51. مجموع
الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى :
728هـ)
=== ذَلِكَ الْمَكَانِ فَيَقُولُ لَهُمْ : مَا تَشْتَهُونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ
مِنْ هَذِهِ الْبَرِيَّةِ ؟ فَيَشْتَهِي أَحَدُهُمْ فَاكِهَةً أَوْ حَلَاوَةً
فَيَقُولُ : اُمْكُثُوا ؛ ثُمَّ يَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَيَأْتِي بِمَا
خَبَّأَ أَوْ بِبَعْضِهِ فَيَظُنُّ الْحَاضِرُونَ أَنَّ هَذِهِ كَرَامَةٌ لَهُ
وَكَانَ صَاحِبُ سِيمَا وَشَيَاطِينَ تَخْدِمُهُ أَحْيَانًا كَانُوا مَعَهُ عَلَى
جَبَل أَبِي قبيس فَطَلَبُوا مِنْهُ حَلَاوَةً فَذَهَبَ إلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ
مِنْهُمْ وَجَاءَ بِصَحْنِ حَلْوَى فَكَشَفُوا الْأَمْرَ فَوَجَدُوا ذَلِكَ قَدْ
سُرِقَ مِنْ دُكَّانِ حلاوي بِالْيَمَنِ حَمَلَهُ شَيْطَانٌ مِنْ تِلْكَ
الْبُقْعَةِ . وَمِثْلُ هَذَا يَحْصُلُ كَثِيرًا لِغَيْرِ الْحَلَّاجِ مِمَّنْ
لَهُ حَالٌ شَيْطَانِيٌّ وَنَحْنُ نَعْرِفُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ فِي
زَمَانِنَا وَغَيْرِ زَمَانِنَا : مِثْلَ شَخْصٍ هُوَ الْآنَ بِدِمَشْقَ كَانَ
الشَّيْطَانُ يَحْمِلُهُ مِنْ جَبَلِ الصالحية إلَى قَرْيَةٍ حَوْلَ دِمَشْقَ
فَيَجِيءُ مِنْ الْهَوَى إلَى طَاقَةِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ النَّاسُ
فَيَدْخُلُ وَهُمْ يَرَوْنَهُ . وَيَجِيءُ بِاللَّيْلِ إلَى " بَابِ
الصَّغِيرِ " فَيَعْبُرُ مِنْهُ هُوَ وَرُفْقَتُهُ وَهُوَ مِنْ أَفْجَرِ
النَّاسِ . وَآخَرُ كَانَ بالشويك فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا : "
الشَّاهِدَةُ " يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ إلَى رَأْسِ الْجَبَلِ وَالنَّاسُ
يَرَوْنَهُ وَكَانَ شَيْطَانٌ يَحْمِلُهُ وَكَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ .
وَأَكْثَرُهُمْ شُيُوخُ الشَّرِّ يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ " الْبَوَّيْ "
أَيْ الْمُخْبَثُ يَنْصِبُونَ لَهُ حَرَكَاتٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ
وَيَصْنَعُونَ خُبْزًا عَلَى سَبِيلِ الْقُرُبَاتِ فَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ مَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ وَلَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ
؛ ثُمَّ يَصْعَدُ ذَلِكَ
الْبَوَاء
فِي الْهَوَى وَهُمْ يَرَوْنَهُ . وَيَسْمَعُونَ خِطَابَهُ لِلشَّيْطَانِ
وَخِطَابَ الشَّيْطَانِ لَهُ وَمَنْ ضَحِكَ أَوْ شَرَقَ بِالْخُبْزِ ضَرَبَهُ
الدُّفُّ . وَلَا يَرَوْنَ مَنْ يَضْرِبُ بِهِ . ثُمَّ إنَّ الشَّيْطَانَ
يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ وَيَأْمُرُهُمْ بِأَنْ
يُقَرِّبُوا لَهُ بَقَرًا وَخَيْلًا وَغَيْرَ ذَلِكَ وَأَنْ يَخْنُقُوهَا خَنْقًا
وَلَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا فَإِذَا فَعَلُوا قَضَى حَاجَتَهُمْ .
وَشَيْخٌ آخَرُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ يَزْنِي بِالنِّسَاءِ ويتلوط
بِالصِّبْيَانِ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ " الْحِوَارَات " وَكَانَ
يَقُولُ : يَأْتِينِي كَلْبٌ أَسْوَدُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ نُكْتَتَانِ بَيْضَاوَانِ
فَيَقُولُ لِي : فُلَانٌ إنَّ فُلَانًا نَذَرَ لَك نَذْرًا وَغَدًا يَأْتِيك بِهِ
وَأَنَا قَضَيْت حَاجَتَهُ لِأَجْلِك فَيُصْبِحُ ذَلِكَ الشَّخْصُ يَأْتِيهِ
بِذَلِكَ النَّذْرِ ؛ وَيُكَاشِفُهُ هَذَا الشَّيْخُ الْكَافِرُ . قَالَ : وَكُنْت
إذَا طَلَبَ مِنِّي تَغْيِيرَ مِثْلِ اللَّاذَنِ أَقُولُ حَتَّى أَغِيبَ عَنْ
عَقْلِي ؛ وَإِذْ بِاللَّاذَنِ فِي يَدِي أَوْ فِي فَمِي وَأَنَا لَا أَدْرِي مَنْ
وَضَعَهُ قَالَ : وَكُنْت أَمْشِي وَبَيْنَ يَدَيَّ عَمُودٌ أَسْوَدُ عَلَيْهِ
نُورٌ . فَلَمَّا تَابَ هَذَا الشَّيْخُ وَصَارَ يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَجْتَنِبُ
الْمَحَارِمَ : ذَهَبَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ وَذَهَبَ التَّغْيِيرُ ؛ فَلَا
يُؤْتَى بِلَاذَنِ وَلَا غَيْرِهِ . وَشَيْخٌ آخَرُ كَانَ لَهُ شَيَاطِينُ
يُرْسِلُهُمْ يَصْرَعُونَ بَعْضَ النَّاسِ فَيَأْتِي أَهْلُ ذَلِكَ
الْمَصْرُوعِ
إلَى الشَّيْخِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ إبْرَاءَهُ فَيُرْسِلُ إلَى أَتْبَاعِهِ فَيُفَارِقُونَ
ذَلِكَ الْمَصْرُوعَ وَيُعْطُونَ ذَلِكَ الشَّيْخَ دَرَاهِمَ كَثِيرَةً . وَكَانَ
أَحْيَانًا تَأْتِيهِ الْجِنُّ بِدَرَاهِمَ وَطَعَامٍ تَسْرِقُهُ مِنْ النَّاسِ
حَتَّى إنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ لَهُ تِينٌ فِي كوارة فَيَطْلُبُ الشَّيْخُ
مِنْ شَيَاطِينِهِ تِينًا فَيُحْضِرُونَهُ لَهُ فَيَطْلُبُ أَصْحَابُ
الْكُوَّارَةِ التِّينَ فَوَجَدُوهُ قَدْ ذَهَبَ . وَآخَرُ كَانَ مُشْتَغِلًا
بِالْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ فَجَاءَتْهُ الشَّيَاطِينُ أَغْرَتْهُ وَقَالُوا لَهُ
: نَحْنُ نُسْقِطُ عَنْك الصَّلَاةَ وَنُحْضِرُ لَك مَا تُرِيدُ . فَكَانُوا
يَأْتُونَهُ بِالْحَلْوَى وَالْفَاكِهَةِ حَتَّى حَضَرَ عِنْدَ بَعْضِ الشُّيُوخِ
الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ فَاسْتَتَابَهُ وَأَعْطَى أَهْلَ الْحَلَاوَةِ ثَمَنَ
حَلَاوَتِهِمْ الَّتِي أَكَلَهَا ذَلِكَ الْمَفْتُونُ بِالشَّيْطَانِ . فَكُلٌّ
مَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَانَ لَهُ حَالٌ : مِنْ مُكَاشَفَةٍ
أَوْ تَأْثِيرٍ ؛ فَإِنَّهُ صَاحِبُ حَالٍ نَفْسَانِيٍّ ؛ أَوْ شَيْطَانِيٍّ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَالٌ بَلْ هُوَ يَتَشَبَّهُ بِأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ
فَهُوَ صَاحِبُ حَالٍ بهتاني . وَعَامَّةُ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ
الشَّيْطَانِيَّةِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْحَالِ الشَّيْطَانِيِّ وَالْحَالِ
البهتاني كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ
الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } . و "
الْحَلَّاجُ " كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ هَؤُلَاءِ : أَهْلُ الْحَالِ
الشَّيْطَانِيِّ وَالْحَالِ البهتاني . وَهَؤُلَاءِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ .
فَأَئِمَّةُ
هَؤُلَاءِ هُمْ شُيُوخُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ مِثْلَ
الْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ الَّذِينَ كَانُوا لِلْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ وَمِثْلَ
الْكُهَّانِ الَّذِينَ هُمْ بِأَرْضِ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْ
هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَجِيءُ بَعْدَ
الْمَوْتِ ؛ فَيُكَلِّمُهُمْ وَيَقْضِي دُيُونَهُ وَيَرُدُّ وَدَائِعَهُ
وَيُوصِيهِمْ بِوَصَايَا فَإِنَّهُمْ تَأْتِيهِمْ تِلْكَ الصُّورَةُ الَّتِي
كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ وَهُوَ شَيْطَانٌ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ ؛
فَيَظُنُّونَهُ إيَّاهُ . وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَسْتَغِيثُ بِالْمَشَايِخِ فَيَقُولُ
: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَوْ يَا شَيْخُ فُلَانٍ اقْضِ حَاجَتِي . فَيَرَى صُورَةَ
ذَلِكَ الشَّيْخِ تُخَاطِبُهُ وَيَقُولُ : أَنَا أَقْضِي حَاجَتَك وَأُطَيِّبُ
قَلْبَك فَيَقْضِي حَاجَتَهُ أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ عَدُوَّهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ
شَيْطَانًا قَدْ تَمَثَّلَ فِي صُورَتِهِ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَدَعَا
غَيْرَهُ . وَأَنَا أَعْرِفُ مِنْ هَذَا وَقَائِعُ مُتَعَدِّدَةٌ ؛ حَتَّى إنَّ
طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِي ذَكَرُوا أَنَّهُمْ اسْتَغَاثُوا بِي فِي شَدَائِدَ
أَصَابَتْهُمْ . أَحَدُهُمْ كَانَ خَائِفًا مِنْ الْأَرْمَنِ وَالْآخَرُ كَانَ
خَائِفًا مِنْ التتر : فَذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَغَاثَ بِي
رَآنِي فِي الْهَوَاءِ وَقَدْ دَفَعْت عَنْهُ عَدُوَّهُ . فَأَخْبَرْتهمْ أَنِّي
لَمْ أَشْعُرْ بِهَذَا وَلَا دَفَعْت عَنْكُمْ شَيْئًا ؛ وَإِنَّمَا هَذَا
الشَّيْطَانُ تَمَثَّلَ لِأَحَدِهِمْ فَأَغْوَاهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ
تَعَالَى . وَهَكَذَا جَرَى لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمَشَايِخِ مَعَ
أَصْحَابِهِمْ ؛ يَسْتَغِيثُ أَحَدُهُمْ بِالشَّيْخِ فَيَرَى
الشَّيْخَ
قَدْ جَاءَ وَقَضَى حَاجَتَهُ وَيَقُولُ ذَلِكَ الشَّيْخُ : إنِّي لَمْ أَعْلَمِ
بِهَذَا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَيْطَانًا . وَقَدْ قُلْت لِبَعْضِ
أَصْحَابِنَا لَمَّا ذَكَرَ لِي أَنَّهُ اسْتَغَاثَ بِاثْنَيْنِ كَانَ
يَعْتَقِدُهُمَا وَأَنَّهُمَا أَتَيَاهُ فِي الْهَوَاءِ ؛ وَقَالَا لَهُ طَيِّبِ قَلْبَك
نَحْنُ نَدْفَعُ عَنْك هَؤُلَاءِ وَنَفْعَلُ وَنَصْنَعُ . قُلْت لَهُ : فَهَلْ
كَانَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ؟ فَقَالَ : لَا . فَكَانَ هَذَا مِمَّا دَلَّهُ عَلَى
أَنَّهُمَا شَيْطَانَانِ ؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ وَإِنْ كَانُوا يُخْبِرُونَ
الْإِنْسَانَ بِقَضِيَّةِ أَوْ قِصَّةٍ فِيهَا صِدْقٌ فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ
أَضْعَافَ ذَلِكَ كَمَا كَانَتْ الْجِنُّ يُخْبِرُونَ الْكُهَّانَ . وَلِهَذَا
مَنْ اعْتَمَدَ عَلَى مُكَاشَفَتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَخْبَارِ الْجِنِّ كَانَ
كَذِبُهُ أَكْثَرَ مِنْ صِدْقِهِ ؛ كَشَيْخِ كَانَ يُقَالُ لَهُ : " الشياح
" توبناه وَجَدَّدْنَا إسْلَامَهُ كَانَ لَهُ قَرِينٌ مِنْ الْجِنِّ يُقَالُ
لَهُ : " عَنْتَرٌ " يُخْبِرُهُ بِأَشْيَاءَ فَيَصْدُقُ تَارَةً
وَيَكْذِبُ تَارَةً فَلَمَّا ذَكَرْت لَهُ أَنَّك تَعْبُدُ شَيْطَانًا مِنْ دُونِ
اللَّهِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ : يَا عَنْتَرُ لَا سُبْحَانَك ؛ إنَّك
إلَهٌ قَذِرٌ وَتَابَ مِنْ ذَلِكَ فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ . وَقَدْ قَتَلَ سَيْفُ
الشَّرْعِ مَنْ قَتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ مِثْلَ الشَّخْصِ الَّذِي قَتَلْنَاهُ
سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَكَانَ لَهُ قَرِينٌ يَأْتِيهِ وَيُكَاشِفُهُ فَيَصْدُقُ
تَارَةً وَيَكْذِبُ تَارَةً وَقَدْ انْقَادَ لَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَنْسُوبِينَ
إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالرِّئَاسَةِ فَيُكَاشِفُهُمْ حَتَّى كَشَفَهُ اللَّهُ
لَهُمْ . وَذَلِكَ أَنَّ الْقَرِينَ كَانَ تَارَةً يَقُولُ لَهُ : أَنَا رَسُولُ
اللَّهِ وَيَذْكُرُ أَشْيَاءَ
تُنَافِي
حَالَ الرَّسُولِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الرَّسُولَ يَأْتِينِي
وَيَقُولُ لِي كَذَا وَكَذَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَكْفُرُ مَنْ أَضَافَهَا
إلَى الرَّسُولِ ؛ فَذَكَرْت لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ
الْكُهَّانِ وَأَنَّ الَّذِي يَرَاهُ شَيْطَانًا ؛ وَلِهَذَا لَا يَأْتِيهِ فِي
الصُّورَةِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ
يَأْتِيهِ فِي صُورَةٍ مُنَكَّرَةٍ وَيَذْكُرُ عَنْهُ أَنَّهُ يَخْضَعُ لَهُ ؛
وَيُبِيحُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمُسْكِرَ وَأُمُورًا أُخْرَى . وَكَانَ
كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ
الرُّؤْيَةِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي أَنَّهُ رَأَى تِلْكَ الصُّورَةَ ؛
لَكِنْ كَانَ كَافِرًا فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ . وَمِثْلُ
هَذَا كَثِيرٌ . وَلِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تنزلات شَيْطَانِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا
فَعَلُوهُ مِنْ مُرَادِ الشَّيْطَانِ ؛ فَكُلَّمَا بَعُدُوا عَنْ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ قَرُبُوا
مِنْ الشَّيْطَانِ . فَيَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ ؛ وَالشَّيْطَانُ طَارَ بِهِمْ .
وَمِنْهُمْ مِنْ يَصْرَعُ الْحَاضِرِينَ وَشَيَاطِينُهُ صَرَعَتْهُمْ . وَمِنْهُمْ
مَنْ يُحْضِرُ طَعَامًا وَإِدَامًا وَمَلَأَ الْإِبْرِيقَ مَاءً مِنْ الْهَوَاءِ
وَالشَّيَاطِينُ فَعَلَتْ ذَلِكَ فَيَحْسَبُ الْجَاهِلُونَ أَنَّ هَذِهِ
كَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ
أَحْوَالِ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ وَأَمْثَالِهِمْ . وَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ
بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ والنفسانية اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ
بِالْبَاطِلِ وَمَنْ لَمْ يُنَوِّرْ اللَّهُ قَلْبَهُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ
وَاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ لَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَ الْمُحِقِّ مِنْ
الْمُبْطِلِ
؛ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالْحَالُ كَمَا الْتَبَسَ عَلَى النَّاسِ
حَالُ مُسَيْلِمَةَ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَذَّابِينَ فِي
زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ ؛ وَإِنَّمَا هُمْ كَذَّابُونَ وَقَدْ قَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى
يَكُونَ فِيكُمْ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ
رَسُولُ اللَّهِ } . وَأَعْظَمُ الدَّجَاجِلَةِ فِتْنَةً " الدَّجَّالُ
الْكَبِيرُ " الَّذِي يَقْتُلُهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ؛ فَإِنَّهُ مَا
خَلَقَ اللَّهُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَعْظَمَ مِنْ
فِتْنَتِهِ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِيذُوا مِنْ فِتْنَتِهِ فِي
صَلَاتِهِمْ . وَقَدْ ثَبَتَ " أَنَّهُ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ : أَمْطِرِي ؛
فَتُمْطِرُ ؛ وَلِلْأَرْضِ أَنْبِتِي فَتُنْبِتُ " " وَأَنَّهُ يَقْتُلُ
رَجُلًا مُؤْمِنًا ؛ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ قُمْ فَيَقُومُ ؛ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّك
؛ فَيَقُولُ لَهُ كَذَبْت ؛ بَلْ أَنْتَ الْأَعْوَرُ الْكَذَّابُ الَّذِي
أَخْبَرَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهِ
مَا ازْدَدْت فِيك إلَّا بَصِيرَةً فَيَقْتُلُهُ مَرَّتَيْنِ فَيُرِيدُ أَنْ
يَقْتُلَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَلَا يُسَلِّطُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ " وَهُوَ
يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ . وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ تُنَافِي مَا يَدَّعِيهِ : أَحَدُهَا
" { أَنَّهُ أَعْوَرُ ؛ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ } .
وَالثَّانِيَةُ " { أَنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ يَقْرَؤُهُ
كُلُّ مُؤْمِنٍ مِنْ قَارِئٍ وَغَيْرِ قَارِئٍ } . وَالثَّالِثَةُ قَوْلُهُ :
" { وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ } .
فَهَذَا
هُوَ الدَّجَّالُ الْكَبِيرُ وَدُونَهُ دَجَاجِلَةُ مِنْهُمْ مِنْ يَدَّعِي
النُّبُوَّةَ ؛ وَمِنْهُمْ مِنْ يُكَذَّبُ بِغَيْرِ ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ ؛
كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { يَكُونُ فِي آخِرِ
الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا
أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ } . فَالْحَلَّاجُ كَانَ
مِنْ الدَّجَاجِلَةِ بِلَا رَيْبٍ ؛ وَلَكِنْ إذَا قِيلَ : هَلْ تَابَ قَبْلَ
الْمَوْتِ أَمْ لَا ؟ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ ؛ فَلَا يَقُولُ مَا لَيْسَ لَهُ
بِهِ عِلْمٌ ؛ وَلَكِنْ ظَهَرَ عَنْهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ مَا
أَوْجَبَ كُفْرَهُ وَقَتْلَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بِهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ " الْمُعِزِّ مَعْدِ بْنِ تَمِيمٍ " الَّذِي بَنَى الْقَاهِرَةَ
وَالْقَصْرَيْنِ : هَلْ كَانَ شَرِيفًا فَاطِمِيًّا ؟ وَهَلْ كَانَ هُوَ
وَأَوْلَادُهُ مَعْصُومِينَ ؟ وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ ؟
وَإِنْ كَانُوا لَيْسُوا أَشْرَافًا : فَمَا الْحُجَّةُ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ
؟ وَإِنْ كَانُوا عَلَى خِلَافِ الشَّرِيعَةِ : فَهَلْ هُمْ " بُغَاةٌ "
أَمْ لَا ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ
الْمُعْتَمَدِينَ الَّذِينَ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِمْ ؟ وَلْتَبْسُطُوا الْقَوْلَ
فِي ذَلِكَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ هُوَ أَوْ أَحَدٌ مِنْ
أَوْلَادِهِ أَوْ نَحْوِهِمْ كَانُوا مَعْصُومِينَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَإِ
كَمَا يَدَّعِيهِ الرَّافِضَةُ فِي " الِاثْنَيْ عَشَرَ " فَهَذَا
الْقَوْلُ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الرَّافِضَةِ بِكَثِيرِ ؛ فَإِنَّ الرَّافِضَةَ
ادَّعَتْ ذَلِكَ فِيمَنْ لَا شَكَّ فِي إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ بَلْ فِيمَنْ لَا
يُشَكُّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ : كَعَلِيِّ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ .
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ
وَالْإِيمَانِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ ؛
وَأَنَّهُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ ؛ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ
فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ . بَلْ كَانَ
مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ وَلَا تَجِبُ
طَاعَةُ مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ وَلَا
يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ وَالْإِيمَانُ
بِهِ
فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ وَلَا تَكُونُ مُخَالَفَتُهُ فِي
ذَلِكَ كُفْرًا ؛ بِخِلَافِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ بَلْ إذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ
نُظَرَائِهِ وَجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ النَّظَرُ فِي قَوْلَيْهِمَا وَأَيُّهُمَا
كَانَ أَشْبَهَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَابَعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَأَمَرَ عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرَّدِّ إلَى
اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ ؛ إذْ الْمَعْصُومُ لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا . وَمَنْ
عَلِمَ أَنَّهُ قَالَ الْحَقَّ فِي مَوَارِدَ النِّزَاعِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ كَمَا
لَوْ ذَكَرَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَدِيثًا ثَابِتًا عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصِدُ بِهِ قَطْعَ
النِّزَاعِ . أَمَّا وُجُوبُ اتِّبَاعِ الْقَائِلِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ مِنْ
غَيْرِ ذِكْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا يَقُولُ فَلَيْسَ بِصَحِيحِ ؛
بَلْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ " مَرْتَبَةُ الرَّسُولِ " الَّتِي لَا
تَصْلُحُ إلَّا لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ
تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } وَقَالَ
تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا
دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
} وَقَالَ : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } وَقَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } {
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا
خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { رُسُلًا
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ
بَعْدَ الرُّسُلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولًا } وَقَالَ تَعَالَى : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ
وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } . وَأَمْثَالُ
هَذِهِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ بَيَّنَ فِيهِ سَعَادَةَ مَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ
وَاتَّبَعَهُمْ وَأَطَاعَهُمْ وَشَقَاوَةَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ وَلَمْ
يَتَّبِعْهُمْ ؛ بَلْ عَصَاهُمْ . فَلَوْ كَانَ غَيْرُ الرَّسُولِ مَعْصُومًا
فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ لَكَانَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمَ
الرَّسُولِ . وَالنَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ إلَى الْخَلْقِ رَسُولٌ إلَيْهِمْ ؛
بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُبْعَثْ إلَيْهِمْ . فَمَنْ كَانَ آمِرًا نَاهِيًا
لِلْخَلْقِ : مِنْ إمَامٍ وَعَالِمٍ وَشَيْخٍ وَأُولِي أَمْرٍ غَيْرَ هَؤُلَاءِ
مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِهِمْ وَكَانَ مَعْصُومًا : كَانَ بِمَنْزِلَةِ
الرَّسُولِ فِي ذَلِكَ وَكَانَ مَنْ أَطَاعَهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ
عَصَاهُ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ كَمَا يَقُولُهُ الْقَائِلُونَ بِعِصْمَةِ عَلِيٍّ
أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ مَنْ أَطَاعَهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا ؛
وَمَنْ عَصَاهُ يَكُونُ كَافِرًا ؛ وَكَانَ هَؤُلَاءِ كَأَنْبِيَاءِ بَنِي
إسْرَائِيلَ ؛ فَلَا
يَصِحُّ
حِينَئِذٍ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا
نَبِيَّ بَعْدِي } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : " { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إنَّ
الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا إنَّمَا وَرَّثُوا
الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّ وَافِرٍ } . فَغَايَةُ
الْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ
يَكُونُوا وَرَثَةَ أَنْبِيَاءٍ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ
الصَّحِيحَةِ وَالْإِجْمَاعِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لِلصِّدِّيقِ فِي تَأْوِيلِ رُؤْيَا عَبَّرَهَا : أَصَبْت بَعْضًا
وَأَخْطَأْت بَعْضًا } وَقَالَ الصِّدِّيقُ : أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللَّهَ
فَإِذَا عَصَيْت اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ وَغَضِبَ مَرَّةً عَلَى
رَجُلٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ : دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ فَقَالَ لَهُ :
أَكُنْت فَاعِلًا قَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ : مَا كَانَتْ لِأَحَدِ بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ
عَلَى أَنْ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا قُتِلَ وَمَنْ سَبَّ غَيْرَ النَّبِيِّ لَا يُقْتَلُ
بِكُلِّ سَبٍّ سَبَّهُ ؛ بَلْ يُفَصَّلُ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ مَنْ قَذَفَ أُمَّ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ
كَافِرًا ؛ لِأَنَّهُ قَدَحَ فِي نَسَبِهِ وَلَوْ قَذَفَ غَيْرَ أُمِّ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ بَرَاءَتَهَا لَمْ
يُقْتَلْ " . وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَانَ يُقِرُّ عَلَى
نَفْسِهِ فِي مَوَاضِعَ بِمِثْلِ هَذِهِ فَيَرْجِعُ عَنْ أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ إذَا
تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فِي خِلَافِ مَا قَالَ وَيَسْأَلُ الصَّحَابَةَ عَنْ
بَعْضِ السُّنَّةِ حَتَّى يَسْتَفِيدَهَا مِنْهُمْ وَيَقُولَ فِي مَوَاضِعَ :
وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَوْ أَخْطَأَهُ . وَيَقُولُ :
امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { قَدْ
كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ ؛ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ
فَعُمَرُ } وَفِي التِّرْمِذِيِّ : " { لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ
فِيكُمْ عُمَرُ } وَقَالَ : " { إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ
عُمَرَ وَقَلْبِهِ } فَإِذَا كَانَ الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ الَّذِي ضَرَبَ
اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ يَشْهَدُ
عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ
الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا مَنْزِلَتَهُ فَإِنَّ أَهْلَ
الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَعْلَمُ مِنْ سَائِرِ
الصَّحَابَةِ وَأَعْظَمُ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ سَائِرِهِمْ وَأَوْلَى
بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ مِنْهُمْ وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ
الْمُتَوَاتِرِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : " { خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو
بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ } رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا أوتى بِأَحَدِ يُفَضِّلُنِي عَلَى
أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي . وَالْأَقْوَالُ
الْمَأْثُورَةُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ كَثِيرَةٌ
.
بَلْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَا يُحْفَظُ لَهُ فُتْيَا أَفْتَى فِيهَا
بِخِلَافِ نَصِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وُجِدَ
لِعَلِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِمَّا وُجِدَ
لِعُمَرِ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُنَاظِرُ بَعْضَ فُقَهَاءِ
الْكُوفَةِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ فَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ عَلِيٍّ
فَصَنَّفَ كِتَابَ " اخْتِلَافُ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
" وَبَيَّنَ فِيهِ مَسَائِلَ كَثِيرَةً تُرِكَتْ مِنْ قَوْلِهِمَا ؛
لِمَجِيءِ السُّنَّةِ بِخِلَافِهَا وَصَنَّفَ بَعْدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ
الْمَرْوَزِي كِتَابًا أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَرَكَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ
الْمُعْتَدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ
أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا
وَاتَّفَقَتْ أَئِمَّةُ الْفُتْيَا عَلَى قَوْلِ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ
وَغَيْرِهِمَا فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهَا إذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا حَلَّتْ لِمَا
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْ سبيعة الأسلمية
كَانَتْ قَدْ وَضَعَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو
السَّنَابِلِ بْنُ بعكك فَقَالَ : مَا أَنْتَ بِنَاكِحِ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْك
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَسَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ . حَلَلْت
فَانْكِحِي } فَكَذَّبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَالَ
بِهَذِهِ الْفُتْيَا . وَكَذَلِكَ الْمُفَوَّضَةُ الَّتِي تَزَوَّجَهَا زَوْجُهَا
وَمَاتَ عَنْهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا مَهْرًا قَالَ فِيهَا عَلِيٌّ وَابْنُ
عَبَّاسٍ إنَّهَا لَا مَهْرَ لَهَا وَأَفْتَى فِيهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ
أَنَّ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ فَقَالَ : نَشْهَدُ
" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بروع
بِنْتِ وَاشِقٍ بِمَثَلِ مَا قَضَيْت بِهِ فِي هَذِهِ " . وَمِثْلُ هَذَا
كَثِيرٌ وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ وَابْنَاهُ وَغَيْرُهُمْ يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا فِي الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا كَمَا يُخَالِفُ سَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَوْ كَانُوا مَعْصُومِينَ لَكَانَ مُخَالَفَةُ الْمَعْصُومِ
لِلْمَعْصُومِ مُمْتَنِعَةً وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ فِي أَمْرِ الْقِتَالِ
يُخَالِفُ أَبَاهُ وَيَكْرَهُ كَثِيرًا مِمَّا يَفْعَلُهُ وَيَرْجِعُ عَلِيٌّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إلَى رَأْيِهِ وَكَانَ يَقُولُ :
لَئِنْ عَجَزْت عجزة لَا أَعْتَذِرْ * * * سَوْفَ أُكِيسُ بَعْدَهَا وَأَسْتَمِرُّ
وَأُجْبَرُ الرَّأْيَ النَّسِيبَ المنتشر
وَتَبَيَّنَ
لَهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ أَنْ لَوْ فَعَلَ غَيْرَ الَّذِي كَانَ فَعَلَهُ لَكَانَ
هُوَ الْأَصْوَبَ وَلَهُ فَتَاوَى رَجَعَ بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ كَقَوْلِهِ فِي
أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَإِنَّ لَهُ فِيهَا قَوْلَيْنِ " أَحَدُهُمَا
" الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهِنَّ . " وَالثَّانِي " إبَاحَةُ ذَلِكَ .
وَالْمَعْصُومُ لَا يَكُونُ لَهُ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ
أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّنَّةُ اسْتَقَرَّتْ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا بَعْدَهُ
نَسْخٌ إذْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَقَدْ وَصَّى الْحَسَنُ أَخَاهُ الْحُسَيْنَ
بِأَنْ لَا يُطِيعَ أَهْلَ الْعِرَاقِ وَلَا يَطْلُبَ هَذَا الْأَمْرَ وَأَشَارَ
عَلَيْهِ بِذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ
يَتَوَلَّاهُ وَيُحِبُّهُ وَرَأَوْا أَنَّ مَصْلَحَتَهُ وَمَصْلَحَةَ
الْمُسْلِمِينَ أَلَّا يَذْهَبَ إلَيْهِمْ لَا يُجِيبُهُمْ إلَى مَا قَالُوهُ مِنْ
الْمَجِيءِ إلَيْهِمْ وَالْقِتَالِ مَعَهُمْ ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ
الْمَصْلَحَةَ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَ
مَا رَآهُ مَصْلَحَةً وَالرَّأْيُ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ . وَالْمَعْصُومُ لَيْسَ
لِأَحَدِ أَنْ يُخَالِفَهُ ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ مَعْصُومًا آخَرَ ؛
إلَّا أَنْ يَكُونَا عَلَى شَرِيعَتَيْنِ كَالرَّسُولَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ
شَرِيعَتَهُمَا وَاحِدَةٌ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ . " وَالْمَقْصُودُ " أَنَّ مَنْ ادَّعَى عِصْمَةَ
هَؤُلَاءِ السَّادَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى
وَالْجَنَّةِ : هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالِ وَالْجَهَالَةِ وَلَمْ يَقُلْ هَذَا
الْقَوْلَ مَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ ؛ بَلْ وَلَا مَنْ لَهُ عَقْلٌ
مَحْمُودٌ .
فَكَيْفَ
تَكُونُ الْعِصْمَةُ فِي ذُرِّيَّةِ " عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ
الْقَدَّاحِ " مَعَ شُهْرَةِ النِّفَاقِ وَالْكَذِبِ وَالضَّلَالِ وَهَبْ
أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ : فَلَا رَيْبَ أَنَّ سِيرَتَهُمْ مِنْ سِيرَةِ
الْمُلُوكِ وَأَكْثَرِهَا ظُلْمًا وَانْتِهَاكًا لِلْمُحَرَّمَاتِ وَأَبْعَدِهَا
عَنْ إقَامَةِ الْأُمُورِ وَالْوَاجِبَاتِ وَأَعْظَمَ إظْهَارًا لِلْبِدَعِ
الْمُخَالَفَةُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِعَانَةً لِأَهْلِ النِّفَاقِ
وَالْبِدْعَةِ . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دَوْلَةَ بَنِي
أُمَيَّةَ وَبَنِيَّ الْعَبَّاسِ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ
دَوْلَتِهِمْ وَأَعْظَمُ عِلْمًا وَإِيمَانًا مِنْ دَوْلَتِهِمْ وَأَقَلُّ بِدَعًا
وَفُجُورًا مِنْ بِدْعَتِهِمْ وَأَنَّ خَلِيفَةَ الدَّوْلَتَيْنِ أَطْوَعُ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ مِنْ خُلَفَاءِ دَوْلَتِهِمْ ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِي خُلَفَاءِ
الدَّوْلَتَيْنِ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إنَّهُ مَعْصُومٌ فَكَيْفَ
يَدَّعِي الْعِصْمَةَ مَنْ ظَهَرَتْ عَنْهُ الْفَوَاحِشُ وَالْمُنْكَرَاتُ
وَالظُّلْمُ وَالْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ وَالْعَدَاوَةُ لِأَهْلِ الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى مِنْ الْأُمَّةِ وَالِاطْمِئْنَانُ لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ
فَهُمْ مِنْ أَفْسَقِ النَّاسِ . وَمِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ . وَمَا يَدَّعِي
الْعِصْمَةَ فِي النِّفَاقِ وَالْفُسُوقِ إلَّا جَاهِلٌ مَبْسُوطُ الْجَهْلِ أَوْ
زِنْدِيقٌ يَقُولُ بِلَا عِلْمٍ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ
أَنَّ مَنْ شَهِدَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى أَوْ بِصِحَّةِ النَّسَبِ
فَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَالَ عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ : { وَمَا
شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا } وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يَعْلَمُ
صِحَّةَ نَسَبِهِمْ
وَلَا
ثُبُوتَ إيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ ؛ فَإِنَّ غَايَةَ مَا يَزْعُمُهُ أَنَّهُمْ
كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَالْتِزَامَ شَرَائِعِهِ ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ
أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ ؛ إذْ قَدْ عُرِفَ فِي
الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا
هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا
نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : {
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا
وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ يَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَجَمَاهِيرُهَا أَنَّهُمْ
كَانُوا مُنَافِقِينَ زَنَادِقَةٌ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ
الْكُفْرَ . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ صَارَ
فِي إيمَانِهِمْ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . فَالشَّاهِدُ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ شَاهِدٌ
لَهُمْ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ ؛ إذْ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى
إيمَانِهِمْ مِثْلَ مَا مَعَ مُنَازَعِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نِفَاقِهِمْ
وَزَنْدَقَتِهِمْ وَكَذَلِكَ " النَّسَبُ " قَدْ عُلِمَ أَنَّ جُمْهُورَ
الْأُمَّةِ تَطْعَنُ فِي نَسَبِهِمْ وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ
الْمَجُوسِ أَوْ الْيَهُودِ . هَذَا مَشْهُورٌ مِنْ شَهَادَةِ عُلَمَاءَ
الطَّوَائِفِ : مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ وَعُلَمَاءِ النَّسَبِ
وَالْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ ذَكَرَهُ عَامَّةُ
الْمُصَنِّفِينَ لِأَخْبَارِ النَّاسِ وَأَيَّامِهِمْ حَتَّى بَعْضُ مَنْ قَدْ
يُتَوَقَّفُ فِي أَمْرِهِمْ كَابْنِ الْأَثِيرِ الموصلي فِي تَارِيخِهِ وَنَحْوِهِ
؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا كَتَبَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ بِخُطُوطِهِمْ فِي
الْقَدْحِ فِي نَسَبِهِمْ .
وَأَمَّا
جُمْهُورُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين حَتَّى الْقَاضِي
ابْنُ خِلِّكَان فِي تَارِيخِهِ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا بُطْلَانَ نَسَبِهِمْ
وَكَذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَأَبُو شَامَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ بِذَلِكَ حَتَّى صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ
وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ كَمَا صَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَانِي
كِتَابَهُ الْمَشْهُورَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ وَذَكَرَ
أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةٍ الْمَجُوسِ وَذَكَرَ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ مَا بَيَّنَ
فِيهِ أَنَّ مَذَاهِبَهُمْ شَرٌّ مِنْ مَذَاهِبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ بَلْ
وَمِنْ مَذَاهِبِ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ أَوْ
نُبُوَّتَهُ فَهُمْ أَكْفَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو
يَعْلَى فِي كِتَابِهِ " الْمُعْتَمَدُ " فَصْلًا طَوِيلًا فِي شَرْحِ
زَنْدَقَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي
كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " فَضَائِلُ المستظهرية وَفَضَائِحُ
الْبَاطِنِيَّةِ " قَالَ : ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُ
الْكُفْرُ الْمَحْضُ . وَكَذَلِكَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَد
وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْمُتَشَيِّعَةِ الَّذِينَ لَا يُفَضِّلُونَ
عَلَى عَلِيٍّ غَيْرَهُ ؛ بَلْ يُفَسِّقُونِ مَنْ قَاتَلَهُ وَلَمْ يَتُبْ مِنْ
قِتَالِهِ : يَجْعَلُونَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَكَابِرَ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ
. فَهَذِهِ مَقَالَةُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي حَقِّهِمْ فَكَيْفَ تَكُونُ مَقَالَةُ
أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالرَّافِضَةِ الْإِمَامِيَّةِ - مَعَ
أَنَّهُمْ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ وَأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ
وَلَا دِينٌ صَحِيحٌ وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ - نَعَمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ
مَقَالَةَ هَؤُلَاءِ مَقَالَةُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ ؛ وَيَعْلَمُونَ
أَنَّ مَقَالَةَ هَؤُلَاءِ
الْبَاطِنِيَّةِ
شَرٌّ مِنْ مَقَالَةِ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَأَمَّا الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِمْ فَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ
جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ عُلَمَاءَ الطَّوَائِفِ . وَقَدْ تَوَلَّى
الْخِلَافَةَ غَيْرَهُمْ طَوَائِفُ وَكَانَ فِي بَعْضِهِمْ مِنْ الْبِدْعَةِ
وَالظُّلْمِ مَا فِيهِ ؛ فَلَمْ يَقْدَحْ النَّاسُ فِي نَسَبِ أَحَدٍ مِنْ
أُولَئِكَ كَمَا قَدَحُوا فِي نَسَبِ هَؤُلَاءِ وَلَا نَسَبُوهُمْ إلَى
الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ كَمَا نَسَبُوا هَؤُلَاءِ . وَقَدْ قَامَ مِنْ وَلَدِ
عَلِيٍّ طَوَائِفُ : مِنْ وَلَدِ الْحَسَنِ وَوَلَدِ الْحُسَيْنِ كَمُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ وَأَخِيهِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَسَنٍ وَأَمْثَالِهِمَا . وَلَمْ يَطْعَنْ أَحَدٌ لَا مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَلَا
مِنْ غَيْرِ أَعْدَائِهِمْ لَا فِي نَسَبِهِمْ وَلَا فِي إسْلَامِهِمْ وَكَذَلِكَ
الدَّاعِي الْقَائِمُ بطبرستان وَغَيْرُهُ مِنْ الْعَلَوِيِّينَ وَكَذَلِكَ بَنُو
حمود الَّذِينَ تَغَلَّبُوا بِالْأَنْدَلُسِ مُدَّةً وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ لَمْ
يَقْدَحْ أَحَدٌ فِي نَسَبِهِمْ وَلَا فِي إسْلَامِهِمْ . وَقَدْ قُتِلَ جَمَاعَةٌ
مِنْ الطالبيين عَلَى الْخِلَافَةِ لَا سِيَّمَا فِي الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ
وَحُبِسَ طَائِفَةٌ كَمُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَقْدَحْ
أَعْدَاؤُهُمْ فِي نَسَبِهِمْ وَلَا دِينِهِمْ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ
الْأَنْسَابَ الْمَشْهُورَةَ أَمْرُهَا ظَاهِرٌ مُتَدَارَكٌ مِثْلُ الشَّمْسِ لَا
يَقْدِرُ الْعَدُوُّ أَنْ يُطْفِئَهُ ؛ وَكَذَلِكَ إسْلَامُ الرَّجُلِ وَصِحَّةُ
إيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَالرَّسُولِ أَمْرٌ لَا يَخْفَى وَصَاحِبُ النَّسَبِ
وَالدِّينِ لَوْ أَرَادَ عَدُوَّهُ أَنْ يُبْطِلَ نَسَبَهُ وَدِينَهُ وَلَهُ
هَذِهِ الشُّهْرَةُ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ
الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ عَلَى
ذَلِكَ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ .
وَهَؤُلَاءِ
" بَنُو عَبِيدِ الْقَدَّاحِ " مَا زَالَتْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ
الْمَأْمُونُونَ عِلْمًا وَدِينًا يَقْدَحُونَ فِي نَسَبِهِمْ وَدِينِهِمْ ؛ لَا
يَذُمُّونَهُمْ بِالرَّفْضِ وَالتَّشَيُّعِ ؛ فَإِنَّ لَهُمْ فِي هَذَا شُرَكَاءَ
كَثِيرِينَ ؛ بَلْ يَجْعَلُونَهُمْ " مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ
" الَّذِينَ مِنْهُمْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَمِنْ
جِنْسِهِمْ الخرمية الْمُحَمِّرَةُ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ
الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ
الْكُفْرَ ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ اتِّبَاعَ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ ؛ وَقَدْ وَصَفَ
الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةَ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ الَّذِينَ ابْتَدَعُوهُ
وَوَضَعُوهُ ؛ وَذَكَرُوا مَا بَنَوْا عَلَيْهِ مَذَاهِبَهُمْ ؛ وَأَنَّهُمْ
أَخَذُوا بَعْضَ قَوْلِ الْمَجُوسِ وَبَعْضَ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ ؛ فَوَضَعُوا
لَهُمْ " السَّابِقَ " و " التَّالِيَ " و " الْأَسَاسَ
" و " الْحُجَجَ " و " الدَّعَاوَى " وَأَمْثَالَ ذَلِكَ
مِنْ الْمَرَاتِبِ . وَتَرْتِيبُ الدَّعْوَةِ سَبْعُ دَرَجَاتٍ ؛ آخِرُهَا "
الْبَلَاغُ الْأَكْبَرُ ؛ وَالنَّامُوسُ الْأَعْظَمُ " مِمَّا لَيْسَ هَذَا
مَوْضِعَ تَفْصِيلِ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ شَهِدَ لَهُمْ
بِصِحَّةِ نَسَبٍ أَوْ إيمَانٍ فَأَقَلُّ مَا فِي شَهَادَتِهِ أَنَّهُ شَاهِدٌ
بِلَا عِلْمٍ قَافٍ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ ؛ وَذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ
الْأُمَّةِ ؛ بَلْ مَا ظَهَرَ عَنْهُمْ مِنْ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ
وَمُعَادَاةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ نَسَبِهِمْ الْفَاطِمِيِّ ؛ فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ مِنْ
أَقَارِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَائِمَيْنِ
بِالْخِلَافَةِ فِي أُمَّتِهِ لَا تَكُونُ مُعَادَاتُهُ لِدِينِهِ كَمُعَادَاةِ
هَؤُلَاءِ ؛ فَلَمْ يُعْرَفْ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَلَا وَلَدِ أَبِي طَالِبٍ وَلَا
بَنِي أُمَيَّةَ : مَنْ كَانَ خَلِيفَةً وَهُوَ مُعَادٍ لِدِينِ الْإِسْلَامِ ؛
فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعَادِيًا كَمُعَادَاةِ
هَؤُلَاءِ
؛ بَلْ أَوْلَادُ الْمُلُوكِ الَّذِينَ لَا دِينَ لَهُمْ فَيَكُونُ فِيهِمْ نَوْعُ
حَمِيَّةٍ لِدِينِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ فَمَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ سَيِّدِ
وَلَدِ آدَمَ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ كَيْفَ
يُعَادِي دِينَهُ هَذِهِ الْمُعَادَاةَ ؛ وَلِهَذَا نَجِدُ جَمِيعَ
الْمَأْمُونِينَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مُعَادِينَ
لِهَؤُلَاءِ إلَّا مَنْ هُوَ زِنْدِيقٌ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ جَاهِلٌ
لَا يَعْرِفُ مَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُهُ . وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى
كُفْرِهِمْ وَكَذِبِهِمْ فِي نَسَبِهِمْ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا سُؤَالُ الْقَائِلِ " إنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ
" فَدَعْوَاهُمْ الَّتِي ادَّعَوْهَا مِنْ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ هُوَ
أَعْظَمُ حُجَّةٍ وَدَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُمْ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ ؛ لَا
يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِرَسُولِهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّ هَذَا
الْعِلْمَ الْبَاطِنَ الَّذِي ادَّعَوْهُ هُوَ كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ
وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ بَلْ أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ
أَيْضًا ؛ فَإِنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّ لِلْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ بَوَاطِنَ
تُخَالِفُ الْمَعْلُومَ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي
وَالْأَخْبَارِ . أَمَّا " الْأَوَامِرُ " فَإِنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ
بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَالزَّكَاةِ
الْمَفْرُوضَةِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ .
وَأَمَّا
" النَّوَاهِي " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَأَنْ يُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ
يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ كَمَا حَرَّمَ الْخَمْرَ وَنِكَاحَ
ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالرِّبَا وَالْمَيْسِرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ . فَزَعَمَ
هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ
وَلَكِنْ لِهَذَا بَاطِنٌ يَعْلَمُهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ الْإِسْمَاعِيلِيَّة
الَّذِينَ انْتَسَبُوا إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الَّذِينَ
يَقُولُونَ إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ وَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ
كَقَوْلِهِمْ : " الصَّلَاةُ " مَعْرِفَةُ أَسْرَارِنَا ؛ لَا هَذِهِ
الصَّلَوَاتُ ذَاتُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ . و " الصِّيَامُ
" كِتْمَانُ أَسْرَارِنَا لَيْسَ هُوَ الْإِمْسَاكَ عَنْ الْأَكْلِ
وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ . و " الْحَجُّ " زِيَارَةُ شُيُوخِنَا
الْمُقَدَّسِينَ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ الْمُدَّعُونَ لِلْبَاطِنِ
لَا يُوجِبُونَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَلَا يُحَرِّمُونَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ ؛
بَلْ يَسْتَحِلُّونَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَنِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ
وَالْبَنَاتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ
أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَنْ يَكُونُ هَكَذَا كَيْفَ يَكُونُ
مَعْصُومًا وَأَمَّا " الْأَخْبَارُ " فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ
بِقِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ؛ وَلَا بِمَا وَعَدَ
اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ؛ بَلْ وَلَا بِمَا
أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ؛ بَلْ وَلَا بِمَا ذَكَرَتْهُ
مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ بَلْ أَخْبَارُهُمْ الَّذِي يَتَّبِعُونَهَا
اتِّبَاعَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَشَّائِينَ التَّابِعِينَ لِأَرِسْطُو
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا
بَيْنَ
مَا أَخْبَرَ بِهِ الرُّسُلَ وَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ
" رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ
العبيديين ذُرِّيَّةِ " عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ "
. فَهَلْ يُنْكِرُ أَحَدٌ مِمَّنْ يَعْرِفُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الْيَهُودِ
أَوْ النَّصَارَى : أَنَّ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ
الصَّفَا " مُخَالِفٌ لِلْمِلَلِ الثَّلَاثِ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ
الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَنْطِقِيَّةِ
وَالْإِلَهِيَّةِ وَعُلُومِ الْأَخْلَاقِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْمَنْزِلِ مَا لَا
يُنْكَرُ ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ
وَأَمَرَتْ بِهِ وَالتَّكْذِيبُ بِكَثِيرِ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ وَتَبْدِيلُ
شَرَائِعِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ بِمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَارِفٍ بِمِلَّةِ مِنْ
الْمِلَلِ . فَهَؤُلَاءِ خَارِجُونَ عَنْ الْمِلَلِ الثَّلَاثِ . وَمِنْ
أَكَاذِيبِهِمْ وَزَعْمِهِمْ : أَنَّ هَذِهِ " الرَّسَائِلَ " مِنْ
كَلَامِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ . وَالْعُلَمَاءُ يَعْلَمُونَ
أَنَّهَا إنَّمَا وُضِعَتْ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ زَمَانَ بِنَاءِ
الْقَاهِرَةِ وَقَدْ ذَكَرَ وَاضِعُهَا فِيهَا مَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ
اسْتِيلَاءِ النَّصَارَى عَلَى سَوَاحِلِ الشَّامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ
الْحَوَادِثِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ . وَجَعْفَرُ بْنُ
مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ
وَمِائَةٍ قَبْلَ بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ ؛ إذْ
الْقَاهِرَةُ بُنِيَتْ حَوْلَ السِّتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا فِي "
تَارِيخِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ " . وَيُقَالُ : إنَّ ابْتِدَاءَ بِنَائِهَا
سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَأَنَّهُ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ قَدِمَ
" مَعْدُ بْنُ تَمِيمٍ " مِنْ الْمَغْرِبِ وَاسْتَوْطَنَهَا .
وَمِمَّا
يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ الَّذِينَ يُعْلَمُ خُرُوجُهُمْ مِنْ
دِينِ الْإِسْلَامِ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ مُبَشِّرِ بْنِ فَاتِكٍ أَحَدُ
أُمَرَائِهِمْ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ الْهَيْثَمِ اللَّذَيْنِ كَانَا فِي دَوْلَةِ
الْحُكَّامِ نَازِلَيْنِ قَرِيبًا مِنْ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ . وَابْنُ سِينَا
وَابْنُهُ وَأَخُوهُ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِهِمَا . قَالَ ابْنُ سِينَا :
وَقَرَأْت مِنْ الْفَلْسَفَةِ وَكُنْت أَسْمَعُ أَبِي وَأَخِي يَذْكُرَانِ "
الْعَقْلَ " " وَالنَّفْسَ " وَكَانَ وُجُودُهُ عَلَى عَهْدِ
الْحَاكِمِ وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ مِنْ سِيرَةِ الْحَاكِمِ مَا عَلِمُوهُ وَمَا
فَعَلَهُ هشكين الدُّرْزِيُّ بِأَمْرِهِ مِنْ دَعْوَةِ النَّاسِ إلَى عِبَادَتِهِ
وَمُقَاتَلَتِهِ أَهْلَ مِصْرَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ ذَهَابِهِ إلَى الشَّامِ حَتَّى
أَضَلَّ وَادِيَ التَّيْمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ . وَالزَّنْدَقَةُ وَالنِّفَاقُ
فِيهِمْ إلَى الْيَوْمِ وَعِنْدَهُمْ كُتُبُ الْحَاكِمِ وَقَدْ أَخَذْتهَا
مِنْهُمْ وَقَرَأْت مَا فِيهَا مِنْ عِبَادَتِهِمْ الْحَاكِمَ ؛ وَإِسْقَاطِهِ
عَنْهُمْ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ وَتَسْمِيَةِ
الْمُسْلِمِينَ الْمُوجِبِينَ لِهَذِهِ الْوَاجِبَاتِ الْمُحَرِّمِينَ لِمَا
حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْحَشْوِيَّةِ . إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ
النِّفَاقِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُحْصَى . وَبِالْجُمْلَةِ " فَعِلْمُ
الْبَاطِنِ " الَّذِي يَدَّعُونَ مَضْمُونَهُ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ؛ بَلْ هُوَ جَامِعٌ
لِكُلِّ كُفْرٍ لَكِنَّهُمْ فِيهِ عَلَى دَرَجَاتٍ فَلَيْسُوا مُسْتَوِينَ فِي
الْكُفْرِ ؛ إذْ هُوَ عِنْدَهُمْ سَبْعُ طَبَقَاتٍ كُلُّ طَبَقَةٍ يُخَاطِبُونَ
بِهَا طَائِفَةً مِنْ النَّاسِ بِحَسَبِ بُعْدِهِمْ مِنْ الدِّينِ وَقُرْبِهِمْ
مِنْهُ . وَلَهُمْ أَلْقَابٌ وَتَرْتِيبَاتٌ رَكَّبُوهَا مِنْ مَذْهَبِ الْمَجُوسِ
وَالْفَلَاسِفَةِ وَالرَّافِضَةِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ : " السَّابِقُ " و
" التَّالِي " جَعَلُوهُمَا بِإِزَاءِ " الْعَقْلِ "
و
" النَّفْسِ " كَاَلَّذِي يَذْكُرُهُ الْفَلَاسِفَةُ وَبِإِزَاءِ
النُّورِ وَالظُّلْمَةِ كَاَلَّذِي يَذْكُرُهُ الْمَجُوسُ . وَهُمْ يَنْتَمُونَ
إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ " وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ هُوَ
السَّابِعُ وَيَتَكَلَّمُونَ فِي الْبَاطِنِ وَالْأَسَاسِ وَالْحُجَّةِ وَالْبَابِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ وَصْفُهُمْ . وَمِنْ وَصَايَاهُمْ فِي "
النَّامُوسِ الْأَكْبَرِ وَالْبَلَاغِ الْأَعْظَمِ " أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ " بَابِ التَّشَيُّعِ " وَذَلِكَ
لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الشِّيعَةَ مِنْ أَجْهَلِ الطَّوَائِفِ وَأَضْعَفِهَا
عَقْلًا وَعِلْمًا وَأَبْعَدِهَا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَعَمَلًا
وَلِهَذَا دَخَلَتْ الزَّنَادِقَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ بَابِ
الْمُتَشَيِّعَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا كَمَا دَخَلَ الْكُفَّارُ الْمُحَارِبُونَ
مَدَائِنَ الْإِسْلَامِ بَغْدَادَ بِمُعَاوَنَةِ الشِّيعَةِ كَمَا جَرَى لَهُمْ
فِي دَوْلَةِ التُّرْكِ الْكُفَّارِ بِبَغْدَادَ وَحَلَبَ وَغَيْرِهِمَا ؛ بَلْ
كَمَا جَرَى بِتَغَيُّرِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ فَهُمْ
يُظْهِرُونَ التَّشَيُّعَ لِمَنْ يَدْعُونَهُ وَإِذَا اسْتَجَابَ لَهُمْ نَقَلُوهُ
إلَى الرَّفْضِ وَالْقَدْحِ فِي الصَّحَابَةِ فَإِنْ رَأَوْهُ قَابِلًا نَقَلُوهُ
إلَى الطَّعْنِ فِي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ ثُمَّ نَقَلُوهُ إلَى الْقَدْحِ فِي
نَبِيِّنَا وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالُوا : إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَهُمْ
بَوَاطِنُ وَأَسْرَارٌ تُخَالِفُ مَا عَلَيْهِ أُمَّتُهُمْ وَكَانُوا قَوْمًا أَذْكِيَاءَ
فُضَلَاءَ قَالُوا بِأَغْرَاضِهِمْ الدُّنْيَوِيَّةِ بِمَا وَضَعُوهُ مِنْ
النَّوَامِيسِ الشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ قَدَحُوا فِي الْمَسِيحِ وَنَسَبُوهُ إلَى
يُوسُفَ النَّجَّارِ وَجَعَلُوهُ ضَعِيفَ الرَّأْيِ حَيْثُ تَمَكَّنَ عَدُوُّهُ
مِنْهُ حَتَّى صَلَبَهُ فَيُوَافِقُونَ الْيَهُودَ فِي الْقَدْحِ فِي الْمَسِيحِ ؛
لَكِنْ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِ . فَإِنَّهُمْ يَقْدَحُونَ فِي الْأَنْبِيَاءِ
. وَأَمَّا مُوسَى وَمُحَمَّدٌ فَيُعَظِّمُونَ أَمْرَهُمَا لِتَمَكُّنِهِمَا
وَقَهْرِ
عَدُّوهُمَا
؛ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمَا أَظْهَرَا مَا أَظْهَرَا مِنْ الْكِتَابِ لِذَبِّ
الْعَامَّةِ وَأَنَّ لِذَلِكَ أَسْرَارًا بَاطِنَةً مَنْ عَرَفَهَا صَارَ مِنْ
الكُمَّلِ الْبَالِغِينَ . وَيَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ أَحَلَّ كُلَّ مَا
نَشْتَهِيهِ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَأَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ
بِكُلِّ طَرِيقٍ ؛ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا شَيْءٌ مِمَّا يَجِبُ عَلَى
الْعَامَّةِ : مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ إذْ الْبَالِغُ
عِنْدَهُمْ قَدْ عَرَفَ أَنَّهُ لَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ ؛ وَلَا ثَوَابَ وَلَا
عِقَابَ . وَفِي " إثْبَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ " الْمُبْدِعِ
لِلْعَالِمِ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَئِمَّتِهِمْ تُنْكِرُهُ وَتَزْعُمُ أَنَّ
الْمَشَّائِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ فِي نِزَاعٍ إلَّا فِي وَاجِبِ الْوُجُودِ ؛
وَيَسْتَهِينُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَاسْمِهِ حَتَّى يَكْتُبَ أَحَدُهُمْ اسْمَ
اللَّهِ وَاسْمَ رَسُولِهِ فِي أَسْفَلِهِ ؛ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِهِمْ
كَثِيرٌ . وَذُو الدَّعْوَةِ الَّتِي كَانَتْ مَشْهُورَةً ؛ والْإِسْمَاعِيلِيَّة
الَّذِينَ كَانُوا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ بِقِلَاعِ الألموت وَغَيْرِهَا فِي بِلَادِ
خُرَاسَانَ ؛ وَبِأَرْضِ الْيَمَنِ وَجِبَالِ الشَّامِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ :
كَانُوا عَلَى مَذْهَبٍ العبيديين الْمَسْئُولُ عَنْهُمْ ؛ وَابْنُ الصَّبَاحِ
الَّذِي كَانَ رَأْسَ الْإِسْمَاعِيلِيَّة ؛ وَكَانَ الْغَزَالِيُّ يُنَاظِرُ
أَصْحَابَهُ لَمَّا كَانَ قَدِمَ إلَى مِصْرَ فِي دَوْلَةِ الْمُسْتَنْصِرِ
وَكَانَ أَطْوَلَهُمْ مُدَّةً ؛ وَتَلَقَّى عَنْهُ أَسْرَارَهُمْ . وَفِي دَوْلَةِ
الْمُسْتَنْصِرِ كَانَتْ فِتْنَةُ البساسري فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ سَنَةَ
خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ لَمَّا جَاهَدَ البساسري خَارِجًا عَنْ طَاعَةِ
الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ
وَاتَّفَقَ
مَعَ الْمُسْتَنْصِرِ العبيدي وَذَهَبَ يَحْشُرُ إلَى الْعِرَاقِ وَأَظْهَرُوا فِي
بِلَادِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ شِعَارَ الرَّافِضَةِ كَمَا كَانُوا قَدْ
أَظْهَرُوهَا بِأَرْضِ مِصْرَ وَقَتَلُوا طَوَائِفَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ
وَشُيُوخِهِمْ كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ قَتَلُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِالْمَغْرِبِ
طَوَائِفَ وَأَذَّنُوا عَلَى الْمَنَابِرِ : " حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ
" حَتَّى جَاءَ التُّرْكُ " السَّلَاجِقَةُ " الَّذِينَ كَانُوا
مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ فَهَزَمُوهُمْ وَطَرَدُوهُمْ إلَى مِصْرَ وَكَانَ مِنْ
أَوَاخِرِهِمْ " الشَّهِيدُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ " الَّذِي فَتَحَ
أَكْثَرَ الشَّامِ وَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى ؛ ثُمَّ بَعَثَ
عَسْكَرَهُ إلَى مِصْرَ لَمَّا اسْتَنْجَدُوهُ عَلَى الْإِفْرِنْجِ وَتَكَرَّرَ
دُخُولُ الْعَسْكَرِ إلَيْهَا مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ الَّذِي فَتَحَ مِصْرَ ؛
فَأَزَالَ عَنْهَا دَعْوَةَ العبيديين مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ
وَأَظْهَرَ فِيهَا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ حَتَّى سَكَنَهَا مِنْ حِينَئِذٍ مَنْ
أَظْهَرَ بِهَا دِينَ الْإِسْلَامِ . وَكَانَ فِي أَثْنَاءِ دَوْلَتِهِمْ يَخَافُ
السَّاكِنُ بِمِصْرِ أَنْ يَرْوِيَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقْتَلُ كَمَا حَكَى ذَلِكَ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ
الْحَبَّالُ صَاحِبُ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ وَامْتَنَعَ مِنْ رِوَايَةِ
الْحَدِيثِ خَوْفًا أَنْ يَقْتُلُوهُ وَكَانُوا يُنَادُونَ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ :
مَنْ لَعَنَ وَسَبَّ فَلَهُ دِينَارٌ وَإِرْدَبٌّ . وَكَانَ بِالْجَامِعِ
الْأَزْهَرِ عِدَّةُ مَقَاصِيرَ يُلْعَنُ فِيهَا الصَّحَابَةُ ؛ بَلْ يُتَكَلَّمُ
فِيهَا بِالْكُفْرِ الصَّرِيحِ وَكَانَ لَهُمْ مَدْرَسَةٌ بِقُرْبِ "
الْمَشْهَدِ " الَّذِي بَنَوْهُ وَنَسَبُوهُ إلَى الْحُسَيْنِ وَلَيْسَ فِيهِ
الْحُسَيْنُ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَانُوا لَا
يَدْرُسُونَ فِي مَدْرَسَتِهِمْ عُلُومَ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ الْمَنْطِقَ
وَالطَّبِيعَةَ وَالْإِلَهِيَّ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَقَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ .
وَبَنَوْا أَرْصَادًا عَلَى
الْجِبَالِ
وَغَيْرِ الْجِبَالِ يَرْصُدُونَ فِيهَا الْكَوَاكِبَ يَعْبُدُونَهَا
وَيُسَبِّحُونَهَا ويستنزلون رُوحَانِيَّاتِهَا الَّتِي هِيَ شَيَاطِينُ
تَتَنَزَّلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْكُفَّارِ كَشَيَاطِينِ الْأَصْنَامِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ . " وَالْمُعِزُّ بْنُ تَمِيمِ بْنِ مَعْدٍ " أَوَّلُ مَنْ
دَخَلَ الْقَاهِرَةَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ فَصَنَّفَ كَلَامًا مَعْرُوفًا عِنْدَ
أَتْبَاعِهِ ؛ وَلَيْسَ هَذَا " الْمُعِزَّ بْنَ باديس " فَإِنَّ ذَاكَ
كَانَ مُسْلِمًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَكَانَ رَجُلًا مِنْ مُلُوكِ الْمَغْرِبِ
؛ وَهَذَا بَعْدَ ذَاكَ بِمُدَّةِ . وَلِأَجْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ
الزَّنْدَقَةِ وَالْبِدْعَةِ بَقِيَتْ الْبِلَادُ الْمِصْرِيَّةُ مُدَّةَ
دَوْلَتِهِمْ نَحْوَ مِائَتَيْ سَنَةٍ قَدْ انْطَفَأَ نُورُ الْإِسْلَامِ
وَالْإِيمَانِ حَتَّى قَالَتْ فِيهَا الْعُلَمَاءُ : إنَّهَا كَانَتْ دَارَ
رِدَّةٍ وَنِفَاقٍ كَدَارِ مُسَيْلِمَةِ الْكَذَّابِ . " وَالْقَرَامِطَةِ
" الْخَارِجِينَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ كَانُوا سَلَفًا لِهَؤُلَاءِ
الْقَرَامِطَةِ ذَهَبُوا مِنْ الْعِرَاقِ إلَى الْمَغْرِبِ ثُمَّ جَاءُوا مِنْ
الْمَغْرِبِ إلَى مِصْرَ ؛ فَإِنَّ كُفْرَ هَؤُلَاءِ وَرِدَّتَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ
الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ وَهُمْ أَعْظَمُ كُفْرًا وَرِدَّةً مِنْ كُفْرِ أَتْبَاعِ
مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْكَذَّابِينَ ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ
لَمْ يَقُولُوا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالشَّرَائِعِ مَا قَالَهُ
أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ . وَلِهَذَا يُمَيَّزُ بَيْنَ قُبُورِهِمْ وَقُبُورِ
الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُمَيَّزُ بَيْنَ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ ؛
فَإِنَّ قُبُورَهُمْ مُوَجَّهَةٌ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ . وَإِذَا أَصَابَ
الْخَيْلَ مَغْلٌ أَتَوْا بِهَا إلَى قُبُورِهِمْ كَمَا يَأْتُونَ بِهَا إلَى
قُبُورِ الْكُفَّارِ وَهَذِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِلْخَيْلِ إذَا أَصَابَ
الْخَيْلَ مَغْلٌ ذَهَبُوا بِهَا إلَى قُبُورِ
النَّصَارَى
بِدِمَشْقَ وَإِنْ كَانُوا بِمَسَاكِنِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة
وَنَحْوِهِمَا ذَهَبُوا بِهَا إلَى قُبُورِهِمْ وَإِنْ كَانُوا بِمِصْرِ ذَهَبُوا
بِهَا إلَى قُبُورِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ لِهَؤُلَاءِ العبيديين
الَّذِينَ قَدْ يَتَسَمَّوْنَ بِالْأَشْرَافِ وَلَيْسُوا مِنْ الْأَشْرَافِ .
وَلَا يَذْهَبُونَ بِالْخَيْلِ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛
وَلَا إلَى قُبُورِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا أَمْرٌ مُجَرَّبٌ مَعْلُومٌ
عِنْدَ الْجُنْدِ وَعُلَمَائِهِمْ . وَقَدْ ذُكِرَ سَبَبُ ذَلِكَ : أَنَّ
الْكُفَّارَ يُعَاقَبُونَ فِي قُبُورِهِمْ فَتَسْمَعُ أَصْوَاتَهُمْ الْبَهَائِمُ
كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ أَنَّ
الْكُفَّارَ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا عَلَى
بَغْلَتِهِ فَمَرَّ بِقُبُورِ فَحَادَتْ بِهِ كَادَتْ تُلْقِيهِ فَقَالَ : هَذِهِ
أَصْوَاتُ يَهُودَ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا } فَإِنَّ الْبَهَائِمَ إذَا سَمِعَتْ
ذَلِكَ الصَّوْتَ الْمُنْكَرَ أَوْجَبَ لَهَا مِنْ الْحَرَارَةِ مَا يُذْهِبُ
الْمَغْلَ وَكَانَ الْجُهَّالُ يَظُنُّونَ أَنَّ تَمْشِيَةَ الْخَيْلِ عِنْدَ
قُبُورِ هَؤُلَاءِ لِدِينِهِمْ وَفَضْلِهِمْ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ
يُمَشُّونَهَا عِنْدَ قُبُورِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْنُصَيْرِيَّة
وَنَحْوِهِمْ دُونَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ
أَنَّهُمْ لَا يُمَشُّونَهَا عِنْدَ قَبْرِ مَنْ يَعْرِفُ بِالدِّينِ بِمِصْرِ
وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا ؛ إنَّمَا يُمَشُّونَهَا عِنْدَ قُبُورِ الْفُجَّارِ
وَالْكُفَّارِ : تَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَا كَانَ مُشْتَبِهًا . وَمَنْ عَلِمَ
حَوَادِثَ الْإِسْلَامِ وَمَا جَرَى فِيهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ
الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ : عَلِمَ أَنَّ عَدَاوَةَ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِينَ
لِلْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ أَعْظَمُ مِنْ عَدَاوَةِ
التَّتَارِ وَأَنَّ عِلْمَ الْبَاطِنِ الَّذِي كَانُوا يَدَّعُونَ حَقِيقَتَهُ
هُوَ إبْطَالُ الرِّسَالَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا ؛ بَلْ
إبْطَالُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ ؛ وَأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ
بِمَا
جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَنْ اللَّهِ وَلَا مِنْ خَبَرِهِ وَلَا مِنْ أَمْرِهِ ؛
وَأَنَّ لَهُمْ قَصْدًا مُؤَكَّدًا فِي إبْطَالِ دَعْوَتِهِ وَإِفْسَادِ مِلَّتِهِ
وَقَتْلِ خَاصَّتِهِ وَأَتْبَاعِ عِتْرَتِهِ . وَأَنَّهُمْ فِي مُعَادَاةِ
الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ وَسَائِرِ الْمِلَلِ أَعْظَمُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُقِرُّونَ بِأَصْلِ الْجُمَلِ الَّتِي
جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلَ : كَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَالرُّسُلِ ؛ وَالشَّرَائِعِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَكِنْ يُكَذِّبُونَ بَعْضَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ كَمَا
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ
بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلًا } { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
عَذَابًا مُهِينًا } . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْقَرَامِطَةُ فَإِنَّهُمْ فِي
الْبَاطِنِ كَافِرُونَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ يُخْفُونَ ذَلِكَ
وَيَكْتُمُونَهُ عَنْ غَيْرِ مَنْ يَثِقُونَ بِهِ ؛ لَا يُظْهِرُونَهُ كَمَا
يُظْهِرُ أَهْلُ الْكِتَابِ دِينَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَظْهَرُوهُ لَنَفَرَ
عَنْهُمْ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ
يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَقَالَتِهِمْ وَمَقَالَةِ الْجُمْهُورِ ؛ بَلْ الرَّافِضَةُ
الَّذِينَ لَيْسُوا زَنَادِقَةً كُفَّارًا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَقَالَتِهَا
وَمَقَالَةِ الْجُمْهُورِ وَيَرَوْنَ كِتْمَانَ مَذْهَبِهِمْ وَاسْتِعْمَالَ
التَّقِيَّةِ وَقَدْ لَا يَكُونُ مِنْ الرَّافِضَةِ مَنْ لَهُ نَسَبٌ صَحِيحٌ
مُسْلِمًا فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَكُونُ زِنْدِيقًا ؛ لَكِنْ يَكُونُ جَاهِلًا
مُبْتَدِعًا . وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ مَعَ صِحَّةِ نَسَبِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ
يَكْتُمُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى لَكِنَّ جُمْهُورَ
النَّاسِ يُخَالِفُونَهُمْ : فَكَيْفَ بِالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ
يُكَفِّرُهُمْ أَهْلُ الْمِلَلِ كُلِّهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى .
وَإِنَّمَا
يَقْرُبُ مِنْهُمْ " الْفَلَاسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ أَصْحَابُ أَرِسْطُو
" فَإِنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَرَامِطَةِ مُقَارَبَةٌ كَبِيرَةٌ .
وَلِهَذَا يُوجَدُ فُضَلَاءُ الْقَرَامِطَةِ فِي الْبَاطِنِ مُتَفَلْسِفَةٌ :
كَسِنَانِ الَّذِي كَانَ بِالشَّامِ والطوسي الَّذِي كَانَ وَزِيرًا لَهُمْ
بالألموت ثُمَّ صَارَ مُنَجِّمًا لِهَؤُلَاءِ وَمَلَكَ الْكُفَّارَ وَصَنَّفَ
" شَرْحَ الْإِشَارَاتِ لِابْنِ سِينَا " وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى
مَلِكِ الْكُفَّارِ بِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ وَصَارَ عِنْدَ الْكُفَّارِ التُّرْكِ
هُوَ الْمُقَدَّمَ عَلَى الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ " الداسميدية "
فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا يُظْهِرُهُ الْقَرَامِطَةُ
مِنْ الدِّينِ وَالْكَرَامَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاطِلٌ ؛ لَكِنْ يَكُونُ
أَحَدُهُمْ مُتَفَلْسِفًا وَيَدْخُلُ مَعَهُمْ لِمُوَافَقَتِهِمْ لَهُ عَلَى مَا
هُوَ فِيهِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ فِي الظَّاهِرِ
وَتَأْوِيلِ ذَلِكَ بِأُمُورِ يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ
لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ . فَإِنَّ " الْمُتَفَلْسِفَةَ "
مُتَأَوِّلُونَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ
بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بِالنَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ الَّذِي يُوَافِقُ
مَذْهَبَهُمْ وَأَمَّا الشَّرَائِعُ الْعَمَلِيَّةُ فَلَا يَنْفُونَهَا كَمَا
يَنْفِيهَا الْقَرَامِطَةُ ؛ بَلْ يُوجِبُونَهَا عَلَى الْعَامَّةِ ؛ وَيُوجِبُونَ
بَعْضَهَا عَلَى الْخَاصَّةِ أَوْ لَا يُوجِبُونَ ذَلِكَ . وَيَقُولُونَ إنَّ
الرُّسُلَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَأَمَرُوا بِهِ لَمْ يَأْتُوا بِحَقَائِقِ
الْأُمُورِ ؛ وَلَكِنْ أَتَوْا بِأَمْرِ فِيهِ صَلَاحُ الْعَامَّةِ وَإِنْ كَانَ
هُوَ كَذِبًا فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا اخْتَارَ كُلُّ مُبْطِلٍ أَنْ يَأْتِيَ
بمخاريق لِقَصْدِ صَلَاحِ الْعَامَّةِ كَمَا فَعَلَ " ابْنُ التومرت "
الْمُلَقَّبُ بِالْمَهْدِيِّ وَمَذْهَبُهُ فِي الصِّفَاتِ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ
لِأَنَّهُ
كَانَ مِثْلَهَا فِي الْجُمْلَةِ وَلَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا مُكَذِّبًا لِلرُّسُلِ
مُعَطِّلًا لِلشَّرَائِعِ وَلَا يَجْعَلُ لِلشَّرِيعَةِ الْعَمَلِيَّةِ بَاطِنًا
يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا ؛ بَلْ كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ رَأْيِ الْجَهْمِيَّة
الْمُوَافِقِ لِرَأْيِ الْفَلَاسِفَةِ وَنَوْعٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ
الَّذِينَ يَرَوْنَ السَّيْفَ وَيُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ . فَهَؤُلَاءِ "
الْقَرَامِطَةُ " هُمْ فِي الْبَاطِنِ وَالْحَقِيقَةِ أَكْفَرُ مِنْ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَيَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ ؛
بَلْ وَإِيصَالُ النَّسَبِ إلَى الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَعِلْمُ الْبَاطِنِ
الَّذِي لَا يُوجَدُ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَأَنَّ إمَامَهُمْ
مَعْصُومٌ . فَهُمْ فِي الظَّاهِرِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ دَعْوَى بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ
وَفِي الْبَاطِنِ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ بِالرَّحْمَنِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ادَّعَى
النُّبُوَّةَ مِنْ الْكَذَّابِينَ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ
شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } . وَهَؤُلَاءِ قَدْ
يَدَّعُونَ هَذَا وَهَذَا . فَإِنَّ الَّذِي يُضَاهِي الرَّسُولَ الصَّادِقَ لَا
يَخْلُو : إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ مِثْلَ دَعْوَتِهِ فَيَقُولُ : إنَّ اللَّهَ
أَرْسَلَنِي وَأَنْزَلَ عَلَيَّ . وَكَذَبَ عَلَى اللَّهِ . أَوْ يَدَّعِيَ
أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ وَلَا يُسَمِّي مُوحِيَهُ كَمَا يَقُولُ : قِيلَ لِي
وَنُودِيت وَخُوطِبْت وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيَكُونُ كَاذِبًا فَيَكُونُ هَذَا قَدْ
حَذَفَ الْفَاعِلَ . أَوْ لَا يَدَّعِي وَاحِدًا مِنْ الْأَمْرَيْنِ ؛ لَكِنَّهُ
يَدَّعِي أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِمَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ .
وَوَجْهُ الْقِسْمَةِ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ فِي مُضَاهَاةِ الرَّسُولِ إمَّا أَنْ
يُضِيفَهُ إلَى اللَّهِ أَوْ إلَى نَفْسِهِ أَوْ لَا يُضِيفُهُ إلَى أَحَدٍ .
فَهَؤُلَاءِ
فِي دَعْوَاهُمْ مِثْلَ الرَّسُولِ هُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
فَكَيْفَ بِالْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ أَعْظَمَ مِمَّا
فَعَلَ مُسَيْلِمَةُ وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ أَعْظَمَ
مِمَّا فَعَلَ مُسَيْلِمَةُ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَعْظَمَ مِمَّا
فَعَلَ مُسَيْلِمَةُ . وَبَسْطُ حَالِهِمْ يَطُولُ ؛ لَكِنَّ هَذِهِ الْأَوْرَاقَ
لَا تَسَعُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته حَالُ أَئِمَّتِهِمْ
وَقَادَتِهِمْ الْعَالِمِينَ بِحَقِيقَةِ قَوْلِهِمْ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ
انْضَمَّ إلَيْهِمْ مِنْ الشِّيعَةِ وَالرَّافِضَةِ مَنْ لَا يَكُونُ فِي
الْبَاطِنِ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ بَاطِنِهِمْ وَلَا مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَى
ذَلِكَ فَيَكُونُ مِنْ أَتْبَاعِ الزَّنَادِقَةِ الْمُرْتَدِّينَ الْمُوَالِي
لَهُمْ ؛ النَّاصِرُ لَهُمْ ؛ بِمَنْزِلَةِ أَتْبَاعِ الِاتِّحَادِيَّةِ ؛
الَّذِينَ يُوَالُونَهُمْ ؛ وَيُعَظِّمُونَهُمْ ؛ وَيَنْصُرُونَهُمْ وَلَا
يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ ؛ وَأَنَّ الْخَالِقَ
هُوَ الْمَخْلُوقُ . فَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا فِي الْبَاطِنِ وَهُوَ جَاهِلٌ
مُعَظِّمٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَابْنِ الْفَارِضِ
وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الِاتِّحَادِ فَهُوَ مِنْهُمْ وَكَذَا مَنْ كَانَ
مُعَظِّمًا لِلْقَائِلِينَ بِمَذْهَبِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ ؛ فَإِنَّ
نِسْبَةَ هَؤُلَاءِ إلَى الْجَهْمِيَّة كَنِسْبَةِ أُولَئِكَ إلَى الرَّافِضَةِ
وَالْجَهْمِيَّة وَلَكِنَّ الْقَرَامِطَةَ أَكْفَرُ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ
بِكَثِيرِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَحْسَنُ حَالِ عَوَامِّهِمْ أَنْ يَكُونُوا
رَافِضَةً جهمية . وَأَمَّا الِاتِّحَادِيَّةُ فَفِي عَوَامِّهِمْ مَنْ لَيْسَ
برافضي وَلَا جهمي صَرِيحٍ ؛ وَلَكِنْ لَا يَفْهَمُ كَلَامَهُمْ ؛ وَيَعْتَقِدُ
أَنَّ كَلَامَهُمْ كَلَامُ الْأَوْلِيَاءِ الْمُحَقِّقِينَ . وَبَسْطُ هَذَا
الْجَوَابِ لَهُ مَوَاضِعُ غَيْرُ هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءَ أَئِمَّةُ الدِّينِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ وَأَعَانَهُمْ عَلَى إظْهَارِ الْحَقِّ الْمُبِينِ وَإِخْمَادِ شُعَبِ
الْمُبْطِلِينَ : فِي " الْنُصَيْرِيَّة " الْقَائِلِينَ بِاسْتِحْلَالِ
الْخَمْرِ وَتَنَاسُخِ الْأَرْوَاحِ وَقِدَمِ الْعَالِمِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ
وَالنُّشُورِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي غَيْرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَبِأَنَّ
" الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ " عِبَارَةٌ عَنْ خَمْسَةِ أَسْمَاءٍ وَهِيَ :
عَلِيٌّ وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ وَمُحْسِنٌ وَفَاطِمَةُ . فَذِكْرُ هَذِهِ
الْأَسْمَاءِ الْخَمْسَةِ عَلَى رَأْيِهِمْ يُجْزِئُهُمْ عَنْ الْغُسْلِ مِنْ
الْجَنَابَةِ وَالْوُضُوءِ وَبَقِيَّةِ شُرُوطِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَةِ
وَوَاجِبَاتِهَا . وَبِأَنَّ " الصِّيَامَ " عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ
اسْمِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا وَاسْمِ ثَلَاثِينَ امْرَأَةً يَعُدُّونَهُمْ فِي
كُتُبِهِمْ وَيَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ إبْرَازِهِمْ ؛ وَبِأَنَّ إلَهَهُمْ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ عِنْدُهُمْ الْإِلَهُ فِي السَّمَاءِ وَالْإِمَامُ فِي
الْأَرْضِ فَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ظُهُور اللَّاهُوتِ بِهَذَا النَّاسُوتِ
عَلَى رَأْيِهِمْ أَنْ يُؤْنِسَ خَلْقَهُ وَعَبِيدَهُ ؛ لِيُعَلِّمَهُمْ كَيْفَ
يَعْرِفُونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ . وَبِأَنَّ النَّصِيرِيَّ عِنْدَهُمْ لَا يَصِيرُ
نصيريا مُؤْمِنًا يُجَالِسُونَهُ وَيَشْرَبُونَ مَعَهُ الْخَمْرَ وَيُطْلِعُونَهُ
عَلَى أَسْرَارِهِمْ وَيُزَوِّجُونَهُ مِنْ نِسَائِهِمْ : حَتَّى يُخَاطِبَهُ
مُعَلِّمُهُ . وَحَقِيقَةُ الْخِطَابِ عِنْدَهُمْ أَنْ يُحَلِّفُوهُ عَلَى كِتْمَانِ
دِينِهِ وَمَعْرِفَةِ مَشَايِخِهِ
وَأَكَابِرِ
أَهْلِ مَذْهَبِهِ ؛ وَعَلَى أَلَّا يَنْصَحَ مُسْلِمًا وَلَا غَيْرَهُ إلَّا مَنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ وَعَلَى أَنْ يَعْرِفَ رَبَّهُ وَإِمَامَهُ بِظُهُورِهِ
فِي أَنْوَارِهِ وَأَدْوَارِهِ فَيَعْرِفُ انْتِقَالَ الِاسْمِ وَالْمَعْنَى فِي
كُلِّ حِينٍ وَزَمَانٍ . فَالِاسْمُ عِنْدَهُمْ فِي أَوَّلِ النَّاسِ آدَمَ
وَالْمَعْنَى هُوَ شيث وَالِاسْمُ يَعْقُوبُ وَالْمَعْنَى هُوَ يُوسُفُ .
وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا يَزْعُمُونَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ
الْعَظِيمِ حِكَايَةً عَنْ يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - فَيَقُولُونَ : أَمَّا يَعْقُوبُ فَإِنَّهُ كَانَ الِاسْمَ فَمَا
قَدَرَ أَنْ يَتَعَدَّى مَنْزِلَتَهُ فَقَالَ : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ
رَبِّي } وَأَمَّا يُوسُفُ فَكَانَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبَ فَقَالَ : { لَا
تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } فَلَمْ يُعَلِّقْ الْأَمْرَ بِغَيْرِهِ ؛
لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ الْإِلَهُ الْمُتَصَرِّفُ وَيَجْعَلُونَ مُوسَى هُوَ
الِاسْمَ وَيُوشَعَ هُوَ الْمَعْنَى وَيَقُولُونَ : يُوشَعُ رُدَّتْ لَهُ
الشَّمْسُ لَمَّا أَمَرَهَا فَأَطَاعَتْ أَمْرَهُ ؛ وَهَلْ تُرَدُّ الشَّمْسُ
إلَّا لِرَبِّهَا وَيَجْعَلُونَ سُلَيْمَانَ هُوَ الِاسْمَ وآصف هُوَ الْمَعْنَى
الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ . وَيَقُولُونَ : سُلَيْمَانُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِ
عَرْشِ بلقيس وَقَدَرَ عَلَيْهِ آصف لِأَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ الصُّورَةَ وآصف
كَانَ الْمَعْنَى الْقَادِرَ الْمُقْتَدِرَ وَقَدْ قَالَ قَائِلُهُمْ : هَابِيلُ
شيث يُوسُفُ يُوشَعُ آصف شمعون الصَّفَا حَيْدَرُ وَيَعُدُّونَ الْأَنْبِيَاءَ
وَالْمُرْسَلِينَ وَاحِدًا وَاحِدًا عَلَى هَذَا النَّمَطِ إلَى زَمَنِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ : مُحَمَّدٌ هُوَ
الِاسْمُ وَعَلِيٌّ هُوَ الْمَعْنَى وَيُوصِلُونَ الْعَدَدَ عَلَى هَذَا
التَّرْتِيبِ فِي كُلِّ زَمَانٍ إلَى وَقْتِنَا هَذَا . فَمِنْ حَقِيقَةِ الْخِطَابِ
فِي الدِّينِ عِنْدَهُمْ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الرَّبُّ وَأَنْ مُحَمَّدًا هُوَ
الْحِجَابُ
وَأَنَّ
سَلْمَانَ هُوَ الْبَابُ وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَكَابِرِ رُؤَسَائِهِمْ
وَفُضَلَائِهِمْ لِنَفْسِهِ فِي شُهُورِ سَنَةِ سَبْعِمِائَةٍ فَقَالَ : أَشْهَدُ
أَنْ لَا إلَهَ إلَّا حيدرة الْأَنْزَعُ الْبَطِينُ وَلَا حِجَابَ عَلَيْهِ إلَّا
مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَلَا طَرِيقَ إلَيْهِ إلَّا سَلْمَانُ ذُو
الْقُوَّةِ الْمَتِينُ وَيَقُولُونَ إنَّ ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ لَمْ
يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَكَذَلِكَ الْخَمْسَةُ الْأَيْتَامُ وَالِاثْنَا عَشَرَ
نَقِيبًا وَأَسْمَاؤُهُمْ مَشْهُورَةٌ عِنْدَهُمْ وَمَعْلُومَةٌ مِنْ كُتُبِهِمْ
الْخَبِيثَةِ وَأَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ يُظْهِرُونَ مَعَ الرَّبِّ وَالْحِجَابِ
وَالْبَابِ فِي كُلٍّ كَوْرٍ وَدَوْرٍ أَبَدًا سَرْمَدًا عَلَى الدَّوَامِ
وَالِاسْتِمْرَارِ وَيَقُولُونَ : إنَّ إبْلِيسَ الْأَبَالِسَةِ هُوَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَلِيهِ فِي رُتْبَةِ الإبليسية أَبُو
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ وَشَرَّفَهُمْ وَأَعْلَى رُتَبَهُمْ عَنْ أَقْوَالِ الْمُلْحِدِينَ
وَانْتِحَالِ أَنْوَاعِ الضَّالِّينَ وَالْمُفْسِدِينَ - فَلَا يَزَالُونَ
مَوْجُودِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ دَائِمًا حَسْبَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّرْتِيبِ .
وَلِمَذَاهِبِهِمْ الْفَاسِدَةِ شُعَبٌ وَتَفَاصِيلُ تَرْجِعُ إلَى هَذِهِ
الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ . وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمَلْعُونَةُ اسْتَوْلَتْ
عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ ( وَهُمْ مَعْرُوفُونَ مَشْهُورُونَ
مُتَظَاهِرُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ وَقَدْ حَقَّقَ أَحْوَالَهُمْ كُلُّ مَنْ خَالَطَهُمْ
وَعَرَفَهُمْ مِنْ عُقَلَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَمِنْ عَامَّةِ
النَّاسِ أَيْضًا فِي
هَذَا
الزَّمَانِ ؛ لِأَنَّ أَحْوَالَهُمْ كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ
وَقْتَ اسْتِيلَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمَخْذُولِينَ عَلَى الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ
؛ فَلَمَّا جَاءَتْ أَيَّامُ الْإِسْلَامِ انْكَشَفَ حَالُهُمْ وَظَهَرَ
ضَلَالُهُمْ . وَالِابْتِلَاءُ بِهِمْ كَثِيرٌ جِدًّا . فَهَلْ يَجُوزُ لِمُسْلِمِ
أَنْ يُزَوِّجَهُمْ أَوْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ ؟ وَهَلْ يَحِلُّ أَكْلُ
ذَبَائِحِهِمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَمْ لَا ؟ وَمَا حُكْمُ الْجُبْنِ
الْمَعْمُولِ مِنْ إنْفَحَةِ ذَبِيحَتِهِمْ ؟ وَمَا حُكْمُ أَوَانِيهِمْ
وَمَلَابِسِهِمْ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ دَفْنُهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا ؟
وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُمْ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ وَتَسْلِيمُهَا
إلَيْهِمْ ؟ أَمْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ قَطْعُهُمْ وَاسْتِخْدَامُ
غَيْرِهِمْ مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ الكفاة وَهَلْ يَأْثَمُ إذَا أَخَّرَ
طَرْدَهُمْ ؟ أَمْ يَجُوزُ لَهُ التَّمَهُّلُ مَعَ أَنَّ فِي عَزْمِهِ ذَلِكَ ؟
وَإِذَا اسْتَخْدَمَهُمْ وَأَقْطَعَهُمْ أَوْ لَمْ يُقْطِعْهُمْ هَلْ يَجُوزُ لَهُ
صَرْفُ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَيْهِمْ وَإِذَا صَرَفَهَا وَتَأَخَّرَ
لِبَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ مَعْلُومِهِ الْمُسَمَّى ؛ فَأَخَّرَهُ وَلِيُّ
الْأَمْرِ عَنْهُ وَصَرَفَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ
الْمُسْتَحِقِّينَ أَوْ أَرْصَدَهُ لِذَلِكَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ هَذِهِ
الصُّوَرِ ؟ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ دِمَاءُ الْنُصَيْرِيَّة
الْمَذْكُورِينَ مُبَاحَةٌ وَأَمْوَالُهُمْ حَلَالٌ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا
جَاهَدَهُمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِخْمَادِ
بَاطِلِهِمْ وَقَطَعَهُمْ مِنْ حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ وَحَذَّرَ أَهْلَ
الْإِسْلَامِ مِنْ مُنَاكَحَتِهِمْ وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَأَلْزَمَهُمْ
بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَمَنَعَهُمْ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِمْ الْبَاطِلِ وَهُمْ
الَّذِينَ يَلُونَهُ مِنْ الْكُفَّارِ : هَلْ ذَلِكَ أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ أَجْرًا
مِنْ التَّصَدِّي وَالتَّرَصُّدِ لِقِتَالِ التَّتَارِ فِي بِلَادِهِمْ وَهَدْمِ
بِلَادِ
سَيِسَ
وَدِيَارِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى أَهْلِهَا ؟ أَمْ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ كَوْنِهِ يُجَاهِدُ
الْنُصَيْرِيَّة الْمَذْكُورِينَ مُرَابِطًا ؟ وَيَكُونُ أَجْرُ مَنْ رَابَطَ فِي
الثُّغُورِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ خَشْيَةَ قَصْدِ الفرنج أَكْبَرُ أَمْ هَذَا
أَكْبَرُ أَجْرًا ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ الْمَذْكُورِينَ
وَمَذَاهِبَهُمْ أَنْ يُشْهِرَ أَمْرَهُمْ وَيُسَاعِدَ عَلَى إبْطَالِ بَاطِلِهِمْ
وَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَهُمْ فَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَ
بَعْضَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ
وَأَوْلَادِهِمْ مُسْلِمِينَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْعَظِيمِ
أَمْ يَجُوزُ التَّغَافُلُ عَنْهُمْ وَالْإِهْمَالُ ؟ وَمَا قَدَرَ الْمُجْتَهِدُ
عَلَى ذَلِكَ وَالْمُجَاهِدُ فِيهِ وَالْمُرَابِطُ لَهُ وَالْمُلَازِمُ عَلَيْهِ ؟
وَلْتَبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ؛ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ.
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ
تَيْمِيَّة :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الْمُسَمَّوْنَ
بالْنُصَيْرِيَّة هُمْ وَسَائِرُ أَصْنَافِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ
أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ بَلْ وَأَكْفَرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ وَضَرَرُهُمْ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ مِثْلَ كُفَّارِ
التَّتَارِ والفرنج وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَتَظَاهَرُونَ عِنْدَ
جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّشَيُّعِ وَمُوَالَاةِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَهُمْ فِي
الْحَقِيقَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِرَسُولِهِ وَلَا بِكِتَابِهِ
وَلَا بِأَمْرِ وَلَا نَهْيٍ وَلَا ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ وَلَا جَنَّةٍ وَلَا
نَارٍ وَلَا بِأَحَدِ مِنْ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِمِلَّةِ مِنْ الْمِلَلِ السَّالِفَةِ بَلْ يَأْخُذُونَ
كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ
يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى أُمُورٍ
يَفْتَرُونَهَا
؛ يَدَّعُونَ أَنَّهَا عِلْمُ الْبَاطِنِ ؛ مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ
وَمِنْ غَيْرِ هَذَا الْجِنْسِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ حَدٌّ مَحْدُودٌ فِيمَا
يَدَّعُونَهُ مِنْ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ
وَتَحْرِيفِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ ؛ إذْ
مَقْصُودُهُمْ إنْكَارُ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِكُلِّ طَرِيقٍ
مَعَ التَّظَاهُرِ بِأَنَّ لِهَذِهِ الْأُمُورِ حَقَائِقُ يَعْرِفُونَهَا مِنْ
جِنْسِ مَا ذَكَرَ السَّائِلُ وَمِنْ جِنْسِ قَوْلِهِمْ : إنَّ "
الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ " مَعْرِفَةُ أَسْرَارِهِمْ و " الصِّيَامَ
الْمَفْرُوضَ " كِتْمَانُ أَسْرَارِهِمْ " وَحَجَّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
" زِيَارَةُ شُيُوخِهِمْ وَأَنَّ ( يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) هُمَا أَبُو بَكْرٍ
وَعُمَرُ وَأَنَّ ( النَّبَأَ الْعَظِيمَ وَالْإِمَامَ الْمُبِينَ ) هُوَ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ ؛ وَلَهُمْ فِي مُعَادَاةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَقَائِعُ
مَشْهُورَةٌ وَكُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ فَإِذَا كَانَتْ لَهُمْ مُكْنَةٌ سَفَكُوا
دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ ؛ كَمَا قَتَلُوا مَرَّةً الْحُجَّاجَ وَأَلْقَوْهُمْ فِي
بِئْرِ زَمْزَمَ وَأَخَذُوا مَرَّةً الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَبَقِيَ عِنْدَهُمْ
مُدَّةً وَقَتَلُوا مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَشَايِخِهِمْ مَا لَا
يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَصَنَّفُوا كُتُبًا كَثِيرَةً مِمَّا
ذَكَرَهُ السَّائِلُ وَغَيْرُهُ وَصَنَّفَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ كُتُبًا فِي
كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ ؛ وَبَيَّنُوا فِيهَا مَا هُمْ
عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ الَّذِي هُمْ بِهِ
أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمِنْ براهمة الْهِنْدِ الَّذِينَ
يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ . وَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ فِي وَصْفِهِمْ قَلِيلٌ
مِنْ الْكَثِيرِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْعُلَمَاءُ فِي وَصْفِهِمْ . وَمِنْ
الْمَعْلُومِ عِنْدَنَا أَنَّ السَّوَاحِلَ الشَّامِيَّةَ إنَّمَا اسْتَوْلَى
عَلَيْهَا النَّصَارَى مِنْ جِهَتِهِمْ وَهُمْ دَائِمًا مَعَ كُلِّ عَدُوٍّ
لِلْمُسْلِمِينَ ؛ فَهُمْ مَعَ النَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَمِنْ
أَعْظَمِ
الْمَصَائِبِ عِنْدَهُمْ فَتْحُ الْمُسْلِمِينَ لِلسَّوَاحِلِ وَانْقِهَارُ
النَّصَارَى ؛ بَلْ وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عِنْدَهُمْ انْتِصَارُ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّتَارِ . وَمِنْ أَعْظَمِ أَعْيَادِهِمْ إذَا اسْتَوْلَى
- وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - النَّصَارَى عَلَى ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ
فَإِنَّ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالَتْ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ حَتَّى
جَزِيرَةِ قُبْرُصَ يَسَّرَ اللَّهُ فَتْحَهَا عَنْ قَرِيبٍ وَفَتَحَهَا
الْمُسْلِمُونَ فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ " عُثْمَانَ بْنِ عفان
" رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَحَهَا " مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ
" إلَى أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ . فَهَؤُلَاءِ الْمُحَادُّونَ
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَثُرُوا حِينَئِذٍ بِالسَّوَاحِلِ وَغَيْرِهَا فَاسْتَوْلَى
النَّصَارَى عَلَى السَّاحِلِ ؛ ثُمَّ بِسَبَبِهِمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى الْقُدْسِ
الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ أَحْوَالَهُمْ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ
الْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ ؛ ثُمَّ لَمَّا أَقَامَ اللَّهُ مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ
الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى " كَنُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ
وَصَلَاحِ الدِّينِ " وَأَتْبَاعِهِمَا وَفَتَحُوا السَّوَاحِلَ مِنْ
النَّصَارَى وَمِمَّنْ كَانَ بِهَا مِنْهُمْ وَفَتَحُوا أَيْضًا أَرْضَ مِصْرَ ؛
فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهَا نَحْوَ مِائَتَيْ سَنَةٍ
وَاتَّفَقُوا هُمْ وَالنَّصَارَى فَجَاهَدَهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى فَتَحُوا
الْبِلَادَ وَمِنْ ذَلِكَ التَّارِيخِ انْتَشَرَتْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ . ثُمَّ إنَّ التَّتَارَ مَا
دَخَلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ وَقَتَلُوا خَلِيفَةَ بَغْدَادَ وَغَيْرَهُ مِنْ
مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِمُعَاوَنَتِهِمْ وَمُؤَازَرَتِهِمْ ؛ فَإِنَّ
مُنَجِّمَ هُولَاكُو الَّذِي كَانَ وَزِيرَهُمْ وَهُوَ " النَّصِيرُ
الطوسي
" كَانَ وَزِيرًا لَهُمْ بالألموت وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِقَتْلِ
الْخَلِيفَةِ وَبِوِلَايَةِ هَؤُلَاءِ . وَلَهُمْ " أَلْقَابٌ "
مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ تَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْمَلَاحِدَةَ
" وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْقَرَامِطَةَ " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ
" الْبَاطِنِيَّةَ " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْإِسْمَاعِيلِيَّة
" و تَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْنُصَيْرِيَّة " وَتَارَةً
يُسَمَّوْنَ " الخرمية " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْمُحَمِّرَةَ
" وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ مِنْهَا مَا يَعُمُّهُمْ وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ
بَعْضَ أَصْنَافِهِمْ كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ يَعُمُّ
الْمُسْلِمِينَ وَلِبَعْضِهِمْ اسْمٌ يَخُصُّهُ : إمَّا لِنَسَبِ وَإِمَّا
لِمَذْهَبِ وَإِمَّا لِبَلَدٍ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ . وَشَرْحُ مَقَاصِدِهِمْ
يَطُولُ وَهُمْ كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ : ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ
الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ . وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ
لَا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيِّ مِنْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ؛ لَا
بِنُوحِ وَلَا إبْرَاهِيمَ وَلَا مُوسَى وَلَا عِيسَى وَلَا مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَلَا بِشَيْءِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ
الْمُنَزَّلَةِ ؛ لَا التَّوْرَاةِ وَلَا الْإِنْجِيلِ وَلَا الْقُرْآنِ . وَلَا
يُقِرُّونَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ خَالِقًا خَلَقَهُ ؛ وَلَا بِأَنَّ لَهُ دِينًا
أَمَرَ بِهِ وَلَا أَنَّ لَهُ دَارًا يَجْزِي النَّاسَ فِيهَا عَلَى أَعْمَالِهِمْ
غَيْرَ هَذِهِ الدَّارِ .
وَهُمْ
تَارَةً يَبْنُونَ قَوْلَهُمْ عَلَى مَذَاهِبِ الْفَلَاسِفَةِ الطَّبِيعِيِّينَ
أَوْ الإلهيين وَتَارَةً يَبْنُونَهُ عَلَى قَوْلِ الْمَجُوسِ الَّذِينَ
يَعْبُدُونَ النُّورَ وَيَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ الرَّفْضَ . وَيَحْتَجُّونَ
لِذَلِكَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّاتِ : إمَّا بِقَوْلِ مَكْذُوبٍ يَنْقُلُونَهُ
كَمَا يَنْقُلُونَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ } وَالْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ
بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ ؛ وَلَفْظُهُ " { إنَّ اللَّهَ
لَمَّا خَلَقَ الْعَقْلَ فَقَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ . فَقَالَ لَهُ :
أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ } فَيُحَرِّفُونَ لَفْظَهُ فَيَقُولُونَ " { أَوَّلُ مَا
خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ } لِيُوَافِقُوا قَوْلَ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَتْبَاعِ
أَرِسْطُو فِي أَنَّ أَوَّلَ الصَّادِرَاتِ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ هُوَ
الْعَقْلُ . وَإِمَّا بِلَفْظِ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَيُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَمَا يَصْنَعُ أَصْحَابُ "
رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَنَحْوُهُمْ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ
. وَقَدْ دَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ بَاطِلِهِمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
وَرَاجَ عَلَيْهِمْ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ طَوَائِفَ مِنْ
الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ ؛ وَإِنْ كَانُوا لَا
يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى أَصْلِ كُفْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ فِي
إظْهَارِ دَعْوَتِهِمْ الْمَلْعُونَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا " الدَّعْوَةَ
الْهَادِيَةَ " دَرَجَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَيُسَمُّونَ النِّهَايَةَ "
الْبَلَاغَ الْأَكْبَرَ وَالنَّامُوسَ الْأَعْظَمَ " وَمَضْمُونُ الْبَلَاغِ
الْأَكْبَرِ جَحْدُ الْخَالِقِ تَعَالَى ؛ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ وَبِمَنْ
يُقِرُّ بِهِ حَتَّى قَدْ يَكْتُبُ أَحَدُهُمْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَسْفَلِ
رِجْلِهِ وَفِيهِ أَيْضًا جَحْدُ شَرَائِعِهِ وَدِينِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ
الْأَنْبِيَاءُ وَدَعْوَى أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ جِنْسِهِمْ طَالِبِينَ
لِلرِّئَاسَةِ فَمِنْهُمْ مِنْ أَحْسَنَ فِي طَلَبِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ أَسَاءَ
فِي
طَلَبِهَا
حَتَّى قُتِلَ وَيَجْعَلُونَ مُحَمَّدًا وَمُوسَى مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ
وَيَجْعَلُونَ الْمَسِيحَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي . وَفِيهِ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ
بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَمِنْ تَحْلِيلِ نِكَاحِ
ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ : مَا يَطُولُ وَصْفُهُ . وَلَهُمْ
إشَارَاتٌ وَمُخَاطَبَاتٌ يَعْرِفُ بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا . وَهُمْ إذَا
كَانُوا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ
فَقَدْ يَخْفَوْنَ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُمْ وَأَمَّا إذَا كَثُرُوا فَإِنَّهُ
يَعْرِفُهُمْ عَامَّةُ النَّاسِ فَضْلًا عَنْ خَاصَّتِهِمْ .
وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا تَجُوزُ
مُنَاكَحَتُهُمْ ؛ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ مَوْلَاتِهِ مِنْهُمْ
وَلَا يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ امْرَأَةً وَلَا تُبَاحُ ذَبَائِحُهُمْ . وَأَمَّا
" الْجُبْنُ الْمَعْمُولُ بِإِنْفَحَتِهِمْ " فَفِيهِ قَوْلَانِ
مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ كَسَائِرِ إنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ وَكَإِنْفَحَةِ
ذَبِيحَةِ الْمَجُوسِ ؛ وَذَبِيحَةِ الفرنج الَّذِينَ يُقَالُ عَنْهُمْ إنَّهُمْ
لَا يُذَكُّونَ الذَّبَائِحَ . فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ يَحِلُّ هَذَا الْجُبْنُ ؛ لِأَنَّ إنْفَحَةَ
الْمَيْتَةِ طَاهِرَةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَحَةَ لَا تَمُوتُ
بِمَوْتِ الْبَهِيمَةِ وَمُلَاقَاةُ الْوِعَاءِ النَّجِسِ فِي الْبَاطِنِ لَا
يُنَجِّسُ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى
أَنَّ هَذَا الْجُبْنَ نَجِسٌ لِأَنَّ الْإِنْفَحَةَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ نَجِسَةٌ ؛
لِأَنَّ لَبَنَ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتَهَا عِنْدَهُمْ نَجِسٌ . وَمَنْ لَا
تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ فَذَبِيحَتُهُ كَالْمَيْتَةِ . وَكُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ
الْقَوْلَيْنِ يَحْتَجُّ بِآثَارِ يَنْقُلُهَا عَنْ الصَّحَابَةِ فَأَصْحَابُ
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ نَقَلُوا أَنَّهُمْ أَكَلُوا جُبْنَ الْمَجُوسِ .
وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي
نَقَلُوا
أَنَّهُمْ أَكَلُوا مَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْ جُبْنِ النَّصَارَى .
فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ ؛ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ يُفْتِي
بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَأَمَّا " أَوَانِيهمْ وَمَلَابِسُهُمْ "
فَكَأَوَانِي الْمَجُوسِ وَمَلَابِسِ الْمَجُوسِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذَاهِبِ
الْأَئِمَّةِ . وَالصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَوَانِيَهُمْ لَا تُسْتَعْمَلُ
إلَّا بَعْدَ غَسْلِهَا ؛ فَإِنَّ ذَبَائِحَهُمْ مَيْتَةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ
يُصِيبَ أَوَانِيَهُمْ الْمُسْتَعْمَلَةَ مَا يَطْبُخُونَهُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ
فَتَنْجُسُ بِذَلِكَ فَأَمَّا الْآنِيَةُ الَّتِي لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ
وُصُولُ النَّجَاسَةِ إلَيْهَا فَتُسْتَعْمَلُ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ كَآنِيَةِ
اللَّبَنِ الَّتِي لَا يَضَعُونَ فِيهَا طَبِيخَهُمْ أَوْ يَغْسِلُونَهَا قَبْلَ
وَضْعِ اللَّبَنِ فِيهَا وَقَدْ تَوَضَّأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ . فَمَا شُكَّ فِي نَجَاسَتِهِ لَمْ يُحْكَمْ
بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ . وَلَا يَجُوزُ دَفْنُهُمْ فِي مَقَابِرِ
الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ : كَعَبْدِ اللَّهِ ابْن أبي وَنَحْوِهِ ؛
وَكَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْجِهَادِ
مَعَ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَا يُظْهِرُونَ مَقَالَةً تُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ
؛ لَكِنْ يُسِرُّونَ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ
مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } فَكَيْفَ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ
مَعَ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ وَالْإِلْحَادَ .
وَأَمَّا اسْتِخْدَامُ مِثْلِ هَؤُلَاءِ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ
حُصُونِهِمْ أَوْ جُنْدِهِمْ فَإِنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ
مَنْ يَسْتَخْدِمُ الذِّئَابَ لِرَعْيِ الْغَنَمِ ؛ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَغَشِّ
النَّاسِ
لِلْمُسْلِمِينَ
وَلِوُلَاةِ أُمُورِهِمْ وَهُمْ أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى فَسَادِ الْمَمْلَكَةِ
وَالدَّوْلَةِ وَهُمْ شَرٌّ مِنْ الْمُخَامِرِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْعَسْكَرِ ؛
فَإِنَّ الْمُخَامِرَ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ : إمَّا مَعَ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ
وَإِمَّا مَعَ الْعَدُوِّ . وَهَؤُلَاءِ مَعَ الْمِلَّةِ وَنَبِيِّهَا وَدِينِهَا
وَمُلُوكِهَا ؛ وَعُلَمَائِهَا وَعَامَّتِهَا وَخَاصَّتِهَا وَهُمْ أَحْرَصُ
النَّاسِ عَلَى تَسْلِيمِ الْحُصُونِ إلَى عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى
إفْسَادِ الْجُنْدِ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَإِخْرَاجِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِ .
وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ قَطْعُهُمْ مِنْ دَوَاوِينِ الْمُقَاتِلَةِ
فَلَا يُتْرَكُونَ فِي ثَغْرٍ وَلَا فِي غَيْرِ ثَغْرٍ ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُمْ فِي
الثَّغْرِ أَشَدُّ وَأَنْ يَسْتَخْدِمَ بَدَلَهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى
اسْتِخْدَامِهِ مِنْ الرِّجَالِ الْمَأْمُونِينَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَعَلَى
النُّصْحِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ؛
بَلْ إذَا كَانَ وَلِيُّ الْأَمْرِ لَا يَسْتَخْدِمُ مَنْ يَغُشُّهُ وَإِنْ كَانَ
مُسْلِمًا فَكَيْفَ بِمَنْ يَغُشُّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ وَلَا يَجُوزُ لَهُ
تَأْخِيرُ هَذَا الْوَاجِبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَلْ أَيُّ وَقْتٍ قَدَرَ
عَلَى الِاسْتِبْدَالِ بِهِمْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا
اُسْتُخْدِمُوا وَعَمِلُوا الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِمْ فَلَهُمْ إمَّا
الْمُسَمَّى وَإِمَّا أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُمْ عوقدوا عَلَى ذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَجَبَ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا
وَجَبَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اسْتِخْدَامُهُمْ مِنْ جِنْسِ
الْإِجَارَةِ
اللَّازِمَةِ فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْجَعَالَةِ الْجَائِزَةِ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ
لَا يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُمْ فَالْعَقْدُ عَقْدٌ فَاسِدٌ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ
إلَّا قِيمَةَ عَمَلِهِمْ . فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَمَلًا لَهُ قِيمَةٌ
فَلَا شَيْءَ لَهُمْ ؛ لَكِنْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ مُبَاحَةٌ .
وَإِذَا أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ فَفِي قَبُولِهَا مِنْهُمْ نِزَاعٌ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ ؛ فَمَنْ قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ إذَا الْتَزَمُوا شَرِيعَةَ
الْإِسْلَامِ أَقَرَّ أَمْوَالَهُمْ عَلَيْهِمْ . وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْهَا لَمْ
تُنْقَلْ إلَى وَرَثَتِهِمْ مِنْ جِنْسِهِمْ ؛ فَإِنَّ مَالَهُمْ يَكُونُ فَيْئًا
لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا أُخِذُوا فَإِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ
التَّوْبَةَ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ مَذْهَبِهِمْ التَّقِيَّةُ وَكِتْمَانُ أَمْرِهِمْ
وَفِيهِمْ مَنْ يُعْرَفُ وَفِيهِمْ مَنْ قَدْ لَا يُعْرَفُ . فَالطَّرِيقُ فِي
ذَلِكَ أَنْ يُحْتَاطَ فِي أَمْرِهِمْ فَلَا يُتْرَكُونَ مُجْتَمِعِينَ وَلَا
يُمَكَّنُونَ مِنْ حَمْلِ السِّلَاحِ وَلَا أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ
وَيَلْزَمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ : مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَقِرَاءَةِ
الْقُرْآنِ . وَيُتْرَكُ بَيْنَهُمْ مِنْ يُعَلِّمُهُمْ دِينَ الْإِسْلَامِ
وَيُحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُعَلِّمِهِمْ . فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى أَهْلِ
الرِّدَّةِ وَجَاءُوا إلَيْهِ قَالَ لَهُمْ الصِّدِّيقُ : اخْتَارُوا إمَّا
الْحَرْبَ الْمُجْلِيَةَ وَإِمَّا السِّلْمَ الْمُخْزِيَةَ . قَالُوا : يَا
خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ هَذِهِ الْحَرْبُ الْمُجْلِيَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا
فَمَا السِّلْمُ الْمُخْزِيَةُ ؟ قَالَ : تَدَّوُنَّ قَتْلَانَا وَلَا نِدِّي
قَتْلَاكُمْ وَتَشْهَدُونَ أَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي
النَّارِ وَنُقَسِّمُ مَا أَصَبْنَا مِنْ أَمْوَالِكُمْ وَتَرُدُّونَ مَا
أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا وَتُنْزَعُ مِنْكُمْ الْحَلَقَةُ وَالسِّلَاحُ
وَتُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ
الْخَيْلِ
وَتُتْرَكُونَ تَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ حَتَّى يَرَى اللَّهُ خَلِيفَةَ
رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنَيْنِ أَمْرًا بَعْدَ رِدَّتِكُمْ . فَوَافَقَهُ
الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ ؛ إلَّا فِي تَضْمِينِ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَهُ : هَؤُلَاءِ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ . يَعْنِي هُمْ شُهَدَاءُ فَلَا
دِيَةَ لَهُمْ فَاتَّفَقُوا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي
اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ هُوَ مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ وَاَلَّذِي
تَنَازَعُوا فِيهِ تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ . فَمَذْهَبُ أَكْثَرِهِمْ أَنَّ
مَنْ قَتَلَهُ الْمُرْتَدُّونَ الْمُجْتَمِعُونَ الْمُحَارِبُونَ لَا يُضْمَنُ ؛
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ آخِرًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي
إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ
الْأُخْرَى هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ . فَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ
بِأُولَئِكَ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ عَوْدِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ يُفْعَلُ بِمَنْ
أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَالتُّهْمَةُ ظَاهِرَةٌ فِيهِ فَيُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ
مِنْ أَهْلِ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ وَالدِّرْعِ الَّتِي تَلْبَسُهَا
الْمُقَاتِلَةُ وَلَا يُتْرَكُ فِي الْجُنْدِ مَنْ يَكُونُ يَهُودِيًّا وَلَا
نَصْرَانِيًّا . وَيُلْزَمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَظْهَرَ مَا
يَفْعَلُونَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ ضُلَّالِهِمْ
وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ أُخْرِجَ عَنْهُمْ وَسُيِّرَ إلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ
الَّتِي لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا ظُهُورٌ . فَإِمَّا أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ
تَعَالَى وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ عَلَى نِفَاقِهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ
لِلْمُسْلِمِينَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ
عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ وَأَكْبَرِ الْوَاجِبَاتِ وَهُوَ أَفْضَلُ
مِنْ جِهَادِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ
الْكِتَابِ ؛ فَإِنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ جِهَادِ الْمُرْتَدِّينَ
وَالصِّدِّيقُ
وَسَائِرُ
الصَّحَابَةِ بَدَءُوا بِجِهَادِ الْمُرْتَدِّينَ قَبْلَ جِهَادِ الْكُفَّارِ مِنْ
أَهْل الْكِتَابِ ؛ فَإِنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ حِفْظٌ لِمَا فُتِحَ مِنْ بِلَادِ
الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ عَنْهُ . وَجِهَادَ
مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ زِيَادَةِ
إظْهَارِ الدِّينِ . وَحِفْظُ رَأْسِ الْمَالِ مُقَدَّمٌ عَلَى الرِّبْحِ .
وَأَيْضًا فَضَرَرُ هَؤُلَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ
أُولَئِكَ ؛ بَلْ ضَرَرُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ ضَرَرِ مَنْ يُقَاتِلُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَضَرَرُهُمْ فِي
الدِّينِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمُحَارِبِينَ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَقُومَ
فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبِ فَلَا يَحِلُّ
لِأَحَدِ أَنْ يَكْتُمَ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ أَخْبَارِهِمْ ؛ بَلْ يُفْشِيهَا
وَيُظْهِرُهَا لِيَعْرِفَ الْمُسْلِمُونَ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ وَلَا يَحِلُّ
لِأَحَدِ أَنْ يُعَاوِنَهُمْ عَلَى بَقَائِهِمْ فِي الْجُنْدِ والمستخدمين وَلَا
يَحِلُّ لِأَحَدِ السُّكُوتُ عَنْ الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ
بِهِ وَرَسُولُهُ . وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنَّ يَنْهَى عَنْ الْقِيَامِ بِمَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ
الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } وَهَؤُلَاءِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ
الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ . وَالْمُعَاوِنُ عَلَى كَفِّ شَرِّهِمْ
وَهِدَايَتِهِمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مَا لَا
يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ
هُوَ هِدَايَتُهُمْ ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي الْقُيُودِ
وَالسَّلَاسِلِ حَتَّى تُدْخِلُوهُمْ الْإِسْلَامَ . فَالْمَقْصُودُ بِالْجِهَادِ
وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ : هِدَايَةُ الْعِبَادِ
لِمَصَالِحِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَمَنْ هَدَاهُ
اللَّهُ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ كَفَّ اللَّهُ
ضَرَرَهُ عَنْ غَيْرِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِهَادَ وَالْأَمْرَ
بِالْمَعْرُوفِ . وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ : هُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ
كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { رَأْسُ الْأَمْرِ
الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ تَعَالَى } " وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ
الدَّرَجَةِ إلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَعَدَّهَا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ } " وَقَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ } " وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا
مَاتَ مُجَاهِدًا وَجَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ
الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفِتْنَةَ . وَالْجِهَادُ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ
وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ
اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ
وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } { خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ سَيِّدِنَا
مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ " الدُّرْزِيَّةِ " و " الْنُصَيْرِيَّة " : مَا
حُكْمُهُمْ ؟
فَأَجَابَ :
هَؤُلَاءِ " الدُّرْزِيَّةُ " و " الْنُصَيْرِيَّة " كُفَّارٌ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَلَا نِكَاحُ
نِسَائِهِمْ ؛ بَلْ وَلَا يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ
عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ ؛ وَلَا يَهُودَ وَلَا نَصَارَى لَا
يُقِرُّونَ بِوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَا وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ
وَلَا وُجُوبِ الْحَجِّ ؛ وَلَا تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ
الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا . وَإِنْ أَظْهَرُوا الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ
هَذِهِ الْعَقَائِدِ فَهُمْ كُفَّارٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . فَأَمَّا
" الْنُصَيْرِيَّة " فَهُمْ أَتْبَاعُ أَبِي شُعَيْبٍ مُحَمَّدِ بْنِ
نَصِيرٍ وَكَانَ مِنْ الْغُلَاةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ عَلِيًّا إلَهٌ
وَهُمْ يَنْشُدُونَ :
أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا * * * حيدرة الْأَنْزَعُ الْبَطِينُ
وَلَا حِجَابَ عَلَيْهِ إلَّا * * * مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ الْأَمِينُ
وَلَا طَرِيقَ إلَيْهِ إلَّا * * * سَلْمَانُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
وَأَمَّا " الدُّرْزِيَّةُ " فَأَتْبَاعُ هشتكين الدُّرْزِيُّ ؛ وَكَانَ
مِنْ مَوَالِي الْحَاكِمِ أَرْسَلَهُ إلَى أَهْلِ وَادِي تَيْمِ اللَّهِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ فَدَعَاهُمْ إلَى إلَهِيَّةِ الْحَاكِمِ وَيُسَمُّونَهُ
"
الْبَارِي الْعَلَّامُ " وَيَحْلِفُونَ بِهِ وَهُمْ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة
الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ نَسَخَ شَرِيعَةَ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُمْ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ الْغَالِيَةِ يَقُولُونَ
بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَإِنْكَارِ الْمَعَادِ وَإِنْكَارِ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ
وَمُحَرَّمَاتِهِ وَهُمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ
أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَايَتُهُمْ أَنْ
يَكُونُوا " فَلَاسِفَةً " عَلَى مَذْهَبِ أَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِ أَوْ
" مَجُوسًا " . وَقَوْلُهُمْ مُرَكَّبٌ مِنْ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ
وَالْمَجُوسِ وَيُظْهِرُونَ التَّشَيُّعَ نِفَاقًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
رَدًّا عَلَى نُبَذٍ لِطَوَائِفَ مِنْ " الدُّرُوزِ "
كُفْرُ هَؤُلَاءِ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ ؛ بَلْ مَنْ شَكَّ
فِي كُفْرِهِمْ فَهُوَ كَافِرٌ مِثْلُهُمْ ؛ لَا هُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ ؛ بَلْ هُمْ الْكَفَرَةُ الضَّالُّونَ فَلَا
يُبَاحُ أَكْلُ طَعَامِهِمْ وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَتُؤْخَذُ أَمْوَالُهُمْ .
فَإِنَّهُمْ زَنَادِقَةٌ مُرْتَدُّونَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ ؛ بَلْ
يُقْتَلُونَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا ؛ وَيُلْعَنُونَ كَمَا وُصِفُوا ؛ وَلَا يَجُوزُ
اسْتِخْدَامُهُمْ لِلْحِرَاسَةِ وَالْبِوَابَةِ وَالْحِفَاظِ . وَيَجِبُ قَتْلُ
عُلَمَائِهِمْ وَصُلَحَائِهِمْ لِئَلَّا يُضِلُّوا غَيْرَهُمْ ؛ وَيَحْرُمُ
النَّوْمُ مَعَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ ؛ وَرُفْقَتِهِمْ ؛ وَالْمَشْيُ مَعَهُمْ
وَتَشْيِيعُ جَنَائِزِهِمْ إذَا عُلِمَ مَوْتُهَا . وَيَحْرُمُ عَلَى وُلَاةِ
أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ إضَاعَةُ مَا أَمَرَ اللَّهُ مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ
عَلَيْهِمْ بِأَيِّ شَيْءٍ يَرَاهُ الْمُقِيمُ لَا الْمُقَامُ عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التكلان .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ هَؤُلَاءِ " القلندرية " الَّذِينَ يَحْلِقُونَ ذُقُونَهُمْ : مَا
هُمْ ؟ وَمِنْ أَيِّ الطَّوَائِفِ يُحْسَبُونَ ؟ وَمَا قَوْلُكُمْ فِي
اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْعَمَ
شَيْخَهُمْ قلندر عِنَبًا وَكَلَّمَهُ بِلِسَانِ الْعَجَمِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا هَؤُلَاءِ " القلندرية " الْمُحَلِّقِي اللِّحَى : فَمِنْ أَهْلِ
الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ وَأَكْثَرُهُمْ كَافِرُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ
لَا يَرَوْنَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ
أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ ؛
وَلَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَقَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مُسْلِمٌ ؛
لَكِنْ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ أَوْ فَاسِقٌ فَاجِرٌ . وَمَنْ قَالَ إنَّ " قلندر
" مَوْجُودٌ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ
كَذَبَ وَافْتَرَى ؛ بَلْ قَدْ قِيلَ : أَصْلُ هَذَا الصِّنْفِ أَنَّهُمْ كَانُوا
قَوْمًا مِنْ نُسَّاكِ الْفُرْسِ يَدُورُونَ عَلَى مَا فِيهِ رَاحَةُ قُلُوبِهِمْ
بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ . هَكَذَا فسرهم
الشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ السهروردي فِي عَوَارِفِهِ ثُمَّ إنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ
تَرَكُوا الْوَاجِبَاتِ وَفَعَلُوا الْمُحَرَّمَاتِ . بِمَنْزِلَةِ
"
الملامية " الَّذِينَ كَانُوا يُخْفُونَ حَسَنَاتِهِمْ وَيُظْهِرُونَ مَا لَا
يُظَنُّ بِصَاحِبِهِ الصَّلَاحُ مِنْ زِيِّ الْأَغْنِيَاءِ وَلُبْسِ الْعِمَامَةِ
فَهَذَا قَرِيبٌ . وَصَاحِبُهُ مَأْجُورٌ عَلَى نِيَّتِهِ ؛ ثُمَّ حَدَثَ قَوْمٌ
فَدَخَلُوا فِي أُمُورٍ مَكْرُوهَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ ؛ ثُمَّ زَادَ الْأَمْرُ
فَفَعَلَ قَوْمٌ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَتَرْكِ
الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ ؛ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ دُخُولٌ مِنْهُمْ فِي
" الملاميات " وَلَقَدْ صَدَقُوا فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ اللَّوْمَ
وَالذَّمَّ وَالْعِقَابَ مِنْ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ وَتَجِبُ
عُقُوبَتُهُمْ جَمِيعُهُمْ وَمَنْعُهُمْ مِنْ هَذَا الشِّعَارِ الْمَلْعُونِ كَمَا
يَجِبُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُعْلِنٍ بِبِدْعَةِ أَوْ فُجُورٍ . وَلَيْسَ ذَلِكَ
مُخْتَصًّا بِهِمْ ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُتَنَسِّكَةِ
وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ وَالْمُتَزَهِّدَةِ
وَالْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُلُوكِ
وَالْأَغْنِيَاءِ ؛ وَالْكُتَّابِ ؛ والحساب ؛ وَالْأَطِبَّاءِ ؛ وَأَهْلِ
الدِّيوَانِ وَالْعَامَّةِ : خَارِجًا عَنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ الَّذِي
بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لَا يُقِرُّ بِجَمِيعِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ
عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ؛ وَلَا يُحَرِّمُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛
أَوْ يَدَيْنِ بِدِينِ يُخَالِفُ الدِّينَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ
بَاطِنًا وَظَاهِرًا : مِثْلُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ شَيْخَهُ يَرْزُقُهُ ؛ أَوْ
يَنْصُرُهُ أَوْ يَهْدِيهِ ؛ أَوْ يُغِيثُهُ ؛ أَوْ يُعِينُهُ ؛ أَوْ كَانَ
يَعْبُدُ شَيْخَهُ أَوْ يَدْعُوهُ وَيَسْجُدُ لَهُ ؛ أَوْ كَانَ يُفَضِّلُهُ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفْضِيلًا مُطْلَقًا ؛ أَوْ
مُقَيَّدًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْفَضْلِ الَّذِي يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛
أَوْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ هُوَ أَوْ شَيْخُهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ مُتَابَعَةِ
الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ كُفَّارٌ إنْ
أَظْهَرُوا ذَلِكَ ؛ وَمُنَافِقُونَ إنْ لَمْ يُظْهِرُوهُ .
وَهَؤُلَاءِ
الْأَجْنَاسُ وَإِنْ كَانُوا قَدْ كَثُرُوا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَلِقِلَّةِ
دُعَاةِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَفُتُورِ آثَارِ الرِّسَالَةِ فِي أَكْثَرِ
الْبُلْدَانِ وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ آثَارِ الرِّسَالَةِ
وَمِيرَاثِ النُّبُوَّةِ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ الْهُدَى وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ
يَبْلُغْهُمْ ذَلِكَ . وَفِي أَوْقَاتِ الْفَتَرَاتِ وَأَمْكِنَةِ الْفَتَرَاتِ :
يُثَابُ الرَّجُلُ عَلَى مَا مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ الْقَلِيلِ وَيَغْفِرُ
اللَّهُ فِيهِ لِمَنْ لَمْ تَقُمْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا لَا يَغْفِرُ بِهِ
لِمَنْ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ : " {
يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَعْرِفُونَ فِيهِ صَلَاةً وَلَا صِيَامًا
وَلَا حَجًّا وَلَا عُمْرَةً إلَّا الشَّيْخَ الْكَبِيرَ ؛ وَالْعَجُوزَ
الْكَبِيرَةَ . وَيَقُولُونَ : أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا وَهُمْ يَقُولُونَ لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ فَقِيلَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ : مَا تُغْنِي عَنْهُمْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ فَقَالَ : تُنْجِيهِمْ مِنْ النَّارِ } . وَأَصْلُ ذَلِكَ
أَنَّ الْمَقَالَةَ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ
يُقَالُ هِيَ كُفْرٌ قَوْلًا يُطْلَقُ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ
؛ فَإِنَّ " الْإِيمَانَ " مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُتَلَقَّاةِ عَنْ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْكُمُ فِيهِ النَّاسُ
بِظُنُونِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ . وَلَا يَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ فِي كُلِّ شَخْصٍ
قَالَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَافِرٌ حَتَّى يَثْبُتَ فِي حَقِّهِ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ
وَتَنْتَفِي مَوَانِعُهُ مِثْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْخَمْرَ أَوْ الرِّبَا
حَلَالٌ ؛ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ ؛ أَوْ لِنُشُوئِهِ فِي بَادِيَةٍ
بَعِيدَةٍ أَوْ سَمِعَ كَلَامًا أَنْكَرَهُ وَلَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ مِنْ
الْقُرْآنِ وَلَا أَنَّهُ مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُنْكِرُ أَشْيَاءَ حَتَّى
يَثْبُتَ عِنْدَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهَا
وَكَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَشُكُّونَ فِي أَشْيَاءَ مِثْلَ رُؤْيَةِ اللَّهِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ
حَتَّى
يَسْأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمِثْلَ الَّذِي قَالَ : إذَا أَنَا مُتّ فَاسْحَقُونِي وذروني فِي الْيَمِّ ؛
لَعَلِّي أَضِلُّ عَنْ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا
يُكَفَّرُونَ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِالرِّسَالَةِ كَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
الرُّسُلِ } وَقَدْ عَفَا اللَّه لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ
وَالنِّسْيَانِ وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي الْقَوَاعِدِ الَّتِي فِي هَذَا
الْجَوَابِ فِي أَمَاكِنِهَا وَالْفَتْوَى لَا تَحْتَمِلُ الْبَسْطَ أَكْثَرَ مِنْ
هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْوُجُودِ أَوْ
يَقُولُ : إنَّ لَهُ نَجْمًا فِي السَّمَاءِ يَسْعَدُ بِسَعَادَتِهِ وَيَشْقَى
بِعَكْسِهِ وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا }
وَبِقَوْلِهِ : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } وَيَقُولُ : إنَّهَا
صَنْعَةُ إدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَقُولُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ نَجْمَهُ كَانَ بِالْعَقْرَبِ وَالْمِرِّيخِ . فَهَلْ
هَذَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا ؟ وَحَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ
الدِّينِ : فَمَاذَا يَجِبُ عَلَى قَائِلِهِ ؟ وَالْمُنْكِرُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ
يَكُونُونَ مِنْ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ ؛ وَالنَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، النُّجُومُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ
الْمُسَبِّحَةِ لَهُ السَّاجِدَةِ لَهُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ
أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ } ثُمَّ قَالَ : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } وَهَذَا
التَّفْرِيقُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ السُّجُودَ لِمُجَرَّدِ مَا فِيهَا
مِنْ الدِّلَالَةِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ
النَّاسِ ؛ إذْ هَذِهِ الدِّلَالَةُ ؛ يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ
؛ فَجَمِيعُ النَّاسِ فِيهِمْ هَذِهِ الدِّلَالَةُ ؛ وَهُوَ قَدْ فَرَّقَ فَعُلِمَ
أَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ زَائِدٌ مِنْ جِنْسِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُؤْمِنُ
وَيَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ الْكَافِرِ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ . وَهُوَ
سُبْحَانَهُ مَعَ ذَلِكَ قَدْ جَعَلَ فِيهَا مَنَافِعَ لِعِبَادِهِ وَسَخَّرَهَا
لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } وَقَالَ : { وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } وَقَالَ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وَمِنْ مَنَافِعِهَا
الظَّاهِرَةِ مَا يَجْعَلُهُ سُبْحَانَهُ بِالشَّمْسِ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ
وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَنِضَاجِ الثِّمَارِ وَخَلْقِ الْحَيَوَانِ
وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ ؛ وَكَذَلِكَ مَا يَجْعَلُهُ بِهَا لَهُمْ مِنْ
التَّرْطِيبِ وَالتَّيْبِيسِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَشْهُودَةِ
كَمَا جَعَلَ فِي النَّارِ الْإِشْرَاقَ وَالْإِحْرَاقَ وَفِي الْمَاءِ
التَّطْهِيرَ وَالسَّقْيَ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي يَذْكُرُهَا
فِي كِتَابِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
طَهُورًا } { لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا
أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا } وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ
أَنَّهُ يَجْعَلُ حَيَاةَ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ بِبَعْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
{ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا } وَكَمَا قَالَ : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ
الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا
ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا
بِهِ
مِنْ
كُلِّ الثَّمَرَاتِ } وَكَمَا قَالَ : { وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ
مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ
دَابَّةٍ } . فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ : إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ هَذِهِ
الْأُمُورَ عِنْدَهَا ؛ لَا بِهَا . فَعِبَارَتُهُ مُخَالِفَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ
وَالْأُمُورِ الْمَشْهُودَةِ ؛ كَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِالْفِعْلِ
هُوَ مُشْرِكٌ مُخَالِفٌ الْعَقْلَ وَالدِّينَ . وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ فِي
كِتَابِهِ مِنْ مَنَافِعَ النُّجُومِ فَإِنَّهُ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا زِينَةٌ لِلسَّمَاءِ الدُّنْيَا
وَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تُرْجَمُ بِالنُّجُومِ وَإِنْ كَانَتْ النُّجُومُ
الَّتِي تُرْجَمُ بِهَا الشَّيَاطِينُ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ غَيْرَ النُّجُومِ
الثَّابِتَةِ فِي السَّمَاءِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَا
تَزُولُ عَنْ مَكَانِهَا ؛ بِخِلَافِ تِلْكَ ؛ وَلِهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُخَالِفَةٌ
لِتِلْكَ ؛ وَإِنْ كَانَ اسْمُ النُّجُومِ يَجْمَعُهَا ؛ كَمَا يَجْمَعُ اسْمَ
الدَّابَّةِ وَالْحَيَوَانِ لِلْمَلَكِ وَالْآدَمِيِّ وَالْبَهَائِمِ وَالذُّبَابِ
وَالْبَعُوضِ . وَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي اتَّفَقَ
عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ؛ وَأَمَرَ
بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَقَالَ : { إنَّ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ
أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ } " وَفِي رِوَايَةٍ " { آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ
اللَّهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ } " هَذَا قَالَهُ رَدًّا لِمَا قَالَهُ
بَعْضُ جُهَّالِ النَّاسِ : إنَّ الشَّمْسَ كَسَفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ ابْنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا كَسَفَتْ يَوْمَ
مَوْتِهِ وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ لَمَّا كَسَفَتْ أَنَّ كُسُوفَهَا كَانَ
لِأَجْلِ مَوْتِهِ وَأَنَّ مَوْتَهُ هُوَ
السَّبَبُ
لِكُسُوفِهَا كَمَا يَحْدُثُ عَنْ مَوْتِ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مَصَائِبُ فِي
النَّاسِ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ لَا يَكُونُ كُسُوفُهُمَا عَنْ مَوْتِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ
وَلَا عَنْ حَيَاتِهِ : وَنَفَى أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ أَثَرًا فِي
كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
وَأَنَّهُ يُخَوِّفُ عِبَادَهُ . فَذَكَرَ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ تَخْوِيفُ
الْعِبَادِ ؛ كَمَا يَكُونُ تَخْوِيفُهُمْ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ : كَالرِّيَاحِ
الشَّدِيدَةِ وَالزَّلَازِلِ وَالْجَدْبِ وَالْأَمْطَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ عَذَابًا كَمَا عَذَّبَ
اللَّهُ أُمَمًا بِالرِّيحِ وَالصَّيْحَةِ وَالطُّوفَانِ وَقَالَ تَعَالَى : {
فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا
وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ
وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } وَقَدْ قَالَ : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ
مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلَّا تَخْوِيفًا }
وَإِخْبَارَهُ بِأَنَّهُ يُخَوِّفُ عِبَادَهُ بِذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ قَدْ
يَكُونُ سَبَبًا لِعَذَابِ يَنْزِلُ كَالرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ الشَّدِيدَةِ .
وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَا
يَنْزِلُ فِي الْأَرْضِ . فَمَنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : إنَّ لَهَا تَأْثِيرًا .
مَا قَدْ عُلِمَ بِالْحِسِّ وَغَيْرِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَهَذَا حَقٌّ ؛
وَلَكِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِالْعِبَادَاتِ الَّتِي تَدْفَعُ عَنَّا مَا
يُرْسَلُ بِهِ مِنْ الشَّرِّ كَمَا أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِنْدَ الْخُسُوفِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالدُّعَاءِ
وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْعِتْقِ وَكَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَتَغَيَّرَ وَأَمَرَ أَنْ يُقَالَ
عِنْدَ هُبُوبِهَا : " { اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك خَيْرَ هَذِهِ الرِّيحِ
وَخَيْرَ مَا
أُرْسِلَتْ
بِهِ وَنَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ }
" وَقَالَ : " { إنَّ الرِّيحَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَإِنَّهَا تَأْتِي
بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَلَا تَسُبُّوهَا ؛ وَلَكِنْ سَلُوا
اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا وَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهَا } "
فَأَخْبَرَ أَنَّهَا تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ . وَأَمَرَ
أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا وَنَعُوذَ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهَا .
فَهَذِهِ السُّنَّةُ فِي أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ : أَنْ يَفْعَلَ
الْعَبْدُ عِنْدَ أَسْبَابِ الْخَيْرِ الظَّاهِرَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ
مَا يَجْلِبُ اللَّهُ بِهِ الْخَيْرَ وَعِنْدَ أَسْبَابِ الشَّرِّ الظَّاهِرَةِ
مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ الشَّرَّ فَأَمَّا مَا
يَخْفَى مِنْ الْأَسْبَابِ فَلَيْسَ الْعَبْدُ مَأْمُورًا بِأَنْ يَتَكَلَّفَ
مَعْرِفَتَهُ ؛ بَلْ إذَا فَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ وَتَرَكَ مَا حَظَرَ : كَفَاهُ
اللَّهُ مُؤْنَةَ الشَّرِّ وَيَسَّرَ لَهُ أَسْبَابَ الْخَيْرِ { وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيمَنْ
يَتَعَاطَى السِّحْرَ لِجَلْبِ مَنَافِعِ الدُّنْيَا : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } - إلَى
قَوْلِهِ - { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ
اعْتَاضَ بِذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ؛ وَإِنَّمَا
يَرْجُو بِزَعْمِهِ نَفْعَهُ فِي فِي الدُّنْيَا . كَمَا يَرْجُونَ بِمَا
يَفْعَلُونَهُ مِنْ السِّحْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا مِثْلَ
الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ . ثُمَّ قَالَ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
خَيْرٌ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى هُمَا
خَيْرٌ لَهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ
اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا
وَكَانُوا يَتَّقُونَ } الْآيَةُ وَقَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : { وَكَذَلِكَ
مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ
بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } { وَلَأَجْرُ
الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ
أَجْرَ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ مِمَّا يُعْطَوْنَ فِي
الدُّنْيَا مِنْ الْمُلْكِ وَالْمَالِ كَمَا أُعْطِيَ يُوسُفُ . وَقَدْ أَخْبَرَ
سُبْحَانَهُ بِسُوءِ عَاقِبَةِ مَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى فِي غَيْرِ
آيَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يُفْلِحُ
السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } وَالْمُفْلِحُ الَّذِي يَنَالُ الْمَطْلُوبَ وَيَنْجُو
مِنْ الْمَرْهُوبِ . فَالسَّاحِرُ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ وَفِي سُنَنِ أَبِي
دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : "
{ مَنْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ النُّجُومِ فَقَدْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ
السِّحْرِ } " و " السِّحْرُ " مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ : وَذَلِكَ أَنَّ النُّجُومَ الَّتِي مِنْ السِّحْرِ
نَوْعَانِ " أَحَدُهُمَا " عِلْمِيٌّ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ
بِحَرَكَاتِ النُّجُومِ عَلَى الْحَوَادِثِ ؛ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِقْسَامِ
بِالْأَزْلَامِ . " الثَّانِي " عَمَلِيٌّ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُونَ
إنَّهُ الْقُوَى السَّمَاوِيَّةُ بِالْقُوَى الْمُنْفَعِلَةِ الْأَرْضِيَّةِ :
كَطَلَاسِمَ وَنَحْوِهَا وَهَذَا مِنْ أَرْفَعِ أَنْوَاعِ السِّحْرِ . وَكُلُّ مَا
حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَضَرَرُهُ أَعْظَمُ مِنْ نَفْعِهِ
"
فَالثَّانِي " وَإِنَّ تَوَهَّمَ الْمُتَوَهِّمُ أَنَّ فِيهِ تَقَدُّمَةً
لِلْمَعْرِفَةِ بِالْحَوَادِثِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ . فَالْجَهْلُ فِي ذَلِكَ
أَضْعَفُ وَمَضَرَّةُ ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ ؛ وَلِهَذَا قَدْ عَلِمَ
الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ بِالتَّجْرِبَةِ وَالتَّوَاتُرِ أَنَّ الْأَحْكَامَ
الَّتِي يَحْكُمُ بِهَا الْمُنَجِّمُونَ يَكُونُ الْكَذِبُ فِيهَا أَضْعَافُ
الصِّدْقِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُهَّانِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ
: { إنْ مِنَّا قَوْمًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ فَقَالَ : إنَّهُمْ لَيْسُوا
بِشَيْءِ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا
بِالشَّيْءِ فَيَكُونُ حَقًّا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَسْمَعُهَا الْجِنِّيُّ يُقِرُّهَا
فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ } " وَأَخْبَرَ " { أَنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى
بِالْأَمْرِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ
كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانَ حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ
قَالُوا : مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالُوا : الْحَقَّ . وَأَنَّ كُلَّ أَهْلِ
السَّمَاءِ يُخْبِرُونَ أَهْلَ السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهِمْ حَتَّى يَنْتَهِيَ
الْخَبَرُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَهُنَاكَ مُسْتَرِقَةُ السَّمْعِ
بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ فَرُبَّمَا سَمِعَ الْكَلِمَةَ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ
الشِّهَابُ وَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ بَعْدَ أَنْ يُلْقِيَهَا قَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ أَتَوْا بِالْأَمْرِ عَلَى وَجْهِهِ ؛
وَلَكِنْ يَزِيدُونَ فِي الْكَلِمَةِ مِائَةَ كِذْبَةٍ } " . وَهَكَذَا
" الْمُنَجِّمُونَ " حَتَّى إنِّي خَاطَبْتهمْ بِدِمَشْقَ وَحَضَرَ
عِنْدِي رُؤَسَاؤُهُمْ . وَبَيَّنْت فَسَادَ صِنَاعَتِهِمْ بِالْأَدِلَّةِ
الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَعْتَرِفُونَ بِصِحَّتِهَا قَالَ رَئِيسٌ مِنْهُمْ :
وَاَللَّهِ إنَّا نَكْذِبُ مِائَةَ كِذْبَةٍ حَتَّى نَصْدُقَ فِي كَلِمَةٍ .
وَذَلِكَ
أَنَّ مَبْنَى عِلْمِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةَ هِيَ السَّبَبُ
فِي الْحَوَادِثِ وَالْعِلْمُ بِالسَّبَبِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبَّبِ وَهَذَا
إنَّمَا يَكُونُ إذَا عُلِمَ السَّبَبُ التَّامُّ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ
حُكْمُهُ وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مَا يَعْلَمُونَ - إنْ عَلِمُوا - جُزْءًا يَسِيرًا
مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الْكَثِيرَةِ وَلَا يَعْلَمُونَ بَقِيَّةَ
الْأَسْبَابِ وَلَا الشُّرُوطَ وَلَا الْمَوَانِعَ مِثْلُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ
الشَّمْسَ فِي الصَّيْفِ تَعْلُو الرَّأْسَ حَتَّى يَشْتَدَّ الْحَرُّ فَيُرِيدُ
أَنْ يَعْلَمَ مِنْ هَذَا - مَثَلًا - أَنَّهُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْعِنَبَ الَّذِي
فِي الْأَرْضِ الْفُلَانِيَّةِ يَصِيرُ زَبِيبًا ؛ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ عِنَبًا
وَأَنَّهُ يَنْضَجُ وَيَنْشُرُهُ صَاحِبُهُ فِي الشَّمْسِ وَقْتَ الْحَرِّ
فَيَتَزَبَّبُ . فَهَذَا وَإِنْ كَانَ يَقَعُ كَثِيرًا ؛ لَكِنَّ أَخْذَ هَذَا
مِنْ مُجَرَّدِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ جَهْلٌ عَظِيمٌ إذْ قَدْ يَكُونُ هُنَاكَ عِنَبٌ
وَقَدْ لَا يَكُونُ ؛ وَقَدْ يُثْمِرُ ذَلِكَ الشَّجَرُ إنْ خُدِمَ وَقَدْ لَا
يُثْمِرُ وَقَدْ يُؤْكَلُ عِنَبًا وَقَدْ يُعْصَرُ وَقَدْ يُسْرَقُ وَقَدْ
يُزَبَّبُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَالدِّلَالَةُ الدَّالَّةُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ
الصِّنَاعَةِ وَتَحْرِيمِهَا كَثِيرَةٌ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا وَقَدْ
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ
تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا } " و " الْعَرَّافُ "
قَدْ قِيلَ إنَّهُ اسْمٌ عَامٌّ لِلْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ وَالرِّمَالِ
وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي تَقَدُّمِ الْمَعْرِفَةِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ
وَلَوْ قِيلَ : إنَّهُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِبَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ
فَسَائِرُهَا يَدْخُلُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ كَمَا قِيلَ فِي
اسْمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَنَحْوِهِمَا .
وَأَمَّا
إنْكَارُ بَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ
وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَسْبَابِ فَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ ؛ وَلَيْسَ لَهُ
فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا ؛ فَإِنَّ
النُّصُوصَ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي
السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ
تَعَوَّذِي بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا فَهَذَا الْغَاسِقُ إذَا وَقَبَ } "
وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ حَيْثُ أَخْبَرَ " { أَنَّ اللَّهَ
يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ } " وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ
أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ } " أَيْ لَا يَكُونُ الْكُسُوفُ مُعَلَّلًا
بِالْمَوْتِ فَهُوَ نَفْيُ الْعِلَّةِ الْفَاعِلَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ
الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ الْأَنْصَارِ
أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ
رُمِيَ بِنَجْمِ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ : " { مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا
فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ فَقَالُوا : كُنَّا نَقُولُ : وُلِدَ اللَّيْلَةَ عَظِيمٌ
أَوْ مَاتَ عَظِيمٌ فَقَالَ : إنَّهُ لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا
لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى بِالْأَمْرِ سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ
} " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي مُسْتَرِقِ السَّمْعِ . فَنَفَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ الرَّمْيُ بِهَا لِأَجْلِ أَنَّهُ قَدْ
وُلِدَ عَظِيمٌ أَوْ مَاتَ عَظِيمٌ ؛ بَلْ لِأَجْلِ الشَّيَاطِينِ
الْمُسْتَرِقِينَ السَّمْعَ . فَفِي كِلَا الْحَدِيثَيْنِ مِنْ أَنَّ مَوْتَ
النَّاسِ وَحَيَاتَهُمْ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِكُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ
وَلَا الرَّمْيَ بِالنَّجْمِ ؛ وَإِنْ كَانَ مَوْتُ بَعْضِ النَّاسِ قَدْ
يَقْتَضِي حُدُوثَ أَمْرٍ فِي السَّمَوَاتِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ " {
إنَّ الْعَرْشَ عَرْشَ الرَّحْمَنِ اهْتَزَّ لِمَوْتِ سَعْدِ
بْنِ
مُعَاذٍ } " وَأَمَّا كَوْنُ الْكُسُوفِ أَوْ غَيْرُهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا
لِحَادِثِ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَذَابٍ يَقْتَضِي مَوْتًا أَوْ غَيْرِهِ : فَهَذَا
قَدْ أَثْبَتَهُ الْحَدِيثُ نَفْسُهُ . وَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُنَافَى لِكَوْنِ الْكُسُوفِ لَهُ وَقْتٌ
مَحْدُودٌ يَكُونُ فِيهِ حَيْثُ لَا يَكُونُ كُسُوفُ الشَّمْسِ إلَّا فِي آخِرِ
الشَّهْرِ لَيْلَةَ السِّرَارِ وَلَا يَكُونُ خُسُوفُ الْقَمَرِ إلَّا فِي وَسَطِ
الشَّهْرِ وَلَيَالِي الْإِبْدَارِ . وَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ ذَلِكَ مِنْ
الْمُتَفَقِّهَةِ أَوْ الْعَامَّةِ فَلِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْحِسَابِ وَلِهَذَا
يُمْكِنُ الْمَعْرِفَةُ بِمَا مَضَى مِنْ الْكُسُوفِ وَمَا يَسْتَقْبِلُ كَمَا
يُمْكِنُ الْمَعْرِفَةُ بِمَا مَضَى مِنْ الْأَهِلَّةِ وَمَا يَسْتَقْبِلُ إذْ
كُلُّ ذَلِكَ بِحِسَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } وَقَالَ تَعَالَى : { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
بِحُسْبَانٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً
وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسَابَ } وَقَالَ : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } . وَمِنْ هُنَا صَارَ بَعْضُ الْعَامَّةِ إذَا رَأَى
الْمُنَجِّمَ قَدْ أَصَابَ فِي خَبَرِهِ عَنْ الْكُسُوفِ الْمُسْتَقْبَلِ يَظُنُّ
أَنَّ خَبَرَهُ عَنْ الْحَوَادِثِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ؛ فَإِنَّ هَذَا جَهْلٌ
إذْ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ إخْبَارِهِ بِأَنَّ الْهِلَالَ يَطْلُعُ :
إمَّا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ وَإِمَّا لَيْلَةَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ فَإِنَّ
هَذَا أَمْرٌ أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ لَا يُخْرَمُ أَبَدًا ؛
وَبِمَنْزِلَةِ خَبَرِهِ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ آخِرَ النَّهَارِ وَأَمْثَالِ
ذَلِكَ . فَمَنْ عَرَفَ مَنْزِلَةَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَجَارِيَهُمَا عَلِمَ
ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عِلْمًا قَلِيلَ الْمَنْفَعَةِ .
فَإِذَا
كَانَ الْكُسُوفُ لَهُ أَجَلٌ مُسَمًّى لَمْ يُنَافِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ
أَجَلِهِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ سَبَبًا لِمَا يَقْضِيهِ مِنْ عَذَابٍ وَغَيْرِهِ
لِمَنْ يُعَذِّبُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يُنْزِلُ
اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّ تَعْذِيبَ اللَّهِ لِمَنْ عَذَّبَهُ بِالرِّيحِ
الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ كَقَوْمِ عَادٍ كَانَتْ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ
وَهُوَ آخِرُ الشِّتَاءِ كَمَا قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَقَصَصِ
الْأَنْبِيَاءِ ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {
إذَا رَأَى مُخِيلَةً - وَهُوَ السَّحَابُ الَّذِي يُخَالُ فِيهِ الْمَطَرُ -
أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ : إنَّ
النَّاسَ إذَا رَأَوْا مُخِيلَةً اسْتَبْشَرُوا ؟ فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ وَمَا
يُؤَمِّنُنِي ؟ قَدْ رَأَى قَوْمُ عَادٍ الْعَذَابَ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ فَقَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } } وَكَذَلِكَ
الْأَوْقَاتُ الَّذِي يُنْزِلُ اللَّهُ فِيهَا الرَّحْمَةَ كَالْعَشَرِ الْآخِرَةِ
مِنْ رَمَضَانَ وَالْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَكَجَوْفِ اللَّيْلِ ؛ وَغَيْرِ
ذَلِكَ هِيَ أَوْقَاتٌ مَحْدُودَةٌ لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ وَيَنْزِلُ
فِيهَا مِنْ الرَّحْمَةِ مَا لَا يَنْزِلُ فِي غَيْرِهَا . وَقَدْ جَاءَ فِي
بَعْضِ طُرُقِ أَحَادِيثِ الْكُسُوفِ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُ فِي
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ
لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا تَجَلَّى لِشَيْءِ مِنْ
خَلْقِهِ خَشَعَ لَهُ } " وَقَدْ طَعَنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو حَامِدٍ
وَنَحْوُهُ وَرَدُّوا ذَلِكَ ؛ لَا مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ ؛ فَإِنَّهُمْ
قَلِيلُو الْمَعْرِفَةِ بِهِ كَمَا كَانَ أَبُو حَامِدٍ يَقُولُ عَنْ نَفْسِهِ :
أَنَا مُزْجَى الْبِضَاعَةِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ
وَلَكِنْ
مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ سَبَبَ الْكُسُوفِ إذَا كَانَ - مَثَلًا
- كَوْنَ الْقَمَرِ إذَا حَاذَاهَا مَنَعَ نُورَهَا أَنْ يَصِلَ إلَى الْأَرْضِ
لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّلَ ذَلِكَ بِالتَّجَلِّي . وَالتَّجَلِّي الْمَذْكُورُ
لَا يُنَافِي السَّبَبَ الْمَذْكُورَ ؛ فَإِنَّ خُشُوعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ
لِلَّهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ إذَا حَصَلَ لِنُورِهِ مَا يَحْصُلُ مِنْ انْقِطَاعٍ
يَرْفَعُ تَأْثِيرَهُ عَنْ الْأَرْضِ ؛ وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّ سُلْطَانِهِ
وَمَوْضِعِ انْتِشَارِهِ وَتَأْثِيرِهِ ؛ فَإِنَّ الْمَلِكَ الْمُتَصَرِّفَ فِي
مَكَانٍ بَعِيدٍ لَوْ مُنِعَ ذَلِكَ لَذَلَّ لِذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ
تَعَالَى : { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } فَالْمُدَبِّرَاتُ هِيَ الْمَلَائِكَةُ
. وَأَمَّا إقْسَامُ اللَّهِ بِالنُّجُومِ كَمَا أَقْسَمَ بِهَا فِي قَوْلِهِ : {
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ } { الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } فَهُوَ كَإِقْسَامِهِ
بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ كَمَا أَقْسَمَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : يَقْتَضِي تَعْظِيمَ قَدْرِ
الْمُقْسَمِ بِهِ وَالتَّنْبِيهَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْعِبْرَةِ
وَالْمَنْفَعَةِ لِلنَّاسِ ؛ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَلَا
يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْقُلُوبُ بِهِ أَوْ يُظَنَّ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْعِدُ
الْمُنْحِسُ كَمَا لَا يُظَنَّ ذَلِكَ فِي { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى } {
وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى } وَفِي { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } {
فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا } وَفِي { وَالطُّورِ } { وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ }
وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَاعْتِقَادُ الْمُعْتَقِدِ أَنَّ نَجْمًا مِنْ النُّجُومِ
السَّبْعَةِ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِسَعْدِهِ وَنَحْسِهِ اعْتِقَادُهُ فَاسِدٌ
وَأَنَّ الْمُعْتَقِدَ أَنَّهُ هُوَ الْمُدَبِّرُ لَهُ : فَهُوَ كَافِرٌ .
وَكَذَلِكَ إنْ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ دُعَاؤُهُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ كَانَ
كُفْرًا ؛ وَشِرْكًا مَحْضًا وَغَايَةُ
مَنْ
يَقُولُ ذَلِكَ أَنْ يَبْنِيَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هُنَا الْوَلَدَ حِينَ وُلِدَ
بِهَذَا الطَّالِعِ . وَهَذَا الْقَدْرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ هُوَ
الْمُؤَثِّرُ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْمَوْلُودِ ؛ بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ
جُزْءًا يَسِيرًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ . وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُوجِبُ مَا
ذُكِرَ ؛ بَلْ مَا عُلِمَ حَقِيقَةً تَأْثِيرُهُ فِيهِ مِثْلُ حَالِ
الْوَالِدَيْنِ وَحَالِ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ
مَحْسُوسٌ فِي أَحْوَالِ الْمَوْلُودِ ؛ وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ هَذَا مُسْتَقِلًّا
. ثُمَّ إنَّ الْأَوَائِلَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَجِّمِينَ الْمُشْرِكِينَ
الصَّابِئِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ قَدْ قِيلَ إنَّهُمْ كَانُوا إذَا وَلَدَ لَهُمْ
الْمَوْلُودَ أَخَذُوا طَالِع الْمَوْلُودِ وَسَمَّوْا الْمَوْلُودَ بِاسْمِ
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا كَبُرَ سُئِلَ عَنْ اسْمِهِ أَخْذ السَّائِلِ حَالَ
الطَّالِع . فَجَاءَ هَؤُلَاءِ الطَّرْقِيَّة يَسْأَلُونَ الرَّجُلَ عَنْ اسْمِهِ
وَاسْم أُمِّهِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ ذَلِكَ الدَّلَالَة
عَلَى أَحْوَالِهِ وَهَذِهِ ظُلُمَات بَعْضهَا فَوْقَ بَعْض مُنَافِيَة لِلْعَقْلِ
وَالدِّينِ . وَأَمَّا اخْتِيَارَاتُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الطَّالِع
لِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ : مِثْلَ اخْتِيَارَاتِهِمْ لِلسَّفَرِ
أَنْ يَكُونَ الْقَمَر فِي شَرَفِهِ وَهُوَ " السَّرَطَانُ " وَأَلَّا
يَكُونَ فِي هُبُوطِهِ وَهُوَ " الْعَقْرَبُ " فَهُوَ مِنْ هَذَا
الْبَابِ الْمَذْمُومِ . وَلَمَّا أَرَادَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب أَنْ يُسَافِرَ
لِقِتَالِ الْخَوَارِج عَرْض لَهُ مُنَجِّم فَقَالَ : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ
لَا تُسَافِرُ ؛ فَإِنَّ الْقَمَرَ فِي الْعَقْرَبِ ؛ فَإِنَّك إنْ سَافَرْت
وَالْقَمَر
فِي الْعَقْرَبِ هَزَمَ أَصْحَابك - أَوْ كَمَا قَالَ - فَقَالَ عَلَيَّ : بَلْ
أُسَافِرُ ثِقَةً بِاَللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ وَتَكْذِيبًا لَك ؛
فَسَافَرَ فَبُورِكَ لَهُ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ حَتَّى قَتْل عَامَّة الْخَوَارِج
وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَا سِرٌّ بِهِ ؛ حَيْثُ كَانَ قِتَاله لَهُمْ
بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا مَا
يُذَكِّرُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : " لَا تُسَافِرُ وَالْقَمَر فِي الْعَقْرَبِ " فَكَذِب
مُخْتَلَق بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهَا
صَنْعَة إدْرِيس . فَيُقَالُ " أَوَّلًا " هَذَا قَوْل بِلَا عِلْم ؛ فَإِنَّ
مِثْلَ هَذَا لَا يَعْلَمُ إلَّا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ ؛ وَلَا سَبِيلَ لِهَذَا
الْقَائِلِ إلَى ذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ فِي كُتُبٍ هَؤُلَاءِ " هَرْمَسَ
الْهَرَامِسَة " وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ إدْرِيس . " والهرمس "
عِنْدَهُمْ اسْم جِنْس ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : " هَرْمَسَ الْهَرَامِسَة
" وَهَذَا الْقَدْر الَّذِي يُذَكِّرُونَهُ عَنْ هرمسهم يُعْلَمُ الْمُؤْمِن
قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ مَأْخُوذًا عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى
وَجْهِهِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِل . وَيُقَالُ " ثَانِيًا
" : هَذَا إنْ كَانَ أَصْله مَأْخُوذًا عَنْ إدْرِيس فَإِنَّهُ كَانَ
مُعْجِزَة لَهُ وَعِلْمًا أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ فَيَكُونُ مِنْ الْعُلُومِ
النَّبَوِيَّةِ . وَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يَحْتَجُّونَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْقِيَاسِ
؛ لَا بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام .
وَيُقَالُ
" ثَالِثًا " إنَّ كَانَ بَعْضَ هَذَا مَأْخُوذًا عَنْ نَبِيٍّ فَمِنْ
الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنْ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِل أَضْعَاف مَا هُوَ
مَأْخُوذٌ مِنْ ذَلِكَ النَّبِيِّ . وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْكَذِبَ
وَالْبَاطِل الَّذِي فِي ذَلِكَ أَضْعَاف الْكَذِبِ وَالْبَاطِل الَّذِي عِنْد
الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِيمَا يَأْثُرُونَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَإِذَا كَانَ
الْيَهُود وَالنَّصَارَى قَدّ تَيَقَّنَّا قَطْعًا أَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ
مَأْخُوذٌ عَنْ الْمُرْسَلِينَ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ التَّوْرَاة
وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور كَمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّه
عَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْنَا وَمَا أَنْزَلَ عَلَى مِنْ
قَبِلْنَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ
رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } ثُمَّ
مَعَ ذَلِكَ قَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ حَرَّفُوا
وَبَدَّلُوا وَكَذَّبُوا وَكَتَمُوا ؛ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَ الْوَحْيِ
الْمُحَقَّقِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ يَقِينًا ؛ مَعَ أَنَّهَا إلَيْنَا
أَقْرَبُ عَهْدًا مِنْ إدْرِيس وَمَعَ أَنَّ نَقْلَتَهَا أَعْظَمُ مِنْ نَقْلَةِ
النُّجُومِ وَأَبْعَدُ عَنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ وَأَبْعَدُ عَنْ
الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . فَمَا الظَّنُّ بِهَذَا
الْقَدْرِ إنْ كَانَ فِيهِ مَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ إدْرِيس فَإِنَّا نَعْلَمُ
أَنَّ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ وَالتَّحْرِيفِ أَعْظَمَ مِمَّا فِي
عُلُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إذَا
حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ
وَقُولُوا
آمَنَّا
بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا
وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } " فَإِذَا كُنَّا
مَأْمُورِينَ فِيمَا يُحَدِّثُنَا بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ لَا نُصَدِّقَ
إلَّا بِمَا نَعْلَمُ أَنَّهُ الْحَقُّ كَمَا لَا نُكَذِّبَ إلَّا بِمَا نَعْلَمُ
أَنَّهُ بَاطِلٌ : فَكَيْفَ يَجُوزُ تَصْدِيقُ هَؤُلَاءِ فِيمَا يَزْعُمُونَ
أَنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ إدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمْ فِي ذَلِكَ أَبْعَدُ
عَنْ عِلْمِهِمْ الْمُصَدَّقِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيُقَالُ " رَابِعًا
" : لَا رَيْبَ أَنَّ النُّجُومَ " نَوْعَانِ " : حِسَابٌ
وَأَحْكَامٌ . فَأَمَّا الْحِسَابُ فَهُوَ مَعْرِفَةُ أَقْدَارِ الْأَفْلَاكِ
وَالْكَوَاكِبِ . وَصِفَاتِهَا وَمَقَادِيرِ حَرَكَاتِهَا وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ
فَهَذَا فِي الْأَصْلِ عِلْمٌ صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ كَمَعْرِفَةِ الْأَرْضِ
وَصِفَتِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ جُمْهُورَ التَّدْقِيقِ مِنْهُ كَثِيرُ
التَّعَبِ قَلِيلُ الْفَائِدَةِ ؛ كَالْعَالِمِ مَثَلًا بِمَقَادِيرِ الدَّقَائِقِ
وَالثَّوَانِي وَالثَّوَالِثِ فِي حَرَكَاتِ السَّبْعَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ {
بِالْخُنَّسِ } { الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } . فَإِنْ كَانَ أَصْلُ هَذَا
مَأْخُوذًا عَنْ إدْرِيسَ فَهَذَا مُمْكِنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ
ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ نَاسٌ إنَّ أَصْلَ الطِّبِّ مَأْخُوذٌ عَنْ بَعْضِ
الْأَنْبِيَاءِ . وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ
فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ سَاحِرًا
وَهُمْ يَذْكُرُونَ أَنْوَاعًا مِنْ السِّحْرِ وَيَقُولُونَ : هَذَا يَصْلُحُ
لِعَمَلِ النَّوَامِيسِ . أَيْ " الشَّرَائِعِ وَالسُّنَنِ " وَمِنْهَا
مَا هُوَ دِعَايَةُ الْكَوَاكِبِ وَعِبَادَةٌ لَهَا وَأَنْوَاعٌ مِنْ الشِّرْكِ
الَّذِي يَعْلَمُ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ
نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَأْمُرُ بِذَلِكَ
وَلَا
عَلَّمَهُ وَإِضَافَةُ ذَلِكَ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كَإِضَافَةِ مَنْ
أَضَافَ ذَلِكَ إلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالطَّيْرَ ؛ فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ
بِأَنْوَاعِ مِنْ السِّحْرِ حَتَّى إنَّ طَوَائِفَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
لَا يَجْعَلُونَهُ نَبِيًّا حَكِيمًا فَنَزَّهَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ
تَعَالَى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ
وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ
السِّحْرَ } الْآيَةُ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْحَوَادِثِ
بِمَا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةِ وَالِاخْتِيَارَاتِ
لِلْأَعْمَالِ : هَذَا كُلُّهُ يُعْلِمُ قَطْعًا أَنَّ نَبِيًّا مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُؤْمَرْ قَطُّ بِهَذَا ؛ إذْ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ
وَالْبَاطِلِ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْعُقَلَاءُ الَّذِينَ هُمْ دُونَ
الْأَنْبِيَاءِ بِكَثِيرِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا قَالَ
إمَامُ هَؤُلَاءِ وَمُعَلِّمُهُمْ الثَّانِي " أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ
" قَالَ مَا مَضْمُونُهُ : إنَّك لَوْ قَلَبْت أَوْضَاعَ الْمُنَجِّمِينَ ؛
فَجَعَلْت مَكَانَ السَّعْدِ نَحْسًا وَمَكَانَ النَّحْسِ سَعْدًا أَوْ مَكَانَ
الْحَارِّ بَارِدًا أَوْ مَكَانَ الْبَارِدِ حَارًّا أَوْ مَكَانَ الْمُذَكَّرِ
مُؤَنَّثًا أَوْ مَكَانَ الْمُؤَنَّثِ مُذَكَّرًا وَحَكَمْت : لَكَانَ حُكْمُك
مِنْ جِنْسِ أَحْكَامِهِمْ يُصِيبُ تَارَةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى . وَمَا كَانَ
بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَهُمْ يُنَزِّهُونَ عَنْهُ بقراط وَأَفْلَاطُونَ وَأَرِسْطُو
وَأَصْحَابَهُ الْفَلَاسِفَةَ الْمَشَّائِينَ الَّذِينَ يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ
مِنْ الْبَاطِلِ وَالضَّلَالِ نَظِيرُ مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى ؛ فَإِذَا كَانُوا يُنَزِّهُونَ عَنْهُ هَؤُلَاءِ الصَّابِئِينَ
وَأَنْبِيَاءَهُمْ الَّذِينَ أَقَلُّ نِسْبَةً وَأَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَةِ
الْحَقِّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى : فَكَيْفَ يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلَى
نَبِيٍّ كَرِيمٍ
وَنَحْنُ
نَعْلَمُ مِنْ أَحْوَالِ أَئِمَّتِنَا أَنَّهُ قَدْ أُضِيفَ إلَى جَعْفَرٍ
الصَّادِقِ - وَلَيْسَ هُوَ بِنَبِيِّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - مِنْ جِنْسِ هَذِهِ
الْأُمُورِ مَا يَعْلَمُ كُلُّ عَالِمٍ بِحَالِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْظَمِ
الْكَذِبِ حَتَّى نُسِبَ إلَيْهِ أَحْكَامُ " الْحَرَكَاتِ السُّفْلِيَّةِ
" كَاخْتِلَاجِ الْأَعْضَاءِ وَحَوَادِثِ الْجَوِّ مِنْ الرَّعْدِ
وَالْبَرْقِ وَالْهَالَةِ وَقَوْسِ اللَّهِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : " قَوْسُ
قُزَحٍ " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَالْعُلَمَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَرِيءٌ
مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ . وَكَذَلِكَ نُسِبَ إلَيْهِ " الْجَدْوَلُ "
الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ الضَّلَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الرَّافِضَةِ وَهُوَ كَذِبٌ
مُفْتَعَلٌ عَلَيْهِ افْتَعَلَهُ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَحَدُ
الْمَشْهُورِينَ بِالْكَذِبِ ؛ مَعَ رِيَاسَتِهِ وَعَظَمَتِهِ عِنْدَ أَتْبَاعِهِ .
وَكَذَلِكَ أُضِيفَ إلَيْهِ كِتَابُ " الْجَفْرُ وَالْبِطَاقَةُ والهفت
" وَكُلُّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ حَتَّى
أُضِيفَ إلَيْهِ " رَسَائِلُ إخْوَانِ الصَّفَا " وَهَذَا فِي غَايَةِ
الْجَهْلِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الرَّسَائِلَ إنَّمَا وُضِعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ
بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ ؛ فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ وَهَذِهِ الرَّسَائِلُ وُضِعَتْ فِي دَوْلَةِ بَنِي بويه
فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ فِي أَوَائِلِ دَوْلَةِ بَنِي عُبَيْدٍ الَّذِينَ
بَنَوْا الْقَاهِرَةَ وَضَعَهَا جَمَاعَةٌ ؛ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ جَمَعُوا بِهَا
بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْفَلْسَفَةِ ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا . وَأَصْحَابُ
" جَعْفَرٍ الصَّادِقِ " الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ الْعِلْمَ ؛
كَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ
الْأَئِمَّةِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ بَرَاءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَكَاذِيبِ .
وَكَذَلِكَ
كَثِيرٌ مَا يَذْكُرُهُ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي فِي "
كِتَابِ حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ " عَنْ جَعْفَرٍ مِنْ الْكَذِبِ الَّذِي لَا
يَشُكُّ فِي كَذِبِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ . وَكَذَلِكَ
كَثِيرٌ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي يَحْكِيهَا عَنْهُ الرَّافِضَةُ .
وَهِيَ مِنْ أَبْيَنِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ . وَلَيْسَ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ
أَكْثَرُ كَذِبًا وَاخْتِلَافًا مِنْ " الرَّافِضَةِ " مِنْ حِينِ
نَبَغُوا . فَأَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ الرَّفْضَ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا
يُقَالُ لَهُ " عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ " فَأَرَادَ بِذَلِكَ
إفْسَادَ دِينِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ " بولص " صَاحِبُ الرَّسَائِلِ
الَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى حَيْثُ ابْتَدَعَ لَهُمْ بِدَعًا أَفْسَدَ بِهَا
دِينَهُمْ وَكَانَ يَهُودِيًّا فَأَظْهَرَ النَّصْرَانِيَّةَ نِفَاقًا فَقَصَدَ
إفْسَادَهَا وَكَذَلِكَ كَانَ " ابْنُ سَبَأٍ " يَهُودِيًّا فَقَصَدَ
ذَلِكَ وَسَعَى فِي الْفِتْنَةِ لِقَصْدِ إفْسَادِ الْمِلَّةِ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ
مِنْ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ حَصَلَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ تَحْرِيشٌ وَفِتْنَةٌ قُتِلَ
فِيهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَرَى مَا جَرَى مِنْ الْفِتْنَةِ
وَلَمْ يَجْمَعْ اللَّهُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى
ضَلَالَةٍ ؛ بَلْ لَا يَزَالُ فِيهَا طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْحَقِّ لَا
يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا وَلَا مَنْ خَذَلَهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ؛
كَمَا شَهِدَتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي الصِّحَاحِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَمَّا أُحْدِثَتْ الْبِدَعُ
الشِّيعِيَّةُ فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَدَّهَا . وَكَانَتْ " ثَلَاثَةَ طَوَائِفَ "
غَالِيَةٌ ؛ وَسَبَّابَةٌ وَمُفَضِّلَةٌ
فَأَمَّا
" الْغَالِيَةُ " فَإِنَّهُ حَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ فَإِنَّهُ خَرَجَ
ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ بَابِ كِنْدَةَ فَسَجَدَ لَهُ أَقْوَامٌ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟
فَقَالُوا : أَنْتَ هُوَ اللَّهُ . فَاسْتَتَابَهُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يَرْجِعُوا
فَأَمَرَ فِي الثَّالِثِ بِأَخَادِيدَ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ فِيهَا النَّارَ ثُمَّ
قَذَفَهُمْ فِيهَا وَقَالَ :
لَمَّا رَأَيْت الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا * * * أَجَّجْت نَارِي وَدَعَوْت
قنبرا
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عَلِيًّا أَتَى بِزَنَادِقَتِهِمْ
فَحَرَّقَهُمْ وَبَلَغَ ذَلِكَ { ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : أَمَّا أَنَا فَلَوْ
كُنْت لَمْ أُحَرِّقْهُمْ ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يُعَذَّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَلَضَرَبْت أَعْنَاقَهُمْ ؛ لِقَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ
} وَأَمَّا " السَّبَّابَةُ " فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ مَنْ سَبَّ
أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ طَلَبَ قَتْلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ إلَى قرقيسيا ؛
وَكَلَّمَهُ فِيهِ وَكَانَ عَلِيٌّ يُدَارِي أُمَرَاءَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
مُتَمَكِّنًا وَلَمْ يَكُونُوا يُطِيعُونَهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ .
وَأَمَّا " الْمُفَضِّلَةُ " فَقَالَ : لَا أوتى بِأَحَدِ يُفَضِّلُنِي
عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِينَ وَرُوِيَ عَنْهُ
مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ وَجْهًا أَنَّهُ قَالَ : خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ
بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ : يَا أَبَتِ مَنْ خَيْرُ
النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
فَقَالَ
يَا بُنَيَّ ؟ أَوَمَا تَعْرِفُ قَالَ : لَا . قَالَ : أَبُو بَكْرٍ ؛ قَالَ :
ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : عُمَرُ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ عَلِيًّا
رَوَى هَذَا التَّفْضِيلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
" وَالْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّهُ قَدْ كُذِبَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ الَّذِي لَا يَجُوزُ نِسْبَتُهَا إلَى أَقَلِّ
الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أَضَافَتْ إلَيْهِ الْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ
والخرمية والمزدكية والْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة مَذَاهِبَهَا الَّتِي
هِيَ مِنْ أَفْسَدِ مَذَاهِبِ الْعَالَمِينَ وَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ
الْعُلُومِ الْمَوْرُوثَةِ عَنْهُ . وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا أَحْدَثَهُ
الْمُنَافِقُونَ الزَّنَادِقَةُ الَّذِينَ قَصَدُوا إظْهَارَ مَا عَلَيْهِ
الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ يُبْطِنُونَ خِلَافَ ذَلِكَ وَاسْتَتْبَعُوا الطَّوَائِفَ
الْخَارِجَةَ عَنْ الشَّرَائِعِ ؛ وَكَانَ لَهُمْ دُوَلٌ ؛ وَجَرَى عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فِتَنٌ حَتَّى قَالَ " ابْنُ سِينَا " :
إنَّمَا اشْتَغَلْت فِي عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ لِأَنَّ أَبِي كَانَ مِنْ أَهْلِ
دَعْوَةِ الْمِصْرِيِّينَ . يَعْنِي مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ الرَّافِضَةِ
الْقَرَامِطَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَحِلُونَ هَذِهِ الْعُلُومَ
الْفَلْسَفِيَّةَ ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الرَّافِضَةِ
وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْبُعْدِ عَنْ مَعْرِفَةِ النُّبُوَّاتِ اتِّصَالٌ
وَانْضِمَامَاتٌ يَجْمَعُهُمْ فِيهِ الْجَهْلُ الصَّمِيمُ بِالصِّرَاطِ
الْمُسْتَقِيمِ ؛ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ . فَإِذَا كَانَ
فِي الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ مِنْ سَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ قَدْ كُذِبَ عَلَى
أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ وَأُضِيفَ إلَيْهِمْ مِنْ مَذَاهِبِ
الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ مَا يَعْلَمُ
كُلُّ
عَاقِلٍ بَرَاءَتَهُمْ مِنْهُ وَنَفَقَ ذَلِكَ عَلَى طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ
مُنْتَسِبَةٍ إلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ مَعَ وُجُودِ مَنْ يُبَيِّنُ كَذِبَ
هَؤُلَاءِ وَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيَذُبُّ عَنْ الْمِلَّةِ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ
وَاللِّسَانِ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِمَا يُضَافُ إلَى " إدْرِيسَ "
وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أُمُورِ النُّجُومِ وَالْفَلْسَفَةِ مَعَ
تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَتَنَوُّعِ الْحَدَثَانِ وَاخْتِلَافِ الْمُلْكِ
وَالْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ وَعَدَمِ مَنْ يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ مِنْ
حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ وَاشْتِمَالِ ذَلِكَ عَلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْكَذِبِ
وَالْبُهْتَانِ .
وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ نَجْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ بِالْعَقْرَبِ وَالْمِرِّيخِ وَأُمَّتِهِ بالزهرة وَأَمْثَالَ
ذَلِكَ : هُوَ مِنْ أَوْضَحِ الْهَذَيَانِ الْمُبَايِنَةِ لِأَحْوَالِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ
فَإِنَّ مِنْ أَوْضَحِ الْكَذِبِ قَوْلَهُمْ إنَّ نَجْمَ الْمُسْلِمِينَ بالزهرة
وَنَجْمَ النَّصَارَى بِالْمُشْتَرَى ؛ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ الْمُشْتَرَى
يَقْتَضِي الْعِلْمَ وَالدِّينَ والزهرة تَقْتَضِي اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ .
وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ النَّصَارَى أَعْظَمُ الْمَلَلِ جَهْلًا
وَضَلَالَةً وَأَبْعَدُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ
وَأَكْثَرُ اشْتِغَالًا بِالْمَلَاهِي وَتَعَبُّدًا بِهَا . وَالْفَلَاسِفَةُ
مُتَّفِقُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَا قَرَعَ الْعَالَمَ نَامُوسٌ أَعْظَمُ
مِنْ النَّامُوسِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأُمَّتُهُ أَكْمَلُ عَقْلًا وَدِينًا وَعِلْمًا بِاتِّفَاقِ الْفَلَاسِفَةِ
حَتَّى فَلَاسِفَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ لَا يَرْتَابُونَ فِي
أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ عَقْلًا وَدِينًا .
وَإِنَّمَا
يَمْكُثُ أَحَدُهُمْ عَلَى دِينِهِ . إمَّا اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ وَرِعَايَةً
لِمَصْلَحَةِ دُنْيَاهُ فِي زَعْمِهِ ؛ وَإِمَّا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ
التَّمَسُّكُ بِأَيِّ مِلَّةٍ كَانَتْ وَأَنَّ الْمِلَلَ شَبِيهَةٌ بِالْمَذَاهِبِ
الْإِسْلَامِيَّةِ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ
وَأَمْثَالَهُمْ يَقُولُونَ بِهَذَا وَيَجْعَلُونَ الْمِلَلَ بِمَنْزِلَةِ
الدُّوَلِ الصَّالِحَةِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ . وَأَمَّا
الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَنَاطِقَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ
دِينًا سِوَى الْحَنِيفِيَّةِ وَهَى الْإِسْلَامُ الْعَامُّ : عِبَادَةُ اللَّهِ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِكُتُبِهِ ؛ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَبِذَلِكَ أَخْبَرَنَا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ
الْمُتَقَدِّمِينَ وَأُمَمِهِمْ قَالَ نُوحٌ : { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا
سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ فِي إبْرَاهِيمَ : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي
الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } { إذْ قَالَ لَهُ
رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { وَوَصَّى بِهَا
إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ
الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ مُوسَى { يَا
قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ
مُسْلِمِينَ } وَقَالَ . { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ
يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا }
وَقَالَتْ بلقيس : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ فِي
الْحَوَارِيِّينَ
: { أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا
مُسْلِمُونَ } وَقَدْ قَالَ مُطْلِقًا : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا
هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ }
وَقَالَ : { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ
عَلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ
الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
} . فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِاتِّفَاقِ كُلِّ ذِي عَقْلٍ أَوْلَى أَهْلِ
الْمِلَلِ بِالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْعَدْلِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا
يُنَاسِبُ عِنْدَهُمْ آثَارَ الْمُشْتَرَى وَالنَّصَارَى أَبْعَدُ عَنْ ذَلِكَ
وَأَوْلَى بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَمَا يُنَاسِبُ عِنْدَهُمْ آثَارَ الزهرة
كَانَ مَا ذَكَرُوهُ ظَاهِرَ الْفَسَادِ . وَلِهَذَا لَا تَزَالُ أَحْكَامُهُمْ
كَاذِبَةً مُتَهَافِتَةً حَتَّى إنَّ كَبِيرَ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ
" فَيْلَسُوفَ الْإِسْلَامِ " يَعْقُوبُ بْنُ إسْحَاقَ الْكِنْدِيُّ
عَمِلَ تَسْيِيرًا لِهَذِهِ الْمِلَّةِ : زَعَمَ أَنَّهَا تَنْقَضِي عَامَ ثَلَاثٍ
وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ وَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ مَنْ أَخْرَجَ " مَخْرَجَ
الِاسْتِخْرَاجِ " مِنْ حُرُوفِ كَلَامٍ ظَهَرَ فِي الْكَشْفِ لِبَعْضِ مَنْ
أَعَادَهُ وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ بَقَاءَ
هَذِهِ الْمِلَّةِ مِنْ حِسَابِ الْجُمَلِ الَّذِي لِلْحُرُوفِ الَّتِي فِي
أَوَائِلِ
السُّوَرِ وَهِيَ مَعَ حَذْفِ التَّكْرِيرِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا .
وَحِسَابُهَا فِي الْجُمْلَةِ الْكَثِيرُ سِتُّمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ .
وَمِنْ هَذَا أَيْضًا مَا ذُكِرَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ
{ الم } قَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ : بَقَاءُ هَذِهِ الْمِلَّةِ إحْدَى وَثَلَاثُونَ
فَلَمَّا أَنْزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ { الر } و { الم } قَالُوا . خَلَطَ عَلَيْنَا .
فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي تُوجَدُ فِي ضَلَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
وَضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ
وَالْمُنَجِّمِينَ : مُشْتَمِلَةٌ مِنْ هَذَا الْبَاطِلِ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُهُ
إلَّا اللَّهُ تَعَالَى . وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَأَشْبَاهُهَا خَارِجَةٌ عَنْ
دِينِ الْإِسْلَامِ مُحَرَّمَةٌ فِيهِ ؛ فَيَجِبُ إنْكَارُهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا
عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى كُلِّ قَادِرٍ : بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْيَدِ
وَاللِّسَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهَؤُلَاءِ وَأَشْبَاهُهُمْ
أَعْدَاءُ الرُّسُلِ وَسُوسُ الْمِلَلِ . وَلَا يُنْفَقُ الْبَاطِلِ فِي
الْوُجُودِ إلَّا بِشَوْبِ مِنْ الْحَقِّ ؛ كَمَا أَنَّ أَهْل الْكِتَابِ
لَبَّسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ بِسَبَبِ الْحَقِّ الْيَسِيرِ الَّذِي مَعَهُمْ
يُضِلُّونَ خَلْقًا كَثِيرًا عَنْ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ
وَيَدَّعُونَهُ إلَى الْبَاطِلِ الْكَثِيرِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ . وَكَثِيرًا
مَا يُعَارِضُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يُحْسِنُ التَّمْيِيزَ
بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَلَا يُقِيمُ الْحُجَّةَ الَّتِي تُدَحِّضُ
بَاطِلَهُمْ وَلَا يُبَيِّنُ حُجَّةَ اللَّهِ الَّتِي أَقَامَهَا بِرُسُلِهِ
فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِتْنَةٌ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا
الْبَاطِلِ وَنَحْوَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
مَا يَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ فِي هَؤُلَاءِ " الْمُنَجِّمِينَ " الَّذِينَ يَجْلِسُونَ
عَلَى الطُّرُقِ وَفِي الْحَوَانِيتِ وَغَيْرِهَا وَيَجْلِسُ عِنْدَهُمْ
النِّسَاءُ . وَالْفُسَّاقُ أَيْضًا بِسَبَبِ النِّسَاءِ وَيَزْعُمُ هَؤُلَاءِ
الْمُنَجِّمُونَ أَنَّهُمْ يُخْبَرُونَ بِالْأُمُورِ الْمَغِيبَةِ مُعْتَمِدِينَ
فِي ذَلِكَ عَلَى صِنَاعَةِ التَّنْجِيمِ وَيَكْتُبُونَ لِلنَّاسِ الأوفاق
وَيُسْحِرُونَ وَيَكْتُبُونَ الطَّلَاسِمَ وَيُعَلِّمُونَ النِّسَاءَ السِّحْرَ
لِأَزْوَاجِهِمْ وَغَيْرِهِمْ وَيَجْتَمِعُ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ عَلَى
أَبْوَابِ الْحَوَانِيتِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَرُبَّمَا آلَ الْأَمْرُ إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ إفْسَادِ النِّسَاءِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَإِفْسَادِ عَقَائِدِ
النَّاسِ وَتَعَلُّقِ هَمَجِهِمْ بِالسِّحْرِ وَالْكَوَاكِبِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فِي الْحَوَادِثِ وَالنَّوَازِلِ :
فَهَلْ يَحِلُّ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ صِنَاعَةُ " التَّنْجِيمِ "
مُحَرَّمَةٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ
وَبَذْلُهَا حَرَامٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ لَهُ تَعَلُّقٌ
بِالْحَانُوتِ مِنْ نَاظِرٍ وَمَالِكٍ وَوَكِيلٍ أَنْ يُؤَجِّرَهُ مِنْ ذَلِكَ
أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الْأُجْرَةُ حَرَامٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ
الْأَمْرِ وَكُلِّ مُسْلِمٍ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إزَالَةُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
وَهَلْ
إذَا لَمْ يَفْعَلُ وَلِيُّ الْأَمْرِ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ يَدْخُلُ فِي
وَعِيدِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ : " { مَا مِنْ وَالٍ يَسْتَرْعِيهِ
اللَّهُ رَعِيَّةً ثُمَّ لَمْ يَجْهَدْ لَهُمْ وَيَنْصَحُ لَهُمْ إلَّا لَمْ
يَدْخُلْ مَعَهُمْ الْجَنَّةَ } " وَإِذَا أَنْكَرَ وَلِيُّ الْأَمْرِ هَذَا
الْمُنْكَرَ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ؟ وَهَلْ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ
الثَّوَابَ الْجَزِيلَ إذَا أَنْكَرَهُ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ رَأَوْا أَنْ يَذْكُرُوا
مَا حَضَرَهُمْ مِنْ الْأَحَادِيثِ الوعيدية فِي ذَلِكَ مَأْجُورِينَ . إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
وَصِنَاعَةُ " التَّنْجِيمِ " الَّتِي مَضْمُونُهَا الْأَحْكَامُ
وَالتَّأْثِيرُ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ
بِالْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ وَالتَّمْزِيجِ بَيْنَ الْقُوَى الْفَلَكِيِّ
وَالْقَوَابِلِ الْأَرْضِيَّةِ : صِنَاعَةٌ مُحَرَّمَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ؛ بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى لِسَان جَمِيعِ
الْمُرْسَلِينَ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يُفْلِحُ
السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } وَقَالَ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } قَالَ عُمَرُ
وَغَيْرُهُ : الْجِبْتُ السِّحْرُ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ
بِإِسْنَادِ حَسَنٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مخارق عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { الْعِيَافَةُ وَالطَّرْقُ وَالطِّيرَةُ مِنْ
الْجِبْتِ } " قَالَ عَوْفٌ
رَاوِي
الْحَدِيثِ : الْعِيَافَةُ زَجْرُ الطَّيْرِ ؛ وَالطَّرْقُ الْخَطُّ يُخَطُّ فِي
الْأَرْضِ . وَقِيلَ بِالْعَكْسِ . فَإِذَا كَانَ الْخَطُّ وَنَحْوُهُ الَّذِي هُوَ
مِنْ فُرُوعِ النَّجَّامَةِ مِنْ الْجِبْتِ ؛ فَكَيْفَ بِالنَّجَّامَةِ ؟ "
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُوَلِّدُونَ الْأَشْكَالَ فِي الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
مُتَوَلِّدٌ مِنْ أَشْكَالِ الْفَلَكِ . وَرَوَى أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ
مَاجَه وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ
النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ ؛ زَادَ مَا زَادَ } " فَقَدْ
صَرَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ عِلْمَ
النُّجُومِ مِنْ السِّحْرِ ؛ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يُفْلِحُ
السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } وَهَكَذَا الْوَاقِعُ ؛ فَإِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ النُّجُومِ لَا يُفْلِحُونَ ؛ لَا فِي الدُّنْيَا
وَلَا فِي الْآخِرَةِ . وَرَوَى أَحْمَد وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ ؛ عَنْ
صَفِيَّةَ بِنْتِ عُبَيْدٍ ؛ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : " { مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ
صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا } " وَالْمُنَجِّمُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ
الْعَرَّافِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ . وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ فِي مَعْنَاهُ
. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَ السَّائِلِ فَكَيْفَ بِالْمَسْئُولِ . وَرَوَى أَيْضًا
فِي صَحِيحِهِ { عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِي قَالَ : قُلْت يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنَّ قَوْمًا مِنَّا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ . قَالَ : فَلَا
تَأْتُوهُمْ } " فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
إتْيَانِ الْكُهَّانِ وَالْمُنَجِّمُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْكَاهِنِ عِنْدَ
الخطابي
وَغَيْرِهِ
مِنْ الْعُلَمَاءِ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْعَرَبِ . وَعِنْدَ آخَرِينَ هُوَ مِنْ
جِنْسِ الْكَاهِنِ وَأَسْوَأُ حَالًا مِنْهُ فَلَحِقَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى
. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( {
ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ . وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ
خَبِيثٌ } وَحُلْوَانُهُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ " حَلَاوَتُهُ
" وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يُعْطِيهِ الْمُنَجِّمُ وَصَاحِبُ
الْأَزْلَامِ الَّتِي يَسْتَقْسِمُ بِهَا مِثْلَ الْخَشَبَةِ الْمَكْتُوبِ
عَلَيْهَا أ ب ج د وَالضَّارِبِ بِالْحَصَى وَنَحْوِهِمْ فَمَا يُعْطَى هَؤُلَاءِ
حَرَامٌ . وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
الْعُلَمَاءِ : كالبغوي وَالْقَاضِي عِيَاضٍ ؛ وَغَيْرِهِمَا . وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ
مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ : أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ اللَّيْلَةَ ؟
قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ
بِي وَكَافِرٌ بِي فَمَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ
مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ } " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " {
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ إلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْ
النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ ؛ يُنَزِّلُ اللَّهُ الْغَيْثَ وَيَقُولُونَ بِكَوْكَبِ
كَذَا وَكَذَا . } " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ
الْجَاهِلِيَّةِ : الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ
وَالنِّيَاحَةُ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالْأَنْوَاءِ } " وَفِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ
أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قَالَ : هُوَ الِاسْتِسْقَاءُ بِالْأَنْوَاءِ ؛ أَوْ
كَمَا قَالَ .
وَالنُّصُوص
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَسَائِرِ
الْأَئِمَّةِ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَتَّسِعَ هَذَا
الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهَا . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْأُجْرَةَ
الْمَأْخُوذَةَ عَلَى ذَلِكَ وَالْهِبَةَ وَالْكَرَامَةَ حَرَامٌ عَلَى الدَّافِعِ
؛ وَالْآخِذِ وَأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُلَّاكِ وَالنُّظَّارِ وَالْوُكَلَاءِ
إكْرَاءُ الْحَوَانِيتِ الْمَمْلُوكَةِ أَوْ الْمَوْقُوفَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ
هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ بِهَذِهِ الْمَنْفَعَةِ ؛ إذَا غَلَبَ عَلَى
ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ فِيهَا هَذَا الْجِبْتَ الْمَلْعُونَ . وَيَجِبُ
عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَكُلِّ قَادِرٍ السَّعْيُ فِي إزَالَةِ ذَلِكَ .
وَمَنَعَهُمْ مِنْ الْجُلُوسِ فِي الْحَوَانِيتِ أَوْ الطُّرُقَاتِ ؛ أَوْ
دُخُولِهِمْ عَلَى النَّاسِ فِي مَنَازِلِهِمْ لِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ فَيَكْفِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ
مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { لَوْلَا يَنْهَاهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ } فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينَ يَقُولُونَ الْإِثْمَ وَيَأْكُلُونَ
السُّحْتَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِوَايَةِ الصِّدِّيقِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ
النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ
اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ } " وَأَيُّ مُنْكَرٍ أُنْكِرَ مِنْ عَمَلِ
هَؤُلَاءِ الْأَخَابِثِ ؛ سُوسِ الْمُلْكِ ؛ وَأَعْدَاءِ الرُّسُلِ ؛ وَأَفْرَاخِ
الصَّابِئَةِ عُبَّادِ الْكَوَاكِبِ فَهَلْ كَانَتْ بَعْثَةُ الْخَلِيلِ صَلَاةَ
اللَّهِ وَسَلَامَهُ عَلَيْهِ إمَامِ الْحُنَفَاءِ إلَّا إلَى سَلَفِ هَؤُلَاءِ ؛
فَإِنَّ نمرود بْنَ كَنْعَانَ كَانَ مَلِكَ هَؤُلَاءِ ؛ وَعُلَمَاءُ الصَّابِئَةِ
هُمْ الْمُنَجِّمُونَ وَنَحْوُهُمْ وَهَلْ عُبِدَتْ الْأَوْثَانُ فِي غَالِبِ
الْأَمْرِ إلَّا عَنْ رَأْيِ هَذَا الصِّنْفِ الْخَبِيثِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَمَنْ
اسْتَقْوَوْهُ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى التَّدَيُّنِ بِكِتَابِ فَإِنَّهُ
الْخَلِيقُ بِأَنْ يَأْخُذَ بِنَصِيبِ مِنْ قَوْلِهِ : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ } { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ
سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ
هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا
نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ
عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا
شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } . وَهَكَذَا قَدْ اعْتَرَفَ
رُؤَسَاءُ الْمُنَجِّمِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ
أَهْلُ الْعِبَادَاتِ وَالدَّعَوَاتِ يَرْفَعُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِبَرَكَةِ
عِبَادَاتِهِمْ وَدُعَائِهِمْ وَتَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللَّهِ مَا يَزْعُمُ
الْمُنَجِّمُونَ أَنَّ الْأَفْلَاكَ تُوجِبُهُ وَيَعْتَرِفُونَ أَيْضًا بِأَنَّ
أَهْلَ الْعِبَادَاتِ وَالدَّعَوَاتِ ذَوِي التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ يُعْطَوْنَ
مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَيْسَ فِي قُوَى الْأَفْلَاكِ أَنْ
تَجْلِبَهُ . فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
فِي اتِّبَاعِ الْمُرْسَلِينَ وَجَعَلَ خَيْرَ أُمَّةٍ هُمْ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَقَالَ تَعَالَى : { فَسَوْفَ
يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ
فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } وَاَللَّهُ يُؤَيِّدُ
وَيُعِينُ عَلَى الدِّينِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ . وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ صِنَاعَةِ " التَّنْجِيمِ " وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى
الْحَوَادِثِ : هَلْ هُوَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ ؟ يَحِلُّ أَخْذُ الْأُجْرَةِ
وَبَذْلُهَا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُهُمْ
وَإِزَالَتُهُمْ مِنْ الْجُلُوسِ فِي الدَّكَاكِينِ ؟
فَأَجَابَ :
بَلْ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى
ذَلِكَ و [ مَنْعُهُمْ ] (1) مِنْ الْجُلُوسِ فِي الْحَوَانِيتِ وَالطُّرُقَاتِ
وَمَنْعُ النَّاسِ مِنْ أَنْ يكروهم وَالْقِيَامُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ
الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَم .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ قَالَ لِشَرِيفِ : يَا كَلْبُ يَا ابْنَ الْكَلْبِ لَا تَمُدَّ يَدَك إلَى
حَوْضِ الْحَمَّامِ . فَقِيلَ لَهُ : إنَّهُ شَرِيفٌ فَقَالَ : لَعَنَهُ اللَّهُ
وَلَعَنَ مَنْ شَرَّفَهُ . فَقِيلَ لَهُ : أَيْنَ عَقْلُك ؟ هَذَا شَرِيفٌ فَقَالَ
: كَلْبُ بْنُ كَلْبٍ فَقَامَ إلَيْهِ وَضَرَبَهُ فَهَلْ يَجِبُ قَتْلُهُ أَمْ لَا
؟ وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ عَدُوٌّ لَهُ ؟
فَأَجَابَ
:
لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ وَلَوْ كَانَ عَدْلًا ؛
وَلَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ بِمُجَرَّدِهِ مِنْ بَابِ السَّبِّ الَّذِي يُقْتَلُ
صَاحِبُهُ بَلْ يُسْتَفْسَرُ عَنْ قَوْلِهِ مِنْ شَرَفِهِ . فَإِنْ ثَبَتَ
بِتَفْسِيرِهِ أَوْ بِقَرَائِنَ حَالِيَّةٍ أَوْ لَفْظِيَّةٍ أَنَّهُ أَرَادَ
لَعْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ قَتْلُهُ . وَإِنْ
لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ أَوْ ثَبَتَ بِقَرَائِنَ حَالِيَّةٍ أَوْ لَفْظِيَّةٍ
أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ أَنْ
يُرِيدَ لَعْنَ مَنْ يُعَظِّمُهُ أَوْ يُبَجِّلُهُ أَوْ لَعْنَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ
شَرِيفًا : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْقَتْلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛
لَا يُظَنُّ بِاَلَّذِي لَيْسَ بِزِنْدِيقِ أَنَّهُ يَقْصِدُ لَعْنَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَمَنْ عَرَفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ
لَيْسَ بِزِنْدِيقِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَا يَجِبُ قَتْلُ مُسْلِمٍ بِسَبِّ أَحَدٍ
مِنْ الْأَشْرَافِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا يُقْتَلُ مَنْ سَبَّ
الْأَنْبِيَاءَ . وَفِيمَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ تَفْصِيلٌ وَنِزَاعٌ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ . وَلَكِنْ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ أَنَّهُ اعْتَدَى بِقَوْلِهِ أَوْ
فِعْلِهِ عَلَى شَرِيفٍ أَوْ غَيْرِهِ عُوقِبَ عَلَى عُدْوَانِهِ : إمَّا
بِالْقِصَاصِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ وَإِمَّا التَّعْزِيزُ بِمَا
يَمْنَعُهُ مِنْ الْعُدْوَانِ وَإِمَّا بِحَدِّ الْقَذْفِ إنْ كَانَ الْعُدْوَانُ
قَذْفًا يُوجِبُ الْحَدَّ . وَتَجِبُ عُقُوبَةُ الْمُعْتَدِينَ أَيْضًا وَإِنْ
كَانَ شَرِيفًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ
فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَاَلَّذِي
نَفْسُ
مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْت يَدَهَا }
" . وَمَا يُشْرَعُ فِيهِ الْقِصَاصُ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ
وَغَيْرِهَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ
دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ } " الْحَدِيثُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يَشْتَكِيَ عَلَى رَجُلٍ فَشَفَعَ فِيهِ جَمَاعَةٌ
فَقَالَ : لَوْ جَاءَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِيهِ مَا قَبِلْت .
فَقَالُوا : كَفَرْت اسْتَغْفِرْ اللَّهَ مِنْ قَوْلِك فَقَالَ : مَا أَقُولُ ؟
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
أَمَّا قَوْلُ الرَّجُلِ لَوْ جَاءَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ . إذَا
ثَبَتَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلَوْ تَابَ
بَعْدَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَتْلُ فِي أَظْهَرِ
قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلَكِنْ إنْ تَابَ قَبْلَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ
سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْلُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ ؛ وَإِنْ عُزِّرَ بَعْدَ
التَّوْبَةِ كَانَ سَائِغًا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَعَنَ الْيَهُودَ وَلَعَنَ دِينَهُ وَسَبَّ التَّوْرَاةَ : فَهَلْ
يَجُوزُ لِمُسْلِمِ أَنْ يَسُبَّ كِتَابَهُمْ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَلْعَنَ التَّوْرَاةَ ؛ بَلْ مَنْ
أَطْلَقَ لَعْنَ التَّوْرَاةِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ
. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُ أَنَّهَا مَنْزِلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَأَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا : فَهَذَا يُقْتَلُ بِشَتْمِهِ لَهَا ؛ وَلَا
تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا إنْ لَعَنَ دِينَ
الْيَهُودِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي
ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ مَلْعُونُونَ هُمْ وَدِينُهُمْ وَكَذَلِكَ إنْ سَبَّ
التَّوْرَاةَ الَّتِي عِنْدَهُمْ بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَصْدَهُ ذِكْرُ
تَحْرِيفِهَا مِثْلُ أَنْ يُقَالَ نُسَخُ هَذِهِ التَّوْرَاةِ مُبَدَّلَةٌ لَا
يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمَا فِيهَا وَمَنْ عَمِلَ الْيَوْمَ بِشَرَائِعِهَا
الْمُبَدَّلَةِ وَالْمَنْسُوخَةِ فَهُوَ كَافِرٌ : فَهَذَا الْكَلَامُ وَنَحْوُهُ
حَقٌّ لَا شَيْءَ عَلَى قَائِلِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ يُفَضِّلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى الرَّافِضَةِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، كُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَنْ كَفَرَ بِهِ ؛
وَإِنْ كَانَ فِي الْمُؤْمِنِ بِذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْبِدْعَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ
بِدْعَةَ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ أَوْ
غَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كُفَّارٌ كُفْرًا مَعْلُومًا
بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَالْمُبْتَدِعُ إذَا كَانَ يَحْسَبُ
أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مُخَالِفٌ
لَهُ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِهِ ؛ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ يَكْفُرُ فَلَيْسَ
كُفْرُهُ مِثْلَ كُفْرِ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" { مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } " وَقَالَ
آخَرُ : إذَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الْحَمِيدَةَ وَاتَّبَعَ الشَّرْعَ دَخَلَ ضِمْنَ
هَذَا الْحَدِيثِ وَإِذَا فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَالِ مَا نَقَصَ مِنْ
دِينِهِ
وَزَادَ
فِي دُنْيَاهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضِمْنِ هَذَا الْحَدِيثِ . قَالَ لَهُ نَاقِلُ
الْحَدِيثِ : أَنَا لَوْ فَعَلْت كُلَّ مَا لَا يَلِيقُ وَقُلْت لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ : دَخَلْت الْجَنَّةَ وَلَمْ أَدْخُلْ النَّارَ ؟
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ
تَلَفُّظِ الْإِنْسَانِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُ
النَّارَ بِحَالِ فَهُوَ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ
الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ تَلَفَّظَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ هُمْ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَهُمْ كَثِيرُونَ ؛ بَلْ الْمُنَافِقُونَ
قَدْ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ؛ وَلَكِنْ لَا يُتَقَبَّلُ
مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ
وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ
النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ
أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إنَّكُمْ كُنْتُمْ
قَوْمًا فَاسِقِينَ } { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ
إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ
إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } وَقَالَ
تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ
جَمِيعًا } وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } وَقَالَ تَعَالَى { يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ } - إلَى قَوْلِهِ - { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ
وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ
إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } "
وَلِمُسْلِمِ " { وَإِنْ
صَلَّى
وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ
كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ
خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ؛ وَإِذَا
وَعَدَ أَخْلَفَ ؛ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } "
وَلَكِنْ إنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ
وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ ؛ إذْ لَا يُخَلَّدُ
فِي النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ كَمَا
صَحَّتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَكِنْ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ " فُسَّاقِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ "
مِنْ أَهْلِ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ
وَأَكْلِ الرِّبَا وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ؛ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ
إذَا عُذِّبُوا فِيهَا عَذَّبَهُمْ عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَمَا جَاءَ فِي
الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ " { مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إلَى
كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ
تَأْخُذُهُ إلَى حَقْوَيْهِ وَمَكَثُوا فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا
أُخْرِجُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَالْحُمَمِ ؛ فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ
الْحَيَاةُ فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ
وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَكْتُوبٌ عَلَى رِقَابِهِمْ : هَؤُلَاءِ الجهنميون عُتَقَاءُ
اللَّهِ مِنْ النَّارِ } . وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ حَبَسَ خَصْمًا لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فَحَضَرَ
إلَيْهِ رَجُلٌ يَشْفَعُ فِيهِ فَلَمْ يَقْبَلْ شَفَاعَتَهُ فَتَخَاصَمَا بِسَبَبِ
ذَلِكَ فَشَهِدَ الشَّافِعُ عَلَى الرَّجُلِ لِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ كَلَامٌ
يَقْتَضِي الْكُفْرَ وَخَافَ الرَّجُلُ غَائِلَةَ ذَلِكَ فَأُحْضِرَ إلَى حَاكِمٍ
شَافِعِيٍّ وَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُ تَلَفَّظَ
بِمَا قِيلَ عَنْهُ وَسَأَلَ حُكْمَ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ . فَقَالَ الْحَاكِمُ
لِلْخَصْمِ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَعْتَرِفْ فَلُقِّنَ أَنْ يَعْتَرِفَ لِيَتِمَّ
لَهُ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ وَحَقْنِ دَمِهِ فَاعْتَرَفَ بِأَنَّ ذَلِكَ
صَدَرَ مِنْهُ جَاهِلًا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَنَطَقَ
بِالشَّهَادَتَيْنِ وَتَابَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ سَأَلَ
الْحَاكِمَ الْمَذْكُورَ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِإِسْلَامِهِ وَحَقْنِ دَمِهِ
وَتَوْبَتِهِ وَبَقَاءِ مَالِهِ عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ إلَى سُؤَالِهِ وَحَكَمَ
بِإِسْلَامِهِ وَحَقْنِ دَمِهِ وَبَقَاءِ مَالِهِ عَلَيْهِ وَقَبُولِ تَوْبَتِهِ
وَعَزَّرَهُ تَعْزِيرَ مِثْلِهِ وَحَكَمَ بِسُقُوطِ تَعْزِيرٍ ثَانٍ عَنْهُ
وَقَضَى بِمُوجَبِ ذَلِكَ كُلِّهِ . ثُمَّ نَفَّذَ ذَلِكَ حَاكِمٌ آخَرُ حَنَفِيٌّ
: فَهَلْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ فِي جَمِيعِ مَا حَكَمَ لَهُ بِهِ أَمْ
لَا ؟ وَهَلْ يَفْتَقِرُ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ إلَى حُضُورِ خَصْمٍ مِنْ جِهَةِ
بَيْتِ الْمَالِ ؛ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ لِأَحَدِ أَنْ يَتَعَرَّضَ بِمَا صَدَرَ
مِنْهُ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ أَمْ لَا ؟
وَهَلْ يَحِلُّ لِحَاكِمِ آخَرَ بَعْدَ الْحُكْمِ
وَالتَّنْفِيذِ
الْمَذْكُورَيْنِ أَنْ يَحْكُمَ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ
وَتَنْفِيذِهِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُثَابُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى مَنْعِ مَنْ
يَتَعَرَّضُ إلَيْهِ بِأَخْذِ مَالِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ بِمَا ذُكِرَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ
تَنْفِيذُهُ وَلَيْسَ لِبَيْتِ الْمَالِ فِي مَالٍ مِثْلِ هَذَا حَقٌّ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَا يَفْتَقِرُ الْحُكْمُ بِإِسْلَامِهِ وَعِصْمَةِ مَالِهِ
إلَى حُضُورِ خَصْمٍ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَالِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا
يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحُكْمِ ؛ إذْ الْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ
الْمُرْتَدَّ إذَا أَسْلَمَ عَصَمَ بِإِسْلَامِهِ دَمَهُ وَمَالَهُ وَإِنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِذَلِكَ حَاكِمٌ ؛ وَلَا كَلَامَ لِوَلِيِّ بَيْتِ الْمَالِ فِي مَالِ
مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ ؛ بَلْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَحْمَد أَيْضًا فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ مَنْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ
بَيِّنَةٌ بِالرِّدَّةِ فَأَنْكَرَ وَتَشَهَّدَ الشَّهَادَتَيْنِ المعتبرتين
حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُقِرَّ بِمَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ
فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ عَدْلٌ ؟ فَإِنَّهُ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ
لَا يَفْتَقِرُ الْحُكْمُ بِعِصْمَةِ دَمِهِ وَمَالِهِ إلَى إقْرَارِهِ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا يَحْتَاجُ عِصْمَةُ دَمِ مِثْلِ هَذَا إلَى
أَنْ يُقِرَّ ثُمَّ يُسْلِمَ بَعْدَ إخْرَاجِهِ إلَى ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ فِيهِ
إلْزَامٌ لَهُ بِالْكَذِبِ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ كَفَرَ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ
أَنَّ يُبْنَى عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِقْرَارِ حُكْمُ الْإِقْرَارِ الصَّحِيحِ ؛
فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لُقِّنَ الْإِقْرَارَ وَأَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَيْهِ
فِي الْمَعْنَى ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهُ
خَوْفَ
الْقَتْلِ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ كُفْرَ الْمُرْتَدِّ كُفْرُ سَبٍّ فَلَيْسَ فِي
الْحُكَّامِ بِمَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مَنْ يَحْكُمُ بِأَنَّ مَالَهُ
لِبَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ إسْلَامِهِ ؛ إنَّمَا يَحْكُمُ مَنْ يَحْكُمُ بِقَتْلِهِ
لِكَوْنِهِ يُقْتَلُ حَدًّا عِنْدَهُمْ عَلَى الْمَشْهُورِ . وَمَنْ قَالَ
يُقْتَلُ لِزَنْدَقَتِهِ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِمِثْلِ هَذَا
الْإِقْرَارِ . وَأَيْضًا فَمَالُ الزِّنْدِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَنْ قَالَ
بِذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ
كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إذَا
مَاتُوا وَرِثَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مَعَ الْجَزْمِ بِنِفَاقِهِمْ ؛ كَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أبي وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ وَرِثَهُمْ وَرَثَتُهُمْ الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ بِنِفَاقِهِمْ وَلَمْ يَتَوَارَثْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ غَيْرَ
الْمِيرَاثِ مُنَافِقٌ . وَالْمُنَافِقُ هُوَ الزِّنْدِيقُ فِي اصْطِلَاحِ
الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ . وَأَيْضًا
فَحُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا نَفَذَ فِي دَمِهِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ فِيهِ نِزَاعٌ
نَفَذَ فِي مَالِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ
يَقُولُ يُؤْخَذُ مَالُهُ وَلَا يُبَاحُ دَمُهُ فَلَوْ قِيلَ بِهَذَا كَانَ
خِلَافَ الْإِجْمَاعِ ؛ فَإِذَا لَمْ يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ بِعِصْمَةِ دَمِهِ
عَلَى دَعْوَى مِنْ جِهَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ فَمَالُهُ أَوْلَى . وَقَدْ
تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ بِمَالِ مِثْلِ هَذَا لِبَيْتِ الْمَالِ غَيْرُ
مُمْكِنٍ مِنْ وُجُوهٍ " أَحَدُهَا " أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ
مَا يُبِيحُ دَمَهُ ؛ لَا بِبَيِّنَةِ . وَلَا بِإِقْرَارِ مُتَعَيِّنٍ ؛
وَلَكِنْ
بِإِقْرَارِ قُصِدَ بِهِ عِصْمَةُ مَالِهِ وَدَمِهِ مِنْ جِنْسِ الدَّعْوَى عَلَى
الْخَصْمِ الْمُسَخَّرِ . " الثَّانِي " أَنَّ الْحُكْمَ بِعِصْمَةِ
دَمِهِ وَمَالِهِ وَاجِبٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ وَإِنْ لَمْ
يُقِرَّ ؛ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ
وَالْإِقْرَارِ . " الثَّالِثُ " أَنَّ الْحُكْمَ صَحِيحٌ بِلَا رَيْبٍ
. " الرَّابِعُ " أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمَ مُجْتَهَدٍ فِيهِ لَزَالَ
ذَلِكَ بِتَنْفِيذِ الْمُنَفِّذِ لَهُ . " الْخَامِسُ " أَنَّهُ لَيْسَ
فِي الْحُكَّامِ مَنْ يَحْكُمُ بِمَالِ هَذَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَوْ ثَبَتَ
عَلَيْهِ الْكُفْرُ ثُمَّ الْإِسْلَامُ ؛ وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ سَبًّا ؛
فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ أَمْ كَيْفَ إذَا حَكَمَ بِعِصْمَةِ مَالِهِ
بَلْ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد الَّذِي يُسْتَنَدُ إلَيْهَا فِي مِثْلِ هَذِهِ
مِنْ أَبْعَدِ الْمَذَاهِبِ عَنْ الْحُكْمِ بِمَالِ مِثْلِ هَذَا لِبَيْتِ
الْمَالِ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِقْرَارِ عِنْدَهُمْ إقْرَارُ تَلْجِئَةٍ لَا
يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ؛ وَلِمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِمَا فِي السَّابِّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ
الْأَطْعِمَةِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ : هَلْ هِيَ حَلَالٌ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هِيَ حَلَالٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ :
كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ فُقَهَاءِ
الْحَدِيثِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { حَرَّمَ عَامَ خَيْبَرَ لُحُومَ الْحُمْرِ وَأَبَاحَ
لُحُومَ الْخَيْلِ } وَقَدْ ثَبَتَ : " { أَنَّهُمْ نَحَرُوا عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا وَأَكَلَ لَحْمَهُ }
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ بَغْلٍ تَوَلَّدَ مِنْ حِمَارِ وَحْشٍ وَفَرَسٍ : هَلْ يُؤْكَلُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا تَوَلَّدَ الْبَغْلُ بَيْنَ فَرَسٍ وَحِمَارِ وَحْشٍ أَوْ بَيْنَ أَتَانٍ
وَحِصَانٍ جَازَ أَكْلُهُ وَهَكَذَا كُلُّ مُتَوَلِّدٍ بَيْنَ أَصْلَيْنِ
مُبَاحَيْنِ ؛ وَإِنَّمَا حَرُمَ مَا تَوَلَّدَ مِنْ بَيْنِ حَلَالٍ وَحَرَامٍ
" كَالْبَغْلِ " الَّذِي أَحَدُ أَبَوَيْهِ حِمَارٌ أَهْلِيٌّ و "
كَالسَّبْعِ " الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الضَّبْعِ وَالذِّئْبِ "
وَالْإِسْبَارِ " الْمُتَوَلِّدِ مِنْ بَيْنِ الذِّئْبِ وَالضِّبْعَانِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ نَعْجَةٍ وَلَدَتْ خَرُوفًا نِصْفُهُ كَلْبٌ وَنِصْفُهُ خَرُوفٌ وَهُوَ
نِصْفَانِ بِالطُّولِ : هَلْ يَحِلُّ أَكْلُهُ ؛ أَوْ تَحِلُّ نَاحِيَةُ
الْخَرُوفِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يُؤْكَلُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَإِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ
حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَإِنْ كَانَ مُمَيَّزًا . لِأَنَّ الْأَكْلَ لَا يَكُونُ إلَّا
بَعْدَ التَّذْكِيَةِ ؛ وَلَا يَصِحُّ تَذْكِيَةُ مِثْلِ هَذَا لِأَجْلِ
الِاخْتِلَاطِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ عَنْزٍ لِرَجُلِ وَلَدَتْ عَنَاقًا وَمَاتَتْ الْعَنَزَةُ ؛ فَأَرْضَعَتْ
امْرَأَتُهُ الْعَنَاقَ : فَهَلْ يَجُوزُ أَكْلُ لَحْمِهَا أَوْ شُرْبُ لَبَنِهَا
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يَجُوزُ شُرْبُ " الإقسما " ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَتْ مِنْ زَبِيبٍ فَقَطْ فَإِنَّهُ يُبَاحُ شُرْبُهُ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إذَا لَمْ يَشْتَدَّ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ : أَمَّا إنْ
كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ يُفْسِدُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ مِثْلَ الزَّبِيبِ
وَالْبُسْرِ أَوْ بَقِيَ أَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثِ : فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ .
وَإِنْ وُضِعَ فِيهِ مَا يُحَمِّضُهُ كَالْخَلِّ وَنَحْوِهِ وَمَاءِ اللَّيْمُونِ
كَمَا يُوضَعُ فِي الْفُقَّاعِ الْمُشَذَّبِ فَهَذَا يَجُوزُ شُرْبُهُ مُطْلَقًا
فَإِنَّ حُمُوضَتَهُ تَمْنَعُهُ أَنْ يَشْتَدَّ . فَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ
إذَا حَمُضَتْ وَلَمْ تَصِرْ مُسْكِرَةً يَجُوزُ شُرْبُهَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ : نَزَلَ عِنْدَ قَوْمٍ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَأْكُلُ هُوَ وَلَا
دَابَّتُهُ وَامْتَنَعَ الْقَوْمُ أَنْ يَبِيعُوهُ وَأَنْ يُضِيفُوهُ فَحَصَلَ
لَهُ ضَرَرٌ وَلِدَابَّتِهِ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا يَكْفِيهِ
بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ ؟
فَأَجَابَ
: إذَا اضْطَرَّ هُوَ وَدَابَّتُهُ وَعِنْدَهُمْ مَالٌ يَطْعَمُونَهُ وَلَمْ
يَطْعَمُوهُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ كِفَايَتَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ
وَيُعْطِيَهُمْ ثَمَنَ الْمِثْلِ . وَإِنْ كَانَ فِي سَفَرٍ وَجَبَ عَلَيْهِمْ
أَنْ يُضِيفُوهُ إنْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى ضِيَافَتِهِ ؛ فَإِنْ لَمْ
يُضِيفُوهُ أَخَذَ ضِيَافَتَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { حَقُّ الضَّيْفِ وَاجِبٌ
عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } وَقَالَ : " { أَيُّمَا رَجُلٍ نَزَلَ بِقَوْمِ
فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ
بِمِثْلِ قِرَاهُ مِنْ زَرْعِهِمْ وَمَالِهِمْ } وَقَالَ : " { مَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتُهُ
يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَهُوَ صَدَقَةٌ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابٌ
الذَّكَاةُ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى مَنْ أَكَلَ
ذَبِيحَةَ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ مُطْلَقًا وَلَا يَدْرِي مَا حَالُهُمْ :
هَلْ دَخَلُوا فِي دِينِهِمْ قَبْلَ نَسْخِهِ وَتَحْرِيفِهِ وَقَبْلَ مَبْعَثِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَمْ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ بَلْ
يَتَنَاكَحُونَ وَتُقَرُّ مُنَاكَحَتُهُمْ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ وَهُمْ أَهْلُ
ذِمَّةٍ يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ وَلَا يُعْرَفُ مَنْ هُمْ وَلَا مَنْ آبَاؤُهُمْ :
فَهَلْ لِلْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِمْ مَنْعُهُمْ مِنْ الذَّبْحِ لِلْمُسْلِمِينَ ؟
أَمْ لَهُمْ الْأَكْلُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ كَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى أَحَدٍ أَكَلَ مِنْ ذَبِيحَةِ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى فِي هَذَا الزَّمَانِ وَلَا يُحَرِّمَ ذَبْحَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ
وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ مُخْطِئٌ ؛ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ
بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ لَا يَسُوغُ فِيهَا
الْإِنْكَارُ إلَّا بِبَيَانِ الْحُجَّةِ وَإِيضَاحِ الْمَحَجَّةِ : لَا
الْإِنْكَارُ الْمُجَرَّدُ الْمُسْتَنِدُ إلَى
مَحْضِ
التَّقْلِيدِ ؛ فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْأَهْوَاءِ كَيْفَ وَالْقَوْلُ
بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَقَبْلَهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا
مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلِمَا عُلِمَ مِنْ حَالِ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ
بِإِحْسَانِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ لِهَذَا لَا يَخْرُجُ عَنْ "
قَوْلَيْنِ " . إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُحَرِّمُ " ذَبَائِحَ
أَهْلِ الْكِتَابِ " مُطْلَقًا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ
الرَّافِضَةِ . وَهَؤُلَاءِ يُحَرِّمُونَ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ وَأَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ
. وَهَذَا لَيْسَ مِنْ أَقْوَالِ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ
الْمَشْهُورِينَ بِالْفُتْيَا وَلَا مِنْ أَقْوَالِ أَتْبَاعِهِمْ . وَهُوَ خَطَأٌ
مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ فَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ
لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } . فَإِنْ
قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } . قِيلَ الْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا
أَنَّ الشِّرْكَ الْمُطْلَقَ فِي الْقُرْآنِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ
؛ وَإِنَّمَا يَدْخُلُونَ فِي الشِّرْكِ الْمُقَيَّدِ قَالَ تَعَالَى : { لَمْ
يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ
وَالْمُشْرِكِينَ } فَجَعَلَ الْمُشْرِكِينَ قِسْمًا غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ
وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } فَجَعَلَهُمْ قِسْمَا
غَيْرَهُمْ . فَأَمَّا دُخُولُهُمْ فِي الْمُقَيَّدِ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : {
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا
لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ
مُشْرِكُونَ . وَسَبَبُ هَذَا أَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ
بِهِ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ لَيْسَ فِيهِ شِرْكٌ كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ
أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ
مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ
الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ
أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }
وَلَكِنَّهُمْ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا فَابْتَدَعُوا مِنْ الشِّرْكِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ اللَّهُ سُلْطَانًا فَصَارَ فِيهِمْ شِرْكٌ بِاعْتِبَارِ مَا
ابْتَدَعُوا ؛ لَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الدِّينِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَا
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } هُوَ تَعْرِيفُ الْكَوَافِرِ الْمَعْرُوفَاتِ
اللَّاتِي كُنَّ فِي عِصَمِ الْمُسْلِمِينَ وَأُولَئِكَ كُنَّ مُشْرِكَاتٍ ؛ لَا
كِتَابِيَّاتٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَنَحْوِهَا .
"
الْوَجْهُ الثَّانِي " إذَا قُدِّرَ أَنَّ لَفْظَ " الْمُشْرِكَاتِ
" و " الْكَوَافِرِ " يَعُمُّ الْكِتَابِيَّاتِ : فَآيَةُ
الْمَائِدَةِ خَاصَّةٌ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
وَالْمُمْتَحِنَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : " {
الْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا
حَرَامَهَا } وَالْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ
بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَكِنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ : إنَّهُ
مُفَسِّرٌ لَهُ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ صُورَةَ التَّخْصِيصِ لَمْ تَرِدْ بِاللَّفْظِ
الْعَامِّ . وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ : إنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بَعْدَ أَنْ شُرِّعَ .
" الْوَجْهُ الثَّالِثُ " إذَا فَرَضْنَا النَّصَّيْنِ خَاصَّيْنِ
فَأَحَدُ النَّصَّيْنِ حَرَّمَ ذَبَائِحَهُمْ وَنِكَاحَهُمْ وَالْآخَرُ
أَحَلَّهُمَا . فَالنَّصُّ الْمُحَلِّلُ لَهُمَا هُنَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ
لِوَجْهَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ هِيَ
الْمُتَأَخِّرَةُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَتَكُونُ نَاسِخَةً لِلنَّصِّ
الْمُتَقَدِّمِ . وَلَا يُقَالُ إنَّ هَذَا نَسْخٌ لِلْحُكْمِ مَرَّتَيْنِ ؛
لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ بِخِطَابِ شَرْعِيٍّ
حَلَّلَ ذَلِكَ ؛ بَلْ كَانَ لِعَدَمِ التَّحْرِيمِ ؛ بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ
الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالتَّحْرِيمُ الْمُبْتَدَأُ
لَا يَكُونُ نَسْخًا لِاسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْفِعْلِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ
تَحْرِيمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لِكُلِّ ذِي
نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ } نَاسِخًا لِمَا
دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ
مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } الْآيَةُ - مِنْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ لَمْ يُحَرِّمْ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ إلَّا هَذِهِ الْأَصْنَافَ
الثَّلَاثَةَ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَفَتْ تَحْرِيمَ مَا سِوَى الثَّلَاثَةِ
إلَى حِينِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ تَحْلِيلُ
مَا
سِوَى ذَلِكَ ؛ بَلْ كَانَ مَا سِوَى ذَلِكَ عَفْوًا لَا تَحْلِيلَ فِيهِ وَلَا
تَحْرِيمَ كَفِعْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ . وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ
الْمَعْرُوفِ " { الْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ
وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ
مِمَّا عَفَا عَنْهُ } وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مَوْقُوفًا
عَلَيْهِ أَوْ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ : { الْيَوْمَ
أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحَلَّهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ
وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ
مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ . فَعُلِمَ أَنَّ تَحْلِيلَ الطَّيِّبَاتِ كَانَ
بِالْمَدِينَةِ لَا بِمَكَّةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا
أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } وَقَالَ تَعَالَى : {
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
} إلَى آخِرِهَا . فَثَبَتَ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ وَقِيلَ ذَلِكَ كَانَ إمَّا
عَفْوًا عَلَى الصَّحِيحِ وَإِمَّا مُحَرَّمًا ثُمَّ نُسِخَ . يَدُلُّ عَلَيْهِ
أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ . " الْوَجْهُ الثَّانِي
" أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حِلُّ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْكَلَامُ فِي نِسَائِهِمْ كَالْكَلَامِ فِي
ذَبَائِحِهِمْ فَإِذَا ثَبَتَ حِلُّ أَحَدِهِمَا ثَبَتَ حِلُّ الْآخَرِ ؛ وَحِلُّ
أَطْعِمَتِهِمْ لَيْسَ لَهُ مُعَارِضٌ أَصْلًا . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ
حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ
أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى
جَوَازِ ذَلِكَ .
فَإِنْ
قِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ
} مَحْمُولٌ عَلَى الْفَوَاكِهِ وَالْحُبُوبِ . قِيلَ : هَذَا خَطَأٌ لِوُجُوهِ .
" أَحَدُهَا " أَنَّ هَذِهِ مُبَاحَةٌ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ
وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ فَلَيْسَ فِي تَخْصِيصِهَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ
فَائِدَةٌ . " الثَّانِي " أَنَّ إضَافَةَ الطَّعَامِ إلَيْهِمْ
يَقْتَضِي أَنَّهُ صَارَ طَعَامًا بِفِعْلِهِمْ وَهَذَا إنَّمَا يُسْتَحَقُّ فِي
الذَّبَائِحِ الَّتِي صَارَتْ لَحْمًا بِذَكَاتِهِمْ . فَأَمَّا الْفَوَاكِهُ
فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا مَطْعُومَةً لَمْ تَصِرْ طَعَامًا بِفِعْلِ آدَمِيٍّ .
" الثَّالِثُ " أَنَّهُ قَرَنَ حِلَّ الطَّعَامِ بِحِلِّ النِّسَاءِ
وَأَبَاحَ طَعَامَنَا لَهُمْ كَمَا أَبَاحَ طَعَامَهُمْ لَنَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ
حُكْمَ النِّسَاءِ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ فَكَذَلِكَ
حُكْمُ الطَّعَامِ . وَالْفَاكِهَةِ وَالْحَبِّ لَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ
. " الرَّابِعُ " أَنَّ لَفْظَ " الطَّعَامِ " عَامٌّ . وَتَنَاوُلُهُ
اللَّحْمَ وَنَحْوَهُ أَقْوَى مِنْ تَنَاوُلِهِ لِلْفَاكِهَةِ فَيَجِبُ إقْرَارُ
اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ ؛ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قُرِنَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
{ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } وَنَحْنُ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُطْعِمَهُمْ كُلَّ
أَنْوَاعِ طَعَامِنَا فَكَذَلِكَ يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ
طَعَامِهِمْ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ ؛ بَلْ بِالنَّقْلِ
الْمُسْتَفِيضِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَدَتْ
لَهُ الْيَهُودِيَّةُ عَامَ خَيْبَرَ شَاةً مَشْوِيَّةً فَأَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً
ثُمَّ قَالَ :
إنَّ
هَذِهِ تُخْبِرُنِي أَنَّ فِيهَا سُمًّا } وَلَوْلَا أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ حَلَالٌ
لَمَا تَنَاوَلَ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : " {
أَنَّهُمْ لَمَّا غَزَوْا خَيْبَرَ أَخَذَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ جِرَابًا فِيهِ
شَحْمٌ قَالَ قُلْت لَا أُطْعِمُ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا أَحَدًا فَالْتَفَتّ
فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ وَلَمْ
يُنْكِرْ عَلَيْهِ } . وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ
أَكْلِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ
دَعْوَةَ يَهُودِيٍّ إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ } رَوَاهُ
الْإِمَامُ أَحْمَد . و " الْإِهَالَةُ " مِنْ الْوَدَكِ الَّذِي
يَكُونُ مِنْ الذَّبِيحَةِ مِنْ السَّمْنِ وَنَحْوِهِ الَّذِي يَكُونُ فِي
أَوْعِيَتِهِمْ الَّتِي يَطْبُخُونَ فِيهَا فِي الْعَادَةِ وَلَوْ كَانَتْ
ذَبَائِحُهُمْ مُحَرَّمَةً لَكَانَتْ أَوَانِيهمْ كَأَوَانِي الْمَجُوسِ
وَنَحْوِهِمْ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" { أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْأَكْلِ فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى رَخَّصَ أَنْ
يُغْسَلَ } . وَأَيْضًا فَقَدْ اسْتَفَاضَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحُوا الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَمِصْرَ
كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبَائِحَ أَهْل الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا مِنْ ذَبَائِحِ الْمَجُوسِ . وَوَقَعَ فِي جُبْنِ
الْمَجُوسِ مِنْ النِّزَاعِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ
الْجُبْنَ يَحْتَاجُ إلَى الْإِنْفَحَةِ . وَفِي إنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ نِزَاعٌ
مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِطَهَارَتِهَا
وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولَانِ بِنَجَاسَتِهَا وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ
.
فَصْلٌ
:
" الْمَأْخَذُ الثَّانِي " الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ
أَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ كَوْنُ هَؤُلَاءِ الْمَوْجُودِينَ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُمْ
مِنْ ذُرِّيَّةٍ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ
وَهُوَ الْمَأْخَذُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ السَّائِلِ ؛ وَهُوَ
الْمَأْخَذُ الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ السُّنَّةِ
وَالْجَمَاعَةِ . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ ؛ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ
تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ
حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } هَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ هُوَ
بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ مُتَدَيِّنٌ بَدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ ؟ أَوْ
الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ آبَاؤُهُ قَدْ دَخَلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ
قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . "
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ " هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَمَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ
فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ بَلْ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ صَرِيحًا . و "
الثَّانِي " قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد .
[ وَأَصْلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ تَنَازَعَا فِي
ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ فَقَالَ عَلِيٌّ : لَا تُبَاحُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا
نِسَاؤُهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَّا
بِشُرْبِ
الْخَمْرِ
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ نَغْزُوهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُومُوا
بِالشُّرُوطِ الَّتِي شَرَطَهَا عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ ؛ فَإِنَّهُ شَرَطَ
عَلَيْهِمْ أَنْ ] (1) وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
: بَلْ تُبَاحُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } . وَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ
لَمْ يُحَرِّمُوا ذَبَائِحَهُمْ ؛ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ عَلِيٍّ
وَحْدَهُ وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَصَحَّحَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ؛ بَلْ هِيَ
آخِرُ قَوْلَيْهِ ؛ بَلْ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
الْأَثْرَمُ : مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَهُ إلَّا عَلِيًّا وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ فُقَهَاءِ
الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ كَالْحَسَنِ
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ
عَنْ أَحْمَد أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ : كَانَ
آخِرُ قَوْلِ أَحْمَد عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى بِذَبَائِحِهِمْ بَأْسًا . وَمِنْ
الْعُلَمَاءِ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ عَلِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَأَحْمَد إنَّمَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ
فِي بَنِي تَغْلِبَ ؛ وَهُمْ الَّذِينَ تَنَازَعَ فِيهِمْ الصَّحَابَةُ . فَأَمَّا
سَائِرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ مِثْلُ : تَنُوخَ وَبَهْرَاءَ
وَغَيْرِهِمَا
مِنْ الْيَهُودِ : فَلَا أَعْرِفُ عَنْ أَحْمَد فِي حِلِّ ذَبَائِحِهِمْ نِزَاعًا
؛ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ السَّلَفِ
؛ وَإِنَّمَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِي بَنِي تَغْلِبَ خَاصَّةً ؛
وَلَكِنَّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مَنْ جَعَلَ فِيهِمْ رِوَايَتَيْنِ كَبَنِي
تَغْلِبَ . وَالْحَلُّ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَمَا
أَعْلَمُ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ قُدْوَةً مِنْ السَّلَفِ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ
الْمَذْكُورُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد قَالُوا مَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ
غَيْرَ كِتَابِيٍّ بَلْ مَجُوسِيًّا لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ وَمُنَاكَحَةُ
نِسَائِهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَبُ
مَجُوسِيًّا . وَأَمَّا الْأُمُّ فَلَهُ فِيهَا قَوْلَانِ فَإِنْ كَانَ
الْأَبَوَانِ مَجُوسِيِّينَ حَرُمَتْ ذَبِيحَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ
وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ . وَغَالِبُ
ظَنِّي أَنَّ هَذَا غَلَطٌ عَلَى مَالِكٍ ؛ فَإِنِّي لَمْ أَجِدْهُ فِي كُتُبِ
أَصْحَابِهِ وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخَرَّجَةِ عَنْ أَحْمَد
فِي سَائِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى
إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ وَهُوَ الرِّوَايَةُ
الَّتِي اخْتَارَهَا هَؤُلَاءِ . فَأَمَّا إذَا جَعَلَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي بَنِي
تَغْلِبَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ أَوْ قِيلَ إنَّ النِّزَاعَ عَامٌّ
وَفَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِحِلِّ ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ وَنِسَائِهِمْ
كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ : فَإِنَّهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا
عِبْرَةَ بِالنَّسَبِ ؛ بَلْ لَوْ كَانَ الْأَبَوَانِ جَمِيعًا مَجُوسِيَّيْنِ
أَوْ وَثَنِيَّيْنِ وَالْوَلَدُ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ
الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِلَا رَيْبٍ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ
الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ .
وَمَنْ
ظَنَّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ أَنَّ تَحْرِيمَ نِكَاحِ مَنْ
أَبَوَاهُ مَجُوسِيَّانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَجُوسِيٌّ قَوْلٌ وَاحِدٌ فِي
مَذْهَبِهِ فَهُوَ مُخَطِّئٌ خَطَأً لَا رَيْبَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ
أَصْلَ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ
مَنْ يَتَنَاقَضُ فَيُجَوِّزُ أَنَّ يُقِرَّ بِالْجِزْيَةِ مَنْ دَخَلَ فِي
دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَيَقُولَ مَعَ هَذَا بِتَحْرِيمِ
نِكَاحِ نَصْرَانِيِّ الْعَرَبِ مُطْلَقًا وَمَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ غَيْرَ
كِتَابِيٍّ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَهَذَا
تَنَاقُضٌ . وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ
هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ فَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي "
الْجَامِعِ الْكَبِيرِ " وَهُوَ آخِرُ كُتُبِهِ فَذَكَرَ فِيمَنْ انْتَقَلَ
إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ : كَالرُّومِ
وَقَبَائِلَ مِنْ الْعَرَبِ وَهُمْ تَنُوخُ ؛ وَبَهْرَاءَ وَمِنْ بَنِي تَغْلِبَ
هَلْ تَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ ؛ وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ ؟ وَذَكَرَ أَنَّ
الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِنِكَاحِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ
وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى مُخَرَّجَةٌ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي
ذَبَائِحِهِمْ ؛ وَاخْتَارَ أَنَّ الْمُنْتَقِلَ إلَى دِينِهِمْ حُكْمُهُ
حُكْمُهُمْ سَوَاءٌ كَانَ انْتِقَالُهُ بَعْدَ مَجِيءِ شَرِيعَتِنَا أَوْ
قَبْلَهَا وَسَوَاءٌ انْتَقَلَ إلَى دِينِ الْمُبَدِّلِينَ أَوْ دِينٍ لَمْ
يُبَدَّلْ وَيَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُ وَأَكْلُ ذَبِيحَتِهِ . وَإِذَا كَانَ هَذَا
فِيمَنْ أَبَوَاهُ مُشْرِكَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَالرُّومِ فَمَنْ كَانَ أَحَدُ
أَبَوَيْهِ مُشْرِكًا فَهُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ . هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ
أَحْمَد فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ
النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَمَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ
فَإِنَّهُ يُقِرُّ بِالْجِزْيَةِ . قَالَ أَصْحَابُهُ : وَإِذْ أَقْرَرْنَاهُ
بِالْجِزْيَةِ حَلَّتْ ذَبَائِحهمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا .
وَأَصْلُ
النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْته مِنْ نِزَاعِ عَلِيٍّ
وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي بَنِي تَغْلِبَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي
إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ (1) وَالْجُمْهُورِ أَحَلُّوهَا وَهِيَ
الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد . ثُمَّ الَّذِينَ كَرِهُوا ذَبَائِحَ بَنِي
تَغْلِبَ تَنَازَعُوا فِي مَأْخَذِ عَلِيٍّ . فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ عَلِيًّا
إنَّمَا حَرَّمَ ذَبَائِحَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ
آبَاءَهُمْ دَخَلُوا فِي دِين أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ
. وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي أَهْل الْكِتَابِ بِالنَّسَبِ
لَا بِنَفْسِ الرَّجُلِ وَأَنَّ مَنْ شَكَكْنَا فِي أَجْدَادِهِ هَلْ كَانُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ أَمْ لَا ؟ أَخَذْنَا بِالِاحْتِيَاطِ فَحَقَنَّا دَمَهُ
بِالْجِزْيَةِ احْتِيَاطًا وَحَرَّمْنَا ذَبِيحَتَهُ وَنِسَاءَهُ احْتِيَاطًا .
وَهَذَا مَأْخَذُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد .
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ عَلِيٌّ لَمْ يَكْرَهْ ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ إلَّا
لِكَوْنِهِمْ مَا تَدَيَّنُوا بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي وَاجِبَاتِهِ
وَمَحْظُورَاتِهِ ؛ بَلْ أَخَذُوا مِنْهُ حِلَّ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَطْ ؛
وَلِهَذَا قَالَ : إنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ
إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ . وَهَذَا الْمَأْخَذُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ هُوَ
الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ . " وَبِالْجُمْلَةِ
" فَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ
هُمْ مَنْ كَانَ دَخَلَ جَدُّهُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ
قَوْلٌ ضَعِيفٌ . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَرَادَ ذَلِكَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ ؛ بَلْ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ
كَوْنَ
الرَّجُلِ
كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ هُوَ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لَا
بِنِسْبَةِ وَكُلُّ مَنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ مِنْهُمْ
سَوَاءٌ كَانَ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ
وَسَوَاءٌ كَانَ دُخُولُهُ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ
وَالْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ أَحْمَد وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي
ذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا
وَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِي أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ قَدِيمٌ وَاحْتَجَّ بِذَلِكَ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَنْ لَا يُقِرُّ الرَّجُلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ
النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَمَنْ هُوَ فِي زَمَانِنَا إذَا انْتَقَلَ إلَى دِينِ
أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُ . وَهَذَا
يُبَيِّنُ خَطَأَ مَنْ يُنَاقِضُ مِنْهُمْ . وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي
هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ يَقُولُونَ مَنْ دَخَلَ هُوَ أَوْ أَبَوَاهُ أَوْ
جَدُّهُ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أَقَرَّ بِالْجِزْيَةِ
سَوَاءٌ دَخَلَ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَوْ قَبْلَهُ . وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ
الْآخَرِ يَقُولُونَ : مَتَى عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ إلَّا بَعْدَ
النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ ؛ كَمَا يَقُولُهُ
بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد مَعَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ
؛ وَالدَّلِيلِ عَلَيْهِ وُجُوهٌ : " أَحَدُهَا " أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ
أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ جَمَاعَةٌ تَهَوَّدُوا قَبْلَ مَبْعَثِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَلِيلِ كَمَا قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ . إنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ مِقْلَاتًا - وَالْمُقِلَّاتُ الَّتِي لَا
يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ . كَثِيرَةُ الْقَلَتِ وَالْقَلَتُ الْمَوْتُ وَالْهَلَاكُ
كَمَا يُقَالُ : امْرَأَةٌ مِذْكَارٌ وميناث إذَا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْوِلَادَةِ
لِلذُّكُورِ
وَالْإِنَاثِ وَالسُمَّا (1) الْكَثِيرَةُ الْمَوْتِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -
فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَنْذِرُ إنْ عَاشَ لَهَا وَلَدَانِ تَجْعَلُ أَحَدَهُمَا
يَهُودِيًّا لِكَوْنِ الْيَهُودِ كَانُوا أَهْلَ عِلْمٍ وَكِتَابٍ وَالْعَرَبُ
كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ وَأَوْثَانٍ ؛ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا كَانَ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ تَهَوَّدُوا فَطَلَبَ آبَاؤُهُمْ أَنْ
يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا إكْرَاهَ
فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } الْآيَةُ . فَقَدْ ثَبَتَ
أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانَ آبَاؤُهُمْ مَوْجُودِينَ تَهَوَّدُوا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ
هَذَا دُخُولٌ بِأَنْفُسِهِمْ فِي الْيَهُودِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَ
مَبْعَثِ الْمَسِيحِ وَهَذَا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَمَعَ هَذَا نَهَى
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ إكْرَاهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَهَوَّدُوا بَعْدَ
النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَقَرَّهُمْ بِالْجِزْيَةِ .
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لِمَنْ دَخَلَ بِنَفْسِهِ فِي
دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا
الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ دُونَ الْآخَرِ . وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّهُ يَعْقِدُ لَهُ
الذِّمَّةَ ثَبَتَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِنَفْسِهِ لَا بِنَسَبِهِ وَأَنَّهُ تُبَاحُ
ذَبِيحَتُهُ وَطَعَامُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ الْمَانِعَ لِذَلِكَ
لَمْ يَمْنَعْهُ إلَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الصِّنْفَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ فَلَا يَدْخُلُونَ فَإِذَا ثَبَتَ بِنَصِّ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ مِنْ
أَهْل الْكِتَابِ دَخَلُوا فِي الْخِطَابِ بِلَا نِزَاعٍ . " الْوَجْهُ
الثَّانِي " أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا
بِالْمَدِينَةِ وَحَوْلَهَا كَانُوا عُرُبًا وَدَخَلُوا فِي دِينِ الْيَهُودِ ؛
وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَفْصِلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
أَكْلِ طَعَامِهِمْ وَحِلِّ نِسَائِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ بِالذِّمَّةِ : بَيْنَ
مَنْ دَخَلَ أَبَوَاهُ بَعْدَ مَبْعَثِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ دَخَلَ
قَبْلَ ذَلِكَ ؛ وَلَا بَيْنَ الْمَشْكُوكِ فِي نَسَبِهِ ؛ بَلْ حَكَمَ
فِي
الْجَمِيعِ حُكْمًا وَاحِدًا عَامًّا . فَعُلِمَ أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ
طَائِفَةٍ وَطَائِفَةٍ وَجَعْلَ طَائِفَةٍ لَا تُقِرُّ بِالْجِزْيَةِ وَطَائِفَةٍ
تُقِرُّ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَطَائِفَةٍ يُقِرُّونَ وَتُؤْكَلُ
ذَبَائِحُهُمْ : تَفْرِيقٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةِ عَنْهُ . وَقَدْ عُلِمَ بِالنَّقْلِ
الصَّحِيحِ الْمُسْتَفِيضِ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانَ فِيهِمْ يَهُودُ
كَثِيرٌ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَحِمْيَرَ
وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعَرَبِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ : " { إنَّك تَأْتِي
قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا
أَوْ عَدْلَهُ معافريا } وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ دَخَلَ أَبُوهُ قَبْلَ
النَّسْخِ أَوْ بَعْدَهُ . وَكَذَلِكَ وَفْدُ نَجْرَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ
النَّصَارَى الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ عَرَبٌ كَثِيرُونَ أَقَرَّهُمْ بِالْجِزْيَةِ
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ لَمْ يُفَرِّقْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ
وَأَصْحَابِهِ بَيْن بَعْضِهِمْ وَبَعْضٍ بَلْ قَبِلُوا مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ
وَأَبَاحُوا ذَبَائِحَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ . وَكَذَلِكَ نَصَارَى الرُّومِ
وَغَيْرُهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ صِنْفٍ وَصِنْفٍ . وَمَنْ تَدَبَّرَ
السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ عَلِمَ كُلَّ هَذَا بِالضَّرُورَةِ وَعَلِمَ أَنَّ
التَّفْرِيقَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ . "
الْوَجْهُ الثَّالِثُ " أَنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ مُسْلِمًا أَوْ يَهُودِيًّا
أَوْ نَصْرَانِيًّا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الدِّينِ هُوَ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ
بِنَفْسِهِ ؛ لِاعْتِقَادِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ؛ لَا
يَلْحَقُهُ هَذَا الِاسْمُ بِمُجَرَّدِ اتِّصَافِ آبَائِهِ بِذَلِكَ ؛ لَكِنَّ
الصَّغِيرَ حُكْمُهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حُكْمُ أَبَوَيْهِ ؛ لِكَوْنِهِ لَا
يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَإِذَا بَلَغَ وَتَكَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ
بِالْكُفْرِ كَانَ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ
فَلَوْ كَانَ أَبَوَاهُ
يَهُودًا
أَوْ نَصَارَى فَأَسْلَمَ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛
وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَكَفَرَ كَانَ كَافِرًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛
فَإِنْ كَفَرَ بِرِدَّةِ لَمْ يُقِرَّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُرْتَدًّا لِأَجْلِ
آبَائِهِ . وَكُلُّ حُكْمٍ عُلِّقَ بِأَسْمَاءِ الدِّينِ مِنْ إسْلَامٍ وَإِيمَانٍ
وَكُفْرٍ وَنِفَاقٍ وَرِدَّةٍ وَتَهَوُّدٍ وَتَنَصُّرٍ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ
اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ . وَكَوْنُ الرَّجُلِ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ أَوْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَمَنْ كَانَ
بِنَفْسِهِ مُشْرِكًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ
غَيْرَ مُشْرِكِينَ وَمَنْ كَانَ أَبَوَاهُ مُشْرِكِينَ وَهُوَ مُسْلِمٌ
فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ لَا حُكْمُ الْمُشْرِكِينَ فَكَذَلِكَ إذَا
كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَآبَاؤُهُ مُشْرِكِينَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . أَمَّا إذَا تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُشْرِكِينَ
مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِأَجْلِ كَوْنِ آبَائِهِ قَبْلَ
النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَانُوا مُشْرِكِينَ فَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ .
" الْوَجْهُ الرَّابِعُ " أَنْ يُقَالَ : قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَمْ
يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } وَقَوْلُهُ
: { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ
أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِهَؤُلَاءِ
الْمَوْجُودِينَ وَإِخْبَارٌ عَنْهُمْ . وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُوَ
الْكِتَابُ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ مِنْ النَّسْخِ
وَالتَّبْدِيلِ مَا جَرَى لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِهِ
قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا ؛
وَلَا هُمْ مِمَّنْ خُوطِبُوا بِشَرَائِعِ الْقُرْآنِ وَلَا قِيلَ لَهُمْ فِي
الْقُرْآنِ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ } فَإِنَّهُمْ قَدْ مَاتُوا قَبْلَ نُزُولِ
الْقُرْآنِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ تَدَيَّنَ بِهَذَا الْكِتَابِ
الْمَوْجُودِ عِنْد
أَهْلِ
الْكِتَابِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ كُفَّارٌ تَمَسَّكُوا بِكِتَابِ
مُبَدَّلٍ مَنْسُوخٍ ؛ وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ كَمَا يُخَلَّدُ
سَائِرُ أَنْوَاعِ الْكُفَّارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مَعَ ذَلِكَ شَرَعَ
إقْرَارَهُمْ بِالْجِزْيَةِ وَأَحَلَّ طَعَامَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ . "
الْوَجْهُ الْخَامِسُ " أَنْ يُقَالَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقُرْآنِ هُمْ كُفَّارٌ وَإِنْ كَانَ أَجْدَادُهُمْ كَانُوا
مُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ عَذَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِأَخَفّ مِنْ عَذَابِ مَنْ
كَانَ أَبُوهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ بَلْ وُجُودُ النَّسَبِ الْفَاضِلِ
هُوَ إلَى تَغْلِيظِ كُفْرِهِمْ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى تَخْفِيفِ كُفْرِهِمْ .
فَمَنْ كَانَ أَبُوهُ مُسْلِمًا وَارْتَدَّ كَانَ كُفْرُهُ أَغْلَظَ مِنْ كُفْرِ
مَنْ أَسْلَمَ هُوَ ثُمَّ ارْتَدَّ ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ وُلِدَ
عَلَى الْفِطْرَةِ إذَا ارْتَدَّ ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ : هَلْ تُقْبَلُ
تَوْبَتُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَإِذَا كَانَ
كَذَلِكَ فَمَنْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّسْخِ
وَالتَّبْدِيلِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ عِيسَى وَمُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ بِهِمَا وَبِمَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَاتَّبَعَ الْكِتَابَ الْمُبَدَّلَ الْمَنْسُوخَ كَانَ كُفْرُهُ مِنْ
أَغْلَظِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَكُنْ كُفْرُهُ أَخَفَّ مِنْ كُفْرِ مَنْ دَخَلَ
بِنَفْسِهِ فِي هَذَا الدِّينِ الْمُبَدَّلِ وَلَا لَهُ بِمُجَرَّدِ نَسَبِهِ
حُرْمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا عِنْدَ رَسُولِهِ وَلَا يَنْفَعُهُ دِينُ آبَائِهِ
إذَا كَانَ هُوَ مُخَالِفًا لَهُمْ فَإِنَّ آبَاءَهُ كَانُوا إذْ ذَاكَ
مُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَكُلُّ
مَنْ آمَنَ بِكُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَمَنْ
كَفَرَ بِشَيْءِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فَلَيْسَ مُسْلِمًا فِي أَيِّ
زَمَانٍ كَانَ .
وَإِذَا
لَمْ يَكُنْ لِأَوْلَادِ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا كَفَرُوا مَزِيَّةٌ عَلَى
أَمْثَالِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ مَاثَلُوهُمْ فِي اتِّبَاعِ الدِّينِ
الْمُبَدَّلِ الْمَنْسُوخِ عُلِمَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ
الطَّائِفَتَيْنِ وَإِكْرَامُ هَؤُلَاءِ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ وَحِلِّ
ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ دُونَ هَؤُلَاءِ وَأَنَّهُ [ ثَمَّ ] (1) فَرْقٌ
مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَرْقُ بِالْعَكْسِ
كَانَ أَوْلَى وَلِهَذَا يُوَبِّخُ اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ
بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا يُوَبِّخُهُ غَيْرَهُمْ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَى أَجْدَادِهِمْ
نِعَمًا عَظِيمَةً فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَكَفَرُوا نِعْمَتَهُ وَكَذَّبُوا
رُسُلَهُ وَبَدَّلُوا كِتَابَهُ وَغَيَّرُوا دِينَهُ { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ
النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } .
فَهُمْ مَعَ شَرَفِ آبَائِهِمْ وَحَقِّ دِينِ أَجْدَادِهِمْ مِنْ أَسْوَأِ
الْكُفَّارِ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ أَشَدُّ غَضَبًا عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ ؛
لِأَنَّ فِي كُفْرِهِمْ مِنْ الِاسْتِكْبَارِ وَالْحَسَدِ وَالْمُعَانَدَةِ
وَالْقَسْوَةِ وَكِتْمَانِ الْعِلْمِ وَتَحْرِيفِ الْكِتَابِ وَتَبْدِيلِ النَّصِّ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لَيْسَ فِي كُفْرِ هَؤُلَاءِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ لِهَؤُلَاءِ
الْأَرْجَاسِ الْأَنْجَاسِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَبْغَضِ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ
مَزِيَّةٌ عَلَى إخْوَانِهِمْ الْكُفَّارِ مَعَ أَنَّ كُفْرَهُمْ إمَّا مُمَاثِلٌ
لِكُفْرِ إخْوَانِهِمْ الْكُفَّارِ وَإِمَّا أَغْلَظُ مِنْهُ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ
أَحَدًا أَنْ يَقُولَ : إنَّ كُفْرَ الدَّاخِلِينَ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ هَؤُلَاءِ
مَعَ تَمَاثُلِهِمَا فِي الدِّينِ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمَوْجُودِ .
"
الْوَجْهُ السَّادِسُ " أَنَّ تَعْلِيقَ الشَّرَفِ فِي الدِّينِ بِمُجَرَّدِ
النَّسَبِ هُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ اتَّبَعَتْهُمْ
عَلَيْهِ الرَّافِضَةُ وَأَشْبَاهُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " { لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ
عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ
إلَّا بِالتَّقْوَى . النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ } وَلِهَذَا
لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ يَمْدَحُ فِيهَا أَحَدًا بِنَسَبِهِ
وَلَا يَذُمُّ أَحَدًا بِنَسَبِهِ ؛ وَإِنَّمَا يَمْدَحُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى
وَيَذُمُّ بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : " { أَرْبَعٌ
مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أُمَّتِي لَنْ يَدَعُوهُنَّ الْفَخْرُ
بِالْأَحْسَابِ . وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ وَالِاسْتِسْقَاءُ
بِالنُّجُومِ } . فَجَعَلَ الْفَخْرَ بِالْأَحْسَابِ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ
فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ لَا فَخْرَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِكَوْنِ
أَجْدَادِهِ لَهُمْ حَسَبٌ شَرِيفٌ فَكَيْفَ يَكُونُ لِكَافِرِ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ فَخْرٌ عَلَى كَافِرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِكَوْنِ أَجْدَادِهِ
كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَ التَّمَاثُلِ فِي الدِّينِ
فَضِيلَةٌ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِينَ فِي الدِّينِ لِأَجْلِ
النَّسَبِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِمَنْ كَانَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
آبَاؤُهُ مُؤْمِنِينَ مُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ قَبْلَ النَّسْخِ
وَالتَّبْدِيلِ عَلَى مَنْ كَانَ أَبُوهُ دَاخِلًا فِيهِ بَعْدَ النَّسْخِ
وَالتَّبْدِيلِ . وَإِذَا تَمَاثَلَ دِينُهُمَا تَمَاثَلَ حُكْمُهُمَا فِي
الدِّينِ .
وَالشَّرِيعَةُ
إنَّمَا عَلَّقَتْ بِالنَّسَبِ أَحْكَامًا مِثْلَ كَوْنِ الْخِلَافَةِ مِنْ
قُرَيْشٍ وَكَوْنِ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُمْ الْخُمْسُ وَتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ
عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ
النَّسَبَ الْفَاضِلَ مَظِنَّةُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُهُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ ؛
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { النَّاسُ
مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا } وَالْمَظِنَّةُ تُعَلِّقُ الْحُكْمَ
بِمَا إذَا خَفِيَتْ [ الْحَقِيقَةُ ] (*) أَوْ انْتَشَرَتْ . فَأَمَّا إذَا
ظَهَرَ دِينُ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ وَعَرَفَ نَوْعَ
دِينِهِ وَقَدْرَهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِنَسَبِهِ الْأَحْكَامُ الدِّينِيَّةُ
وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَبِي لَهَبٍ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ لَمَّا عَرَفَ
كُفْرَهُ كَانَ أَحَقَّ بِالذَّمِّ مِنْ غَيْرِهِ ؛ وَلِهَذَا جُعِلَ لِمَنْ
يَأْتِي بِفَاحِشَةٍ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ضِعْفَانِ مِنْ الْعَذَابِ كَمَا جُعِلَ لِمَنْ يَقْنُتُ مِنْهُنَّ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ أَجْرَيْنِ مِنْ الثَّوَابِ . فَذَوُو الْأَنْسَابِ الْفَاضِلَةِ إذَا
أَسَاءُوا كَانَتْ إسَاءَتُهُمْ أَغْلَظَ مِنْ إسَاءَةِ غَيْرِهِمْ
وَعُقُوبَتُهُمْ أَشَدُّ عُقُوبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ . فَكُفْرُ مَنْ كَفَرَ مِنْ
بَنِي إسْرَائِيلَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَشَدَّ مِنْ كُفْرِ غَيْرِهِمْ
وَعُقُوبَتُهُمْ أَشَدَّ عُقُوبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ
الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ
مَنْ كَفَرَ وَفَسَقَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ تُخَفَّفُ عَنْهُ الْعُقُوبَةَ
فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُمْ
أَشَدَّ عُقُوبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ ؛ أَوْ تَكُونَ
عُقُوبَتُهُمْ أَغْلَظَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَكْرَمَهُ
بِنِعْمَتِهِ وَرَفَعَ قَدْرَهُ إذَا قَابَلَ حُقُوقَهُ بِالْمَعَاصِي وَقَابَلَ
نِعَمَهُ بِالْكُفْرِ كَانَ أَحَقَّ بِالْعُقُوبَةِ مِمَّنْ لَمْ يُنْعِمُ
عَلَيْهِ كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ .
"
الْوَجْهُ السَّابِعُ " أَنْ يُقَالَ : أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحُوا الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَمِصْرَ
وَخُرَاسَانَ وَغَيْرَهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ ذَبَائِحَهُمْ ؛ لَا يُمَيِّزُونَ
بَيْنَ طَائِفَةٍ وَطَائِفَةٍ ؛ وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ بِالْأَنْسَابِ ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي بَنِي تَغْلِبَ
خَاصَّةً ؛ لِأَمْرِ يَخْتَصُّ بِهِمْ كَمَا أَنَّ عُمَرَ ضَعَّفَ عَلَيْهِمْ
الزَّكَاةَ وَجَعَلَ جِزْيَتَهُمْ مُخَالِفَةً لِجِزْيَةِ غَيْرِهِمْ وَلَمْ
يُلْحِقْ بِهِمْ سَائِرَ الْعَرَبِ وَإِنَّمَا أَلْحَقَ بِهِمْ مَنْ كَانَ
بِمَنْزِلَتِهِمْ . " الْوَجْهُ الثَّامِنُ " أَنْ يُقَالَ : هَذَا
الْقَوْلُ مُسْتَلْزِمٌ أَلَّا يَحِلَّ لَنَا طَعَامُ جُمْهُورٍ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ نَسَبَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَلَا نَعْلَمُ
قَبْلَ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ أَنَّ أَجْدَادَهُ كَانُوا يَهُودًا أَوْ نَصَارَى
قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حِلَّ ذَبَائِحِهِمْ
وَنِسَائِهِمْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِذَا كَانَ
هَذَا الْقَوْلُ مُسْتَلْزِمًا رَفْعَ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالْإِجْمَاعِ عُلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ . " الْوَجْهُ التَّاسِعُ " أَنْ
يُقَالَ : مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ يَأْكُلُونَ
ذَبَائِحَهُمْ فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ .
وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا لِبَيَانِ رُجْحَانِ الْقَوْلِ بِالتَّحْلِيلِ
وَأَنَّهُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ . فَأَمَّا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
أَوْ نَحْوَهَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ يَجُوزُ لِمَنْ تَمَسَّكَ فِيهَا
بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْآخَرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَدَلِيلٍ
فَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
فَقَدْ
تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ فَلَيْسَ لِمَنْ
رَجَّحَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى صَاحِبِ الْقَوْلِ الْآخَرِ
إلَّا بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ . وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي مَتْرُوكِ
التَّسْمِيَةِ وَفِي ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ إذَا سَمَّوْا عَلَيْهَا غَيْرَ
اللَّهِ وَفِي شَحْمِ الثَّرْبِ وَالْكُلْيَتَيْنِ وَذَبْحِهِمْ لِذَوَاتِ
الظُّفْرِ كَالْإِبِلِ وَالْبَطِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَتَنَازَعُوا فِي ذَبْحِ الْكِتَابِيِّ لِلضَّحَايَا وَنَحْوِ ذَلِكَ
مِنْ مَسَائِلَ وَقَدْ قَالَ بِكُلِّ قَوْلٍ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
الْمَشْهُورِينَ فَمَنْ صَارَ إلَى قَوْلٍ مُقَلِّدًا لِقَائِلِهِ لَمْ يَكُنْ
لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مَنْ صَارَ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ مُقَلِّدًا
لِقَائِلِهِ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَجَبَ
الِانْقِيَادُ لِلْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا ظَهَرَتْ . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ
أَنْ يُرْجِعَ قَوْلًا عَلَى قَوْلٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا يَتَعَصَّبُ لِقَوْلِ
عَلَى قَوْلٍ وَلَا قَائِلٍ عَلَى قَائِلٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ؛ بَلْ مَنْ كَانَ
مُقَلِّدًا لَزِمَ حُكْمَ التَّقْلِيدِ ؛ فَلَمْ يُرَجِّحْ ؛ وَلَمْ يُزَيِّفْ ؛
وَلَمْ يُصَوِّبْ ؛ وَلَمْ يُخَطِّئْ : وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ
وَالْبَيَانِ مَا يَقُولُهُ سُمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَبِلَ مَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ
حَقٌّ وَرَدَّ مَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَوَقَفَ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ
أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ فَاوَتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي
قُوَى الْأَذْهَانِ كَمَا فَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي قُوَى الْأَبْدَانِ . وَهَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ وَنَحْوُهَا فِيهَا مِنْ أَغْوَارِ الْفِقْهِ وَحَقَائِقِهِ مَا لَا
يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ عَرَفَ أَقَاوِيلَ الْعُلَمَاءِ وَمَآخِذَهُمْ فَأَمَّا
مَنْ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا قَوْلَ عَالِمٍ وَاحِدٍ وَحُجَّتَهُ دُونَ قَوْلِ
الْعَالِمِ الْآخَرِ وَحُجَّتِهِ فَإِنَّهُ مِنْ الْعَوَامِّ الْمُقَلِّدِينَ ؛
لَا مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُرَجِّحُونَ وَيُزَيِّفُونَ . وَاَللَّهُ
تَعَالَى يَهْدِينَا وَإِخْوَانَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ : وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
وَتَجُوزُ ذَكَاةُ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ وَتَذْبَحُ الْمَرْأَةُ وَإِنْ كَانَتْ
حَائِضًا ؛ فَإِنَّ حَيْضَتَهَا لَيْسَتْ فِي يَدِهَا . وَذَكَاةُ الْمَرْأَةِ
جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ ذَبَحَتْ امْرَأَةٌ شَاةً فَأَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْلِهَا .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الدَّابَّةِ كَالْجَامُوسِ وَغَيْرِهِ فِي الْمَاءِ فَيُذْبَحُ وَيَمُوتُ فِي
الْمَاءِ : هَلْ يُؤْكَلُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْجُرْحُ غَيْرَ مُوحٍ وَغَابَ رَأْسُ الْحَيَوَانِ فِي الْمَاءِ لَمْ
يَحِلَّ أَكْلُهُ ؛ فَإِنَّهُ اشْتَرَكَ فِي حُكْمِهِ الْحَاضِرُ وَالْمُبِيحُ
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ
: " { إنْ خَالَطَ كَلْبَك كِلَابٌ فَلَا تَأْكُلْ ؛ فَإِنَّك إنَّمَا
سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ } . وَإِنْ كَانَ بَدَنُهُ
فِي الْمَاءِ وَرَأْسُهُ خَارِجَ الْمَاءِ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ شَيْئًا . وَإِنْ
كَانَ الْجُرْحُ مُوحِيًا فَفِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ دَابَّةٍ ذُبِحَتْ فَخَرَجَ مِنْهَا دَمٌ كَثِيرٌ وَلَمْ تَتَحَرَّكْ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا خَرَجَ مِنْهَا الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ الْحَيِّ الْمَذْبُوحِ فِي الْعَادَةِ
هُوَ دَمُ الْحَيِّ فَإِنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهَا فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ " الْمُنْخَنِقَةِ وَأَخَوَاتِهَا " إذَا بَلَغَتْ مَبْلَغًا لَا
تَعِيشُ بَعْدَهُ : هَلْ تَعْمَلُ فِيهَا الذَّكَاةُ ؟ وَفِي الْمُتَرَدِّيَةِ فِي
الْبِئْرِ أَوْ النَّهْرِ إذَا لَمْ يَقْدِرُ عَلَى تَذْكِيَتِهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ
مَعْرُوفٌ . وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا إذَا تَحَرَّكَتْ عِنْدَ الذَّبْحِ
وَجَرَى دَمُهَا أُكِلَتْ ؛ فَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الصَّحَابَةِ
وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : {
وَالْمُنْخَنِقَةُ } - إلَى قَوْلِهِ - { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } وَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ
وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ }.
وَأَمَّا
مَا وَقَعَ فِي بِئْرٍ وَنَحْوِهَا وَلَمْ يُوصَلْ إلَى مَذْبَحِهِ فَتُجْرَحُ حَيْثُ
أَمْكَنَ مِثْلُ الطَّعْنِ فِي فَخْذِهَا كَمَا يُفْعَلُ بِالصَّيْدِ
الْمُمْتَنِعِ وَتُبَاحُ بِذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ؛ إلَّا أَنْ
يَكُونَ أَعَانَ عَلَى مَوْتِهَا سَبَبٌ آخَرُ : مِثْلُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُهَا
غَاطِسًا فِي الْمَاءِ فَتَكُونُ قَدْ مَاتَتْ بِالْجُرْحِ وَالْغَرَقِ ؛ فَلَا
تُبَاحُ حِينَئِذٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ " الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا أَصَابَهُ
الْمَوْتُ وَأَتَاهُ الْإِنْسَانُ هَلْ يُذَكِّي شَيْئًا مِنْهُ وَهُوَ مُتَيَقِّنٌ
حَيَاتَهُ حِينَ ذَبْحِهِ وَأَنَّ بَعْضَ الدَّوَابِّ لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنْهُ
جَارِحَةٌ حِينَ ذَكَاتِهِ : فَهَلْ الْحَرَكَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْحَيَاةِ
وَعَدَمُهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَيَاةِ أَمْ لَا ؟ فَإِنَّ غَالِبَ النَّاسِ
يَتَحَقَّقُ حَيَاةَ الدَّابَّةِ عِنْدَ ذَبْحِهَا وَإِرَاقَةِ دَمِهَا وَلَمْ
تَتَحَرَّكْ فَيَقُولُ : إنَّهَا مَيِّتَةٌ فَيَرْمِيهَا ؟ وَهَلْ الدَّمُ
الْأَحْمَرُ الرَّقِيقُ الْجَارِي حِينَ الذَّبْحِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهَا
حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً وَالدَّمُ الْأَسْوَدُ الْجَامِدُ الْقَلِيلُ دَمُ
الْمَوْتِ أَمْ لَا ؟ وَمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ : " { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
فَكُلُوا } ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ
وَالنَّطِيحَةُ
وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إلَّا
مَا ذَكَّيْتُمْ } عَائِدٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ : مِنْ الْمُنْخَنِقَةِ
وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَأَكِيلَةِ السَّبُعِ :
عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ؛ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي
حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ فَمَا أَصَابَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ أُبِيحَ . لَكِنْ
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يُذَكَّى مِنْ ذَلِكَ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ :
مَا تَيَقَّنَ مَوْتَهُ لَا يُذَكَّى كَقَوْلِ مَالِكٍ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَد .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : مَا يَعِيشُ مُعْظَمَ الْيَوْمِ ذُكِّيَ . وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ : مَا كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ذُكِّيَ كَمَا يَقُولُهُ
مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ
مَنْ يَقُولُ : الْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ مَا يَزِيدُ عَلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ
. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : مَا يُمْكِنُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى حَيَاةِ
الْمَذْبُوحِ . وَالصَّحِيحُ : أَنَّهُ إذَا كَانَ حَيًّا فَذُكِّيَ حَلَّ
أَكْلُهُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ حَرَكَةُ مَذْبُوحٍ ؛ فَإِنَّ حَرَكَاتِ
الْمَذْبُوحِ لَا تَنْضَبِطُ ؛ بَلْ فِيهَا مَا يَطُولُ زَمَانُهُ وَتَعْظُمُ
حَرَكَتُهُ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَا
أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا } فَمَتَى جَرَى
الدَّمُ الَّذِي يَجْرِي مِنْ الْمَذْبُوحِ الَّذِي ذُبِحَ وَهُوَ حَيٌّ حَلَّ
أَكْلُهُ . وَالنَّاسُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ دَمِ مَا كَانَ حَيًّا وَدَمِ مَا
كَانَ مَيِّتًا ؛ فَإِنَّ الْمَيِّتَ يَجْمُدُ دَمُهُ وَيَسْوَدُّ ؛ وَلِهَذَا
حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ ؛ لِاحْتِقَانِ الرُّطُوبَاتِ فِيهَا ؛ فَإِذَا جَرَى
مِنْهَا الدَّمُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ الْمَذْبُوحِ الَّذِي ذُبِحَ وَهُوَ حَيٌّ
حَلَّ أَكْلُهُ ؛ وَإِنْ تَيَقَّنَ
أَنَّهُ
يَمُوتُ ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ ذَبْحُ مَا فِيهِ حَيَاةٌ فَهُوَ حَيٌّ وَإِنْ
تَيَقَّنَ أَنَّهُ يَمُوتُ بَعْدَ سَاعَةٍ . فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ تَيَقَّنَ أَنَّهُ يَمُوتُ وَكَانَ حَيًّا جَازَتْ وَصِيَّتُهُ وَصَلَاتُهُ
وَعُهُودُهُ . وَقَدْ أَفْتَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ بِأَنَّهَا إذَا مَصَعَتْ بِذَنَبِهَا أَوْ طَرَفَتْ بِعَيْنِهَا أَوْ
رَكَضَتْ بِرِجْلِهَا بَعْدَ الذَّبْحِ ؛ حَلَّتْ ؛ وَلَمْ يَشْرُطُوا أَنْ
تَكُونَ حَرَكَتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ . وَهَذَا
قَالَهُ الصَّحَابَةُ لِأَنَّ الْحَرَكَةَ دَلِيلٌ عَلَى الْحَيَاةِ وَالدَّلِيلُ
لَا يَنْعَكِسُ فَلَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ يُوجَدُ هَذَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ
مَيِّتَةً ؛ بَلْ قَدْ تَكُونُ حَيَّةً وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا مِثْلُ ذَلِكَ
. وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَكُونُ نَائِمًا فَيُذْبَحُ وَهُوَ نَائِمٌ وَلَا
يَضْطَرِبُ وَكَذَلِكَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ يُذْبَحُ وَلَا يَضْطَرِبُ وَكَذَلِكَ
الدَّابَّةُ قَدْ تَكُونُ حَيَّةً فَتُذْبَحُ وَلَا تَضْطَرِبُ لِضَعْفِهَا عَنْ
الْحَرَكَةِ وَإِنْ كَانَتْ حَيَّة ؛ وَلَكِنَّ خُرُوجَ الدَّمِ الَّذِي لَا
يَخْرُجُ إلَّا مِنْ مَذْبُوحٍ وَلَيْسَ هُوَ دَمَ الْمَيِّتِ دَلِيلٌ عَلَى
الْحَيَاةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
وَ " التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ " مَشْرُوعَةٌ ؛ لَكِنْ قِيلَ :
هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : وَاجِبَةٌ مَعَ الْعَمْدِ
وَتَسْقُطُ مَعَ السَّهْوِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي
الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَقِيلَ : تَجِبُ مُطْلَقًا ؛ فَلَا تُؤْكَلُ الذَّبِيحَةُ
بِدُونِهَا سَوَاءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا كَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى
عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ
وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ
وَالسُّنَّةَ قَدْ عَلَّقَ الْحَلَّ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ
كَقَوْلِهِ : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ
عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } { وَمَا
لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } { وَلَا
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
أَنَّهُ قَالَ : " { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
فَكُلُوا } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لَعَدِيٍّ : " { إذَا أَرْسَلْت
كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَقَتَلَ فَكُلْ وَإِنْ خَالَطَ
كَلْبَك كِلَابُ آخَرَ فَلَا تَأْكُلْ ؛ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك
وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ } .
وَثَبَتَ
فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْجِنَّ سَأَلُوهُ الزَّادَ لَهُمْ وَلِدَوَابِّهِمْ
فَقَالَ : " { لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَوْفَرَ
مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفًا لِدَوَابِّكُمْ } قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا ؛
فَإِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ } فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يُبِحْ لِلْجِنِّ الْمُؤْمِنِينَ إلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ ؛ فَكَيْفَ بِالْإِنْسِ ؛ وَلَكِنْ إذَا وَجَدَ الْإِنْسَانُ لَحْمًا
قَدْ ذَبَحَهُ غَيْرُهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَيَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ
عَلَيْهِ ؛ لِحَمْلِ أَمْرِ النَّاسِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ كَمَا
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ قَوْمًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ نَاسًا
حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ يَأْتُونَ بِاللَّحْمِ وَلَا نَدْرِي أَذَكَرُوا
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يَذْكُرُوا ؟ فَقَالَ : سَمُّوا أَنْتُمْ
وَكُلُوا }
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ " الذَّبِيحَةِ " الَّتِي يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ مَا سُمِّيَ
عَلَيْهَا : هَلْ يَجُوزُ أَكْلُهَا ؟ وَهَلْ تُنَجِّسُ الْأَوَانِي ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، " التَّسْمِيَةُ " عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنْ إذَا
لَمْ يَعْلَمْ الْإِنْسَانُ هَلْ سَمَّى الذَّابِحُ أَمْ لَمْ يُسَمِّ أَكَلَ
مِنْهَا وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ لَمْ يَأْكُلْ وَكَذَلِكَ
الْأُضْحِيَّةُ .
بَابٌ
الْأَيْمَانُ وَالنُّذُورُ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
" الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ " فِي " الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ
" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
} { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ
وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ
عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
{ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى
: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } {
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا
حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } . وَفِيهَا " قَوَاعِدُ عَظِيمَةٌ
" لَكِنْ تَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ مُقَدِّمَاتٍ نَافِعَةٍ جِدًّا فِي هَذَا
الْبَابِ وَغَيْرِهِ . " الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى " أَنَّ الْيَمِينَ
تَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَتَيْنِ : جُمْلَةٌ مُقْسَمٌ بِهَا وَجُمْلَةٌ مُقْسَمٌ
عَلَيْهَا . وَمَسَائِلُ الْأَيْمَانِ إمَّا فِي حُكْمِ الْمَحْلُوفِ بِهِ وَإِمَّا
فِي حُكْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ . فَأَمَّا الْمَحْلُوفُ بِهِ فَالْأَيْمَانُ
الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِمَّا قَدْ يَلْزَمُ بِهَا حُكْمٌ "
سِتَّةُ أَنْوَاعٍ " لَيْسَ لَهَا سَابِعٌ : " أَحَدُهَا "
الْيَمِينُ بِاَللَّهِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا فِيهِ الْتِزَامُ كُفْرٍ عَلَى
تَقْدِيرِ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ
كَذَا . عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ . " الثَّانِي
" الْيَمِينُ بِالنَّذْرِ الَّذِي يُسَمَّى " نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ
" كَقَوْلِهِ عَلِيَّ الْحَجُّ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا
فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ إنْ فَعَلْت كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ .
" الثَّالِثُ " الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ . " الرَّابِعُ "
الْيَمِينُ بِالْعِتَاقِ . " الْخَامِسُ " الْيَمِينُ بِالْحَرَامِ
كَقَوْلِهِ عَلِيَّ الْحَرَامُ لَا أَفْعَلُ كَذَا . " السَّادِسُ "
الظِّهَارُ ؛ كَقَوْلِهِ : أَنْتَ عَلِيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنْ فَعَلْت كَذَا
فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا يَحْلِفُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِمَّا فِيهِ حُكْمٌ .
فَأَمَّا
" الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ " كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ أَوْ قَبْرِ
الشَّيْخِ أَوْ بِنِعْمَةِ السُّلْطَانِ أَوْ بِالسَّيْفِ أَوْ بِجَاهِ أَحَدٍ
مِنْ الْمَخْلُوقِينَ : فَمَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا أَنَّ هَذِهِ
الْيَمِينَ مَكْرُوهَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا لَا يُوجِبُ
حِنْثًا وَلَا كَفَّارَةً . وَهَلْ الْحَلِفُ بِهَا مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ
كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ :
أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ . وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا كَالْقَاضِي أَبِي
يَعْلَى وَغَيْرِهِ : إنَّهُ إذَا قَالَ : أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُنِي
إنْ فَعَلْت كَذَا لَزِمَهُ مَا يَفْعَلُهُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَالنَّذْرِ
وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَالظِّهَارِ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْحَرَامَ ؛ لِأَنَّ
يَمِينَ الْحَرَامِ ظِهَارٌ عِنْدَ أَحْمَد وَأَصْحَابِهِ فَلَمَّا كَانَ
مُوجَبُهَا وَاحِدًا عِنْدَهُمْ دَخَلَ الْحَرَامُ فِي الظِّهَارِ ؛ وَلَمْ
يَدْخُلْ النَّذْرُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُكَفِّرَ
يَمِينَهُ بِالنَّذْرِ ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ الْمُسَمَّى
" بِنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " عِنْدَ الْحِنْثِ هُوَ
التَّخْيِيرُ بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَبَيْنَ فِعْلِ الْمَنْذُورِ وَمُوجَبِ
الْحَلِفِ بِاَللَّهِ هُوَ التَّكْفِيرُ فَقَطْ . فَلَمَّا اخْتَلَفَ مُوجَبُهُمَا
جَعَلُوهُمَا يَمِينَيْنِ . نَعَمْ إذَا قَالُوا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ
أَحْمَد وَهُوَ أَنَّ الْحَلِفَ بِالنَّذْرِ مُوجَبُهُ الْكَفَّارَةُ فَقَطْ
دَخَلَتْ الْيَمِينُ بِالنَّذْرِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى . أَمَّا
اخْتِلَافُهُمْ وَاخْتِلَافُ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا
الْكَلَامِ . هَلْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ ؟ أَوْ لَا تَنْعَقِدُ ؟
فَسَأَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا غَرَضِي هُنَا حَصْرُ
الْأَيْمَانِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ . وَأَمَّا أَيْمَانُ
الْبَيْعَةِ فَقَالُوا : أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ
الثَّقَفِيُّ وَكَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ النَّاسَ يُبَايِعُونَ الْخُلَفَاءَ
كَمَا بَايَعَ الصَّحَابَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَعْقِدُونَ
الْبَيْعَةَ كَمَا يَعْقِدُونَ عَقْدَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا .
وَإِمَّا أَنْ يَذْكُرُوا الشُّرُوطَ الَّتِي يُبَايِعُونَ عَلَيْهَا ؛ ثُمَّ
يَقُولُونَ : بَايَعْنَاك عَلَى ذَلِكَ كَمَا بَايَعَتْ الْأَنْصَارُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ . فَلَمَّا أَحْدَثَ
الْحَجَّاجُ مَا أَحْدَثَ مِنْ الْعَسْفِ كَانَ مِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّ حَلِفَ
النَّاسِ عَلَى بَيْعِهِمْ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِالطَّلَاقِ
وَالْعِتَاقِ وَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَصَدَقَةِ الْمَالِ . فَهَذِهِ
الْأَيْمَانُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ كَانَتْ أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ الْقَدِيمَةِ
الْمُبْتَدَعَةِ ثُمَّ أَحْدَثَ الْمُسْتَخْلَفُونَ عَنْ الْأُمَرَاءِ مِنْ
الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ أَيْمَانًا كَثِيرَةً أَكْثَرَ مِنْ
تِلْكَ وَقَدْ تَخْتَلِفُ فِيهَا عَادَاتُهُمْ ؛ وَمَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ
فَعَلَيْهِ إثْمُ مَا تَرَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْأَيْمَانِ مِنْ الشَّرِّ .
" الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ " أَنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ يُحْلَفُ
بِهَا تَارَةً بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ ؛ لَا
يُتَصَوَّرُ أَنَّ تَخْرُجَ الْيَمِينُ عَنْ هَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ . "
فَالْأَوَّلُ " كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ الطَّلَاقُ
يَلْزَمُنِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا أَوْ عَلَيَّ الْحَرَامُ لَا أَفْعَلُ كَذَا ؛
أَوْ عَلَيَّ الْحَجُّ لَا أَفْعَلُ . " وَالثَّانِي " كَقَوْلِهِ إنْ
فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ بَرِيءٌ مِنْ
الْإِسْلَامِ . أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ إنْ فَعَلْت
كَذَا فَامْرَأَتِي حَرَامٌ أَوْ فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ إنْ فَعَلْت
كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ . وَلِهَذَا عَقَدَ الْفُقَهَاءُ
لِمَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بَابَيْنِ أَحَدُهُمَا " بَابُ تَعْلِيقِ
الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ " فَيَذْكُرُونَ فِيهِ الْحَلِفَ بِصِيغَةِ
الْجَزَاءِ : كَإِنْ وَمَتَى وَإِذَا وَمَا أَشْبَهَ
ذَلِكَ
وَإِنْ دَخَلَ فِيهِ صِيغَةُ الْقَسَمِ ضِمْنًا وَتَبَعًا . وَالْبَابُ الثَّانِي
" بَابُ جَامِعِ الْأَيْمَانِ " مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْحَلِفُ
بِاَللَّهِ وَالطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ ؛ فَيَذْكُرُونَ فِيهِ
الْحَلِفَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَإِنْ دَخَلَتْ صِيغَةُ الْجَزَاءِ ضِمْنًا
وَتَبَعًا . وَمَسَائِلُ أَحَدِ الْبَابَيْنِ مُخْتَلِطَةٌ بِمَسَائِلِ الْبَابِ
الْآخَرِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى كَثِيرًا أَوْ غَالِبًا . وَكَذَلِكَ
طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ - لَمَّا ذَكَرُوا
فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ " بَابَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ "
أَرْدَفُوهُ " بِبَابِ جَامِعِ الْأَيْمَانِ " وَطَائِفَةٌ أُخْرَى
كالخرقي وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمَا إنَّمَا ذَكَرُوا " بَابَ
جَامِعِ الْأَيْمَانِ " فِي " كِتَابِ الْأَيْمَانِ " لِأَنَّهُ
أَمَسُّ . وَنَظِيرُ هَذَا " بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ " مِنْهُمْ مَنْ
يَذْكُرُهُ عِنْدَ " بَابِ اللِّعَانِ " لِاتِّصَالِ أَحَدِهِمَا
بِالْآخَرِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَخِّرُهُ إلَى " كِتَابِ الْحُدُودِ "
لِأَنَّهُ بِهِ أَخَصُّ . وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ لِلْيَمِينِ " صِيغَتَيْنِ
" صِيغَةِ الْقَسَمِ وَصِيغَةِ الْجَزَاءِ . فَالْمُقَدَّمُ فِي صِيغَةِ
الْقَسَمِ مُؤَخَّرٌ فِي صِيغَةِ الْجَزَاءِ وَالْمُؤَخَّرُ فِي صِيغَةِ
الْجَزَاءِ مُقَدَّمٌ فِي صِيغَةِ الْقَسَمِ . وَالشَّرْطُ الْمُثْبَتُ فِي
صِيغَةِ الْجَزَاءِ مَنْفِيٌّ فِي صِيغَةِ الْقَسَمِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ :
الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا . فَقَدْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا
يَفْعَلَ فَالطَّلَاقُ مُقَدَّمٌ مُثْبَتٌ ؛ وَالْفِعْلُ مُؤَخَّرٌ مَنْفِيٌّ :
فَلَوْ حَلَفَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ فَقَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي
طَالِقٌ كَانَ يُقَدِّمُ الْفِعْلَ مُثْبَتًا وَيُؤَخِّرُ الطَّلَاقَ مَنْفِيًّا
كَمَا أَنَّهُ فِي الْقَسَمِ قَدَّمَ الْحُكْمَ وَأَخَّرَ الْفِعْلَ . وَبِهَذِهِ
الْقَاعِدَةِ تَنْحَلُّ مَسَائِلُ مِنْ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ .
فَأَمَّا
" صِيغَةُ الْجَزَاءِ " فَهِيَ " جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ " فِي
الْأَصْلِ ؛ فَإِنَّ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ لَا يَتَّصِلُ بِهَا فِي الْأَصْلِ إلَّا
الْفِعْلُ . " وَأَمَّا صِيغَةُ الْقَسَمِ " فَتَكُونُ فِعْلِيَّةً
كَقَوْلِهِ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ ؛ أَوْ تَاللَّهِ أَوْ وَاَللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ
. وَتَكُونُ " اسْمِيَّةً " كَقَوْلِهِ لِعُمَرِ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ
وَالْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَأَفْعَلَنَّ . ثُمَّ هَذَا التَّقْسِيمُ لَيْسَ مِنْ
خَصَائِصِ الْأَيْمَانِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ ؛ بَلْ غَيْرُ
ذَلِكَ مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ . تَارَةً تَكُونُ
بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ فِي
" الْجَعَالَةِ " مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ كَذَا ؛
وَقَوْلِهِ فِي " السَّبْقِ " مَنْ سَبَقَ فَلَهُ كَذَا . وَتَارَةً
بِصِيغَةِ التَّنْجِيزِ : إمَّا " صِيغَةُ خَبَرٍ " كَقَوْلِهِ بِعْت
وَزَوَّجْت وَإِمَّا " صِيغَةُ طَلَبٍ " كَقَوْلِهِ بِعْنِي
وَاخْلَعْنِي .
" الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ " - وَفِيهَا يَظْهَرُ سِرُّ مَسَائِلِ
الْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا - أَنَّ صِيغَةَ التَّعْلِيقِ الَّتِي تُسَمَّى "
صِيغَةَ الشَّرْطِ وَصِيغَةَ الْمُجَازَاةِ " تَنْقَسِمُ إلَى " سِتَّةِ
أَنْوَاعٍ " لِأَنَّ الْحَالِفَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ وُجُودَ
الشَّرْطِ فَقَطْ أَوْ وُجُودَ الْجَزَاءِ فَقَطْ أَوْ وَجُودَهُمَا ؛ وَإِمَّا
أَنْ لَا يَقْصِدَ وُجُودَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ يَكُونُ مَقْصُودُهُ عَدَمَ
الشَّرْطِ فَقَطْ أَوْ الْجَزَاءِ فَقَطْ أَوْ عَدَمُهُمَا . " فَالْأَوَّلُ
" بِمَنْزِلَةِ كَثِيرٍ مِنْ صُوَرِ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَنَذْرِ
التَّبَرُّرِ ؛ وَالْجَعَالَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ
لِامْرَأَتِهِ . إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْت طَالِقٌ أَوْ فَقَدْ خَلَعْتُك
. أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ أَدَّيْت أَلْفًا فَأَنْت حُرٌّ أَوْ قَالَ . إنْ
رَدَدْت عَبْدِي الْآبِقَ فَلَك أَلْفٌ أَوْ قَالَ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي
أَوْ
سَلِمَ
مَالِي الْغَائِبُ : فَعَلَيَّ عِتْقُ كَذَا ؛ وَالصَّدَقَةُ بِكَذَا :
فَالْمُعَلِّقُ قَدْ لَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ إلَّا أَخْذَ الْمَالِ وَرَدَّ
الْعَبْدِ وَسَلَامَةَ الْعِتْقِ وَالْمَالِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ الْجَزَاءَ
عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ كَالْبَائِعِ الَّذِي إنَّمَا مَقْصُودُهُ أَخْذُ
الثَّمَنِ وَالْتَزَمَ رَدَّ الْمَبِيعِ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ . فَهَذَا
الضَّرْبُ شَبِيهٌ بِالْمُعَاوَضَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ . وَكَذَلِكَ
إذَا كَانَ قَدْ جَعَلَ الطَّلَاقُ عُقُوبَةً لَهَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : إذَا
ضَرَبْت أُمِّي فَأَنْت طَالِقٌ أَوْ إنْ خَرَجْت مِنْ الدَّارِ فَأَنْت طَالِقٌ
فَإِنَّهُ فِي الْخُلْعِ عَاوَضَهَا بِالتَّطْلِيقِ عَنْ الْمَالِ لِأَنَّهَا
تُرِيدُ الطَّلَاقَ وَهُنَا عَوَّضَهَا عَنْ مَعْصِيَتِهَا بِالطَّلَاقِ .
وَأَمَّا " الثَّانِي " فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ : إذَا
طَهُرْت فَأَنْت طَالِقٌ أَوْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ : إذَا مُتّ فَأَنْت حُرٌّ أَوْ
إذَا جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ فَأَنْت حُرٌّ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ وَنَحْوَ
ذَلِكَ مِنْ التَّعْلِيقِ الَّذِي هُوَ تَوْقِيتٌ مَحْضٌ . فَهَذَا الضَّرْبُ
بِمَنْزِلَةِ الْمُنْجَزِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَصَدَ الطَّلَاقَ
وَالْعِتَاقَ وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ إلَى الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ بِمَنْزِلَةِ
تَأْجِيلِ الدَّيْنِ وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يُؤَخِّرُ الطَّلَاقَ مِنْ وَقْتٍ إلَى
وَقْتٍ لِغَرَضِ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ ؛ لَا لِعِوَضِ وَلَا لِحَثِّ عَلَى طَلَبٍ
أَوْ خَبَرٍ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ :
إذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ
بِطَلَاقِك أَوْ إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ فَأَنْت طَالِقٌ .
فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ دَخَلْت أَوْ لَمْ تَدْخُلِي وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا
فِيهِ مَعْنَى الْحَضِّ أَوْ الْمَنْعِ فَهُوَ حَالِفٌ وَلَوْ كَانَ تَعْلِيقًا
مَحْضًا كَقَوْلِهِ : إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَنْت طَالِقٌ أَوْ إنْ طَلَعَتْ
الشَّمْسُ فَاخْتَلِفُوا فِيهِ فَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِحَالِفِ
وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي فِي " الْجَامِعِ " :
هُوَ حَالِفٌ .
وَأَمَّا
" الثَّالِثُ " وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ وُجُودَهُمَا جَمِيعًا
فَمِثْلُ الَّذِي قَدْ آذَتْهُ امْرَأَتُهُ حَتَّى أَحَبَّ طَلَاقَهَا
وَاسْتِرْجَاعَ الْفِدْيَةِ مِنْهَا فَيَقُولُ : إنْ أبرأتيني مِنْ صَدَاقِك أَوْ
مِنْ نَفَقَتِك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهُوَ يُرِيدُ كُلًّا مِنْهُمَا . وَأَمَّا "
الرَّابِعُ " وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الشَّرْطِ لَكِنَّهُ
إذَا وُجِدَ لَمْ يَكْرَهْ الْجَزَاءَ ؛ بَلْ يُحِبُّهُ أَوْ لَا يُحِبُّهُ وَلَا
يَكْرَهُهُ فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ إنْ زَنَيْت فَأَنْت طَالِقٌ أَوْ
إنْ ضَرَبْت أُمِّي فَأَنْت طَالِقٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ التَّعْلِيقِ الَّذِي
يُقْصَدُ فِيهِ عَدَمُ الشَّرْطِ ؛ وَيُقْصَدُ وُجُودُ الْجَزَاءِ عِنْدَ
وُجُودِهِ بِحَيْثُ تَكُونُ إذَا زَنَتْ أَوْ إذَا ضَرَبَتْ أُمَّهُ يَجِبُ
فِرَاقُهَا لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لَهُ فَهَذَا فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ
وَمَعْنَى التَّوْقِيتِ ؛ فَإِنَّهُ مَنَعَهَا مِنْ الْفِعْلِ وَقَصَدَ إيقَاعَ
الطَّلَاقِ عِنْدَهُ كَمَا قَصَدَ إيقَاعَهُ عِنْدَ أَخْذِ الْعِوَضِ مِنْهَا أَوْ
عِنْدَ طُهْرِهَا أَوْ طُلُوعِ الْهِلَالِ . وَأَمَّا " الْخَامِسُ "
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الْجَزَاءِ وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ
لِئَلَّا يُوجَدُ ؛ وَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي عَدَمِ الشَّرْطِ : فَهَذَا قَلِيلٌ
كَمَنْ يَقُولُ إنْ أَصَبْت مِائَةَ رَمْيَةٍ أَعْطَيْتُك كَذَا . وَأَمَّا "
السَّادِسُ " وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ
؛ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ لِيَمْتَنِعَ وَجُودُهُمَا فَهُوَ
مِثْلُ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ .
وَمِثْلُ
الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ عَلَى حَضٍّ أَوْ مَنْعٍ أَوْ تَصْدِيقٍ أَوْ
تَكْذِيبٍ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لَهُ ؛ تَصَدَّقْ . فَيَقُولُ : إنْ تَصَدَّقَ
فَعَلَيْهِ صِيَامُ كَذَا وَكَذَا أَوْ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَوْ فَعَبِيدُهُ
أَحْرَارٌ . أَوْ يَقُولَ : إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَعَلَيَّ نَذْرُ
كَذَا أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ عَبْدِي حُرٌّ . أَوْ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ
غَيْرِهِ مِمَّنْ يَقْصِدُ مَنْعَهُ - كَعَبْدِهِ وَنَسِيبِهِ وَصَدِيقِهِ مِمَّنْ
يَحُضُّهُ عَلَى طَاعَتِهِ - فَيَقُولُ لَهُ : إنْ فَعَلْت أَوْ إنْ لَمْ تَفْعَلْ
: فَعَلَيَّ كَذَا ؛ أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ؛ أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَحْوَ
ذَلِكَ : فَهَذَا نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ . وَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ
الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ يُخَالِفُهُ فِي الْمَعْنَى " نَذْرُ
التَّبَرُّرِ وَالتَّقَرُّبِ " وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ " الْخُلْعِ
" و " الْكِتَابَةِ " ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَقُولُ إنْ سَلَّمَنِي
اللَّهُ أَوْ سَلَّمَ مَالِي مِنْ كَذَا أَوْ إنْ أَعْطَانِي اللَّهُ كَذَا ؛
فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ ؛ أَوْ أَصُومَ ؛ أَوْ أَحُجَّ . قَصْدُهُ حُصُولُ
الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْغَنِيمَةُ أَوْ السَّلَامَةُ ؛ وَقَصَدَ أَنْ يَشْكُرَ
اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا نَذَرَهُ لَهُ ؛ وَكَذَلِكَ الْمُخَالِعُ
وَالْمَكَاتِبُ قَصْدُهُ حُصُولُ الْعِوَضِ وَبَذْلُ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ
عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ وَأَمَّا النَّذْرُ فِي اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ إذَا قِيلَ
لَهُ : افْعَلْ كَذَا فَامْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهِ ثُمَّ قَالَ : إنْ فَعُلْته
فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ الصِّيَامُ . فَهُنَا مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَكُونَ
الشَّرْطُ ؛ ثُمَّ إنَّهُ لِقُوَّةِ امْتِنَاعِهِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ إنْ فَعَلَهُ
بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّقِيلَةِ عَلَيْهِ ؛ لِيَكُونَ لُزُومُهَا لَهُ إذَا
فَعَلَ مَانِعًا لَهُ مِنْ الْفِعْلِ ؛ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْته
فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ؛ أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ ؛ إنَّمَا مَقْصُودُهُ
الِامْتِنَاعُ وَالْتَزَمَ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ مَا هُوَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ
مِنْ
فِرَاقِ أَهْلِهِ وَذَهَابِ مَالِهِ ؛ لَيْسَ غَرَضُ هَذَا أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى
اللَّهِ بِعِتْقِ أَوْ صَدَقَةٍ وَلَا أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ . وَلِهَذَا
سَمَّى الْعُلَمَاءُ هَذَا " نَذْرَ اللَّجَاجِ ؛ وَالْغَضَبِ "
مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ " { لَأَنْ يَلِجَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ
فِي أَهْلِهِ آثَمَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ الْكَفَّارَةَ الَّتِي
فَرَضَ اللَّهُ لَهُ } " فَصُورَةُ هَذَا النَّذْرِ صُورَةُ نَذْرِ التَّبَرُّرِ
فِي اللَّفْظِ ؛ وَمَعْنَاهُ شَدِيدُ الْمُبَايَنَةِ لِمَعْنَاهُ . وَمِنْ هنا
نَشَأَتْ " الشُّبْهَةُ " الَّتِي سَنَذْكُرُهَا فِي هَذَا الْبَابِ -
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ وَيَتَبَيَّنُ
فِقْهُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الَّذِينَ نَظَرُوا إلَى مَعَانِي
الْأَلْفَاظِ لَا إلَى صُوَرِهَا . إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ
الدَّاخِلَةُ فِي قِسْمِ التَّعْلِيقِ فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ بَعْضَهَا مَعْنَاهُ
مَعْنَى الْيَمِينِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ ؛ وَبَعْضَهَا لَيْسَ مَعْنَاهُ ذَلِكَ .
فَمَتَى كَانَ الشَّرْطُ الْمَقْصُودُ حَضًّا عَلَى فِعْلٍ أَوْ مَنْعًا مِنْهُ
أَوْ تَصْدِيقًا لِخَبَرِ ؛ أَوْ تَكْذِيبًا : كَانَ الشَّرْطُ مَقْصُودَ
الْعَدَمِ هُوَ وَجَزَاؤُهُ ؛ كَنَذْرِ اللَّجَاجِ ؛ وَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ
عَلَى وَجْهِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ . " الْقَاعِدَةُ الْأُولَى "
أَنَّ الْحَالِفَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ
تَعَالَى حُكْمَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَقَالَ تَعَالَى : {
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } وَقَالَ : { قَدْ فَرَضَ
اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ
مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ
إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وَأَمَّا السُّنَّةُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلْ
الْإِمَارَةَ ؛ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْت إلَيْهَا وَإِنْ
أُعْطِيتهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا وَإِذَا حَلَفْت عَلَى
يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ
وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك } " فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَ الْأَمَانَةِ الَّذِي هُوَ الْإِمَارَةُ وَحُكْمَ
الْعَهْدِ الَّذِي هُوَ الْيَمِينُ . وَكَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَا
مَخْرَجَ لَهُمْ مِنْ الْيَمِينِ قَبْلَ أَنْ تُشْرَعَ الْكَفَّارَةُ وَلِهَذَا
قَالَتْ عَائِشَةُ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ حَتَّى أَنْزَلَ
اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ عَقْدٌ
بِاَللَّهِ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ كَمَا يَجِبُ بِسَائِرِ الْعُقُودِ وَأَشَدُّ
؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ وَنَحْوَ
ذَلِكَ : فِي مَعْنَى قَوْلِهِ أَعْقِدُ بِاَللَّهِ ؛ وَلِهَذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ
الْإِلْصَاقِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الرَّبْطِ وَالْعَقْدِ فَيَنْعَقِدُ
الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِاَللَّهِ كَمَا تَنْعَقِدُ إحْدَى الْيَدَيْنِ
بِالْأُخْرَى فِي الْمُعَاقَدَةِ ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ عَقْدًا فِي
قَوْلِهِ : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } فَإِذَا
كَانَ قَدْ عَقَدَهَا بِاَللَّهِ كَانَ الْحِنْثُ فِيهَا نَقْضًا لِعَهْدِ اللَّهِ
وَمِيثَاقِهِ لَوْلَا مَا فَرَضَهُ اللَّهُ مِنْ التَّحِلَّةِ وَلِهَذَا سُمِّيَ
حَلُّهَا حِنْثًا . و " الْحِنْثُ " هُوَ الْإِثْمُ فِي الْأَصْلِ
فَالْحِنْثُ فِيهَا سَبَبٌ لِلْإِثْمِ لَوْلَا الْكَفَّارَةُ الْمَاحِيَةُ
فَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ مَنَعَتْهُ أَنْ يُوجِبَ إثْمًا .
وَنَظِيرُ
الرُّخْصَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَعْدَ عَقْدِهَا الرُّخْصَةُ أَيْضًا فِي
كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الظِّهَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
وَأَوَّلِ الْإِسْلَامِ طَلَاقًا وَكَذَلِكَ الْإِيلَاءُ كَانَ عِنْدَهُمْ
طَلَاقًا فَإِنَّ هَذَا جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَى
الْيَمِينِ فَإِنَّ الْإِيلَاءَ إذَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهُ مِنْ تَرْكِ
الْوَطْءِ صَارَ الْوَطْءُ مُحَرَّمًا وَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا
مُسْتَلْزِمٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ وَكَذَلِكَ الظِّهَارُ
إذَا وَجَبَ التَّحْرِيمُ فَالتَّحْرِيمُ مُسْتَلْزِمٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ ؛
فَإِنَّ الزَّوْجَةَ لَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ وَلِهَذَا
قَالَ سُبْحَانَهُ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { قَدْ
فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } " وَالتَّحِلَّةُ "
مَصْدَرُ حَلَّلْت الشَّيْءَ أُحِلُّهُ تَحْلِيلًا وَتَحِلَّةً كَمَا يُقَالُ
كَرَّمْته تَكْرِيمًا وَتَكْرِمَةً . وَهَذَا مَصْدَرٌ يُسَمَّى بِهِ الْمُحَلَّلُ
نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ الْكَفَّارَةُ فَإِنْ أُرِيدَ الْمَصْدَرُ فَالْمَعْنَى
فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحْلِيلَ الْيَمِينِ وَهُوَ حَلُّهَا الَّذِي هُوَ خِلَافُ
الْعَقْدِ . وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ مَنْ اسْتَدَلَّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ
كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّكْفِيرِ قَبْلَ
الْحِنْثِ لِأَنَّ التَّحِلَّةَ لَا تَكُونُ بَعْدَ الْحِنْثِ ؛ فَإِنَّهُ
بِالْحِنْثِ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ التَّحِلَّةُ إذَا
أُخْرِجَتْ قَبْلَ الْحِنْثِ لِتَنْحَلَّ الْيَمِينُ وَإِنَّمَا هِيَ بَعْدَ
الْحِنْثِ كَفَّارَةٌ ؛ لِأَنَّهَا كَفَّرَتْ مَا فِي الْحِنْثِ مِنْ سَبَبِ
الْإِثْمِ لِنَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ . فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا اقْتَضَتْهُ
الْيَمِينُ مِنْ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ
الْأُمَّةِ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي جَعَلَهَا بَدَلًا مِنْ الْوَفَاءِ فِي
جُمْلَةِ مَا رَفَعَهُ عَنْهَا مِنْ الْآصَارِ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا
بِقَوْلِهِ : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ } .
فَالْأَفْعَالُ
" ثَلَاثَةٌ " إمَّا طَاعَةٌ وَإِمَّا مَعْصِيَةٌ وَإِمَّا مُبَاحٌ .
فَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ مُبَاحًا أَوْ لَيَتْرُكَنَّهُ فَهَاهُنَا الْكَفَّارَةُ
مَشْرُوعَةٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِعْلَ
مَكْرُوهٍ أَوْ تَرْكَ مُسْتَحَبٍّ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا
وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ
فِعْلَ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكَ مُحَرَّمٍ فَهَاهُنَا لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ
بِالِاتِّفَاقِ ؛ بَلْ يَجِبُ التَّكْفِيرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَأَمَّا قَبْلَ أَنْ تُشْرَعَ الْكَفَّارَةُ فَكَانَ الْحَالِفُ عَلَى مِثْلِ
هَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْوَفَاءُ بِيَمِينِهِ وَلَا كَفَّارَةَ لَهُ تَرْفَعُ
عَنْهُ مُقْتَضَى الْحِنْثِ ؛ بَلْ يَكُونُ عَاصِيًا مَعْصِيَةً لَا كَفَّارَةَ
فِيهَا سَوَاءٌ وَفَّى أَوْ لَمْ يَفِ كَمَا لَوْ نَذَرَ مَعْصِيَةً عِنْدَ مَنْ
لَمْ يَجْعَلْ فِي نَذْرِهِ كَفَّارَةً ؛ وَكَمَا إنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ
فِعْلَ طَاعَةٍ غَيْرَ وَاجِبَةٍ .
فَصْلٌ :
فَأَمَّا الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ الَّذِي هُوَ " نَذْرُ اللَّجَاجِ
وَالْغَضَبِ " مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ
أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ أَوْ فَعَلَيَّ صِيَامٌ . يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَمْنَعَ
نَفْسَهُ عَنْ الْفِعْلِ . أَوْ أَنْ يَقُولَ : إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَعَلَيَّ
الْحَجُّ وَنَحْوَهُ : فَمَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ
وَالْكُوفَةِ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ عَنْهُ .
ثُمَّ
اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَأَكْثَرُهُمْ قَالُوا : هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوَفَاءِ
بِنَذْرِهِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ ؛ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ
عَيْنًا كَمَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ
الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ
مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَطَائِفَةٌ : بَلْ يَجِبُ
الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الشَّافِعِيَّ سُئِلَ عَنْ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمِصْرِ فَأَفْتَى فِيهَا بِالْكَفَّارَةِ فَقَالَ لَهُ
السَّائِلُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا قَوْلُك ؟ قَالَ : قَوْلُ مَنْ هُوَ
خَيْرٌ مِنِّي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ . وَذَكَرُوا أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ
بْنَ الْقَاسِمِ حَنِثَ ابْنُهُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ فَأَفْتَاهُ بِكَفَّارَةِ
يَمِينٍ بِقَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَقَالَ : إنْ عُدْت أَفْتَيْتُك بِقَوْلِ
مَالِكٍ وَهُوَ الْوَفَاءُ بِهِ . وَلِهَذَا يُفَرِّعُ أَصْحَابُ مَالِكٍ
مَسَائِلَ هَذِهِ الْيَمِينِ عَلَى النَّذْرِ ؛ لعمومات الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ ؛
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ
فَلْيُطِعْهُ } وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ جَائِزٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ فَوَجَبَ عِنْدَ
ثُبُوتِ شَرْطِهِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ
الصَّحِيحُ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ - مَعَ مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
مِنْ دِلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - مَا اعْتَمَدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد
وَغَيْرُهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي " مَسَائِلِهِ " سَمِعْت
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ قَالَ : مَا لَهُ فِي رِتَاجِ
الْكَعْبَةِ ؟ قَالَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ . قَالَ :
وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ يَحْلِفُ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ
اللَّهِ أَوْ الصَّدَقَةِ بِالْمُلْكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَيْمَانِ ؟
فَقَالَ :
إذَا
حَنِثَ فَكَفَّارَةٌ ؛ إلَّا أَنِّي لَا أَحْمِلُهُ عَلَى الْحِنْثِ مَا لَمْ
يَحْنَثْ قِيل لَهُ تَفْعَلُ . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَإِذَا حَنِثَ
كَفَرَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ لَهُ : أَلَيْسَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ ؟ قَالَ :
نَعَمْ . قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي حَدِيثِ لَيْلَى
بِنْتِ الْعَجْمَاءِ حِينَ حَلَفَتْ بِكَذَا وَكَذَا وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا
حُرٌّ فَأَفْتَيْت بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
وَابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ أَفْتَيَا فِيمَنْ حَلَفَ بِعِتْقِ جَارِيَةٍ وَأَيْمَانٍ
فَقَالَ : أَمَّا الْجَارِيَةُ فَتَعْتِقُ . وَقَالَ الْأَثْرَمُ حَدَّثَنَا
الْفَضْلُ بْنُ دكين ثَنَا حَسَنٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ : مَنْ قَالَ مَالِي فِي مِيرَاثِ الْكَعْبَةِ وَكُلُّ مَالِي
فَهُوَ هَدْيٌ وَكُلُّ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ .
وَقَالَ حَدَّثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ ثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ
قَالَ قَالَ أَبِي حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَبُو
رَافِعٍ قَالَ قَالَتْ مَوْلَاتِي لَيْلَى بِنْتُ الْعَجْمَاءِ : كُلُّ مَمْلُوكٍ
لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ
نَصْرَانِيَّةٌ : إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك أَوْ تُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ
امْرَأَتِك . قَالَ : فَأَتَيْت زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ وَكَانَتْ إذَا
ذُكِرَتْ امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ فَقِيهَةٌ ذُكِرَتْ زَيْنَبُ قَالَ
فَأَتَيْتهَا فَجَاءَتْ مَعِي إلَيْهَا فَقَالَتْ : فِي الْبَيْتِ هَارُوتُ
وَمَارُوتُ قَالَتْ : يَا زَيْنَبُ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك إنَّهَا قَالَتْ :
كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ
وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ . فَقَالَتْ : يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّي بَيْنَ
الرَّجُلِ وَبَيْنَ
امْرَأَتِهِ
فَأَتَيْت حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَأَتَتْهَا
فَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك : إنَّهَا قَالَتْ
: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ
وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ فَقَالَتْ : يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّي بَيْنَ
الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَالَ فَأَتَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ
فَجَاءَ مَعِي إلَيْهَا فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَسَلَّمَ فَقَالَ : أَمِنْ
حِجَارَةٍ أَنْتِ ؟ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ أَنْتِ أَمْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ
أَفْتَتْك زَيْنَبُ ؛ وَأَفْتَتْك أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ : فَلَمْ تَقْبَلِي
فُتْيَاهَا قَالَتْ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك
إنَّهَا قَالَتْ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ
يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ . فَقَالَ : يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ
كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك وَخَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ . وَقَالَ
الْأَثْرَمُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ أَنْبَأَنَا عِمْرَانُ عَنْ
قتادة عَنْ زرارة بْنِ أَبِي أَوْفَى : أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ ابْنَ عَبَّاسٍ
أَنَّ امْرَأَةً جَعَلَتْ بُرْدَهَا عَلَيْهَا هَدْيًا إنْ لَبِسَتْهُ فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : فِي غَضَبٍ أَمْ فِي رِضًى ؟ قَالُوا : فِي غَضَبٍ . قَالَ :
إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالْغَضَبِ ؛
لِتُكَفِّر عَنْ يَمِينِهَا . وَقَالَ : حَدَّثَنِي ابْنُ الطَّبَّاعِ ثَنَا أَبُو
بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ . عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ يَعْلَى بْنِ
النُّعْمَانِ وَعِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ جَعَلَ
مَالَهُ فِي الْمَسَاكِينِ ؟ فَقَالَ : أَمْسِكْ عَلَيْك مَالَك وَأَنْفِقْهُ
عَلَى عِيَالِك . وَاقْضِ بِهِ دَيْنَك وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك
وَرَوَى
الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَد حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثَنَا ابْنُ جريج سُئِلَ
عَطَاءٌ عَنْ رَجُلٍ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ بَدَنَةٍ ؟ قَالَ يَمِينٌ . وَعَنْ
رَجُلٍ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ حَجَّةٍ ؟ قَالَ يَمِينٌ . وَعَنْ رَجُلٍ قَالَ :
مَالِي هَدْيٌ ؟ قَالَ : يَمِينٌ . وَعَنْ رَجُلٍ قَالَ : مَالِي فِي
الْمَسَاكِينِ ؟ قَالَ : يَمِينٌ . وَقَالَ أَحْمَد : حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قتادة : عَنْ الْحَسَنِ وَجَابِرِ بْنِ
زَيْدٍ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ : إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَأَنَا مُحْرِمٌ
بِحَجَّةِ ؟ قَالَا : لَيْسَ الْإِحْرَامُ إلَّا عَلَى مَنْ نَوَى الْحَجَّ
يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا . وَقَالَ أَحْمَد : ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طاوس عَنْ أَبِيهِ قَالَ : يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا . وَقَالَ
حَرْبٌ الكرماني حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ وَاضِحٍ ثَنَا يُوسُفُ بْنُ أَبِي
السَّفَرِ ؛ عَنْ الأوزاعي عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ
عَنْ الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ؟ قَالَ :
إنَّمَا الْمَشْيُ عَلَى مَنْ نَوَاهُ فَأَمَّا مَنْ حَلَفَ فِي الْغَضَبِ
فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْكَلَامِ
بِمَعْنَى الْكَلَامِ لَا بِلَفْظِهِ ؛ وَهَذَا الْحَالِفُ لَيْسَ مَقْصُودُهُ
قُرْبَةً لِلَّهِ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الْحَضُّ عَلَى فِعْلٍ أَوْ الْمَنْعُ
مِنْهُ وَهَذَا مَعْنَى الْيَمِينِ . فَإِنَّ الْحَالِفَ يَقْصِدُ الْحَضَّ عَلَى
فِعْلٍ أَوْ الْمَنْعَ مِنْهُ ثُمَّ إذَا عَلَّقَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِاَللَّهِ
تَعَالَى أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ فَلَا تُجْزِئُهُ إذَا عَلَّقَ بِهِ وُجُوبَ
عِبَادَةٍ أَوْ تَحْرِيمَ مُبَاحٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ إذَا عَلَّقَهُ
بِاَللَّهِ ثُمَّ حَنِثَ كَانَ مُوجَبُ حِنْثِهِ أَنَّهُ قَدْ هَتَكَ إيمَانَهُ
بِاَللَّهِ حَيْثُ لَمْ يَفِ بِعَهْدِهِ وَإِذَا عَلَّقَ بِهِ وُجُوبَ فِعْلٍ أَوْ
تَحْرِيمَهُ فَإِنَّمَا يَكُونُ مُوجَبُ حِنْثِهِ تَرْكَ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلَ
مُحَرَّمٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحِنْثَ الَّذِي
مُوجَبُهُ
خَلَلٌ فِي التَّوْحِيدِ أَعْظَمُ مِمَّا مُوجَبُهُ مَعْصِيَةٌ مِنْ الْمَعَاصِي ؛
فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ شَرَعَ الْكَفَّارَةَ لِإِصْلَاحِ مَا اقْتَضَى
الْحِنْثُ فِي التَّوْحِيدِ فَسَادَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَجَبْرَهُ فَلَأَنْ
يَشْرَعَ لِإِصْلَاحِ مَا اقْتَضَى الْحِنْثُ فَسَادَهُ فِي الطَّاعَةِ أَوْلَى
وَأَحْرَى . وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقُولُ : إنَّ مُوجَبَ صِيغَةِ الْقَسَمِ مِثْلُ
مُوجَبِ صِيغَةِ التَّعْلِيقِ . وَالنَّذْرُ نَوْعٌ مِنْ الْيَمِينِ وَكُلِّ
نَذْرٍ فَهُوَ يَمِينٌ فَقَوْلُ النَّاذِرِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ .
بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ ؛ مُوجَبُ هَذَيْنَ
الْقَوْلَيْنِ الْتِزَامُ الْفِعْلِ مُعَلَّقًا بِاَللَّهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى
هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّذْرُ حَلِفٌ }
فَقَوْلُهُ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ لِلَّهِ . بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ
: إنْ فَعَلْت كَذَا فَوَاَللَّهِ لَأَحُجَّنَّ . وَطَرْدُ هَذَا أَنَّهُ إذَا
حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ بِرًّا لَزِمَهُ فِعْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ
فَإِنَّ حَلِفَهُ لَيَفْعَلَنَّهُ نَذْرٌ لِفِعْلِهِ . وَكَذَلِكَ طَرْدُ هَذَا
أَنَّهُ إذَا نَذَرَ لَيَفْعَلَنَّ مَعْصِيَةً أَوْ مُبَاحًا فَقَدْ حَلَفَ عَلَى
فِعْلِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا : وَلَوْ
حَلَفَ بِاَللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ مَعْصِيَةً أَوْ مُبَاحًا لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ
يَمِينٍ فَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : آللَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا . وَمِنْ
الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ
.
فَصْلٌ :
فَأَمَّا الْيَمِينُ " بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ " فِي اللَّجَاجِ
وَالْغَضَبِ : مِثْلُ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا حَضًّا أَوْ مَنْعًا أَوْ تَصْدِيقًا
أَوْ تَكْذِيبًا : كَقَوْلِهِ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ
كَذَا
أَوْ لَا فَعَلْت كَذَا وَإِنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ أَوْ إنْ لَمْ
أَفْعَلْهُ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ . فَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ
الْمُتَقَدِّمِينَ : إنَّ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ يَجِبُ فِيهِ الْوَفَاءُ
فَإِنَّهُ يَقُولُ هُنَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ أَيْضًا . وَأَمَّا
الْجُمْهُورُ الَّذِينَ قَالُوا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ تُجْزِئُهُ
الْكَفَّارَةُ فَاخْتَلَفُوا هُنَا - مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ
مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ كَلَامٌ وَإِنَّمَا بَلَغَنَا
الْكَلَامُ فِيهِ عَنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِهِ
مُحْدَثَةٌ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ فِي عَصْرِهِمْ . وَلَكِنْ بَلَغَنَا الْكَلَامُ
فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَاخْتَلَفَ
التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ - فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ
فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَمِينِ بِالنَّذْرِ ؛ وَقَالُوا :
إنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ بِالْحِنْثِ وَلَا تُجْزِئُهُ
الْكَفَّارَةُ ؛ بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِالنَّذْرِ . هَذَا رِوَايَةُ عَوْفٍ عَنْ
الْحَسَنِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الصَّرِيحِ الْمَنْصُوصِ
عَنْهُ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ . فَرَوَى
حَرْبٌ الكرماني عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ عَوْفٍ عَنْ الْحَسَنِ
قَالَ : كُلُّ يَمِينٍ وَإِنْ عَظُمَتْ وَلَوْ حَلَفَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ؛
وَإِنْ جَعَلَ مَالَهُ فِي الْمَسَاكِينِ مَا لَمْ يَكُنْ طَلَاقَ امْرَأَةٍ فِي
مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ أَوْ عِتْقَ غُلَامٍ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ .
فَإِنَّمَا هِيَ يَمِينٌ . وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ : سَأَلْت أَحْمَد
بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الرَّجُلِ يَقُولُ لِابْنِهِ إنْ كَلَّمْتُك فَامْرَأَتِي
طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ ؟ فَقَالَ : لَا يَقُومُ هَذَا مَقَامَ الْيَمِينِ ؛
وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا . وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد
: يَلْزَمُهُ الْحِنْثُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَبِهِ قَالَ أَبُو خيثمة
قَالَ
إسْمَاعِيلُ
: وَأَخْبَرَنَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ
مَعْمَرٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي حَازِمٍ
أَنَّ امْرَأَةً حَلَفَتْ بِمَالِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ فِي الْمَسَاكِينِ
وَجَارِيَتُهَا حُرَّةٌ إنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَسَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ
وَابْنَ عَبَّاسٍ ؟ فَقَالَا : أَمَّا الْجَارِيَةُ فَتَعْتِقُ وَأَمَّا قَوْلُهَا
فِي الْمَالِ فَإِنَّهَا تُزَكِّي الْمَالَ . قَالَ أَبُو إسْحَاقَ الجوزجاني :
الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ لَا يَحِلَّانِ فِي هَذَا مَحَلَّ الْأَيْمَانِ وَلَوْ
كَانَ الْمَجْرَى فِيهَا مَجْرَى الْأَيْمَانِ لَوَجَبَ عَلَى الْحَالِفِ بِهَا
إذَا حَنِثَ كَفَّارَةٌ وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهِ أَنْ لَا
كَفَّارَةَ فِيهَا . قُلْت : أَخْبَرَ أَبُو إسْحَاقَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ الْعِلْمِ
فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ مفتيي النَّاسِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ كَانُوا
لَا يُفْتُونَ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ إلَّا بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ لَا
بِالْكَفَّارَةِ . وَإِنَّ أَكْثَرَ التَّابِعِينَ مَذْهَبُهُمْ فِيهَا
الْكَفَّارَةُ ؛ حَتَّى إنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا أَفْتَى بِمِصْرِ
بِالْكَفَّارَةِ كَانَ غَرِيبًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ الْمَالِكِيَّةِ وَقَالَ لَهُ
السَّائِلُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا قَوْلُك ؟ فَقَالَ : قَوْلُ مَنْ
هُوَ خَيْرٌ مِنِّي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ . فَلَمَّا أَفْتَى فُقَهَاءُ
الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَسُلَيْمَانَ
بْنِ دَاوُد وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَنَحْوِهِمْ
فِي الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ بِالْكَفَّارَةِ ؛ وَفَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ
ذَلِكَ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ صَارَ الَّذِي
يَعْرِفُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَقَوْلَ أُولَئِكَ
لَا
يَعْلَمُ خِلَافًا فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَإِلَّا فَسَنَذْكُرُ الْخِلَافَ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ
. وَقَدْ اعْتَذَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَمَّا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي
كَفَّارَةِ الْعِتْقِ بِعُذْرَيْنِ " أَحَدُهُمَا " انْفِرَادُ
سُلَيْمَانَ التيمي بِذَلِكَ . " وَالثَّانِي " مُعَارَضَتُهُ بِمَا
رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ
تَكْفِيرٍ . وَمَا وَجَدْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشَاهِيرِ بَلَغَهُ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنْ الصَّحَابَةِ مَا بَلَغَ
أَحْمَد قَالَ المروذي : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إذَا قَالَ : كُلُّ
مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ . يَعْتِقُ عَلَيْهِ إذَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ
وَالْعِتْقَ لَيْسَ فِيهِمَا كَفَّارَةٌ وَقَالَ : وَلَيْسَ يَقُولُ كُلُّ
مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ فِي حَدِيثِ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ حَدِيثِ أَبِي
رَافِعٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ وَذَكَرَتْ
الْعِتْقَ فَأَمَرُوهَا بِكَفَّارَةٍ إلَّا التيمي ؛ وَغَيْرَهُ لَمْ يَذْكُرُوا
الْعِتْقَ قَالَ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قِصَّةِ
امْرَأَتِهِ وَأَنَّهَا سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ فَأَمَرُوهَا
بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ قُلْت فِيهَا الْمَشْيُ ؟ قَالَ نَعَمْ أَذْهَبُ إلَى أَنَّ
فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَ يَقُولُ فِيهِ
كُلُّ مَمْلُوكٍ إلَّا التيمي . قُلْت : فَإِذَا حَلَفَ بِعِتْقِ مَمْلُوكِهِ
فَحَنِثَ ؟ قَالَ : يَعْتِقُ كَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُمَا قَالَا الْجَارِيَةُ تَعْتِقُ ؛ ثُمَّ قَالَ : مَا سَمِعْنَا إلَّا
مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ . قُلْت : فإيش إسْنَادُهُ ؟ : قَالَ :
مَعْمَرٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ ؛ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ : إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ وَأَيُّوبُ بْنُ مُوسَى
وَهُمَا مَكِّيَّانِ .
فَقَدْ
فَرَّقَ بَيْنَ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ
بِأَنَّهُمَا لَا يُكَفِّرَانِ وَاتَّبَعَ مَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ عَارَضَ مَا رُوِيَ مِنْ الْكُفَّارِ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ مَعَ انْفِرَادِ التيمي بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ .
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد قَالَ أَبِي : وَإِذَا قَالَ : جَارِيَتِي حُرَّةٌ
إنْ لَمْ أَصْنَعْ كَذَا وَكَذَا ؟ قَالَ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ :
يَعْتِقُ . وَإِذَا قَالَ : كُلُّ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ لَمْ يُدْخِلْ فِيهِ
جَارِيَتَهُ فِيهِ كَفَّارَةٌ فَإِنَّ ذَا لَا يُشْبِهُهُ ذَا أَلَا تَرَى أَنَّ
ابْنَ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ لَا يُكَفَّرَانِ .
وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُونَ : إذَا قَالَ الرَّجُلُ : مَالِي فِي
الْمَسَاكِينِ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَإِذَا قَالَ :
مَالِي عَلَى فُلَانٍ صَدَقَةٌ . وَفَرَّقُوا بَيْنَ قَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا
فَمَالِي صَدَقَةٌ أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ ؛ وَبَيْنَ قَوْلِهِ : فَامْرَأَتِي
طَالِقٌ ؛ أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ : بِأَنَّهُ هُنَاكَ مُوجَبُ الْقَوْلِ وُجُوبُ
الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ لَا وُجُودُ الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ فَإِذَا اقْتَضَى
الشَّرْطُ وُجُوبَ ذَلِكَ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ بَدَلًا عَنْ هَذَا الْوَاجِبِ
كَمَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ كَمَا كَانَتْ فِي
أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بَدَلًا عَنْ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ وَبَقِيَتْ بَدَلًا عَنْ
الصَّوْمِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ وَكَمَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْ الصَّوْمِ
الْوَاجِبِ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ إذَا كَانَ فِي
الذِّمَّةِ أَمْكَنَ أَنْ يُخَيَّرَ بَيْنَ أَدَائِهِ وَبَيْنَ أَدَاءِ غَيْرِهِ .
وَأَمَّا الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ فَإِنَّ مُوجَبَ الْكَلَامِ وُجُودُهُمَا فَإِذَا
وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَإِذَا وَقَعَا لَمْ يَرْتَفِعَا
بَعْدَ وُقُوعِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَقْبَلَانِ الْفَسْخَ ؛ بِخِلَافِ مَا
لَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ ؛ فَإِنَّهُ
هُنَا
لَمْ يُعَلِّقْ الْعِتْقَ ؛ وَإِنَّمَا عَلَّقَ وُجُوبَهُ بِالشَّرْطِ فَيُخَيَّرُ
بَيْنَ فِعْلِ هَذَا الْإِعْتَاقِ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَبَيْنَ
الْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ عَنْهُ ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : إذَا مُتّ
فَعَبْدِي حُرٌّ . عَتَقَ بِمَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الْإِعْتَاقِ ؛
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُ هَذَا التَّدْبِيرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ إلَّا
قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَد . وَفِي بَيْعِهِ الْخِلَافُ
الْمَشْهُورُ . وَلَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِ فَقَالَ : إذَا مُتّ فَاعْتِقُوهُ كَانَ
لَهُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الْوَصَايَا وَكَانَ لَهُ بَيْعُهُ هُنَا
وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ . وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ فِي تَارِيخِهِ : أَنْ
الْمَهْدِيَّ لَمَّا رَأَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَأْيُ أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ
الْعَهْدِ إلَى ابْنِهِ عَزَمَ عَلَى خَلْعِ عِيسَى وَدَعَاهُمْ إلَى الْبَيْعَةِ لِمُوسَى
؛ فَامْتَنَعَ عِيسَى مِنْ الْخَلْعِ وَزَعَمَ أَنَّ عَلَيْهِ أَيْمَانًا
تُخْرِجُهُ مِنْ أَمْلَاكِهِ وَتُطَلِّقُ نِسَاءَهُ . فَأَحْضَرَ لَهُ
الْمَهْدِيُّ ابْنَ عُلَاثَةَ وَمُسْلِمَ بْنَ خَالِدٍ وَجَمَاعَةً مِنْ
الْفُقَهَاءِ فَأَفْتَوْهُ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَاعْتَاضَ عَمَّا
يَلْزَمُهُ فِي يَمِينِهِ بِمَالِ كَثِيرٍ ذَكَرَهُ وَلَمْ يَزَلْ إلَى أَنْ
خُلِعَ وَبُويِعَ لِلْمَهْدِيِّ وَلِمُوسَى الْهَادِي بَعْدَهُ . وَأَمَّا "
أَبُو ثَوْرٍ " فَقَالَ فِي الْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ
يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ ؛ لِأَجْلِ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ الَّتِي أَفْتَاهَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَحَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَزَيْنَبُ رَبِيبَةُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهَا : إنْ لَمْ
أُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي مُحَرَّرٌ .
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ هِيَ مِمَّا اعْتَمَدَهَا الْفُقَهَاءُ الْمُسْتَدِلُّونَ فِي
مَسْأَلَةِ " نَذْرِ
اللَّجَاجِ
وَالْغَضَبِ " لَكِنْ تَوَقَّفَ أَحْمَد وَأَبُو عُبَيْدٍ عَنْ الْعِتْقِ
فِيهَا لِمَا ذَكَرْته مِنْ الْفَرْقِ . وَعَارَضَ أَحْمَد ذَلِكَ . وَأَمَّا
الطَّلَاقُ فَلَمْ يَبْلُغْ أَبَا ثَوْرٍ فِيهِ أَثَرٌ فَتَوَقَّفَ عَنْهُ مَعَ
أَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَهُ مُسَاوَاتُهُ لِلْعِتْقِ ؛ لَكِنْ خَافَ أَنْ يَكُونَ
مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ . و " الصَّوَابُ " أَنَّ الْخِلَافَ فِي
الْجَمِيعِ - الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ - لِمَا سَنَذْكُرُهُ وَلَوْ لَمْ يُنْقَلْ
فِي الطَّلَاقِ نَفْسِهِ خِلَافٌ مُعَيَّنٍ لَكَانَ فُتْيَا مَنْ أَفْتَى مِنْ
الصَّحَابَةِ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتَاقِ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ مِنْ بَابِ
التَّنْبِيهِ عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ نَذْرُ
الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ قُرْبَةٌ لَمَّا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ أَجْزَأَتْ
فِيهِ الْكَفَّارَةُ : فَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ لَيْسَ بِقُرْبَةِ إمَّا أَنْ
تُجْزِئَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ أَوْ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ
يَقُولُ نَذْرُ غَيْرِ الطَّاعَةِ لَا شَيْءَ فِيهِ . وَيَكُونُ قَوْلُهُ : إنْ
فَعَلْت كَذَا فَأَنْت طَالِقٌ . بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَك
كَمَا كَانَ عِنْدَ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ قَوْلُهُ :
فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ . بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : فَعَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَهُمْ .
عَلَى أَنِّي إلَى السَّاعَةِ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
كَلَامٌ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ
الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَدَثَ فِي زَمَانِهِمْ وَإِنَّمَا
ابْتَدَعَهُ النَّاسُ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَاخْتَلَفَ
فِيهِ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . " فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ "
أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ . و " الْقَوْلُ الثَّانِي "
أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوُقُوعُ . ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جريج
عَنْ ابْنِ طاوس عَنْ أَبِيهِ : أَنَّهُ
كَانَ
يَقُولُ : الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ لَيْسَ شَيْئًا . قُلْت : أَكَانَ يَرَاهُ
يَمِينًا ؟ قَالَ : لَا أَدْرِي . فَقَدْ أَخْبَرَ ابْنُ طاوس عَنْ أَبِيهِ
أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَاهُ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ وَتَوَقَّفَ فِي كَوْنِهِ
يَمِينًا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ نَذْرِ مَا لَا قُرْبَةَ
فِيهِ . وَفِي كَوْنِ مِثْلِ هَذَا يَمِينًا خِلَافٌ مَشْهُورٌ وَهَذَا قَوْلُ
أَهْلِ الظَّاهِرِ : كدَاوُد وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ ؛ لَكِنْ بِنَاءً عَلَى
أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ وَلَا عِتْقٌ مُعَلَّقٌ . وَاخْتَلَفُوا فِي
الْمُؤَجَّلِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعُقُودَ لَا
يَصِحُّ مِنْهَا إلَّا مَا دَلَّ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ عَلَى وُجُوبِهِ أَوْ
جَوَازِهِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى " ثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ "
يُخَالِفُونَ فِيهَا . " أَحَدُهَا " كَوْنُ الْأَصْلِ تَحْرِيمَ
الْعُقُودِ . " الثَّانِي " أَنَّهُ لَا يُبَاحُ مَا كَانَ فِي مَعْنَى
النُّصُوصِ . " الثَّالِثُ " أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُؤَجَّلَ
وَالْمُعَلَّقَ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ . وَأَمَّا الْمَأْخَذُ
الْمُتَقَدِّمُ مِنْ كَوْنِ هَذَا كَنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ فَهَذَا
قِيَاسُ قَوْلِ الَّذِينَ جَوَّزُوا التَّكْفِيرَ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ
وَالْغَضَبِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ نَذْرِ التَّبَرُّرِ وَنَذْرِ الْغَضَبِ فَإِنَّ
هَذَا الْفَرْقَ يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُعَلَّقِ الَّذِي يُقْصَدُ
وُقُوعُهُ عِنْدَ الشَّرْطِ وَبَيْنَ الْمُعَلَّقِ الْمَحْلُوفِ بِهِ الَّذِي
يُقْصَدُ عَدَمُ وُقُوعِهِ ؛ إلَّا أَنْ يَصِحَّ الْفَرْقُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ
كَوْنِ الْمُعَلَّقِ هُوَ الْوُجُودَ أَوْ الْوُجُوبَ . وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ
. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُخَرَّجُ عَلَى أُصُولِ أَحْمَد مِنْ
مَوَاضِعَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا وَكَذَلِكَ هُوَ أَيْضًا لَازِمٌ لِمَنْ قَالَ فِي
نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ بِكَفَّارَةِ
كَمَا
هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ وَإِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ الَّتِي اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ
مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ ؛ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْحَلِفِ
بِالنَّذْرِ وَالْحَلِفِ بِالْعِتْقِ هُوَ الْمُتَوَجِّهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا
مِنْ أَقْوَى حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ فِي الْحَلِفِ
بِالنَّذْرِ ؛ فَإِنَّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ
وَاعْتَقَدَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فَإِذَا
حَلَفَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ عَبِيدِي أَحْرَارٌ لَأَفْعَلَنَّ أَوْ
نِسَائِي طَوَالِقُ لَأَفْعَلَنَّ : فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : مَالِي
صَدَقَةٌ لَأَفْعَلَنَّ وَعَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ . وَاَلَّذِي يُوضِحُ
التَّسْوِيَةَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا اعْتَمَدَ فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ
عَلَى فِدْيَةِ الْخُلْعِ قَالَهُ فِي البويطي وَهُوَ " كِتَابٌ مِصْرِيٌّ
" مِنْ أَجْوَدِ كَلَامِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُسَمُّونَ
الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِسَبَبِ طَلَاقًا بِصِفَةِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ
الشَّرْطَ صِفَةً . وَيَقُولُونَ : إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ فِي زَمَانِ
الْبَيْنُونَةِ وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ الصِّفَةُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَهَذِهِ
التَّسْمِيَةُ لَهَا وَجْهَانِ . " أَحَدُهُمَا " أَنَّ هَذَا
الطَّلَاقَ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ ؛ لَيْسَ طَلَاقًا مُجَرَّدًا عَنْ صِفَةٍ ؛
فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ أَوْ إذَا طَهُرْت .
فَقَدْ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالزَّمَانِ الْخَاصِّ ؛ فَإِنَّ الظَّرْفَ صِفَةٌ
لِلْمَظْرُوفِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْت طَالِقٌ
. فَقَدْ وَصَفَهُ بِعِوَضِهِ .
و
" الثَّانِي " أَنَّ نُحَاةَ الْكُوفَةِ يُسَمُّونَ حُرُوفَ الْجَرِّ
وَنَحْوَهَا حُرُوفَ الصِّفَاتِ . فَلَمَّا كَانَ هَذَا مُعَلَّقًا بِالْحُرُوفِ
الَّتِي قَدْ تُسَمَّى " حُرُوفَ الصِّفَاتِ " سُمِّيَ طَلَاقًا
بِصِفَةِ كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفِ . و " الْوَجْهُ
الْأَوَّلُ " هُوَ الْأَصْلُ ؛ فَإِنَّ هَذَا يَعُودُ إلَيْهِ ؛ إذْ
النُّحَاةُ إنَّمَا سَمَّوْا حُرُوفَ الْجَرِّ حُرُوفَ الصِّفَاتِ لِأَنَّ
الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ يَصِيرُ فِي الْمَعْنَى صِفَةً لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ
فَإِذَا كَانَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ إنَّمَا اعْتَمَدُوا فِي الطَّلَاقِ
الْمَوْصُوفِ عَلَى طَلَاقِ الْفِدْيَةِ وَقَاسُوا كُلَّ طَلَاقٍ بِصِفَةِ
عَلَيْهِ صَارَ هَذَا . . . (1)
كَمَا أَنَّ النَّذْرَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى . {
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّذْرَ الْمُعَلَّقَ
بِشَرْطِ هُوَ نَذْرٌ بِصِفَةِ ؛ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ النَّذْرِ الْمَقْصُودِ
شَرْطُهُ وَبَيْنَ النَّذْرِ الْمَقْصُودِ عَدَمُ شَرْطِهِ الَّذِي خَرَجَ
مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَلِذَلِكَ يُفَرَّقُ بَيْنَ الطَّلَاقِ الْمَقْصُودِ
وَصْفُهُ كَالْخُلْعِ حَيْثُ الْمَقْصُودُ فِيهِ الْعِوَضُ وَالطَّلَاقِ
الْمَحْلُوفِ بِهِ الَّذِي يُقْصَدُ عَدَمُهُ وَعَدَمُ شَرْطِهِ ؛ فَإِنَّهُ
إنَّمَا يُقَاسُ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا أَشْبَهَهُ وَمَعْلُومٌ
ثُبُوتُ الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ وَبَيْنَ الصِّفَةِ الْمَحْلُوفِ
عَلَيْهَا الَّتِي يُقْصَدُ عَدَمُهَا كَمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي النَّذْرِ
سَوَاءٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
وَالْأَثَرُ وَالِاعْتِبَارُ .
أَمَّا
" الْكِتَابُ " فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } فَوَجْهُ
الدِّلَالَةِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمَانِكُمْ } وَهَذَا نَصٌّ عَامٌّ فِي كُلِّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا
الْمُسْلِمُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ لَهَا تَحِلَّةً وَذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ
بِصِيغَةِ الْخِطَابِ لِلْأُمَّةِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْخِطَابِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ
الْأُمَّةَ يَحْلِفُونَ بِأَيْمَانِ شَتَّى فَلَوْ فُرِضَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ
لَيْسَ لَهَا تَحِلَّةٌ لَكَانَ مُخَالِفًا لِلْآيَةِ كَيْفَ وَهَذَا عَامٌّ لَمْ
تُخَصَّ مِنْهُ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ لَا بِنَصِّ وَلَا بِإِجْمَاعِ بَلْ هُوَ عَامٌّ
عُمُومًا مَعْنَوِيًّا مَعَ عُمُومِهِ اللَّفْظِيِّ ؛ فَإِنَّ الْيَمِينَ
مَعْقُودَةٌ تُوجِبُ مَنْعَ الْمُكَلَّفِ مِنْ الْفِعْلِ فَشَرْعُ التَّحِلَّةِ
لِهَذِهِ الْعُقْدَةِ مُنَاسِبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْفِيفِ وَالتَّوْسِعَةِ .
وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْيَمِينِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي
غَيْرِهِمَا مِنْ أَيْمَانِ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ .
فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَيَقْتُلَنَّ النَّفْسَ أَوْ لَيَقْطَعَنَّ
رَحِمَهُ أَوْ لَيَمْنَعَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْ أَدَاءِ أَمَانَةٍ
وَنَحْوِهَا : فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الطَّلَاقَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ أَنْ يَبَرَّ
وَيَتَّقِيَ وَيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْعَلُ اللَّهُ
عُرْضَةً لِيَمِينِهِ ؛ ثُمَّ إنْ وَفَّى بِيَمِينِهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ
الدُّنْيَا وَالدِّينِ مَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ
الدُّخُولِ فِيهِ وَإِنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَفِي الطَّلَاقِ أَيْضًا مِنْ
ضَرَرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ . أَمَّا الدِّينُ فَإِنَّهُ
مَكْرُوهٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ مَعَ اسْتِقَامَةِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ :
إمَّا
كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ أَوْ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ فَكَيْفَ إذَا كَانَا فِي غَايَةِ
الِاتِّصَالِ وَبَيْنَهُمَا مِنْ الْأَوْلَادِ وَالْعِشْرَةِ مَا يَكُونُ فِي طَلَاقِهِمَا
مِنْ ضَرَرِ الدِّينِ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَكَذَلِكَ ضَرَرُ الدُّنْيَا كَمَا يَشْهَدُ
بِهِ الْوَاقِعُ ؛ بِحَيْثُ لَوْ خُيِّرَ أَحَدُهُمَا بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ
مَالِهِ وَوَطَنِهِ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ لَاخْتَارَ فِرَاقَ مَالِهِ وَوَطَنِهِ
عَلَى الطَّلَاقِ وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ فِرَاقَ الْوَطَنِ بِقَتْلِ النَّفْسِ ؛
وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ
مُتَابَعَةً لِعَطَاءِ : إنَّهَا إذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ فَحَلَفَ عَلَيْهَا
زَوْجُهَا بِالطَّلَاقِ أَنَّهَا لَا تَحُجُّ صَارَتْ مُحْصِرَةً وَجَازِ لَهَا
التَّحَلُّلُ ؛ لِمَا عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ الزَّائِدِ عَلَى
ضَرَرِ الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ أَوْ الْقَرِيبِ مِنْهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا
إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَك أَوْ أُعْتِقَ عَبِيدِي
؛ فَإِنَّ هَذَا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا لَوْ
قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُطَلِّقَنَّك أَوْ لَأَعْتِقَنَّ عَبِيدِي ؛ وَإِنَّمَا
الْفَرْقُ بَيْنَ وُجُودِ الْعِتْقِ وَوُجُوبِهِ هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ
الْمُفَرِّقُونَ . وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ
تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَذَلِكَ يَقْتَضِي
أَنَّهُ مَا مِنْ تَحْرِيمٍ لِمَا أَحَلَّ اللَّهُ إلَّا وَاَللَّهُ غَفُورٌ
لِفَاعِلِهِ رَحِيمٌ بِهِ وَأَنَّهُ لَا عِلَّةَ تَقْتَضِي ثُبُوتَ ذَلِكَ
التَّحْرِيمِ لِأَنَّ قَوْلَهُ ( لِمَ ) لِأَيِّ شَيْءٍ . اسْتِفْهَامٌ فِي
مَعْنَى النَّفْيِ وَالْإِنْكَارِ وَالتَّقْدِيرُ لَا سَبَبَ لِتَحْرِيمِك مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَك وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَلَوْ كَانَ الْحَالِف
بِالنَّذْرِ وَالْعِتَاقِ وَالطَّلَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لَا
رُخْصَةَ لَهُ لَكَانَ هُنَا سَبَبٌ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْحَلَالِ وَلَا يَبْقَى
مُوجِبُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى هَذَا الْفَاعِلِ .
وَأَيْضًا
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { ذَلِكَ
كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } وَالْحُجَّةُ
مِنْهَا كَالْحُجَّةِ مِنْ الْأُولَى وَأَقْوَى ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : { لَا
تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } وَهَذَا عَامٌّ
لِتَحْرِيمِهَا بِالْأَيْمَانِ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهَا ؛ ثُمَّ بَيَّنَ
وَجْهَ الْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } أَيْ فَكَفَّارَةُ تَعْقِيدِكُمْ أَوْ عَقْدِكُمْ
الْأَيْمَانَ وَهَذَا عَامٌّ ؛ ثُمَّ قَالَ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ
إذَا حَلَفْتُمْ } وَهَذَا عَامٌّ كَعُمُومِ قَوْلِهِ : { وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُمْ } . وَمِمَّا يُوضِحُ " عُمُومَهُ " أَنَّهُمْ قَدْ
أَدْخَلُوا الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ فَقَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ
شَاءَ تَرَكَ } فَأَدْخَلُوا فِيهِ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ
وَالنَّذْرِ وَالْحَلِفَ بِاَللَّهِ . وَإِنَّمَا لَمْ يُدْخِلْ مَالِكٌ وَأَحْمَد
وَغَيْرُهُمَا تَنْجِيزَ الطَّلَاقِ مُوَافَقَةً لِابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ إيقَاعَ
الطَّلَاقِ لَيْسَ بِحَلِفِ ؛ وَإِنَّمَا الْحَلِفُ الْمُنْعَقِدُ مَا تَضَمَّنَ
مَحْلُوفًا بِهِ وَمَحْلُوفًا عَلَيْهِ : إمَّا بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَإِمَّا
بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ ؛ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَهَذِهِ الدِّلَالَةُ تَنْبِيهٌ عَلَى أُصُولِ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ " نَذْرِ
اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا عَلَى التَّكْفِيرِ فِيهِ
بِهَذِهِ الْآيَةِ وَجَعَلُوا قَوْلَهُ : { تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } {
كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } عَامًّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَالْيَمِينِ
بِالنَّذْرِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ شُمُولَ اللَّفْظِ لِنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ
فِي الْحَجِّ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهِمَا سَوَاءٌ .
فَإِنْ
قِيلَ : الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ فَقَطْ فَإِنَّ هَذَا هُوَ
الْمَفْهُومُ مِنْ مُطْلَقِ الْيَمِينِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ
بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ { عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ }
{ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } مُنْصَرِفًا إلَى الْيَمِينِ الْمَعْهُودَةِ
عِنْدَهُمْ وَهِيَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَعُمُّ اللَّفْظُ
إلَّا الْمَعْرُوفَ عِنْدَهُمْ . وَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَكُنْ
مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ وَلَوْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا فَقَدْ عَلَّمَنَا أَنَّهُ
لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْيَمِينُ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً كَالْيَمِينِ
بِالْمَخْلُوقَاتِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْيَمِينِ الْمَشْرُوعَةِ ؛ لِقَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ
حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ فَلْيَصْمُتْ } وَهَذَا سُؤَالُ مَنْ
يَقُولُ كُلُّ يَمِينٍ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فَلَا كَفَّارَةَ لَهَا وَلَا حِنْثَ .
فَيُقَالُ : لَفْظُ " الْيَمِينِ " شَمِلَ هَذَا كُلَّهُ بِدَلِيلِ
اسْتِعْمَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ
اسْمَ الْيَمِينِ فِي هَذَا كُلِّهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" النَّذْرُ حَلِفٌ " وَقَوْلِ الصَّحَابَةِ لِمَنْ حَلَفَ بِالْهَدْيِ
وَالْعِتْقِ : كَفِّرْ يَمِينَك . وَكَذَلِكَ فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ مِنْ كَلَامِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ . وَلِإِدْخَالِ
الْعُلَمَاءِ لِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ
حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ }
وَيَدُلُّ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { لِمَ
تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ثُمَّ قَالَ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فَاقْتَضَى هَذَا أَنَّ نَفْسَ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ
يَمِينٌ كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ . وَسَبَبُ نُزُولِ
الْآيَةِ : إمَّا تَحْرِيمُهُ الْعَسَلَ وَإِمَّا تَحْرِيمُهُ مَارِيَةَ
الْقِبْطِيَّةَ
. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ يَمِينٌ عَلَى ظَاهِرِ
الْآيَةِ ؛ وَلَيْسَ يَمِينًا بِاَللَّهِ ؛ وَلِهَذَا أَفْتَى جُمْهُورُ
الصَّحَابَةِ - كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ - أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ
مُكَفَّرَةٌ : إمَّا " كَفَّارَةً كُبْرَى " كَالظِّهَارِ وَإِمَّا
" كَفَّارَةً صُغْرَى " كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ . وَمَا زَالَ السَّلَفُ
يُسَمُّونَ الظِّهَارَ وَنَحْوَهُ يَمِينًا . " وَأَيْضًا " فَإِنَّ
قَوْلَهُ : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ
: لِمَ تُحَرِّمُ بِلَفْظِ الْحَرَامِ ؟ وَإِمَّا : لِمَ تُحَرِّمُهُ بِالْيَمِينِ
بِاَللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوِهَا ؟ وَإِمَّا : لِمَ تُحَرِّمُهُ مُطْلَقًا ؟
فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ تَحْرِيمَهُ بِغَيْرِ
الْحَلِفِ بِاَللَّهِ يَمِينٌ فَيَعُمُّ . وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمُهُ
بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ تَحْرِيمًا
لِلْحَلَالِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ لَمْ تُوجِبْ الْحُرْمَةَ
الشَّرْعِيَّةَ ؛ لَكِنْ لَمَّا أَوْجَبَتْ امْتِنَاعَ الْحَالِفِ مِنْ الْفِعْلِ
فَقَدْ حَرَّمَتْ عَلَيْهِ الْفِعْلَ تَحْرِيمًا شَرْطِيًّا لَا شَرْعِيًّا فَكُلُّ
يَمِينٍ تُوجِبُ امْتِنَاعَهُ مِنْ الْفِعْلِ فَقَدْ حَرَّمَتْ عَلَيْهِ الْفِعْلَ
فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ }
وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }
لَا بُدَّ أَنْ يَعُمَّ كُلَّ يَمِينٍ حَرَّمَتْ الْحَلَالَ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ
ذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُطَابِقَ صُوَرَهُ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ
الْحَلَالِ هُوَ سَبَبُ قَوْلِهِ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمَانِكُمْ } وَسَبَبُ الْجَوَابِ إذَا كَانَ عَامًّا كَانَ الْجَوَابُ عَامًّا
لِئَلَّا يَكُونَ جَوَابًا عَنْ الْبَعْضِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي
لِلتَّعْمِيمِ وَهَذَا التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } إلَى
قَوْلِهِ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } .
وَأَيْضًا
فَإِنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمَتْ الْعُمُومَ وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ عَامَّتُهُمْ
حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَغَيْرِهَا . وَأَيْضًا فَنَقُولُ
: عَلَى الرَّأْسِ . سَلَّمْنَا أَنَّ الْيَمِينَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ
الْمُرَادُ بِهَا الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ مَا سِوَى الْيَمِينِ
بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يَلْزَمُ بِهَا حُكْمٌ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَلِفَ
بِصِفَاتِهِ كَالْحَلِفِ بِهِ كَمَا لَوْ قَالَ : وَعِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ
لَعَمْرُ اللَّهِ أَوْ : وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ جَوَازُ
الْحَلِفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِصِفَاتِهِ
كَالِاسْتِعَاذَةِ بِهَا - وَإِنْ كَانَتْ الِاسْتِعَاذَةُ لَا تَكُونُ إلَّا
بِاَللَّهِ فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
أَعُوذُ بِوَجْهِك } { وَأَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ } { وَأَعُوذُ
بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك } وَنَحْوِ ذَلِكَ - وَهَذَا أَمْرٌ مُتَقَرِّرٌ عِنْدَ
الْعُلَمَاءِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحَلِفُ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ
وَنَحْوِهِمَا هُوَ حَلِفٌ بِصِفَاتِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ
فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ . فَقَدْ حَلَفَ بِإِيجَابِ الْحَجِّ عَلَيْهِ
وَإِيجَابُ الْحَجِّ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مِنْ
صِفَاتِهِ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : فَعَلَيَّ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ . وَإِذَا
قَالَ : فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ . فَقَدْ حَلَفَ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ
الَّذِي هُوَ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِ وَالتَّحْرِيمُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ كَمَا
أَنَّ الْإِيجَابَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ
آيَاتِهِ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } فَجَعَلَ
صُدُورَهُ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ مِنْ آيَاتِهِ ؛ لَكِنَّهُ
إذَا حَلَفَ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ فَقَدْ عَقَدَ الْيَمِينَ لِلَّهِ كَمَا
يَعْقِدُ النَّذْرَ لِلَّهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ : عَلَيَّ الْحَجُّ وَالصَّوْمُ .
عَقْدٌ
لِلَّهِ
؛ وَلَكِنْ إذَا كَانَ حَالِفًا فَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ الْعَقْدَ لِلَّهِ بَلْ
قَصَدَ الْحَلِفَ بِهِ فَإِذَا حَنِثَ وَلَمْ يُوَفِّ بِهِ فَقَدْ تَرَكَ مَا
عَقَدَ لِلَّهِ كَمَا أَنَّهُ إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ فَقَدْ تَرَكَ مَا
عَقَدَهُ لِلَّهِ . " يُوَضِّحُ ذَلِكَ " أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ
أَوْ بِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا يُعَظِّمُهُ بِالْحَلِفِ فَإِنَّمَا حَلَفَ بِهِ
لِيَعْقِدَ بِهِ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَيَرْبِطَهُ بِهِ لِأَنَّهُ يُعَظِّمُهُ
فِي قَلْبِهِ إذَا رَبَطَ بِهِ شَيْئًا لَمْ يَحِلَّهُ ؛ فَإِذَا حَلَّ مَا
رَبَطَهُ بِهِ فَقَدْ انْتَقَصَتْ عَظَمَتُهُ مِنْ قَلْبِهِ وَقَطَعَ السَّبَبَ
الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ . وَكَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : الْيَمِينُ الْعَقْدُ
عَلَى نَفْسِهِ لِحَقِّ مَنْ لَهُ حَقٌّ وَلِهَذَا . إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ
غَمُوسًا كَانَتْ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى
: { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا
قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ
اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي عَدِّ الْكَبَائِرِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَعَمَّدَ أَنْ
يَعْقِدَ بِاَللَّهِ مَا لَيْسَ مُنْعَقِدًا بِهِ فَقَدْ نَقَصَ الصِّلَةَ الَّتِي
بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ اللَّهِ بِمَا هُوَ
مُنَزَّهٌ عَنْهُ أَوْ تَبَرَّأَ مِنْ اللَّهِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ عَلَى
الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ عَقَدَ بِاَللَّهِ فِعْلًا قَاصِدًا لِعَقْدِهِ عَلَى
وَجْهِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ ؛ لَكِنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ حَلَّ هَذَا
الْعَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ ؛ كَمَا يُبِيحُ لَهُ تَرْكَ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ
لِحَاجَةِ أَوْ يُزِيلُ عَنْهُ وُجُوبَهَا . وَلِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ
الْعِلْمِ : إذَا قَالَ : هُوَ يَهُودِيٌّ . أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ لَمْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ . فَهِيَ يَمِينٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ ؛
لِأَنَّهُ رَبَطَ عَدَمَ
الْفِعْلِ
بِكُفْرِهِ الَّذِي هُوَ بَرَاءَتُهُ مِنْ اللَّهِ فَيَكُونُ قَدْ رَبَطَ
الْفِعْلَ بِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ .
فَرَبْطُ الْفِعْلِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ مِنْ الْإِيجَابِ أَوْ التَّحْرِيمِ
أَدْنَى حَالًا مِنْ رَبْطِهِ بِاَللَّهِ . " يُوَضِّحُ ذَلِكَ "
أَنَّهُ إذَا عَقَدَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ فَهُوَ عَقْدٌ لَهَا بِإِيمَانِهِ
بِاَللَّهِ وَهُوَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ الَّذِي
هُوَ جَدّ اللَّهِ وَمَثَلُهُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا
أَنَّهُ إذَا سَبَّحَ اللَّهَ وَذَكَرَهُ فَهُوَ مُسَبِّحٌ لِلَّهِ وَذَاكِرٌ لَهُ
بِقَدْرِ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ ؛ وَلِذَلِكَ جَاءَ التَّسْبِيحُ
تَارَةً لِاسْمِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا } مَعَ قَوْلِهِ : { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } فَحَيْثُ
عَظَّمَ الْعَبْدُ رَبَّهُ بِتَسْبِيحِ اسْمِهِ أَوْ الْحَلِفِ بِهِ أَوْ
الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ فَهُوَ مُسَبِّحٌ لَهُ بِتَوَسُّطِ الْمَثَلِ الْأَعْلَى
الَّذِي فِي قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ
عِلْمًا وَفَضْلًا وَإِجْلَالًا وَإِكْرَامًا وَحُكْمُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ
إنَّمَا يَعُودُ إلَى مَا كَسَبَهُ قَلْبُهُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ
: { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } وَكَمَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : {
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } . فَلَوْ اعْتَبَرَ الشَّارِعُ
مَا فِي لَفْظِ الْقَسَمِ مِنْ انْعِقَادِهِ بِالْأَيْمَانِ وَارْتِبَاطِهِ بِهِ
دُونَ قَصْدِ الْحَلِفِ لَكَانَ مُوجَبُهُ أَنَّهُ إذَا حَنِثَ بِغَيْرِ
أَيْمَانِهِ تَزُولُ حَقِيقَتُهُ كَمَا قَالَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ
يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَكَمَا أَنَّهُ إذَا حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ يَمِينًا
فَاجِرَةً
كَانَتْ مِنْ الْكَبَائِرِ وَإِذَا اشْتَرَى بِهَا مَالًا مَعْصُومًا فَلَا
خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا
يُزَكِّيهِ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ؛ لَكِنَّ الشَّارِعَ عَلِمَ أَنَّ الْحَالِفَ
بِهَا لَيَفْعَلَنَّ أَوْ لَا يَفْعَلُ لَيْسَ غَرَضُهُ الِاسْتِخْفَافَ
بِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ وَالتَّعَلُّقَ بِهِ لِغَرَضِ الْحَالِفِ بِالْيَمِينِ
الْغَمُوسِ فَشَرَعَ لَهُ الْكَفَّارَةَ وَحَلَّ هَذَا الْعَقْدَ وَأَسْقَطَهَا
عَنْ لَغْوِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ قَلْبُهُ شَيْئًا مِنْ
الْجِنَايَةِ عَلَى إيمَانِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْكَفَّارَةِ . وَإِذَا ظَهَرَ
أَنَّ مُوجَبَ لَفْظِ الْيَمِينِ انْعِقَادُ الْفِعْلِ بِهَذَا الْيَمِينِ الَّذِي
هُوَ إيمَانُهُ بِاَللَّهِ فَإِذَا عَدِمَ الْفِعْلَ كَانَ مُقْتَضَى لَفْظِهِ
عَدَمُ إيمَانِهِ . هَذَا لَوْلَا مَا شَرَعَ اللَّهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ كَمَا
أَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا أَوْجَبَ عَلَيَّ كَذَا . أَنَّهُ
عِنْدَ الْفِعْلِ يَجِبُ ذَلِكَ الْفِعْلُ لَوْلَا مَا شَرَعَ اللَّهُ مِنْ
الْكَفَّارَةِ . " يُوَضِّحُ ذَلِكَ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ
كَمَا قَالَ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَجُعِلَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ فِي
قَوْلِهِ : هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا كَالْغَمُوسِ فِي
قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ مَا فَعَلْت كَذَا ؛ إذْ هُوَ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ
قَطَعَ عَهْدَهُ مِنْ اللَّهِ حَيْثُ عَلَّقَ الْإِيمَانَ بِأَمْرِ مَعْدُومٍ
وَالْكُفْرَ بِأَمْرِ مَوْجُودٍ بِخِلَافِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ .
وَطَرْدُ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ إذَا كَانَتْ فِي
النَّذْرِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الْعِتَاقِ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ بِهِ وَلَمْ
تَرْفَعْهُ الْكَفَّارَةُ كَمَا يَقَعُ الْكُفْرُ بِذَلِكَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ . وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : الْمُرَادُ بِهِ
الْيَمِينُ الْمَشْرُوعَةُ .
و
" أَيْضًا " قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا
اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فَإِنَّ السَّلَفَ مُجْمِعُونَ أَوْ
كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّكُمْ لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ
مَانِعًا لَكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ بِهِ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ
بَيْنَ النَّاسِ ؛ بِأَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَعْرُوفًا
مُسْتَحَبًّا أَوْ وَاجِبًا أَوْ لَيَفْعَلَنَّ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا
وَنَحْوَهُ فَإِذَا قِيلَ لَهُ : افْعَلْ ذَلِكَ أَوْ لَا تَفْعَلْ هَذَا . قَالَ
: قَدْ حَلَفْت بِاَللَّهِ : فَيَجْعَلُ اللَّهَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ . فَإِذَا
كَانَ قَدْ نَهَى عِبَادَهُ أَنْ يَجْعَلُوا نَفْسَهُ مَانِعًا لَهُمْ فِي
الْحِلْفِ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى . وَالْحَلِفُ بِهَذِهِ الْأَيْمَانِ إنْ
كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْحَلِفِ بِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعًا مِنْ
بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى فَإِنَّهُ إذَا نَهَى أَنْ
يَكُونَ هُوَ سُبْحَانَهُ عُرْضَةً لِأَيْمَانِنَا أَنْ نَبَرَّ وَنَتَّقِيَ
فَغَيْرُهُ أَوْلَى أَنْ نَكُونَ مَنْهِيِّينَ عَنْ جَعْلِهِ عُرْضَةً
لِأَيْمَانِنَا وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّنَا مَنْهِيُّونَ عَنْ أَنْ نَجْعَلَ
شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ عُرْضَةً لِأَيْمَانِنَا أَنْ نَبَرَّ وَنَتَّقِيَ
وَنُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِمَا فِي
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَأْمُرُ بِهِ
فَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْعَتَاقِ أَنْ
لَا يَبَرَّ وَلَا يَتَّقِيَ وَلَا يُصْلِحَ فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إنْ
وَفَّى بِذَلِكَ فَقَدْ جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ أَنْ
يَبَرَّ وَيَتَّقِيَ وَيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ وَإِنْ حَنِثَ فِيهَا وَقَعَ
عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْمَنْذُورِ ؛ فَقَدْ يَكُونُ
خُرُوجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَبْعَدَ عَنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ الْأَمْرِ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى يَمِينِهِ تَرَكَ الْبِرَّ
وَالتَّقْوَى وَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ تَرَكَ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى
فَصَارَتْ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ أَنْ يَبَرَّ وَيَتَّقِيَ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ
ذَلِكَ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ .
وَهَذَا
الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ : فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ
حَدِيث هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَأَنْ يَلِجَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمَ
لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ
عَلَيْهِ } وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اسْتَلَجَ
فِي أَهْلِهِ بِيَمِينِ فَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا } فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّجَاجَ بِالْيَمِينِ فِي أَهْلِ الْحَالِفِ
أَعْظَمُ مِنْ التَّكْفِيرِ . " وَاللَّجَاجُ " التَّمَادِي فِي
الْخُصُومَةِ ؛ وَمِنْهُ قِيلُ رَجُلٍ لَجُوجٍ إذَا تَمَادَى فِي الْخُصُومَةِ
وَلِهَذَا تُسَمِّي الْعُلَمَاءُ هَذَا " نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ
" فَإِنَّهُ يَلِجُّ حَتَّى يَعْقِدَهُ ثُمَّ يَلِجُّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ
الْحِنْثِ . فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
اللَّجَاجَ بِالْيَمِينِ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ الْكَفَّارَةِ وَهَذَا عَامٌّ فِي
جَمِيعِ الْأَيْمَانِ . وَأَيْضًا { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ : إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ
فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ
يَمِينِك } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ {
فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي
صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا
خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ }
وَفِي رِوَايَةٍ { فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ . وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ
} وَهَذَا نَكِرَةٌ
فِي
سِيَاقِ الشَّرْطِ فَيَعُمُّ كُلَّ حَلِفٍ عَلَى يَمِينٍ كَائِنًا مَا كَانَ
الْحَلِفُ ؛ فَإِذَا رَأَى غَيْرَ الْيَمِينِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا خَيْرًا
مِنْهَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا تَرْكًا لِخَيْرِ
فَيَرَى فِعْلَهُ خَيْرًا مِنْ تَرْكِهِ أَوْ يَكُونَ فِعْلًا لِشَرِّ فَيَرَى
تَرْكَهُ خَيْرًا مِنْ فِعْلِهِ فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ .
وَقَوْلُهُ هُنَا " عَلَى يَمِينٍ " هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ
بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ سُمِّيَ الْأَمْرُ
الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَمِينًا كَمَا يُسَمَّى الْمَخْلُوقُ خَلْقًا
وَالْمَضْرُوبُ ضَرْبًا وَالْمَبِيعُ بَيْعًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي قِصَّتِهِ
وَقِصَّةِ أَصْحَابِهِ ؛ لَمَّا جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِيَسْتَحْمِلُوهُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي
مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : إنِّي وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا
أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي
هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتهَا } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ { إلَّا
كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي
صَحِيحِهِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى الْيَمِينِ فَرَأَى غَيْرَهَا
خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَفِي
رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ أَيْضًا { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا
خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَقَدْ
رُوِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ غَيْرِ
هَذِهِ
الْوُجُوهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الجشمي
. فَهَذِهِ نُصُوصُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمُتَوَاتِرَةُ أَنَّهُ أَمَرَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا
خَيْرًا مِنْهَا أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَيَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلَمْ
يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ أَوْ النَّذْرِ وَنَحْوِهِ . وَرَوَى
النَّسَائِي عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا عَلَى الْأَرْضِ يَمِينٌ أَحْلِفُ عَلَيْهَا فَأَرَى
غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْته } وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّهُ قَصَدَ
تَعْمِيمَ كُلِّ يَمِينٍ فِي الْأَرْضِ وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ فَهِمُوا مِنْهُ
دُخُولَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ فِي هَذَا الْكَلَامِ فَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي
سُنَنِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زريع
حَدَّثَنَا خبيب الْمُعَلِّمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ : أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ
فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ الْقِسْمَةَ فَقَالَ إنْ عُدْت تَسْأَلُنِي
الْقِسْمَةَ فَكُلُّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : إنَّ
الْكَعْبَةَ غَنِيَّةٌ عَنْ مَالِك كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك وَكَلِّمْ أَخَاك
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا
يَمِينَ عَلَيْك وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ وَلَا فِي قَطِيعَةِ
الرَّحِمِ وَفِيمَا لَا يُمْلَكُ } فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ أَمَرَ هَذَا الَّذِي حَلَفَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَنَذَرَ نَذْرَ
اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ بِأَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ
الْمَنْذُورَ وَاحْتَجَّ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَمِينَ عَلَيْك وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ
الرَّبِّ وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَفِيمَا لَا يُمْلَكُ } فَفُهِمَ مِنْ
هَذَا أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِيَمِينِ أَوْ نَذْرٍ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَوْ قَطِيعَةٍ فَإِنَّهُ
لَا وَفَاءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ النَّذْرِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ؛
كَمَا أَفْتَاهُ عُمَرُ . وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا النَّذْرَ
كَانَ
عِنْدَهُ يَمِينًا لَمْ يَقُلْ لَهُ كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك . وَإِنَّمَا قَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَمِينَ وَلَا نَذْرَ } لِأَنَّ
الْيَمِينَ مَا قُصِدَ بِهَا الْحَضُّ أَوْ الْمَنْعُ وَالنَّذْرَ مَا قُصِدَ بِهِ
التَّقَرُّبُ وَكِلَاهُمَا لَا يُوَفَّى بِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالْقَطِيعَةِ .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دِلَالَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَمِينَ وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ
وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ } يَعُمُّ جَمِيعَ مَا يُسَمَّى يَمِينًا أَوْ نَذْرًا
سَوَاءٌ كَانَتْ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ أَوْ كَانَتْ بِوُجُوبِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبِ
مِنْ الصَّدَقَةِ أَوْ الصِّيَامِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الْهَدْيِ أَوْ كَانَتْ
بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ كَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ . وَمَقْصُودُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيَهُ عَنْ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَالْقَطِيعَةِ فَقَطْ أَوْ يَكُونَ
مَقْصُودُهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ مَا فِي الْيَمِينِ وَالنَّذْرِ مِنْ
الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِاسْتِدْلَالِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى
هَذَا لَمْ يَصِحَّ اسْتِدْلَالُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَلَى مَا أَجَابَ بِهِ السَّائِلَ مِنْ الْكَفَّارَةِ دُونَ إخْرَاجِ الْمَالِ
فِي كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ ؛ وَلِأَنَّ لَفْظَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ . وَأَيْضًا فَمِمَّا يُبَيِّنُ دُخُولَ
الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ فِي الْيَمِينِ وَالْحَلِفِ فِي
كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ
عَلَيْهِ } رَوَاهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ
: حَدِيثٌ حَسَنٌ
وَأَبُو
دَاوُد وَلَفْظُهُ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ ثَنَا سُفْيَانُ ؛ عَنْ
أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ
اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى } وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ وَإِنْ شَاءَ
تَرَكَ غَيْرَ حنث } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ
يَحْنَثْ } رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَابْنُ مَاجَه وَلَفْظُهُ "
فَلَهُ ثُنْيَاهُ " وَالنَّسَائِي وَقَالَ : " فَقَدْ اسْتَثْنَى "
ثُمَّ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ أَدْخَلُوا الْحَلِفَ بِالنَّذْرِ وَبِالطَّلَاقِ
وَبِالْعِتَاقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالُوا : يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ
بِالْمَشِيئَةِ ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد يَجْعَلُ الْحَلِفَ
بِالطَّلَاقِ لَا خِلَافَ فِيهِ فِي مَذْهَبِهِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا
كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ . وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَدْخُلُ عِنْدَ
أَكْثَرِهِمْ هُوَ نَفْسُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ
إيقَاعِهِمَا وَالْحَلِفِ بِهِمَا ظَاهِرٌ . وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
" قَاعِدَةَ الِاسْتِثْنَاءِ " فَإِذَا كَانُوا قَدْ أَدْخَلُوا
الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي قَوْلِهِ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ
فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ } فَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي
قَوْلِهِ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ
الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } فَإِنَّ كِلَا اللَّفْظَيْنِ
سَوَاءٌ وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا
حِنْثَ عَلَيْهِ } الْعُمُومُ فِيهِ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ :
{
مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي
خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } وَإِذَا كَانَ لَفْظُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ لَفْظُهُ فِي
حُكْمِ الْكَفَّارَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا يَنْفَعُ فِيهِ
الِاسْتِثْنَاءُ يَنْفَعُ فِيهِ التَّكْفِيرُ وَكُلُّ مَا يَنْفَعُ فِيهِ
التَّكْفِيرُ يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد فِي
غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَصَدَ بِقَوْلِهِ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ
اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ } جَمِيعَ الْأَيْمَانِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا
مِنْ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَبِالنَّذْرِ وَبِالطَّلَاقِ وَبِالْعِتَاقِ
وَبِقَوْلِهِ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا }
إنَّمَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ أَوْ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ
وَالنَّذْرِ . فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ حُضُورَ مُوجِبِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ
بِقَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ حُضُورِ مُوجِبِ
اللَّفْظِ الْآخَرِ إذْ كِلَاهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ ؛ وَالْحُكْمُ فِيهِمَا مِنْ
جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ رَفْعُ الْيَمِينِ . إمَّا بِالِاسْتِثْنَاءِ وَإِمَّا
بِالتَّكْفِيرِ .
وَبَعْدَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ انْقَسَمَتْ فِي دُخُولِ الطَّلَاقِ
وَالْعِتَاقِ فِي حَدِيثِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ
" . " فَقَوْمٌ " قَالُوا : يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الطَّلَاقُ
وَالْعِتَاقُ أَنْفُسُهُمَا ؛ حَتَّى لَوْ قَالَ أَنْت طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ
وَأَنْت حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ : دَخَلَ ذَلِكَ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ وَهَذَا
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا .
وَقَوْمٌ
قَالُوا [ لَا ] (1) يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ ؛ لَا
إيقَاعُهُمَا وَلَا الْحَلِفُ بِهِمَا بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ وَلَا بِصِيغَةِ
الْقَسَمِ وَهَذَا أَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَإِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . و " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " أَنَّ
إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ؛ بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ
الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ
أَحْمَد . وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ : إنْ كَانَ الْحَلِفُ بِصِيغَةِ
الْقَسَمِ دَخَلَ فِي الْحَدِيثِ وَنَفَعَتْهُ الْمَشِيئَةُ رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛
وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ و " هَذَا الْقَوْلُ
الثَّالِثُ " هُوَ الصَّوَابُ الْمَأْثُورُ مَعْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ : كَسَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ ؛ لَمْ يَجْعَلُوا فِي الطَّلَاقِ اسْتِثْنَاءً
وَلَمْ يَجْعَلُوهُ مِنْ الْأَيْمَانِ ؛ ثُمَّ قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ
وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْحَلِفَ بِالصَّدَقَةِ
وَالْهَدْيِ وَالْعِتَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَمِينًا مُكَفَّرَةً وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ
أَحْمَد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : الِاسْتِثْنَاءُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ
لَيْسَا مِنْ الْأَيْمَانِ قَالَ أَيْضًا : الثُّنْيَا فِي الطَّلَاقِ لَا أَقُولُ
بِهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتَاقَ حَرْفَانِ وَاقِعَانِ . وَقَالَ
أَيْضًا : إنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ كَفَّارَةٌ
وَالطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ لَا يُكَفَّرَانِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ظَاهِرٌ
وَذَلِكَ أَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ لَيْسَا يَمِينًا أَصْلًا
وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْإِبْرَاءِ مِنْ
الدَّيْنِ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : " وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ
ثُمَّ إنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ أَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَبْرَأَ
غَرِيمَهُ
مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ ؛ مَا عَلِمْت أَحَدًا
خَالَفَ فِي ذَلِكَ . فَمَنْ أَدْخَلَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ فِي قَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ
فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ } فَقَدْ حَمَّلَ الْعَامَّ مَا لَا
يَحْتَمِلُهُ كَمَا أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ مِنْ هَذَا الْعَامِّ قَوْلَهُ :
الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ أَوْ إنْ فَعَلْته فَامْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَقَدْ
أَخْرَجَ مِنْ الْقَوْلِ الْعَامِّ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا يَمِينٌ
بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ . وَهُنَا يَنْبَغِي تَقْلِيدُ أَحْمَد بِقَوْلِهِ :
الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ لَيْسَا مِنْ الْأَيْمَانِ ؛ فَإِنَّ الْحَلِفَ بِهِمَا
كَالْحَلِفِ بِالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهِمَا . وَذَلِكَ مَعْلُومٌ
بِالِاضْطِرَارِ عَقْلًا وَعُرْفًا وَشَرْعًا ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ
لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ أَبَدًا . ثُمَّ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا
فَامْرَأَتِي طَالِقٌ . حَنِثَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّوْهُ يَمِينًا وَكَذَلِكَ
الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ سَمَّوْهُ يَمِينًا وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ
سَمَّوْهُ يَمِينًا وَمَعْنَى الْيَمِينِ مَوْجُودٌ فِيهِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ :
أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ
تَعُودُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى
إنِّي حَالِفٌ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَعَلَهُ فَإِذَا لَمْ
يَفْعَلْ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَاءَهُ ؛ فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لَهُ . فَلَوْ
نَوَى عَوْدَهُ إلَى الْحَلِفِ بِأَنْ يَقْصِدَ - أَيْ الْحَالِفُ - إنْ شَاءَ
اللَّهُ أَنْ أَكُونَ حَالِفًا كَانَ مَعْنَى هَذَا مُغَايِرًا الِاسْتِثْنَاءَ
فِي الْإِنْشَاءَاتِ كَالطَّلَاقِ ،
وَعَلَى
مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : الطَّلَاقُ
يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ . تَعُودُ الْمَشِيئَةُ عِنْدَ
الْإِطْلَاقِ إلَى الْفِعْلِ فَالْمَعْنَى لَأَفْعَلَنَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
فَعَلَهُ فَمَتَى لَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ قَدْ شَاءَهُ فَلَا يَكُونُ
مُلْتَزِمًا لِلطَّلَاقِ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَنَى بِالطَّلَاقِ يَلْزَمُنِي إنْ
شَاءَ اللَّهُ لُزُومَهُ إيَّاهُ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْت
طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَقَوْلِ أَحْمَد : إنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ
فِيمَا فِيهِ حُكْمُ الْكَفَّارَةِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ لَا يُكَفَّرَانِ .
كَلَامٌ حَسَنٌ بَلِيغٌ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَّجَ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ وَحُكْمَ الْكَفَّارَةِ
مَخْرَجًا وَاحِدًا بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ وَبِصِيغَةِ وَاحِدَةٍ فَلَا يُفَرَّقُ
بَيْنَ مَا جَمَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ إنَّ
الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يَقَعُ لِمَا عُلِّقَ بِهِ الْفِعْلُ فَإِنَّ
الْأَحْكَامَ الَّتِي هِيَ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ وَنَحْوُهُمَا لَا تُعَلَّقُ
عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا فَإِنَّهَا
وَاجِبَةٌ بِوُجُوبِ أَسْبَابِهَا فَإِذَا انْعَقَدَتْ أَسْبَابُهَا فَقَدْ
شَاءَهَا اللَّهُ وَإِنَّمَا تُعَلَّقُ عَلَى الْمَشِيئَةِ الْحَوَادِثُ الَّتِي
قَدْ يَشَاؤُهَا اللَّهُ وَقَدْ لَا يَشَاؤُهَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ
وَنَحْوِهَا وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا شُرِعَتْ لِمَا يَحْصُلُ مِنْ الْحِنْثِ فِي
الْيَمِينِ الَّتِي قَدْ يَحْصُلُ فِيهَا الْمُوَافَقَةُ بِالْبِرِّ تَارَةً
وَالْمُخَالَفَةِ بِالْحِنْثِ أُخْرَى . وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ فِي
الْيَمِينِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمُوَافَقَةَ وَالْمُخَالَفَةَ كَارْتِفَاعِ
الْيَمِينِ بِالْمَشِيئَةِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَعَدَمَ التَّعْلِيقِ
: فَكُلُّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ لَيَفْعَلَنَّهُ فَلَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنَّهُ
إنْ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُعَلِّقْهُ
بِالْمَشِيئَةِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ فَالِاسْتِثْنَاءُ وَالتَّكْفِيرُ
يَتَعَاقَبَانِ الْيَمِينَ إذَا لَمْ يَحْصُلُ فِيهَا الْمُوَافَقَةُ
فَهَذَا
أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدْفَعُ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الزِّيَادَةِ أَوْ
النَّقْصِ فَهَذَا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ يُقَالُ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ :
الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ لَا يُكَفَّرَانِ . كَقَوْلِهِ وَقَوْلِ غَيْرِهِ : لَا
اسْتِثْنَاءَ فِيهِمَا وَهَذَا فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ . وَأَمَّا
الْحَلِفُ بِهِمَا فَلَيْسَ تَكْفِيرًا لَهُمَا ؛ وَإِنَّمَا هُوَ تَكْفِيرٌ
لِلْحَلِفِ بِهِمَا كَمَا أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ
وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالْهَدْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ
وَالْغَضَبِ فَإِنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالصَّدَقَةَ
وَالْحَجَّ وَالْهَدْيَ وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ الْحَلِفَ بِهِمْ وَإِلَّا
فَالصَّلَاةُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ لَا
كَفَّارَةَ فِيهَا لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا وَكَمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ
فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ . فَإِنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ بِلَا
خِلَافٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمُوَافِقِيهِ مِنْ الْقَائِلِينَ بِنَذْرِ
اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ تَكْفِيرًا لِلْعِتْقِ وَإِنَّمَا هُوَ
تَكْفِيرٌ لِلْحَلِفِ بِهِ . فَلَازَمَ قَوْلَ أَحْمَد هَذَا أَنَّهُ إذَا جَعَلَ
الْحَلِفَ بِهِمَا يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَانَ الْحَلِفُ بِهِمَا تَصِحُّ
فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَهَذَا مُوجَبُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْحَلِفَ
بِهِمَا يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَد وَمَذْهَبِ مَالِكٍ فَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ وَنَحْنُ فِي هَذَا
الْمَقَامِ إنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ فِي " مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ " عَلَى حِدَةٍ .
وَإِذَا
قَالَ أَحْمَد أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ
وَالْعِتَاقِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ لَزِمَ مِنْ
هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْحَلِفِ بِهِمَا . وَأَمَّا مَنْ
فَرَّقَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فَقَالَ : يَصِحُّ فِي الْحَلِفِ بِهِمَا
الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا تَصِحُّ الْكَفَّارَةُ . فَهَذَا الْفَرْقُ لَمْ أَعْلَمْهُ
مَنْصُوصًا عَلَيْهِ عَنْ أَحْمَد ؛ وَلَكِنَّهُمْ مَعْذُورُونَ فِيهِ مِنْ
قَوْلِهِ حَيْثُ لَمْ يَجِدُوهُ نَصَّ فِي تَكْفِيرِ الْحَلِفِ بِهِمَا عَلَى
رِوَايَتَيْنِ كَمَا نَصَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْحَلِفِ بِهِمَا عَلَى
رِوَايَتَيْنِ ؛ لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَازِمٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
عَنْهُ الَّتِي يَنْصُرُونَهَا . وَمَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ يَجُوزُ أَنْ
يَلْزَمَ قَوْلَهُ لَوَازِمُ لَا يَتَفَطَّنُ لِلُزُومِهَا وَلَوْ تَفَطَّنَ
لَكَانَ إمَّا أَنْ يَلْتَزِمَهَا أَوْ لَا يَلْتَزِمَهَا بَلْ يَرْجِعُ عَنْ الْمَلْزُومِ
أَوْ لَا يَرْجِعُ عَنْهُ وَيَعْتَقِدُ أَنَّهَا غَيْرُ لَوَازِمَ .
وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إذَا خَرَجُوا عَلَى قَوْلِ
عَالِمٍ لَوَازِمِ قَوْلِهِ وَقِيَاسِهِ . فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ نَصَّ عَلَى
ذَلِكَ اللَّازِمِ لَا بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ أَوْ نَصَّ عَلَى نَفْيِهِ .
وَإِذَا نَصَّ عَلَى نَفْيِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصَّ عَلَى نَفْيِ لُزُومِهِ
أَوْ لَمْ يَنُصَّ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَصَّ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ اللَّازِمِ
وَخَرَّجُوا عَنْهُ خِلَافَ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِثْلُ
أَنْ يَنُصَّ فِي مَسْأَلَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ يُعَلِّلَ مَسْأَلَةً بِعِلَّةِ يَنْقُضُهَا فِي مَوْضِعٍ
آخَرَ كَمَا عَلَّلَ أَحْمَد هُنَا عَدَمَ التَّكْفِيرِ بِعَدَمِ الِاسْتِثْنَاءِ
وَعَنْهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ رِوَايَتَانِ . فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْرِيجِ
مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ هَلْ يُسَمَّى ذَلِكَ
مَذْهَبًا ؟ أَوْ لَا يُسَمَّى ؟ وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ .
فَالْأَثْرَمُ
والخرقي وَغَيْرُهُمَا يَجْعَلُونَهُ مَذْهَبًا لَهُ وَالْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ
وَغَيْرُهُمَا لَا يَجْعَلُونَهُ مَذْهَبًا لَهُ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا
قِيَاسُ قَوْلِهِ وَلَازِمُ قَوْلِهِ ؛ فَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْمَذْهَبِ
الْمَنْصُوصِ عَنْهُ ؛ وَلَا أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَيْسَ بِلَازِمِ قَوْلُهُ
؛ بَلْ هُوَ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ . هَذَا حَيْثُ أَمْكَنَ أَنْ لَا
يُلَازِمَهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ الطَّلَاقَ مُبِيحًا لَهُ أَوْ
آمِرًا بِهِ أَوْ مُلْزِمًا لَهُ إذَا أَوْقَعَهُ صَاحِبُهُ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ وَكَذَلِكَ
النَّذْرُ . وَهَذِهِ الْعُقُودُ مِنْ النُّذُورِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ
تَقْتَضِي وُجُوبَ أَشْيَاءَ عَلَى الْعَبْدِ أَوْ تَحْرِيمَ أَشْيَاءَ عَلَيْهِ .
وَالْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ إنَّمَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ إذَا قَصَدَهُ أَوْ
قَصَدَ سَبَبَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ هَذَا الْكَلَامُ
بِغَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلَوْ تَكَلَّمَ بِهَذِهِ
الْكَلِمَاتِ مُكْرَهًا لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الْجُمْهُورِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ
مَقْصُودَهُ إنَّمَا هُوَ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ عَنْهُ ؛ لَمْ يَقْصِدْ حُكْمَهَا ؛
وَلَا قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِهَا ابْتِدَاءً . فَكَذَلِكَ الْحَالِفُ إذَا قَالَ :
إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ الطَّلَاقُ لَيْسَ يَقْصِدُ
الْتِزَامَ حَجٍّ وَلَا طَلَاقٍ وَلَا تَكَلَّمَ بِمَا يُوجِبُهُ ابْتِدَاءً ؛
وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الْحَضُّ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ . أَوْ مَنْعُ نَفْسِهِ
مِنْهُ كَمَا أَنَّ قَصْدَ الْمُكْرَهِ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ عَنْهُ ؛ ثُمَّ قَالَ
عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحَضِّ وَالْمَنْعِ : إنْ فَعَلْت كَذَا
فَهَذَا لِي لَازِمٌ أَوْ هَذَا عَلَيَّ حَرَامٌ ؛ لِشِدَّةِ امْتِنَاعِهِ مِنْ
هَذَا اللُّزُومِ وَالتَّحْرِيمِ عُلِّقَ ذَلِكَ بِهِ فَقَصْدُهُ مَنْعُهُمَا
جَمِيعًا لَا ثُبُوتُ أَحَدِهِمَا وَلَا ثُبُوتُ سَبَبِهِ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ
قَاصِدًا لِلْحُكْمِ وَلَا لِسَبَبِهِ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ عَدَمُ الْحُكْمِ لَمْ
يَجِبْ أَنْ يَلْزَمَهُ الْحُكْمُ .
و
" أَيْضًا " فَإِنَّ الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ فِي
الْأُمَّةِ لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّهُ كَانَ يُحْلَفُ بِهَا عَلَى عَهْدِ قُدَمَاءِ
الصَّحَابَةِ ؛ وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرُوهَا فِي أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ الَّتِي
رَتَّبَهَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى الْيَمِينِ
بِاَللَّهِ وَصَدَقَةِ الْمَالِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ . وَلَمْ أَقِفْ إلَى السَّاعَةِ
عَلَى كَلَامٍ لِأَحَدِ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَإِنَّمَا
الَّذِي بَلَغَنَا عَنْهُمْ الْجَوَابُ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ كَمَا تَقَدَّمَ
. ثُمَّ هَذِهِ " الْبِدْعَةُ " قَدْ شَاعَتْ فِي الْأُمَّةِ
وَانْتَشَرَتْ انْتِشَارًا عَظِيمًا ؛ ثُمَّ لَمَّا اعْتَقَدَ مَنْ اعْتَقَدَ
أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِهَا لَا مَحَالَةَ : صَارَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ
بِهَا مِنْ الْأَغْلَالِ عَلَى الْأُمَّةِ مَا هُوَ شَبِيهٌ بِالْأَغْلَالِ
الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَنَشَأَ عَنْ ذَلِكَ " خَمْسَةُ
أَنْوَاعٍ مِنْ الْحِيَلِ وَالْمَفَاسِدِ " فِي الْأَيْمَانِ حَتَّى
اتَّخَذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ
عَلَى تَرْكِ أُمُورٍ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ فِعْلِهَا إمَّا شَرْعًا وَإِمَّا
طَبْعًا وَعَلَى فِعْلِ أُمُورٍ يَصْلُحُ فِعْلُهَا إمَّا شَرْعًا وَإِمَّا
طَبْعًا وَغَالِبُ مَا يَحْلِفُونَ بِذَلِكَ فِي حَالِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ .
ثُمَّ فِرَاقُ الْأَهْلِ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا
يَزِيدُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَغْلَالِ الْيَهُودِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ اللَّهَ
إنَّمَا حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
لِئَلَّا يُسَارِعَ النَّاسُ إلَى الطَّلَاقِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ .
فَإِذَا حَلَفُوا بِالطَّلَاقِ عَلَى الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ أَوْ الْمَمْنُوعَةِ
وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى فِعْلِ تِلْكَ الْأُمُورِ أَوْ تَرْكِهَا مَعَ عَدَمِ
فِرَاقِ الْأَهْلِ قَدَحَتْ الْأَفْكَارُ لَهُمْ " أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنْ
الْحِيَلِ " أُخِذَتْ عَنْ الْكُوفِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ .
"
الْحِيلَةُ الْأُولَى " فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَيَتَأَوَّلُ لَهُمْ
خِلَافَ مَا قَصَدُوهُ وَخِلَافَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ فِي عُرْفِ
النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَصَفَهُ بَعْضُ
الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ وَيُسَمُّونَهُ " بَابَ الْمُعَايَاةِ
" و " بَابَ الْحِيَلِ فِي الْأَيْمَانِ " وَأَكْثَرُهُ مِمَّا
يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ فِي الدِّينِ وَلَا
يَجُوزُ حَمْلُ كَلَامِ الْحَالِفِ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ
كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ يُشَدِّدُونَ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ يَحْتَالُ فِي هَذِهِ
الْأَيْمَانِ . " الْحِيلَةُ الثَّانِيَةُ " إذَا تَعَذَّرَ
الِاحْتِيَالُ فِي الْكَلَامِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ احْتَالُوا لِلْفِعْلِ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ؛ بِأَنْ يَأْمُرُوهُ بِمُخَالَعَةِ امْرَأَتِهِ لِيَفْعَلَ
الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الْبَيْنُونَةِ وَهَذِهِ الْحِيلَةُ أَحْدَثُ
مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا وَأَظُنُّهَا حَدَثَتْ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ
الثَّالِثَةِ ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ الْحِيَلِ إنَّمَا نَشَأَتْ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ
الْكُوفَةِ وَحِيلَةُ الْخُلْعِ لَا تَمْشِي عَلَى أَصْلِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ : إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ بِهِ
الطَّلَاقُ لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ فُرْقَةٍ بَائِنَةٌ يَلْحَقُهَا
الطَّلَاقُ عِنْدَهُمْ فَيَحْتَاجُ الْمُحْتَالُ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ
يَتَرَبَّصَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ثُمَّ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ
بَعْدَ انْقِضَائِهَا وَهَذَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ طُولِ الْمُدَّةِ
. فَصَارَ يُفْتِي بِهَا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَرُبَّمَا رَكَّبُوا
مَعَهَا أَحَدَ قَوْلَيْهِ الْمُوَافِقَ لِأَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد
مِنْ : أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ ؛ وَلَيْسَ بِطَلَاقِ . فَيَصِيرُ الْحَالِفُ
كُلَّمَا أَرَادَ الْحِنْثَ خَلَعَ زَوْجَتَهُ وَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ
ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ؛ فَإِمَّا أَنْ يُفْتُوهُ بِنَقْصِ عَدَدِ الطَّلَاقِ ؛ أَوْ
يُفْتُوهُ بِعَدَمِهِ وَهَذَا الْخُلْعُ الَّذِي هُوَ " خُلْعُ الْأَيْمَانِ
" شَبِيهٌ بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ سَوَاءٌ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ
عَقَدَ
عَقْدًا لَمْ يَقْصِدْهُ وَإِنَّمَا قَصَدَ إزَالَتِهِ وَهَذَا فَسَخَ فَسْخًا
لَمْ يَقْصِدْهُ وَإِنَّمَا قَصَدَ إزَالَتَهُ وَهَذِهِ حِيلَةٌ مُحْدَثَةٌ
بَارِدَةٌ قَدْ صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ جُزْءًا فِي
إبْطَالِهَا وَذَكَرَ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ مَا قَدْ ذَكَرْت
بَعْضَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . " الْحِيلَةُ الثَّالِثَةُ " إذَا
تَعَذَّرَ الِاحْتِيَالُ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ احْتَالُوا فِي الْمَحْلُوفِ
بِهِ فَيُبْطِلُونَهُ بِالْبَحْثِ عَنْ شُرُوطِهِ . فَصَارَ قَوْمٌ مِنْ
الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَبْحَثُونَ عَنْ صِفَةِ عَقْدِ
النِّكَاحِ لَعَلَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرٍ يَكُونُ بِهِ فَاسِدًا ؛
لِيُرَتِّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا
يَقَعُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَد فِي إحْدَى
رِوَايَتَيْهِ أَنَّ الْوَلِيَّ الْفَاسِقَ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ وَالْفُسُوقُ
غَالِبٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَيَنْفُقُ سُوقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
بِسَبَبِ الِاحْتِيَالِ لِرَفْعِ يَمِينِ الطَّلَاقِ حَتَّى رَأَيْت مَنْ صَنَّفَ
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُصَنَّفًا مَقْصُودُهُ بِهِ الِاحْتِيَالُ لِرَفْعِ
الطَّلَاقِ . ثُمَّ تَجِدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحْتَالُونَ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ
إنَّمَا يَنْظُرُونَ فِي صِفَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَكَوْنِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ
لَا تَصِحُّ عِنْدَ إيقَاعِ الطَّلَاقِ الَّذِي قَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْفَاسِدِ فِي الْجُمْلَةِ
وَأَمَّا عِنْدَ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ
عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَلَا يَنْظُرُونَ فِي
ذَلِكَ وَلَا يَنْظُرُونَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ مِنْ
أَحْكَامِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ ؛ بَلْ عِنْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ خَاصَّةً .
وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَمِنْ الْمَكْرِ فِي
آيَاتِ اللَّهِ ؛ إنَّمَا أَوْجَبَهُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالضَّرُورَةُ إلَى
عَدَمِ وُقُوعِهِ .
"
الْحِيلَةُ الرَّابِعَةُ " الشَّرْعِيَّةُ فِي إفْسَادِ الْمَحْلُوفِ بِهِ
أَيْضًا ؛ لَكِنْ لِوُجُودِ مَانِعٍ ؛ لَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ ؛ فَإِنَّ أَبَا
الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ وَطَائِفَةً بَعْدَهُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ إذَا قَالَ
لِامْرَأَتِهِ : إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي وَإِذَا طَلَّقْتُك فَأَنْت طَالِقٌ
قَبْلُ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقٌ أَبَدًا ؛
لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ لَزِمَ وُقُوعُ الْمُعَلَّقِ وَإِذَا وَقَعَ
الْمُعَلَّقُ امْتَنَعَ وُقُوعُ الْمُنَجَّزِ فَيُفْضِي وُقُوعُهُ إلَى عَدَمِ
وُقُوعِهِ فَلَا يَقَعُ وَأَمَّا عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ
الطَّوَائِفِ فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ ؛ بَلْ رَأَوْهُ مِنْ الزَّلَّاتِ الَّتِي
يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ كَوْنُهَا لَيْسَتْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ؛ حَيْثُ قَدْ
عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الطَّلَاقَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ نِكَاحٍ
وَأَنَّهُ مَا مِنْ نِكَاحٍ إلَّا وَيُمْكِنُ فِيهِ الطَّلَاقُ : وَسَبَبُ
الْغَلَطِ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا صِحَّةَ هَذَا الْكَلَامِ فَقَالُوا : إذَا
وَقَعَ الْمُنَجَّزُ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ . وَهَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ بِصَحِيحِ
فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ وُقُوعَ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ وَوُقُوعَ
طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ مُمْتَنِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ . فَالْكَلَامُ
الْمُشْتَمِلُ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ وَإِذَا كَانَ بَاطِلًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ
وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ وُقُوعُ الْمُعَلَّقِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا
كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا . ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ يَقَعُ مِنْ الْمُعَلَّقِ
تَمَامُ الثَّلَاثِ ؟ أَمْ يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ وَلَا يَقَعُ إلَّا الْمُنَجَّزُ
؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَمَا
أَدْرِي هَلْ اسْتَحْدَثَ ابْنُ سُرَيْجٍ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِلِاحْتِيَالِ
عَلَى رَفْعِ الطَّلَاقِ ؟ أَمْ قَالَهُ طَرْدًا لِقِيَاسِ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ
وَاحْتَالَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ ؟ لَكِنِّي رَأَيْت
مُصَنَّفًا
لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ صَنَّفَهُ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ وَمَقْصُودُهُ بِهَا الِاحْتِيَالُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ
. وَلِهَذَا صَاغُوهَا بِقَوْلِهِ : إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْت طَالِقٌ
قَبْلَهُ ثَلَاثًا . لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْت طَالِقٌ
قَبْلَهُ ثَلَاثًا لَمْ تَنْفَعْهُ هَذِهِ الصِّيغَةُ فِي الْحِيلَةِ وَإِنْ كَانَ
كِلَاهُمَا فِي الدَّوْرِ سَوَاءٌ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ
لِامْرَأَتِهِ إذَا طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ فَأَنْت طَالِقٌ : لَمْ
يَحْنَثْ إلَّا بِتَطْلِيقِ يُنَجِّزُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْيَمِينُ ؛ أَوْ
يُعَلِّقُهُ بَعْدَهَا عَلَى شَرْطٍ فَيُوجَدُ . فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ
التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ الَّذِي وُجِدَ شَرْطُهُ تَطْلِيقٌ . أَمَّا إذَا
كَانَ قَدْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا قَبْلَ هَذِهِ الْيَمِينِ بِشَرْطِ وَوُجِدَ
الشَّرْطُ بَعْدَ هَذِهِ الْيَمِينَ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ وُجُودِ الشَّرْطِ
وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ تَطْلِيقًا ؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَ لَا بُدَّ أَنْ
يَصْدُرَ عَنْ الْمُطَلِّقِ وَوُقُوعَ الطَّلَاقِ بِصِفَةِ يَفْعَلُهَا غَيْرُهُ
لَيْسَ فِعْلًا مِنْهُ . فَأَمَّا إذَا قَالَ : إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي .
فَهَذَا يَعُمُّ الْمُنَجَّزَ وَالْمُعَلَّقَ بَعْدَ هَذَا بِشَرْطِ وَالْوَاقِعُ
بَعْدَ هَذَا بِشَرْطِ تَقَدَّمَ تَعْلِيقُهُ . فَصَوَّرُوا الْمَسْأَلَةَ
بِصُورَةِ قَوْلِهِ : إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي . حَتَّى إذَا حَلَفَ
الرَّجُلُ بِالطَّلَاقِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا قَالُوا لَهُ : قُلْ إذَا وَقَعَ
عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْت طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا . فَيَقُولُ ذَلِكَ
فَيَقُولُونَ لَهُ : افْعَلْ الْآنَ مَا حَلَفْت عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ
عَلَيْك طَلَاقٌ فَهَذَا " التَّسْرِيجُ " الْمُنْكَرُ عِنْدَ عَامَّةِ
أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْمَعْلُومُ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الشَّرِيعَةِ
الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إنَّمَا نَفْقُه فِي الْغَالِبِ وَأَحْوَجُ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إلَّا الْحَلِف
بِالطَّلَاقِ وَإِلَّا فَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّ
الْعَاقِلَ لَا يَكَادُ يَقْصِدُ انْسِدَادَ بَابِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ إلَّا
نَادِرًا .
"
الْحِيلَةُ الْخَامِسَةُ " إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَمْ يُمْكِنْ
الِاحْتِيَالُ لَا فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا وَلَا فِي
الْمَحْلُوفِ بِهِ إبْطَالًا وَلَا مَنْعًا : احْتَالُوا لِإِعَادَةِ النِّكَاحِ
" بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ " الَّذِي دَلَّتْ السُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ
الصَّحَابَةِ مَعَ دِلَالَةِ الْقُرْآنِ وَشَوَاهِدِ الْأُصُولِ عَلَى تَحْرِيمِهِ
وَفَسَادِهِ ثُمَّ قَدْ تَوَلَّدَ مِنْ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ مِنْ الْفَسَادِ مَا
لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهِ فِي "
كِتَابِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ " وَأَغْلَب مَا
يحوج النَّاسَ إلَى نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ هُوَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ ؛ وَإِلَّا
فَالطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ فِي الْغَالِبِ إلَّا
إذَا قَصَدَهُ وَمَنْ قَصَدَهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مِنْ النَّدَمِ
وَالْفَسَادِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَنْ اضْطَرَّ لِوُقُوعِهِ لِحَاجَتِهِ إلَى
الْحِنْثِ . فَهَذِهِ " الْمَفَاسِدُ الْخَمْسُ " الَّتِي هِيَ
الِاحْتِيَالُ عَلَى نَقْضِ الْأَيْمَانِ وَإِخْرَاجِهَا مِنْ مَفْهُومِهَا
وَمَقْصُودِهَا ثُمَّ الِاحْتِيَالُ بِالْخُلْعِ وَإِعَادَةِ النِّكَاحِ ثُمَّ
الِاحْتِيَالُ بِالْبَحْثِ عَنْ فَسَادِ النِّكَاحِ ثُمَّ الِاحْتِيَالُ بِمَنْعِ
وُقُوعِ الطَّلَاقِ ثُمَّ الِاحْتِيَالُ بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ : فِي هَذِهِ
الْأُمُورِ مِنْ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَاللَّعِبِ الَّذِي يُنَفِّرُ الْعُقَلَاءَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَيُوجِبُ
طَعْنَ الْكُفَّارِ فِيهِ كَمَا رَأَيْته فِي بَعْضِ كُتُبِ النَّصَارَى
وَغَيْرِهَا وَتَبَيَّنَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ صَحِيحِ الْفِطْرَةِ أَنَّ دِينَ
الْإِسْلَامِ بَرِيءٌ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الْخُزَعْبَلَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ
حِيَلَ الْيَهُودِ ومخاريق الرُّهْبَانِ .
وَأَكْثَرُ
مَا أَوْقَعَ النَّاسَ فِيهَا وَأَوْجَبَ كَثْرَةَ إنْكَارِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا
وَاسْتِخْرَاجِهِمْ لَهَا هُوَ حَلِفُ النَّاسِ بِالطَّلَاقِ وَاعْتِقَادُ وُقُوعِ
الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحِنْثِ لَا مَحَالَةَ ؛ حَتَّى لَقَدْ فَرَّعَ
الْكُوفِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُرُوعِ الْأَيْمَانِ شَيْئًا كَثِيرًا
مَبْنَاهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُرُوعِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي
يُفَرِّعُهَا هَؤُلَاءِ وَنَحْوُهُمْ هِيَ كَمَا كَانَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ
المقدسي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : مِثَالُهَا مِثَالُ رَجُلٍ بَنَى دَارًا
حَسَنَةً عَلَى حِجَارَةٍ مَغْصُوبَةٍ فَإِذَا نُوزِعَ فِي اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ
الْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ الْأَسَاسُ فَاسْتَحَقَّهَا غَيْرُهُ انْهَدَمَ
بِنَاؤُهُ ؛ فَإِنَّ الْفُرُوعَ الْحَسَنَةَ إنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى أُصُولٍ
مُحْكَمَةٍ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ . فَإِذَا كَانَ الْحَلِفُ
بِالطَّلَاقِ وَاعْتِقَادُ لُزُومِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحِنْثِ قَدْ أَوْجَبَ
هَذِهِ الْمَفَاسِدَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي قَدْ غَيَّرَتْ بَعْضَ أُمُورِ
الْإِسْلَامِ عِنْدَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَصَارَ فِي هَؤُلَاءِ شُبَهٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَعَ أَنَّ لُزُومَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحَلِفِ بِهِ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا أَفْتَى بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فِيمَا أَعْلَمُهُ وَلَا
اتَّفَقَ عَلَيْهِ التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَالْعُلَمَاءُ بَعْدَهُمْ
وَلَا هُوَ مُنَاسِبٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ قَالَهُ
أَكْثَرَ مِنْ عَادَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ أُسْنِدَتْ إلَى قِيَاسٍ مُعْتَضِدٍ
بِتَقْلِيدِ لِقَوْمِ أَئِمَّةٍ عُلَمَاءَ مَحْمُودِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ وَهُمْ
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَوْقَ مَا يُظَنُّ بِهِمْ ؛ لَكِنْ لَمْ نُؤْمَرْ عِنْدَ
التَّنَازُعِ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ وَقَدْ
خَالَفَهُمْ مَنْ لَيْسَ دُونَهُمْ ؛ بَلْ مِثْلُهُمْ أَوْ فَوْقَهُمْ . فَإِنَّا
قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ أَعْيَانٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
كَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْمُجْمَعِ عَلَى إمَامَتِهِ وَفِقْهِهِ وَدِينِهِ
وَأُخْتِهِ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مِنْ أَمْثَلِ فَقِيهَاتِ الصَّحَابَةِ
الْإِفْتَاءَ بِالْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ أَوْلَى
مِنْهُ . وَذَكَرْنَا عَنْ طاوس وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ
عِلْمًا وَفِقْهًا وَدِينًا : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ
مُوقِعَةً لَهُ .
فَإِذَا كَانَ لُزُومُ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ بِهِ
مُقْتَضِيًا لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَحَالُهُ فِي الشَّرِيعَةِ هَذِهِ الْحَالُ :
كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا أَفْضَى إلَى هَذَا الْفَسَادِ لَمْ
يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي ضَمَانِ
الْحَدَائِقِ مَنْ يَزْدَرِعُهَا وَيَسْتَثْمِرُهَا وَيَبِيعُ الْخُضَرَ
وَنَحْوَهَا .
وَذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ إذَا حَلَفَ لَيَقْطَعَنَّ رَحِمَهُ
وَلَيَعُقَّنَّ أَبَاهُ وَلَيَقْتُلَنَّ عَدُوَّهُ الْمُسْلِمَ الْمَعْصُومَ
وَلَيَأْتِيَنَّ الْفَاحِشَةَ وَلَيَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ وَلَيُفَرِّقَنَّ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ
فَهُوَ بَيْنَ " ثَلَاثَةِ أُمُورٍ " إمَّا أَنْ يَفْعَلَ هَذَا
الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ : فَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ
ضَرَرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بَلْ
وَالْمُفْتِينَ إذَا رَأَوْهُ قَدْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا
لِتَخْفِيفِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ وَإِقَامَةِ عُذْرِهِ .
وَإِمَّا
أَنْ يَحْتَالَ بِبَعْضِ تِلْكَ الْحِيَلِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا اسْتَخْرَجَهُ
قَوْمٌ مِنْ الْمُفْتِينَ : فَفِي ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَمُخَادَعَتِهِ وَالْمَكْرِ فِي دِينِهِ وَالْكَيْدِ لَهُ وَضَعْفِ الْعَقْلِ
وَالدِّينِ وَالِاعْتِدَاءِ لِحُدُودِهِ وَالِانْتِهَاكِ لِمَحَارِمِهِ
وَالْإِلْحَادِ فِي آيَاتِهِ : مَا لَا خَفَاءَ بِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي
إخْوَانِنَا الْفُقَهَاءِ مَنْ قَدْ يَسْتَجِيزُ بَعْضَ ذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَ مِنْ
الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ مَغْفُورًا لِصَاحِبِهِ الْمُجْتَهِدِ
الْمُتَّقِي لِلَّهِ - مَا فَسَادُهُ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ حَقِيقَةَ الدِّينِ
. وَإِمَّا أَنْ لَا يَحْتَالَ وَلَا يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ ؛ بَلْ
يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ إذَا اعْتَقَدَ
وُقُوعَ الطَّلَاقِ . فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا
لَا يَأْذَنُ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ . أَمَّا " فَسَادُ الدِّينِ
" فَإِنَّ الطَّلَاقَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مَعَ اسْتِقَامَةِ حَالِ الزَّوْجِ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { إنَّ الْمُخْتَلَعَاتِ وَالْمُنْتَزَعَاتِ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ }
وَقَالَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا
بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ } وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد .
وَقَدْ اسْتَحْسَنُوا جَوَابَ أَحْمَد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا سُئِلَ
عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَحَرَّمَ لَيَطَأَنَّ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ .
فَقَالَ : يُطَلِّقُهَا وَلَا يَطَؤُهَا قَدْ أَبَاحَ اللَّهُ الطَّلَاقَ
وَحَرَّمَ وَطْءَ الْحَائِضِ . وَهَذَا الِاسْتِحْسَانُ يَتَوَجَّهُ عَلَى
أَصْلَيْنِ : إمَّا عَلَى قَوْلِهِ إنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِحَرَامِ . وَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُ دُونَ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ . وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ
كِلَاهُمَا حَرَامًا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ حَرَامٍ إلَّا إلَى حَرَامٍ .
وَأَمَّا
" ضَرَرُ الدُّنْيَا " فَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ ؛ فَإِنَّ لُزُومَ
الطَّلَاقِ وَالْمَحْلُوفَ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ يُوجِبُ مِنْ
الضَّرَرِ مَا لَمْ تَأْتِ بِهِ الشَّرِيعَةُ فِي مِثْلِ هَذَا قَطُّ فَإِنَّ
الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ تَكُونُ فِي صُحْبَةِ زَوْجِهَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ
سِنِينَ كَثِيرَةً وَهِيَ مَتَاعُهُ الَّذِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ
الْمُؤْمِنَةُ إنْ نَظَرْت إلَيْهَا أَعْجَبَتْك ؛ وَإِنْ أَمَرْتهَا أَطَاعَتْك
وَإِنْ غِبْت عَنْهَا حَفِظَتْك فِي نَفْسِهَا وَمَالِك } وَهِيَ الَّتِي أَمَرَ
بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { لَمَّا
سَأَلَهُ الْمُهَاجِرُونَ أَيَّ الْمَالِ نَتَّخِذُ ؟ فَقَالَ : لِسَانًا ذَاكِرًا
؛ وَقَلْبًا شَاكِرًا أَوْ امْرَأَةً صَالِحَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى
إيمَانِهِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ
عَنْ ثوبان وَيَكُونُ مِنْهَا مِنْ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ مَا امْتَنَّ
اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي كِتَابِهِ فَيَكُونُ أَلَمُ الْفِرَاقِ أَشَدَّ
عَلَيْهَا مِنْ الْمَوْتِ أَحْيَانًا وَأَشَدَّ مِنْ ذَهَابِ الْمَالِ وَأَشَدَّ
مِنْ فِرَاقِ الْأَوْطَانِ ؛ خُصُوصًا إنْ كَانَ بِأَحَدِهِمَا عِلَاقَةٌ مِنْ
صَاحِبِهِ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَطْفَالٌ يَضِيعُونَ بِالْفِرَاقِ وَيَفْسُدُ
حَالُهُمْ ثُمَّ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى الْقَطِيعَةِ بَيْنَ أَقَارِبِهَا وَوُقُوعِ
الشَّرِّ لَمَّا زَالَتْ نِعْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ
تَعَالَى بِهَا فِي قَوْلِهِ : { فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } وَمَعْلُومٌ
أَنَّ هَذَا مِنْ الْحَرَجِ الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ : { وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَمِنْ الْعُسْرِ الْمَنْفِيِّ بِقَوْلِهِ
: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }
" وَأَيْضًا " فَإِذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ فِعْلَ
بِرٍّ وَإِحْسَانٍ : مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَتَعْلِيمِ عِلْمٍ ؛ وَصِلَةِ
رَحِمٍ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ
وَنَحْوِ
ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا ؛
فَإِنَّهُ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ فِي الطَّلَاقِ أَعْظَمُ
أَلَا يَفْعَلَ ذَلِكَ ؛ بَلْ وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ شَرْعًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ
يَكُونُ الْفَسَادُ النَّاشِئُ مِنْ الطَّلَاقِ أَعْظَمَ مِنْ الصَّلَاحِ
الْحَاصِلِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ . وَهَذِهِ الْمَفْسَدَةُ هِيَ الَّتِي
أَزَالَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ
عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
لَأَنْ يَلِجَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ
مِنْ أَنْ يَأْتِيَ الْكَفَّارَةَ } . فَإِنْ قِيلَ : فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ
نَفْسَهُ فِي أَحَدٍ هَذِهِ الضَّرَائِرِ الثَّلَاثِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَحْلِفَ ؟ قِيلَ : لَيْسَ فِي شَرِيعَتِنَا ذَنْبٌ إذَا فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ
لَمْ يَكُنْ لَهُ مَخْرَجٌ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ إلَّا بِضَرَرِ عَظِيمٍ ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِنَا . فَهَبْ هَذَا قَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ فِي حَلِفِهِ
بِالطَّلَاقِ ثُمَّ تَابَ مِنْ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ فَكَيْفَ يُنَاسِبُ أُصُولَ
شَرِيعَتِنَا أَنْ يَبْقَى أَثَرُ ذَلِكَ الذَّنْبِ عَلَيْهِ لَا يَجِدُ مِنْهُ
مَخْرَجًا وَهَذَا بِخِلَافِ الَّذِي يُنْشِئُ الطَّلَاقَ لَا بِالْحَلِفِ
عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا وَهُوَ مُرِيدٌ الطَّلَاقَ : إمَّا
لِكَرَاهَةِ الْمَرْأَةِ أَوْ غَضَبٍ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَدْ جَعَلَ
اللَّهُ الطَّلَاقَ ثَلَاثَةً فَإِذَا كَانَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالطَّلَاقِ
بِاخْتِيَارِهِ وَلَهُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : كَانَ وُقُوعُ الضَّرَرِ
بِمِثْلِ هَذَا نَادِرًا ؛ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ لَمْ يَكُنْ
الطَّلَاقَ ؛ إنَّمَا كَانَ أَنْ
يَفْعَلَ
الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ أَوْ لَا يَفْعَلَهُ ثُمَّ قَدْ يَأْمُرُهُ الشَّرْعُ أَوْ
تَضْطَرُّهُ الْحَاجَةُ إلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ
بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ لَا لَهُ وَلَا لِسَبَبِهِ . " وَأَيْضًا " فَإِنَّ
الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي " بَابِ الْأَيْمَانِ " تَخْفِيفُهَا بِالْكَفَّارَةِ ؛
لَا تَثْقِيلُهَا بِالْإِيجَابِ أَوْ التَّحْرِيمِ . فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ يَرَوْنَ الظِّهَارَ طَلَاقًا وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي
أَوَّلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى ظَاهَرَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ امْرَأَتِهِ .
" وَأَيْضًا " فَالِاعْتِبَارُ بِنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ
فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ وَسَنُبَيِّنُ
إنْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ تَأْثِيرِهِ . وَالْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ
أَصَحُّ مَا يَكُونُ مِنْ الِاعْتِبَارِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ
الْمُعْتَبَرِينَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ : إنْ أَكَلْت أَوْ
شَرِبْت فَعَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ عَبْدِي أَوْ فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ
امْرَأَتِي أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَأَنَا مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ أَوْ
فَمَالِي صَدَقَةٌ أَوْ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ فَإِنَّهُ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ
يَمِينٍ عِنْدِ الْجُمْهُورِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ ؛ بِدِلَالَةِ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ : فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ أَكَلْت هَذَا
أَوْ شَرِبْت هَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ . أَوْ فَالطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ . أَوْ
فَامْرَأَتِي طَالِقٌ . أَوْ : فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ
الطَّلَاقُ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا :
فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ عَلَيَّ الْحَجُّ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ الْحَجُّ
لِي لَازِمٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا . وَكِلَاهُمَا يَمِينَانِ مُحْدَثَانِ لَيْسَتَا
مَأْثُورَتَيْنِ عَنْ الْعَرَبِ وَلَا مَعْرُوفَتَيْنِ عَنْ الصَّحَابَةِ ؛
وَإِنَّمَا
الْمُتَأَخِّرُونَ
صَاغُوا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي أَيْمَانًا وَرَبَطُوا إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ
بِالْأُخْرَى كَالْأَيْمَانِ الَّتِي كَانَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ
يَحْلِفُونَ بِهَا وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَحْلِفُ بِهَا ؛ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا
وَهَذَا إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ : إنْ فَعَلْت فَمَالِي صَدَقَةٌ . يَقْتَضِي
وُجُوبَ الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْفِعْلِ . وَقَوْلُهُ : فَامْرَأَتِي طَالِقٌ .
يَقْتَضِي وُجُودَ الطَّلَاقِ . فَالْكَلَامُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ
بِنَفْسِ الشَّرْطِ وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ بَعْدَ هَذَا طَلَاقًا وَلَا يَقْتَضِي
وُقُوعَ الصَّدَقَةِ حَتَّى يُحْدِثَ صَدَقَةً . وَجَوَابُ هَذَا الْفَرْقِ
الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْفُقَهَاءُ الْمُفَرِّقُونَ مِنْ " وَجْهَيْنِ "
" أَحَدُهُمَا " مَنْعُ الْوَصْفِ الْفَارِقِ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ
الْمَقِيسِ عَلَيْهَا وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْفُرُوعِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا .
" وَالثَّانِي " بَيَانُ عَدَمِ التَّأْثِيرِ . أَمَّا "
الْأَوَّلُ " فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ
أَوْ فَأَنَا مُحْرِمٌ أَوْ فَبَعِيرِي هَدْيٌ . فَالْمُعَلَّقُ بِالصِّفَةِ
وُجُودُ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْرَامِ وَالْهَدْيِ لَا وُجُوبُهُمَا كَمَا أَنَّ
الْمُعَلَّقَ فِي قَوْلِهِ : فَعَبْدِي حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ . وُجُودُ
الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ لَا وُجُوبُهُمَا ؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ
أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِيمَا إذَا قَالَ هَذَا : هَدْيٌ وَهَذَا صَدَقَةٌ
لِلَّهِ : هَلْ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ لَا يَخْرُجُ ؟ فَمَنْ قَالَ يَخْرُجُ
عَنْ مِلْكِهِ فَهُوَ كَخُرُوجِ زَوْجَتِهِ وَعَبْدِهِ عَنْ مِلْكِهِ . وَأَكْثَرُ
مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الصَّدَقَةَ
وَالْهَدْيَ
يَتَمَلَّكُهُمَا النَّاسُ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ . وَهَذَا لَا
تَأْثِيرَ لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ الطَّلَاقُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا
أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ : عَلَيَّ
الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَهُوَ جَعَلَ الْمَحْلُوفَ بِهِ هَاهُنَا وُجُوبَ
الطَّلَاقِ ؛ لَا وُجُودَهُ كَأَنَّهُ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ
أُطَلِّقَ . فَبَعْضُ صُوَرِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ يَكُونُ الْمَحْلُوفُ بِهِ
صِيغَةَ وُجُوبٍ . كَمَا أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ يَكُونُ
الْمَحْلُوفُ بِهِ صِيغَةَ وُجُودٍ . و " أَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي "
فَنَقُولُ : هَبْ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالْفِعْلِ هُنَا وُجُودُ الطَّلَاقِ
وَالْعِتْقِ وَالْمُعَلَّقَ هُنَاكَ وُجُوبُ الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ
وَالْإِهْدَاءِ أَلَيْسَ مُوجَبُ الشَّرْطِ ثُبُوتَ هَذَا الْوُجُوبِ ؟ بَلْ
يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ هَذَا
الْوُجُوبُ بَلْ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ وُجُوبِ الشَّرْطِ فَإِنْ
كَانَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الْوُجُوبُ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّرْطِ
لَا يَثْبُتُ هَذَا الْوُجُودُ ؛ بَلْ كَمَا لَوْ قَالَ : هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ
نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ إنْ فَعَلَ كَذَا ؛ فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ هُنَا وُجُودُ
الْكُفْرِ عِنْدَ الشَّرْطِ ؛ ثُمَّ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ لَمْ يُوجَدْ الْكُفْرُ
بِالِاتِّفَاقِ ؛ بَلْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
. وَلَوْ قَالَ ابْتِدَاءً : هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ
يَلْزَمُهُ الْكُفْرُ ؛ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ ابْتِدَاءً : عَبْدِي حُرٌّ ؛
وَامْرَأَتِي طَالِقٌ ؛ وَهَذِهِ الْبَدَنَةُ هَدْيٌ وَعَلَيَّ هَدْيٌ ؛ وَعَلَيَّ
صَوْمُ
يَوْمِ
الْخَمِيسِ . وَلَوْ عَلَّقَ الْكُفْرَ بِشَرْطِ يَقْصِدُ وُجُودَهُ كَقَوْلِهِ :
إذَا هَلَّ الْهِلَالُ فَقَدْ بَرِئْت مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لَكَانَ الْوَاجِبُ
أَنَّهُ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ ؛ لَكِنْ لَا يُنَاجَزُ الْكُفْرَ ؛ لِأَنَّ
تَوْقِيتَهُ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ . قِيلَ : فَالْحَلِفُ بِالنَّذْرِ
إنَّمَا عَلَيْهِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَقَطْ قِيلَ : مِثْلُهُ فِي الْحَلِفِ
بِالْعِتْقِ ؛ وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ كَمَا لَوْ قَالَ فَعَلَيَّ أَنْ
أُطَلِّقَ امْرَأَتِي . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ إذَا قَالَ : فَعَلَيَّ أَنْ
أُطَلِّقَ امْرَأَتِي . لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ . فَقِيَاسُ قَوْلِهِ فِي
الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ وَلِهَذَا تَوَقَّفَ طاوس فِي كَوْنِهِ
يَمِينًا . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِهِ
وَالتَّكْفِيرِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ
وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ فَإِنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ كَانَ اخْتِيَارًا لِلتَّكْفِيرِ
؛ كَمَا أَنَّهُ فِي الظِّهَارِ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَبَيْنَ
تَطْلِيقِهَا ؛ فَإِنْ وَطِئَهَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ؛ لَكِنْ فِي
الظِّهَارِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّ الظِّهَارَ
مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ . وَأَمَّا هُنَا فَقَوْلُهُ
: إنْ فَعَلْت فَهِيَ طَالِقٌ . بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : فَعَلَيَّ أَنْ
أُطَلِّقَهَا . أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأُطَلِّقَنَّهَا . إنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا
فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ طَلَّقَهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ .
يَبْقَى أَنْ يُقَالَ : هَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْفَوْرِ إذَا لَمْ
يُطَلِّقْهَا حِينَئِذٍ ؟ كَمَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُطَلِّقَنَّهَا
السَّاعَةَ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا ؟ أَوْ لَا تَجِبُ إلَّا إذَا عَزَمَ عَلَى إمْسَاكِهَا
؟ أَوْ لَا تَجِبُ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهَا مِنْ
قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ كَاَلَّذِي يُخَيَّرُ
بَيْنَ
فِرَاقِهَا وَإِمْسَاكِهَا لِعَيْبِ وَنَحْوِهِ وَكَالْمُعْتَقَةِ تَحْتَ عَبْدِهِ
؟ أَوْ لَا تَجِبُ بِحَالِ حَتَّى يَفُوتَ الطَّلَاقُ ؟ قِيلَ الْحُكْمُ فِي
ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ : فَثُلْثُ مَالِي صَدَقَةٌ أَوْ هَدْيٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ
وَالْأَقْيَسُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّرَاخِي مَا
لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِأَحَدِهِمَا كَسَائِرِ
أَنْوَاعِ الْخِيَارِ .
فَصْلٌ :
مُوجَبُ " نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " عِنْدَنَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ
عَلَى الْمَشْهُورِ إمَّا التَّكْفِيرُ وَإِمَّا فِعْلُ الْمُعَلَّقِ . وَلَا
رَيْبَ أَنَّ مُوجَبَ اللَّفْظِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ
صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ صَدَقَةُ أَلْفٍ أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ صَوْمُ
شَهْرٍ : هُوَ الْوُجُوبُ عِنْدَ الْفِعْلِ . فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذَا
الْوُجُوبِ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ . فَإِذَا لَمْ يَلْتَزِمُ الْوُجُوبَ
الْمُعَلَّقَ ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ . فَاللَّازِمُ لَهُ أَحَدُ الوجوبين ؛
كُلٌّ مِنْهُمَا ثَابِتٌ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْآخَرِ ؛ كَمَا فِي الْوَاجِبِ
الْمُخَيَّرِ . وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ عِتْقُ هَذَا
الْعَبْدِ ؛ أَوْ تَطْلِيقُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَوْ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ
أَوْ أَهْدِيَ . فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعَبْدِ لِلْإِعْتَاقِ ؛
وَالْمَالِ لِلتَّصَدُّقِ وَالْبَدَنَةِ لِلْهَدْيِ . وَلَوْ أَنَّهُ نَجَّزَ
ذَلِكَ فَقَالَ : هَذَا الْمَالُ صَدَقَةٌ وَهَذِهِ الْبَدَنَةُ هَدْيٌ وَعَلَيَّ
عِتْقُ هَذَا الْعَبْدِ : فَهَلْ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ بِذَلِكَ ؟ أَوْ
يَسْتَحِقُّ الْإِخْرَاجَ ؟ فِيهِ خِلَافٌ
وَهُوَ
يُشْبِهُ قَوْلَهُ : هَذَا وَقْفٌ . فَأَمَّا إذَا قَالَ : هَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ
وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ طَالِقٌ . فَهُوَ إسْقَاطٌ ؛ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ :
ذِمَّةُ فُلَانٍ بَرِيئَةٌ مِنْ كَذَا أَوْ مِنْ دَمِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ قَذْفِي
فَإِنَّ إسْقَاطَ حَقِّ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ مِنْ بَابِ إسْقَاطِ حَقِّ
الْمِلْكِ بِمِلْكِ الْبُضْعِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ . فَإِنْ قَالَ : إنْ فَعَلْت
فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ أَوْ فَعَلَيَّ الْعِتْقُ أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ
فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ . وَقُلْنَا إنَّ مُوجَبَهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ ؛
فَإِنَّهُ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ وُقُوعِ ذَلِكَ وَبَيْنَ وُجُوبِ
الْكَفَّارَةِ كَمَا لَوْ قَالَ : فَهَذَا الْمَالُ صَدَقَةٌ أَوْ هَذِهِ
الْبَدَنَةُ هَدْيٌ وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ : إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ
فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ أَوْ نِسَائِي طَوَالِقُ . وَقُلْنَا التَّخْيِيرُ إلَيْهِ ؛
فَإِنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِيَارِهِ
أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْوُقُوعِ أَوْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ . وَمِثَالٌ
ذَلِكَ أَيْضًا إذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ ؛ أَوْ أُخْتَانِ
فَاخْتَارَ إحْدَاهُمَا . فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تَكُونُ الْفُرْقَةُ
أَحَدَ اللَّازِمَيْنِ : إمَّا فُرْقَةُ مُعَيَّنٍ أَوْ نَوْعُ الْفُرْقَةِ ؛ لَا
يَحْتَاجُ إنْشَاءَ طَلَاقٍ ؛ لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ الطَّلَاقُ إلَّا بِمَا
يُوجِبُ تَعْيِينَهُ كَمَا فِي النَّظَائِرِ الْمَذْكُورَةِ . ثُمَّ إذَا اخْتَارَ
الطَّلَاقَ فَهَلْ يَقَعُ مِنْ حِينِ الِاخْتِيَارِ ؟ أَوْ مِنْ حِينِ الْحِنْثِ ؟
يُخَرَّجُ عَلَى نَظِيرِ ذَلِكَ . فَلَوْ قَالَ فِي جِنْسِ مَسَائِلِ نَذْرِ
اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ : اخْتَرْت
التَّكْفِيرَ
أَوْ اخْتَرْت فِعْلَ الْمَنْذُورِ : هَلْ يَتَعَيَّنُ بِالْقَوْلِ ؟ أَوْ لَا
يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْفِعْلِ ؟ إنْ كَانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الوجوبين
تَعَيَّنَ بِالْقَوْلِ كَمَا فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْإِنْشَاءِ وَبَيْنَ
الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ لَمْ يَتَعَيَّنْ إلَّا
بِالْفِعْلِ كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ
الْفِعْلِ وَالْحُكْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ
أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ دَمِي هَدْرٌ أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ أَوْ بَدَنَتِي
هَدْيٌ : تَعَيَّنَ الْحُكْمُ بِالْقَوْلِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ الْفِعْلُ إلَّا
بِالْفِعْلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
جَلِيلُ الْقَدْرِ الْيَمِينُ الْمُتَضَمِّنَةُ حَضًّا أَوْ مَنْعًا لِنَفْسِهِ
كَقَوْلِهِ ؛ لَأَفْعَلَنَّ وَلَا أَفْعَلُ . فِيهَا مَعْنَى الطَّلَبِ وَالْخَبَرِ
؛ وَكَذَلِكَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ الْمَحْضِ كَقَوْلِهِ {
وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا
عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا } أَوْ وَاَللَّهِ لَيَقْدَمَنَّ الرَّكْبُ .
فَإِنَّ هَذَا إخْبَارٌ مَحْضٌ بِأَمْرِ سَيَكُونُ كَمَا يُخْبَرُ عَنْ الْمَاضِي
بِمِثْلِ ذَلِكَ ؛ وَبِخِلَافِ الطَّلَبِ الْمَحْضِ ؛ كَقَوْلِهِ لِغَيْرِهِ :
افْعَلْ أَوْ بِاَللَّهِ افْعَلْ وَنَحْوَ ذَلِكَ . إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إلَّا
مُجَرَّدُ الطَّلَبِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيُطِيعُهُ أَمْ يَعْصِيهِ ؛ وَلِهَذَا
لَا يَحْسُنُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذَا الضَّرْبِ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ
لِعَدَمِ الْمُخَالَفَةِ
فَإِنَّهُ
طَلَبٌ مَحْضٌ مُؤَكَّدٌ بِاَللَّهِ كَقَوْلِهِ : سَأَلْتُك بِاَللَّهِ إلَّا مَا
فَعَلْت أَوْ سَأَلْتُك بِاَللَّهِ لَا تَفْعَلْ . فَأَمَّا إذَا كَانَ
الْمَخْصُوصُ أَوْ الْمَمْنُوعُ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ مُوَافَقَتُهُ
لَهُ - كَعَبْدِهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ - فَهُوَ كَنَفْسِهِ فِيهَا مَعْنَى
الطَّلَبِ وَالْخَبَرِ ؛ فَإِنَّهُ لِكَوْنِهِ مُطِيعًا لَهُ فِي الْعَادَةِ جَرَى
مَجْرَى طَاعَةِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ فَطَلَبَ الْفِعْلَ مِنْهُمَا طَلَبًا
قَرَنَهُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ كَوْنِهِ . فَقَوْلُهُ : لَأَقُومَنَّ غَدًا .
يَتَضَمَّنُ أَمْرَيْنِ " أَحَدَهُمَا " أَنِّي مُرِيدٌ الْقِيَامَ
غَدًا . و " الثَّانِي " سَيَكُونُ الْقِيَامُ غَدًا ؛ بِخِلَافِ
الْقَسَمِ الْخَبَرِيِّ الْمَحْضِ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى سَيَكُونُ وَبِخِلَافِ
الْقَسَمِ الطَّلَبِيِّ الْمَحْضِ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى أُرِيدُ مِنْك وَأَطْلُبُ
مِنْك أَنْ تَقُومَ وَالْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ لَمْ يَجِئْ لِمُخَالَفَةِ
الْمَطْلُوبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّلَبِ الْمَحْضِ وَإِنَّمَا جَاءَ
لِمُخَالَفَةِ الْخَبَرِ كَمَا لَوْ كَانَ خَبَرًا مَحْضًا عَنْ مُسْتَقْبَلٍ
وَالِاسْتِثْنَاءُ يُعَلِّقُ الْفِعْلَ بِالْمَشِيئَةِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى
لَيَكُونَنَّ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ
مُخْبِرًا بِكَوْنِهِ فَلَا مُخَالَفَةَ فَلَا حِنْثَ ؛ وَلِهَذَا يَصِحُّ
الِاسْتِثْنَاءُ " فَالْخَبَرُ الْمَحْضُ " كَقَوْلِهِ : "
لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً فَلَتَأْتِيَنَّ كُلُّ
امْرَأَةٍ بِفَارِسِ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " وَالْوِلَادَةُ
لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِهِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَكَمَا تَقُولُ : وَاَللَّهِ
لَيَجِيءُ زَيْدٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَصَارَ لِقَائِلِ : لَأَفْعَلَنَّ كَذَا
إنْ شَاءَ اللَّهُ " ثَلَاثُ نِيَّاتٍ "
"
تَارَةً " يَكُونُ غَرَضُهُ تَعْلِيقُ الْإِرَادَةِ وَالْمَعْنَى إنْ شَاءَ
اللَّهُ كُنْت السَّاعَةَ مُرِيدًا لَهُ وَطَالِبًا ؛ وَإِلَّا فَلَا . فَهَذَا
لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا وَلَا تَرْتَفِعُ الْكَفَّارَةُ بِهَذَا
وَحْدَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : أَنْت طَالِقٌ إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت إنْ
شِئْت . أَنَّ الْمَشِيئَةَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا فَكَذَا هَذَا . فَمَتَى
قَالَ هَذَا لَمْ تَكُنْ إرَادَتُهُ حَاصِلَةً فَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يُطْلَبُ
مِنْهُ شَيْءٌ فَيَقُولُ : أُعْطِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَلَا وَعْدَ لَهُ
وَإِذَا نَوَى هَذَا فِي الْيَمِينِ صَحَّ لَكِنْ لَا يَرْفَعُ الْكَفَّارَةَ ؛
لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الطَّلَبِ لَمْ تُوجِبْ الْكَفَّارَةَ وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ
مُخَالَفَةُ الْخَبَرِ فَلَوْ كَانَ خَبَرًا لَا طَلَبَ مَعَهُ غَيْرَ تَعْلِيقٍ
وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ . فَأَكْثَرَ مَا فِي هَذَا انْتِفَاءُ الطَّلَبِ
وَالْحَضِّ مِنْ الْيَمِينِ . " الثَّانِي " أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ
تَعْلِيقَ الْإِخْبَارِ . وَالْمَعْنَى أَنَّ قِيَامِي كَائِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ
أَوْ أَنَّ قِيَامَك كَائِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَنَا مُخْبِرٌ بِوُقُوعِهِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ وُقُوعَهُ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ فَلَا أُخْبِرُ بِهِ . وَإِذَا لَمْ
يُخْبِرْ بِهِ فَلَا مُخَالَفَةَ فَلَا حِنْثَ وَإِنْ كُنْت مُرِيدًا لَهُ
السَّاعَةَ جَزْمًا فَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَرْفَعُ الْكَفَّارَةَ
فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَنَا شَاكٌّ فِي الْوُقُوعِ فَلَسْت أُخْبِرُ بِوُقُوعِهِ
جَزْمًا وَإِنَّمَا أُخْبِرُ بِوُقُوعِهِ عِنْدَ هَذِهِ الصِّفَةِ . كَقَوْلِهِ :
لَأَقُومَنَّ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ وَإِنْ أَعْطَيْتنِي مِائَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ
وَهُوَ وَعْدٌ أَوْ وَعِيدٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ وَإِنْ كَانَ الْوَاعِدُ أَوْ
الْمُتَوَاعِدُ مُرِيدًا فِي الْحَالِ لِإِنْفَاذِهِ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ
قَوْلَهُ : لَأَصُومَنَّ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَقْدَحُ ؛
لِأَنَّ التَّعْلِيقَ عَادَ إلَى الْإِخْبَارِ لَا إلَى الْإِرَادَةِ . وَمِنْ
الْفُقَهَاءِ
مَنْ
قَالَ : هَذَا يَقْدَحُ فِي إرَادَتِهِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّهُ إذَا
نَوَى عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى طَلَبِهِ وَإِرَادَتِهِ نَفَعَهُ فِي
الْكَفَّارَةِ أَوْ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ . وَعَلَى خَاطِرِي
هُنَا قَوْلٌ لَا أَسْتَثْبِتُهُ . " الثَّالِثُ " أَنْ لَا يَكُونَ
غَرَضُهُ تَعْلِيقَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ جَازِمٌ بِإِرَادَتِهِ
وَجَازِمٌ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ كَمَا لَوْ كَانَ خَبَرًا مَحْضًا مِثْلُ قَوْلِهِ
: لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ وَلَيَخْرُجَنَّ الدَّجَّالُ وَلَتَقُومَنَّ
السَّاعَةُ . وَهَذِهِ أَيْمَانٌ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِنَوْعِ مِنْهَا
كَقَوْلِهِ : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي } فَهَذَا
مَاضٍ وَحَاضِرٌ وَقَالَ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ
قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } وَقَالَ : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } فَأَمَرَهُ أَنْ
يَحْلِفَ عَلَى وُقُوعِ إتْيَانِ السَّاعَةِ وَبَعْثِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ
وَهُمَا مُسْتَقِلَّانِ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ وَهَذَا { كَقَوْلِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرِ : لَآتِيَنَّهُ وَلَأَطُوفَنَّ بِهِ }
فَهُنَا إذَا قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ لَا يَكُونُ غَرَضُهُ تَعْلِيقَ
الْإِخْبَارِ وَإِنَّمَا غَرَضُهُ تَحْقِيقُهُ كَقَوْلِهِ : { لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } فَإِنَّ هَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ ؛ إذْ
الْحَوَادِثُ كُلُّهَا لَا تَكُونُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ مِثْلَ مَا لَوْ
قَالَ : لَيَكُونَنَّ إنْ اتَّفَقَتْ أَسْبَابُ كَوْنِهِ . وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ
أَنَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ اتَّفَقَتْ أَسْبَابُ كَوْنِهِ كَانَ فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ هُوَ مُخْبِرًا لَهُمْ بِذَلِكَ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِمَا لَا يُفِيدُ
.
فَهَذَا
إذَا نَوَاهُ هَلْ يَرْفَعُ الْكَفَّارَةَ ؟ فَبِالنَّظَرِ إلَى قَصْدِهِ
وَجَزْمِهِ فِي الْخَبَرِ قَدْ حَصَلَتْ الْمُخَالَفَةُ وَبِالنَّظَرِ إلَى
لَفْظِهِ وَأَنَّهُ إنَّمَا جَزَمَ بِمَشْرُوطِ لَا بِمُطْلَقِ لَمْ تَقَعْ
الْمُخَالَفَةُ ؛ وَإِنْ أَخْطَأَ اعْتِقَادُهُ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى مَنْ
يَظُنُّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا
أَخْبَرَ عَنْ الْمَاضِي بِمُوجَبِ اعْتِقَادِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ بِخِلَافِ مَا
إذَا تَعَمَّدَ الْكَذِبَ . وَكَذَلِكَ هَذَا لَمْ يَتَأَلَّ عَلَى اللَّهِ ؛
لَكِنْ يُقَالُ : كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشُكَّ فَلَمَّا تَأَلَّى عَلَى اللَّهِ
وَأَكَّدَ الْمَشِيئَةَ قَاصِدًا بِهَا تَحْقِيقَ جَزْمِهِ بِالْإِخْبَارِ صَارَ
وَجُودُهَا زَائِدًا لَهُ فِي التَّأَلِّي لَا مُعَلَّقًا . فَقَدْ يُقَالُ فِي
مُعَارَضَةِ هَذَا : الْجَزْمِ يُرْجَعُ إلَى اعْتِقَادِهِ ؛ لَا إلَى كَلَامِهِ
وَأَمَّا كَلَامُهُ فَلَمْ يَتَأَلَّ فِيهِ عَلَى اللَّهِ ؛ بَلْ أَخْبَرَ أَنَّ
هَذَا يَكُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَالَ مَعَ ذَلِكَ : أَنَا مُعْتَقِدٌ أَنَّهُ
يَكُونُ جَازِمًا بِهِ . فَالْكَفَّارَةُ وَجَبَتْ لِمُخَالَفَةِ خَبَرِي
مُخْبَرِهِ أَوْ لِمُخَالَفَةِ اعْتِقَادِي مُعْتَقَدِهِ ؟ إنَّمَا وَجَبَتْ
لِمُخَالَفَةِ الْخَبَرِ فَإِنِّي لَوْ قُلْت إنِّي أَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا
يَكُونُ وَأَنَا جَازِمٌ بِاعْتِقَادِي لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ حِنْثٌ إذَا لَمْ
يَكُنْ . وَمَعْنَى كَلَامِي أَنِّي جَازِمٌ بِأَنَّ هَذَا سَيَكُونُ وَأُخْبِرُكُمْ
أَنَّهُ يَكُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَعَلَّقْت لَكُمْ إخْبَارِي لَا اعْتِقَادِي
وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِي إنْ شَاءَ اللَّهُ فَائِدَةٌ ؛ إذْ لَوْ كَانَ
الْمَعْنَى أَنِّي جَازِمٌ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ أَكُنْ
جَازِمًا مُطْلَقًا . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ اعْتِقَادِي
وَإِخْبَارِي إنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ هُوَ الْقَسَمَ الْأَوَّلَ ؛ وَإِنَّمَا
الْمَعْنَى أَنَّ اعْتِقَادِي ثَابِتٌ بِهِ وَإِخْبَارِي لَكُمْ مُعَلَّقٌ بِهِ
عَلَّقْته بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يُخْبِرَ بالمستقبلات إلَّا
مُعَلِّقًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ . فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ .
وَبِهَذَا
التَّقْسِيمِ يَظْهَرُ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنْ نَوَى بِالِاسْتِثْنَاءِ مَعْنَى
قَوْلِهِ { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا } { إلَّا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ } فَإِنَّ الرَّجُلَ مَأْمُورٌ أَنْ لَا يَقُولَ لَأَفْعَلَنَّهُ
غَدًا إلَّا أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا الْبَحْثِ
الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الرَّافِعَ لِلْكَفَّارَةِ إنَّمَا
يُعَلِّقُ مَا فِي الْيَمِينِ مِنْ مَعْنَى الْخَبَرِ الْمَحْضِ أَوْ الْمَشُوبِ ؛
لَا يُعَلِّقُ مَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الطَّلَبِ الْمَحْضِ أَوْ الْمَشُوبِ ؛ إذْ
مُخَالَفَةُ الطَّلَبِ لَا تُوجِبُ كَفَّارَةً وَإِنَّمَا يُوجِبُهَا مُخَالَفَةُ
الْخَبَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّفْعَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ فِي
الْمَشِيئَةِ تَعْلِيقٌ وَالتَّعْلِيقُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَمْ يَقَعْ ؛
بِخِلَافِ مَا قَدْ وَقَعَ . وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا
يَرْفَعُ الْإِنْشَاءَاتِ بِأَسْرِهَا لَا الطَّلَاقَ وَلَا غَيْرَهُ كَمَا لَا
يَرْفَعُ مُوجَبَ الطَّلَبِ . وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ هَذِهِ أَنَّ هَذِهِ
الصِّيَغَ الْمُغَلَّبُ عَلَيْهَا حُكْمُ الْإِنْشَاءَاتِ ؛ لِامْتِنَاعِ
الِاسْتِثْنَاءِ فِيهَا وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهَا بِأَسْرِهَا اسْتِثْنَاءُ
تَحْقِيقٌ ؛ لَا تَعْلِيقٍ كَقَوْلِهِ : كَانَ هَذَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَكَانَ
بِقُدْرَةِ اللَّهِ . وَيُخَرَّجُ مِنْ هَذَا " الِاسْتِثْنَاءِ فِي
الْأَيْمَانِ " إنْ عَادَ إلَى الْمُوَافَاةِ فَعَلَى بَابِهِ ؛ لِأَنَّ
إطْلَاقَ الِاسْمِ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ
وَخَالَفَهُ فِيهِ صَاحِبُ مُعَاذٍ بِتَأْوِيلِ صَحِيحٍ وَتَرْكُهُ جَائِزٌ .
وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ أَحْسَنَ
مِنْ
تَرْكِهِ . وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ أَحْمَد فِي . . . (1) وَمِنْ أَصْحَابِنَا
مَنْ أَوْجَبَهُ كَمَا أَنَّ الْمُرْجِئَةَ تَحْظُرُهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَدْ
يَرَى تَرْكَهُ أَحْسَنَ . فَالْإِقْسَامُ فِيهِ : إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ
أَوْ مَمْنُوعٌ . حَظْرًا أَوْ كَرَاهَةً أَوْ مَسْنُونًا أَوْ مُسْتَوِي
الْحَالَتَيْنِ . وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْيَمِينِ يَظْهَرُ مَعْنَى
الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ جَوَازِ نَسْخِ ذَلِكَ أَوْ الْخَلْفِ فِيهِ ؛
فَإِنَّ مَنْ رَآهُمَا خَبَرًا : قَالَ النَّسْخُ يَقْتَضِي الْكَذِبَ وَالْآخَرُ
يَقُولُ هُوَ خَبَرٌ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الطَّلَبِ . فَإِذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت
هَذَا ضَرَبْتُك . تَضَمَّنَ إنِّي مُرِيدٌ السَّاعَةَ لِضَرْبِك إذَا فَعَلْته
وَمُخْبِرُك بِهِ ؛ فَلَيْسَ هُوَ خَبَرًا مَحْضًا فَيَكُونُ النَّسْخُ عَائِدًا
إلَى مَا فِيهِ مِنْ الطَّلَبِ تَغْلِيبًا لِلطَّلَبِ عَلَى الْخَبَرِ كَمَا
أَنَّهُ فِي بَابِ الْمَشِيئَةِ وَالْكَفَّارَةِ غَلَبَ الْخَبَرُ عَلَى الطَّلَبِ
؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا تَضَمَّنَ مَعْنَيَانِ فَقَدْ يَغْلِبُ أَحَدُهُمَا
بِحَسَبِ الضمائم ؛ وَلِهَذَا فَرَّقَ فِي الْخَلْفِ بَيْنَ الْوَعْدِ
وَالْوَعِيدِ لِأَنَّ الْوَاعِدَ لَمَّا تَضَمَّنَ كَلَامُهُ طَلَبَ الْخَبَرِ
الْمَوْعُودِ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ فِي مَعْرِضِ الْمُقَابَلَةِ صَارَ ذَلِكَ
بِمَنْزِلَةِ الْتِزَامِهِ الْأَعْوَاضَ مِنْ الْعُقُودِ ؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ
وَجَبَ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ وَالْمُتَوَعِّدُ تَضَمَّنَ
كَلَامُهُ طَلَبَ الشَّرِّ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ فِي مَعْرِضِ الْمُقَابَلَةِ
بِمَنْزِلَةِ إلْزَامِهِ لِغَيْرِهِ عِوَضًا إذَا بَذَلَ هُوَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ
وَمَا وَجَبَ لَهُ عَلَى الْغَيْرِ فَلَهُ الْتِزَامُهُ وَلَهُ تَرْكُ
الْتِزَامِهِ .
فَقَوْلُك
: بِعْتُك هَذَا بِأَلْفِ . فِي مَعْنَى الْمُوَاعِدِ بِالْأَلْفِ عِنْدَ حُصُولِ
الْمَبِيعِ وَفِي مَعْنَى الْمُطَالِبِ بِالْمَبِيعِ عِنْدَ بَذْلِ الْأَلْفِ .
فَمُطَالَبَتُهُ بِالْوَعِيدِ الَّذِي هُوَ الْعُقُوبَةُ لَيْسَ بِأَحْسَنَ حَالًا
مِنْ مُطَالَبَتِهِ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ
؛ فَإِنَّ أَخْذَ الْحُقُوقِ مِنْ النَّاسِ فِيهَا شَوْبُ الْأَلَمِ فَلَا
يَخْلُصُ مِنْ نَوْعِ عُقُوبَةٍ وَإِنْ لَمْ تُسَمَّ بِهَا فَإِنَّمَا الْغَرَضُ
تَمْثِيلُ هَذَا بِهَذَا فِيمَا يَجِبُ لِلْمُتَكَلِّمِ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ
فَإِذَا كَانَ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَإِنْ تَضَمَّنَا خَبَرًا فَهُمَا
مُتَضَمِّنَيْنِ طَلَبًا صَيَّرَهُمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ الَّذِي
وَإِنْ كَانَ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْخَبَرِ عَنْ الْمَاضِي فَهُوَ إنْشَاءٌ
لِأَمْرِ حَاضِرٍ . وَهَذَانِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُمَا لَفْظَ الْخَبَرِ عَنْ
الْمُسْتَقْبَلِ فَهُمَا إنْشَاءٌ لِلْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ فَإِذَا كَانَ وَعْدٌ
وَجَبَ فَسُمِّيَ خَلْفُهُ كَذِبًا كَمَا قَالَ لِمَنْ قَالَ : { لَنَخْرُجَنَّ
مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا } { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ } وَإِذَا كَانَ وَعِيدًا لَمْ يَجِبْ إنْفَاذُهُ لِتَضَمُّنِهِ
مَعْنَى بَيَانِ الِاسْتِحْقَاقِ . وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ نَسْخُ الْوَعِيدِ
كَمَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ فِي قَوْلِهِ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ
أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } وَأَمَّا الْوَعْدُ بَعْدَ
الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ لِأَنَّهُ مُوجَبُ الْمَشْرُوطِ .
وَأَمَّا قَبْلَ الْعَمَلِ فَيَتَوَجَّهُ جَوَازُ نَسْخِهِ كَفَسْخِ
التَّعْلِيقَاتِ الْجَائِزَةِ غَيْرِ اللَّازِمَةِ مِنْ الْجَعَالَةِ وَنَحْوِهَا
؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِرْهَمٌ . فَلَهُ
فَسْخُ ذَلِكَ قَبْلَ الْعَمَلِ . وَالْفَسْخُ كَالنَّسْخِ . هَذَا فَسْخٌ
لِإِنْشَاءَاتِ هِيَ الْعُقُودُ الْمُتَضَمِّنَةُ الْتِزَامَ إرَادَةٍ لَهُ أَوْ
عَلَيْهِ وَهَذَا فَسْخٌ لِطَلَبِ أَيْضًا . وَكَمَا أَنَّ الْمُتَصَوَّرَ فِي
الْفَسْخِ أَنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الطَّلَبُ أَوْ الْإِذْنُ
فَالْفَسْخُ
رَفْعُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْإِرَادَةُ أَوْ الْإِبَاحَةُ وَكَذَلِكَ
الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ رَفْعُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ إرَادَةُ الْإِعْطَاءِ أَوْ
الْإِبَاحَةِ . فَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّ مِنْ الْكَلَامِ مَا
تَضَمَّنَ مَعْنَى الطَّلَبِ وَالْخَبَرِ وَهُوَ الْأَيْمَانُ وَالنُّذُورُ
وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْعُقُودُ . فَهَذَا " الْقِسْمُ الثَّالِثُ
" الْمُرَكَّبُ هُوَ الَّذِي اضْطَرَبَ النَّاسُ فِي أَحْكَامِهِ وَلِهَذَا
قَسَّمَ بَعْضُهُمْ الْكَلَامَ إلَى خَبَرٍ وَإِنْشَاءٍ لِيَكُونَ الْإِنْشَاءُ
أَعَمَّ مِنْ الطَّلَبِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْشِئُ طَلَبًا وَإِذْنًا وَمَا ثَمَّ
غَيْرُ الطَّلَبِ وَالْإِذْنِ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَطْلُبَ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ
مِنْ غَيْرِهِ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا . وَقَدْ يُقَالُ : الْإِذْنُ يَتَضَمَّنُ
مَعْنَى الطَّلَبِ ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْ نَفْسِهِ تَمْكِينَ الْمَأْذُونِ لَهُ
كَمَا أَنَّ الِالْتِزَامَ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الطَّلَبِ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَلَى
نَفْسِهِ حَقًّا يَطْلُبُهُ الْمُسْتَحِقُّ وُجُوبًا وَهُنَاكَ جَعَلَهُ لَهُ
مُبَاحًا . فَهَذَا هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : فَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى
طَلَبٍ أَوْ خَبَرٍ ؛ أَوْ مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
فَصْلٌ :
وَبِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ تَظْهَرُ مَسْأَلَةُ " الِاسْتِثْنَاءِ
فِي الظِّهَارِ " فَإِنَّ قَوْلَهُ أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ . وَأَنْت عَلَيَّ
كَظَهْرِ أُمِّي . قَالَ أَحْمَد : يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ ؛ لِأَنَّ
مُوجَبَهُ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ بِالْعَوْدِ . وَأَصْلُ أَحْمَد : أَنَّ
كُلَّ مَا شُرِعَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ شُرِعَ فِيهِ الْيَمِينُ وَإِلَّا فَلَا .
وَقَالَ
طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ ابْنُ بَطَّةَ والعكبري وَابْنُ عَقِيلٍ :
لَا يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ بِمَنْزِلَةِ التَّطْلِيقِ
وَالْإِعْتَاقِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَتَيْنِ كَالْقَسَمِ ؛ وَإِنَّمَا
هُوَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ كَسَائِرِ الْإِنْشَاءَاتِ ؛ فَقَوْلُهُ : أَنْت عَلَيَّ
حَرَامٌ كَقَوْلِهِ : أَنْت طَالِقٌ . لَيْسَ هُنَا فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ يُعَلَّقُ
بِالْمَشِيئَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : لَأَخْرُجَنَّ . وَهَذَا فِي بَادِئِ
الرَّأْيِ أَقْوَى لِلْمُشَابَهَةِ الصُّورِيَّةِ . لَكِنَّ قَوْلَ أَحْمَد
أَفْقَهُ وَأَدْخَلُ فِي الْمَعْنَى . وَإِنَّمَا هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي
ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَدَّ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ كَنَذْرِ
التَّبَرُّرِ ؛ لِلِاسْتِوَاءِ فِي الصُّورَةِ اللَّفْظِيَّةِ . وَمَنْ عَدَّهُ
يَمِينًا لِمُشَابَهَةِ الْيَمِينِ فِي مَعْنَى وَصْفِهَا وَهُوَ الْمَحْلُوفُ
عَلَيْهِ وَمَنْ أَعْطَاهُ حُكْمَهُمَا لِجَمْعِهِ مَعْنَاهُمَا . فَإِنَّ
نِصْفَهُ يُشْبِهُ الْيَمِينَ فِي الْمَعْنَى وَنِصْفَهُ يُشْبِهُ النَّذْرَ .
وَلِهَذَا سَائِرُ الْأَلْفَاظِ الْمُعَلَّقِ بِهَا الْأَحْكَامُ قَدْ يَنْظُرُ
نَاظِرٌ إلَى صُورَتِهَا وَآخَرُ إلَى مَعْنَاهَا وَآخَرُ إلَيْهِمَا مَعًا كَمَا
فِي قَوْلِهِ لَأَفْعَلَنَّ . الصُّورَةُ صُورَةُ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى قَدْ
يَكُونُ خَبَرًا وَقَدْ يَكُونُ طَلَبًا وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ . فَقَوْلُهُ :
أَنْت عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي . كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إنْشَاءً مَحْضًا لِلتَّحْرِيمِ
وَالتَّحْرِيمُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الطَّلَاقِ فَكَانَ عِنْدَهُمْ طَلَاقًا
عَلَى مُوجَبِ ظَاهِرِ لَفْظِهِ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيمَ .
فَجَعَلُوا اللَّازِمَ دَلِيلًا عَلَى الْمَلْزُومِ فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ ؛
لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ فَإِنَّ الْحَلَالَ لَا يَكُونُ
كَالْحَرَامِ الْمُؤَبَّدِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ طَلَاقًا وَإِنْ عُنِيَ بِهِ
الطَّلَاقُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمَعْنَى
الْفَاسِدِ وَهُوَ الْمُشَابَهَةُ
الْمُحَرَّمَةُ
؛ فَصَارَ كَقَوْلِهِ : أَنْت يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ . إذَا عَنَى بِهِ
الطَّلَاقَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْكُفْرِ الَّذِي
لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُثْبِتَهُ فِيهَا . أَوْ أَنْت أَتَانٌ أَوْ نَاقَةٌ أَوْ
أَنْت عَلَيَّ كَالْأَتَانِ وَالنَّاقَةِ . وَمِنْ هُنَا قَالَ أَكْثَرُ
الصَّحَابَةِ إنَّ قَوْلَهُ : أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ . أَيْضًا يَمِينٌ لَيْسَ
بِطَلَاقِ وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ كَالظِّهَارِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد . فَصَارَ قَوْلُهُ أَنْت عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي .
بِمَنْزِلَةِ لَا أَقْرَبَنَّك ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْمُشَابَهَةِ لِلْأُمِّ
يَقْتَضِي امْتِنَاعَهُ عَنْ وَطْئِهَا وَيَقْتَضِي رَفْعَ الْعَقْدِ . فَأَبْطَلَ
الشَّارِعُ رَفْعَ الْعَقْدِ لِأَنَّ هَذَا إلَى الشَّارِعِ ؛ لَا إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ
الْعُقُودَ والفسوخ أثبات اللَّهِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِإِذْنِ الشَّارِعِ
وَأَثْبَتَ امْتِنَاعَهُ مِنْ الْفِعْلِ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَطْءِ وَتَرْكَهُ
إلَيْهِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ فَلَمَّا صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : لَا
يَنْبَغِي مِنِّي وَطْؤُك . فَهَذَا مَعْنَى الْيَمِينِ ؛ لَكِنَّهُ جَعَلَهُ
يَمِينًا كُبْرَى لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ لِأَنَّ تِلْكَ
الْيَمِينَ شُرِعَ الْحَلِفُ بِهَا فَلَمْ يَعْصِ فِي عَقْدِهَا وَهَذِهِ
الْيَمِينُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ
تَرْكُهَا وَاجِبٌ فَكَانَتْ الْكَفَّارَةُ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ . وَلِهَذَا
كَانَتْ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ لَا تُوجِبُ تَحْرِيمَ الْفِعْلِ إلَى التَّكْفِيرِ
وَهَذِهِ الْيَمِينُ تُوجِبُ تَحْرِيمَ الْحِنْثِ إلَى التَّكْفِيرِ فَلَمْ يَكُنْ
لَهُ أَنْ يَحْنَثَ فِيهَا حَتَّى يُحِلَّهَا وَوَجَبَتْ فِيهَا الْكَفَّارَةُ
الْكُبْرَى . وَكَوْنُهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً لَا يَمْتَنِعُ انْدِرَاجُهَا فِي
اسْمِ الْيَمِينِ كَلَفْظِ النَّذْرِ هُوَ يَمِينٌ وَجُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ ؛
وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَا تَضَمَّنَ عَهْدًا
وَقَدْ
سَمَّى اللَّهُ كُلَّ تَحْرِيمٍ " يَمِينًا " بِقَوْلِهِ : { لِمَ
تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } - إلَى قَوْلِهِ - { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } كَمَا سَمَّى الصَّحَابَةُ نَذْرَ اللَّجَاجِ
وَالْغَضَبِ " يَمِينًا " وَهُوَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ ؛ نَظَرًا إلَى
الْمَعْنَى . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الظِّهَارَ لَوْ كَانَ إنْشَاءً مَحْضًا
لَأُوجِبَ حُكْمُهُ ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ كَفَّارَةٌ ؛ إذْ الْكَفَّارَةُ لَا
تَكُونُ لِرَفْعِ عَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ لِرَفْعِ إثْمِ الْمُخَالَفَةِ
الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَقْدُهُ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْ عَقْدِ
الْيَمِينِ وَعَقْدِ الظِّهَارِ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إلَّا إذَا وُجِدْت
الْمُخَالَفَةُ عُلِمَ أَنَّهُ يَمِينٌ . وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ يُوجِبُ لَفْظُ
الظِّهَارِ تَرْكَ الْعَقْدِ فَإِذَا أَمْسَكَهَا مِقْدَارَ مَا يُمْكِنُهُ
إزَالَتُهُ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ . وَأَمَّا أَحْمَد وَالْجُمْهُورُ
فَعِنْدَهُمْ يُوجِبُ لَفْظُهُ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْوَطْءِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ
حَرَامًا فَالْكَفَّارَةُ تَرْفَعُ هَذَا التَّحْرِيمَ فَلَا يَجُوزُ الْوَطْءُ
قَبْلَ ارْتِفَاعِهِ . وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَحْمَد فِي قَوْله : أَنْت عَلَيَّ
حَرَامٌ . أَنَّ مُوجَبَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْوَطْءِ عَلَى جِهَةِ
التَّحْرِيمِ ؛ لَكِنَّ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا يَقُولُ : إنَّهُ فِي
الظِّهَارِ مَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُعْطِيَ اللَّفْظَ ظَاهِرَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَا
تَصِيرُ مِثْلَ أُمِّهِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَاقْتَصَرَ بِهِ عَلَى بَعْضِهِ
وَهُوَ تَرْكُ الْوَطْءِ ؛ دُونَ تَرْكِ الْعَقْدِ كَمَا كَانُوا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ .
وَلَفْظُ
الْحَرَامِ يُمْكِنُ إثْبَاتُ مُوجَبِهِ . وَقَدْ يَقُولُ أَحْمَد : إنَّ
الْحَرَامَ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ مُوجَبِهِ ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الْعَيْنِ لَا
يَثْبُتُ أَبَدًا وَالتَّحْرِيمُ الْعَارِضُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ شَبِيهٍ ؛ إذْ
لَيْسَ هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْ مُطْلَقِ التَّحْرِيمِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ تَحْرِيمٌ
مُقَيَّدٌ فَاسْتُعْمِلَ بَعْضُ مُوجَبِ اللَّفْظِ وَهُوَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ
الَّذِي هُوَ وَطْءٌ وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إلَى الْعَيْنِ إنَّمَا
يُرَادُ بِهِ الْفِعْلُ فَكَأَنَّهُ [ قَالَ ] (1) وَطْؤُك حَرَامٌ . وَهَذَا فِي
مَعْنَى قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا أَطَؤُك . فَكَمَا أَنَّ الْإِيلَاءَ لَا
يَكُونُ طَلَاقًا وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَكَذَلِكَ التَّحْرِيمُ ؛ إذْ
الْإِيلَاءُ نَوْعٌ مِنْ الْأَيْمَانِ القسمية وَالظِّهَارَ نَوْعٌ مِنْ
الْأَيْمَانِ التحريمية . وَالْبَحْثُ فِيهِ يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ : نَضَعُهُ
عَلَى أَدْنَى دَرَجَاتِ التَّحْرِيمِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فَلَا
تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ إلَّا بِسَبَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : أَنْت طَالِقٌ . لَا
يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً ؛ وَكَمَا اُكْتُفِيَ فِي التَّشْبِيهِ بِالتَّحْرِيمِ .
أَمَّا إذَا نَوَى الطَّلَاقَ فَيُقَالُ : وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ بِالظِّهَارِ .
فَصْلٌ :
وَيَتَّصِلُ بِهَذَا " إذَا حَلَفَ بِالظِّهَارِ أَوْ بِالْحَرَامِ "
عَلَى حَظٍّ أَوْ مَنْعٍ كَقَوْلِهِ إنْ فَعَلْت هَذَا فَأَنْت عَلَيَّ كَظَهْرِ
أُمِّي أَوْ حَرَامٌ ؛ أَوْ الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي أَوْ الظِّهَارُ لَا
أَفْعَلُهُ أَوْ لَأَفْعَلَنَّهُ . فَهَذَا أَصْحَابُنَا فِيهِ إذَا حَنِثَ
بِالظِّهَارِ كَمَا أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ ؛ وَلِهَذَا
قَالُوا فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ : مِنْهَا الظِّهَارُ .
وَكُنْت
أُفْتِي بِهَذَا تَقْلِيدًا ؛ وَلِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحُجَّةِ مِنْ أَنَّهُ
حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْت هَذَا فَأَنْت عَلَيَّ
حَرَامٌ . عُقُوبَةً لَهَا عَلَى فِعْلِهِ . وَأَفْتَيْت بَعْدَ هَذَا أَنَّ
عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الْفِعْلِ وَعَدَمَ
التَّحْرِيمِ كَمَا قُلْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ " نَذْرِ اللَّجَاجِ
وَالْغَضَبِ " وَكَمَا قُلْنَاهُ فِي قَوْلِهِ : هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ
نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا وَقَوْلِهِ : هُوَ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ
وَالْمَيْتَةَ إنْ فَعَلَ كَذَا . فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ
الْحُكْمَ عِنْدَ الشَّرْطِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلٍ ؛
فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ فَعَلَ كَذَا ؛ وَلَيْسَ غَرَضُهُ
تَحْرِيمَ الْحَلَالِ عِنْدَ الْفِعْلِ ؛ وَإِنَّمَا غَرَضُهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ
الْفِعْلِ وَذِكْرُ الْتِزَامِ ذَلِكَ تَقْدِيرًا تَحْقِيقًا لِلْمَنْعِ كَمَا
ذُكِرَ الْتِزَامُ التَّهَوُّدِ وَالتَّنَصُّرِ تَقْدِيرًا كَمَا أَنَّهُ مَعْنَى
الْيَمِينِ بِاَللَّهِ هَتَكْت حُرْمَةَ الْأَيْمَانِ بِاَللَّهِ إنْ فَعَلْت
هَذَا أَوْ نَقَصْت حُرْمَةَ اللَّهِ أَوْ اسْتَخْفَفْت بِحُرْمَةِ اللَّهِ إنْ
فَعَلْت . وَمُوجَبُ الْأَيْمَانِ كُلِّهَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ الْوَفَاءُ
وَأَنَّهُ مَتَى حَنِثَ فَقَدْ هَتَكَ أَيْمَانَهُ وَأَنَّهُ تَهَوَّدَ
وَتَنَصَّرَ كَمَا أَنَّ مُوجَبَ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ مِنْ اللَّفْظِ
وُجُوبُ الْوَفَاءِ ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطِ يَجِبُ عِنْدَ
وُجُودِهِ وَالْحَالِفُ بِشَيْءِ عَلَى فِعْلٍ قَدْ الْتَزَمَ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَجَعَلَهُ
مُعَلَّقًا بِمُعَظَّمِهِ الْمَحْلُوفِ بِهِ . فَمَتَى لَمْ يَفْعَلْهُ فَقَدْ
هَتَكَ تِلْكَ الْحُرْمَةَ .
وَقَوْلُهُ
: أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ بِكَذَا . فِي مَعْنَى قَوْلِهِ أَعْقِدُهُ بِهِ
وَأُلْصِقُهُ بِهِ ؛ وَلِهَذَا يُسَمَّى الْمُصَاحِبُ " حَلِيفًا "
كَمَا كَانَ يُقَالُ لِعُثْمَانِ : " حَلِيفُ الْمِحْرَابِ "
وَعِلَّتُهُ لَا يَتَخَلَّفُ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ الْبَاءَ لِإِلْصَاقِ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِالْمَحْلُوفِ بِهِ ؛ وَإِنَّمَا أَتَى بِلَامِ الْقَسَمِ
تَوْكِيدًا ثَانِيًا كَأَنَّهُ قَالَ : أُلْصِقُ وَأَعْتَقِدُ بِاَللَّهِ
مَضْمُونَ قَوْلِي لَأَفْعَلَنَّ . وَلِهَذَا سُمِّيَ التَّكْفِيرُ قَبْلَ
الْحِنْثِ " تَحِلَّةً " لِأَنَّهُ يَحِلُّ هَذَا الْعَقْدَ الَّذِي
عُقِدَ بِالْمَحْلُوفِ بِهِ مِثْلَ فَسْخِ الْبَيْعِ الَّذِي يَحِلُّ مَا بَيْنَ
الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مِنْ الِانْعِقَادِ . فَالشَّارِعُ جَعَلَ الْأَيْمَانَ
مِنْ بَابِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ بِهَذَا الْبَدَلِ ؛ لَا مِنْ اللَّازِمَةِ
مُطْلَقًا كَمَا كَانَ الْعَقْدُ بَيْنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَحْلُوفِ
بِهِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ سَوَّغَ سُبْحَانَهُ لِعَبْدِهِ أَنْ يَحِلَّ
هَذَا الْعَقْدَ الَّذِي عُقِدَ لِي وَبِي بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ
وَقُرْبَةٌ وَكَانَ الْعَبْدُ مُخَيَّرًا بَيْنَ تَمَامِ عَقْدِهِ وَبَيْنَ
حَلِّهِ بِالْبَدَلِ الْمَشْرُوعِ ؛ إذْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي عَقَدَ
هَذَا الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا كَانُوا فِي أَوَّلِ
الْإِسْلَامِ مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الصِّيَامِ الَّذِي أَوْجَبَهُ وَبَيْنَ
تَرْكِهِ بِالْكَفَّارَةِ وَكَمَا أَنَّ الْمُعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إذَا
أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُنْشِئَ لِلْحَجِّ
سَفَرًا وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُ بِهَدْيِ التَّمَتُّعِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي
إكْمَالِ الْحَجِّ بِالسَّفَرِ أَوْ بِالْهَدْيِ . وَلِهَذَا قُلْنَا : لَيْسَ
جبرانا . لِأَنَّ دَمَ الْجُبْرَانِ لَا يُخَيَّرُ فِي سَبَبِهِ كَتَرْكِ
الْوَاجِبَاتِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ هَدْيٌ وَاجِبٌ كَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ
أَوْ
الْبَدَنِيَّةِ الْمَالِيَّةِ وَهُوَ الْهَدْيُ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ : إذَا
كَانَ وَاجِبًا فَلَا يُؤْكَلُ مِنْهُ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ ؟ قُلْنَا هَدْيُ
النَّذْرِ أَيْضًا فِيهِ خِلَافٌ وَمَا وَجَبَ مُعَيَّنًا يَأْكُلُ مِنْهُ
بِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الذَّابِحِ لِلَّهِ مُهْدِيًا إلَى بَيْتِهِ
أَعْظَمَ الْمَقْصُودَيْنِ ؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ
تَفْرِقَتِهِ فِي الْحَرَمِ ؛ وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ نُوجِبُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ
هَدْيٌ دُونَ مَا هُوَ نُسُكٌ ؛ لِيَظْهَرَ تَحْقِيقُهُ بِتَسْمِيَتِهِ هَدْيًا
وَهُوَ الْإِهْدَاءُ إلَى الْكَعْبَةِ . فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُقْتَضِي
لِلْوَفَاءِ قَائِمٌ وَإِنَّمَا الشَّارِعُ جَعَلَ الْكَفَّارَةَ رُخْصَةً ثُمَّ
قَدْ يَجِبُ وَقَدْ يُسْتَحَبُّ كَمَا فِي أَكْلِ الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ :
فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي " نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ "
وَمَا أَشْبَهَهُ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ " إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْت
عَلَيَّ حَرَامٌ " ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَرَادَ ثُبُوتَ التَّحْرِيمِ
عُقُوبَةً لَهَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَهَا أَوْ لِأُمِّهَا : إنْ فَعَلْت كَذَا
فَأَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ . فَهُنَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ ثُبُوتَ التَّحْرِيمِ
كَمَا أَنَّ فِي " نَذْرِ التَّبَرُّرِ " مَقْصُودُهُ ثُبُوتُ
الْوُجُوبِ وَكَمَا فِي " الْخُلْعِ " مَقْصُودُهُ أَخْذُ الْعِوَضِ
وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَهَذَا التَّفْرِيقُ مُتَوَجِّهٌ عَلَى أَصْلِنَا فَإِنَّا
كَمَا فَرَّقْنَا فِي الْتِزَامِ الْإِيجَابِ الْمُعَلَّقِ يَنْبَغِي أَنْ نُفَرِّقَ
فِي الْتِزَامِ التَّحْرِيمِ الْمُعَلَّقِ . وَيَنْبَغِي أَنْ نُخَيِّرَهُ إذَا
حَنِثَ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِالتَّحْرِيمِ وَبَيْنَ تَكْفِيرِ يَمِينِهِ كَمَا
خَيَّرْنَاهُ فِي النَّذْرِ .
ثُمَّ
إنَّ طَرَدْنَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ - كَمَا يَتَخَرَّجُ عَلَى أُصُولِنَا
وَكَمَا يُؤْثَرُ عَنْ الصَّحَابَةِ جُعِلَ الْعِتْقُ دَاخِلًا فِي " نَذْرِ
اللَّجَاجِ " وَعَنْ طاوس وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرَوْنَ
الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ شَيْئًا وَتَوَقَّفَ الرَّاوِي : هَلْ كَانَ طاوس
يَعُدُّهَا يَمِينًا ؟ - فَهُوَ مُتَوَجِّهٌ وَهُوَ أَقْوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ
وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَإِنْ فَرَّقْنَا بَيْنَ
الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَبَيْنَ الْحَرَامِ وَالظِّهَارِ فَمُتَوَجِّهٌ أَيْضًا
لِأَنَّهُ هُنَاكَ عَلَّقَ نَفْسَ الْوُقُوعِ الَّذِي لَا يُعَلَّقُ بِمَشِيئَةِ
وَهُنَاكَ عَلَّقَ يَمِينًا كَأَنَّهُ قَالَ : إنْ فَعَلْت هَذَا فَعَلَيَّ
يَمِينُ حَرَامٍ أَوْ فَعَلَيَّ يَمِينُ ظِهَارٍ أَوْ إنْ فَعَلْت هَذَا صِرْت
مُظَاهِرًا وَمُحَرِّمًا . وَهُوَ إذَا صَارَ مُظَاهِرًا مُحَرِّمًا لَمْ يَقَعْ
بِهِ شَيْءٌ ؛ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ تَحْرِيمُ تَزَيُّلِهِ الْكَفَّارَةَ فَصَارَ
مِثْلَ قَوْلِهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ فَأَنَا حَاجٌّ أَوْ
أَنَا مُحْرِمٌ . وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ فَلْيُتَحَقَّقْ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي رَجُلٍ حَلَفَ أَنَّهُ مِنْ حِينِ عَقَلَ لَمْ يَفْعَلْ الذَّنْبَ وَكَانَ
قَدْ فَعَلَ هَذَا الذَّنْبَ وَلَهُ نَحْوُ عِشْرِينَ سَنَةً ؛ وَنَوَى بِقَلْبِهِ
أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْ حِينِ بَلَغَ . فَهَذَا يُنْظَرُ إلَى مُرَادِهِ
بِقَوْلِهِ : مِنْ حِينِ عَقَلَ . فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنْ حِينِ بَلَغَ
الْحُلُمَ . فَهُوَ بَارٌّ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ . وَإِنْ كَانَ
مُرَادُهُ : أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْ حِينِ مَيَّزَ . فَابْنُ عَشْرِ سِنِينَ
يُمَيِّزُ . فَهَذَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ كَذِبَ نَفْسِهِ فَيَمِينُهُ غَمُوسٌ
وَهِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّهِ مِنْهَا . فَإِنْ
كَانَتْ مِنْ الْأَيْمَانِ الْمُكَفَّرَةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : جُمْهُورُ أَهْلِ
الْعِلْمِ يَقُولُونَ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ ؛ وَإِنَّمَا تُمْحَى
بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد
فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . و " الْقَوْلُ الثَّانِي "
أَنَّ فِيهَا الْكَفَّارَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي
الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ فَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ مُكَفَّرَةٌ
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ
وَالْحَرَامِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَالْكُفْرِ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت
كَذَا وَكَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ أَوْ عَلَيَّ الْحَرَامُ
أَوْ الطَّلَاقُ
يَلْزَمُنِي
لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَإِنْ كُنْت فَعَلْت كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ أَوْ إنْ
كُنْت فَعَلْت كَذَا فَإِنِّي يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ . فَهَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " فَقِيلَ :
إذَا حَنِثَ يَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ . وَقِيلَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَقِيلَ :
بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ كَمَا بُسِطَ
الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِنْ كَانَ قَدْ حَلَفَ
بِهَذِهِ الْأَيْمَانِ يَمِينًا غَمُوسًا فَمَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي
الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَقَالَ إنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ تُكَفَّرُ فَإِنَّهُ
يُوجِبُ فِيهَا كَفَّارَةً . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : الْيَمِينُ الْغَمُوسُ
أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ فَلَهُمْ " قَوْلَانِ " " أَحَدُهُمَا
" أَنَّ هَذِهِ يَلْزَمُهُ فِيهَا مَا الْتَزَمَهُ مِنْ نَذْرٍ وَطَلَاقٍ
وَعِتَاقٍ وَكُفْرٍ . وَإِنْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ لَا تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ
الْمَغْفُورَةُ وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ
مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد . وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ
كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ } قَالُوا لِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ غَيْرُ
مُنْعَقِدَةٍ بَلْ الْحِنْثُ فِيهَا مُقَارِنٌ لِلْعَفْوِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا
وَقَدْ الْتَزَمَ فِيهَا مَا الْتَزَمَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِهِ فَيَجِبُ
إلْزَامُهُ بِذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كَذِبِهِ وَزَجْرًا لِمَنْ يَحْلِفُ
يَمِينًا كَاذِبَةً بِخِلَافِ الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ فَإِنَّ صَاحِبَهَا
مُطِيعٌ لِلَّهِ لَيْسَ بِعَاصٍ .
و
" الْقَوْلُ الثَّانِي " وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنْ لَا
يَلْزَمَهُ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ كُفْرٍ وَغَيْرِهِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ
فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنَّمَا قَصَدَ فِي كِلَا
الْمَوْضِعَيْنِ الْيَمِينَ . فَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ إذَا كَانَ كَاذِبًا أَنْ
يَكُونَ كَافِرًا وَلَا أَنْ يَلْزَمَهُ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ نَذْرٍ وَطَلَاقٍ
وَعِتَاقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا لَمْ يَقْصِدْ إذَا حَنِثَ فِي الْيَمِينِ عَلَى
الْمُسْتَقْبَلِ أَنْ يَلْزَمَهُ ذَلِكَ ؛ بَلْ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ وَمَقْصُودُهُ
هُوَ الْيَمِينُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ : فَمَا فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ الْكُفْرِ
وَالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَبَيْنَ
الْحَلِفِ بِذَلِكَ يُفَرَّقُ بِهِ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ ؛ لَكِنْ هُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ
قَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ بِيَمِينِهِ الْغَمُوسِ فَعَلَيْهِ أَنْ
يَتُوبَ إلَى اللَّهِ مِنْهَا كَمَا يَتُوبُ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الْكَبَائِرِ
وَإِذَا تَابَ مِنْ الذَّنْبِ كَانَ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ؛ وَلَا يَصْدُرُ
كُفْرٌ وَلَا نَذْرٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا عِتَاقٌ بَلْ إنَّمَا صَدَرَ مِنْهُ
الْحَلِفُ بِذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ هَلْ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ ؟ أَوْ
الْحَجُّ رَاكِبًا وَيَفْتَدِي ؟ أَوْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدِ جَمَاهِيرِ
عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ :
مِثْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ
بِنْتِ عُمَرَ وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ وَبِذَلِكَ أَفْتَى ابْنُ الْقَاسِمِ ابْنَهُ لَمَّا حَنِثَ فِي هَذِهِ
الْيَمِينِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . كَمَا بُسِطَ
فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مِنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا
مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ
أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ } { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } {
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ
فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ
حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } { لَا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ
كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فَذَكَرَ اللَّهُ
اسْمَ " الْأَيْمَانِ " فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ فِي قَوْلِهِ : { لَا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } وَقَوْلِهِ { بِمَا
عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } وَقَوْلِهِ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا
حَلَفْتُمْ } وَقَوْلِهِ : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ
أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } وَهَذَا
الِاسْتِفْهَامُ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ
لَا يَسْتَفْهِمُ لِطَلَبِ الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ فَإِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ ؛ وَلَكِنَّ مِثْلَ هَذَا يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ "
اسْتِفْهَامَ إنْكَارٍ " وَاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ يَكُونُ بِتَضَمُّنِ
الْإِنْكَارِ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ : إمَّا إنْكَارَ نَفْيٍ إنْ كَانَ
مَضْمُونُهَا خَبَرًا وَإِمَّا إنْكَارَ نَهْيٍ إنْ كَانَ مَضْمُونُهَا إنْشَاءً .
وَالْكَلَامُ إمَّا خَبَرٌ وَإِمَّا إنْشَاءٌ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ { عَفَا
اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } وَقَوْلِهِ : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا
تَفْعَلُونَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَاَللَّهُ تَعَالَى نَهَى نَبِيَّهُ عَنْ
تَحْرِيمِ الْحَلَالِ كَمَا نَهَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَرَضَ
لَهُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِهِمْ كَمَا ذَكَرَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ بَعْدَ
النَّهْيِ عَنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ . وَقَوْلُهُ : {
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } هُوَ مَا ذَكَرَهُ
فِي
سُورَةِ الْمَائِدَةِ . وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ التَّحْرِيمِ تَحْرِيمَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَلَالَ : إمَّا أَمَتَهُ مَارِيَةَ
الْقِبْطِيَّةَ وَإِمَّا الْعَسَلَ ؛ وَإِمَّا كِلَاهُمَا . وَكَذَلِكَ آيَةُ
الْمَائِدَةِ فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ حَرَّمُوا
الطَّيِّبَاتِ إمَّا تَبَتُّلًا وَتَرَهُّبًا كَمَا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ عُثْمَانُ
بْنُ مَظْعُونٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى نَهَاهُمْ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ؛ وَإِمَّا غَيْرَ ذَلِكَ .
وَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِمَنْ حَرَّمَ الْحَلَالَ مِنْ
هَذِهِ الْأُمَّةِ مَخْرَجًا ؛ وَأَنَّ الْيَمِينَ الْمُتَضَمِّنَةَ تَحْرِيمَهُ
لِلْحَلَالِ لَهُ مِنْهَا مَخْرَجٌ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ .
لَيْسُوا كَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الَّذِينَ كَانُوا إذَا حَرَّمُوا شَيْئًا
حُرِّمَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُكَفِّرُوا قَالَ تَعَالَى : {
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ
عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } وَلِذَلِكَ قَدْ قِيلَ
: إنَّهُمْ كَانُوا إذَا حَلَفُوا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ لَزِمَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ أَنْ يُكَفِّرُوا ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ لَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ
الْيَمِينِ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ أَيُّوبَ بِمَا يُحَلِّلُ يَمِينَهُ
لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كَفَّارَةٌ . فَإِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْأَشْيَاءِ
: تَارَةً تَكُونُ حَضًّا وَإِلْزَامًا وَتَارَةً تَكُونُ مَنْعًا وَتَحْرِيمًا .
كَمَا أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَحُكْمَهُ عَلَى خَلْقِهِ يَنْقَسِمُ
إلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَلِذَا كَانَ " الظِّهَارُ " فِي
الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوَّلِ الْإِسْلَامِ طَلَاقًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ
الْكَفَّارَةَ وَكَذَلِكَ كَانَ " الْإِيلَاءُ " طَلَاقًا حَتَّى
أَنْزَلَ اللَّهُ حُكْمَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الظِّهَارَ نَوْعٌ مِنْ
التَّحْرِيمِ ؛ فَمُوجَبُهُ رَفْعُ الْمِلْكِ ؛ إذْ الزَّوْجَةُ لَا تَكُونُ
مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ . و " الْإِيلَاءُ " يَقْتَضِي
عِنْدَهُمْ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ وَذَلِكَ يُنَافِي النِّكَاحَ .
وَقَدْ
ذَكَرَ اللَّهُ لَفْظَ " الْيَمِينِ " فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ
فَقَالَ تَعَالَى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ
بِاللَّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إنَّا إذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ } - إلَى
قَوْلِهِ - { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ
عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ
شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إنَّا إذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } { ذَلِكَ
أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ
تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ
فِي سِيَاقِ ذِكْرِ مُعَاهَدَةِ الْمُشْرِكِينَ : { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ
الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } { أَلَا
تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ
وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ
اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا
وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا
تَفْعَلُونَ } { وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ
قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ
أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } وَقَالَ
تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ
آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ } وَقَالَ تَعَالَى : {
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ
قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ } قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ - وَهَذَا لَفْظُ
الْجَوْهَرِيِّ - الْيَمِينُ الْقَسَمُ . وَالْجَمْعُ أَيْمُنٌ وَأَيْمَانٌ
فَقَالَ : سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَحَالَفُوا يُمْسِكُ كُلُّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ عَلَى يَمِينِ صَاحِبِهِ .
فَصْلٌ
:
وَلَفْظُ " الْيَمِينِ " فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ وَكَذَا فِي لَفْظِ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ خُوطِبُوا
بِالْقُرْآنِ أَوَّلًا يَتَنَاوَلُ عِنْدَهُمْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ بِاَللَّهِ
بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ الْحَلِفُ وَبِأَيِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ كَانَ الْحَلِفُ
. وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ بِصِفَاتِهِ كَعِزَّتِهِ و . . . وَأَحْكَامُهُ
كَالتَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابِ ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ وَالْإِيجَابَ مِنْ
أَحْكَامِهِ . وَالْحَالِفُ إذَا قَالَ : أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَيَكُونَنَّ .
فَهُوَ قَدْ الْتَزَمَ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَأَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ
حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَقَدَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ ؛ فَجَعَلَ لُزُومَ
الْفِعْلِ مَعْقُودًا بِاَللَّهِ لِئَلَّا يُمْكِنَ فَسْخُهُ وَنَقْضُهُ فَمُوجَبُ
يَمِينِهِ فِي نَفْسِهَا لُزُومُ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَهُ أَوْ انْتِقَاضُ إيمَانِهِ
بِاَللَّهِ الَّذِي عَقَدَ بِهِ الْيَمِينَ . وَهَذَا الثَّانِي لَا سَبِيلَ لَهُ
إلَيْهِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ ؛ لَكِنَّ الشَّارِعَ فِي شَرِيعَتِنَا لَمْ
يَجْعَلْ لَهُ وِلَايَةَ التَّحْرِيمِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْإِيجَابَ عَلَى
نَفْسِهِ مُطْلَقًا ؛ بَلْ شَرَعَ لَهُ تَحِلَّةَ يَمِينِهِ وَشَرَعَ لَهُ
الْكَفَّارَةَ الرَّافِعَةَ لِمُوجَبِ الْإِثْمِ الْحَاصِلِ بِالْحِنْثِ فِي
الْيَمِينِ إذَا كَانَ الْحِنْثُ وَالتَّكْفِيرُ خَيْرًا مِنْ الْمُقَامِ عَلَى
الْيَمِينِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي " الْيَمِينِ " هَلْ
تَقْتَضِي إيجَابًا وَتَحْرِيمًا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ ؟ أَوْ لَا تَقْتَضِي
ذَلِكَ ؟ أَوْ هِيَ مُوجِبَةٌ لِذَلِكَ لَوْلَا مَا جَعَلَهُ الشَّرْعُ مَانِعًا
مِنْ هَذَا الِاقْتِضَاءِ ؟ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " أَصَحُّهَا
" الثَّالِثُ " كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
.
و
" الْمَقْصُودُ " أَنْ نَذْكُرَ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ مَا
يُبَيِّنُ مَعْنَى الْيَمِينِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَفِي
لُغَتِهِمْ ؛ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زريع حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ
كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ الْقِسْمَةَ فَقَالَ :
إنْ عُدْت تَسْأَلُنِي الْقِسْمَةَ فَكُلُّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : إنَّ الْكَعْبَةَ غَنِيَّةٌ عَنْ مَالِك كَفِّرْ عَنْ
يَمِينِك وَكَلِّمْ أَخَاك سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا يَمِينَ عَلَيْك وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ الرَّبِّ
وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَلَا فِي مَا لَا تَمْلِكُ } . وَهَذَا الرَّجُلُ
تَكَلَّمَ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ صِيغَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَعَلَّقَ
وُجُوبَ صَرْفِ مَالِهِ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ عَلَى مَسْأَلَتِهِ الْقِسْمَةَ
وَهَذِهِ الصِّيغَةُ يَقْصِدُ بِهَا " نَذْرَ التَّبَرُّرِ " كَقَوْلِهِ
إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي وَسَلِمَ مَالِي الْغَائِبُ فَثُلْثُ مَالِي صَدَقَةٌ
وَيَقْصِدُ بِهَا نَذْرَ الْيَمِينِ الَّذِي يُسَمَّى " نَذْرَ اللَّجَاجِ
وَالْغَضَبِ " كَمَا قَصَدَ هَذَا الْمُعَلَّقَ . وَالصِّيغَةُ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ صِيغَةُ تَعْلِيقٍ لَكِنَّ الْمَعْنَى وَالْقَصْدَ مُتَبَايِنٌ ؛
فَإِنَّهُ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ مَقْصُودُهُ حُصُولُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ
نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ كَشِفَاءِ الْمَرِيضِ وَسَلَامَةِ الْمَالِ . وَالْتِزَامِ
طَاعَةِ اللَّهِ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى نِعْمَتِهِ وَتَقَرُّبًا إلَيْهِ وَفِي
النَّوْعِ الْآخَرِ مَقْصُودُهُ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ فِعْلٍ
أَوْ يَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَحَلَفَ فَالْوُجُوبُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ وُجُوبِ هَذَا
عَلَيْهِ وَكَرَاهَةِ ذَلِكَ وَبُغْضِهِ إيَّاهُ كَمَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْكُفْرِ
وَيُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ فَيَقُولُ : إنْ فَعَلْت فَهُوَ
يَهُودِيٌّ
أَوْ نَصْرَانِيٌّ . وَلَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ ؛ بَلْ لِفَرْطِ
بُغْضِهِ لِلْكُفْرِ بِهِ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ؛ قَصْدًا لِانْتِفَاءِ
الْمَلْزُومِ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ ؛ فَإِنَّ الْكُفْرَ اللَّازِمَ يَقْصِدُ
نَفْيَهُ فَقَصَدَ بِهِ الْفِعْلَ لِنَفْيِ الْفِعْلِ أَيْضًا كَمَا إذَا حَلَفَ
بِاَللَّهِ فَلِعَظَمَةِ اللَّهِ فِي قَلْبِهِ عَقَدَ بِهِ الْيَمِينَ لِيَكُونَ
الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَازِمًا لِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ
وُجُودِ الْمَلْزُومِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وُجُودُ اللَّازِمِ وَهُوَ
لُزُومُ الْفِعْلِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا
يُفْعَلَ أَمْرًا جُعِلَ امْتِنَاعُهُ مِنْهُ لَازِمًا لِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ
وَهَذَا هُوَ عَقْدُ الْيَمِينِ ؛ وَلَيْسَ مَقْصُودُهُ رَفْعَ إيمَانِهِ بَلْ
مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ إيمَانُهُ وَلَا مَا عَقَدَهُ بِهِ مِنْ
الِامْتِنَاعِ ؛ فَسَمَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هَذَا " يَمِينًا "
وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ
بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَمِينَ عَلَيْك
وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَلَا فِي مَا
لَا يُمْلَكُ } . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ
الْيَمِينَ وَالنَّذْرَ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْيَمِينَ
وَالنَّذْرَ ؛ فَإِنَّ الْيَمِينَ - مَقْصُودُهَا الْحَضُّ أَوْ الْمَنْعُ مِنْ
الْإِنْشَاءِ . أَوْ التَّصْدِيقُ أَوْ التَّكْذِيبُ فِي الْخَبَرِ . وَالنَّذْرَ
مَا يُقْصَدُ بِهِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ وَلِهَذَا أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ
الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ الْتَزَمَ طَاعَةً لِلَّهِ فَأَوْجَبَ
عَلَى نَفْسِهِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ قَصْدًا لِلتَّقَرُّبِ بِذَلِكَ
الْفِعْلِ إلَى اللَّهِ . وَهَذَا كَمَا أَوْجَبَ الشَّارِعُ عَلَى مَنْ شَرَعَ
فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إتْمَامَ ذَلِكَ لِلَّهِ ؛ لِقَوْلِهِ :
{
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وَإِنْ كَانَ الشَّارِعُ
مُتَطَوِّعًا . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ إتْمَامِ غَيْرِهِمَا .
وَلَمْ يُوجِبْ سُبْحَانَهُ الْوَفَاءَ بِالْيَمِينِ لِأَنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِهَا
الْحَضُّ وَالْمَنْعُ ؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَلَكِنَّ صِيغَةَ النَّذْرِ تَكُونُ غَالِبًا بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ صِيغَةِ
الْمَجَازَاتِ كَقَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي كَانَ عَلَيَّ عِتْقُ
رَقَبَةٍ . وَصِيغَةُ الْيَمِينِ غَالِبًا تَكُونُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ
وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْقَسَمُ وَالْجَزَاءُ
كَقَوْلِهِ { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } { فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } { فَأَعْقَبَهُمْ
نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا
وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } . وَلِهَذَا تَرْجَمَ الْفُقَهَاءُ عَلَى
إحْدَى الصِّيغَتَيْنِ " بَابَ التَّعْلِيقِ بِالشُّرُوطِ " كَتَعْلِيقِ
الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَالنَّذْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَعَلَى الْأُخْرَى "
بَابَ جَامِعِ الْأَيْمَانِ " كَمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ
وَالطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ وَالظِّهَارُ وَالْحَرَامُ وَغَيْرُ ذَلِكَ .
وَمَسَائِلُ أَحَدِ الْبَابَيْنِ مُخْتَلِطَةٌ بِمَسَائِلِ الْآخَرِ . وَلِهَذَا
كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ ذَكَرَ مَسَائِلَ جَامِعِ الْأَيْمَانِ مَعَ
مَسَائِلِ التَّعْلِيقِ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهَا فِي " بَابِ الْأَيْمَانِ
" وَالْمَنْفِيُّ بِإِحْدَى الصِّيغَتَيْنِ مُثْبَتٌ بِالْأُخْرَى
وَالْمُقَدَّمُ فِي إحْدَاهُمَا مُؤَخَّرٌ فِي الْأُخْرَى : فَإِذَا قَالَ : إنْ
فَعَلْت كَذَا فَمَالِي حَرَامٌ أَوْ عَبْدِي حُرٌّ أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ
مَالِي صَدَقَةٌ . أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا وَكَذَا حَجَّةٍ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ
نَحْوَ ذَلِكَ
فَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُهُ لَا يَفْعَلُ كَذَا أَوْ
الْعِتْقُ أَوْ الْحَرَامُ يَلْزَمُهُ وَالْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ يَلْزَمُهُ لَا
يَفْعَلُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَفِي صِيغَةِ الْجَزَاءِ أَثْبَتَ الْفِعْلَ
وَقَدَّمَهُ وَأَخَّرَ الْحُكْمَ . وَلَمَّا أَخَّرَ الْفِعْلَ وَنَفَاهُ
وَقَدَّمَ الْحُكْمَ وَالْمَحْلُوفَ بِهِ مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَكُونَ وَلَا
يَهْتِكَ حُرْمَتَهُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا كَافِرٌ
أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لِأَنَّهُ
كَذَا . وَلِهَذَا كَانَ نَظَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابِهِ إلَى مَعْنَى الصِّيغَةِ وَمَقْصُودِ الْمُتَكَلِّمِ سَوَاءً
كَانَتْ بِصِيغَةِ الْمَجَازَاتِ أَوْ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ . فَإِذَا كَانَ
مَقْصُودُهُ الْحَطَّ أَوْ الْمَنْعَ جَعَلُوهُ يَمِينًا وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْمَجَازَاتِ
وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ جَعَلُوهُ نَاذِرًا وَإِنْ
كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ النَّاذِرَ حَالِفًا ؛ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِلْفِعْلِ بِصِيغَةِ
الْمُجَازَاةِ . فَإِنْ كَانَ الْمَنْذُورُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمَرَهُ
بِهِ وَإِلَّا جَعَلَ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ . وَكَذَلِكَ الْحَالِفُ
إنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ إذَا حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى
غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا اعْتِبَارًا بِالْمَقْصُودِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ
فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ أُمِرَ بِهِ وَهُوَ
النَّذْرُ الَّذِي يُوَفَّى بِهِ وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ . وَإِنْ كَانَ
غَيْرُهُ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ وَأَرْضَى مِنْهُ أُمِرَ بِالْأَحَبِّ الْأَرْضَى
لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ النَّذْرِ وَأُمِرَ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ .
وَهَذَا كُلُّهُ تَحْقِيقًا لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْ يَكُونَ
الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَنَّ كُلَّ يَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ
شَرْطٍ تَضَمَّنَ مَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ
لَازِمًا بَلْ يَجِبُ تَقْدِيمُ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ .
فَكُلُّ
مَا يَقْصِدُهُ الْعِبَادُ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْتُرُوكِ إنْ كَانَ مِمَّا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِهِ وَبِالْإِعَانَةِ
عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ فَإِنَّ اللَّهَ
يَنْهَى عَنْهُ وَعَنْ الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ
فَهُوَ مَعَ النِّيَّةِ الْحَسَنَةِ يَكُونُ طَاعَةً وَمَعَ النِّيَّةِ
السَّيِّئَةِ يَكُونُ ذَنْبًا وَمَعَ عَدَمِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا هَذَا وَلَا
هَذَا . فَالشَّرْعُ دَائِمًا فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالشُّرُوطِ
وَالْعُقُودِ يُبْطِلُ مِنْهَا مَا كَانَ مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
؛ لَكِنْ إذَا كَانَ قَدْ عَلَّقَ تِلْكَ الْأُمُورَ بِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ
شُرِعَتْ الْكَفَّارَةُ مَاحِيَةً لِمُقْتَضَى هَذَا الْعَقْدِ ؛ فَإِنَّهُ
لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ مُوجَبُهُ الْإِثْمَ إذَا خَالَفَ يَمِينَهُ ؛ وَلِهَذَا
سُمِّيَ " حِنْثًا " قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ
عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ } وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ
وَغَيْرِهِمْ بِأَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَحَدُكُمْ
عَلَى أَنَّهُ لَا يَبَرُّ وَلَا يَتَّقِي اللَّهَ وَلَا يَصِلُ رَحِمَهُ فَإِذَا
أُمِرَ بِذَلِكَ قَالَ أَنَا قَدْ حَلَفْت بِاَللَّهِ فَيَجْعَلُ الْحَلِفَ
بِاَللَّهِ مَانِعًا لَهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَإِذَا كَانَ قَدْ
نَهَى سُبْحَانَهُ أَنْ يُجْعَلَ اللَّهُ أَيْ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ مَانِعًا مِنْ
طَاعَةِ اللَّهِ فَغَيْرُ ذَلِكَ أَوْلَى أَنْ يُنْهَى عَنْ كَوْنِهِ مَانِعًا
مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ . وَالْأَيْمَانُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُوجِبَةُ
لِلْكَفَّارَةِ كُلُّهَا تَعُودُ إلَى الْحَلِفِ بِاَللَّهِ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ بَعْضِ
الْآثَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ قَالَ : مَالُهُ فِي رِتَاجِ
الْكَعْبَةِ
قَالَ
: كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ . قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ
أَوْ الصَّدَقَةِ بِالْمُلْكِ أَوْ نَحْوِ هَذِهِ الْأَيْمَانِ فَقَالَ : إذَا
حَنِثَ فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ إلَّا أَنِّي لَا أَحْمِلُهُ عَلَى الْحِنْثِ مَا
لَمْ يَحْنَثْ قِيلَ لَهُ لَا يَفْعَلُ . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَإِذَا
حَنِثَ كَفَرَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ لَهُ : أَلَيْسَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ ؟
قَالَ : نَعَمْ . قَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دكين حَدَّثَنَا
حَسَنٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَنْ
قَالَ مَالِي فِي مِيرَاثِ الْكَعْبَةِ وَكُلُّ مَالِي فَهُوَ هَدْيٌ وَكُلُّ
مَالِي فَهُوَ فِي الْمَسَاكِينِ فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ . وَقَالَ الْأَثْرَمُ :
حَدَّثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ
قَالَ أَبِي : حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَبُو رَافِعٍ
قَالَ : قَالَتْ مَوْلَاتِي لَيْلَى بِنْتُ الْعَجْمَاءِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا
مُحَرَّرٌ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ
إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك أَوْ تُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك .
قَالَ فَأَتَيْت زَيْنَبَ ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ وَكَانَتْ إذَا ذُكِرَتْ
امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ فَقِيهَةٌ ذُكِرَتْ زَيْنَبُ قَالَ : فَأَتَيْتهَا
فَجَاءَتْ مَعِي إلَيْهَا فَقَالَتْ : فِي الْبَيْتِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ .
قَالَتْ يَا زَيْنَبُ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك ؛ إنَّهَا قَالَتْ : كُلُّ
مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ
نَصْرَانِيَّةٌ فَقَالَتْ : يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّي بَيْنَ
الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ فَأَتَيْت حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلَتْ
إلَيْهَا فَأَتَتْهَا فَقَالَتْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلَنِي اللَّهُ
فِدَاك
إنَّهَا قَالَتْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ
يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ فَقَالَتْ : يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ
خَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَالَ : فَأَتَيْت عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُمَرَ فَجَاءَ مَعِي إلَيْهَا فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَسَلَّمَ فَقَالَتْ
بَيْنًا أَنْت وَبَيْنًا أَبُوك فَقَالَ : أَمِنَ حِجَارَةٍ أَنْت أَمِنْ حَدِيدٍ
أَنْت أَيُّ شَيْءٍ أَنْت أَفْتَتْك زَيْنَبُ وَأَفْتَتْك أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
فَلَمْ تَقْبَلِي فُتْيَاهُمَا قَالَتْ . يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ جَعَلَنِي
اللَّهُ فِدَاك ؛ إنَّهَا قَالَتْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالٍ
لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ فَقَالَ : يَهُودِيَّةٌ
وَنَصْرَانِيَّةٌ كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك وَخَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ
امْرَأَتِهِ . وَذَكَرَ هَذَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي " مُصَنَّفِهِ "
عَنْ التيمي عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَكْرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ المزني قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو رَافِعٍ قَالَ : قَالَتْ لِي
مَوْلَاتِي لَيْلَى ابْنَةُ الْعَجْمَاءِ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ
مَالِهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ
امْرَأَتَك . قَالَ فَأَتَتْنَا زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ . وَكَانَ إذَا
ذُكِرَتْ امْرَأَةٌ فَقِيهَةٌ ذُكِرَتْ زَيْنَبُ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهَا فَقَالَتْ
. خَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَكَفِّرِي عَنْ يَمِينِك قَالَ
فَأَتَتْنَا حَفْصَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقُلْت يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك وَذَكَرَتْ لَهَا
يَمِينَهَا فَقَالَتْ : كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك قَالَ : وَأَتَيْنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقُلْنَا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَذَكَرَتْ لَهُ
يَمِينَهَا فَقَالَ : كَفِّرِي يَمِينِك وَخَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ
.
قَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : قَوْلُهُ : وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ . هُوَ مِنْ
رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التيمي وَأَشْعَثَ الحمراني عَنْ بَكْرِ المزني مَعَ هَذَا
الْحَدِيثِ وَفِي رِوَايَةِ أَشْعَثَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو
هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ وَحَفْصَةُ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ ؛ وَإِنَّمَا
هُوَ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ . وَقَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ أَخْبَرْنَا عِمْرَانُ ؛ عَنْ قتادة عَنْ زرارة بْنِ أَبِي
أَوْفَى أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ ابْنَ عَبَّاسٍ : أَنَّ امْرَأَةً جَعَلَتْ
بُرْدَهَا عَلَيْهَا هَدْيًا إنْ لَبِسَتْهُ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَفِي
غَضَبٍ أَمْ فِي رِضًا ؟ قَالُوا : فِي غَضَبٍ . قَالَ . إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى لَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالْغَضَبِ لِتُكَفِّر عَنْ يَمِينِهَا قُلْت
: ابْنُ عَبَّاسٍ اسْتَفْسَرَ النَّذْرَ هَلْ مَقْصُودُهَا التَّقَرُّبُ
بِالْمَنْذُورِ كَمَا قَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ إنْ سَلِمَ مَالِي تَصَدَّقْت بِهِ
أَوْ مَقْصُودُهَا الْحَلِفُ أَنَّهَا لَا تَلْبَسُهُ فَيَكُونُ عَلَيْهَا
كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَالَ : أَفِي غَضَبٍ أَمْ رِضًا ؟ فَلَمَّا قَالُوا : فِي
غَضَبٍ عَلِمَ أَنَّهَا حَالِفَةٌ لَا نَاذِرَةٌ وَلِهَذَا سَمَّى الْفُقَهَاءُ
هَذَا " نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " فَهُوَ يَمِينٌ وَإِنْ كَانَ
صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْجَزَاءِ . وَقَالَ الْأَثْرَمُ . حَدَّثَنِي ابْنُ
الطَّبَّاعِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ ؛ عَنْ يَعْلَى بْنِ النُّعْمَانِ ؛ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ : سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ جَعَلَ مَالَهُ فِي الْمَسَاكِينِ ؟ قَالَ .
أَمْسِكْ عَلَيْك مَالَك وَأَنْفِقْهُ عَلَى
عِيَالِك
وَاقْضِ بِهِ دَيْنَك وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك وَقَالَ حَرْبٌ الكرماني فِي
مَسَائِلِهِ حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ وَاضِحٍ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ أَبِي
السَّفَرِ ؛ عَنْ الأوزاعي ؛ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ سَأَلْت ابْنَ
عَبَّاسٍ عَنْ الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ؟
قَالَ : إنَّمَا الْمَشْيُ عَلَى مَنْ نَوَاهُ فَأَمَّا مَنْ حَلَفَ فِي الْغَضَبِ
فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَقَالَ الْأَثْرَمُ . حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ
بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ ؛ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
وَالْحَسَنِ قَالَ : إذَا كَانَ نَذَرَ الشُّكْرَ فَعَلَيْهِ وَفَاءُ نَذْرِهِ
وَالنَّذْرُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالْغَضَبِ يَمِينٌ . وَقَالَ الْأَثْرَمُ :
حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا ابْنُ جريج قَالَ : سُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ رَجُلٍ
قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ بَدَنَةٍ ؟ فَقَالَ : يَمِينٌ وَعَنْ رَجُلٍ قَالَ : عَلَيَّ
أَلْفُ حَجَّةٍ ؟ قَالَ يَمِينٌ ؛ وَعَنْ رَجُلٍ قَالَ : مَالِي هَدْيٌ ؟ قَالَ
يَمِينٌ وَعَنْ رَجُلٍ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ ؟ قَالَ يَمِينٌ . وَقَالَ
أَحْمَد حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قتادة عَنْ
الْحَسَنِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ : إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا
وَكَذَا فَأَنَا مُحْرِمٌ بِحَجَّةِ ؟ قَالَ لَيْسَ الْإِحْرَامُ إلَّا عَلَى مَنْ
نَوَى الْحَجَّ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا . وَقَالَ أَحْمَد : حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طاوس عَنْ أَبِيهِ قَالَ : يَمِينٌ
يُكَفِّرُهَا . وَقَالَ الْأَثْرَمُ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ فِي
رَجُلٍ قَالَ : هُوَ مُحْرِمٌ بِحَجَّةِ ؟ قَالَ يَمِينٌ وَقَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الواسطي عَنْ أَيُّوبَ يَعْنِي
أَبَا الْعَلَاءِ عَنْ
قتادة
وَمَنْصُورٍ عَنْ الْحَسَنِ : فِي رَجُلٍ قَالَ : إنْ دَخَلَ مَنْزِلَ فُلَانٍ
فَعَلَيْهِ مَشْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ ؟ قَالَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ قَالَ
: فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ فَعَلَيْهِ الْمَشْيُ وَإِنْ لَمْ يُطِقْ الْمَشْيَ
رَكِبَ فَأَهْدَى . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَخِيهِ عُمَرَ
بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ : جَاءَ إنْسَانٌ فَاسْتَفْتَى الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ
بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ جَعَلَ
عَلَيْهِ مَشْيًا إلَى بَيْتِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ الْقَاسِمُ أَجَعَلَهُ نَذْرًا ؟
قَالَ لَا . أَوَجَعَلَهُ لِلَّهِ ؟ قَالَ : لَا قَالَ : فَلْيُكَفِّرْ عَنْ
يَمِينِهِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ مَا ذَكَرَهُ حَنْبَلٌ قَالَ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ يَقُولُ : يُقَالُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ كَانَ عِنْدَهُ قَضَاءٌ
وَكَانَ يَتْبَعُ قَضَاءَ عُمَرَ وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو زُرْعَةَ
الدِّمَشْقِيّ . قَالَ : الِاخْتِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذَيْنِ
الرَّجُلَيْنِ : مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيّ وَشُعَيْبِ بْنِ أَبِي
حَمْزَةَ وَقَدْ أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَنَّهُ رَآهُمَا جَمِيعًا
الزُّبَيْدِيّ وَشُعَيْبَ بْنَ أَبِي حَمْزَةَ . وَرَأَيْته لِلزُّبَيْدِيِّ
أَكْثَرَ تَعْظِيمًا وَهُمَا صَاحِبَا الزُّهْرِيّ بِالرَّصَافَةِ مِنْ قِبَلِ
هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ : مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيّ عَلَى
بَيْتِ الْمَالِ وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَلَى نَفَقَاتِ هِشَامٍ . وَعَنْ
بَقِيَّةَ قَالَ قَالَ لَنَا الأوزاعي : مَا فَعَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ
الزُّبَيْدِيّ ؟ قَالَ قُلْت : وَلِيَ بَيْتَ الْمَالِ . قَالَ إنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ
وَذَكَرَ
مَا ذَكَرَهُ الذهلي مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ
بْنِ عفير أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ : أَنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ
أَنْ تَنْحَرَ ابْنَهَا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي أَمْرٍ إنْ فَعَلَتْهُ فَفَعَلَتْ
ذَلِكَ الْأَمْرَ فَقَدِمَتْ الْمَدِينَةَ تَسْتَفْتِي عَنْ نَذْرِهَا فَجَاءَتْ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ : لَا أَعْلَمُ اللَّهُ
أَمَرَ فِي النَّذْرِ إلَّا بِالْوَفَاءِ قَالَتْ الْمَرْأَةُ : فَأَنْحَرُ ابْنِي
؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : قَدْ نَهَاكُمْ اللَّهُ أَنْ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
ثُمَّ لَمْ يَزِدْهَا ابْنُ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ . فَجَاءَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَبَّاسٍ فَاسْتَفْتَتْهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ
وَنَهَاكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ . وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ
بْنُ هَاشِمٍ نَذَرَ إنْ تَوَافَى لَهُ عَشَرَةُ رَهْطٍ أَنْ يَنْحَرَ أَحَدَهُمْ
فَلَمَّا تَوَافَى لَهُ عَشَرَةٌ وَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ أَيَّهمْ يَنْحَرُ
فَصَارَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ
أَحَبَّ النَّاسِ إلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ .
اللَّهُمَّ أَهُوَ أَوْ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؛ وَصَارَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى نَحْرِ
مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِلْمَرْأَةِ فَإِنِّي أَرَى أَنْ
تَنْحَرِي مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ مَكَانَ ابْنِك . فَبَلَغَ الْحَدِيثُ مَرْوَانَ
بْنَ الْحَكَمِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فَقَالَ : مَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ
وَابْنَ عَبَّاسٍ أَصَابَا الْفُتْيَا " إنَّهُ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ
اللَّهِ " اسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ وَاعْمَلِي مَا اسْتَطَعْت
مِنْ الْخَيْرِ فَأَمَّا أَنْ تَنْحَرِي ابْنَك فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَاك عَنْ
ذَلِكَ . قَالَ : فَسُرَّ النَّاسُ بِذَلِكَ وَأَعْجَبَهُمْ قَوْلُ مَرْوَانَ
وَرَأَوْا أَنْ قَدْ أَصَابَ الْفَتْوَى فَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ يُفْتُونَ بِأَنْ
لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ .
قُلْت
ابْنُ عُمَرَ كَانَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَنْ النَّذْرِ
لِلْمَعْصِيَةِ لَا يَأْمُرُ فِيهِ لَا بِوَفَاءِ وَلَا تَرْكٍ كَمَا سُئِلَ عَنْ
مَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ فَقَالَ : أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ
بِالنَّذْرِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ دَلِيلَانِ :
الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ . وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِوَفَاءِ
النَّذْرِ مُقَيَّدٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا نَقَلَ مَالِكٌ فِي "
مُوَطَّئِهِ " الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بَعْدَهُ عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ؛ وَمَنْ نَدَرَ أَنْ يَعْصِيَ
اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بِالْوَفَاءِ
بِالنَّذْرِ بِلَفْظِ النَّذْرِ مُطْلَقًا ؛ إذْ قَوْلُهُ { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
} خَبَرٌ وَثَنَاءٌ وَقَوْلُهُ : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } خَاصٌّ ؛ لَكِنَّ
اللَّهَ أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ وَالنَّذْرُ مِنْ ذَلِكَ .
فَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَعْنَى قَوْلِهِمَا : أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ
بِالنَّذْرِ . وَهَذِهِ حَالُ مَنْ يَجْعَلُ الْعُهُودَ وَالْعُقُودَ مُقْتَضِيَةً
لِلْوَفَاءِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ أَهْلِ الْوَرَعِ كَمَا عَرَضَ لِابْنِ
عُمَرَ حَتَّى إنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ نَقْضِ كَثِيرٍ مِنْ الْعُهُودِ
وَالْعُقُودِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرِيعَةِ وَهُمْ يَتَوَرَّعُونَ أَيْضًا عَنْ
مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ فَيَبْقَوْنَ فِي الْحَيْرَةِ وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ
فَعَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ : " إحْدَاهُمَا "
هَذَا . " وَالْأُخْرَى " عَلَيْهِ ذَبْحُ كَبْشٍ ؛ وَهَذَا إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ
الَّذِي يُنَاسِبُ الشَّرِيعَةَ ؛ دُونَ الِاحْتِجَاجِ بِقِصَّةِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ فَإِنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ أَصْلًا
إلَّا إذَا أَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ
لَكِنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ احْتَجَّ بِهِ لِكَوْنِ الدِّيَةِ أَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ وَهِيَ
بَدَلُ النَّفْسِ فَرَأَى هَذَا الْبَدَلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فِي
الِافْتِدَاءِ ثُمَّ جَعَلَ الِافْتِدَاءَ بِالْكَبْشِ اتِّبَاعًا لِقِصَّةِ
إبْرَاهِيمَ وَهُوَ الْأَنْسَبُ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد
عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَسَائِرِ نُذُورِ الْمَعْصِيَةِ . وَاَلَّذِي
أَفْتَى بِهِ مَرْوَانُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ وَكُلُّ مَنْ يَقُولُ نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ لَا شَيْءَ
فِيهِ . وَهَذَا النَّذْرُ ظَاهِرُهُ نَذْرُ يَمِينٍ ؛ لَكِنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا . فَتَبَيَّنَ
أَنَّهُ كَانَ نَذْرَ تَبَرُّرٍ كَنَذْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؛ وَلَكِنْ مَالِكٌ
وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ
فَرَوَوْا الْقِصَّةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي عِنْدَهُمْ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
قَدْ كَتَبْت فِي " قَاعِدَةِ الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ " الْقَاعِدَةُ
فِي الْعُهُودِ الدِّينِيَّةِ فِي الْقَوَاعِدِ الْمُطْلَقَةِ وَالْقَاعِدَةُ فِي
الْعُقُودِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ وَفِي "
كِتَابِ النَّذْرِ " أَيْضًا أَنَّ مَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ إذَا نَذَرَهُ
الْعَبْدُ أَوْ عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ أَوْ بَايَعَ عَلَيْهِ الرَّسُولَ أَوْ
الْإِمَامَ أَوْ تَحَالَفَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُهُودَ
وَالْمَوَاثِيقَ
تَقْتَضِي لَهُ وُجُوبًا ثَانِيًا غَيْرَ الْوُجُوبِ الثَّابِتِ بِمُجَرَّدِ
الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَتَكُونُ وَاجِبَةً مِنْ وَجْهَيْنِ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ
تَارِكُهَا مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ نَاقِضُ الْعُهُودِ وَالْمِيثَاقِ
؛ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَاصِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ . هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ
وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّهُ إذَا نَذَرَ وَاجِبًا فَهُوَ بَعْدَ النَّذْرِ
كَمَا كَانَ قَبْلَ النَّذْرِ ؛ بِخِلَافِ نَذْرِ الْمُسْتَحَبِّ . فَلَيْسَ كَمَا
قَالَ ؛ بَلْ النَّذْرُ إذَا كَانَ يُوجِبُ فِعْلَ الْمُسْتَحَبِّ فَإِيجَابُهُ
لِفِعْلِ الْوَاجِبِ أَوْلَى ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ ؛
بَلْ هُمَا وجوبان مِنْ نَوْعَيْنِ لِكُلِّ نَوْعٍ حُكْمٌ غَيْرُ حُكْمِ الْآخَرِ
؛ مِثْلُ الْجَدَّةِ إذَا كَانَتْ أُمَّ أُمِّ أُمٍّ وَأُمَّ أُمِّ أَب ؛ فَإِنَّ
فِيهَا سَبَبَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا تَسْتَحِقُّ بِهِ السُّدْسَ . وَكَذَلِكَ مَنْ
قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي هِيَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ
لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهَا ؛ أَوْ قَالَ تَفْسُدُ (1) حَتَّى قَالَ بَعْضُ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إذَا قَالَ : زَوَّجْتُك عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
مِنْ إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفِ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانِ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا
لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ الطَّلَاقَ : فَهَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ جِدًّا ؛ فَإِنَّ
الْعُقُودَ إنَّمَا وَجَبَتْ مُوجِبَاتُهَا لِإِيجَابِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَهَا
عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَمُطْلَقُ الْعَقْدِ لَهُ مَعْنًى مَفْهُومٌ فَإِذَا أُطْلِقَ
كَانَا قَدْ أَوْجَبَا مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ
هُوَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ كَمُوجَبِ النَّذْرِ لَمْ يُوجِبْهُ الشَّارِعُ
ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِالْعُقُودِ كَمَا أَوْجَبَ
الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ . فَإِذَا كَانَ لَهُ مُوجَبٌ مَعْلُومٌ بِلَفْظِ مُطْلَقٍ
أَوْ بِعُرْفِ وَصَرَّحَ الْمُتَعَاقِدَانِ بِإِيجَابِهِ بِلَفْظِ خَاصٍّ كَانَ
هَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فَيَكُونُ الْعَاقِدُ
قَدْ
أَوْجَبَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ جَعَلَ لَهُ إيجَابًا خَاصًّا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ
الْإِيجَابِ الْعَامِّ . وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا نَظَائِرُ مِثْلُ قَوْلِهِ :
{ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وَقَوْلِهِ : { وَإِذْ
أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } وَقَوْلِهِ : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ
وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } وَقَوْلِهِ : { قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ
وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلِهِ : { يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ أَمَرَ أَجِيرَهُ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا عِنْدَ شَخْصٍ فَرَهَنَهُ
عِنْدَ غَيْرِهِ فَعَدِمَ الرَّهْنَ فَحَلَفَ صَاحِبُ الرَّهْنِ إنْ لَمْ يَأْتِهِ
بِهِ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَمْ يَعْدَمْ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ
عَدَمُهُ : فَهَلْ يَحْنَثُ إذَا اسْتَعْمَلَهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ حِينَ حَلَفَ مُعْتَقِدًا أَنَّ الرَّهْنَ بَاقٍ
بِعَيْنِهِ لَمْ يَعْدَمْ فَحَلَفَ لِيُحْضَرَ لَمْ يَحْنَثْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ
. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى وَلَدِهِ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ حَتَّى يُعْطِيَهُ
الْكِسَاءَ الَّذِي أَخَذَهُ ؛ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ
شَيْئًا : فَهَلْ يَحْنَثُ إذَا دَخَلَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ
:
إذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْحَالَةُ مَا ذُكِرَ
؛ لِكَوْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ
لَيَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْإِنَاءِ وَلَيْسَ فِيهِ مَاءٌ فِي
أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ ابْنَهُ
أَخَذَهُ وَتَبَيَّنَ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَمِثْلُ هَذَا فِيهِ أَيْضًا نِزَاعٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا حِنْثَ فِيهِ فَصَارَ غَيْرَ حَانِثٍ فِي هَذَيْنِ
الْوَجْهَيْنِ . وَالْمَسْأَلَةُ الْمَشْهُورَةُ إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ
يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّ هَذَا جَهْلٌ
بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ جَهْلٌ بِصِفَةِ الْمَحْلُوفِ
عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَتْ عَلَيْهِ وَالِدَتُهُ أَنْ لَا يُصَالِحَ زَوْجَتَهُ .
وَإِنْ صَالَحَهَا مَا تَرْجِعُ تُكَلِّمُهُ : فَمَا يَجِبُ فِي أَمْرِهِ
وَصَالِحِ زَوْجَتِهِ وَأَمْرِ وَالِدَتِهِ فِي الشَّرْعِ الْمُطَهَّرِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا صَالَحَ زَوْجَتَهُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ
تُكَلِّمَهُ وَتُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهَا . وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ إمَّا عِتْقُ
رَقَبَةٍ وَإِمَّا إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ رِطْلَانِ مِنْ
الْخُبْزِ . وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْدِمَهُ مِمَّا يُؤْكَلُ بِالْمَوْزِ وَالْجُبْنِ
وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِ وَإِمَّا كُسْوَةُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ثَوْبًا ثَوْبًا .
وَيَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا بِإِذْنِهَا الْحَالِفُ أَوْ زَوْجَتُهُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
كَفَّارَةُ الْيَمِينِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ قَالَ
تَعَالَى : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } فَمَتَى كَانَ وَاجِدًا فَعَلَيْهِ أَنْ
يُكَفِّرَ بِإِحْدَى الثَّلَاثِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ . وَإِذَا اخْتَارَ أَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فَلَهُ ذَلِكَ .
" وَمِقْدَارُ مَا يُطْعِمُ " مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ
إطْعَامَهُمْ : هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ ؟ أَوْ بِالْعُرْفِ ؟ فِيهِ
قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ " مُقَدَّرٌ
بِالشَّرْعِ " وَهَؤُلَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُطْعِمُ
كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ
مِنْ بُرٍّ ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ :
يُطْعِمُ كُلَّ وَاحِدٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَشَعِيرٍ أَوْ رُبْعَ صَاعٍ
مِنْ بُرٍّ ؛ وَهُوَ مُدٌّ كَقَوْلِ أَحْمَد وَطَائِفَةٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ
: بَلْ يُجْزِئُ فِي الْجَمِيعِ مُدٌّ مِنْ الْجَمِيعِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ
وَطَائِفَةٍ . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ
بِالْعُرْفِ لَا بِالشَّرْعِ ؛ فَيُطْعِمُ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ مِنْ أَوْسَطِ مَا
يُطْعِمُونَ أَهْلِيهِمْ قَدْرًا وَنَوْعًا . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ
قَالَ إسْمَاعِيلُ
بْنُ
إسْحَاقَ : كَانَ مَالِكٌ يَرَى فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنَّ الْمُدَّ
يُجْزِئُ بِالْمَدِينَةِ قَالَ مَالِكٌ : وَأَمَّا الْبُلْدَانُ فَإِنَّ لَهُمْ
عَيْشًا غَيْرَ عَيْشِنَا فَأَرَى أَنْ يُكَفِّرُوا بِالْوَسَطِ مِنْ عَيْشِهِمْ ؛
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ
كِسْوَتُهُمْ } وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ مُطْلَقًا . وَالْمَنْقُولُ
عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هَذَا الْقَوْلُ ؛ وَلِهَذَا كَانُوا
يَقُولُونَ الْأَوْسَطُ خُبْزٌ وَلَبَنٌ خُبْزٌ وَسَمْنٌ خُبْزٌ وَتَمْرٌ .
وَالْأَعْلَى خُبْزٌ وَلَحْمٌ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْآثَارَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ
هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي
يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ وَهُوَ قِيَاسُ
مَذْهَبِ أَحْمَد وَأُصُولِهِ فَإِنَّ أَصْلَهُ أَنَّ مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ
الشَّارِعُ فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ وَهَذَا لَمْ يُقَدِّرْهُ
الشَّارِعُ فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْله تَعَالَى {
مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } فَإِنَّ أَحْمَد لَا يُقَدِّرُ
طَعَامَ الْمَرْأَةِ وَالْوَلَدِ وَلَا الْمَمْلُوكِ ؛ وَلَا يُقَدِّرُ أُجْرَةَ
الْأَجِيرِ الْمُسْتَأْجَرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ
وَلَا يُقَدِّرُ الضِّيَافَةَ الْوَاجِبَةَ عِنْدَهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا
يُقَدِّرُ الضِّيَافَةَ الْمَشْرُوطَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ
فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ : هَذَا مَعَ أَنَّ هَذِهِ وَاجِبَةٌ بِالشَّرْطِ فَكَيْفَ
يُقَدِّرُ طَعَامًا وَاجِبًا بِالشَّرْعِ ؟ بَلْ وَلَا يُقَدِّرُ الْجِزْيَةَ فِي
أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَلَا الْخَرَاجَ ؛ وَلَا يُقَدِّرُ أَيْضًا
الْأَطْعِمَةَ الْوَاجِبَةَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ وَجَبَتْ بِشَرْعِ أَوْ شَرْطٍ
وَلَا غَيْرَ الْأَطْعِمَةِ مِمَّا وَجَبَتْ مُطْلَقًا . فَطَعَامُ الْكَفَّارَةِ
أَوْلَى أَنْ لَا يُقَدَّرَ .
و
" الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ " فَمَا لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ أَوْ
اللُّغَةِ رَجَعَ فِي ذَلِكَ إلَيْهِمَا . وَمَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِيهِمَا
رَجَعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُقَدِّرُ لِلْعُقُودِ أَلْفَاظًا
بَلْ أَصْلُهُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ جِنْسِ أَصْلِ مَالِكٍ كَمَا أَنَّ
قِيَاسَ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِي صَدَقَةِ
الْفِطْرِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كَلَامُهُ أَيْضًا
كَمَا قَدْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ؛ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ
تَقْدِيرُ ذَلِكَ بِالصَّاعِ كَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ . وَقَدْ تَنَازَعَ
الْعُلَمَاءُ فِي " الْأُدْمِ " هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يُطْعِمُ أَهْلَهُ بِأُدُمِ
أَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ بِأُدُمِ . وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يُطْعِمُ بِلَا أُدْمٍ
لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ الْمَسَاكِينَ عَلَى أَهْلِهِ بَلْ يُطْعِمُ
الْمَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ . وَعَلَى هَذَا فَمِنْ
الْبِلَادِ مَنْ يَكُونُ أَوْسَطُ طَعَامِ أَهْلِهِ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ كَمَا
يُقَالُ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِذَا صَنَعَ خُبْزًا جَاءَ نَحْوَ رِطْلَيْنِ
بِالْعِرَاقِيِّ وَهُوَ بِالدِّمَشْقِيِّ خَمْسَةُ أَوَاقٍ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ
أُوقِيَّةٍ فَإِنْ جَعَلَ بَعْضَهُ أُدْمًا كَمَا جَاءَ عَنْ السَّلَفِ كَانَ
الْخُبْزُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوَاقٍ وَهَذَا لَا يَكْفِي أَكْثَرَ أَهْلِ
الْأَمْصَارِ ؛ فَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : يُطْعِمُ فِي غَيْرِ
الْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا : إمَّا مُدَّانِ أَوْ مُدٌّ وَنِصْفٌ عَلَى
قَدْرِ طَعَامِهِمْ فَيُطْعِمُ مِنْ الْخُبْزِ إمَّا نِصْفَ رِطْلٍ
بِالدِّمَشْقِيِّ وَإِمَّا ثُلُثَا رِطْلٍ وَإِمَّا رِطْلٌ وَإِمَّا أَكْثَرُ .
إمَّا مَعَ الْأُدْمِ عَلَى قَدْرِ عَادَتِهِمْ فِي الْأَكْلِ فِي وَقْتٍ (1) ؛ فَإِنَّ
عَادَةَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِالرُّخْصِ
وَالْغَلَاءِ
وَالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَتَخْتَلِفُ بِالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ . وَإِذَا حُسِبَ مَا يُوجِبُهُ أَبُو حَنِيفَةَ خُبْزًا كَانَ رِطْلًا
وَثُلُثًا بِالدِّمَشْقِيِّ ؛ فَإِنَّهُ يُوجِبُ نِصْفَ صَاعٍ عِنْدَهُ
ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ . وَأَمَّا مَا يُوجِبُهُ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ
فَيُوجِبُ صَاعًا ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ وَذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يُوجِبُهُ
الشَّافِعِيُّ سِتَّ مَرَّاتٍ وَهُوَ بِقَدْرِ مَا يُوجِبُهُ أَحْمَد بْنُ
حَنْبَلٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ إلَى عُرْفِ
النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ فَقَدْ يُجْزِئُ فِي بَلَدٍ مَا أَوْجَبَهُ أَبُو
حَنِيفَةَ وَفِي بَلَدٍ مَا أَوْجَبَهُ أَحْمَد وَفِي بَلَدٍ آخَرَ مَا بَيْنَ
هَذَا وَهَذَا عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ ؛ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } . وَإِذَا جَمَعَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ
وَعَشَّاهُمْ خُبْزًا وَأُدْمًا مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ أَجْزَأَهُ
ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ
وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ أَظْهَرُ
الْقَوْلَيْنِ فِي الدَّلِيلِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِطْعَامِ ؛ لَمْ
يُوجِبْ التَّمْلِيكَ وَهَذَا إطْعَامٌ حَقِيقَةً . وَمَنْ أَوْجَبَ "
التَّمْلِيكَ " احْتَجَّ بِحُجَّتَيْنِ " إحْدَاهُمَا " أَنَّ
الطَّعَامَ الْوَاجِبَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ وَلَا يُعْلَمُ إذَا أَكَلُوا أَنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ يَأْكُلُ قَدْرَ حَقِّهِ . و " الثَّانِيَةُ " أَنَّهُ
بِالتَّمْلِيكِ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ مَعَ
الْإِطْعَامِ . وَجَوَابُ الْأُولَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ
بِالشَّرْعِ ؛ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِهِ فَالْكَلَامُ
إنَّمَا
هُوَ إذَا أَشْبَعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَدَاءً وَعَشَاءً وَحِينَئِذٍ
فَيَكُونُ قَدْ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْرَ حَقِّهِ وَأَكْثَرُ . وَأَمَّا
التَّصَرُّفُ بِمَا شَاءَ فَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ إنَّمَا
أَوْجَبَ فِيهَا التَّمْلِيكَ لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا بِاللَّامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
: { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } وَلِهَذَا حَيْثُ ذَكَرَ
اللَّهُ التَّصَرُّفَ بِحَرْفِ الظَّرْفِ كَقَوْلِهِ : { وَفِي الرِّقَابِ } {
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّمْلِيكُ ؛ بَلْ
يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ مِنْ الزَّكَاةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَمْلِيكًا
لِلْمُعْتَقِ وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهَا سِلَاحًا يُعِينُ بِهِ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ
الْإِطْعَامُ أَوْلَى مِنْ التَّمْلِيكِ ؛ لِأَنَّ الْمُمَلَّكَ قَدْ يَبِيعُ مَا
أَعْطَيْته وَلَا يَأْكُلُهُ ؛ بَلْ قَدْ يَكْنِزُهُ فَإِذَا أَطْعَمَ الطَّعَامَ
حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ قَطْعًا . وَغَايَةُ مَا يُقَالُ : أَنَّ
التَّمْلِيكَ قَدْ يُسَمَّى إطْعَامًا كَمَا يُقَالُ ؛ { أَطْعَمَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَدَّةَ السُّدْسَ } وَفِي الْحَدِيثِ : {
مَا أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً إلَّا كَانَتْ لِمَنْ يَلِي الْأَمْرَ
بَعْدَهُ } لَكِنْ يُقَالُ : لَا رَيْبَ أَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْإِطْعَامَ
الْمَعْرُوفَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَلِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُقَالُ إذَا ذُكِرَ
الْمُطْعِمُ فَيُقَالُ : أَطْعَمَهُ كَذَا . فَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ وَقِيلَ :
أَطْعِمْ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ . فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا نَفْسُ
الْإِطْعَامِ لَكِنْ لَمَّا كَانُوا يَأْكُلُونَ مَا يَأْخُذُونَهُ سُمِّيَ
التَّمْلِيكُ لِلطَّعَامِ إطْعَامًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِطْعَامُ .
أَمَّا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مَصْرِفًا غَيْرَ الْأَكْلِ فَهَذَا لَا يُسَمَّى
إطْعَامًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ .
وَقَالَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
وَأَمَّا " النَّذْرُ " فَهُوَ نَوْعَانِ : طَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ .
فَمَنْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَ بِهِ
وَإِنْ نَذَرَ مَا لَيْسَ بِطَاعَةِ مِثْلَ النَّذْرِ لِبَعْضِ الْمَقَابِرِ
وَالْمَشَاهِدِ وَغَيْرِهَا زَيْتًا أَوْ شَمْعًا أَوْ نَفَقَةً أَوْ غَيْرَ
ذَلِكَ فَهَذَا نَذْرُ مَعْصِيَةٍ وَهُوَ شَبِيهٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ
بِالنَّذْرِ لِلْأَوْثَانِ ؛ كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ
الْأُخْرَى : فَهَذَا لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لَكِنْ مِنْ
الْعُلَمَاءِ مَنْ يُوجِبُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَمِنْهُمْ
مَنْ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ .
وَإِذَا صَرَفَ الرَّجُلُ ذَلِكَ الْمَنْذُورَ فِي قُرْبَةٍ مَشْرُوعَةٍ مِثْلُ
أَنْ يَصْرِفَ الدُّهْنَ فِي تَنْوِيرِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ بُيُوتُ اللَّهِ
وَيَصْرِفَ النَّفَقَةَ إلَى صَالِحِي الْفُقَرَاءِ : كَانَ هَذَا عَمَلًا
صَالِحًا يَتَقَبَّلُهُ اللَّهُ مِنْهُ ؛ مَعَ أَنَّ أَصْلَ " عَقْدِ
النَّذْرِ " مَكْرُوهٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ إنَّهُ لَا يَأْتِي
بِخَيْرِ ؛ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
بَابٌ
الْقَضَاءُ
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
" فَائِدَةٌ نَافِعَةٌ جَامِعَةٌ "
الْمَقْصُودُ مِنْ الْقَضَاءِ وُصُولُ الْحُقُوقِ إلَى أَهْلِهَا وَقَطْعُ
الْمُخَاصَمَةِ . فَوُصُولُ الْحُقُوقِ هُوَ الْمَصْلَحَةُ وَقَطْعُ
الْمُخَاصَمَةِ إزَالَةُ الْمَفْسَدَةِ . فَالْمَقْصُودُ هُوَ جَلْبُ تِلْكَ
الْمَصْلَحَةِ وَإِزَالَةُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ . وَوُصُولُ الْحُقُوقِ هُوَ مِنْ
الْعَدْلِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ . وَقَطْعُ الْخُصُومَةِ
هُوَ مِنْ " بَابِ دَفْعِ الظُّلْمِ وَالضَّرَرِ " وَكِلَاهُمَا
يَنْقَسِمُ إلَى إبْقَاءِ مَوْجُودٍ وَدَفْعِ مَفْقُودٍ . فَفِي وُصُولِ
الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّهَا يُحْفَظُ مَوْجُودُهَا وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهَا
وَفِي الْخُصُومَةِ يُقْطَعُ مَوْجُودُهَا وَيُدْفَعُ مَفْقُودُهَا . فَإِذَا
حَصَلَ الصُّلْحُ زَالَتْ الْخُصُومَةُ الَّتِي هِيَ أَحَدُ الْمَقْصُودَيْنِ .
وَأَمَّا " الْحُقُوقُ " فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ وَصَلَتْ مَعَهُ أَوْ
رَضِيَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِتَرْكِهِ وَهُوَ جَائِزٌ وَإِذَا انْفَصَلَتْ
الْحُقُوقُ بِحُكْمِ وَشَهَادَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ فِي فَصْلِهَا
جَرْحُ الْحُكَّامِ وَالشُّهُودِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ الْمَفَاسِدِ
الَّتِي لَا يُصَارُ إلَيْهَا إلَّا لِضَرُورَةِ كَالْمُخَاصَمَةِ ؛ فَإِنَّهُ
قَدْ يَكُونُ فِي الْفَصْلِ الْأَمْرُ صَعْبًا بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ
وَغَيْرِهِمَا .
"
فَالْأَقْسَامُ أَرْبَعَةٌ " : إمَّا فَصْلٌ بِصُلْحِ . فَهَذَا هُوَ
الْغَايَةُ لِأَنَّهُ حَصَّلَ الْمَقَاصِدَ الثَّلَاثَ عَلَى التَّمَامِ . وَإِمَّا
فَصْلٌ بِحُكْمِ مَرَّ . فَقَدْ حَصَلَ مَعَهُ وُصُولُ الْحَقِّ وَقَطْعُ
الْخُصُومَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ : وَإِمَّا صُلْحٌ
عَلَى تَرْكِ بَعْضِ مَا يَدَّعِي أَنَّهُ حَقٌّ . فَهَذَا أَيْضًا قَدْ حَصَّلَ
مَقْصُودَ الصُّلْحِ وَقَطَعَ النِّزَاعَ ؛ وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ وُصُولِ
الْحُقُوقِ ؛ لَكِنْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ التَّرْكِ . وَمِنْ هُنَا
يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْحُكْمَ بِالصُّلْحِ أَحْسَنُ مِنْ الْحُكْمِ بِالْفَصْلِ
الْمُرِّ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي دَفْعِ الْخُصُومَةِ وَامْتَازَ ذَلِكَ
بِصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ مَعَ تَرْكِ أَحَدِهِمَا لِحَقِّهِ ؛ وَامْتَازَ
الْآخَرُ بِأَخْذِ الْمُسْتَحِقِّ حَقَّهُ مَعَ ضَغَائِنَ . فَتِلْكَ
الْمَصْلَحَةُ أَكْمَلُ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْحَقُّ إنَّمَا هُوَ فِي
الظَّاهِرِ وَقَدْ يَكُونُ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ . وَأَمَّا لَا فَضْلَ وَلَا
صُلْحَ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ يَحْصُلُ بِهِ مَفْسَدَةُ تَرْكِ الْقَضَاءِ . وَإِنْ
كَانَ الْحَقُّ فِي يَدِ صَاحِبِهِ كَالْوَقْفِ وَغَيْرِهِ يَخَافُ إنْ لَمْ
يُحْفَظْ بِالْبَيِّنَاتِ أَنْ يُنْسِيَهُ شَرْط وَيَجْحَد وَلَا يَأْتِيهِ
وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَهُنَا فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ
خَصْمٍ حِفْظُ الْحَقِّ الْمَجْحُودِ عَنْ خَصْمٍ مُقَدَّرٍ وَهَذَا أَحَدُ
مَقْصُودَيْ الْقَضَاءِ فَلِذَلِكَ يُسْمَعُ ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ مِنْ
الْفُقَهَاءِ : لَا يُسْمَعُ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ فَعِنْدَهُ لَيْسَ
لِلْقَضَاءِ فَائِدَةٌ إلَّا فَصْلُ الْخُصُومَةِ وَلَا خُصُومَةَ وَلَا قَضَاءَ ؛
فَلِذَلِكَ لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ إلَّا فِي وَجْهٍ مُدَّعًى عَلَيْهِ
لِتَظْهَرَ الْخُصُومَةُ . وَمَنْ قَالَ بِالْخَصْمِ الْمُسَخَّرِ فَإِنَّهُ
يُنْصَبُ لِلشَّرِّ ثُمَّ يَقْطَعُهُ وَمَنْ قَالَ تُسْمَعُ فَإِنَّهُ يَحْفَظُ
الْحَقَّ الْمَوْجُودَ وَيَذَرُ الشَّرَّ الْمَفْقُودَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
فِيمَا جَعَلَ اللَّهُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ وَمَا لَمْ يَجْعَلْ
لِوَاحِدِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ الْحُكْمَ فِيهِ بَلْ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى
جَمِيعِ الْخَلْقِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ مِنْ آحَادِ الْعَامَّةِ . وَهَذَا مِثْلُ
الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ جَمِيعَ الْخَلْقِ
أَنْ يُؤْمِنُوا بِهَا وَيَعْمَلُوا بِهَا وَقَدْ بَيَّنَهَا فِي كِتَابِهِ
وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ
الْأُمَّةُ أَوْ تَنَازَعَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ إذَا وَقَعَ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ
الْحُكَّامِ وَبَيْنَ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ : مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْجُنْدِ
أَوْ الْعَامَّةِ أَوْ غَيْرِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا
عَلَى مَنْ يُنَازِعُهُ وَيُلْزِمَهُ بِقَوْلِهِ وَيَمْنَعَهُ مِنْ الْقَوْلِ
الْآخَرِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُؤْذِيَهُ أَوْ يُعَاقِبَهُ . مِثْلُ أَنْ
يَتَنَازَعَ حَاكِمٌ أَوْ غَيْرُ حَاكِمٍ فِي قَوْلِهِ : { أَوْ لَامَسْتُمُ
النِّسَاءَ } هَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ ؟ كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَغَيْرُهُ وَقَالُوا : إنَّ مَسَّ الْمَرْأَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَا
لِشَهْوَةِ وَلَا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ . أَوْ الْمُرَادُ بِهِ اللَّمْسُ بِجَمِيعِ
الْبَشَرَةِ إمَّا لِشَهْوَةِ وَإِمَّا مُطْلَقًا ؟ كَمَا نُقِلَ الْأَوَّلُ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ . وَالثَّالِثُ قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ . وَلِلْعُلَمَاءِ فِي
هَذَا " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " .
وَالْأَظْهَرُ
هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَنْتَقِضُ بِمَسِّ النِّسَاءِ
مُطْلَقًا وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَمَسُّونَ نِسَاءَهُمْ وَلَمْ يَنْقُلْ
أَحَدٌ قَطُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ
يَأْمُرُ الْمُسْلِمِينَ بِالْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَلَا نُقِلَ عَنْ
الصَّحَابَةِ عَلَى حَيَاتِهِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَلَا نُقِلَ
عَنْهُ قَطُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ ؛ بَلْ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ فِي
السُّنَنِ { أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ وَلَا يَتَوَضَّأُ } وَقَدْ
اُخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ ؛ لَكِنْ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَمْ
يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ الْمَسِّ . وَكَذَلِكَ تَنَازَعَ
الْمُسْلِمُونَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ خُرُوجِ الدَّمِ بِالْفِصَادِ وَالْحِجَامَةِ
وَالْجَرْحِ وَالرُّعَافِ وَفِي " الْقَيْءِ " وَفِيهِ قَوْلَانِ
مَشْهُورَانِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ لَكِنْ لَمْ
يَثْبُتْ قَطُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ
الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ بَلْ كَانَ أَصْحَابُهُ يَخْرُجُونَ فِي الْمَغَازِي
فَيُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ
: إنَّ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي
الْوُضُوءِ " مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ " و " مَسِّ الْمَرْأَةِ
لِشَهْوَةِ " إنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَجِبُ
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي " الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ " و "
مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ " إنَّ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ وَلَا
يَجِبُ ؛ فَمَنْ تَوَضَّأَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ فَلَا شَيْءَ
عَلَيْهِ . وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ هَذِهِ
الْمَسَائِلِ ؛ بَلْ الْمَقْصُودُ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِهَا .
وَكَذَلِكَ
تَنَازَعُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ كَالْجَدِّ وَالْمُشْرِكَةِ
وَغَيْرِهِمَا وَفِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ وَكَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ
وَالْحَجِّ وَفِي مَسَائِلِ زِيَارَاتِ الْقُبُورِ ؛ مِنْهُمْ مِنْ كَرِهَهَا
مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّهَا إذَا كَانَتْ
عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ . وَتَنَازَعُوا فِي
" السَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " :
هَلْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ ؟ أَوْ
مُسْتَقْبِلَ الْحُجْرَةِ ؟ وَهَلْ يَقِفُ بَعْدَ السَّلَامِ يَدْعُو لَهُ أَمْ
لَا ؟ وَتَنَازَعُوا أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ أَفْضَلُ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ
أَوْ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّفَقُوا عَلَى
أَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا
يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَى بُقْعَةٍ لِلْعِبَادَةِ فِيهَا غَيْرَ الْمَسَاجِدِ
الثَّلَاثَةِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ
لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ
الثَّلَاثَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا
نَذَرَ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ إلَى أُمُورٍ أُخْرَى يَطُولُ ذِكْرُهَا .
وَتَنَازَعُوا فِي بَعْضِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : هَلْ
ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَوْ لَمْ تَثْبُتْ
؟
فَهَذِهِ
الْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ لَيْسَ لِحَاكِمِ مِنْ الْحُكَّامِ كَائِنًا مَنْ كَانَ
- وَلَوْ كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ - أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا بِقَوْلِهِ عَلَى مَنْ
نَازَعَهُ فِي قَوْلِهِ فَيَقُولُ : أَلْزَمْته أَنْ لَا يَفْعَلَ وَلَا يُفْتِيَ
إلَّا بِالْقَوْلِ الَّذِي يُوَافِقُ لِمَذْهَبِي ؛ بَلْ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ
الْمَسَائِلِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْحَاكِمُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ تَكَلَّمَ بِمَا عِنْدَهُ وَإِذَا كَانَ عِنْدَ
مُنَازِعِهِ عِلْمٌ تَكَلَّمَ بِهِ فَإِنْ ظَهَرَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ وَعُرِفَ
حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ اتِّبَاعُ حُكْمِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ أُقِرَّ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى قَوْلِهِ - أُقِرَّ
قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى
مَذْهَبِهِ - وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَمْنَعَ الْآخَرَ إلَّا بِلِسَانِ
الْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ فَيَقُولُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ .
وَأَمَّا " بِالْيَدِ وَالْقَهْرِ " فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ إلَّا
فِي الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي يُتَحَاكَمُ فِيهَا إلَيْهِ مِثْلُ مَيِّتٍ مَاتَ
وَقَدْ تَنَازَعَ وَرَثَتُهُ فِي قَسْمِ تَرِكَتِهِ فَيُقَسِّمُهَا بَيْنَهُمْ
إذَا تَحَاكَمُوا إلَيْهِ وَإِذَا حَكَمَ هُنَا بِأَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ
أَلْزَمَ الْخَصْمَ بِحُكْمِهِ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقُولَ أَنَا لَا أَرْضَى
حَتَّى يَحْكُمَ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ . وَكَذَلِكَ إذَا تَحَاكَمَ إلَيْهِ
اثْنَانِ فِي دَعْوَى يَدَّعِيهَا أَحَدُهُمَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا كَمَا أَمَرَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَلْزَمَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِمَا حَكَمَ بِهِ وَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَقُولَ : أَنْت حَكَمْت عَلَيَّ بِالْقَوْلِ الَّذِي لَا أَخْتَارُهُ ؛
فَإِنَّ الْحَاكِمَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ
أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } وَقَدْ يَخُصُّ اللَّهُ
بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ
وَالْحُكَّامِ
بِعِلْمِ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ
يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا
لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا
حُكْمًا وَعِلْمًا } .
وَعَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لَا يَحْكُمُوا إلَّا بِالْعَدْلِ . " وَالْعَدْلُ
" هُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ
بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَأَوْجَبَ اللَّهُ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ مَعَ
طَاعَةِ الرَّسُولِ وَأَوْجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ إذَا تَنَازَعُوا أَنْ يَرُدُّوا
مَا تَنَازَعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ
رَسُولِهِ . فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْحَكَمُ الَّذِي
يَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِهِ وَالْحُكْمُ لَهُ وَحْدَهُ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ
الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ؛ فَمَنْ أَطَاعَ
الرَّسُولَ كَانَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَكَانَتْ لَهُ سَعَادَةُ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ عَصَى الرَّسُولَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ
وَالْعَذَابِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ
اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ
فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
بَغْيًا
بَيْنَهُمْ
فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ
بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّ
جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْت تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا أَخْتَلِفُ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك ؛ إنَّك
تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَقَالَ تَعَالَى { وَمَا
اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ
هَدَاهُمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقَّ ؛ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَبْغِي عَلَى بَعْضٍ
مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِالْحَقِّ فَيَتَّبِعُ هَوَاهُ وَيُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ
وَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيَزِيغُ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا
فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } { وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ
يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ
الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَنَّهُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ
فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَالَ يُوسُفُ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ
أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ
سُلْطَانٍ
إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } فَالْحُكْمُ
لِلَّهِ وَحْدَهُ وَرُسُلُهُ يُبَلِّغُونَ عَنْهُ ؛ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُهُ
وَأَمْرُهُمْ أَمْرُهُ وَطَاعَتُهُمْ طَاعَتُهُ فَمَا حَكَمَ بِهِ الرَّسُولُ
وَأَمَرَهُمْ بِهِ وَشَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ
اتِّبَاعُهُ وَطَاعَتُهُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ .
وَالرَّسُولُ يُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } فَعَلَى جَمِيعِ
الْخَلْقِ أَنْ يُحَكِّمُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَأَفْضَلَ الْمُرْسَلِينَ وَأَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَى
اللَّهِ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ حُكْمِهِ فِي شَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ
مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْمُلُوكِ أَوْ الشُّيُوخِ أَوْ غَيْرِهِمْ . وَلَوْ
أَدْرَكَهُ مُوسَى أَوْ عِيسَى وَغَيْرُهُمَا مِنْ الرُّسُلِ كَانَ عَلَيْهِمْ
اتِّبَاعُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ
أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ
فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ
مِنْ السَّلَفِ - عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا - قَالُوا : لَمْ
يَبْعَثْ
اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ عَهْدِ نُوحٍ إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ
بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ وَأَمَرَهُ
أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهْم
أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَخَذَ
الْمِيثَاقَ عَلَى النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ أَنْ يُصَدِّقَ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ
وَعَلَى النَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ أَنْ يُصَدِّقَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ ؛
وَلِهَذَا لَمْ تَخْتَلِفْ الْأَنْبِيَاءُ بَلْ دِينُهُمْ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : {
إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } أَيْ مِلَّتُكُمْ مِلَّةً وَاحِدَةً كَقَوْلِهِمْ : {
إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } أَيْ مِلَّةٍ . وَقَالَ تَعَالَى : {
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ
إلَيْهِ } فَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ
مُسْلِمُونَ مُؤْمِنُونَ كَمَا قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ
الْقُرْآنِ ؛ لَكِنَّ بَعْضَ الشَّرَائِعِ تَتَنَوَّعُ فَقَدْ يُشَرِّعُ فِي
وَقْتٍ أَمْرًا لِحِكْمَةِ ثُمَّ يُشَرِّعُ فِي وَقْتٍ آخَرَ أَمْرًا آخَرَ
لِحِكْمَةِ ؛ كَمَا شَرَعَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ
الصَّلَاةَ
إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ إلَى
الْكَعْبَةِ فَتَنَوَّعَتْ الشَّرِيعَةُ وَالدِّينُ وَاحِدٌ وَكَانَ اسْتِقْبَالُ
الشَّامِ ذَلِكَ الْوَقْتَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ السَّبْتُ لِمُوسَى
مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ لَمَّا نُسِخَ صَارَ دِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ
النَّاسِخَ وَهُوَ الصَّلَاةُ إلَى الْكَعْبَةِ فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالْمَنْسُوخِ
دُونَ النَّاسِخِ فَلَيْسَ هُوَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَا هُوَ مُتَّبِعٌ
لِأَحَدِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ بَدَّلَ شَرْعَ الْأَنْبِيَاءِ وَابْتَدَعَ
شَرْعًا فَشَرْعُهُ بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ كَمَا قَالَ : { أَمْ لَهُمْ
شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ }
وَلِهَذَا كَفَرَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِأَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِشَرْعِ
مُبَدَّلٍ مَنْسُوخٍ . وَاَللَّهُ أَوْجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ أَنْ
يُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَاتَمُ الرُّسُلِ ؛ فَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ وَاتِّبَاعُ
مَا شَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ وَهُوَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
فَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ الشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى
جَمِيعِ الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ ؛ - وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْهُ وَهُوَ
الشَّرْعُ الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَيْهِ الْمُجَاهِدُونَ وَهُوَ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ . وَسُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ تَنْصُرُ هَذَا الشَّرْعَ وَهُوَ
الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : { أَمَرَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَضْرِبَ بِهَذَا -
يَعْنِي السَّيْفَ - مَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَا . يَعْنِي الْمُصْحَفَ } قَالَ
تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا
مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ
فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَنْزَلَ الْعَدْلَ وَمَا بِهِ يُعْرَفُ
الْعَدْلُ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلَ الْحَدِيدَ . فَمَنْ خَرَجَ
عَنْ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ قُوتِلَ بِالْحَدِيدِ . فَالْكِتَابُ وَالْعَدْلُ
مُتَلَازِمَانِ وَالْكِتَابُ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِلشَّرْعِ ؛ فَالشَّرْعُ هُوَ
الْعَدْلُ وَالْعَدْلُ هُوَ الشَّرْعُ وَمَنْ حَكَمَ بِالْعَدْلِ فَقَدْ حَكَمَ
بِالشَّرْعِ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَنْسُبُونَ مَا يَقُولُونَهُ إلَى
الشَّرْعِ وَلَيْسَ مِنْ الشَّرْعِ ؛ بَلْ يَقُولُونَ ذَلِكَ إمَّا جَهْلًا
وَإِمَّا غَلَطًا وَإِمَّا عَمْدًا وَافْتِرَاءً وَهَذَا هُوَ الشَّرْعُ
الْمُبَدَّلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَصْحَابُهُ الْعُقُوبَةَ ؛ لَيْسَ هُوَ
الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إلَى
خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ كُلُّهُ عَدْلٌ
لَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ وَلَا جَهْلٌ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } وَقَالَ تَعَالَى :
{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } فَاَلَّذِي أَنْزَلَ
اللَّهُ هُوَ الْقِسْطُ وَالْقِسْطُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَالَ
تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ }
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } فَاَلَّذِي أَرَاهُ اللَّهُ فِي
كِتَابِهِ هُوَ الْعَدْلُ .
وَقَدْ يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَالدِّينِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ
كَالْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالًا بِاجْتِهَادِهِمْ ؛ فَهَذِهِ يَسُوغُ
الْقَوْلُ
بِهَا وَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَلْتَزِمَ إلَّا قَوْلَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَهَذَا شَرْعٌ دَخَلَ فِيهِ
التَّأْوِيلُ وَالِاجْتِهَادُ وَقَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُوَافِقًا
لِلشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ فَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ أَجْرَانِ وَقَدْ لَا يَكُونُ
مُوَافِقًا لَهُ ؛ لَكِنْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا ؛
فَإِذَا اتَّقَى الْعَبْدُ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ آجَرَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ
وَغَفَرَ لَهُ خَطَأَهُ . وَمَنْ كَانَ هَكَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ
يَذُمَّهُ وَلَا يَعِيبَهُ وَلَا يُعَاقِبَهُ وَلَكِنْ إذَا عُرِفَ الْحَقُّ
بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ تَرْكُ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ
رَسُولَهُ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ وَذَلِكَ هُوَ الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ دِينُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ
لَا يُجَاهِدُونَ عَلَى قَوْلِ عَالِمٍ وَلَا شَيْخٍ وَلَا مُتَأَوِّلٍ ؛ بَلْ
يُجَاهِدُونَ لِيُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ وَيَكُونَ الدِّينُ لَهُ كَمَا فِي
الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي
وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ
بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي
مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ { قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ
شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً : فَأَيُّ ذَلِكَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
فَالْمَقْصُودُ
بِالْجِهَادِ أَنْ لَا يُعْبَدَ أَحَدٌ إلَّا اللَّهُ ؛ فَلَا يَدْعُو غَيْرَهُ
وَلَا يُصَلِّي لِغَيْرِهِ وَلَا يَسْجُدُ لِغَيْرِهِ ؛ وَلَا يَصُومُ لِغَيْرِهِ
وَلَا يَعْتَمِرُ وَلَا يَحُجُّ إلَّا إلَى بَيْتَهُ وَلَا يَذْبَحُ الْقَرَابِينَ
إلَّا لَهُ وَلَا يَنْذِرُ إلَّا لَهُ وَلَا يَحْلِفُ إلَّا بِهِ وَلَا يَتَوَكَّلُ
إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَخَافُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَتَّقِي إلَّا إيَّاهُ .
فَهُوَ الَّذِي لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا هُوَ وَلَا يَدْفَعُ
السَّيِّئَاتِ إلَّا هُوَ وَلَا يَهْدِي الْخَلْقَ إلَّا هُوَ ؛ وَلَا
يَنْصُرُهُمْ إلَّا هُوَ وَلَا يَرْزُقُهُمْ إلَّا هُوَ وَلَا يُغْنِيهِمْ إلَّا
هُوَ وَلَا يَغْفِرُ ذُنُوبَهُمْ إلَّا هُوَ قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ اللَّهُ
لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ } { وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ
وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ
اللَّهِ ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } { ثُمَّ إذَا
كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } {
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } .
وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ الشِّرْكَ كُلَّهُ وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ نِدًّا
؛ فَلَا يُدْعَى غَيْرُهُ لَا الْمَلَائِكَةُ وَلَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا
الصَّالِحُونَ وَلَا الشَّمْسُ وَلَا الْقَمَرُ وَلَا الْكَوَاكِبُ وَلَا
الْأَوْثَانُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ ؛ بَلْ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ اتَّخَذَ
الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا فَهُوَ كَافِرٌ قَالَ تَعَالَى : { مَا
كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ
يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا
رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ
وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى :
{
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ
الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } ذَمَّ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَنْ يَدْعُو الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ
وَغَيْرَهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ
لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ وَلَا تَحْوِيلَهُ وَأَنَّهُمْ
يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ بِالْوَسِيلَةِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ
وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ فَكَيْفَ يَدْعُونَ
الْمَخْلُوقِينَ وَيَذَرُونَ الْخَالِقَ وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَحَسِبَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إنَّا
أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا } وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ رَحِيمٌ بِهِمْ ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ رَأَى امْرَأَةً
مِنْ السَّبْيِ إذْ رَأَتْ وَلَدًا أَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا فَقَالَ : أَتَرَوْنَ
هَذِهِ وَاضِعَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ قَالُوا : لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ : لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا } وَهُوَ
سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ إنْ ضَلَلْتُ
فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إلَيَّ
رَبِّي إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } وَهُوَ تَعَالَى رَحِيمٌ وَدُودٌ . و "
الْوُدُّ " اللُّطْفُ وَالْمَحَبَّةُ ؛ فَهُوَ يَوَدُّ عِبَادَهُ
الْمُؤْمِنِينَ وَيَجْعَلُ لَهُمْ الْوُدَّ فِي الْقُلُوبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
{ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ
وُدًّا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : يُحِبُّهُمْ وَيُحَبِّبُهُمْ إلَى
عِبَادِهِ .
وَهُوَ
سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَلَا تُغَلِّطُهُ الْمَسَائِلُ
وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ ؛ بَلْ يُحِبُّ مَنْ يَدْعُوهُ
وَيَتَضَرَّعُ إلَيْهِ وَيُبْغِضُ مَنْ لَا يَدْعُوهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ يَغْضَبُ عَلَيْهِ }
وَقَالَ تَعَالَى { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وَقَالَ
تَعَالَى تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَبُّنَا
قَرِيبٌ فَنُنَاجِيهِ ؟ أَوْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ
الْآيَةَ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ كَالْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ
تُرْفَعُ إلَيْهِمْ الْحَوَائِجُ بِالْحِجَابِ ؛ بَلْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ
اللَّهُ قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي
وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : {
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا
قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي
فَإِذَا قَالَ { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ اللَّهُ : مَجَّدَنِي عَبْدِي ؛
فَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ اللَّهُ
هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ
فَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ
هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } .
وَهُوَ
سُبْحَانَهُ يَتَوَلَّى كَلَامَ عِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا جَاءَ فِي
الصَّحِيحِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ
رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ
فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ وَيَنْطُرُ
أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ وَيَنْظُرُ أَمَامَهُ
فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ
وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ
} وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَرِيبٌ مِمَّنْ دَعَاهُ يَتَقَرَّبُ مِمَّنْ عَبَدَهُ
وَأَطَاعَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا عِنْدَ
ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا ذَكَرَنِي إنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ
ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ
مِنْهُ وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا وَإِنْ
تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي
أَتَيْته هَرْوَلَةً } . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يُولِي عِبَادَهُ إحْسَانًا
وَجُودًا وَكَرَمًا ؛ لَا لِحَاجَةٍ إلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي
الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا }
وَلَا يُحَاسِبُ الْعِبَادَ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ وَهُوَ الَّذِي يُجَازِيهِمْ
بِأَعْمَالِهِمْ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } . وَهُوَ الَّذِي يَرْزُقُهُمْ
وَيُعَافِيهِمْ وَيَنْصُرُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ ؛ لَا أَحَدَ غَيْرَهُ يَفْعَلُ
ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ
مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ
الْكَافِرُونَ
إلَّا فِي غُرُورٍ } { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ
بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ
مُعْرِضُونَ } وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ ذَا
الَّذِي يَكْلَؤُكُمْ بَدَلًا مِنْ اللَّهِ ؟ مِنْ الَّذِي يَدْفَعُ الْآفَاتِ
عَنْكُمْ الَّتِي تَخَافُونَهَا مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ .
وَالرَّسُولُ هُوَ الْوَاسِطَةُ وَالسَّفِيرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فَهُوَ الَّذِي يُبَلِّغُهُمْ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ
وَوَعِيدَهُ وَتَحْلِيلَهُ وَتَحْرِيمَهُ : فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا
شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ شَيْءٍ
مِمَّا شَرَعَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الشَّرْعُ
الَّذِي يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ إلْزَامُ النَّاسِ بِهِ وَيَجِبُ عَلَى
الْمُجَاهِدِينَ الْجِهَادُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ اتِّبَاعُهُ
وَنَصْرُهُ .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ اللَّازِمِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ " حُكْمُ
الْحَاكِمِ " وَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ ؛ بَلْ
حُكْمُ الْحَاكِمِ الْعَالِمِ الْعَادِلِ يُلْزِمُ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ
تَحَاكَمُوا إلَيْهِ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ ؛ لَا يَلْزَمُ جَمِيعَ الْخُلُقِ
وَلَا يَجِبُ عَلَى عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَلِّدَ حَاكِمًا
لَا فِي قَلِيلٍ وَلَا فِي كَثِيرٍ إذَا كَانَ قَدْ عَرَفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ
بِهِ وَرَسُولُهُ ؛ بَلْ لَا يَجِبُ عَلَى آحَادِ الْعَامَّةِ تَقْلِيدُ
الْحَاكِمِ فِي شَيْءٍ ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ يَجُوزُ لَهُ
اسْتِفْتَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا وَمَتَى تَرَكَ الْعَالِمُ مَا
عَلِمَهُ مِنْ
كِتَابِ
اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَاتَّبَعَ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْمُخَالِفِ لِحُكْمِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ مُرْتَدًّا كَافِرًا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى : { المص } { كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ
فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ } { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا
تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } . وَلَوْ ضُرِبَ
وَحُبِسَ وَأُوذِيَ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى لِيَدَعَ مَا عَلِمَهُ مِنْ شَرْعِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَاتَّبَعَ حُكْمَ غَيْرِهِ كَانَ
مُسْتَحِقًّا لِعَذَابِ اللَّهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ وَإِنْ أُوذِيَ فِي
اللَّهِ فَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { الم } { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا
آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ
مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا
مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى
يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ
نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } .
وَهَذَا إذَا كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ حَكَمَ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ قَدْ
تَنَازَعَ فِيهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَحُكْمُ الْحَاكِمِ بِقَوْلِ
بَعْضِهِمْ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُخَالِفُ مَا حَكَمَ بِهِ فَعَلَى هَذَا أَنْ يَتَّبِعَ
مَا
عَلِمَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَيَأْمُرَ بِذَلِكَ وَيُفْتِيَ بِهِ وَيَدْعُوَ إلَيْهِ وَلَا يُقَلِّدَ
الْحَاكِمَ . هَذَا كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ تَرَكَ
الْمُسْلِمُ عَالِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ مَا عَلِمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ غَيْرِهِ كَانَ
مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ قَالَ تَعَالَى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَاكِمُ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا النَّصُّ - مِثْلَ
كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ
وَغَيْرِهِمْ تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلَ بِاجْتِهَادِهِمْ وَكَانَ فِي ذَلِكَ
سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُخَالِفُ
اجْتِهَادَهُمْ - فَهُمْ مَعْذُورُونَ لِكَوْنِهِمْ اجْتَهَدُوا و { لَا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَلَكِنْ مَنْ عَلِمَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ
السُّنَّةِ إلَى غَيْرِهَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا
مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلَالًا مُبِينًا } وَمَنْ اتَّبَعَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ كَانَ
مَهْدِيًّا مَنْصُورًا بِنُصْرَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا
قَالَ تَعَالَى : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وَقَالَ تَعَالَى : {
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } { إنَّهُمْ لَهُمُ
الْمَنْصُورُونَ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } وَإِذَا أَصَابَتْ
الْعَبْدَ مُصِيبَةٌ كَانَتْ بِذَنْبِهِ لَا بِاتِّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ بِاتِّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُرْحَمُ
وَيُنْصَرُ وَبِذُنُوبِهِ يُعَذَّبُ وَيُخْذَلُ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا
أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
} وَلِهَذَا لَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانُوا مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِمْ
الْعَدُوُّ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ بِذُنُوبِهِمْ قَالَ تَعَالَى : {
إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ
عَنْهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمَّا
أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ
هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ حِكْمَةَ ابْتِلَائِهِمْ
فَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ
وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ
فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ
فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وَاَللَّهُ
قَدَّرَهَا وَقَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ . لَكِنْ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ مِنْ عَافِيَةٍ
وَنَصْرٍ وَرِزْقٍ فَهُوَ مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ
فَالْخَيْرُ كُلُّهُ مِنْ اللَّهِ ؛ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ
بَلْ هُوَ فَقِيرٌ لَا يَمْلِكُ
لِنَفْسِهِ
نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا : وَمَا
أَصَابَهُ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِذُنُوبِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُكَفِّرُ ذُنُوبَ
الْمُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الْمَصَائِبِ وَيَأْجُرُهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا
وَيَغْفِرُ لِمَنْ اسْتَغْفَرَ وَيَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا
وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا غَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةِ
يشاكها ؛ إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } { وَلَمَّا أَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قَالَ أَبُو
بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ جَاءَتْ قَاصِمَةَ الظَّهْرِ وَأَيُّنَا لَمْ
يَعْمَلْ سُوءًا ؟ قَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْت تَنْصَبُ ؟ أَلَسْت تَحْزَنُ
؟ أَلَسْت تُصِيبُك اللَّأْوَاءُ ؟ فَذَلِكَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ } وَقَدْ قَصَّ
اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا أَصَابَهُمْ
وَمَا أَصَابَ أَتْبَاعَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَذَى فِي اللَّهِ ثُمَّ
إنَّهُ تَعَالَى نَصَرَهُمْ وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ وَقَصَّ عَلَيْنَا
ذَلِكَ لِنَعْتَبِرَ بِهِ قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ
عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ
الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ } .
فَالشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَّبِعَهُ وَيَجِبُ عَلَى
وُلَاةِ الْأَمْرِ نَصْرُهُ وَالْجِهَادُ عَلَيْهِ هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ .
وَأَمَّا حُكْمُ الْحَاكِمِ فَذَاكَ يُقَالُ لَهُ قَضَاءُ الْقَاضِي ؛ لَيْسَ هُوَ
الشَّرْعَ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ طَاعَتُهُ ؛ بَلْ
الْقَاضِي الْعَالِمُ الْعَادِلُ يُصِيبُ تَارَةً وَيُخْطِئُ تَارَةً وَلَوْ
حَكَمَ الْحَاكِمُ لِشَخْصِ بِخِلَافِ
الْحَقِّ
فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ وَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ سَيِّدَ
الْأَوَّلِينَ والآخرين كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { إنَّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ
فَأَقْضِي لَهُ بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ
شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ }
فَهَذَا سَيِّدُ الْحُكَّامِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ يَقُولُ إذَا حَكَمْت
لِشَخْصِ بِشَيْءِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَلَا يَأْخُذُهُ . وَقَدْ
أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالْأَمْلَاكِ
الْمُرْسَلَةِ لَا يَنْفُذُ فِي الْبَاطِنِ فَلَوْ حَكَمَ لِزَيْدِ بِمَالِ
عَمْرٍو وَكَانَ مُجْتَهِدًا مُتَحَرِّيًا لِلْحَقِّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ .
وَأَمَّا فِي " الْعُقُودِ والفسوخ " مِثْلُ أَنْ يَحْكُمَ بِنِكَاحِ
أَوْ طَلَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ فَسْخِ بَيْعٍ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ
وَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ لَا يَنْفُذُ أَيْضًا وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ ؛
وَهَذَا إذَا كَانَ الْحَاكِمُ عَالِمًا عَادِلًا وَقَدْ حَكَمَ فِي أَمْرٍ
دُنْيَوِيٍّ . و " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " كَمَا فِي
السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ
عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ . وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ
عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ . وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ
فَهُوَ فِي النَّارِ } فَالْقَاضِي الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إذَا
حَكَمَ لِلْإِنْسَانِ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ لَمْ يَحِلَّ لَهُ
أَخْذُهُ ؛ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ إذَا حَكَمَ فِي الدِّينِ الَّذِي لَيْسَ
لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ ؛ بَلْ هُوَ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنْ
كَانَ لَهُ عِلْمٌ تَكَلَّمَ وَإِلَّا سَكَتَ ؛
مِثْلُ
أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ مَشْرُوعٌ
مُسْتَحَبٌّ يُثَابُ فَاعِلُهُ وَأَنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ يُؤْذَى
وَيُعَاقَبُ أَوْ يُحْبَسُ : فَهَذَا الْحُكْمُ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ لَا يَحِلُّ لِمَنْ عَرَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَّبِعَهُ
وَلَا لِوَلِيِّ أَمْرٍ أَنْ يُنَفِّذَهُ وَمَنْ نَفَّذَ مِثْلَ هَذَا الْحُكْمِ
وَنَصَرَهُ كَانَ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ إنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ
الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ وَخَالَفَهَا اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ
وَكَذَلِكَ إنْ أَلْزَمَ بِمِثْلِ هَذَا جَهْلًا وَأَلْزَمَ النَّاسَ بِمَا لَا
يَعْلَمُ فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا
عُفِيَ عَنْهُ . وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى وُلَاةِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ
اتِّبَاعَ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِذَا تَنَازَعَ
بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ وَلَوْ كَانَ
الْمُنَازِعُ مِنْ آحَادِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ
أَنْ يُلْزِمُوهُ بِاتِّبَاعِ حُكْمِ حَاكِمٍ ؛ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَيِّنُوا
لَهُ الْحَقَّ كَمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ لِلْجَاهِلِ الْمُتَعَلِّمُ فَإِنْ
تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَظَهَرَ
وَعَانَدَهُ بَعْدَ هَذَا اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ . وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ : إنَّ
الَّذِي قُلْته هُوَ قَوْلِي أَوْ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ وَقَدْ قُلْته اجْتِهَادًا أَوْ تَقْلِيدًا : فَهَذَا
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَا تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَخْطَأَ
خَطَأً مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ عُوقِبَ هَذَا لَعُوقِبَ
جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ
أَقْوَالٌ اجْتَهَدَ فِيهَا أَوْ قَلَّدَ فِيهَا وَهُوَ مُخْطِئٌ فِيهَا ؛ فَلَوْ
عَاقَبَ اللَّهُ الْمُخْطِئَ لَعَاقَبَ جَمِيعَ الْخَلْقِ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ
مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ
بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } {
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا
مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا
رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا
وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ وَلَمَّا قَالَ
الْمُؤْمِنُونَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }
قَالَ اللَّهُ : قَدْ فَعَلْت } وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الدُّعَاءِ وَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ
لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ }
فَالْمُفْتِي وَالْجُنْدِيُّ وَالْعَامِّيُّ إذَا تَكَلَّمُوا بِالشَّيْءِ
بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ اجْتِهَادًا أَوْ تَقْلِيدًا قَاصِدِينَ لِاتِّبَاعِ
الرَّسُولِ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَخْطَئُوا خَطَأً مُجْمَعًا عَلَيْهِ .
وَإِذَا قَالُوا إنَّا قُلْنَا الْحَقَّ وَاحْتَجُّوا بِالْأَدِلَّةِ
الشَّرْعِيَّةِ : لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يُلْزِمَهُمْ
بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَلَا يَحْكُمَ بِأَنَّ الَّذِي قَالَهُ هُوَ الْحَقُّ دُونَ
قَوْلِهِمْ بَلْ يَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
وَالْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لَا يُغَطَّى بَلْ يَظْهَرُ
فَإِنْ ظَهَرَ رَجَعَ الْجَمِيعُ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ سَكَتَ هَذَا عَنْ
هَذَا وَسَكَتَ هَذَا عَنْ هَذَا ؛ كَالْمَسَائِلِ الَّتِي تَقَعُ يَتَنَازَعُ
فِيهَا أَهْلُ الْمَذَاهِبِ لَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ
مَذْهَبٍ أَنْ يَتَّبِعَ مَذْهَبَ غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ حَاكِمًا فَإِنَّ هَذَا
يَنْقَلِبُ فَقَدْ يَصِيرُ الْآخَرُ حَاكِمًا
فَيَحْكُمُ
بِأَنَّ قَوْلَهُ هُوَ الصَّوَابُ . فَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ يَلْزَمُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ
اتِّبَاعُهُ ؛ بِخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؛ حَقٌّ وَهُدًى وَبَيَانٌ لَيْسَ فِيهِ
خَطَأٌ قَطُّ وَلَا اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ قَالَ تَعَالَى : { أَفَلَا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا
فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَعَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ مِنْ
التَّظَالُمِ فَإِذَا تَعَدَّى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَنَعُوهُمْ الْعُدْوَانَ
؛ وَهُمْ قَدْ أُلْزِمُوا بِمَنْعِ ظُلْمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ وَأَنْ يَكُونَ
الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ فِي بِلَادِهِمْ إذَا قَامَ بِالشُّرُوطِ
الْمَشْرُوطَةِ عَلَيْهِمْ لَا يُلْزِمُهُ أَحَدٌ بِتَرْكِ دِينِهِ ؛ مَعَ
الْعِلْمِ بِأَنَّ دِينَهُ يُوجِبُ الْعَذَابَ فَكَيْفَ يَسُوغُ لِوُلَاةِ
الْأُمُورِ أَنْ يُمَكِّنُوا طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ اعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ
عَلَى بَعْضٍ ؛ وَحُكْمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بُقُولِهِ وَمَذْهَبِهِ هَذَا
مِمَّا يُوجِبُ تَغَيُّرَ الدُّوَلِ وَانْتِقَاضِهَا ؛ فَإِنَّهُ لَا صَلَاحَ
لِلْعِبَادِ عَلَى مِثْلِ هَذَا . وَهَذَا إذَا كَانَ الْحُكَّامُ قَدْ حَكَمُوا
فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا اجْتِهَادٌ وَنِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ
الَّذِي قَدْ حَكَمُوا بِهِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ
وَلَا هُوَ مَذْهَبُ أَئِمَّتِهِمْ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِمْ ؛ وَلَا
قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ؛ وَلَا فِيهِ آيَةٌ مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ
قَوْلُهُمْ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ فَكَيْفَ
يَحِلُّ مَعَ هَذَا أَنْ يُلْزِمَ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ
بِاتِّبَاعِ
هَذَا الْقَوْلِ وَيَنْفُذُ فِيهِ هَذَا الْحُكْمُ الْمُخَالِفُ لِلْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَأَنْ يُقَالَ : الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ
الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ لَا يُقَالُ وَلَا يُفْتَى بِهِ
بَلْ يُعَاقَبُ وَيُؤْذَى مَنْ أَفْتَى بِهِ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَغَيْرُهُمْ
وَيُؤْذَى الْمُسْلِمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
لِكَوْنِهِمْ اتَّبَعُوا مَا عَلِمُوهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ قَدْ
خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَهُمْ يَعْذِرُونَ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا
يُلْزِمُونَ بِاتِّبَاعِهِمْ وَلَا يَعْتَدُونَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُعَانُ مَنْ
لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ بَلْ يُحْكَمُ بِالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَيُلْزَمُ مَنْ
عَرَفَ مَا عَرَفَهُ مِنْ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ أَنْ يَتْرُكَ مَا عَلِمَهُ مِنْ
شَرْعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ هَذَا لَا رَيْبَ
أَنَّ هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ مَلَائِكَتِهِ
وَأَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ وَاَللَّهُ لَا يَغْفُلُ عَنْ مِثْلِ هَذَا وَلَيْسَ
الْحَقُّ فِي هَذَا لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ فَإِنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا
عَلِمُوهُ مِنْ شَرْعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يَظْلِمُوا أَحَدًا فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عِرْضٍ وَلَا لِأَحَدِ عَلَيْهِمْ
دَعْوَى ؛ بَلْ هُمْ قَالُوا نَحْنُ نَتَّبِعُ مَا عَرَفْنَاهُ مِنْ دِينِ
الْإِسْلَامِ وَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ
وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ فَلَا نَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ
وَنَعْبُدُهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُهُ وَشَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ فَمَا
دَعَانَا إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَنَا
بِهِ أَطَعْنَاهُ وَمَا جَعَلَهُ الرَّسُولُ دِينًا وَقُرْبَةً وَطَاعَةً وَحَسَنَةً
وَعَمَلًا صَالِحًا وَخَيْرًا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ
وَاعْتَقَدْنَاهُ قُرْبَةً وَطَاعَةً وَفَعَلْنَاهُ وَأَحْبَبْنَا مَنْ يَفْعَلُ
بِهِ وَدَعَوْنَا إلَيْهِ وَمَا نَهَانَا
عَنْهُ
الرَّسُولُ انْتَهَيْنَا عَنْهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُنَا يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ
قُرْبَةٌ فَنَحْنُ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَ الرَّسُولَ لَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ
نُطِيعَ مَنْ خَالَفَهُ وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ
الْكِتَابِ وَأَهْلَ الْبِدَعِ يَتَعَبَّدُونَ تَعَبُّدَاتٍ كَثِيرَةً يَرَوْنَهَا
قُرْبَةً وَطَاعَةً وَقَدْ نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَمَنْ قَالَ أَنَا أُطِيعُ الرَّسُولَ وَلَا أَتَعَبَّدُ بِهَذِهِ
الْعِبَادَاتِ بَلْ أَنْهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُعَارَضَ بَلْ لَوْ كَانَ مُخْطِئًا مَعَ
اجْتِهَادِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعُقُوبَةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا
يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ حُكْمِ أَحَدٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ
لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّ هَذَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ طَاعَةٌ أَوْ قُرْبَةٌ أَوْ
لَيْسَ بِطَاعَةِ وَلَا قُرْبَةٍ وَلَا بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى الْمَسَاجِدِ
وَالْقُبُورِ وَقَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشْرَعُ أَوْ
لَا يُشْرَعُ لَيْسَ لِلْحُكَّامِ فِي هَذَا مَدْخَلٌ إلَّا كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ
غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ الْكَلَامُ فِي هَذَا لِجَمِيعِ أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ
تَكَلَّمَ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى
عَالِمٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ يُبَيِّنُ لَهُ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ
فَإِنْ بَيَّنَ لَهُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ قَبُولُهَا
أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ وَظَهَرَ خَطَؤُهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَرْجِعْ بَلْ أَصَرَّ
عَلَى إظْهَارِ مَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالدُّعَاءَ إلَى ذَلِكَ
وَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَيُعَاقَبَ إنْ لَمْ يَمْتَنِعْ وَأَمَّا إذَا
لَمْ يُبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ
الشَّرْعِيَّةِ
لَمْ تَجُزْ عُقُوبَتُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ
الْقَوْلِ وَلَا الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُهُ إذَا كَانَ يَقُولُ
إنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا قَالَهُ
فُلَانٌ وَفُلَانٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَهَذَا إذَا اجْتَهَدَ
فَأَخْطَأَ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛
وَالْمُنَازِعُ لَهُ يَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ وَالْحُكْمُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ
لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ
الْكِبَارُ لَوْ قَالُوا بِمِثْلِ قَوْلِ الْحُكَّامِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إلْزَامُ
النَّاسِ بِذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ لَا بِمُجَرَّدِ حُكْمِهِمْ .
فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ
وَطَاعَتَهُ وَاتِّبَاعَ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَشَرْعِهِ وَدِينِهِ ؛ وَهُوَ
حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ؛ وَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ
الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَطَرِيقِ
الْجَنَّةِ وَطَرِيقِ النَّارِ وَبِهِ هَدَى اللَّهُ الْخَلْقَ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ
وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } { وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ
عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ
مُوسَى تَكْلِيمًا } { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَحَدٌ
أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } فَالْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ تَقُومُ بِالرُّسُلِ
وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ الشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ
قَبُولُهُ وَإِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَتَحَاكَمُ جَمِيعُ الْخَلْقِ .
وَلِهَذَا
كَانَ مِنْ أَصُولُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ مَنْ تَوَلَّى بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
وَغَيْرِهِمْ لَا يَجِبُ أَنْ يَنْفَرِدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعِلْمِ لَا
يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ ؛ بَلْ عِلْمُ الدِّينِ الَّذِي سَنَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَرِكُ الْمُسْلِمُونَ فِي مَعْرِفَتِهِ وَإِذَا
كَانَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنْ الْحَدِيثِ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ بَلَّغَهُ
هَؤُلَاءِ لِأُولَئِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْخُلَفَاءُ يَسْأَلُونَ الصَّحَابَةَ
فِي بَعْضِ الْأُمُورِ : هَلْ عِنْدَكُمْ عِلْمٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ سُنَّةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمُوا بِهَا كَمَا سَأَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ
عَنْ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ لَمَّا أَتَتْهُ فَقَالَ : مَا لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ
مِنْ شَيْءٍ وَمَا عَلِمْت لَك فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئًا ؛ وَلَكِنْ
حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ . فَسَأَلَهُمْ ؛ فَأَخْبَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مسلمة
وَغَيْرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهَا
السُّدْسَ . وَكَذَلِكَ { عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا سَأَلَهُمْ عَنْ
الْجَنِينِ إذَا قُتِلَ قَامَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ }
أَيْ مَنْ قَتَلَ جَنِينًا ضَمِنَهُ بِمَمْلُوكِ أَوْ جَارِيَةٍ لِوَرَثَتِهِ
فَقَضَى بِذَلِكَ قَالُوا : وَتَكُونُ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ عُشْرِ دِيَةِ أُمِّهِ
وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيهِ : { إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ
فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } وَرُوِيَ { أَنَّهُ ضُرِبَ الْحَقُّ
عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ } وَقَالَ { لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ
فِيكُمْ عُمَرُ } وَمَعَ هَذَا فَمَا كَانَ يُلْزِمُ أَحَدًا بِقَوْلِهِ وَلَا
يَحْكُمُ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ ؛ بَلْ كَانَ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ
وَيُرَاجِعُ فَتَارَةً يَقُولُ قَوْلًا فَتَرُدُّهُ
عَلَيْهِ
امْرَأَةٌ فَيَرْجِعُ إلَيْهَا كَمَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الصَّدَاقَ مَحْدُودًا
لَا يُزَادُ عَلَى صَدَاقَاتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ : مَنْ زَادَ جُعِلَتْ الزِّيَادَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ -
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُعَجِّلُونَ الصَّدَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ لَمْ
يَكُونُوا يُؤَخِّرُونَهُ إلَّا أَمْرًا نَادِرًا - فَقَالَتْ امْرَأَةٌ : يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَ تَحْرِمُنَا شَيْئًا أَعْطَانَا اللَّهُ إيَّاهُ فِي
كِتَابِهِ ؟ فَقَالَ : وَأَيْنَ ؟ فَقَالَتْ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ
أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ
قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } فَرَجَعَ عُمَرُ إلَى قَوْلِهَا
وَقَالَ : امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ . وَكَانَ فِي مَسَائِلِ
النِّزَاعِ مِثْلَ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ وَالطَّلَاقِ يَرَى رَأْيًا وَيَرَى
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَأْيًا وَيَرَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
رَأْيًا وَيَرَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَأْيًا ؛ فَلَمْ يُلْزِمْ أَحَدًا أَنْ
يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمْ يُفْتِي بِقَوْلِهِ وَعُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إمَامُ الْأُمَّةِ كُلُّهَا وَأَعْلَمُهُمْ وأدينهم وَأَفْضَلُهُمْ
فَكَيْفَ يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْ الْحُكَّامِ خَيْرًا مِنْ عُمَرَ . هَذَا إذَا
كَانَ قَدْ حَكَمَ فِي مَسْأَلَةِ اجْتِهَادٍ فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَا قَالَهُ
لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا الْأَرْبَعَةِ وَلَا مَنْ
قَبْلَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ؛ وَإِنَّمَا يَقُولُهُ مِثْلُهُ
وَأَمْثَالُهُ مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ
السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ ؛ وَإِنَّمَا يَحْكُمُونَ بِالْعَادَاتِ الَّتِي
تَرَبَّوْا عَلَيْهَا كَاَلَّذِينَ قَالُوا : { إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى
أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } وَكَمَا تَحْكُمُ
الْأَعْرَابُ
بِالسَّوَالِفِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ وَهِيَ عَادَاتٌ كَمَا يَحْكُمُ التتر
" بالياسق " الَّذِي جَرَتْ بِهِ عَادَاتُهُمْ وَأَمَّا أَهْلُ
الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ فَإِنَّمَا يَحْكُمُونَ
بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ
لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ
تَعَالَى : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ
وَاحِدٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إذَا خِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ لَا
يُعْلَمُ أَيُّهُمَا الظَّالِمُ ؛ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ ؛ بَلْ أَمَرَ
بِحُكْمَيْنِ ؛ وَأَلَا يَكُونَا مُتَّهَمَيْنِ ؛ بَلْ حَكَمًا مِنْ أَهْلِ
الرَّجُلِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ
خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ
أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا } أَيْ الْحَكَمَيْنِ { يُوَفِّقِ اللَّهُ
بَيْنَهُمَا } أَيْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ . فَإِنْ رَأَيَا الْمَصْلَحَةَ أَنْ
يَجْمَعَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ جَمَعَا وَإِنْ رَأَيَا الْمَصْلَحَةَ أَنْ
يُفَرِّقَا بَيْنَهُمَا فَرَّقَا : إمَّا بِعِوَضِ تَبْذُلُهُ الْمَرْأَةُ
فَتَكُونُ الْفُرْقَةُ خُلْعًا إنْ كَانَتْ هِيَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَ
الزَّوْجُ هُوَ الظَّالِمَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ .
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ حَكَمَانِ كَمَا سَمَّاهُمَا
اللَّهُ حَكَمَيْنِ يَحْكُمَانِ بِغَيْرِ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا وَقِيلَ
هُمَا وَكِيلَانِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَوْلِ الْآخَرِ فِي
الْمَذْهَبَيْنِ .
فَهُنَا
لَمَّا اشْتَبَهَ الْحَقُّ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ الْحُكْمَ لِوَاحِدِ وَهُوَ فِي
قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ بَيْنَ زَوْجَيْنِ . وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ وَاحِدٌ بَيْنَ
الزَّوْجَيْنِ فِي أَمْرٍ ظَاهِرٍ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ بِأُمُورِ الدِّينِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي يَشْتَرِكُ
فِيهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ اشْتَبَهَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ .
هَذَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحْكُمُ فِيهِ إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَهُ وَأَوْضَحَهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمُونَ إذَا
عَرَفُوا شَرْعَ نَبِيِّهِمْ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْهُ وَإِنْ كَانَ كُلُّ قَوْمٍ
يَقُولُونَ عِنْدَنَا عِلْمٌ مِنْ الرَّسُولِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَمْرٌ
ظَاهِرٌ يُجْمَعُونَ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ كَانَ أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ لَهُمْ
أَجْرَانِ وَالْآخَرُونَ لَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ
وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } . " وَوَلِيُّ الْأَمْرِ " إنْ
عَرَفَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ
وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَعْلَمَ مَا يَقُولُ هَذَا وَمَا يَقُولُ
هَذَا حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ حَكَمَ بِهِ ؛ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ لَا هَذَا
وَلَا هَذَا تَرَكَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ كُلٌّ يَعْبُدُ
اللَّهَ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ أَحَدًا
بِقَبُولِ قَوْلِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا .
وَإِذَا
خَرَجَ وُلَاةُ الْأُمُورِ عَنْ هَذَا فَقَدْ حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ وَوَقَعَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { مَا حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَّا وَقَعَ
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ } وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ تَغْيِيرِ الدُّوَلِ
كَمَا قَدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فِي زَمَانِنَا وَغَيْرِ
زَمَانِنَا وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ سَعَادَتَهُ جَعَلَهُ يَعْتَبِرُ بِمَا أَصَابَ
غَيْرَهُ فَيَسْلُكُ مَسْلَكَ مَنْ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَنَصَرَهُ وَيَجْتَنِبُ
مَسْلَكَ مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ وَأَهَانَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي
كِتَابِهِ : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ } { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } فَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ بِنَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ
وَنَصْرُهُ هُوَ نَصْرُ كِتَابِهِ وَدِينِهِ وَرَسُولِهِ ؛ لَا نَصْرُ مَنْ
يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَيَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فَإِنَّ
الْحَاكِمَ إذَا كَانَ دَيِّنًا لَكِنَّهُ حَكَمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مِنْ
أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا لَكِنَّهُ حَكَمَ بِخِلَافِ الْحَقِّ
الَّذِي يَعْلَمُهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِذَا حَكَمَ بِلَا عَدْلٍ وَلَا
عِلْمٍ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ . وَهَذَا إذَا حَكَمَ
فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لِشَخْصِ . وَأَمَّا إذَا حَكَمَ حُكْمًا عَامًّا فِي
دِينِ الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلَ الْحَقَّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلَ حَقًّا
وَالسُّنَّةَ بِدْعَةً وَالْبِدْعَةَ سُنَّةً وَالْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا
وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا وَنَهَى عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ
وَأَمَرَ بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ : فَهَذَا لَوْنٌ آخَرُ .
يَحْكُمُ فِيهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَإِلَهُ الْمُرْسَلِينَ مَالِكُ يَوْمِ
الدِّينِ الَّذِي { لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ
الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } .
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : (*)
" الدَّعَاوَى " الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا وُلَاةُ الْأُمُورِ سَوَاءٌ
سُمُّوا قُضَاةً أَوْ وُلَاةً أَوْ تَسَمَّى بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ
وُلَاةَ الْأَحْدَاثِ أَوْ وُلَاةَ الْمَظَالِمِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ
الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ ؛ فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ . وَعَلَى كُلِّ مَنْ وَلِيَ
أَمْرَ الْأُمَّةِ أَوْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ
وَالْقِسْطِ وَأَنْ يَحْكُمَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا هُوَ الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } وَقَالَ
تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ }
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } فَالدَّعَاوَى
" قِسْمَانِ " : دَعْوَى تُهْمَةٍ وَغَيْرِ تُهْمَةٍ . فَدَعْوَى
التُّهْمَةِ أَنْ يَدَّعِيَ فِعْلًا يَحْرُمُ عَلَى الْمَطْلُوبِ يُوجِبُ
عُقُوبَتَهُ ؛ مِثْلَ قَتْلٍ ؛ أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ
أَوْ
سَرِقَةٍ ؛ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُدْوَانِ الْمُحَرَّمِ
كَاَلَّذِي يَسْتَخْفِي بِهِ بِمَا يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ
فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ فِي الْعَادَةِ . وَغَيْرُ التُّهْمَةِ أَنْ يَدَّعِيَ
دَعْوَى عَقْدٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ ضَمَانٍ أَوْ دَعْوَى
لَا يَكُونُ فِيهَا سَبَبُ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ ؛ مِثْلَ دَيْنٍ ثَابِتٍ فِي
الذِّمَّةِ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ صَدَاقٍ أَوْ دِيَةِ خَطَأٍ أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ . فَكُلٌّ مِنْ الْقِسْمَيْنِ قَدْ يَكُونُ دَعْوَى حَدٍّ لِلَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ مَحْضٌ كَالشُّرْبِ وَالزِّنَا . وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا مَحْضًا
لِآدَمِيِّ : كَالْأَمْوَالِ . وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ الْأَمْرَانِ كَالسَّرِقَةِ
وَقَطْعِ الطَّرِيقِ فَهَذَانِ " الْقِسْمَانِ " إذَا أَقَامَ
الْمُدَّعِيَ فِيهِ حُجَّةً شَرْعِيَّةً وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ
يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالِهِمْ
؛ وَلَكِنْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } وَفِي رِوَايَةٍ فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } فَهَذَا الْحَدِيثُ
نَصَّ أَنَّ أَحَدًا لَا يُعْطَى بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ . وَنَصَّ فِي أَنَّ
الدَّعْوَى الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْإِعْطَاءِ تَجِبُ فِيهَا الْيَمِينُ ابْتِدَاءً
عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الدَّعَاوَى الْمُوجِبَةَ لِلْعُقُوبَاتِ
لَا تُوجِبُ إلَّا الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ؛ بَلْ ثَبَتَ عَنْهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ
لِلْأَنْصَارِ
لَمَّا اشْتَكَوْا إلَيْهِ لِأَجْلِ قَتِيلِهِمْ الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرِ وَهُوَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَخُوهُ عَبْدُ الْرَّحْمَنِ وَأَبْنَاءُ عَمِّهِ حويصة وَمَحِيصَة
وَكَانَ محيصة مَعَهُ بِخَيْبَرِ وَقَالَ : أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا
وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ قَالُوا : وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ
نَرَ ؟ قَالَ : فتبريكم يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا قَالُوا : وَكَيْفَ نَأْخُذُ
بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كُفَّارٍ ؟ } أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ
جَمِيعُهُمْ مِثْلُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ
وَالنَّسَائِي وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ : { يُقْسِمُ خَمْسُونَ
مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ
مَاجَه مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ
مَاجَه مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ
أَصَحُّ وَأَشْهَرُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي هَذَا الْبَابِ . وَابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِي يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ } وَأَنَّ
هَذَا قَضَى بِهِ فِي دَعَاوَى وَقَضَى بِهَذَا فِي دَعَاوَى . وَأَمَّا
الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فِي أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ { الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ
ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } فَهَذَا قَدْ رُوِيَ أَيْضًا ؛ لَكِنْ
لَيْسَ إسْنَادُهُ فِي الصِّحَّةِ وَالشُّهْرَةِ مِثْلَ غَيْرِهِ وَلَا رَوَاهُ
عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ وَلَا قَالَ بِعُمُومِهِ أَحَدٌ مِنْ
عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ ؛ إلَّا طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ مِثْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّهُمْ
يَرَوْنَ
الْيَمِينَ دَائِمًا فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ حَتَّى فِي الْقَسَامَةِ
يُحَلِّفُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يَقْضُونَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ
وَلَا يَردُونَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ النُّكُولِ وَاسْتَدَلُّوا
بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ . وَأَمَّا سَائِرُ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ : مِثْلَ
ابْنِ جريح وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ
حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمْ : فَتَارَةً يُحَلِّفُونَ
الْمُدَّعِي وَتَارَةً يُحَلِّفُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ
سُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْأَصْلُ عِنْدَ
جُمْهُورِهِمْ أَنَّ الْيَمِينَ مَشْرُوعَةٌ فِي أَقْوَى الْجَانِبَيْنِ . "
وَالْبَيِّنَةُ " عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ . وَبَيْنَهُمْ
نِزَاعٌ فِي تَفَارِيعِ ذَلِكَ ؛ فَتَارَةً يَكُونُ لَوْثًا مَعَ أَيْمَانِ
الْقَسَامَةِ . وَتَارَةً يَكُونُ شَاهِدًا وَيَمِينًا . وَتَارَةً يَكُونُ
دَلَائِلَ غَيْرِ الشُّهُودِ كَالصِّفَةِ لِلْقِطَّةِ . وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ
الْحَدِيثِ : تَارَةً بِالتَّضْعِيفِ . وَتَارَةً بِأَنَّهُ عَامٌّ
وَأَحَادِيثُهُمْ خَاصَّةٌ . وَتَارَةً بِأَنَّ أَحَادِيثَهُمْ أَصَحُّ وَأَكْثَرُ
وَأَشْهَرُ ؛ فَالْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْلَى وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ طَلَبَ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمُدَّعِي
وَالْيَمِينَ مِنْ الْمُنْكِرِ فِي حُكُومَاتٍ مُعَيَّنَةٍ ؛ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ
دَعَاوَى التُّهَمِ ؛
مِثْلَ
مَا خَرَّجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ :
كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ حُكُومَةٌ فِي بِئْرٍ ؛ فَاخْتَصَمْنَا إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ
فَقُلْت : إذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي فَقَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ
صَبْرٍ يَقْطَعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ
وَهُوَ عَلَيْهِ غضبان وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ بَيِّنَتُك أَنَّهَا بِئْرُك ؛
وَإِلَّا فَيَمِينُهُ } وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حجر قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ مِنْ
حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا قَدْ
غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لِأَبِي . فَقَالَ الْكِنْدِيُّ : هِيَ أَرْضِي
وَبِيَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ . فَقَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ : أَلَك بَيِّنَةٌ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَلَك يَمِينُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ فَاجِرٌ لَا
يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ :
لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالٍ
لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ } رَوَاهُ
مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَى الْمَطْلُوبِ إلَّا الْيَمِينَ مَعَ ذِكْرِ
الْمُدَّعِي لِفُجُورِهِ وَقَالَ " لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ "
وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَانَ خَصْمُ الْأَشْعَثِ يَهُودِيًّا
هَكَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَمَعَ هَذَا لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ إلَّا
الْيَمِينَ وَفِي حَدِيثِ الْقَسَامَةِ أَنَّ الْأَنْصَارَ لَمَّا قَالُوا :
كَيْفَ
نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ ؟ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ؛ فَعُلِمَ
أَنَّ الدَّعَاوَى مُخْتَلِفَةٌ فِي ذَلِكَ . وَهَذَا الْقِسْمُ لَا أَعْلَمُ
فِيهِ نِزَاعًا . أَعْنِي أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ
الْيَمِينِ إذَا لَمْ يَأْتِ الْمُدَّعِي بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ ؛ وَهِيَ
الْبَيِّنَةُ . وَالْبَيِّنَةُ الَّتِي هِيَ الْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ : تَارَةً
تَكُونُ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ رَجُلَيْنِ . وَتَارَةً رَجُلٍ وامرأتين .
وَتَارَةً أَرْبَعِ شُهَدَاءَ وَتَارَةً ثَلَاثَةٍ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ
مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ دَعْوَى
الْإِفْلَاسِ فِيمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ مَالًا فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مخارق الْهِلَالِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ لِأَحَدِ إلَّا
لِثَلَاثَةِ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى
يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ ؛ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ
فَحَلَتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ؛ وَرَجُلٍ
أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الحجى مِنْ قَوْمِهِ
يَقُولُونَ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ
حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ؛ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَا
قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا } وَلِأَنَّ الْغِنَى مِنْ
الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي تَقْوَى بِهَا التُّهْمَةُ بِإِخْفَاءِ الْمَالِ
. وَتَارَةً تَكُونُ الْحُجَّةُ شَاهِدًا وَيَمِينُ الطَّالِبِ عِنْدَ جُمْهُورِ
فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْل الْحِجَازِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ . وَتَارَةً
تَكُونُ الْحُجَّةُ نِسَاءً : إمَّا امْرَأَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد
فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَإِمَّا امْرَأَتَيْنِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي
رِوَايَةٍ وَإِمَّا أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ . وَتَارَةً تَكُونُ
الْحُجَّةُ غَيْرَ ذَلِكَ .
وَتَارَةً
تَكُونُ الْحُجَّةُ اللَّوْثُ وَاللَّطْخُ وَالشُّبْهَةُ مَعَ أَيْمَانِ
الْمُدَّعِي خَمْسِينَ يَمِينًا وَهِيَ الْقَسَامَةُ الَّتِي يُبْدَأُ فِيهَا
بِأَيْمَانِ الْمُدَّعِي عِنْدَ عَامَّةِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ
الْحَدِيثِ . وَتَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهَا بِأَنَّ الْيَمِينَ فِيهَا خَمْسُونَ
يَمِينًا كَمَا امْتَازَتْ أَيْمَانُ اللِّعَانِ بِأَنْ كَانَتْ أَرْبَعَ
شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ لِأَنَّ كُلَّ يَمِينٍ أُقِيمَتْ مَقَامَ شَاهِدٍ .
وَالْقَسَامَةُ تُوجِبُ الْقَوَدَ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَتُوجِبُ الدِّيَةَ
فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ . وَأَهْلُ الرَّأْيِ لَا يُحَلِّفُونَ فِيهَا إلَّا
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّهُمْ مَعَ تَحْلِيفِهِ يُوجِبُونَ
عَلَيْهِ الدِّيَةَ . عَلَى تَفْصِيلٍ مَعْرُوفٍ لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا ذِكْرَهُ
وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَجَامِعِ الْأَحْكَامِ فِي الدَّعَاوَى
فَإِنَّهُ بَابٌ عَظِيمٌ وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ شَدِيدَةٌ عَامَّةٌ . وَقَدْ وَقَعَ
فِيهِ التَّفْرِيطُ مِنْ بَعْضِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْعُدْوَانُ مِنْ
بَعْضِهِمْ مَا أَوْجَبَ الْجَهْلَ بِالْحَقِّ وَالظُّلْمَ لِلْخَلْقِ وَصَارَ
لَفْظُ " الشَّرْعِ " غَيْرَ مُطَابِقٍ لِمُسَمَّاهُ الْأَصْلِيِّ ؛
بَلْ لَفْظُ الشَّرْعِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ
" . " أَحَدُهَا " الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ وَهُوَ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ وَاتِّبَاعُهُ وَاجِبٌ مَنْ خَرَجَ عَنْهُ وَجَبَ قَتْلُهُ
وَيَدْخُلُ فِيهِ أُصُولُ الدِّينِ وَفُرُوعُهُ ؛ وَسِيَاسَةُ الْأُمَرَاءِ
وَوُلَاةِ الْمَالِ وَحُكْمُ الْحُكَّامِ وَمَشْيَخَةُ الشُّيُوخِ وَغَيْرُ ذَلِكَ
فَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين خُرُوجٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ . و " الثَّانِي " الشَّرْعُ الْمُؤَوَّلُ وَهُوَ مَوَارِدُ
النِّزَاعِ وَالِاجْتِهَادِ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَمَنْ أَخَذَ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ
الِاجْتِهَادُ أُقِرَّ عَلَيْهِ وَلَمْ تَجِبْ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ
مُوَافَقَتُهُ إلَّا بِحُجَّةِ لَا مَرَدَّ لَهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
و
" الثَّالِثُ " الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ مِثْلَ مَا يَثْبُتُ مِنْ
شَهَادَاتِ الزُّورِ أَوْ يُحْكَمُ فِيهِ بِالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ بِغَيْرِ
الْعَدْلِ وَالْحَقِّ حُكْمًا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَوْ يُؤْمَرُ فِيهِ
بِإِقْرَارِ بَاطِلٍ لِإِضَاعَةِ حَقٍّ : مِثْلَ أَمْرِ الْمَرِيضِ أَنْ يُقِرَّ
لِوَارِثِ بِمَا لَيْسَ بِحَقِّ لِيُبْطِلَ بِهِ حَقَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ
فَإِنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ وَالشَّهَادَةَ عَلَيْهِ مُحَرَّمَةٌ وَإِنْ كَانَ
الْحَاكِمُ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ بَاطِنَ الْأَمْرِ إذَا حَكَمَ بِمَا ظَهَرَ
لَهُ مِنْ الْحَقِّ لَمْ يَأْثَمْ فَقَدْ قَالَ سَيِّدُ الْحُكَّامِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { إنَّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ ؛ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ
مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ
بِشَيْءِ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً
مِنْ النَّارِ }
الْقِسْمُ الْآخَرُ مِنْ الدَّعَاوَى " دَعَاوَى التُّهَمِ " وَهِيَ
دَعْوَى الْجِنَايَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ مِثْلُ دَعْوَى الْقَتْلِ .
وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالسَّرِقَةِ وَالْعُدْوَانِ عَلَى الْخَلْقِ بِالضَّرْبِ
وَغَيْرِهِ . فَهَذَا يَنْقَسِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى " ثَلَاثَةِ
أَقْسَامٍ " فَإِنَّ الْمُتَّهَمَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ
تِلْكَ التُّهْمَةِ أَوْ فَاجِرًا مِنْ أَهْلِ تِلْكَ التُّهْمَةِ أَوْ يَكُونَ
مَجْهُولَ الْحَالِ لَا يَعْرِفُ الْحَاكِمُ حَالَهُ فَإِنْ كَانَ بَرًّا لَمْ
تَجُزْ عُقُوبَتُهُ بِالِاتِّفَاقِ . وَاخْتَلَفُوا فِي عُقُوبَةِ الْمُتَّهَمِ
لَهُ مِثْلُ أَنْ يُوجَدَ فِي يَدِ رَجُلٍ عَدْلٍ مَالٌ مَسْرُوقٌ ؛ وَيَقُولَ ذُو
الْيَدِ ابْتَعْته مِنْ السُّوقِ لَا أَدْرِي
مَنْ
بَاعَهُ فَلَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ . ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ
وَغَيْرُهُمْ : يَحْلِفُ الْمُسْتَحِقُّ أَنَّهُ مَلَّكَهُ مَا خَرَجَ عَنْ
مِلْكِهِ وَيَأْخُذُهُ قَالَ هَؤُلَاءِ : لَا يَمِينَ عَلَى الْمَطْلُوبِ ثُمَّ
اخْتَلَفُوا فِي الْعُقُوبَةِ لِلْمُتَّهَمِ لَهُ ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَشْهَبُ :
لَا أَدَبَ عَلَى الْمُدَّعِي إلَّا أَنْ يَقْصِدَ أَذِيَّتَهُ وَعَيْبَهُ
وَشَتْمَهُ فَيُؤَدَّبُ . وَقَالَ أصبغ : يُؤَدَّبُ قَصَدَ أَذِيَّتَهُ أَوْ لَمْ
يَقْصِدْ وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ إنَّ الْحُدُودَ الَّتِي
لِلَّهِ لَا يَحْلِفُ فِيهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِذَا أَخَذَ الْمُسْتَحِقُّ
مَالَهُ لَمْ يَبْقَ عَلَى ذَوِي الْيَدِ دَعْوَى إلَّا لِأَجْلِ الْحَدِّ وَلَا
يَحْلِفُ . " الْقِسْمُ الثَّانِي " أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ
مَجْهُولَ الْحَالِ لَا يُعْرَفُ بِبِرِّ أَوْ فُجُورٍ فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى
يَنْكَشِفَ حَالُهُ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ . وَالْمَنْصُوصُ
عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَالْوَالِي ؛ هَكَذَا
نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ ؛ وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَد
وَمُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ وَذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَد . قَدْ حَبَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي تُهْمَةٍ قَالَ أَحْمَد : وَذَلِكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ أَمْرُهُ
وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَالْخَلَّالُ وَغَيْرُهُمَا
عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ ؛ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ } وَرَوَى الْخَلَّالُ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً } وَالْأُصُولُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا
بَيْنَ الْأَئِمَّةِ تُوَافِقُ ذَلِكَ . فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ
الْمُدَّعِيَ إذَا طَلَبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي يَجِبُ إحْضَارُهُ وَجَبَ
عَلَى الْحَاكِمِ إحْضَارُهُ إلَى مَجْلِسِ
الْحُكْمِ
حَتَّى يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا وَيَحْضُرَهُ مِنْ مَسَافَةِ الدَّعْوَى الَّتِي هِيَ
عِنْدَ بَعْضِهِمْ بَرِيدٌ ؛ وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ الذَّهَابُ إلَيْهِ
وَالْعَوْدُ فِي يَوْمٍ ؛ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّ
مَسَافَةَ الْقَصْرِ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ كَمَا
يَقُولُهُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ ثُمَّ الْحَاكِمُ قَدْ يَكُونُ
مَشْغُولًا عَنْ تَعْجِيلِ الْفَصْلِ وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ حُكُومَاتٌ
سَابِقَةٌ فَيَبْقَى الْمَطْلُوبُ مَحْبُوسًا مَعُوقًا مِنْ حِينِ يُطْلَبُ إلَى
حِينِ يُفْصَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ وَهَذَا حَبْسٌ بِدُونِ التُّهْمَةِ
فَفِي التُّهْمَةِ أَوْلَى .
فَإِنَّ " الْحَبْسَ الشَّرْعِيَّ " لَيْسَ هُوَ السِّجْنَ فِي مَكَانٍ
ضَيِّقٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَعْوِيقُ الشَّخْصِ وَمَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ
بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي بَيْتٍ أَوْ مَسْجِدٍ أَوْ كَانَ بِتَوْكِيلِ نَفْسِ
الْخَصْمِ أَوْ وَكِيلِ الْخَصْمِ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسِيرًا كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ
مَاجَه عَنْ { الْهِرْمَاسِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْت النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَرِيمِ لِي فَقَالَ لِي : الْزَمْهُ ثُمَّ
قَالَ : يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ بِأَسِيرِك } وَفِي
رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَه { ثُمَّ مَرَّ بِي آخِرَ النَّهَارِ فَقَالَ : مَا فَعَلَ
أَسِيرُك يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ ؟ } وَهَذَا هُوَ الْحَبْسُ عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ حَبْسًا مُعَدًّا
لِسَجْنِ النَّاسِ وَلَكِنْ لَمَّا انْتَشَرَتْ الرَّعِيَّةُ فِي زَمَنِ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ ابْتَاعَ بِمَكَّةَ دَارًا وَجَعَلَهَا سِجْنًا وَحَبَسَ فِيهَا
.وَلَقَدْ
تَنَازَعَ
الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ هَلْ يَتَّخِذُ الْإِمَامُ
حَبْسًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَمَنْ قَالَ : لَا يَتَّخِذُ حَبْسًا ؛ قَالَ :
يَعُوقُهُ بِمَكَانِ مِنْ الْأَمْكِنَةِ أَوْ يُقَامُ عَلَيْهِ حَافِظٌ وَهُوَ
الَّذِي يُسَمَّى " التَّرْسِيمُ " . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ حُضُورُ
مَجْلِسِ الْحَاكِمِ تَعْوِيقًا وَمَنْعًا مِنْ جِنْسِ السَّجْنِ وَالْحَبْسِ
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يُحْضَرُ الْخَصْمُ الْمَطْلُوبُ بِمُجَرَّدِ
الدَّعْوَى ؟ أَمْ لَا يُحْضَرُ إذَا كَانَ مِمَّنْ يُبْتَذَلُ بِالْحُضُورِ
حَتَّى يَبِينَ لِمُدَّعِي الدَّعْوَى أَصْلٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا
رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . " وَالثَّانِي " قَوْلُ مَالِكٍ . "
وَالْأَوَّلُ " قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَمِنْ
الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : الْحَبْسُ فِي التُّهْمَةِ إنَّمَا هُوَ لِلْوَالِي
وَالِي الْحَرْبِ ؛ دُونَ الْقَاضِي وَقَدْ ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ . كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزبيري وَأَقْضَى الْقُضَاةِ الماوردي
وَغَيْرِهِمَا . وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد الْمُصَنِّفِينَ فِي "
أَدَبِ الْقُضَاةِ " وَغَيْرِهِمْ . وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الْحَبْسِ
فِي التُّهْمَةِ : هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ ؟ أَوْ مَرْجِعُهُ إلَى اجْتِهَادِ
الْإِمَامِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَالْقَاضِي
الماوردي وَغَيْرُهُمَا . وَقِيلَ هُوَ مُقَدَّرٌ بِشَهْرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ الزبيري . وَقِيلَ : هُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ
الماوردي .
الْقِسْمُ
" الثَّالِثُ " أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ
مِثْلَ الْمُتَّهَمِ بِالسَّرِقَةِ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ
وَالْمُتَّهَمِ بِقَطْعِ طَرِيقٍ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِهِ وَالْمُتَّهَمِ
بِالْقَتْلِ أَوْ كَانَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ مَعْرُوفًا بِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ .
فَإِذَا جَازَ حَبْسُ الْمَجْهُولِ فَحَبْسُ الْمَعْرُوفِ بِالْفُجُورِ أَوْلَى
وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّبِعِينَ مَنْ قَالَ
إنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الدَّعَاوَى يَحْلِفُ وَيُرْسَلُ
بِلَا حَبْسٍ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ جَمِيعِ وُلَاةِ الْأُمُورِ ؛ فَلَيْسَ هَذَا
عَلَى إطْلَاقِهِ مَذْهَبُ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا
عَلَى إطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ هُوَ الشَّرْعُ فَهُوَ غَلَطَ غَلَطًا فَاحِشًا
مُخَالِفًا لِنُصُوصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَبِمِثْلِ هَذَا الْغَلَطِ الْفَاحِشِ اسْتَجْرَأَ
الْوُلَاةُ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ وَتَوَهَّمُوا أَنَّ مُجَرَّدَ الشَّرْعِ
لَا بِسِيَاسَةِ الْعَالَمِ وَبِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَاعْتَدَوْا حُدُودَ
اللَّهِ فِي ذَلِكَ . وَتَوَلَّدَ مِنْ جَهْلِ الْفَرِيقَيْنِ بِحَقِيقَةِ
الشَّرْعِ خُرُوجُ النَّاسِ عَنْهُ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْبِدَعِ السِّيَاسِيَّةِ
. فَهَذَا الْقِسْمُ فِيهِ مَسَائِلُ الْقَسَامَةِ وَالْحُكْمُ فِيهَا مَعْرُوفٌ
وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهَا هَاهُنَا . وَأَمَّا التُّهْمَةُ فِي السَّرِقَةِ
وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِمَا فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَبْسِ فِيهِمَا .
وَأَمَّا الِامْتِحَانُ بِالضَّرْبِ وَنَحْوِهِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ : يُشْرَعُ
لِلْقَاضِي وَالْوَالِي ؟ أَمْ يُشْرَعُ لِلْوَالِي دُونَ الْقَاضِي ؟ أَمْ
يُشْرَعُ الضَّرْبُ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا ؟ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ
" .
"
أَحَدُهَا " أَنَّهُ يُضْرَبُ فِيهَا الْقَاضِي وَالْوَالِي وَهَذَا قَوْلُ
طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْهُمْ
أَشْهَبُ قَاضِي مِصْرَ قَالَ أَشْهَبُ : يُمْتَحَنُ بِالسِّجْنِ وَالْأَدَبِ
وَيُضْرَبُ بِالسَّوْطِ مُجَرَّدًا . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " لَا
يُضْرَبُ بَلْ يُحْبَسُ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا قَوْلُ أَصْبَغَ مِنْ أَصْحَابِ
مَالِكٍ وَقَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ؛
لَكِنَّ حَبْسَ الْمُتَّهَمِ عِنْدَهُمْ أَبْلَغُ مِنْ حَبْسِ الْمَجْهُولِ ؛
فَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا هَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَمُطَرِّفِ وَابْنِ
الماجشون وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ . وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ
الْإِمَامِ أَحْمَد فِيمَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ بِدْعَتِهِ أَنَّهُ يُحْبَسُ
حَتَّى يَمُوتَ وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ . و "
الْقَوْلُ الثَّالِثُ " أَنَّهُ يَضْرِبُهُ الْوَالِي دُونَ الْقَاضِي
وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد
كَالْقَاضِي أَبِي الْحَسَنِ الماوردي وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمَا .
وَبَسَطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي كُتُبِ " الْأَحْكَامِ
السُّلْطَانِيَّةِ " وَقَالُوا : إنَّ وِلَايَةَ الْحَرْبِ مُعْتَمَدُ
الْعُقُوبَةِ عَلَى الْجَرَائِمِ وَالْمَنْعِ مِنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ
وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْعُقُوبَةِ لِلْمُتَّهَمِينَ الْمَعْرُوفِينَ
بِالْإِجْرَامِ ؛ بِخِلَافِ وِلَايَةِ الْحُكْمِ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا يَحْصُلُ
بِدُونِ ذَلِكَ وَهَذَا الْقَوْلِ هُوَ قَوْلٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ
؛ لَكِنَّ كُلَّ وَلِيٍّ أُمِرَ بِفِعْلِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ فَكَمَا أَنَّ
وَالِيَ الصَّدَقَاتِ لَا يَمْلِكُ مِنْ الْقَبْضِ وَالصَّرْفِ مَا يَمْلِكُهُ
وَالِي
الْخَرَاجِ
وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا مَالًا شَرْعِيًّا ؛ وَكَذَلِكَ وَالِي الْحَرْبِ
وَوَالِي الْحُكْمِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَفْعَلُ مَا اقْتَضَتْهُ وِلَايَتُهُ الشَّرْعِيَّةُ
مَعَ رِعَايَةِ الْعَدْلِ وَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ .
وَأَمَّا عُقُوبَةُ مَنْ عَرَفَ أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَهُ وَقَدْ جَحَدَهُ أَوْ
مَنَعَهُ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا أَعْلَمُ مُنَازِعًا
فِي أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ وَهُوَ قَادِرٌ
عَلَى وَفَائِهِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ أَنَّهُ يُعَاقَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ وَقَدْ
نَصُّوا عَلَى عُقُوبَتِهِ بِالضَّرْبِ وَذَكَرَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنْبَلِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ }
رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِثْلُ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنِ مَاجَه
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عِ نه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } وَالظَّالِمُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ .
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ التَّعْزِيرَ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ
لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ . وَالْمَعْصِيَةُ نَوْعَانِ : تَرْكُ وَاجِبٍ ؛ أَوْ فِعْلُ
مُحَرَّمٍ . إنْ تَرَكَ الْوَاجِبَاتِ مَعَ قُدْرَتِهِ كَقَضَاءِ الدُّيُونِ
وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا مِنْ الْوِكَالَاتِ وَالْوَدَائِعِ
وَأَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْوُقُوفِ وَالْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ أَوْ
رَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمَظَالِمِ : فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا . وَكَذَلِكَ
مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ إحْضَارُ نَفْسٍ ؛ لِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ
مِثْلُ أَنْ يَقْطَعَ رَجُلٌ الطَّرِيقَ وَيَفِرَّ إلَى بَعْضِ ذَوِي قُدْرَةٍ
فَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخْذِ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ مِنْهُ : فَهَذَا
مُحَرَّمٌ بِالِاتِّفَاقِ وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ
عَلِيٍّ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ
اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا } وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي
سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ
اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ وَمَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ فِي حُدُودِ
اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ مَا لَيْسَ
فِيهِ حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ } . فَمَا
وَجَبَ إحْضَارُهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ اسْتَحَقَّ الْمُمْتَنِعُ مِنْ
فِعْلِ الْوَاجِبِ الْعُقُوبَةَ حَتَّى يَفْعَلَهُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ
الْإِحْضَارُ إلَى مَنْ يَظْلِمُهُ أَوْ إحْضَارُ الْمَالِ إلَى مَنْ يَأْخُذُهُ
بِغَيْرِ حَقٍّ . فَهَذَا لَا يَجِبُ بَلْ وَلَا يَجُوزُ ؛ فَإِنَّ الْإِعَانَةَ
عَلَى الظُّلْمِ ظُلْمٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وَقَالَ
تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا
تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا
بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى } . وَأَمَّا " مَوَاطِنُ الِاشْتِبَاهِ "
الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الظُّلْمِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ : مِثْلَ وُلَاةِ
الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ إذَا أَخَذُوا مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ وَكَانَ
الْمُسْتَخْرِجُ لَهَا ظَالِمًا فِي صَرْفِهَا أَيْضًا : فَهَذَا لَيْسَ عَلَى
أَحَدٍ أَنْ يُعِينَ الظَّالِمَ الْقَادِرَ عَلَى إبْقَائِهَا بِيَدِهِ وَلَا
يُعِينَ الظَّالِمَ الطَّالِبَ أَيْضًا فِي قَبْضِهَا ؛ بَلْ إنَّ تَرْجِيحَ
أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِنَوْعِ مِنْ الْحَقِّ أَعَانَ عَلَى الْحَقِّ وَإِنْ
كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا ظَالِمًا وَلَا يُمْكِنُ صَرْفُهَا إلَى مُسْتَحِقٍّ
عَدَلَ
بَيْنَ الظَّالِمَيْنِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْعَدْلَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي جَمِيعِ
الْأُمُورِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَمِنْ الْعَدْلِ فِي ذَلِكَ أَلَّا يُمَكِّنَ
أَحَدَهُمَا مِنْ الْبَغْيِ عَلَى الْآخَرِ ؛ بَلْ يَفْعَلُ أَقْرَبَ الْمُمْكِنِ
إلَى الْعَدْلِ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إذَا أَقَرَّ حَالَ الِامْتِحَانِ بِالْحَبْسِ أَوْ
الضَّرْبِ : هَلْ يَسُوغُ ذَلِكَ ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُؤْخَذُ بِذَلِكَ
الْإِقْرَارِ إذَا ظَهَرَ صِدْقُهُ : مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ السَّرِقَةَ
بِعَيْنِهَا وَلَوْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ الضَّرْبِ لَمْ يُقْبَلْ ؛ بَلْ
يُؤْخَذُ بِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَشْهَبَ فِي الْقَاضِي وَالْوَالِي وَهُوَ الَّذِي
ذَكَرَهُ الْقَاضِيَانِ الماوردي وَأَبُو يَعْلَى فِي الْوَالِي . وَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ : لَا بُدَّ مِنْ إقْرَارٍ آخَرَ بِعَدَدِ الضَّرْبِ وَإِذَا رَجَعَ عَنْ
الْإِقْرَارِ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ . وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَكَثِيرٍ
مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ .
وَأَمَّا " مِقْدَارُ الضَّرْبِ " فَإِذَا كَانَ الضَّرْبُ عَلَى تَرْكِ
وَاجِبٍ : مِثْلُ أَنْ يُضْرَبَ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ . فَهَذَا لَا
يَتَقَدَّرُ ؛ بَلْ يُضْرَبُ يَوْمًا فَإِنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَإِلَّا ضُرِبَ
يَوْمًا آخَرَ ؛ لَكِنْ لَا يَزِيدُ كُلَّ مَرَّةٍ عَلَى التَّعْزِيرِ عِنْدَ مَنْ
يُقَدِّرُ أَعْلَاهُ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي " مِقْدَارِ أَعْلَى
التَّعْزِيرِ " الَّذِي يُقَامُ بِفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى أَقْوَالٍ
"
أَحَدُهَا " : وَهُوَ أَحْسَنُهَا وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا - أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ فِي التَّعْزِيرِ
فِي كُلِّ جَرِيمَةٍ الْحَدَّ الْمُقَدَّرَ فِيهَا وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدٍّ
مُقَدَّرٍ فِي غَيْرِهَا . فَيَجُوزُ التَّعْزِيرُ فِي الْمُبَاشَرَةِ
الْمُحَرَّمَةِ وَفِي السَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ بِالضَّرْبِ الَّذِي يَزِيدُ
عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ وَلَا يَبْلُغُ بِذَلِكَ الرَّجْمَ وَالْقَطْعَ . "
الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ أَدْنَى
الْحُدُودِ : إمَّا أَرْبَعِينَ وَإِمَّا ثَمَانِينَ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ . و " الْقَوْلُ
الثَّالِثُ " أَنْ لَا يُزَادَ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ
وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَعَلَى الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ الْقَتْلَ مِثْلَ قَتْلِ
الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ ؟ فِي ذَلِكَ " قَوْلَانِ " أَحَدُهُمَا قَدْ
يَبْلُغُ بِهِ الْقَتْلَ فَيَجُوزُ قَتْلُ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إذَا قَصَدَ
الْمَصْلَحَةَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد كَابْنِ عَقِيلٍ
وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي قَتْلِ
الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ ؛ وَمَنْ لَا يَزُولُ فَسَادُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ ؛
وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ قَتْلُ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ كَالْقَدَرِيَّةِ
وَنَحْوِهِمْ . و " الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ
الْجَاسُوسُ وَهُوَ مُذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي
يَعْلَى مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد .
وَالْمَنْصُوصُ
عَنْ أَحْمَد التَّوَقُّفُ فِي الْمَسْأَلَةِ . وَمِمَّنْ يُجَوِّزُ التَّعْزِيرَ
بِالْقَتْلِ فِي " الذُّنُوبِ الْكِبَارِ " أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ
فِي مَوَاضِعَ يُسَمُّونَ الْقَتْلَ فِيهَا سِيَاسَةً كَقَتْلِ مَنْ تَكَرَّرَ
لِوَاطُهُ أَوْ قَتْلُهُ بالمثقل ؛ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ قَتْلَهُ سِيَاسَةً
وَتَعْزِيرًا ؛ وَإِنْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ بَلْ وَلَا
يُجَوِّزُهُ فِيمَنْ فَعَلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَأَمَّا صَاحِبَاهُ فَمَعَ
سَائِرِ الْأَئِمَّةِ فَيُخَالِفُونَ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الْقَوَدُ فِي الْقَتْلِ
؛ وَفِي وُجُوبِ قَتْلِ اللُّوطِيِّ إمَّا مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مُحْصَنًا أَوْ
غَيْرَ مُحْصَنٍ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ رِوَايَتَيْهِ
وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَدُّهُ مِثْلَ
حَدِّ الزَّانِي كَقَوْلِ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَشْهَرِ
قَوْلَيْهِ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ رِوَايَتَيْهِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ يُوَافِقُ
الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَمَرَ بِجَلْدِ الَّذِي أَحَلَّتْ امْرَأَتُهُ لَهُ جَارِيَتَهَا مِائَةً
وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَجُلًا وُجِدَ مَعَ امْرَأَةٍ فِي فِرَاشٍ مِائَةً
؛ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ضَرَبَ الَّذِي زَوَّرَ عَلَيْهِ خَاتَمَهُ فَأَخَذَ
مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِائَةً ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي
وَالثَّالِثِ مِائَةً مِائَةً . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ أَصْنَافِ
التَّعْزِيرِ فَإِنَّهَا كَثِيرَةُ الشُّعَبِ.
فَأَمَّا ضَرْبُ الْمُتَّهَمِ إذَا عُرِفَ أَنَّ الْمَالَ عِنْدَهُ وَقَدْ
كَتَمَهُ وَأَنْكَرَهُ لِيُقِرَّ بِمَكَانِهِ فَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ ؛
فَإِنَّهُ ضُرِبَ لِيُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ مِنْ التَّعْرِيفِ بِمَكَانِهِ كَمَا
يُضْرَبُ
لِيُؤَدِّيَ
مَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى وَفَائِهِ وَقَدْ جَاءَ فِي
ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى الصَّفْرَاءِ
وَالْبَيْضَاءِ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ سَعْيَةَ عَمَّ حيي بْنِ أَخْطَبَ فَقَالَ :
أَيْنَ كَنْزُ حيي بْنِ أَخْطَبَ ؟ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَذْهَبَتْهُ
الْحُرُوبُ فَقَالَ لِلزُّبَيْرِ : دُونَك هَذَا فَمَسَّهُ الزُّبَيْرُ بِشَيْءِ
مِنْ الْعَذَابِ فَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ فِي خَرِبَةٍ ؛ وَكَانَ حُلِيًّا فِي مَسْكِ
ثَوْرٍ } . فَهَذَا أَصْلٌ فِي ضَرْبِ الْمُتَّهَمِ الَّذِي عُلِمَ أَنَّهُ تَرَكَ
وَاجِبًا أَوْ فَعَلَ مُحَرَّمًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَوَلَّى حُكُومَةً عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ رُمَاةِ الْبُنْدُقِ
وَيَقُولُ : هَذَا شَرْعُ الْبُنْدُقِ وَهُوَ نَاظِرٌ عَلَى مَدْرَسَةٍ وَفُقَهَاء
: فَهَلْ إذَا تَحَدَّثَ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَالشَّرْعِ الَّذِي يَذْكُرُهُ
تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ مِنْ النَّظَرِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى حَاكِمِ
الْمُسْلِمِينَ الَّذِي يُثْبِتُ عَدَالَتَهُ عِنْدَهُ إذَا سَمِعَ أَنَّهُ
يَتَحَدَّثُ فِي شَرْعِ الْبُنْدُقِ الَّذِي لَا يَشْرَعُهُ اللَّهُ وَلَا
رَسُولُهُ أَنْ يَعْزِلَهُ مِنْ النَّظَرِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ
اللَّهِ ؛ لَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الْكُفَّارِ وَلَا الْفِتْيَانِ وَلَا
رُمَاةِ الْبُنْدُقِ وَلَا الْجَيْشِ وَلَا الْفُقَرَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ :
إلَّا بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَمَنْ ابْتَغَى غَيْرَ ذَلِكَ تَنَاوَلَهُ
قَوْله
تَعَالَى { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وقَوْله تَعَالَى { فَلَا وَرَبِّكَ لَا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } فَيَجِبُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُحَكِّمُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي كُلِّ مَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ وَمَنْ حَكَمَ بِحُكْمِ الْبُنْدُقِ وَشَرْعِ الْبُنْدُقِ أَوْ
غَيْرِهِ مِمَّا يُخَالِفُ شَرْعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَحُكْمَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ : فَهُوَ مِنْ جِنْسِ التَّتَارِ الَّذِينَ
يُقَدِّمُونَ حُكْمَ " الياسق " عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَمَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَقَدْ قَدَحَ فِي عَدَالَتِهِ وَدِينِهِ وَوَجَبَ أَنْ
يُمْنَعَ مِنْ النَّظَرِ فِي الْوَقْفِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَاب
الشَّهَادَاتُ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَنْ الرِّوَايَةِ : هَلْ كُلُّ مَنْ قُبِلَتْ رِوَايَتُهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا قَوْلُهُ : هَلْ كُلُّ مَنْ قُبِلَتْ رِوَايَتُهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ .
فَذًّا فِيهِ نِزَاعٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ وَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ : فَمَذْهَبُ
عَلِيٍّ وَأَنَسٍ وشريح تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ .
وَالْمَرْأَةُ تُقْبَلُ رِوَايَتُهَا مُطْلَقًا وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهَا فِي
الْجُمْلَةِ لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَا يَتَعَدَّى
حُكْمُهَا إلَى الشَّاهِدِ ؛ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ ؛ فَإِنَّ الرِّوَايَةَ
يَتَعَدَّى حُكْمُهَا فَإِنَّ الرَّاوِيَ رَوَى حُكْمًا يَشْتَرِكُ فِيهِ هُوَ
وَغَيْرُهُ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الرِّوَايَةِ عَدَدٌ بِخِلَافِ
الشَّهَادَةِ . وَهَذَا مِمَّا فَرَّقُوا بِهِ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَدِينٍ كَتَبَ مَحْضَرًا بِإِعْسَارِهِ وَشَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ
مُعْسِرٌ عَمَّا لَزِمَهُ مِنْ الدِّينِ وَلَمْ يُعَيَّنْ مِقْدَارُهُ : هَلْ
يَكْفِي هَذَا ؟ وَلَوْ عَيَّنَهُ الشَّاهِدُ : هَلْ يَفْتَقِرُ أَنْ يَقُولَ :
وَلَا شَيْءَ مِنْهُ ؟ وَلَوْ قَالَ : فَهَلْ الثَّلَاثَةُ دَرَاهِمَ ؛ أَوْ
الدِّرْهَمُ وَالنِّصْفُ دَاخِلَةٌ فِي ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الشَّهَادَةُ بِالْإِعْسَارِ فَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ مُعْسِرٌ عَمَّا
لَزِمَهُ مِنْ الدَّيْنِ ؛ وَعَرَفُوا قَدْرَهُ : صَحَّتْ الشَّهَادَةُ لَكِنَّ
هَذَا لَا يَمْنَعُ قُدْرَتَهُ عَلَى وَفَاءِ بَعْضِهِ . وَتَصِحُّ الشَّهَادَةُ
بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا قَدْرَهُ إذَا شَهِدُوا بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ
عَلَى وَفَاءِ شَيْءٍ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِهَذَا مُتَعَذِّرٌ فِي الْغَالِبِ
وَلَكِنْ إذَا كَانَ الدَّيْنُ عَنْ مُعَاوَضَةٍ - كَثَمَنِ بَيْعٍ وَبَدَلِ
قَرْضٍ - وَكَانَ لَهُ مَالٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِذَهَابِ
مَالِهِ : صَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ . وَفِي مِثْلِ هَذَا
الْقَوْلِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ مُعْسِرٌ عَاجِزٌ عَنْ وَفَاءِ مَا
يَحْلِفُ عَلَيْهِ إنَّ ادَّعَى الْعَجْزَ عَنْ وَفَاءِ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ
حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ
لَيْسَ لَهُ إلَّا كَذَا حَلَفَ عَلَيْهِ . وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ الشَّاهِدَةُ
بِعُسْرَتِهِ ثَلَاثَةً إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ؛ لِلْخَبَرِ الْمَأْثُورِ فِي
ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَتْ
بِتَلَفِ
مَالِهِ بِسَبَبِ ظَاهِرٍ . وَالْحَدِيثُ حَدِيثُ قَبِيصَةَ بْنِ مخارق
الْهِلَالِيِّ ؛ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا
لِثَلَاثَةِ : رَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ
الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ؛ أَوْ قَالَ : سَدَادًا مِنْ
عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ . وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ
مِنْ ذَوِي الحجى مِنْ قَوْمِهِ فَيَقُولُونَ : لَقَدْ أَصَابَ فُلَانًا فَاقَةٌ
فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ؛ أَوْ قَالَ :
سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ . وَرَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ
لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ . فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ
الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ فَسُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ فِي صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ :
أَنَّ وَارِثِي هَذَا لَمْ يَرِثْنِي غَيْرُهُ : فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ وَلِمَنْ
يَكُونُ الْإِرْثُ بَعْدَهُ ؟
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ بَلْ إنْ كَانَ وَارِثًا فِي الشَّرْعِ وَرِثَهُ
شَاءَ أَمْ أَبَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا فِي الشَّرْعِ لَمْ يَرِثْ .
وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ وَلَا يُغَيِّرَ دِينَ اللَّهِ
؛ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَرْهًا كَانَ فَاسِقًا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ ؛ كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا
قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنْ الْجَنَّةِ }
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ ؟ أَمْ لَا ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : إنْ كَانَ الشَّاهِدُ ذَا عَدْلٍ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ؛
لَكِنَّ فِي تَحْلِيفِهِ نِزَاعٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ يَحْلِفُ فَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً لَمْ يَحُلْ
الْحَوْلُ حَتَّى يَبْيَضَّ ثَدْيَاهَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الضَّرَّةِ ؟
فَأَجَابَ :
لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الضَّرَّةِ فِيمَا يُبْطِلُ نِكَاحَ ضَرَّتِهَا ؛ لَا
بِرِضَاعِ وَلَا غَيْرِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَاصِي وَالْمُبْتَدِعِ : هَلْ تَجُوزُ
بِالِاسْتِفَاضَةِ وَالشُّهْرَةِ ؟ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ السَّمَاعِ
وَالْمُعَايَنَةِ ؟ وَإِذَا كَانَتْ الِاسْتِفَاضَةُ فِي ذَلِكَ كَافِيَةً فَمَنْ
ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ
الْأَئِمَّةِ
؟ وَمَا وَجْهُ حُجِّيَّتِهِ ؟ وَالدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ وَالْمُرَجِّحُ لَهَا
؛ هَلْ يَجُوزُ السَّتْرُ عَلَيْهِ ؟ أَمْ تَتَأَكَّدُ الشَّهَادَةُ لِيُحَذِّرَهُ
النَّاسُ ؟ وَمَا حَدُّ الْبِدْعَةِ الَّتِي يُعَدُّ بِهَا الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ
الْأَهْوَاءِ ؟
فَأَجَابَ :
مَا يُجْرَحُ بِهِ الشَّاهِدُ وَغَيْرُهُ مِمَّا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ
وَدِينِهِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِهِ إذَا عَلِمَهُ الشَّاهِدُ بِهِ
بِالِاسْتِفَاضَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا شَرْعِيًّا كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ
طَوَائِفُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِي كُتُبِهِمْ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ
صَرَّحُوا فِيمَا إذَا جُرِحَ الرَّجُلُ جَرْحًا مُفْسِدًا أَنَّهُ يَجْرَحُهُ
الْجَارِحُ بِمَا سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ رَآهُ وَاسْتَفَاضَ . وَمَا أَعْلَمُ فِي
هَذَا نِزَاعًا بَيْنَ النَّاسِ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ يَشْهَدُونَ فِي
وَقْتِنَا فِي مِثْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالدِّينِ بِمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ إلَّا
بِالِاسْتِفَاضَةِ . وَيَشْهَدُونَ فِي مِثْلِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ
وَالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ وَعَمْرُو بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْلَانَ
الْقَدَرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَإِ الرافضي وَنَحْوِهِمْ مِنْ الظُّلْمِ
وَالْبِدْعَةِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَهُ إلَّا بِالِاسْتِفَاضَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ
فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ
مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا ؛ فَقَالَ : وَجَبَتْ
وَمُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ : وَجَبَتْ
وَجَبَتْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَوْلُك : وَجَبَتْ وَجَبَتْ ؟ قَالَ
: هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا
الْجَنَّةُ وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت وَجَبَتْ
لَهَا النَّارُ . أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ } . هَذَا إذَا كَانَ
الْمَقْصُودُ تَفْسِيقَهُ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ وَوِلَايَتِهِ .
وَأَمَّا
إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ التَّحْذِيرَ مِنْهُ وَاتِّقَاءَ شَرِّهِ فَيُكْتَفَى
بِمَا دُونَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ اعْتَبِرُوا
النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ ؛ وَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا يَجْتَمِعُ إلَيْهِ الْأَحْدَاثُ فَنَهَى عَنْ مُجَالَسَتِهِ
. فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُخَالِطًا فِي السَّيْرِ لِأَهْلِ الشَّرِّ يُحَذَّرُ عَنْهُ
. و " الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ " مُسْتَحِقٌّ الْعُقُوبَةَ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَعُقُوبَتُهُ تَكُونُ تَارَةً بِالْقَتْلِ وَتَارَةً
بِمَا دُونَهُ كَمَا قَتَلَ السَّلَفُ جَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ وَالْجَعْدَ بْنَ
دِرْهَمٍ وَغَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ وَغَيْرَهُمْ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَا
يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ أَوْ لَا يُمْكِنُ عُقُوبَتُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ
بِدْعَتِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا فَإِنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
وَرَسُولُهُ . و " الْبِدْعَةُ " الَّتِي يُعَدُّ بِهَا الرَّجُلُ مِنْ
أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَا اشْتَهَرَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ
مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ كَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ
وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الْمُبَارَكِ وَيُوسُفَ بْنَ أَسْبَاطٍ وَغَيْرَهُمَا قَالُوا : أُصُولُ
اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً هِيَ أَرْبَعٌ : الْخَوَارِجُ وَالرَّوَافِضُ
وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ : فالْجَهْمِيَّة ؟
قَالَ : لَيْسَتْ الْجَهْمِيَّة مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ . و " الْجَهْمِيَّة " نفاة الصِّفَاتِ ؛ الَّذِينَ
يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ
وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى اللَّهِ وَإِنَّ اللَّهَ لَا عِلْمَ
لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا حَيَاةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُهُ
الْمُعْتَزِلَةُ والمتفلسفة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ .
وَقَدْ
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ : هُمَا صِنْفَانِ فَاحْذَرْهُمَا :
الْجَهْمِيَّة وَالرَّافِضَةُ . فَهَذَانِ الصِّنْفَانِ شِرَارُ أَهْلِ الْبِدَعِ
وَمِنْهُمْ دَخَلَتْ الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ كالْنُصَيْرِيَّة
والْإِسْمَاعِيلِيَّة وَمِنْهُمْ اتَّصَلَتْ الِاتِّحَادِيَّةُ ؛ فَإِنَّهُمْ مِنْ
جِنْسِ الطَّائِفَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ . و " الرَّافِضَةُ " فِي
هَذِهِ الْأَزْمَانِ مَعَ الرَّفْضِ جهمية قَدَرِيَّةٌ ؛ فَإِنَّهُمْ ضَمُّوا إلَى
الرَّفْضِ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ ؛ ثُمَّ قَدْ يَخْرُجُونَ إلَى مَذْهَبِ
الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَنَحْوٍ مِنْ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالِاتِّحَادِ . وَاَللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ شُهُودٍ شَهِدُوا بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَمَّا شَخَصَ قَالُوا :
غَلِطْنَا وَرَجَعُوا : فَهَلْ يُقْبَلُ رُجُوعُهُمْ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، إذَا رَجَعَ عَنْ شَهَادَتِهِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا لَمْ يُحْكَمْ
بِهَا وَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ غَلِطَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ
وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي دِينِهِ وَلَا عَدَالَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .==
52. مجموع
الفتاوى تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى :
728هـ)
=== بَابٌ الْقِسْمَةُ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : عَنْ رَجُلَيْنِ بَيْنَهُمَا دَارٌ مُشْتَرَكَةٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ
فَامْتَنَعَ شَرِيكُهُ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ : فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ
أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إنْ كَانَتْ تَقْبَلُ الْقِسْمَةَ مِنْ
غَيْرِ ضَرَرٍ بِحَيْثُ لَا تَنْقُصُ فِي الْبَيْعِ أُجْبِرَ الْمُمْتَنِعُ عَلَى
الْقِسْمَةِ ؛ وَإِلَّا كَانَ لِطَالِبِ الْقِسْمَةِ أَنْ يَطْلُبَ الْبَيْعَ قَدْ
يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا الثَّمَنُ . وَالْإِجْبَارُ عَلَى
الْقِسْمَةِ الْمَذْكُورَةِ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَالْإِجْبَارُ
عَلَى الْبَيْعِ الْمَذْكُورِ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ
أَحْمَد.
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَصْلِ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا
فِي بُسْتَانٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إنْسَانٍ مُخْتَلِّ الْعَقْلِ
وَالْحَاكِمُ يَحْجُرُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ : فَهَلْ لِلْحَاكِمِ
أَنْ يَقْسِمَ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ وَيَلْزَمُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ عَلَى
الْعِمَارَةِ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ وَطَلَبَ الشَّرِيكُ الْقَسْمَ وَجَبَ عَلَى
الْحَاكِمِ إجَابَتُهُ وَلَوْ كَانَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ رَشِيدًا فَكَيْفَ إذَا
كَانَ تَحْتَ الْحَجْرِ ؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ غَيْرَ
قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُقَاسِمَ عَنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ
إذَا رَآهُ مَصْلَحَةً . وَإِذَا طَلَبَ الشَّرِيكُ : إمَّا الْقِسْمَةَ وَإِمَّا
الْعِمَارَةَ : فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُجِيبَهُ إلَى أَحَدِهِمَا .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ ثَلَاثَةِ شُرَكَاءَ فِي طَاحُونٍ وَلِأَحَدِهِمْ السُّدْسُ وَهُوَ
فَقِيرُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ يَقْتَاتُ بِهِ سِوَى أُجْرَةِ السُّدْسِ
الْمُخْتَصِّ بِهِ وَقَدْ مَنَعُوهُ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ إلَّا فِي كُلِّ
سِتَّةِ أَيَّامٍ يَوْمًا وَقَدْ طَلَبَ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ بِقِسْطِهِ لِيَسْتَعِينَ
بِهِ عَلَى قُوتِهِ فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ بِاقْتِدَارِهِمْ عَلَى الْمَالِ
وَالْجَاهِ عَلَيْهِ : فَمَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا طَلَبَ الشَّرِيكُ أَنْ يُؤَجِّرُوا
الْعَيْنَ وَيُقَسِّمُوا الْأُجْرَةَ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ أَوْ يهايئوه
فَيَقْتَسِمُوا الْمَنْفَعَةَ : وَجَبَ عَلَى الشُّرَكَاءِ أَنْ يُجِيبُوهُ إلَى
أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ؛ فَإِنْ أَجَابُوهُ إلَى الْمُهَايَأَةِ وَطَلَبُوا
تَطْوِيلَ الدَّوْرِ الَّذِي يَأْخُذُ فِيهِ نَصِيبَهُ وَطَلَبَ هُوَ تَقْصِيرَ
الدَّوْرِ وَجَبَتْ إجَابَتُهُ دُونَهُمْ ؛ فَإِنَّ الْمُهَايَأَةَ بِالزَّمَانِ
فِيهَا تَأْخِيرُ حُقُوقِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ عَنْ بَعْضٍ فَكُلَّمَا كَانَ
الِاسْتِيفَاءُ أَقْرَبَ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ اسْتِيفَاءِ
الشُّرَكَاءِ جَمِيعِهِمْ حُقُوقَهُمْ وَالتَّأْخِيرُ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ
فَكُلَّمَا قَلَّ زَمَنُ التَّأَخُّرِ كَانَ أَوْلَى ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ
مَعَ التَّأْخِيرِ لَا يُمْكِنُ الشَّرِيكَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ إلَّا
بِضَرَرِ مِثْلَ إعْدَادِ بَهَائِمَ لِيَوْمِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا فِي
الْأُسْبُوعِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مُوَافَقَتُهُمْ عَلَى مَا فِيهِ
ضَرَرُهُ مَعَ إمْكَانِ التَّعْدِيلِ بَيْنَهُمْ بِلَا ضَرَرٍ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ قِسْمَةِ اللَّحْمِ بِلَا مِيزَانٍ ؟ وَقِسْمَةِ التِّينِ وَالْعِنَبِ
وَالرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ وَالْخِيَارِ عَدَدًا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا قِسْمَةُ اللَّحْمِ بِالْقِيمَةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ فَإِنَّ
الْقِسْمَةَ إفْرَازٌ بَيْنَ الْأَنْصِبَاءِ ؛ لَيْسَتْ بَيْعًا عَلَى الصَّحِيحِ
. وَهَكَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاسِمُ أَهْلَ
خَيْبَرَ خَرْصًا فَيَخْرُصُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ مَا عَلَى النَّخْلِ
فَيُقَسِّمُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ
خَرْصًا وَكَذَلِكَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَنْحَرُونَ الْجُزُرَ وَيُقَسِّمُونَهَا
بَيْنَهُمْ بِلَا مِيزَانٍ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَلِكَ جَمِيعُ هَذَا الْبَابِ يَجُوزُ
قِسْمَةُ التِّينِ وَالْعِنَبِ بِغَيْرِ كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ وَتَجُوزُ قِسْمَةُ
الرُّمَّانِ عَدَدًا وَكَذَلِكَ الْبِطِّيخُ وَالْخِيَارُ . هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ
فِي الْمَعْدُودَاتِ كُلِّهَا أَنَّهَا تُقَسَّمُ بِالْقِيمَةِ ؛ وَلَيْسَتْ
هَذِهِ الْقِسْمَةُ بَيْعًا ؛ لَكِنَّ تَعْدِيلَ الْأَجْزَاءِ مُعْتَبَرٌ فِيهِ
الْخِبْرَةُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُعَدَّلَ الْأَنْصَابُ [ بـ ]
(1) مَا يُمْكِنُ إمَّا مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا
بِالْخَرْصِ وَالتَّقْوِيمِ ؛ لَيْسَ هَذَا مِثْلَ الْبَيْعِ ؛ فَإِنَّ
الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَالِ وَيَجُوزُ قِسْمَةُ التَّمْرِ قَبْلَ
بُدُوِّ صَلَاحِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
هَلْ يَجُوزُ قِسْمَةُ اللَّحْمِ بِلَا مِيزَانٍ ؟ وَقِسْمَةُ التِّينِ
وَالْعِنَبِ وَالرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ وَالْخِيَارِ عَدَدًا ؟
فَأَجَابَ :
تَجُوزُ قِسْمَةُ الْأَمْوَالِ الرَّطْبَةِ كَالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ . فَالْمَقْصُودُ بِالْقِسْمَةِ أَنْ يَكُونَ بِالْعَدْلِ فَإِذَا لَمْ
يَكُنْ التَّعْدِيلُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ كَانَ التَّعْدِيلُ يَقُومُ مَقَامَ
ذَلِكَ مِنْ الْخَرْصِ وَالتَّقْوِيمِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ وَيَجُوزُ
أَنْ يَشْتَرِيَ الْفَاكِهَةَ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ يَدًا بِيَدِ بِلَا
خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ بَيْعِهَا
نَسِيئَةً وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ نَسِيئَةً وَهُوَ مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيِّ فِي
قَوْلِهِ الْقَدِيمِ . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا : هَلْ
هُوَ التَّمَاثُلُ وَالْقُوتُ ؟ وَالطَّعَامُ مُمَاثِلُ الطَّعْمِ ؟ فَمَنْ قَالَ
: هِيَ التَّمَاثُلُ وَالْقُوتُ وَالتَّمَاثُلُ مَعَ الطَّعْمِ جَوَّزَ ذَلِكَ
وَمَنْ قَالَ : هِيَ الطَّعْمُ وَحْدَهُ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
بَابٌ
الْإِقْرَارُ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَقَرَّ أَنَّ جَمِيعَ الْحَانُوتِ الْمَعْرُوفَةِ بِسَكَنِ
الْمُقِرِّ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَعْيَانِ وَقْفٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى
مَسْجِدٍ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ؛ ثُمَّ لَمْ تَتَمَكَّنْ الْبَيِّنَةُ مِنْ
وَزْنِ تِلْكَ الْأَعْيَانِ حَتَّى مَاتَ الْوَاقِفُ وَبَعْضُ الْبَيِّنَةِ لَا
تَعْرِفُ تِلْكَ الْأَعْيَانَ الْمُقَرِّ بِهَا : هِيَ هَذِهِ الْأَعْيَانُ
الْمَوْجُودَةُ الْآنَ ؟ فَهَلْ يَسُوغُ لَهُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ أَنْ يَشْهَدَ
بِهَا اعْتِمَادًا عَلَى إقْرَارِ الْمُقِرِّ وبالاستفاضة مِنْ تِلْكَ
الْعَدْلَيْنِ ؟
فَأَجَابَ :
الشَّاهِدُ يَشْهَدُ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ كَلَامِ الْمُقِرِّ وَالْإِقْرَارُ
يَصِحُّ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ وَالْمُتَمَيِّزِ وَغَيْرِ الْمُتَمَيِّزِ
. وَإِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ أُخْرَى بِتَعْيِينِ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ جَازَ
ذَلِكَ وَعُمِلَ بِمُوجِبِ شَهَادَتِهِمْ ؛ كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْمُقِرُّ
لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ عِنْدِي كَذَا وَأَنَّ دَارِي الْفُلَانِيَّةَ أَوْ
الْمَحْدُودَةَ بِكَذَا لِفُلَانِ ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِأَنَّ هَذَا
الْمُعَيَّنَ هُوَ الْمُسَمَّى وَالْمَوْصُوفُ أَوْ الْمَحْدُودُ فَإِنَّ هَذَا
يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْمُعَرَّفِ : هَلْ
يَكْفِي أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا ؟ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ ؟ عَلَى
قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ
الْإِمَامِ أَحْمَد . و " الثَّانِي " قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ
. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ شَخْصَيْنِ تَبَارَيَا وَأَشْهَدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا
لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْآخَرِ مُطَالَبَةً وَلَا دَعْوَى بِسَبَبِ دِينَارٍ
وَلَا دِرْهَمٍ ؛ وَلَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا
عَلَى الْآخَرِ دَيْنٌ بِمَسْطُورِ شَرْعِيٍّ بِدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ
فَاسْتَثْنَاهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ حَالَةَ الْإِبْرَاءِ ؛ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ
مِنْ الْمَسْطُورِ الْمَذْكُورِ وَلَا ذَكَرَهُ فِي الْمُبَارَاةِ فَطَلَبَ رَبَّ
الدَّيْنِ بِالْمَسْطُورِ فَقَالَ لَهُ خَصْمُهُ : أَلَيْسَ تَبَارَيْنَا ؟
فَقَالَ : أَبْرَأْتُك إلَّا مِنْ هَذَا الْمَسْطُورِ : فَهَلْ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ
الشَّرْعِيَّةُ بِالْمَسْطُورِ الْمَذْكُورِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يُبْرِئْهُ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ وَأَنَّ
الْغَرِيمَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُبْرِئْهُ مِنْهُ وَطَلَبَ يَمِينَهُ أَنَّهُ
لَمْ يُبْرِئْهُ مِنْهُ . فَلَهُ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ ابْنَ عَمٍّ وَزَوْجَةً طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ
مَوْتِهِ فَمَسَكَ وَكِيلُ الزَّوْجَةِ ابْنَ عَمِّ الْمَيِّتِ وَطَلَبَ مِنْهُ
إرْثَ الزَّوْجَةِ الَّذِي لَهَا فَأَقَرَّ أَنَّهَا وَارِثَةٌ وَأَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ
عَلَى مَا خَصَّهُ مِنْ الْمِيرَاثِ مَعَ عِلْمِهِ بِالِاخْتِلَافِ وَإِبْرَاءِ
ابْنِ الْعَمِّ الزَّوْجَةَ وَأَبَاهَا وَوَكِيلَهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ثُمَّ
بَعْدَ ذَلِكَ أَحْضَرَ بَيِّنَةً عِنْدَ حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ شَهِدُوا أَنَّ
الْمَيِّتَ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَحَكَمَ بِهِ وَقَالَ : مَا تَرِثُ
عِنْدِي وَطَلَبَ اسْتِعَادَةَ مَا أُخِذَ مِنْهُ : فَهَلْ تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ
مَعَ كَوْنِهِ أَقَرَّ أَنَّهَا وَارِثَةٌ وَمَعَ الْإِبْرَاءِ لَهُمْ مِمَّا
قَبَضُوهُ ؛ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِمَا أَقَرَّ
بِهِ فَهَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي دَعْوَى الْجَهْلِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْإِقْبَاضِ وَالْإِبْرَاءِ مَعَ عِلْمِهِ
بِالِاخْتِلَافِ أَنَّ يَدَّعِيَ بِمَا يُنَاقِضُ إقْرَارَهُ وَإِبْرَاءَهُ وَلَا
يَسُوغُ الْحُكْمُ لَهُ بِذَلِكَ . وَأَمَّا الْجَهْلُ بِذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ
بِالِاخْتِلَافِ فَكَذِبٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ كَانَتْ مُزَوَّجَةً بِرَجُلِ جُنْدِيٍّ وَرُزِقَتْ مِنْهُ
وَلَدَيْنِ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَمَاتَ الْوَلَدُ الذَّكَرُ وَأَنَّ الزَّوْجَ
الْمَذْكُورَ طَلَّقَهَا وَأَخَذَتْ الْبِنْتَ
بِكَفَالَتِهَا
مِنْ مُدَّةٍ تَزِيدُ عَنْ ثَمَانِ سِنِينَ وَقَدْ حَصَلَ الْآنَ مَرَضٌ شَدِيدٌ
وَأَحْضَرَ شُهُودًا وَكَتَبَ لِزَوْجَتِهِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَأُخْتُهَا
مُطَلَّقَةٌ كَتَبَ لَهُمَا الصَّدَاقَ وَكَانَتْ قَدْ أَبْرَأَتْهُ مِنْهُ وَهِيَ
فِي الشَّامِ مِنْ حِينِ طَلَّقَهَا وَكَتَبَ لِأُمِّهِمْ خَمْسَمِائَةٍ
وَمَنَعَنِي حَقِّي وَالْبِنْتُ الَّتِي لَهُ مِنِّي حَقُّهَا مِنْ الْوِرَاثَةِ
وَمِنْ حِينِ رُزِقَتْ الْأَوْلَادَ مَا سَاوَاهُمْ بِشَيْءِ مِنْ أُمُورِ
الدُّنْيَا وَقَدْ أَعْطَى رِزْقَهُ لَهَا ؟
فَأَجَابَ :
إقْرَارُهُ لِزَوْجَتِهِ لَا يَصِحُّ لَا سِيَّمَا أَنْ يَجْعَلَهُ وَصِيَّةً
فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ لَا تَلْزَمُ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ
بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لَا سِيَّمَا مَعَ التُّهْمَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي
مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ .
وَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي أَبْرَأَتْهُ صَاحِبَتُهُ لَا يَجُوزُ
؛ فَإِذَا كَانَتْ قَدْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ الصَّدَاقِ ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِهِ
لَمْ يَجُزْ هَذَا الْإِقْرَارُ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ كَذِبٌ وَلَوْ
جَعَلَ ذَلِكَ تَمْلِيكًا لَهَا بَدَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا عِنْدَ
الْجُمْهُورِ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ التَّمْلِيكُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ . وَلَيْسَ
لَهُ مَنْعُ الْبِنْتِ حَقَّهَا مِنْ الْإِرْثِ وَلَا يَمْنَعُ الْمُطَلَّقَةَ مَا
يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ : { مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا قَطَعَ اللَّهُ
مِيرَاثَهُ مِنْ الْجَنَّةِ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنْ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ سِتِّينَ سَنَةً
بِطَاعَةِ اللَّهِ ؛ ثُمَّ يَجُورُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِسُوءِ
فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ سِتِّينَ سَنَةً بِمَعْصِيَةِ
اللَّهِ ثُمَّ يَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ فَيَدْخُلُ
الْجَنَّةَ } ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى
{
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ } { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ
يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَخْصٍ شَرِكَةٌ فَقَوِيَ شَرِيكُهُ فَمَسَكَهُ
وَأَهَانَهُ ؛ وَكَتَبَ عَلَيْهِ حُجَّةً أَنَّ الْغَنَمَ لَهُ دُونَ الشَّرِكَةِ
؟
فَأَجَابَ :
إذَا أَكْرَهَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَأَقَرَّ كَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا
وَإِشْهَادُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ لَا يَنْفَعُهُ ؛ بَلْ يُوجِبُ عُقُوبَةَ
الظَّالِمِ الْمُعْتَدِي الَّذِي اعْتَدَى عَلَى هَذَا الْمَظْلُومِ
بِالْإِكْرَاهِ ؛ وَتَجِبُ إعَانَةُ الْمَظْلُومِ وَرَدُّ الْمَالِ إلَى
مُسْتَحِقِّهِ وَإِذَا أَقَامَ بَيِّنَةً بِأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ
سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ أَوْلَادًا مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ أَشِقَّاءَ .
ذَكَرٌ وَاحِدٌ وَثَلَاثُ بَنَاتٍ وَوَلَدٌ وَاحِدٌ أَخُوهُمْ مِنْ أُمِّهِمْ
الْجُمْلَةُ خَمْسَةٌ وَزَوْجٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ وَأَنَّهَا
أَقَرَّتْ فِي مَرَضِهَا الْمُتَّصِلِ بِالْمَوْتِ لِأَوْلَادِهَا الْأَشِقَّاءِ
بِأَنَّ لَهُمْ فِي ذِمَّتِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَصَدَتْ بِذَلِكَ إحْرَامَ
وَلَدِهَا وَزَوْجِهَا مِنْ الْإِرْثِ .
فَأَجَابَ
:
إذَا كَانَتْ كَاذِبَةً فِي هَذَا الْإِقْرَارِ فَهِيَ عَاصِيَةٌ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ هِيَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الدَّاخِلَةِ
فِي الْوَعِيدِ فَإِنَّ الْجَوْرَ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ { وَمَنْ
قَطَعَ مِيرَاثًا قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنْ الْجَنَّةِ } وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ
حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } وَقَدْ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ
سِتِّينَ سَنَةً بِطَاعَةِ اللَّهِ ثُمَّ يَجُورُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ
بِسُوءِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ سِتِّينَ سَنَةً
بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ
فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } }
. وَمَنْ أَعَانَهَا عَلَى هَذَا الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ فَهُوَ شَرِيكُهَا فِيهِ
مِنْ كَاتِبٍ وَمُشِيرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مُتَعَاوِنُونَ عَلَى
الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ . وَمَنْ لَقَّنَهَا الْإِقْرَارَ الْكَذِبَ مِنْ
الشُّهُودِ فَهُوَ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ . وَأَمَّا إنْ كَانَتْ
صَادِقَةً فَهِيَ مُحْسِنَةٌ فِي ذَلِكَ مُطِيعَةٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَمَنْ
أَعَانَهَا عَلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى . وَأَمَّا فِي ظَاهِرِ
الْحُكْمِ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يَقْبَلُونَ هَذَا الْإِقْرَارَ كَأَبِي
حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّ التُّهْمَةَ فِيهِ ظَاهِرَةٌ
وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَتْ بِمَالِ الْمَيِّتِ بِالْمَرَضِ فَصَارَ
مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي حَقِّهِمْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ لِأَحَدِهِمْ
بِالْإِجْمَاعِ.
وَمِنْ
الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقْبَلُ الْإِقْرَارَ كَالشَّافِعِيِّ ؛ بِنَاءً عَلَى حُسْنِ
الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ وَأَنَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا يَكْذِبُ وَلَا يَظْلِمُ :
وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ
وَنَحْوِهَا أَنْ يُعَاوِنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى لَا يُعَاوِنُونَ عَلَى
الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ . وَيَنْبَغِي الْكَشْفُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ
الْقَضِيَّةِ . فَإِنْ وَجَدَ شَوَاهِدَ خِلَافَ هَذَا الْإِقْرَارِ عَمِلَ بِهِ
وَإِنْ ظَهَرَ شَوَاهِدُ كَذِبِهِ أَبْطَلَ . فَشَوَاهِدُ الصِّدْقِ مِثْلُ أَنْ
يَعْرِفَ أَنَّهُ كَانَ لأب هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَالٌ نَحْوَ هَذَا
الْمُقَرِّ بِهِ . وَشَوَاهِدُ الْكَذِبِ بَيِّنَاتٌ يُعْلَمُ مِنْ بَعْضِهَا
أَنَّهَا تُرِيدُ حِرْمَانَ ابْنِهَا وَزَوْجِهَا مِنْ الْمِيرَاثِ ؛ فَإِنْ
ظَهَرَ شَوَاهِدُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ تَرَجَّحَ ذَلِكَ الْجَانِبُ . وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَةً فَعَوَّضَا الْمَرْأَةَ مَا
يَخُصُّهَا مِنْ مِيرَاثِ وَالِدِهَا وَأَبْرَأَتْ إخْوَتَهَا الْبَرَاءَةَ
الشَّرْعِيَّةَ بِالْعُدُولِ عَمَّا بَقِيَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ مُدَّةٍ تَزِيدُ
عَلَى سِتِّينَ سَنَةً وَهِيَ مُقِيمَةٌ مَعَهُمْ بِالنَّاحِيَةِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ
لَهَا مَعَهُمْ تَعَلُّقٌ بِطُولِ هَذِهِ الْمُدَّةِ ؛ فَلَمَّا تُوُفِّيَ
إخْوَتُهَا وَتَحَقَّقَتْ الْمَرْأَةُ مَوْتَ الْعُدُولِ أَنْكَرَتْ الْمَشْهُودَ
عَلَيْهَا وَادَّعَتْ عَلَى وَارِثِ إخْوَتِهَا مَا يَخُصُّهَا مِنْ مِيرَاثِ
وَالِدِهَا بَاقٍ مَعَ إخْوَتِهَا وَأَثْبَتَ لَهَا الْحَاكِمُ مَا ادَّعَتْهُ
وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا بِالْبَرَاءَةِ بِطَرِيقِهَا : فَهَلْ
يَنْدَفِعُ مَا أَثْبَتَ لَهَا الْحَاكِمُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ شَرْعِيَّةٌ عَلَى إقْرَارِهَا
بِالْقَبْضِ
وَالْإِبْرَاءِ الشَّرْعِيِّ كَانَتْ دَعْوَى وَرَثَتِهَا بَاطِلَةً وَلَوْ
أَقَامُوا بَيِّنَةً وَأَثْبَتُوا ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ كانت بَيِّنَةُ
الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ وَالْإِبْرَاءِ مُقَدَّمَةً ؛ لِأَنَّ مَعَهَا مَزِيدَ
عِلْمٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَدَّعِيَ أَنَّهَا أَقَرَّتْ مُكْرَهَةً أَوْ
حَيَاءً أَوْ أَقَرَّتْ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمُقَرُّ بِهِ فَلَهَا
تَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ بَاطِنَ الْإِقْرَارِ كَظَاهِرِهِ أَوْ
أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَإِذَا كَانَ شُهُودُ
الْإِبْرَاءِ قَدْ مَاتُوا وَخُطُوطُهُمْ مَعْرُوفَةٌ شَهِدَ بِذَلِكَ مَنْ
يَعْرِفُ خُطُوطَهُمْ وَحَكَمَ بِهِ مَنْ يَرَى مِنْ الْعُلَمَاءِ مَعَ أَنَّ
دَعْوَاهَا بِحَقِّهَا بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ
يَعُوقُ لَا يُقْبَلُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ
وَغَيْرِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ ابْنَتَانِ إحْدَاهُمَا مُزَوَّجَةٌ وَالْأُخْرَى عَزْبَاءُ
وَكَانَ كَتَبَ لِلْمُتَزَوِّجَةِ ثَلَاثَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَالْعَزْبَاءِ
سَبْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَدْ تُوُفِّيَتْ الْمُزَوَّجَةُ وَخَلَّفَتْ وَلَدًا
ذَكَرًا وَزَوْجًا وَقَدْ طَلَبَ الْوَلَدُ وَالزَّوْجُ الْمَكْتُوبَ مِنْ
وَالِدِهَا : فَهَلْ يَرِثُونَ ذَلِكَ وَيَجُوزُ لَهُمْ مُطَالَبَةُ الْوَلَدِ
وَالْوَالِدُ يَدَّعِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ
وَكَتَبَ هَذَا الْمَكْتُوبَ خَشْيَةَ أَنْ تَدْخُلَ يَدُ الْغَيْرِ فِي مُوجِدِهِ
وَالْوَلَدُ يَعِشُ ؟
فَأَجَابَ
: إذَا أَقَرَّ لِهَذِهِ وَلِهَذِهِ بِمَالِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا
قَبْلَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ مَالٌ لَمْ يَصِرْ لَهَا عَلَيْهِ بِهَذَا
الْإِقْرَارِ شَيْءٌ ؛ وَكَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ كَذِبًا بَاطِلًا وَلَوْ جَعَلَ
لَهَا فِي ذِمَّتِهِ عَطِيَّةً لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا وَاجِبًا
بَلْ يُنْهَى عَنْ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْدِلَ
بَيْنَهُمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ مَا ذُكِرَ
مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْعَدْلُ بَيْنَهُمْ وَاجِبٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ
الْعُلَمَاءِ وَلَا يَسْتَحِقُّ وَرَثَةُ الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ أَعْتَقَ أَمَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ مَلَكَهَا فِي صِحَّةٍ مِنْ
عَقْلِهِ وَجَوَازِ أَمْرِهِ وَسَلَامَةٍ أَنَّ جَمِيعَ مَا حَوَى مَسْكَنَهُمْ
الَّذِي هُمْ فِيهِ مِنْ نُحَاسٍ وَقُمَاشٍ وَصَنَادِيقَ وَمَصَاغٍ وَفَرْشٍ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ لُبْسِهِ وَدَوَابِّهِ وَعُدَّةِ
خَيْلِهِ مِلْكٌ لِزَوْجَتِهِ الْمَذْكُورَةِ لَا حَقَّ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا
شَيْءَ مِنْهُ وَأَنَّ يَدَهَا عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ مُتَصَرِّفَةٌ لَا يَدَ لَهُ
فِي ذَلِكَ ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِذَلِكَ وَكَتَبَ كِتَابَ إقْرَارٍ شَرْعِيٍّ
عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ : هَلْ يَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ ؛ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ شَيْخُنَا وَسَيِّدُنَا تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا أَقَرَّ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي بَيْتِهِ مِلْكٌ
لِزَوْجَتِهِ إلَّا السِّلَاحَ وَالدَّوَابَّ وَآلَةَ الْخَيْلِ كَانَ هَذَا
إقْرَارًا صَحِيحًا يُعْمَلُ بِمُوجَبِهِ بِلَا خِلَافٍ وَإِذَا كَانَ
مُسْتَنَدُهُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ أَنَّهُ مُلِّكَ لِزَوْجَتِهِ تَمَلُّكًا
شَرْعِيًّا لَازِمًا كَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَقَرَّ لِرَجُلِ بِمَسْطُورِ بِدَرَاهِمَ ؛ ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ
حَضَرَ الْمُقَرُّ لَهُ إلَى عِنْدِ شُهُودِ الْمَسْطُورِ وَقَالَ : إنَّ هَذَا
الْإِقْرَارَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فَاسِدٌ وَأَنَا مَا لِي عِنْدَهُ إلَّا ذَهَبٌ
لِبِنْتِي : فَهَلْ يَكُونُ هَذَا الْإِقْرَارُ بَاطِلًا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ
لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَسْطُورِ بَعْدَ سَمَاعِهِ مِنْ رَبِّ الدَّيْنِ
مَا ذُكِرَ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الشَّاهِدُ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِمَا سَمِعَ مِنْ الْمُقِرِّ ؛ وَلَيْسَ
عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ أَوْ كَذَّبَهُ ؛
وَلَكِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ فَإِنْ فُسِّرَ كَلَامُهُ بِمَا
يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ كَانَ لِي عِنْدَهُ ذَهَبٌ
فَاتَّفَقْنَا عَلَى أَنْ يُقِرَّ بَدَلَهُ بِفِضَّةِ وَصَدَّقَهُ الْمُقِرُّ
عُمِلَ بِمُوجَبِ ذَلِكَ وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُقِرُّ حَلَفَ الْمُقِرُّ عَلَى
نَفْيِ مَا ادَّعَاهُ الْمُقَرُّ لَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ
- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ - :
عَنْ رَجُلٍ صَانِعٍ عَمِلَ عِنْدَ مُعَلِّمٍ صَنْعَةً مُدَّةَ سِنِينَ وَخَرَجَ
مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَهُ : حَاسِبْنِي ؛ قَامَ الْمُعَلِّمُ ضَرَبَهُ وَكَتَبَ
عَلَيْهِ حُجَّةً وَأَخَافَهُ بِالْوِلَايَةِ فَهَلْ لَهُ فِي الْمَسْطُورِ حَقٌّ
؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَتَبَ عَلَيْهِ حُجَّةً أَقَرَّ بِهَا وَهُوَ مُكْرَهٌ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ
يَصِحَّ إقْرَارُهُ وَلَا يَجُوزُ إلْزَامُهُ بِمَا فِيهَا ؛ وَعَلَى مُعَلِّمِهِ
أَنْ يُحَاسِبَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
__________
آخر المُجَلَّدِ الْخَامِسِ وَالْثَّلَاثِينَ