلَّا فِيمَا يُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْجِهَادِ مَعَ أَنَّهُ بَذْلٌ لِذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ فِي الْوَقْفِ . وَهَذَا بَيِّنٌ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَذْلَ الْمَالِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْفَعَةِ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا . وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ سَفِيهًا وَحُجِرَ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَحْجُرُونَ عَلَى السَّفِيهِ وَكَانَ مُبَذِّرًا لِمَالِهِ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ تَبْذِيرِ الْمَالِ { وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } وَهُوَ إنْفَاقُهُ فِي غَيْرِ مَصْلَحَةٍ وَكَانَ مُضَيِّعًا لِمَالِهِ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ الْمُغِيرَةِ
ابْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ } . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } . وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هَذَا مِثْلُ تَوْكِيلِ السَّفِيهِ وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ مَالَهُ إلَى وَلَدِهِ السَّفِيهِ أَوْ امْرَأَتِهِ السَّفِيهَةِ فَيُنْفِقَانِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ تَحْتَ أَمْرِهِمَا . وَقَالَ آخَرُونَ : ذَلِكَ أَنْ يُسَلِّمَ إلَى السَّفِيهِ مَالَ نَفْسِهِ فَإِنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ تَسْلِيمِ مَالِ نَفْسِهِ إلَيْهِ إلَّا إذَا أُونِسَ مِنْهُ الرَّشَدُ . وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى النَّوْعَيْنِ كِلَيْهِمَا : فَقَدْ نَهَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ السَّفِيهَ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ : بِالْوِكَالَةِ أَوْ الْوِلَايَةِ . وَصَرْفُ الْمَالِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ وَلَا الدُّنْيَا مِنْ أَعْظَمِ السَّفَهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي الشَّرْعِ . إذَا عُرِفَ هَذَا : فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَاقِفَ لَا يَنْتَفِعُ بِوَقْفِهِ فِي الدُّنْيَا كَمَا يَنْتَفِعُ بِمَا يَبْذُلُهُ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدِّينِ إنْ لَمْ يُنْفِقْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَسَبِيلُ اللَّهِ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يُثِيبُ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَنْفَقُوهُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَأَمَّا مَا لَا يُحِبُّهُ فَلَا ثَوَابَ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ . وَنَفَقَةُ
الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ وَاجِبَةٌ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الثَّوَابُ عَلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ الثَّوَابِ عَلَى التَّطَوُّعَاتِ عَلَى الْأَجَانِبِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُبَاحَاتُ الَّتِي لَا يُثِيبُ الشَّارِعُ عَلَيْهَا لَا يُثِيبُ فِي الْإِنْفَاقِ فِيهَا وَالْوَقْفُ عَلَيْهَا . وَلَا يَكُونُ فِي الْوَقْفِ عَلَيْهَا مَنْفَعَةٌ وَثَوَابٌ فِي الدِّينِ وَلَا مَنْفَعَةَ فِي الْوَقْفِ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا . فَالْوَقْفُ عَلَيْهَا خَالٍ مِنْ انْتِفَاعِ الْوَاقِفِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَيَكُونُ بَاطِلًا . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْأَغْنِيَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا بَلْ وَاجِبًا فَإِنَّمَا ذَاكَ إذَا أَعْطَوْا بِسَبَبِ غَيْرِ الْغِنَى : مِنْ الْقَرَابَةِ وَالْجِهَادِ وَالدِّينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَأَمَّا إنْ جُعِلَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْغِنَى وَتَخْصِيصُ الْغَنِيِّ بِالْإِعْطَاءِ مَعَ مُشَارَكَةِ الْفَقِيرِ لَهُ فِي أَسْبَابِ الِاسْتِحْقَاقِ سِوَى الْغِنَى مَعَ زِيَادَةِ اسْتِحْقَاقِ الْفَقِيرِ عَلَيْهِ فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ فِيمَا يُؤَبَّدُ عَلَى الْكُفَّارِ وَنَحْوِهِمْ . وَفِيمَا يُمْنَعُ مِنْهُ التَّوَارُثُ وَهَذَا لَوْ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً رَاجِحَةً وَإِلَّا كَانَ يُمْنَعُ مِنْهُ الْوَاقِفُ لِأَنَّهُ فِيهِ حَبْسُ الْمَالِ عَنْ أَهْلِ الْمَوَارِيثِ وَمَنْ يَنْتَقِلُ إلَيْهِمْ . وَهَذَا مَأْخَذُ مَنْ قَالَ : لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ تَرْكٌ لِقَوْلِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ . فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ بَلْ قَدْ حَبَسَ الْمَالَ
فَمَنَعَهُ
الْوَارِثُ وَسَائِرُ النَّاسِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ وَهُوَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ
فَهَذَا لَا يَجُوزُ تَنْفِيذُهُ بِلَا رَيْبٍ .
ثُمَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا هِيَ فِي الْوَقْفِ عَلَى
الصِّفَاتِ الْمُبَاحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْغِنَى بِالْمَالِ .
وَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ كَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ
وَالْفِقْهِ وَالصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ . وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ الثَّانِي . وَذَلِكَ لَا
يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ أَنْ يُوقِفَ إلَّا عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَأَحَبَّهُ مِنْ هَذِهِ
الْأَعْمَالِ .
فَأَمَّا مَنْ ابْتَدَعَ عَمَلًا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ دِينًا
فَهَذَا يُنْهَى عَنْ عَمَلِ هَذَا الْعَمَلِ فَكَيْفَ يَشْرَعُ لَهُ أَنْ يَقِفَ
عَلَيْهِ الْأَمْوَالَ بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْوَقْفِ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عِبَادَاتٍ وَذَلِكَ مِنْ الدِّينِ الْمُبَدِّلِ أَوْ
الْمَنْسُوخِ . وَلِهَذَا جَعَلْنَا هَذَا أَحَدَ الْأَصْلَيْنِ فِي الْوَقْفِ .
وَذَلِكَ أَنَّ بَابَ الْعِبَادَاتِ وَالدِّيَانَاتِ وَالتَّقَرُّبَاتِ
مُتَلَقَّاةٌ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا
عِبَادَةً أَوْ قُرْبَةً إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ . قَالَ تَعَالَى : { أَمْ
لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ }
وَقَالَ تَعَالَى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : {
المص } { كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ
لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ
مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا
تَذَكَّرُونَ }
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ كَثِيرٌ يَأْمُرُ اللَّهُ فِيهِ بِطَاعَةِ رَسُولِهِ وَاتِّبَاعِ كِتَابِهِ وَيَنْهَى عَنْ اتِّبَاعِ مَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ . وَالْبِدَعُ جَمِيعُهَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الْبِدْعَةَ الشَّرْعِيَّةَ - أَيْ الْمَذْمُومَةَ فِي الشَّرْعِ - هِيَ مَا لَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ فِي الدِّينِ أَيّ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَأَمَّا إنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ الشِّرْعَةِ لَا مِنْ الْبِدْعَةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا عَرَفَ مِنْ أَمْرِهِ : كَإِخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ مَوْتِهِ وَجَمْعِ الْمُصْحَفِ وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الَّذِي أَمَرَ بِذَلِكَ وَإِنْ سَمَّاهُ بِدْعَةً فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ فِي اللُّغَةِ إذْ كُلُّ أَمْرٍ فُعِلَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ مُتَقَدِّمٍ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ بِدْعَةً وَلَيْسَ مِمَّا تُسَمِّيه الشَّرِيعَةُ بِدْعَةً وَيُنْهَى عَنْهُ فَلَا يَدْخُلُ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : كَانَ { رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : إنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } حَقٌّ وَلَيْسَ فِيمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِدْعَةٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ العرباض بْنِ سَارِيَةَ عَنْ
النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ
وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ
مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا ؟ فَقَالَ : أُوصِيكُمْ
بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا
حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا
فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي
تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ
الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَفِي رِوَايَةٍ : { فَإِنَّ كُلَّ
مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَفِي رِوَايَةٍ : { وَكُلَّ
ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ
بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَبَيَّنَ أَنَّ
الْمُحْدَثَاتِ الَّتِي هِيَ الْبِدَعُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا مَا خَالَفَ ذَلِكَ
. فَالتَّرَاوِيحُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ تُعْلَمْ دَلَالَةُ نُصُوصِهِ
وَأَفْعَالِهِ عَلَيْهَا لَكَانَ أَدْنَى أَمْرِهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ سُنَّةِ
الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَلَا تَكُونُ مِنْ الْبِدَعِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي
سَمَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدْعَةً وَنَهَى عَنْهَا
.
وَبِالْجُمْلَةِ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى صَلَاةٍ
أَوْ صِيَامٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ جِهَادٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ
يَصِحَّ وَقْفُهُ : بَلْ هُوَ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَعَنْ الْبَذْلِ
فِيهِ وَالْخِلَافُ الَّذِي بَيْنَهُمْ فِي الْمُبَاحَاتِ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ
هُنَا لِأَنَّ اتِّخَاذَ الشَّيْءِ عِبَادَةً وَاعْتِقَادَ كَوْنِهِ عِبَادَةً
وَعَمَلَهُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ : لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ
أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ - وَاجِبًا
أَوْ مُسْتَحَبًّا فِي الشَّرِيعَةِ - كَانَ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ عِبَادَةً وَالرَّغْبَةُ فِيهِ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ وَمَحَبَّتُهُ وَعَمَلُهُ مَشْرُوعًا . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ فَلَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَا أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَلَا يَتَّخِذُهُ دِينًا وَلَا يُرَغِّبُ فِيهِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ عِبَادَةً . وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ وَهُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُبَاحِ الَّذِي يُفْعَلُ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَبَيْنَ مَا يُتَّخَذُ دِينًا وَعِبَادَةً وَطَاعَةً وَقُرْبَةً وَاعْتِقَادًا وَرَغْبَةً وَعَمَلًا . فَمَنْ جَعَلَ مَا لَيْسَ مَشْرُوعًا وَلَا هُوَ دِينًا وَلَا طَاعَةً وَلَا قُرْبَةً جَعَلَهُ دِينًا وَطَاعَةً وَقُرْبَةً : كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . لَكِنْ قَدْ يَتَنَازَعُ الْعُلَمَاءُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ : هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْقُرَبِ وَالْعِبَادَاتِ ؟ أَمْ لَا ؟ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ الْقَوْلِيَّةِ أَوْ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ حَتَّى قَدْ يَرَى أَحَدُهُمْ وَاجِبًا مَا يَرَاهُ الْآخَرُ حَرَامًا ؛ كَمَا يَرَى بَعْضُهُمْ وُجُوبَ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ ؛ وَيَرَى آخَرُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ ؛ وَيَرَى أَحَدُهُمْ وُجُوبَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ السَّكْرَانِ وَامْرَأَتِهِ إذَا طَلَّقَهَا فِي سُكْرِهِ وَيَرَى الْآخَرُ تَحْرِيمَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا ؛ وَكَمَا يَرَى أَحَدُهُمْ وُجُوبَ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْمَأْمُومِ وَيَرَى الْآخَرُ كَرَاهَةَ قِرَاءَتِهِ : إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا إذَا سَمِعَ جَهْرَ الْإِمَامِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ . كَمَا أَنَّ اعْتِقَادَهَا وَعَمَلَهَا مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ فَبَذْلُ الْمَالِ عَلَيْهَا هُوَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ أَيْضًا وَهُوَ الِاجْتِهَادِيَّةُ .==
========
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق